الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلد الأول
كتاب الطهارة
باب في أحكام المياه
اقسام المياه
…
باب في أحكام المياه
والماء طاهر مطهر لا يخرجه عن الوصفين إلا ما غير ريحه أو لونه أو طعمه من النجاسات وعن الثاني ما أخرجه عن اسم الماء المطلق من المغيرات الطاهرة ولا فرق بين قليل وكثير وما فوق القلتين وما دونهما ومتحرك ساكن ومستعمل وغير مستعمل.
هذا الباب قد اشتمل على مسائل.
الأولى: كون الماء طاهرا مطهرا ولا خلاف في ذلك وقد نطق بذلك الكتاب والسنة وكما دل الدليل على كونه طاهرا مطهرا وقام على ذلك الإجماع كذلك يدل على ذلك الأصل والظاهر والبراءة فإن أصل عنصر الماء طاهر مطهر بلا نزاع وكذلك الظهور يفيد ذلك والبراءة الأصلية عن مخالطة النجاسة له مستصحبة.
قوله: لا يخرجه عن الوصفين. أي عن وصف كونه طاهرا وعن وصف كونه مطهرا.
قوله: إلا ما غير ريحه أو لونه أو طعمه1 من النجاسات. هذه المسألة الثانية من مسائل الباب وهي أنه لا يخرج الماء عن الوصفين إلا ما غير أحد أوصافه الثلاثة من النجاسات لا من غيرها وهذا المذهب هو أرجح المذاهب وأقواها
1صورة إدراك تغير الطعم أن يذاق الماء فيوجد متغيرا فيبحث عن سبب تغيره فيعلم أنه من نجس خالطه. لا أنه يطلب ذوق الماء المعروف مخالطته النجاسة لاختبار تغيره بها.
والدليل عليه ما أخرجه أحمد وصححه وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي والحاكم وصححه.
وصححه أيضا يحيى بن معين وابن حزم من حديث أبي سعيد قال: قيل يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعه1 وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الماء الطهور لا ينجسه شيء" وقد أعله ابن القطان2 باختلاف في اسم الراوي له عن أبي سعيد واسم أبيه وليس ذلك بعلة فقد اختلف في أسماء كثير من الصحابة والتابعين على أقوال ولم يكن ذلك موجبا للجهالة على ابن القطان نفسه قال: بعد ذلك الإعلال وله طريق أحسن من هذه ثم ساقها عن أبي سعيد وقد قامت الحجة بتصحيح من صححه من أولئك الأئمة وله شواهد.
منها من حديث سهل بن سعد عند الدارقطني ومن حديث ابن عباس عند أحمد وابن خزيمه وابن حبان ومن حديث عائشة عند الطبراني في الأوسط وأبي يعلي والبزار وابن السكن كلها مثل حديث أبي سعيد.
وأخرجه بزيادة الاستثناء الدارقطني من حديث ثوبان بلفظ: "الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه أو طعمه".
1قال أبو داود: سمعت قتيبة بن سعيد قال: سألت قيم بئر بضاعة عن عقمها قلت ما أكثر ما يكون فيها الماء؟ قال: إلى العانة. قلت، فإذا نقص؟ قال: دون العورة. قال أبو داود: قدرت بئر بضاعة بردائي فمددته عليها ثم ذرعته، فإذا عرضها ستة أذرع، وسألت الذي فتح لي باب البستان فأدخلني إليه هل غير بناؤه عما كان عليه؟ فقال: لا. ورأيت فيها ماء متغير اللون.
2 عبارة التلخيص: وأعله ابن القطان بجهالة راويه عن أبي سعيد واختلاف الرواة في اسمه واسم بعلة إنما هو حيث يكون عرف الراوي وتميز بمعرف أو كنية أو لقب أو غيرها كمن وقع في اسمه واسم أبيه اختلاف، كأبي هريرة رضي الله عنه، فإنه احتلف في اسمه على نحو من عشرين قولا، وأما هنا فإن الاختلاف فيه اضطراب في السند وهو علة بلا ريب على أن فيه الجهالة وكفى بها علة. فالصواب التعويل على تقويته بالشواهد والله أعلم. من خط محمد العمراني، وقد سلم في "النيل" اعلال ابن القطان.
وأخرجه أيضا مع الزيادة ابن ماجه والطبراني من حديث أبي أمامه بلفظ: "إن الماء طهور إلا إن تغير ريحه أو لونه أو طعمه بنجاسة تحدث فيه" وفي سندهما من لا يحتج به وقد اتفق أهل الحديث على ضعف هذه الزيادة لكنه قد وقع الإجماع على مضمونها كما نقله ابن المنذر وابن الملقن في البدر المنير والمهدي في البحر فمن كان يقول بحجية الإجماع كان الدليل عنده على ما أفادته تلك الزيادة هو الإجماع ومن كان لا يقول بحجية الإجماع كان هذا الإجماع مفيدا لصحة تلك الزيادة لكونها قد صارت مما أجمع على معناه1 وتلقى القبول فالاستدلال بها لا بالإجماع.
قوله: وعن الثاني ما أخرجه عن اسم الماء المطلق من المغيرات الطاهرة.
هذه المسألة الثالثة من مسائل الباب ووجه ذلك أن الماء الذي شرع لنا التطهر به هو الماء المطلق الذي لم يضف إلى شيء من الأمور التي تخالطه فإن خالطه شيء أوجب إضافته إليه كما يقال: ماء ورد ونحوه فليس هذا الماء المقيد بنسبته إلى الورد مثلا هو الماء المطلق الموصوف بأنه طهور في الكتاب العزيز لقوله: {مَاءً طَهُوراً} وفي السنة المطهرة بقوله: "الماء طهور" فخرج بذلك عن كونه مطهرا ولم يخرج به عن كونه طاهرا لأن الفرض أن الذي خالطه طاهر واجتماع الطاهرين لا يوجب خروجهما عن الوصف الذي كان مستحقا لكل واحد منهما قبل الاجتماع.
قوله: لا فرق بين قليل وكثير هذه المسألة الرابعة من مسائل الباب والمراد بالقلة والكثرة ما وقع من الاختلاف في ذلك بين أهل العلم بعد إجماعهم على أن ما غيرت النجاسة أحد أوصافه الثلاثة ليس بطاهر فقيل إن الكثير ما بلغ
1 هذه الطريقة لا تعرف لتصحيح الحديث عند المحدثين، ولا يصير بذلك أيضا من الملتقى بالقبول عند الأمة ما لم ترده، ولا ضعفته، بل كانوا بين قائل به ومتأول. وهذا قد ضعفته كما ترى فأين القبول؟ والإجماع على مضمونه لا يستلزم أنه بعينه مستند الإجماع كما لا يخفي. من خط العلامة السيد الحسن بن يحيى الكبسي قدس سره العزيز.
قلتين والقليل ما كان دونهما لما أخرجه أحمد وأهل السنن والشافعي وابن خزيمه وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي وصححه الحاكم على شرط الشيخين من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسأل عن الماء يكون في الفلاة من الأرض وما ينوبه من السباع والدواب فقال: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث" وفي لفظ أحمد: "لم ينجسه شيء" وفي لفظ لأبي داود: "لم ينجس" وأخرجه بهذا اللفظ ابن حبان والحاكم وقال: ابن منده إسناد حديث القلتين على شرط مسلم انتهى ولكنه حديث قد وقع الإضطراب في إسناده ومتنه بما هو مبين في مواطنه وقد أجاب من أجاب عن دعوى الاضطراب وقد دل هذا الحديث على أن الماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث وإذا كان دون القلتين فقد يحمل الخبث ولكنه كما قيد حديث "الماء طهور لا ينجسه شيء" بتلك الزيادة التي وقع الاجماع عليها كذلك يقيد حديث القلتين بها فيقال: إنه لايحمل الخبث إذابلغ قلتين في حال من الأحوال إلا في حال تغير بعض أوصافه بالنجاسة فإنه حينئذ قد حمل الخبث بالمشاهده وضروة الحس فلامنافاة بين حديث القلتين وبين تلك الزيادة المجمع عليها وأما ما كان دون القلتين فهو مظنة لحمل الخبث.
وليس فيه أنه يحمل الخبث قطعا وبتا ولا أن يحمله من الخبث يخرجه عن الطهورية لأن الخبث المخرج عن الطهورية هو خبث خاص وهو الموجب لتغير أحد أوصافه أو كلها لا الخبث الذي لم يغير.
وحاصله أن ما دل عليه مفهوم حديث القلتين من أن ما دونهما قد يحمل الخبث لايستفاد منه إلا أن ذلك المقدار إذا وقعت فيه نجاسة قد يحملها وأما أنه يصير نجسا خارجا عن كونه طاهرا فليس في هذا المفهوم ما يفيد ذلك ولا ملازمة بين حمل الخبث والنجاسة1 المخرجة عن الطهورية لأن الشارع قد نفى
1 فيه أن الحديث وقع جواب عن سؤال عما تنوبه السباع في الماء أيتوضأ به أم لا؟ وقد علم أن الذي يمنع من التوضؤ بالماء في الشريعة إنما هو النجاسة فتعين حينئذ الاتحاد بين حمل النجاسة =
النجاسة عن مطلق الماء كما في حديث أبي سعيد المتقدم وما يشهد له ونفاها عن الماء المقيد بالقلتين كما في حديث عبد الله بن عمر المتقدم أيضا وكان النفي بلفظ هو أعم صيغ العام فقال: في الأول لا ينجسه شيء وقال: في الثاني أيضا كما في تلك الرواية لم ينجسه شيء فأفاد ذلك أن كل ماء يوجد على وجه الأرض طاهر إلا ما ورد فيه التصريح بما يخصص هذا العام مصرحا بأنه يصير الماء نجسا كما وقع في تلك الزيادة التي وقع الإجماع عليها فإنها وردت بصيغة الاستثناء من ذلك الحديث فكانت من المخصصات المتصلة بالنسبة إلى حديث أبي سعيد ومن المخصصات المنفصلة بالنسبة إلى حديث عبد الله بن عمر على قول الراجح في الأصول وهو أنه يبني العام على الخاص مطلقا فتقرر بهذا أنه لا منافاة بين مفهوم حديث القلتين وبين سائر الأحاديث بل يقال: فيها ما دون القلتين إن حمل الخبث حملا استلزم تغير ريح الماء أو لونه أو طعمه فهذا هو الأمر الموجب للنجاسة والخروج عن الطهورية وإن حمل حملا لا يغير أحد تلك الأوصاف فليس هذا الحمل مستلزما للنجاسة وقد ذهب إلى تقدير القليل بما دون القلتين والكثير بهما الشافعي وأصحابه ومن أهل البيت الناصر والمنصور بالله وذهب إلى تقدير القليل بما يظن استعمال النجاسة باستعماله والكثير بما لا يظن استعمال النجاسة باستعماله ابن عمر ومجاهد ومن أهل البيت الهادي والمؤيد بالله وأبو طالب وقد روى أيضا عن الشافعية والحنفية وأحمد بن
= والخبث وإلا كان الجواب بمعزل عما فيه السؤال وهو خلف من المقال والله أعلم. من خط محمد العمراني.
وقد يقال ليس مراده أن الخبث ليس بنجس أصلا، بل مراده أنه ليس بلازم النجاسة، بل قد قد يكون نجسا وقد لا يكون نجسا، ومدار النجاسة على التغير وعدمه ولا يخفى أن هذا تعطيل لمفهوم التقييد بالقلتين، فإنه يفهم أنه إذا كان دون القلتين فهو يحمل الخبث دائما ليخالف المذكور. أعني إنه لا يحمل الخبث وإلا لم يكن مخالفا بل مسكوتا عنه كما يقوله من ينفي المفهوم ويكون المعول على هذا التقييد بالتغير وعدمه. وحينئذ فلا فرق في ذلك بين ما كان قلتين أو دونهما إذ الحكم فيهما معا النجاسة مع التغير والطهارة مع عدمه. من خط السيد العلامة الحسن بن يحيى قدس سره.
حنبل ولا أدري هل تصح هذه الرواية أم لا فإن مذاهب هؤلاء مدونة في كتب أتباعهم من أراد الوقوف عليها راجعها واحتج أهل هذا المذهب بمثل قوله: تعالى {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:5] وبخبر الاستيقاظ وخبر الولوغ وأحاديث النهي عن البول في الماء الدائم وهي جميعها في الصحيح ولكنها لا تدل على المطلوب ولو فرضنا أن لشيء منها دلالة بوجه ما كان ما أفادته تلك الدلالة مقيدا بما تقدم لأن التعبد إنما هو بالظنون الواقعة على الوجه المطابق للشرع على أنه لا يبعد أن يقال: إن العاقل لا يظن استعمال النجاسة باستعمال الماء إلا إذا خالطت الماء بجرمها أو بريحها أو بلونها أو بطعمها مخالطة ظاهرة توجب ذلك الظن ولاشك ولا ريب أن ما كان من الماء على هذه الصفة نجس لأن المخالطة إن كانت بالجرم فالمتوضئ مستعمل لعين النجاسة وإن كانت المخالطة بالريح أو اللون أو الطعم فلا مخالفة بين هذا المذهب وذلك المذهب الذي رجحناه.
والحاصل أنهم إن أرادوا بقولهم: إن ظن استعمال النجاسة باستعماله فهو القليل وإن لم يظن فهو الكثير ما هو أعلم من بين النجاسة وريحها ولونها وطعمها فلا مخالفة بين هذا المذهب وذلك المذهب الذي رجحناه إلا من جهة أن هؤلاء اعتبروا المظنة وأهل المذهب الأول اعتبروا المئنة ولكن لا يخفي أن المظنة إذا كانت هي الصادرة من غير أهل الوسوسة والشكوك فهي لا تكاد تخالف المئنة في مثل هذا الموضع وإن أرادوا استعمال العين فقط وعدم استعمال العين فقط فهو مذهب مستقل غير ذلك المذهب ولكن الظاهر أنهم أرادوا المعنى الأول ويدل على ذلك أنه قد وقع الإجماع على أن ما غير لون الماء أو ريحه أو طعمه من النجاسات أوجب تنجيسه كما تقدم تقريره فأهل هذا المذهب من جملة القائلين بذلك لدخولهم في الإجماع بل هو مصرح بحكاية الإجماع في البحر كما تقدم فتقرر بهذا أنهم يردون المعنى الأول أعنى الأعم من العين والريح واللون والطعم ثبوتا وانتفاء وحينئذ فلا مخالفة بين المذهبين لأن أهل المذهب الأول لا يخالفون في أن استعمال المطهر لعين النجاسة مع الماء
موجب لخروج الماء عن الطهورية خروجا زائدا على خروجه عند استعمال ما فيه مجرد الريح أواللون أو الطعم فتأمل هذا فهو مفيد بل مجموع ما أشتمل عليه هذا البحث في الجمع بين المذاهب المختلفة في الماء وبين الأدلة1 الدالة عليها على
1 لعل مراده بالجمعين المشار إليهما، أما الجمع بين الأدلة فلرده حديث القلتين إلى أن عموم طهارة القلتين مخصوص بما لم يتغير وإلا فنجس كما دونهما، ورده عدم جواز ملابسة ما يظن استعمال النجاسة معه رده إلى أن ظن استعمالهما لا يحصل إلا مع تغير الماء بأحد أوصافه. وأما الجمع بين المذاهب، أعني رد من اعتبره في القليل دون القلتين أو بما فيه ظن استعمال النجاسة إلى اعتبار تغير الماء فلعله بنحو ما ذكر في الأدلة.
وأقول: أما اعتبار ذلك في الجمع بين المذاهب فهو بعيد وكيف لا؟ ومن يقول بنجاسة ما دون القلتين لا يعتبر التغير، ومن يقول بالظن فهو يقول: كل موكول إلى ظنه، اللهم إلا أن يقول: يلزمه ذلك. لأنه لا يحصل الظن إلا مع التغير، وأما الجمع بين الأدلة بما ذكر فقد سبقه إليه القاضي حسين بن ناصر المهلا في الجمع بين حديث القلتين والزيادة في حديث "إلا ما غير"، والمقبلي في حمله اعتبار ظن استعمال النجاسة على التغير وتلازمهما، ولكن لم يقرر ذلك المؤلف على ما ينبغي.
وقد رأيت تقريره على ما تقرر لي فأقول في تقريره: إن حديث القلتين محمول على أنه خرج مخرج الأغلب فيما يتغير وما لا يتغير، وأن المراد به أن الغالب على النجاسة أنها إن وردت على ما هو دون القلتين من الماء غيرته إلى وصفها فيحمل الخبث وإن وردت على قدر قلتين فصاعدا لم تغيره ولم يحمل الخبث بذلك فيكون ارجاعا إلى التغير وعدمه، ولا يخفى أن هذا إن كان فيما ورد في سبب الحديث فقط وهو ماء الفلاة وما ينوبه من نجاسة السباع فهو قريب في أغلبية ذلك فيما يستنقع من ماء المطر فيها وفيما تلقى السباع فيه، ولكن فيه نظر للعموم على السبب. وفيه خلاف فيما كان جواب سؤال، وأيضا يكون كالمظنة لربط التغير بما دون القلتين.
وفي حديث القلتين من الاحتمال في المعنى ما لا يصلح أن يكون مظنة لاختلاف العلامات وغموض معنى حمل الخبث وبتردد هل بلغ الماء قلتين؟ يعني في زيادة أو نقصان مع كزن التغير إلى الوصف ظاهر لا يحتاج إلى بيان مظنة. ولهذا كان الرد إليه أرجح من تخصيص عموم قوله: "لا ينجسه شيء". بالمفهوم المذكور لضعفه واحتماله. وأما أدلة القائل بإعمال الظن في المنع مما تستعمل النجاسة باستعمال نحو قوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:5] وحديثي الاستيقاظ والولوغ في المنع عما لابسته لقلته، لكونه في إناء، والنهي عن البول في الماء الدائم، فرد هذا إلى أنه حيث تغير الماء فيه بعض الخفاء، ولكن يقال أيضا ليس بلازم فيها ما ذكرتم من ظن استعمال النجاسة باستعماله، فالأظهر فيها أن النهي للتعبد ونقول: إن الظن الممنوع فيه=
هذه الصورة التي لخصتها مما لم أقف عليه لأحد من أهل العلم وهذه المسألة1 هي من المضايق التي يتعثر في ساحاتها كل محقق ويتبلد عند تشعب طرائقها كل مدقق وقد حررتها في سائر مؤلفاتي تحريرات مختلفة لهذه العلة وأطلت الكلام عليها في طيب النشر.
وقد استدل بعض أهل العلم لهذا المذهب بمثل حديث: "استفت قلبك ولو أفتاك المفتون" ومثل حديث: "دع ما يريبك إلا ما لا يريبك" ولا يستفاد منها إلا أن التورع عند الظن من الإقدام أولى وأهل هذا المذهب يوجبون العمل بذلك الظن حتما وجزما وقد عرفت أن أدلة المذهب الأول على الوجه الذي لخصناه تدل على المذهب الثاني فإبعاد النجعة إلى مثل حديث: "استفت قلبك ودع ما يريبك" ليس كما ينبغي فإن قيل أنه قصد الإستدلال على مجرد العمل بالظن من غير نظر إلى هذه المسالة فيقال: أدلة العمل بالظن في الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر وأكثر منها أدلة النهي عن العمل به وهكذا التعويل على حديث الولوغ والإستيقاظ نحو ذلك لا يفيد وقد حكى تحديد الماء الكثير أقوال منها أن الكثير من المستبحر وقيل ما إذا حرك طرفه لم يتحرك الطرف الآخر وقيل ما كان مساحة مكانه كذا وقيل غير ذلك وهذه الأقوال ليس عليها أثارة من علم بل هي خارجة عن باب الرواية المقبولة والدراية المعقولة.
= استعمال النجاسة باستعمال، هو لازم للتغير إذ لا يحصل إلا معه سيما فيما لا يظهر فيه التغير كقطرة بول في بحر. من خط سيدي العلامة الحسن بن يحيى الكبسي روح الله روحه.
1 أما أنا فأقول، قد اضطربت أمواج محيط شيخنا في هذا البحث، فلم يصف مورده عن كدر فتفطن وارجع النظر فيه كرتين. ومن خط العمراني. فإنه لم يتقرر في كلامه معنى حمل الماء للخبث وعدمه، بل قسم حمل الخبث إلى قسمين حمل مع التغير، وحمل له مع عدمه، فلم يقع فرق بين مفهوم حديث القلتين ومنطوقه. ومن خط سيدي العلامة حسن بن يحيى قدس سره. وأقول من تأمل حق التأمل لم يجد في كلام المؤلف اضطرابا. بل هذا التقرير على أحسن الوجوه وأكملها.
قوله: ومتحرك وساكن وجه ذلك أن سكونه وإن كان قد ورد النهي عن التطهر به حاله فإن ذلك لا يخرجه عن كونه طهورا لأن وصف كونه طهورا بمجرد تحركه.
وقد دلت الأحاديث على أنه لا يجوز التطهير بالماء الساكن ما دام ساكنا1 كحديث أبي هريرة عند مسلم رضي الله عنه وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لايغتسلن أحدكم في الماء الدائم وهو جنب" فقالوا: يا أبا هريرة كيف يفعل قال: يتناوله تناولا وفي لفظ لأحمد وأبى داود: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من الجنابه" وفي لفظ للبخاري: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه" وفي لفظ للترمذي: "ثم يتوضأ منه" وغير هذه الروايات التي يفيد مجموعها النهي عن البول في الماء الدائم على إنفراده والنهي عن الإغتسال فيه على انفراده والنهي عن مجموعة الأمرين ولا يصح أن يقال: إن روايتي الإنفراد مقيدتان بالإجتماع لأن البول في الماء على انفراده لا يجوز فأفاد أن هذا الإغتسال أوالوضوء في الماء الدائم من دن بول فيه غير جائز فمن لا يجد إلا ماء ساكنا وأراد أن يتطهر منه فعليه أن يحتال قبل ذلك بأن يحركه حتى يخرج من وصف كونه ساكنا ثم يتوضأ منه وأما أبو هريرة فقد حمل النهي على الإنغماس في الماء الدائم ولهذا لما سئل كيف يفعل قال: يتناوله تناولا ولكنه لا يتم ذلك في الوضوء فإنه لا إنغماس فيه بل هو يتناوله تناولا من الإبتداء فالأولى تحريك الماء قبل الشروع في الطهارة ثم يتطهر به.
وقد ذهب الجمهور إلى خلاف ما دلت عليه هذه الروايات فلم يفرقوا بين المتحرك والساكن ومنهم من قال: أن هذه الروايات محمولة على الكراهة فقط ولا
1 لا يذهب عليك أن قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب" مشروطة عامة. يعني أنه حكم فيها بالمنع من الاغتسال على الماء ما دام وصفه وهو الديمومة وهو معنى خروجه عن كونه مطهرا. والقول بعدم خروجه عنها ح. معللا بسرعة الزوال خلف من المقال وضرورة بطلان قولك المحمر وجهه ليس بخجل لسرعة زوال الحمرة المحكوم عليها بالخجل ما دامت. والله أعلم من خط العمراني.
وجه لذلك وقد قيل إن المستبحر مخصوص من هذا بالإجماع والراجح أن الماء الساكن1 لا يحل التطهر به مادام ساكنا فإذا تحرك عاد له وصفه الأصلي وهو كونه مطهرا وهذه هي المسألة الخامسة من مسائل الباب.
قوله: مستعمل وغير مستعمل. هذه المسأله السادسة من مسائل الباب وقد وقع الاختلاف بين أهل العلم في الماء المستعمل لعبادة من العبادات هل يخرج بذلك عن كونه مطهرا أم لا فحكى عن أكثر العترة وأحمد بن حنبل والليث والأوزاعي والشافعي ومالك في إحدى الروايتين عنهما وأبي حنيفة في رواية عنه أن الماء المستعمل غير مطهر واستدلوا بما تقدم من حديث النهي عن التطهر به ليست كون ذلك الماء مستعملا بل كونه ساكنا وعلة السكون لا ملازمة بينها وبين الإستعمال واحتجوا أيضا بما ورد من النهي عن الوضوء بفضل وضوء المرأة ولا تنحصر علة ذلك في الإستعمال كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله فلا يتم الاستدلال بذلك لإحتماله ولو كانت العلة الاستعمال لم يختص النهي بمنع الرجل من الوضوء بفضل المرأة وبالعكس بل كان النهي سيقع من الشارع لكل أحد عن كل فضل ومن جملة ما استدلوا به أن السلف كانوا يكملون الطهارة بالتيمم عند قلة الماء لا تساقط منه وهذه حجة ساقطة لا ينبغي التعويل على مثلها في إثبات الأحكام الشرعية فعلى هذا المستدل أن يوضح هل كان هذا التكميل يفعله جميع السلف أو بعضهم والأول باطل والثاني لا ندري من هو فليبين لنا من هو على أنه لا حجة إلا الإجماع عند من يحتج بالإجماع وقد استدلوا بأدلة هي أجنبية عن محل النزاع مثل حديث غسل اليد بعد الاستيقاظ قبل إدخالها الإناء ونحوه فالحق أن المستعمل طاهر مطهر عملا بالأصل وبالأدلة الدالة على
1ظاهر هذا أنه حمل معنى الدائم على الساكن عن الحركة. والماء جسم سيال لا يكتنفه حقيقة سكون. والأظهر أن المراد بالدائم الساكن عن الجري بدليل رواية في الماء الدائم الذي لا يجري. فلا يخرج من النهي بمجرد تحريكه. بل لا بد من جريه، وأيضا فتحركه ثم عوده بسرعة لا يخرجه عن كونه دائما بخلاف إذا جرى. من خط العلامة حسن بن يحيى قدس سره.