الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب
أحكام الوضوء
أحكام الوضوء
…
باب أحكام الوضوء
يجب على كل مكلف أن يسمي إذا ذكر ويتمضمض ويستنشق ثم يغسل جميع وجهه ثم يديه مع مرفقيه ثم يمسح رأسه مع أذنيه ويجزئ مسح بعضه والمسح على العمامة ثم يغسل رجليه مع الكعبين وله المسح على الخفين ولا يكون وضوءا شرعيا إلا بالنية لاستباحة الصلاة.
أقول: أما وجوب التسمية فوجهه ما ورد من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا صلاة لمن لا وضوء له ولا وضوء لمن لا يذكر اسم الله عليه" أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي في العلل والدارقطني والبيهقي وابن السكن والحاكم وليس في إسناده ما يسقطه عن درجة الاعتبار وله طرق أخرى من حديثه عند الدارقطني والبيهقي وأخرج نحوه أحمد وابن ماجه من حديث سعيد بن زيد ومن حديث أبي سعيد وأخرج آخرون نحوه من حديث عائشة وسهل بن سعد وأبو سبرة وأم سبرة وعلي وانس ولا شك ولا ريب أنها جمعيا تنتهض للاحتجاج بها بل مجرد الحديث الأول ينتهض لأنه حسن فكيف إذا عضد بهذه الأحاديث الواردة في معناه ولا حاجة للتطويل في تخريجها فالكلام عليها معروف وقد صرح الحديث بنفي وضوء من لم يذكر اسم الله وذلك يفيد الشرطية التي يستلزم عدمها العدم فضلا عن الوجوب فإنه أقل ما يستفاد منه.
وأما تقييد الوجوب بالذكر1 فهو للجمع2 بين هذه الأحاديث وحديث "من توضأ وذكر اسم الله عليه كان طهورا لجميع بدنه ومن توضأ ولم يذكر اسم الله عليه كان طهورا لأعضاء وضوئه" أخرجه الدراقطني والبيهقي من حديث ابن عمر وفي إسناده متروك وأخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث ابن مسعود وفي إسناده أيضا متروك ورواه أيضا الدارقطني والبيهقي من حديث أبي هريرة وفيه ضعيفان وهذه الأحاديث لا تنتهض للاستدلال بها وليس فيها دلالة على المطلوب من أن الوجوب ليس إلا على الذاكر ولكنه يدل على ذلك أحاديث عدم المؤاخذة على السهو والنسيان وما يفيد ذلك من الكتاب العزيز فقد اندرجت تلك الأحاديث الضعيفة تحت هذه الأدلة الكلية ولا يلزم مثل ذلك في الأعضاء القطعية وبعد هذا كله ففي التقييد بالذكر إشكال3.
وأما وجوب المضمضة والاستنشاق فوجهه أنهما من جملة الوجه الذي ورد القرآن الكريم بغسله وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ما في القرآن بوضوئه المنقول إلينا ومن جملة ما نقل إلينا المضمضة والاستنشاق فأفاد ذلك أن الوجه المأمور بغسله من جملته المضمضة والاستنشاق وقد ورد الأمر بذلك كما أخرجه الدارقطني
1 لا يذهب أن عدم المؤاخذة على السهو والنسيان التي تظافرت عليها أدلة الكتاب والسنة إنما هو فيما يرجع إلى نفي الإثم فقط، ولم يقل أحد أن من نسي الصلاة أو نسي ركنا من أركانها أو شرطا من شروطها كالوضوء مثلا أنه يرتفع حكمه بمعنى ركنيته أو شرطيته مثلا فتصح الصلاة، وقد نسي النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين من صلاته، ثم لما ذكر أتاهما تحصيلا للصحة كما ثبت في الصحيح. نعم. قد ثبت في الشريعة أشياء قد ارتفع أحكامها بالنسيان وذلك أكل الصائم والكلام في الصلاة كما هو في حديث ذي اليدين بدلائل خصت مواردها. والله أعلم من خط الفاضل العمراني سلمه الله تعالى.
2 لعل وجه الجمع أن يحمل قوله: ومن توضأ ولم يذكر اسم الله إلخ على أنه لم يذكر الله ناسيا فقد أجزأه ونقصت طهوريته فقط وفيه ما سيأتي: أنه إذا جعلت شرطا فلا فرق في عدم الإجزاء بين الترك ناسيا أو ناسيا أو عامدا وإن لم يكن ناسيا، بل بمجرد الوجوب فهو مع الترك مجز عمدا أو سهو، فالحمل على إرادة الندب أو الاستحباب أرجح من خط سيدي العلامة الحسن ابن يحيى قدس الله روحه
3 إشارة إلى ما نقلناه عن العمراني قبل هذا.
من حديث أبي هريرة قال: "أمر رسول صلى الله عليه وسلم بالمضمضة والاستنشاق".
وثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أيضا أن النبي قال: "إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينتثر". وثبت عند أهل السنن وصححه الترمذي من حديث لقيط بن صبره بلفظ "وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما" وأخرج النسائي من حديث سلمة بن قيس "إذا توضأت فانتثر" وأخرجه الترمذي أيضا وفي رواية من حديث لقيط بن صبرة المذكور "إذا توضأت فمضض" أخرجها أبو داود بإسناد صحيح وقد صحح حديث لقيط الترمذي والنووي وغيرهما ولم يأت من أعله بما يقدح فيه وقد ذهب إلى وجوب المضمضة والاستنشاق أحمد وإسحاق ومن أهل البيت القاسم والهادي والمؤيد بالله وبه قال: ابن أبي ليلى وحماد ابن سليمان وذهب جماعة من أهل العلم إلى الاسنتشاق واجب في الغسل والوضوء والمضمضة سنة فيهما، حكى هذا المذهب النووي في شرح مسلم عن أبي ثور وأبي عبيد وداود الظاهري وابن المنذر ورواية عن أحمد وقد روي غيره مثل ذلك عن أبي حنيفة والثوري وزيد بن علي وذهب مالك والشافعي والأوزاعي والليث والحسن البصري والزهري وربيعة ويحيى ابن سعد وقتادة والحكم بن عتيبة ومحمد بن جرير الطبري ومن أهل البيت الناصر إلى أنهما غير واجبتين واستدلوا على عدم الوجوب بحديث "عشر من سنن المرسلين" وهو حديث صحيح ومن جملتها المضمضة والاستنشاق ورد بأنه لم يرد بلفظ "عشر من السنن" بل بلفظ "عشر من الفطرة" وعلى فرض وروده بذلك اللفظ1 فالمراد بالسنة الطريقة وهي تعم الواجب لا ما وقع في اصطلاح أهل الأصول وهكذا يجاب عن استدلالهم بحديث ابن عباس بلفظ "المضمضة والاستنشاق سنة" أخرجه الدارقطني وإسناده ضعيف.
1أقول في صحيح مسلم بعد سوق العشر، قال مصعب بن شيبة، أي أحد رواة الحديث: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة، فظهر وجه قول المؤلف سلمه الله. وعلى فرض وروده إلخ هـ لكاتبه.
وأما وجوب غسل الوجه فلا خلاف فيه في الجملة وقد قام عليه الدليل كتابا وسنة والمراد بالوجه ما يسمى وجها عند أهل الشرع واللغة وأما وجوب غسل اليدين فهو نص القرآن الكريم والسنة المطهرة ولا خلاف في ذلك وإنما وقع الخلاف في وجوب غسل المرفقين معمها ومما يدل على وجوب غسلهما جميعا حديث جابر عند الدراقطني والبيهقي "أن النبي صلى الله عليه وسلم أدار الماء على مرفقيه ثم قال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" وفي إسناده القاسم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل وهو ضعيف.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنه توضأ ثم غسل يديه حتى شرع في العضد ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وفي رواية للدارقطني من حديث عثمان "أنه غسل وجهه ويديه حتى مس أطراف العضدين".
وأخرج البزار والطبراني من حديث ثعلبة بن عباد عن أبيه مرفوعا "ثم غسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه" وهذا بيان لما في القرآن فأفاد أن الغاية داخله فيما قبلها.
وأما وجوب مسح الرأس فلا خلاف فيه في الجملة وإنما وقع الخلاف هل المتعين مسح الكل أم يكفي البعض، وما في الكتاب العزيز قد وقع الخلاف في كونه يدل على مسح الكل أو البعض والسنة الصحيحة وردت بالبيان وفيها ما يدل على جواز الاقتصار على مسح البعض في بعض الحالات كما في صحيح مسلم وغيره من حديث المغيرة "أنه صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة" وأخرج أبو داود من حديث انس أنه صلى الله عليه وسلم أدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة ولا يخفى أن قوله: تعالى {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة:6] لا يفيد إيقاع المسح على جميع الرأس كما في نظائره من الأفعال نحو ضربت رأس زيد وضربت برأسه وضربت زيدا وضربت يد زيد فإنه يوجد المعنى اللغوي في جميع ذلك بوجود الضرب على جزء من الأجزاء المذكورة وهكذا ما في الآية وليس النزاع في مسمى الرأس لغة حتى يقال: أنه
حقيقة في جميعه بالنزاع في إيقاع المسح عليه وعلى فرض الإجمال فقد بينه الشارع تارة بمسح الجميع وتارة بمسح البعض بخلاف الوجه فإنه لم يقتصر على غسل بعضه في حال من الأحوال بل غسله جميعا وأما اليدان والرجلان فقد صرح فيهما للغسل والمسح.
فإن قلت إن المسح ليس كالضرب الذي مثلت به.
قلت: لا ينكر أحد من أهل اللغة أنه يصدق قول من قال: مسحت الثوب أو بالثوب أو مسحت الحائط أو الحائط على مسح جزء من أجزاء الثوب أو الحائط وإنكار مثل هذا مكابرة.
وأما مسح الأذنين مع الرأس فوجهه ما ثبت في الأحاديث الصحيحة أنه صلى مسحهما مع مسح رأسه وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم بلفظ "الأذنان من الرأس" من طرق يقوي بعضها بعضا وأما المسح على العمامة أو غيرها مما هو على الرأس فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عمرو ابن أمية الضمري عند البخاري وغيره ومن حديث بلال عند مسلم رحمه الله تعالى وغيره ومن حديث المغيرة عند الترمذي1 وصححه وليس فيه المسح على الناصية بل هو بلفظ "ومسح على الخفين والعمامة" وفي الباب أحاديث غير هذه منها عن سلمان عند أحمد عن ثوبان عند أبي داود وأحمد أيضا.
والحاصل أنه قد ثبت المسح على الرأس والعمامة والكل صحيح ثابت وقد ورد في حديث ثوبان ما يشعر بالإذن بالمسح على العمامة مع العذر وهو عند أحمد وأبي داود أنه صلى الله عليه وسلم بعث سرية فأصابهم البرد فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم شكوا إليه ما أصابهم من البرد فأمرهم أن يمسحوا على العصائب التساخين وفي إسناده راشد بن سعد قال
1ولكنه قد ثبت في هذا حديث المغيرة "المسح على العمامة والناصية" عند مسلم وأبي داود والنسائي، وحذف الناصية عند الترمذي لا يدل على عدم مسحها بعد أن ثبت عند غيره من خط سيدي الحسن بن يحيى قدس سره.
الخلال في علله أن أحمد قال: لا ينبغي أن يكون راشد بن سعد سمع من ثوبان لأنه مات قديما.
وأما وجوب غسل الرجلين مع الكعبين فوجهه ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في جميع الأحاديث الواردة في حكاية وضوئه فأنها جمعيها مصرحة بالغسل وليس في شيء منها أنه مسح إلا في روايات لا يقوم بمثلها الحجة ويؤيد ذلك قوله: صلى الله عليه وسلم للماسحين على أعقابهم "ويل للأعقاب من النار" كما ثبت في الصحيحين وغيرهما ومما يؤيد ذلك وقوع الأمر منه صلى الله عليه وسلم بغسل الرجلين كما في حديث جابر عند الدارقطني ويؤيده أيضا قوله: صلى الله عليه وسلم "فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم" وهو حديث رواه أهل السنن وصححه ابن خزيمة ولا شك أن المسح بالنسبة إلى الغسل نقص وكذلك قوله: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" وكان في ذلك الوضوء قد غسل رجليه وكذلك قوله: للأعرابي "توضأ كما أمرك الله" ثم ذكر له صفة الوضوء وفيها غسل الرجلين وهذه أحاديث صحيحة معروفة وهي تفيد أن قراءة الجر إما منسوخة أو محمولة على أن الجر بالجوار، وقد ذهب إلى هذا الجمهور قال: النووي "ولم يثبت خلاف هذا عن أحد يعتد به في الإجماع وقال: الحافظ في الفتح أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك إلا عن على وابن عباس وأنس وقد ثبت الرجوع منهم عن ذلك وروى سعيد بن منصور عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى قال: اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غسل القدمين وقالت: الإمامية الواجب مسحهما وقال: محمد بن جرير والحسن البصري والجبائي أنه مخير بين الغسل والمسح وقال: بعض أهل الظاهر يجب الجمع بين الغسل والمسح ولم يحتج من قال: بوجوب المسح إلا بقراءة الجر وهي لا تدل على أن المسح متعين لأن القراءة الأخرى ثابتة بلا خلاف بل غاية ما تدل عليه هذه القراءة هو التخيير لو لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يوجب الاقتصار على الغسل.
وأما وجوب غسل الكعبين مع القدمين فالكلام في ذلك كالكلام في المرفقين ولكنه لم يثبت في غسلهما عنه صلى الله عليه وسلم مثل ما ثبت في المرفقين، وإذا تقرر
أنه لا يتم الواجب إلا بغسلهما ففي ذلك كفاية مغينة عن الاستدلال بدليل آخر وأما أن للمتوضئ أن يمسح على خفيه فوجهه ما ثبت تواترا عن النبي صلى الله عليه وسلم من فعله وقوله: وقد قال: الإمام أحمد فيه أربعون حديثا وكذلك قال: غيره وقال: ابن أبي حاتم أنه رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة أحد وأربعون رجلا وقال: ابن عبد البر أربعون رجلا وقال: ابن منده الذين رووه من الصحابة عن النبي ثمانون رجلا ونقل ابن المنذر عن ابن المبارك أنه قال: ليس في المسح على الخفين عن الصحابة اختلاف لأن كل من روى عنهم إنكاره فقد روى عنه إثباته وقد ذكر أحمد أن حديث أبي هريرة في إنكار المسح باطل وكذلك ما روي عن عائشة وابن عباس فقد أنكر الحفاظ ورووا عنهم خلافه وكذلك عن علي أنه قال: سبق الكتاب الخفين فهو منقطع فقد روى عنه مسلم والنسائي رحمهما الله تعالى القول بالمسح عليهما بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وقد روى الإمام المهدي في البحر عن علي رضي الله عنه القول بمسح الخفين وقد ثبت في الصحيح من حديث جرير أنه صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين وإسلام جرير كان بعد نزول المائدة لأن آية المائدة نزلت في غزوة المريسيع وقد روى المغيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم المسح على الخفين وأنه فعل ذلك في غزوة تبوك وتبوك متأخرة على المريسيع بالاتفاق وقد ذكر البزار أن حديث المغيرة هذا رواه عنه ستون رجلا وبالجملة فمشروعية المسح على الخفين أظهر من أن نطول الكلام عليها ولكنه لما كثر الخلاف فيها وطال النزاع اشتغل الناس بها حتى جعلها بعض أهل العلم من مسائل الاعتقاد وقد ورد توقيت المسح بثلاثة أيام للمسافر ويوم وليلة للمقيم1.
وأما كون الوضوء لا يكون شرعيا إلا بالنية فوجهه حديث "إنما الأعمال بالنيات" وهو في الصحيحين وغيرهما وورد من طريق بألفاظ فإن كان
1إذا أدخل القدمين الخفين وهما طاهرتان من الحدث فلا ينزعهما إلا في جنابة، كما ثبت ذلك في حديث المغيرة.