الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث
في ذكر مؤلفات أبي القاسم الخرقي رحمه الله
-
كل من ترجم للخرقي رحمه الله ذكر أنه كانت لأبي القاسم مصنفات كثيرة وتخريجات بديعة على المذهب - منهم القاضي أبو الحسين في "طبقات الحنابلة: 2/ 75"، وابن الجوزي في "المنتظم: 6/ 346"، والبغدادي في "تاريخه: 11/ 234 "، وابن خلكان في "وفياته: 3/ 441"، وابن كثير في "البداية والنهاية: 11/ 214" وغيرهم إلا أننا عندما نبحث في موجودات تراثنا الضخم المخطوط منه والمطبوع لا نكاد نعثر على غير كتابه المشهور والمسمى "بمختصر الخرقي" في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله مما يجعلنا نعتقد أن مؤلفاته صارت إلى ما صار إليه الكثير من مدونات التراث الإسلامي الكبير من الضياع والبلى خلال المحن والفتن التي جرت على هذه الأمة الويل عبر القرون السالفة.
وفي سبب ضياع الثروة العلمية للخرقي، قال غير واحد:(1) "إنه لما ظهر في مدينة السلام - بغداد - فتنة سب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والكلام في حقهم بما لا يرضي الله ورسوله، واتهامهم بما هم بريئون منه - وما هي إلا السفالة والدناءة الطائفية التي اختلقها شيعة بغداد آنذاك - خرج الشيخ أبو
(1) انظر: (طبقات الحنابلة: 2/ 75، تاريخ بغداد: 11/ 234، المنتظم: 6/ 346، الشذرات: 2/ 336).
القاسم رحمه الله مهاجراً إلى دمشق خوفاً من أن تصيبه معرة، أو يلحقه ذنب بسبب ما هو حادث. وألجأه هذا إلى ترك ما يملكه من ثروة علمية وثقافية هائلة مودعاً إياها في دار (1) سليمان، فكان مصيرها أن احترقت وعدمت لاحتراق الدار وانهدامها، ولم تكن انتشرت لبعده عنها. وكتب الله على أثر ذلك لهذا "المختصر" أن ينتشر ويحظى باهتمام فقهاء الحنابلة وبالتعليق، والتهميش وغير ذلك، حتى قال بعضهم:"لم يخدم كتاب في المذهب مثل ما خدم هذا المختصر، ولا اعتني بكتاب مثل ما اعتني به". (2)
فكان أن ساق الله الأجر لأبي القاسم، وأسبغ عليه نعمته من حيث لا ينتظر حتى قال البعلي:"كل من انتفع بشيء من شروح الخرقي فللخرقي في ذلك نصيب من الأجر .. "(3)
عمل الفقهاء على مختصر الخرقي رحمه الله:
لما كان لمختصر الخرقي الأهمية القصوى لدى فقهاء الحنابلة المتقدمين منهم والمتوسطين - ذلك لما اتسم به من إيجاز في اللفظ وشمول في المعنى، حيث جاءت مسائله مستوعبة لجميع أبواب الفقه (4) من غير خلل ولا ملل، وقد علل ذلك بقوله:"ليقرب علي متعلمه": (5) أي يسهل عليه، ويقل تعبه في تعلمه - (6) لما كان الأمر كذلك تنافس نخبة من أعلام الفقه الحنبلي في خدمة هذا المختصر البديع من جميع جوانبه، فمنهم من شرحه وهم كثير حتى
(1) كذا في (المنهج الأحمد: 2/ 61)، وفي (طبقات الحنابلة: 2/ 75، تاريخ بغداد: 11/ 234، "درب سليمان"، وهو درب كان ببغداد مقابل الجسر في أيام المهدي والهادي والرشيد رأيام كون بغداد عامرة، وكان فيه دار سليمان بن جعفر بن أب جعفر المنصور، فسمي الدرب باسمه ومات سليمان هذا سنة 199 هـ. انظر:(معجم البلدان: 2/ 448).
(2)
انظر: (المدخل لابن بدران: ص 214).
(3)
انظر: (المطلع: ص 445 - 446).
(4)
أوصل مسائله أبو إسحاق البرمكي إلى ألفين وثلاثمائة مسألة، حكاه عنه ابن بدران في (المدخل: ص 214).
(5)
انظر: (المختصر: ص 3).
(6)
انظر: (المغني: 1/ 4).
قال العلامة الجمال بن عبد الهادي: "قال شيخنا عز الدين المصري ضبطت للخرقي ثلاثمائة شرح، وقد اطلعنا له على ما يقرب من عشرين شرحاً .. "(1).
ومن أبرز وأشهر من شرحه، الإمام موفق الدين بن قدامه المقدسي (ت 620 هـ) في كتابه الموسوم بـ"المغني"، وقد أجاد مؤلفه فيه وجمل به المذهب، وقرأ عليه جماعة وأثنى ابن غنيمة على مؤلفه فقال:"ما أعرف أحداً في زماننا أدرك درجة الاجتهاد إلا الموفق .. "(2)
وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام السلمي (ت 660 هـ): "ما رأيت في كتب الإسلام مثل المحلى والمجلى (3) لابن حزم، وكتاب "المغني" للشيخ موفق الدين في جودتهما وتحقيق ما فيهما، ونقل عنه أنه قال: "لم تطب نفسي بالإفتاء حتى صارت عندي نسخة المغني" قاله ابن مفلح، حكاه عنه ابن بدران، (4) قال الذهبي: "صدق الشيخ عز الدين". (5)
وطريقة الشيخ الموفق في هذا الشرح، قال عنها صاحب "المدخل": "أنه يكتب المسألة من الخرقي ويجعلها كالترجمة ثم يأتي على شرحها وتبيينها وبيان ما دلت عليه بمنطوقها ومفهومها ومضمونها، ثم يتبع ذلك ما يشبهها مما ليس بمذكور في الكتاب فتحصل المسائل كتراجم الأبواب، ويبين في كثير من المسائل ما اختلف فيه مما أجمع عليه ويذكر لكل إمام ما ذهب إليه ويشير إلى دليل بعض أقوالهم، ويعزو الأخبار إلى كتب الأئمة من أهل الحديث
…
" (6).
فهو بحق معلمة فقهية هائلة يجد فيها الباحث نفعاً عظيماً وهو يجول في
(1) انظر: (الدر النقي للمصنف: ص 743).
(2)
انظر: (المدخل لابن بدران: ص 215).
(3)
وهو كتاب في الفقه وهو المتن الذي عمل عليه شرحاً سماه المحلى، وطبع هذا الأخير بتحقيق العلامة أحمد شاكر.
(4)
انظر: (المدخل لابن بدران: ص 215).
(5)
انظر: (سير أعلام النبلاء: 18/ 193).
(6)
انظر: (المدخل لابن بدران: ص 215).
ثنايا بحوثها فالكتاب بهذا القدر أضحى مفيداً للعلماء كافة على اختلاف مذاهبهم وآرائهم، فالمطلع عليه يصبح ذا معرفة بالإجماع والوفاق والخلاف، والمذاهب المتروكة. كما يسمو به من حضيض التقليد إلى ذروة الحق الذي يجعل من الفقيه مجتهداً يمرح في روض التحقيق والترجيح.
لهذه الامتيازات كسب "المغني"(1) ثقة الفقهاء من أهل التحقيق، وعني به طائفة من الشيوخ منهم أبو البركات عبد الله بن محمد الزريراني البغدادي فقيه العراق (ت 729 هـ)
حكى عنه ابن مفلح في "المقصد الأرشد" أنه طالع المغني للموفق ثلاثاً وعشرين مرة وعلق عليه حواشي. (2)
كما اختصر المغني الشيخ ابن رزين عبد الرحمن الغساني الحوراني، الفقيه الدمشقي (ت 656 هـ) في كتاب سماه "التهذيب" حكاه صاحب "المقصد الأرشد". (3)
كما اختصره كذلك عبد العزيز بن علي بن العز بن عبد العزيز البغدادي (ت 840 هـ) ذكر ذلك ابن مفلح في "المقصد الأرشد" حكاه عنه
(1) طبع المغني عدة طبعات منها مع الشرح الكبير للإمام شمس الدين بن قدامة (ت 682 هـ) وذلك في مطبعة المنار بالقاهرة، في اثني عشر مجلداً مع فهارسه، وطبع مفرداً كذلك بنفس المطبعة السابقة في تسع مجلدات من القطع الصغير، وطبع في مصر طبعة أخرى وقد صدر منه ثلاث مجلدات بتحقيق الدكتور: عبد الله التركي، والدكتور عبد الفتاح الحلو من دار الهجرة بالقاهرة سنة 1408 هـ.
(2)
انظر: (المدخل لابن بدران ص 207، 215).
(3)
انظر: (المصدر السابق: ص 207 - 215).
ابن بدران، (1) كما ذكر ذلك الجمال ابن عبد الهادي. (2)
ومن أبرز شروح الخرقي كذلك، شرح القاضي أبي يعلى (3) محمد بن الحسين بن الفراء البغدادي (ت 458 هـ). وهو كتاب ضخم ومفيد سلك فيه مؤلفه طريقة خاصة تختلف عما ذكرناه عن المغني. وفي بيان ذلك يقول ابن بدران: "وطريقته أنه يذكر المسألة من الخرقي ثم يذكر من خالف فيها ثم يقول ودليلنا فيفيض في إقامة الدليل من الكتاب والسنة والقياس على طريقة الجدل
…
والفرق بين هذا الشرح وبين المغني أن المغني يسلك قريباً من هذا المسلك ويكثر من ذكر الفروع زيادة على ما في المتن
…
وأما أبو يعلى فإنه لا يذكر شيئاً زائداً على ما في المتن، ولكنه يحقق مسائله ويذكر أدلتها ومذاهب المخالفين". (4)
على هذا النمط يكمل بعضهم بعضاً أدلة وفروعاً. وهذا ما قرره ابن بدران عندما قال: "فإذا طبع المغني مع شرح القاضي قرب الناظر فيهما من أن يحيط بالمذهب دلائل وفروعاً، وحصلت له معرفة ببقية المذاهب وتلك غاية قصوى يحتاجها كل محقق". (5)
كما شرح مختصر الخرقي كل من:
- الفقيه القادر محمد بن أحمد بن أبي موسى، أبو علي الهاشمي القاضي (ت 428 هـ) قال ابن أبي يعلى: "وشاهدت أجزاء بخطه من شرحه لكتاب الخرقي
…
" (6).
- والإمام أبو علي، الحسن بن أحمد بن عبد الله بن البنا البغدادي المقري، الواعظ الفقيه صاحب التصانيف (ت 471 هـ) قال أبو اليمن
(1) انظر: (المصدر السابق: ص 215).
(2)
انظر: (الجوهر المنضد: ص 68).
(3)
طبع منه قطعة لأول مرة كرسالة علمية على الاستنسل قدمت لنيل درجة الدكتوراه في الفقه الإسلامي من جامعة أم القرى بمكة المكرمة بتحقيق الطالب: سعود الروقي.
(4)
انظر: (المدخل: ص 216).
(5)
(المصدر السابق: ص 216).
(6)
انظر: (طبقات الحنابلة: 2/ 182، المنهج الأحمد: 2/ 115).
العليمي: "ومن مصنفاته شرح الخرقي في الفقه مجلد"(1) وتبعه في ذلك ابن بدران في "المدخل: ص 206).
- والعلامة الزاهد عبد الله بن أبي بكر بن أبي البدر الحربي البغدادي (ت 681 هـ) ذكر ابن بدران الدمشقي أن له "المهم شرح الخرقي". (2)
وشرحه محمد بن عبد الله الزركشي المصري العلامة الحنبلي (ت 772 هـ) وذلك بشرحين مطول تام، ومختصر لم يكمل بل أكمله غيره من الحنابلة. (3) قال ابن العماد: "له تصانيف مفيدة أشهرها شرح الخرقي لم يسبق إلى مثله
…
" (4).
- والفقيه الحنبلي عبد العزيز بن علي بن العز البغدادي المذكور سابقاً صاحب "مختصر المغني" ذكر أبو المحاسن بن المبرد أن له شرحاً على الخرقي في مجلدين، وقد ابتاعه مع "مختصر المغني" من تركة الشيخ تقي الدين بن قندس (5) رحمه الله.
كما أن لمختصر الخرقي مختصر بديع صنفه العلامة الورع أحمد بن نصر الله الحنبلي شيخ عز الدين المصري (ت 846 هـ) ذكر ذلك تلميذه يوسف ابن عبد الهادي رحمه الله (6).
ومن الفقهاء من شرح المختصر بالنظم، وهي طريقة لطيفة وذكية في حفظ المتون جرى عليها معظم النحاة في حفظ القواعد العربية كما فعل بألفية ابن مالك وغيرها فنظمهُ العلامة المحدث جعفر بن أحمد السراج أبو محمد
(1) انظر: (المنهج الأحمد: 2/ 166).
(2)
انظر: (المدخل: ص 207).
(3)
انظر: (مقدمة مختصر الخرقي للشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع).
(4)
انظر: (الشذرات: 6/ 214).
والكتاب ما زال في حيز المخطوطات يخرج إلى الوجود بعد، ومنه نسختان بمركز البحث العلمي بجامعة أم القرى ضمن فهرس الفقه الحنبلي.
وقد اعتمد عليه الجمال بن عبد الهادي رحمه الله في كتابه "الدر النقي" في مواضع مختلفة. انظر في ذلك على سبيل المثال: ج 2 ص 29.
(5)
انظر: (الجوهر المنضد: ص 68).
(6)
انظر: (المصدر السابق: ص 7).
القاري البغدادي الأديب الشاعر (ت 500 هـ)، وذلك كما فعل بكتاب "التنبيه" للشيرازي في فقه الشافعي رحمه الله.
كما نظم "مختصر الخرقي" الإمام العلامة الحنبلي، الشهيد يحيى بن يوسف الصرصري (ت 656 هـ) ذكر ذلك ابن رجب وغيره (1) وسمى هذا النظم "الدرة اليتيمة" كما قال:
فلا ترغبن عن حفظها فهي درة
…
يتيمة استحسنتها في التنقد (2)
وأخيراً جاء مؤلفنا العلامة يوسف بن عبد الهادي رحمه الله، فعني واهتم بمختصر الخرقي، فألف كتابه الذي نقدم له وهو "الدر النقي في شرح ألفاظ الخرقي" وذلك في لغات الخرقي ومفرداته، وهو مهم في بابه كما سيأتي. وكتاباً آخر في تخريج أحاديث المختصر وهو "الثغر الباسم في تخريج أحاديث مختصر أبي القاسم".
هذه نماذج ذكرناها للتمثيل لا للحصر والاستقصاء في المؤلفات التي أفردت في شرح هذا المختصر الفقهي والعناية التي أولاها له نخبة من الفقهاء البارزين.
ولعل المتخصص في العناية بقراءة تراجم العلماء، وخصوصاً الحنابلة منهم، يعثر على الكثير ممن توجهت هممهم العلمية لدراسة مختصر أبي القاسم رحمه الله وذلك بالحفظ والكتابة عليه والتعليق على فوائده، فهو بالجملة مختصر مفيد فيه غزارة علمية وعناية فائقة بالمسائل الفقهية مع الإيجاز والاستيعاب نفع الله المسلمين به.
وفاة الخرقي:
توفي الخرقي رحمه الله بعد حياة حافلة بالعلم والعمل سنة 334 هـ وذلك على أثر منكر أنكره بدمشق، فضرب حتى مات من أثر ذلك ودفن لا مقابر الشهداء بدمشق آنذاك.
(1) انظر: (ذيل طبقات الحنابلة: 2/ 263، المدخل لابن بدران: ص 217).
(2)
انظر: (مقدمة مختصر الخرقي للشيخ ابن مانع).