الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإِهداء
إلى اللّذين غرسا في نفسي حبّ العلم الشرعي، وبذلا لي كلّ ما يملكان، تعبًا لأسترح، ونصبًا لأسعد، وكانا لي المدرسة الأولى الّتي ترعرعت تحتَ أجنحتها.
والدي العزيز الّذي ما فتيء يدعو لي بالتوفيق والسّداد، أمدّه الله بالعمر المديد في طاعته.
والوالدة الحنونة تغمدها الله برحمته، وأنزل عليها سحائب الرّضوان، واسكنها فسيح جناته ..
"ابنكم"
رضوان
مقدمة التحقيق
الحمد لله الذي فتق لسان العرب بأفصح لسان، وأبلغ بيان، وبه أنزل سبحانه القرآن واصطفى رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم من خيار بني عدنان.
وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سلك نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الدراسات الفقهية تشكّل من تراثنا الإسلامي الضخم جانبًا مهمًا وبالغ الأثر والخطر في حياة الفرد والمجتمع حيث إنها تهيمن على أفعال المكلفين في إطار منهاج يبيّن ما يتحتّم عليهم من دقيق وجليل وما يندب في حقهم ويباح ويقرر لهم طرائق السلوك في العبادات والمعاملات، والجنايات والأقضية ونظام الأصة حيث إن كل لبنة من لبنات حياة المسلم تقوم على أساس معرفة الفقه والإلمام به والاطلاع على تفاصيله والعمل بأحكامه، فبهذا العِلم في الجملة تتفتق أسباب السعادة البشرية باعتبار ما يتضمنه من جلب المصالح ودرء المفاسد، وتوجيه مسار حياة الفرد والمجتمع إلى الاتجاه السليم والطريق المستقيم الذي يجمع خير الدنيا ونعيم الآخرة.
وانطلاقًا من هذه المفاهيم سعى جهابذة الفقهاء من الصحابة والتابعين والأئمة المتقدمين والمتأخرين إلى نشر هذا التراث الثري، وشمروا عن ساعد الجد في تمحيصه وتنظيمه، فكثرت على إثر ذلك الدراسات المختلفة المتنوعة التي تناولت جميع جوانب هذا الفن الهام رغبة في بيان معانيه وتوضيح غامضه وتفصيل أحكامه كي يكون غضًا في تناوله سهلًا في تطبيقه حرصًا على سعادة هذه الأمة في المعاش والمعاد.
ومن ضمن هذه الدراسات "القواعد الففهية" و"الضوابط" و"النظريات" و"الفروق" و"الأشباه والنظائر" وغيرها. التي بحثها فقهاء هذه الأمة قديمًا وحديثًا. (1)
كما حظي من جانب آخر علم "الغريب في الفقه الإسلامي" بالاهتمام الكبير من فقهاء المذاهب الذين نحوا منحى البحث اللغوي والاصطلاحي في ألفاظ الفقه. ذلك لما يوليه هذا العلم من العناية الفائقة باللغة العربية من حيث مدلولات ألفاظها وحسن استعمال صيغها، كما لا يخفى ما له من دور فعّال في نضج الفكر الفقهي السليم النابع عن الممارسة الجدية لمدلولات اللغة ومعانيها، وكانت هذه الحقيقة جليّة لدى فقهائنا الأولين من السلف، وعلى رأسهم الإمام الشافعي رحمه الله الذي انكبّ -ما يقرب من العشرين سنة- على دراسة علم العربية في معاقلها الأولى، ولما سئل في ذلك قال:"ما أردت بهذا إلاّ الاستعانة على الفقه"(2) وتأكيدًا لهذا ما قاله ابن السيد البَطَلْيُوسي (المتوفى 521 هـ) "إن الطريقة الفقهية مفتقرة إلى علم الأدب، مؤسسة على أصول كلام العرب، وإن مثلها ومثله قول أبي الأسود الدؤلى:
فإلا تكنها أو تكنه فإنه
…
أخوها غذته أمه بلبانها" (3)
كما لا يخفى علينا ونحن طلاب علم ما لهذه المصطلحات الفقهية من مكانة علمية بارزة، ورتبة سنية في سلم الفقهيات، إذ بها تتضح الملابسات وتتميّز المتشابهات، ويزول الغموض عن كبريات المسائل فتنحل بذلك قضايا، وتتجلّى حقائق في حياة الفرد والمجتمع -كما يمكن أن نضيف في سجل الأهمية لهذه المصطلحات ما قاله أحد الكتاب المحدثين "إن تاريخ العلوم تاريخ لمصطلحاتها، وإنه لا حياة لعلم بدونها، وعلمية الاصطلاح في العلوم كعلمية الاسم على المولود في إيضاح المقصود وتحديد المفهوم.
(1) ينظر في هذا ما كتبه الأخ الفاضل: علي الندوي في كتابه "القواعد الفقهية" رسالة ماجستير في الفقه من جامعة أم القرى بمكة الكرمة.
(2)
انظر: (مقدمة غرر المقالة في شرح غرب الرسالة للمحقق: ص 60).
(3)
انظر: (الإنصاف في التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف: ص 22).
وقد علم أن مصطلحات كل علم توجد معه أو بعده بالضرورة، ويسعى العلماء حين وجود الشيء إلى تسميته فتتم على أساس من العلاقة بين اللغة والاصطلاح - فالمصطلحات إذًا ضرورة علمية ووسيلة هامة من وسائل التعليم ونقل المعلومات وقد أصبحت لضرورتها تمثّل جزءًا مهمًا في المناهج العلمية
…
(1) ".
فتحت ظل المصطلحات تجمع أفكار المتعلمين على دلالات واضحة، كما ينسج على منوالها ملتقى للعلماء في تناقل أفكارهم ومداركهم، إضافة إلى أنه على أساسها يمَوم التأليف والإنتاج، ثم التدوين.
فالمصطلح إذًا عملة نافقة ذات القيمة في سوق العلم والتعليم. فبواسطتها تعتدل العلوم وتأخذ مكانتها في الأهمية، وبفقدانها تنكسر وتتبعثر.
كما أن هناك حقيقة أخرى غفل عنها الكثير ممن بحثوا في هذا الفن واهتموا بنشر تراثه، أحببت الإشارة إليها وتجليتها فإنها ذات أهمية بالغة، لا يعيها إلاّ من جمع بين العلم والعمل، وقرن بين الفقه والفكر، وعاش للإسلام والمسلمين وهي أن تمسك الأمة بمصطلحاتها والتزامها بمواضعاتها - التي حدّدها لها - علماؤها وفقهاؤها دليل على استقلالها وعنوان لعزّتها وتثبيت لكرامتها وشخصيتها، وأداة بنّاءة في لم شملها لوحدتها، فهي بذلك تقاوم الانحلال والتفكك، والتحدي الوافد عليها في هذا المجال من هجنة في اللسان، وإقراف في المعان، ومنابذة لشريعة الإسلام.
إلا أن الأمة الإسلامية في واقعنا المعاصر غلب عليها الانطواء تحت لواء الأجنبي بالتبعية الماسخة، منصهرة في قالبه وعاداته وتعاليمه، ومن أسوأ تلك التبعيات ما وقعت فيه من إهدار لمصطلحاتها الشرعية، واستبدالها بمصطلحات دخيلة منبوذة لغة وشرعًا وحسًا ومعنى.
وهذا الابتلاء تمّ به الإجهاز على اللغة ومعانيها وفي مقدمتها
(1) انظر: (فقه النوازل لبكر بن عبد الله أبو زيد: 1/ 148).
مصطلحاتها الشرعية فاستبعدت أسماء الشريعة المطهرة الواردة في التنزيل وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وما ورد على لسان الصحابة فمن بعدهم من أساطين علماء هذه الأمة عبر القرون.
واستبدل بكل هذا لغة القانون المصنوع، وهي لغة كما يعلم أولو العلم أقرب إلى اللغو لما يتخلّلها من قصور وعجمة وسماجة.
وكان نتيجة هذا العدوان المحكم أن أصبحت مصطلحات الشريعة في ديارها غريبة غربة الإسلام عن الواقع فاستحكم بذلك الانفصام بين المسلم وتراثه الأثيل.
وفي بيان هذا يقول الأستاذ الكبير أبو الأعلى المودودي رحمه الله تحت عنوان "غرابة المصطلحات": "المشكلة الأولى جاءت من جهة اللغة وبيان ذلك أن الناس عامة في هذا الزمان قليلًا ما يتفطنون لما ورد في القرآن وفي كتب الحديث والفقه من المصطلحات عن الأحكام والمبادئ الدستورية
…
ففي القرآن الكريم كثير من الكلمات نقرؤها كل يوم ولكن لا نكاد نعرف أنها من المصطلحات الدستورية كالسلطان، والملك، والحكم، والأمر، والولاية. فلا يدرك مغزى هذه الكلمات الدستوري الصحيح إلّا القليل من الناس، ومن ثم نرى كثيرًا من الرجال المثقفين يقضون عجبًا ويسألوننا في حيرة إذا ذكرنا لهم الأحكام الدستورية في القرآن أو في القرآن آية تتعلق بالدستور؟ والواقع أنه لا داعي إلى العجب لحيرة مثل هؤلاء الأفراد، فإن القرآن ما نزلت فيه سورة سميت بالدستور ولا نزلت فيه آية بمصطلحات القرن العشرين". (1)
هذا جانب من جوانب المصطلحات الشرعية المهدورة. وأما العدوان على بقية جوانبها الأخرى، خاصة في الاقتصاد والأموال وفي القضاء والإثبات والجنايات، وعلى المواضعات اللغوية، وفي أسماء العلوم والفنون الأخرى، وسائر أنواع الصناعات والتجارات والعلاقات الخاصة والعامة
…
فتضيق
(1) انظر: (كتابه تدوين الدستور الإسلامي: ص 9 - 10).
عليها دائرة الحصر والعد على من أراد ذلك.
وتعقيبًا فإن نبذ الأسماء الشرعية ومصطلحاتها، واستبدالها بمواضعات قاصرة لا تسنتند إلى علم أثيل ولا تلجأ إلى ركن سديد، لخطر عظيم وخذل أثيم لأمة القرآن التي شرّفها الله تعالى بحمله والتزام أحكامه واتباع سننه الأقوم.
وأخيرًا، هذه نتف علمية من تاريخنا الزاخر، ومن واقعنا المر ذكرتها تبيانًا لأهمية فن المصطلحات وأحقيته بالدراسة والبحث وخصوصًا فيما يتعلق بالفقه وأحكامه. فإن على غذائه تقوم حياة الفرد والمجتمع، وعلى سننه الأقوم تسعد البشرية معاشًا ومعادًا.
ومن هنا جاء اختياري -وأنا أبحث عن موضوع للدراسة أتقدم به لنيل درجة الدكتوراه في الفقه والأصول من جامعة أم القرى- على كتاب يبحث في علم المصطلحات الفقهية، فوقع بصري لأول وهلة وذلك بتوجيه من المشرف على الرسالة، على كتاب للعلاّمة الحنبلي يوسف بن حسن بن عبد الهادي (ت 909 هـ) والمسمى بـ "الدرّ النّقي في شرح ألفاظ الخرقي" وبعد جهد في تصفح كتب الفهارس والمعاجم وسؤال أهل العلم، والمختصين بفن التحقيق تأكد لي أن الكتاب ما زال في حيّز المخطوطات، لم تتناوله يد التحقيق بعد، فسارعت عندئذ في جمع نُسَخِه الخطيّة المنثورة في مكتبات العالم، فلم أعثر إلَّا على نسخة وحيدة فقط بخط مصنفها رحمه الله تعالى، وما استغربت ذلك ولا استبعدته بعد ما علمت أن غالب مصنفاته بقيت محفوظة بخط يده إلى يومنا هذا لم تتناولها يد الاستنساخ.
والكتاب مهم في بابه، مفيد في مادته العلمية، غني بالمصطلحات التي استعملها الفقهاء في كتبهم، وإذا كان حنبلي المصدر، والانتساب باعتبار أنه اهتم بلغات الخرقي فقط فهو مورد سيال لأرباب الفقه عامة ينهلون منه ويستزيدون من مادته اللغوية والاصطلاحية في تدعيم اجتهاداتهم وآرائهم الفقهية، شأنه في ذلك شأن كتب المواضعات في الفقه الإسلامي فهو بحق
معلمة (1) لغوية فقهية دلّت على فضل ابن عبد الهادي وسعة باعه في اللغة وقوة
تحقيقه وهضمه للمسائل الفقهية. وسوف يظهر هذا جليًا عند دراستنا للكتاب وبيان أهميته في موضوعه.
وأخيرًا، أقدم هذا العمل المتواضع، ومعترفًا بما يكون فيه من عيب وقصور، غير أني بذلت وسعي وطاقتي ابتغاء إخراجه في أحسن صورة ممكنة، فإن وفقت إلى ذلك فهو من فضل الله علي ومعونته، وإن كان غير ذلك فعذري أنه جهد مقل لم يدخر وسعًا ولا جهدًا ولا مكنة
…
والله أسأل ألا يحرمني الثواب وأن يجعله في صحيفة أعمالي يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(1) معلمة: هذا هو اللفظ الصحيح الذي كان ينبغي أن يعبر به بدل "موسوعة" الذي اصطلح عليه في القرن الثالث عشر إثر خطأ وقع على لسان أحد الأعجميين ذكر ذلك في قصة لطيفة سجلتها مجلة "لواء الإسلام: 26/ 1158 "تحت عنوان "الأدب والعلوم" ومما جاء فيه ما نصه "لطاش كبرى زاده كتاب باسم: "موضوعات العلوم" ولما كانت إحدى مكتبات القسطنطينية تدوّن فهرسًا لمحتوياتها أملى أحد موظفيها اسم هذا الكتاب على أحد موظفي المكتبة بلفظ "موضوعات" العلوم، فسمع الموظف وهو أعجمي "الضاد" سينًا، فكتب اسم الكتاب "موسوعات العلوم" وسمع الشيح إبراهيم اليازجي صاحب "مجلة الضياء" باسم هذا الكتاب وموضوعه فخيّل إليه أن كلمة "موسوعات" تؤدي معنى "دائرة معارف" فأعلن ذلك في مجلته، وأخذ به أحمد زكي باشا وغيره فشاعت كلمة موسوعة وموسوعات لهذا النوع من الكتب، وهي تسمية مبنية على الخطأ كما رأيت، وكان العلامة أحمد تيمور باشا والكرملي، وغيرهما يرون تسمية دائرة المعارف باسم: معلمة، لأنه أصح وأرشق، وأدل على المراد منه
…
"