المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌نماذج من الأخلاق الفاضلة - السباق إلى العقول - جـ ١

[عبد الله قادري الأهدل]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌ما يراد السباق به إلى العقول

- ‌خلق الله الكون كله بالحق

- ‌أرسل الله رسله وأنزل كتبه بالحق

- ‌سعادة أهل الحق بقبول الحق وشقاوة أهل الباطل برفضه

- ‌المعنى الشرعي للحق والمعنى الشرعي للباطل

- ‌أيهما أسبق وجودا الحق أم الباطل

- ‌من هم أهل الحق

- ‌هل يعد متبع الباطل عاقلا

- ‌منزلة العقل عند الله وأثره في الحياة

- ‌أسباب تأليف هذا الكتاب

- ‌أولا: تبليغ رسالات الله إلى الناس

- ‌ثانيا: إقامة الحجة على الناس

- ‌أمثلة لحياة القوم -المتحضرين- في بعض المجالات:

- ‌دعاة حقوق الإنسان يكرهون الإنسان على التخلي عن عقيدته

- ‌دعاة حقوق الإنسان يحرمون الإنسان من المساواة التي منحه الله

- ‌دعاة الديمقراطية يحرمون الإنسان من الديمقراطية

- ‌لا حرية للإنسان إلا بتوحيد الله

- ‌تنبيه مهم:

- ‌خامسا: غرس الإيمان بالغيب في النفوس

- ‌سادسا: تحكيم شرع الله في حياة الناس

- ‌سابعا: تثبيت الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين والبراء من الكافرين

- ‌نماذج من الأخلاق الفاضلة

- ‌تاسعا: من غايات أهل الحق: طلب العزة من الله تعالى وحده

- ‌عاشرا إقامة الخلافة في الأرض على أساس هدى الله

- ‌وسائل أهل الحق في السباق إلى العقول

- ‌تمهيد:

- ‌الوسيلة الأولى: التربية الأسرية:

- ‌الوسيلة الثانية. تلاوة كتاب الحق على الخلق

- ‌الوسيلة الثالثة: الموعظة

- ‌الأنموذج الأول: يتعلق بمعبودات قومه السماوية

- ‌الأنموذج الثاني: يتعلق بمعبوداتهم الأرضية

- ‌الأساس الأول: وضوح الغايات

- ‌الأساس الثاني: وضع مناهج للتعليم تتحقق بها تلك الغايات

- ‌الأساس الثالث: وضع الكتب المناسبة للمراحل الدراسية

- ‌الأساس الرابع: إعداد المدرسين والأساتذة المتخصصين

- ‌الأساس الخامس. ربط التعليم بالتربية الإسلامية

- ‌حكمة وصف القرآن بأنه عربي

- ‌انتشار لغة الأمة من علامات قوتها

- ‌الوسيلة السابعة: القدوة الحسنة

- ‌الوسيلة الثامنة. الفطرة

- ‌خطب الجمعة ودورها في السبق إلى العقول

- ‌تفاوت المساجد وأثره في السبق إلى العقول

- ‌تدريب حفظة القرآن على السبق بالحق إلى العقول

- ‌رضا الله وتمكينه أو مقته واستبداله

- ‌الأساليب الإعلامية المطلوبة لسبق الحق إلى العقول

- ‌قلة القيود الإعلامية في الإسلام وثمرات الالتزام بها

- ‌استغلال إمكانات المسلمين في تحقيق رغبات أعدائهم

- ‌مشروع مقارنات إعلامية ميدانية

- ‌المثال الأول: إلهاء الشعوب عن الإعداد للجهاد في سبيل الله

- ‌المثال الثاني: اليهود والسلاح النووي والمسلمون وآلات الطرب

- ‌المثال الثالث: الإسهام في إضعاف القريب وتقوية البعيد

- ‌المثال الرابع: هذا يموت من التخمة، وذلك يموت من الجوع

- ‌الجانب الأول:

- ‌الجانب الثاني:

- ‌الجانب الثالث:

- ‌الجانب الرابع:

- ‌الجانب الخامس:

- ‌الجانب السادس:

- ‌القسم الأول: مؤتمرات رسمية

- ‌القسم الثاني: مؤتمرات شعبية

- ‌غايات للمؤتمرات العامة

- ‌غايات المؤتمرات الخاصة

- ‌مؤتمرات تعليمية

- ‌مؤتمرات دعوية

- ‌مؤتمرات عملية

- ‌خطوات استفادة أهل الحق من النوادي:

- ‌ثانيا: المخيمات

الفصل: ‌نماذج من الأخلاق الفاضلة

‌نماذج من الأخلاق الفاضلة

.

ولنذكر شيئا من الأخلاق الفاضلة التي يتصف بها أهل الحق، وقد يتصف ببعضها أهل الباطل، ولكن ليس كاتصاف أهل الحق بها، لأن أهل الحق يمتازون عن سواهم في الاتصاف بالأخلاق الفاضلة بميزات لا توجد في غيرهم، كما مضى. ومن تلك الأخلاق:

أولا: الإخلاص في الأعمال.

أي إنهم يريدون بأعمالهم وجه الله وحده، فلا يتصفون بخلق ولا يعملون عملا يريدون من ورائه مدحا ولا ثناء من غير الله، ولا جاها أو منصبا أو مالا أو غير ذلك من المخلوقين، كما قال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} . [البينة: 5]

والذي يعمل العمل مخلصا لله لا يترك عمله من أجل هوى أو شهوة أو تقربٍ لأحدٍ من الخلق. [وقد فصلت القول في أهمية الإخلاص وصعوبته والأسباب المعينة على الاتصاف به في كتاب: الإيمان هو الأساس، في مبحث: الإيمان باليوم الآخر، فليراجعه من شاء

]

ثانيا: التزام الصدق.

ص: 144

وخلق الصدق في الإنسان يجعله مستقيم السيرة مع ربه ومع الخلق: يصدق في إيمانه وفي عبادته، وفي معاملاته مع أسرته، ومع جيرانه ومع مجتمعه كله، وباستقامة الناس على هذه السيرة المبنية على الصدق تستقيم الحياة.

والصدق شرط أساسي في أهل الحق الذين يسابقون أهل الباطل إلى العقول بحقهم، فلا يقبل الحقَّ الإلهيَّ إلا الصادقون، ولا يحمله إلا الصادقون، ولا يدعو إليه ويثابر في الدعوة إليه إلا الصادقون، ولا يصبر على البلاء في السباق إلى العقول بالحق إلا الصادقون.

فالصادقون هم أهل الحق الذين يَحْيَونَ صادقين، مهما كلفهم الصدق من تبعات، ويموتون على الصدق، لأنهم يعلمون أنه لا ينفع عند الله إلا الصدق، ولا يبقى الحق في الأرض إلا بالصدق، ولا حق بدون صدق، كما أنه لا صدق بدون حق.

ولما كان الله تعالى هو الحق، وهو مصدر الحق أسند إلى نفسه الصدق، ونفى أن يكون أحد أصدق منه.

كما قال تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . [آل عمران: 95]

وقال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} . [النساء: 87]

ص: 145

وقال تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} . [النساء: 122]

والصدق من صفات أولي العزم من الرسل الذين يسألهم الله يوم القيامة عن صدقهم إقامة للحجة على من كذب بالصدق، ولا يكذب بالصدق إلا الكاذبون.

قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} . [الأحزاب: 8]

وقال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} . [الزمر: 33]

وأهل الحق الصادقون ينفعهم صدقهم عند الله يوم يلقونه في الدار الآخرة، كما قال تعالى:{هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . [المائدة: 119]

ص: 146

وإنما كان للصدق هذه المنزلة العظيمة لما يترتب عليه من الآثار السامية، فإن صاحبه يَصْدُق ربَّه في إيمانه وفي عبادته، فلا يكون منافقا يظهر خلاف ما يبطن، ولا مرائيا يعمل العمل الذي ظاهره الصلاح من أجل أن يراه الناس فيحمدونه، فإذا خلا بنفسه بارز الله بخلاف ذلك، ويَصْدُق الناسَ الذين يتعامل معهم في أي موقع كان، حاكما كان أو محكوما، خادما كان أو مخدوما، أبا كان أو ولدا، يُصَدِّق فعلُه قولَه، فتسري الثقة بين الناس بالصدق، ولا يتوجس أحد من آخر خيفة بسبب الكذب. إيمانه صادق وجهاده بأعز ما يملك:(ماله ونفسه)، صادق كما قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]

ص: 147

ويُظهر هذه المنزلةَ العظيمة للصدق: الكذبُ الذي هو من أبرز صفات أعداء الله من الكافرين والمنافقين، وإمام الكاذبين هو إبليس الذي يعدهم ويمنيهم ويكذب عليهم ويغريهم بالكذب، فيضلهم عن الحق حتى يكذبوا به ويصدقوا الباطل، فإذا جاء اليوم الذي لا ينفع فيه إلا الصدق وعاينوا جزاء التكذيب بالصدق، بث حقده وأظهر ازدراءه لهم وأنزل الحسرة في قلوبهم وتبرأ منهم فعرفوه على حقيقته، كما قال تعالى:{وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا

ص: 148

أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 21، 22] أصل الصراخ: الصوت الشديد، والصارخ: المستغيث. والمصرخ -على وزن المكرم- المغيث.

تأمل قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} أي إن الله الحق أمركم بالحق ووعدكم على الإيمان به وفعله وعدا حقا، وهو رضاه عمن آمن بالحق وفَعَلَه، وصدَق الله في وعده فأثاب أولياءه رضاه وجنته، كما قال تعالى بعد الآية السابقة:{وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ}

أما إبليس فقد صدهم عن الحق وأغراهم بالباطل، ووعدهم في الدنيا بالسعادة إذا هم اتبعوه، وذلك كله كذب وافتراء، فلم يُعْمِلوا عقولهم ويفكروا بها ليعرفوا صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وكذب الشيطان، فاتبعوا خطوات الشيطان، فكانت تلك عاقبتهم في الآخرة: عذاب الله الذي لا يغني عنهم منه أحد من قادة الكفر والاستكبار الذين كان خطاب إبليس خيبة أمل لهم جميعا في ذلك الموقف الرهيب.

ص: 149

وهذا هو جزاء كل من اتبع أهل الباطل من زعماء الضلال المحاربين لله ولرسوله، الذين دأبهم الكذب على أتباعهم في دينهم ودنياهم يكفرون بالله ويحاربون شريعته، ويحلفون الأيمان المغلظة بأنهم هم المؤمنون:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . [المنافقون: 1-2]

ص: 150

ويفسدون في الأرض بتأييد الكفر والكافرين وموالاتهم، ونشر الفسق والفجور وتيسير سبل ارتكاب الفواحش والمنكرات والمحرمات، ومناصرة الظلم والظالمين، وحجب العدل عن الضعفاء، والانغماس في الترف المهلك الذي يعينهم عليه السلطان والمال، ومحاربة أهل الحق والصلاح الذين يدعون الناس إلى الحق والصلاح، ويحذرونهم من المنكر والفساد، ويضلل أولئك المفسدون جماهير الناس المغفلين بقلب الحقائق، وبالكذب المتكرر منهم على تلك الجماهير مزينين لهم أعمالهم منفرين لهم من سماع ما يدعوهم إليه أهل الحق، ويدَّعون أن فسادهم صلاح وصلاح أهل الحق فساد، كما قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} . [البقرة: 204، 206]

ص: 151

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} . [البقرة: 11-12]

وإذا كان يترتب على الكذب واتباع أهله ذلك الجزاء الأخروي، فإنه يترتب عليه في الدنيا أيضا الفوضى والاضطراب وسوء العاقبة والمحن التي تزلزل البشر زلزالا شديدا في كل شؤون حياتهم.

الأضرار الرئيسة المترتبة على الكذب.

ولو أردنا استعراض الأضرار المترتبة على الكذب لطال الكلام على ذلك ولذلك نكتفي بالأضرار الرئيسة الآتية:

الضرر الأول: القول على الله بالباطل بعلم أو بغير علم.

وهذه صفة علماء السوء من أهل الكتاب ومن اقتدى بهم من هذه الأمة، كما قال تعالى:{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} . [البقرة: 79]

ص: 152

وصفة الجهلة من المشركين أيضا، كما قال تعالى:{قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} . [الأنعام: 144]

الضرر الثاني: تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل.

وهو مترتب على القول على الله بعلم أو بلا علم، مع نسبة ذلك إلى الله تعالى كذبا وبهتانا، فيجمعون بذلك بين الكذب والافتراء على الله -عن علم أو عن غير علم- وتحريم الحلال وتحليل الحرام، ويدخل في هذا كل حلال وحرام. أو محاربة دينه وشريعته بإنكارهما، وادعاء حق التشريع ادعاء صريحا، ويصدرون الأنظمة والقوانين التي تحرم ما أحل الله للناس وتضيق عليهم ما وسع الله لهم، أو تحلل ما حرم الله من المعاصي المتنوعة بحسب الأهواء في التحليل والتحريم معا.

الضرر الثالث: الكذب السياسي المدمر.

ص: 153

وهذا يحصل من الطغاة المحاربين للحق وأهله، عندما تعوزهم الحجة ويصرعهم برهان الحق، ومن الأمثلة الواضحة على هذا موقف فرعون من دعوة موسى وأخيه هارون عليهما السلام، فقد حاول محاورة موسى فغلبه موسى، وحاول الاستعانة عليه بالسحرة والحشود الجماهيرية فغلبه موسى، فلجأ إلى الكذب والافتراء مدعيا أن موسى إنما جاءهم بما جاء به ليستولي على الحكم ويخرج أهل مصر من بلادهم ويتكبر عليهم- كما يقول المثل:"رمتني بدائها وانسلت".

ص: 154

قال تعالى عن فرعون -بعد ذكره حوارا طويلا معه: {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} {وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ} {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} {قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ

ص: 155

إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} {قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء 34-51] إلى قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} {وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 57 -58] و {وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ} {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} [الشعراء: 65 -66]

تلك هي عاقبة أهل الباطل الكاذبين من الطغاة الذين يدمرون أممهم بكذبهم عليهم، كما حصل لفرعون وقومه، وهذه هي عاقبة أهل الحق الصادقين الذين ينصحون لقومهم ويبلغونهم الحقائق، بدون زيف ولا افتراء كما حصل لموسى عليه السلام ومن معه.

ص: 156

وما أكثر صنف فرعون وقومه الذين يكذبون على أممهم في كل شيء ويستخفونهم فيطيعونهم، ويحاول أهل الحق إنقاذهم من سياسات أولئك الطغاة، فتوضع أمام محاولاتهم العقبات، ثم لا يتبين القوم كذب ساستهم إلا عندما ينزل بهم الدمار، فيندمون ولات ساعة مندم. وهذه الأمم اليوم تساق إلى دمارها وهلاكها بكذب طغاتها عليها وقلبهم الحقائق لها، وهذه الشعوب في الأرض تُدمر في دينها ونفسها وعقلها ونسلها وعرضها ومالها، ولا تعتبر بما جرى ويجري من المصائب النازلة بها، ولا زالت تسير وراء طغاتها كالشياه وراء الراعي الأحمق، لم تستبن رشدها الذي دعاها إليه الصادقون من رجالها، على حد قول دريد بن الصمة:

أمرتهمُ أمري بمنعرج اللوى

فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد

أمثلة لكذب الطغاة المدمر للشعوب.

ولا بد من ذكر بعض الأمثلة الواقعة لتتنبه العقول الغافلة بها، فقد عميت بصائر الأمم عن الاعتبار بمن سبقها في الأمم الماضية، ولعل في التذكير بالواقع ما ينبه تلك العقول الغافلة:

المثال الأول: الثورة الكمالية التي خطط لها اليهود والنصارى، للإجهاز على ما بقي من رمز الخلافة الإسلامية التي حملها بنو عثمان.

ص: 157

فقد ضعفت هذه الخلافة، حتى أصبحت تسمى بالرجل المريض، واحتل أعداء الإسلام من الصليبيين الأوروبيين عاصمة الخلافة (الأستانة) وقد أخرجوا صنما أحاطوه بهالة من العظمة والانتصارات -وكان الخليفة سجينا في دار الخلافة- حتى انتعشت آمال المسلمين الذين ظنوا ذلك الصنم مجددا لمعركة بدر، وجهاد صلاح الدين، وتخيلوا الملائكة وهي تحفه بالنصر في السماء وكتائب الجهاد ترفع رايته الأرض، فمدحه الشعراء وأثنوا عليه ثناء عطرا، كما قال فيه شوقي:

الله أكبر كم في الفتح من عجب

يا خالد الترك جدد خالد العرب

يوم كبدر فخيل الحق راقصة

على الصعيد وخيل الله في السحب

وأخذت أجهزة الإعلام المتاحة في تلك الفترة تكيل المديحَ للقائد المنتصر، والقدحَ والذمَّ للخليفة المغلوب على أمره، الذي بقي يصارع المساومات اليهودية الصليبية إلى آخر لحظة من ولايته.

ص: 158

وبذلك سوغ الكذبُ والتضليل لفرعونِ التركِ الصغير أن يقضي على رمز الخلافة ويفصل الدين عن الدولة -كما أراد ذلك اليهود والصليبيون- ويطرد الخليفة وأسرته إلى خارج حدود تركيا، ويحارب الإسلام وأهله حربا بلا هوادة فيها. ولا زال أتباعه يحذون حذوه في محاربة الإسلام والمسلمين، ليضاعفوا له الوزر الذي سيتضاعف لهم كذلك. (1)

وعند ذلك استيقظ الغافلون عن المكر اليهودي الصليبي، وأخذوا ينوحون على الخلافة والخليفة والإسلام ويحاولون محاولة فاشلة، أن يجدوا لعودتهما سبيلا، وهيهات، وذاق المسلمون بعدها أقسى عقاب وأعظم ذل. فناحوا وبكوا، وهل يعيد الموتى النواح والبكاء؟!

وهنا قال شوقي في الخلافة التي أطاح بها خالد الترك!:

عادت أغاني العرس رجع نُواحِي

ونُعِيتِ بين معالم الأرواح

كُفِّنتِ في ليل الزفاف بثوبه

ودُفِنتِ عند تبلج الإصباح

ضجت عليكِ مآذن ومنابر

وبكت عليك ممالك ونَواح

الهند والهة ومصر حزينة

تبكي عليك بمدمع سحاح

والشام تسأل والعراق وفارس

أمحا من الأرض الخلافةَ ماح؟

[راجع هذا المعاني في: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر. (225) طبع دار الإرشاد في بيروت، للدكتور محمد بن محمد حسين] .

(1) وما يفعله العسكر وحلفاؤهم في تركيا اليوم من حرب للقرآن ومدارسه، والمساجد وأئمتها، والدعاة إلى الله وأنصارهم، غير خاف على أحد.

ص: 159

وأما كيف خدع المسلمين مصطفى كمال أتاتورك، وكذب عليهم حتى صدقوه ودعموه، فيكفي نقل هذا المقطع من كتاب: تاريخ الدولة العثمانية (1) : (وكما أن الغربيين قد نجحوا في مخططهم وجعلوا العالم الإسلامي كله يسير فخورا بضع سنوات وراء الثورة الكمالية، فقد استغل مصطفى كمال عواطف المسلمين وأموالهم إلى أبعد حدود الاستغلال، وكسا ثورته لباسا إسلاميا، سواء بأحاديثه وتصريحاته وخطبه أو بمعاملته لزعماء المسلمين، فمن ذلك أنه استعان بالزعيم الليبي الشهير أحمد السنوسي وجعله مستشارا له، وكان يبرق إليه، كما قال لي صديقي الأمير شكيب أرسلان، إذا أراد شن هجوم على مكان ما قائلا: إننا ننوي الهجوم غدا أو بعد غدٍ على مكان ما، فاقرؤوا البخاري الشريف على نية النجاح والتوفيق.

واستغل أيضا أعمال وأقوال جمعية الخلفاء الهندية التي قامت برعاية الأخوين شوكت علي ومحمد علي واستغل الشعراء فمدحوه، والأدباء فأثنوا عليه، ومشايخ الطرق فرفعوه إلى مقام الولاية [ولا زال بعضهم يؤيد علمانيته إلى اليوم. وهكذا يستغل الطغاة المحاربون للإسلام بعضَ المنتسبين إلى العلم والأدب للإشادة بهم حتى يغتر بهم عوام الناس فيؤيد الطواغيت] .

(1) للأستاذ محمد فريد بك المحامي تحقيق الدكتور إحسان حقي دار النفائس ص 754 وما بعدها.

ص: 160

كان مصطفى كمال يبطن غير ما يظهر وينوي أن يفعل غير ما يقول، إذ إنه ما كاد ينتصر نهائيا ويطمئن إلى مصيره، حتى ألغى الخلافة وطرد الخليفة من البلاد وطرد السيد أحمد السنوسي، وتنكر لكل القيم الإسلامية وسار بسيرة ليس فيها أي مصلحة للإسلام ولا للمسلمين، لا بل ليس فيها أية مصلحة لتركيا نفسها، فها هي تركيا بعد مضي ستين سنة على هذه الثورة، ما زالت بلدا ناميا ضعيفا، لا حول له ولا طول، فالحركة العلمية فيها ضعيفة، والأمية سائدة، والحياة الاجتماعية متأخرة والحالة الاقتصادية في الحضيض، وكل ما فعلته هذه الثورة أنها شغلت الناس بأمور جانبية تافهة مثل إلغاء الطربوش، وسفور النساء، ولو كان هذان الأمران تركا للزمن لتكفل بتحقيقهما من غير ثورة كما حدث في كل البلاد الإسلامية

) . [ولا زال الكماليون مصرين على تطبيق العلمانية المعادية للإسلام والمحاربة لأهله في تركيا ويضايقون دعاة الحكم بالإسلام، بل بلغ بهم الأمر أن يغلقوا مدارس تحفيظ القرآن الكريم، ويتخذوا كل الوسائل للقضاء على تعليم الشباب المسلم العلوم الإسلامية، ومن ذلك إغلاقهم معاهد الأئمة والخطباء، وعدم اعترافهم بشهادات الجامعات الإسلامية في عواصم

ص: 161

الإسلام، كالأزهر والجامعة الإسلامية وغيرهما، ولكن الصحوة الإسلامية تشق طريقها إلى إعادة مجد الإسلام ورفع رايته وسينصرهم الله على أعدائهم] .

ص: 162

المثال الثاني: الثورة الناصرية في مصر التي اتخذ زعماؤها الإسلام واجهة لثورتهم، والقومية العربية شعارا لهم، وعلى رأسهم عبد الناصر الذي اختفى وراء كبار الضباط في أول الأمر، واغتر بهم دعاة الإسلام بسبب كذبهم ووعودهم التي قطعوها على أنفسهم، بل إن عبد الناصر بايع المرشد العام للإخوان المسلمين " حسن البنا "، ثم خدعهم وقلب لهم ظهر المجن، وكان من أهم أسباب نجاح ثورته مناصرتهم له، اعتمادا على أن ولاءه وولاء الضباط الأحرار كان في الأصل للإسلام ودعاته، وكانت التسمية نفسها "الضباط الأحرار" قد أطلقها الإخوان الذين كانوا مسؤولين عن الضباط، ولكن عبد الناصر الذي بايع المرشد العام وصار تابعا للمسؤول الذي عينه الإخوان للإشراف على الضباط الذين انضموا للحركة الإسلامية وارتبطوا بها، كان يخطط في الخفاء لسحب الولاء له شخصيا، بدلا من الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، وكافأ الإخوان الذين خدعهم وأقام الثورة على أكتافهم، بما يعرفه القاصي والداني من الاعتقال والسجن والتعذيب والقتل والتشريد والحظر لنشاطهم. [راجع كتاب: صفحات من التاريخ، لصلاح شادي (1120) وما بعدها، وراجع كتاب: الإخوان المسلمون لمحمود عبد الحليم (وهو

ص: 163

ثلاثة أجزاء) ] .

كما أنه عندما تمكن من الحكم أسرف في وعوده وتبشيره للشعب المصري والعالم العربي والشعوب الإسلامية، بأنه سيحقق لهم العزة والكرامة ضد البغي والعدوان الأجنبي، ويرفع عنهم الذنب الذي نزل بهم وغلا في رفع شعار القومية العربية مخففا من ذكر الإسلام، ثم تطور حكمه إلى أن وصل إلى الاشتراكية العربية، ثم الاشتراكية العلمية، وأحدث شقاقا ونزاعا شديدا بين الدول العربية، بل بين أحزاب قامت معتمدة على دعمه وتحريشه وبين الحكومات القائمة، وحكم مصر حكما عسكريا بغيضا، وسلب الأغنياء غناهم، وزاد الفقراء فقرا، حتى أصبحت مصر شبيهة بمقبرة يخيم عليها الصمت المطبق، لا ينطق من سكانها إلا من يسبح بحمد الطاغية.

ص: 164

وانقلبت العزة التي بشر بها الشعب والعرب والمسلمين إلى ذلة نالت كل عربي ومسلم، ولا زال المسلمون يسبحون في مستنقع تلك الذلة، فقد احتل اليهود مصر عمرو بن العاص ومرتفعات الجولان والقدس وما حولها وغزة، ولم تعد أرض مصر إلى المصريين إلا بعد أن سجد خَلَفُه أمام أقدام اليهود، ورفع العلم اليهودي على مصر، ولا زالت الأراضي الأخرى -إضافة إلى أرض فلسطين التي احتلها اليهود سنة 1948م- في قبضة اليهود يعيثون فيها فسادا يعلمه الناس كلهم.

وهذا وغيره من المصائب والمحن التي أنزلها بالأمة كانت عكس وعوده وتصريحاته، فقد كذب على الأمة كما كذب قبله مصطفى أتاتورك كذبا سياسيا مدمرا.

وليس من السهل الاستمرار في ضرب الأمثلة لطغاة الكذب السياسي المدمر للشعوب، فهو الأصل -وما عداه استثناء- في وعد طاغية العراق شعبه بإمبراطورية واسعة الأطراف، بالغزو المسلح الذي بدأه باحتلال الكويت وما آل إليه أمر العراق والشعوب الإسلامية، وبخاصة العربية منها ما فيه غناء عن الأمثلة للأكاذيب السياسية المدمرة.

ص: 165

ولم يعد يخفى على كثير من أبناء الشعوب كذب طغاتها المحاربين للإسلام، والذي تحتاجه تلك الشعوب الآن ليس كشف ذلك الكذب المدمر الذي لم يعد خافيا عليها، ولكنها تحتاج إلى معرفة السبيل التي تسلكها للتخلص من ذلك الدمار (1) .

ولكني أذكر مثالا واضحا من أمثلة كذب الطغاة المدمر لشعوبهم نراه رأي العين اليوم ويراه العالم كله، وهو كذب طاغية الصومال الذي استولى على الحكم -كغيره من حكام الشعوب الإسلامية- بالقوة العسكرية (2) مدعيا أنه أراد بذلك تخليص الشعب الصومالي من محنته، واعدا إياه بالعيش في جنة من الحياة، وهو الآن يعيش تعيسا جائعا، عاريا، عطشانا، لم يبق من أفراده إلا الجلد والعظم تلهبه الشمس المحرقة، ويقتله البرد القارس، وتفتك به الأمراض المتنوعة، عدا المئات الذين يموتون كل يوم من الجوع والعطش والمرض.

وأمامي الآن جريدة الشرق الأوسط [عدد (5110) 30 / 5 / 1413هـ-24 / 11 / 1992م. ص: 8 بقلم اللواء عمر الحاج محمد مصلي.] وبها عنوان: (الصومال.... أسوأ كارثة إنسانية) أقتطف من المقال الذي كتب تحته المقطع الآتي لأنه يناسب المقام:

(1) لعل شيئا من ذلك يأتي في مكانه المناسب من هذا الكتاب.

(2)

سنة 1969م.

ص: 166

"النظام الذي استولى على الحكم في عام 1969م تراجع عن المبادئ التي أعلنها بعد أعوام قليلة من استيلائه على الحكم وبعد أن أعلن حربا على الفساد والمحسوبية واختلاس الأموال، والقبلية، تعثرت خطاه من تلقاء نفسه، مما أدى إلى اختلال ترتيب الأمور والتقاعس في تحقيق الوعود. من تلك اللحظة بدأ كل شيء يخطو عكس ما خطط له سابقا (1) فظهرت القبلية بقوة جبارة وفعالة، وسيطرت المحسوبية على الدوائر الحكومية، ونهبت الأموال العامة والخاصة، وعمّت الفوضى ربوع البلاد.

هذه الظواهر السلبية مهدت الطريق إلى ظهور ديكتاتور ينفرد بحكم البلاد لا يشاركه أحد في اتخاذ القرارات، كما أن السلطات كلها أصبحت في قبضته وتمكن من التخلص من المسؤولين الذين كانوا يتقاسمون معه الحكم، وعين بدلا منهم شخصيات انتهازية لا تعارضه في أبسط الأمور.

هذا الخلل الذي أصاب النظام وفّر مناخا ملائما لتنشيط القبلية، كما أعطى فرصة ثمينة لصيادي القبلية والمستفيدين منها، فزرعوا الفتن والشكوك بين القبائل، وكسبوا مراكز حكومية رفيعة في الدوائر الحكومية، وأداروا ظهورهم للمصلحة العامة.

(1) هذا إذا أحسن الظن بمن الأصل فيهم الكذب فيقال: خططوا بأن يقضوا على الفساد، أما إذا جرينا على الأصل فهو أن أصل التخطيط كان الهدف منه الفساد المذكور وإن زعم صاحبه أنه أراد الصلاح. والشك في ذي الكذبِ أصل ولو لم يكذبِ

ص: 167

ظهرت شخصيات كثيرة في قمة سلم الحكم، لا يهمها التاريخ وما يسجله من تصرفاتهم، فركزوا نفوذهم على الكسب غير المشروع

"

هذا النص من مقال اللواء عمر الحاج، وهو وزير الدفاع الصومالي السابق الذي كان مشاركا في الحكم، وقد جرت العادة أن التاريخ الذي يكتب في عهد الطغاة وينشر يكون غالبا في صفهم مدحا وثناء بالكذب والبهتان، وأن التاريخ الذي يكتب بعد ذهابهم قد يكون صادقا وقد يكون مبالغا في ذمهم ونسبة السوء إليهم، ولكننا نعرف أن هذا الكاتب لم يذكر إلا قطرة من بحار تاريخ الزعيم الصومالي وكذبه السياسي المدمر.

كما أنه لم يذكر ما يتعلق بمحاربته الإسلام وعلماء الإسلام الذين أحرق مجموعة منهم [راجع مجلة المجتمع الكويتية. عدد (234) 15 / 11 / 1395هـ-. 28يناير سنة 1975م ص: 6 وما بعدها] . بسبب معارضتهم لقانون أصدره يساوي بين المرأة والرجل في الإرث الذي فرق الله فيه بينهما في نص كتابه.

ص: 168

والأمة التي تحارب عقيدتها ودينها وشريعتها ويحرق علماؤها، ثم لا تحرك ساكنا في ردع المعتدي الآثم، لا بد أن تصل في النهاية إلى هذه المأساة التي يقول الله فيها وفي أمثالها:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} . [الأنفال: 25]

ومن هنا نعلم أن أهل الحق الصادقين يسعدون البشرية بحقهم وصدقهم، وأن أهل الباطل الكاذبين يشقون البشرية بباطلهم وكذبهم.

ص: 169

ولعل الأمة الإسلامية تتنبه لخطر كذب قادتها الذين يحاربون الإسلام، وكذبهم السياسي المدمر الذي تجند لترويجه كل طاقات الدولة، حتى ينطلي عليها ويستمر في تضليلها فترة طويلة، ولا تشعر بآثاره المدمرة إلا بعد أن يفوت الأوان وتتحطم الشعوب اقتصاديا وسياسيا وأمنيا وخلقيا وعسكريا، حتى يصبح استعمارها من قبل أعداء الإسلام الذين يوفرون لها لقمة العيش وشيئا من الأمن النسبي، أحب إليها من بقائها تحت مطارق الخوف والجوع والسلب والنهب والقتل والتشريد [كما هو حاصل الآن في الصومال الذي سيطرت عليه القوات الأمريكية تحت مظلة مجلس الأمن والإغاثة الإنسانية مستترة بتأييد حلفائها الذين شاركوها بقوات رمزية شبيهة بالمحلل في فقه النكاح!]

الضرر الرابع للكذب: نشر الفاحشة بين المؤمنين.

ومن الأضرار المترتبة على الكذب: انتهاك أعراض الناس والولوغ فيها، ونشر الفاحشة بين المؤمنين، بقذف المحصنات المؤمنات الغافلات -والمحصنين كذلك- وذلك مما يفقد الثقة بين الأسر والمجتمعات ويفككها، ويؤذي شرفاءها ويجرئ فساقها على ارتكاب الرذائل، والطمع في نيل المعصية والإثم من أهل الطاعة والزلفى عند الله تعالى.

ص: 170

وهذا الاعتداء الآثم على أعراض الشرفاء لا يقدم عليه إلا من أصبحت الرذيلة صفة معتادة لهم، والكذب والافتراء ديدنهم، وحب انتشار الفاحشة متأصلا في نفوسهم، يؤذيهم وجود الطهر والطاهرين، ويرضيهم وجود القذر والقذرين، فلا يهدأ لهم بال حتى يلطخوا سمعة الأطهار، وذلك دأب المنافقين الذين تلازمهم الأخلاق السيئة وبخاصة الكذب.

ولقد نال أذاهم أطهر من وجد على الأرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجه أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما، وكان الذي تولى كبر الإفك العظيم رئيس المنافقين آنذاك: عبد الله بن أبي ابن سلول، وجر معه بعض المسلمين الذين لم يحسنوا الظن ببيت النبوة والرسالة، فأنزلوا بذلك من الأذى والفتنة والغم ما يعجز عنه الوصف إلا أن يكون وصف المؤمنة المحصنة الغافلة المظلومة عائشة رضي الله عنها -كما روى القصة بطولها مسلم عنها [رقم الحديث: رقم:4974]

وفي ذلك أنزل الله تعالى آيات محكمة توبخ من وقعوا في هذا البهتان العظيم الذي رميت به السيدة الطاهرة، التي يعد من اتهمها بعد نزول هذه الآيات المبرئة لها مكذبا للقرآن، ومن كذب بالقرآن -كغلاة الرافضة- فقد كفر.

ص: 171

ثم قال تعالى بعد ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} إلى قوله تعالى {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .

ص: 173

[النور: 11-19]

فأهل الحق الصادقون لا يفترون ما يخدش الأعراض، بل لو علموا منكرا ارتكبه مؤمن فالستر عندهم عليه أولى، إلا إذا جاهر صاحبه وعاند، وأهل الباطل الكاذبون يطلقون ألسنتهم في أعراض الناس افتراءً بدون علم.

الضرر الخامس: إهدار الحقوق بشهادة الزور.

ومن الآثار المترتبة على الكذب شهادة الزور، وشهادة الزور تزهق بها الأرواح، وتنتهك بها الأعراض، وتغتصب بها الأموال، وتستحل بها الفروج، ويزكى بها الفساق، ويفسق بها العدول، ويفقد بها الكفء مكانه الذي يستحقه لتنتفع به فيه الأمة، ويوضع الخائن بها في مكان تقتضي الضرورة أن يكون فيه الأمين.

وقد شرع الله الشهادة من أجل توثيق الحق، والذي يوثق الحق بشهادته هو العدل، أما شاهد الزور فإنه يضيع الحق بدلا من حفظه.

قال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} . [الطلاق: 2]

ونفى عن أهل الحق -وهم المؤمنون به- صفة شهادة الزور، فقال تعالى:{وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} . [الفرقان: 72]

ص: 174

وأمرهم -أي أهل الحق- أن يشهدوا بالحق في كل حال، ولو كانت الشهادة تؤدي إلى أخذ صاحب الحق حقه منهم، كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} . [النساء: 35]

الضرر السادس: اتهام الكاذب بعيوبه مَن هم منها براء.

كما قال تعالى في مثل هذا: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} . [النساء: 112]

ص: 175

وقد ذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت في طعمة بن أبيرق الذي سرق سلاحا، فشكاه صاحب السلاح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقى السارق السلاح المسروق في بيت رجل بريء، ليبرئ نفسه ويحمل البريء إثمه، وعندما وجد السلاح في بيت الرجل البريء ثبتت -في الظاهر- براءة السارق، فأنزل الله هذه الآية وآيات قبلها منها قوله تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} . [النساء: 105، وراجع تفسير هذه الآيات في كتاب تفسير القرآن العظيم لابن كثير] .

وما أكثر ما يرتكب ناس مثل هذه الخطيئة! ويبرؤون أنفسهم مما ارتكبوه ويلطخون به البريئين.

وبنظرة في وسائل الإعلام في هذا العصر يرى المرء العجب العجاب من الاتهامات الكاذبة من فرد لآخر، ومن جماعة أو حزب لجماعة أو حزب آخر، ومن دولة لدولة أخرى، وكثيرا ما يكون المتَّهِم غارقا في العيوب والنقائص التي اتهم بها غيره.

والسبب في ذلك هو الاتصاف بصفة الكذب التي تلازم أهل الباطل غالبا، وفقد صفة الصدق التي تلازم أهل الحق.

ثالثا: العدل.

ص: 176

والعدل من أسس صفات أهل الحق، وهو مطلوب ضرورة في الحياة عند كل الأمم، ولا تستقيم الحياة بدونه، والأمم كلها مسلمها وكافرها تعلم أنه ضرورة لحياتها، لأن كل فرد وكل أسرة وكل أمة تحرص على أن لا يمسها غيرها بالظلم، بل تحب أن ينصفها المتعامل معها، لكن الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر وشريعة الله العادلة -وهم أهل الباطل- يحرصون على أن يعاملهم الناس بالعدل، والغالب أنهم إذا قدروا على ظلم غيرهم -من غير أن ينالهم ضرر- لا يتورعون عن الظلم، لأنهم لا يخشون جزاء ولا عقابا إلا إذا نالهم القانون والقضاء وما يسمى بأجهزة الأمن -في الدنيا- فإذا أمنوا من ذلك كله، فالأصل عندهم الأثرة وظلم الغير، لأنهم أهل باطل.

ص: 177

والذي لا يحب الظلم ويلازمه العدل مع القريب والبعيد والصديق والعدو، هو المؤمن بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم واليوم الآخر الذي يلتزم بشريعة الله وحكمه وينفذهما، وهؤلاء هم أهل الحق، لأن الحق تعالى أمرهم بالعدل ونهاهم عن الظلم، وهم يطمعون في ثوابه على طاعته ويخافون من عقابه على معصيته، ويعلمون أن إيمانهم لا يكمل إلا إذا أحبوا لغيرهم ما يحبون لأنفسهم من الخير، وقد يصل بهم إيمانهم إلى التنازل عن بعض حقوقهم الخاصة، إذا كان التنازل عنها مشروعا، ولكنهم يحرصون على إيفاء الناس حقوقهم بدون نقصان.

وقد أكد الله تعالى لعباده أنه يأمر بالعدل والإحسان وينهى عما يناقضهما من الظلم والفساد والمنكر، فقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} . [النحل: 90]

ص: 178

وقد نهى الله رسوله عن اتباع أهواء أهل الكتاب الذين تفرقوا من بعد ما جاءهم العلم، وأمره أن يعلن للناس إيمانه بما أنزل الله، وأنه أمر بالعدل بينهم، كما قال تعالى:{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} . [الشورى: 15]

وأمر الله تعالى عباده المؤمنين -كما أمر نبيه- بالعدل ولو كان على أنفسهم ونهاهم عن اتباع الهوى -كما نهى نبيه- كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} . [النساء: 135]

ص: 179

فالهوى كثيرا ما يغري الإنسان بالظلم وترك العدل، إما لجر مصلحة لصاحبه أو لقريب أو صديق، وإما لإنزال ضرر بعدو بغيض. والحق سبحانه وتعالى أراد أن يستأصل هذا الهوى الظالم في كلا الأمرين: محاباة القريب، بل والنفس، كما مضى، وبغض العدو أو الخصم، فقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} . [المائدة: 8]

إنه قمة ما تحتاج إليه الأمم في كل زمان: أن ينصف القادر خصمه ولو على نفسه أو أقربائه وأن يعدل مع أشدّ أعدائه.

ص: 180

وقد يرى أعداء الحق أن هذا من المثاليات قد تدور بالخيال ولكن تطبيقها في الواقع بعيد المنال، وهذا الرأي صحيح بالنظر إلى الأوضاع التي يعيش الناس فيها بعيدا عن منهج الحق وتطبيقه: منهج الله الذي أنزله في كتابه ودعا إليه عباده، وقد استجاب لدعوته الرعيل الأول من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فطبقوه تطبيقا تندب البشرية اليوم حظها التعيس لفقده، وتبعهم على ذلك أهل الحق ولا زال منهم من يتمسك به -وإن كانوا قلة في هذا الزمان- ولو عاد المسلمون إلى ذلك المنهج من جديد لرأت الأمم في الأرض ما تتمناه من العدل الذي أمر الله به على وجه العموم، وأمر به في الحكم كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} . [النساء: 58]

ص: 181

وأمر به في الشهادة كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} . [المائدة: 106]

وأمر به في الصلح بين الناس، بحيث لا يكون في الصلح ظلم لأحد المتخاصمين، بسبب ضعفه وقوة خصمه أو لغير ذلك، كما قال تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} . [الحجرات: 9]

وأمر به في التعامل الأسري، فقال تعالى:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} . [النساء:3]

ص: 182

وكل الحقوق التي أمر الله بها، وكل المظالم التي نهى الله عنها، إنما تتحقق بالعدل الذي هو ملازم لأهل الحق بحسب نصيبهم منه.

وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور» . [مسلم: (3 / 1458) رقم الحديث: 1827] .

وقد ربى رسوله الله صلى الله عليه وسلم أصحابه -وكل رسول سبقه كذلك- على العدل، حتى اعترف لهم بذلك أعداؤهم من أهل الكتاب كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، واشترط أن له الأرض وكل صفراء وبيضاء [يعني الذهب والفضة] . قال أهل خيبر: نحن أعلم بالأرض منكم فأعطناها على أن لكم نصف الثمرة، ولنا نصف، فزعم أنه أعطاهم على ذلك، فلما كان حين يصرم النخل [يقطع] بعث إليهم عبد الله بن رواحة، فحرز عليهم النخل، وهو الذي يسميه أهل المدينة الخرص، فقال: في ذِه كذا وكذا، قالوا أكثرت علينا يا ابن رواحة، فقال: فأنا أَلي [أي أتولى] حزر النخل وأعطيكم نصف الذي قلت. قالوا: هذا الحق (و) به تقوم السماء والأرض قد رضينا أن نأخذه بالذي قلت" [أبو داود واللفظ له (3 / 698) وابن ماجه (1 / 582) وهو صحيح] ..

ص: 183

وعن سليمان بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر، فيخرص بينه وبين يهود خيبر، قال: فجمعوا له حليا من حلي نسائهم، فقالوا له: هذا لك [يعني رشوة] وخفف عنا وتجاوز في القسم، فقال عبد الله بن رواحة:(يا معشر اليهود! والله إنكم لمن أبغض خلق الله إليّ وما ذاك بحاملي على أن أحيف عليكم، فأما ما عرضتم عليّ من الرشوة فإنها سحت، وإنا لا نأكلها) . فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض [الموطأ (4 / 270) والحديث مرسل وهو يفيد شيئا مما جرى بين ابن رواحة واليهود] ..

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

ص: 184

(وأمور الناس تستقيم مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم، أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم» . فالباغي يصرع في الدنيا وإن كان مغفورا له مرحوما في الآخرة، وذلك أن العدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعد لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة

) [مجموع الفتاوى: (28146) ] .

وإن الذي يتأمل أحوال العالم اليوم يدرك المآسي التي نزلت به بسبب فقد العدل أو قلته التي تقترب من العدم، فلا نجد ضعيفا ينصفه القوي -إلا ما شاء الله- من الأفراد والجماعات والدول، ولو أردنا أن نضرب أمثلة لذلك لطال بنا المقام.

ويكفي أن تقعد قليلا أمام شاشة التلفاز لترى ماذا يفعل اليهود بأطفال فلسطين وشيوخها ونسائها من قهر وإذلال وقتل وتشريد وسجن واعتقال وهدم منازل بالصواريخ على من فيها.

ص: 185

وأن ترى نصارى الصرب وهم يفعلون بالمسلمين في البوسنة والهرسك أعظم مما فعله اليهود، وذلك في وسط قارة الحرية والعدل والمساواة [وفي هذه الأيام -من سنة 1417هـ -1996م- يكشف عن مقابر جماعية لآلاف المسلمين الذين قتلهم الصرب عندما احتلوا مدنهم وقراهم] .

والعالم كله يمور بالفتن والمصائب بسبب الظلم وفقد العدل، وهيئة الأمم المتحدة ومنظماتها ومجلسها المسمى بمجلس الأمن، تتصرف فيها دولة واحدة استبدت بالأمر، تحرك تلك الهيئة ومنظماتها ودول العالم كله كما تريد، فإذا رأت أن لها مصلحة من التدخل في أي حدث يقع في العالم أجلبت بخيلها ورجلها وحشدت كل الدول لتحقيق مآربها ولو أهلكت بذلك الحرث والنسل مدعية أنها تنصف المظلوم من ظالمه، وإذا رأت أن عدم التدخل من مصلحتها أحجمت عن التدخل في الحدث وروضت غيرها على الإحجام بأسلوب ماكر مخادع، أو بتهديد شديد ظالم.

وكيف يرجى من هيئة الأمم المتحدة خير لضعيف وهي تصدر قراراتها بالإجماع أو الأغلبية، فَتُعَطِّل كُلَّ تلك القرارات دولةٌ واحدة عند التنفيذ؟!

ص: 186

بل أين العدل والإنصاف فيما يسمى مجلس الأمن وقد احتشدت بجواره جميع دول العالم، ومع ذلك تستطيع دولة من خمس دول تعطيل أي قرار يصدره [الدول التي لها مندوبون دائمون، ولها حق نقض أي قرار يتخذه المجلس مجتمعة أو كل دولة على حدة هي: أمريكا وفرنسا، وبريطانيا، والصين، وروسيا، ولكن أمريكا في الوقت الحاضر تقود المجلس وغيره من منظمات الهيئة لانفرادها بالهيمنة الدولية، ومع زعمها أنها دولة ديمقراطية، فإن استبدادها الدولي لا حدود له إلا مصالحها وعجزها] ..

وبهذا يعلم أن العدل -وهو صفة ملازمة لأهل الحق- هو الذي يثبت الحق ويطرد الباطل، وأن الظلم -وهو ملازم لأهل الباطل- هو الذي تشقى به البشرية على مدار التاريخ.

وإذا شئت أن تعرف أنموذجا للظلم الغاشم، وبخاصة على المسلمين من أعلى مسؤول في هيئة الأمم المتحدة فاقرأ عن مواقف أمينها العام العربي النصراني المصري بطرس غالي، [عندما كان أمينا عاما للأمم المتحدة] من قضية المسلمين في البوسنة والهرسك وإصراره على عدم تدخل الأمم المتحدة لحماية هؤلاء المسلمين الذين يتعرضون لأبشع اعتداء من قبل إخوانه الصرب النصارى [مجلة المجتمع الكويتية عدد 1002 ص22] ..

رابعا: صفة الرحمة.

ص: 187

ومن صفات أهل الحق الرئيسة خُلق الرحمة، وهي تقتضي من المتصف بها الإشفاق على المخلوقين من الناس والحيوانات والرأفة بهم والإحسان إليهم.

ولما كان الله هو الحق ومصدر الحق ومُشَرِّعَه ومنزل الوحي به وباعث الرسل من أجله، فهو تعالى الرحمن الرحيم الرؤوف الودود (1) الذي وسعت رحمته كل شيء.

[يجب أن يعلم ابتداء أن الله تعالى ليس كمثله شيء في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} {اللَّهُ الصَّمَدُ} {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} واشتراك المخلوق مع الخالق في الاتصاف بالرحمة ونحوها إنما هو اشتراك لفظي مثل أن يقال: إن الله موجود والمخلوق موجود، والفرق بين الوجودين: أن وجود الله ذاتي أزلي أبدي ووجود المخلوق استمده من الخالق وهو وجود محدود ببداية ونهاية وغير ذلك] .

(1) يجب أن يعلم ابتداء أن الله تعالى ليس كمثله شيء في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته: ومع ذلك فإن موسى عليه السلام أقام الحجة على فرعون عندما ادعى الربوبية وسخر منه، واشتراك المخلوق مع الخالق في الاتصاف بالرحمة ونحوها إنما هو اشتراك لفظي مثل أن يقال: إن الله موجود والمخلوق موجود، والفرق بين الوجودين: أن وجود الله ذاتي أزلي أبدي، ووجود المخلوق استمده من الخالق وهو وجود محدود ببداية ونهاية وغير ذلك.

ص: 188

وقد افتتح تعالى كتابه الذي أنزله على رسوله رحمة للعالمين بالبسملة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وافتتحت بها كل سور القرآن الكريم [ما عدا سورة براءة، التي يرى بعض العلماء إنها مكملة لسورة الأنفال] . وتكرر لفظ الرحمة ومقتضياتها كثيرا في القرآن الكريم وكذلك في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.

وقد وعد الله تعالى أهل الحق من المؤمنين الذين يقومون بمقتضى إيمانهم برحمته، فقال تعالى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . [التوبة: 71]

وأهل الحق المتصفون بالرحمة يطلبون من ربهم أن يرحمهم، كما قال تعالى:{وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} . [البقرة: 286]

ص: 189

بل إنهم استفتحوا دعاءهم للمؤمنين بالتوسل إليه برحمته، كما قال تعالى:{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} . [غافر: 7]

ووصف إرساله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه رحمة للعالمين، فقال:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} . [الأنبياء: 107]

وقال عن نبيه لوط عليه السلام: {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} . [الأنبياء: 75]

وقال عن بعض أنبيائه بعد ذكرهم: {وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} . [الأنبياء: 86]

وقال عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} . [التوبة: 128]

ص: 191

ولشدة رحمته صلى الله عليه وسلم بأمته، وحرصه على أن يأخذوا منه الحق الذي جاءهم به، وخشيته عليهم من البقاء في الضلال الذي يؤدي بهم إلى سخط الله وأليم عقابه، كان صلى الله عليه وسلم يأسف أسفا شديدا يُخشى أن يقع بسببه في الهلاك، ولذلك خاطبه الله تعالى مسليا ومصبرا:{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} . [الكهف: 6]

ووصفه الله تعالى هو وأمته بأنهم رحماء بينهم، فقال:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} . [الفتح: 29، وشدتهم على الكفار إنما هي في الحقيقة من أجل رحمتهم إياهم وشفقتهم عليهم من أن يموتوا على كفرهم فينالوا عذاب الله] .

وبرحمة الحق جل جلاله التي وسعت كل شيء في هذه الدنيا -وإن خص بها أهل الحق في الهداية والرضا والثواب الجزيل يوم القيامة في الآخرة بعث رسله وأنزل كتبه وشرع أحكامه لهداية البشر، وبها جعل الناس والدواب يتراحمون فيما بينهم في حياتهم.

ص: 192

ولكن الرحمة الحقيقية هي تلك الرحمة التي يتصف بها أهل الحق، فتستولي على نفوسهم ومشاعرهم، وتجعلهم في كل لحظة من لحظات حياتهم يشفقون على أهل الباطل الذين قست قلوبهم وخلت من الرحمة، حتى على أنفسهم فأصروا على رفض الحق ومحاربته ومحاربة أهله والصد عنه، واستكبروا استكبارا.

لذلك ترى أهل الحق الرحماء يحملون الحق إلى الناس، ويسابقون به أهل الباطل إلى عقول البشر، ويتحملون من المشاق والمحن والمؤامرات ما لا تتحمله الجبال الرواسي.

والذي يرجع إلى قصص الأنبياء وحوارهم مع أممهم ومواقف تلك الأمم من دعوتهم من التكذيب والاستهزاء والتحقير والتهديد مع صبر أولئك الأنبياء وتلطفهم ولينهم وحسن أسلوبهم تتبين له الرحمة التي حلت في قلوب أولئك الرسل لقومهم.

نماذج للرحمة التي يتصف بها أهل الحق.

ويكفي أن نذكر ثلاثة نماذج: اثنان منهما لنبيين وثالث لأحد المؤمنين.

النموذج الأول: نبي الله نوح عليه السلام.

ص: 193

وهو أول رسول بعثه الله تعالى للناس في عهده رحمة لهم، فمكث يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، وهم يجادلونه بالباطل ويسخرون منه ويحاولون إدخال اليأس إلى قلبه، وهو يمضي في طريقه صابرا محتسبا رحيما بهم شفيقا عليهم، منوعا أساليبه في دعوتهم، يدعوهم في الليل والنهار، وفي السر والجهر، مرغبا لهم إذا اتبعوه، بالعيش الحسن في الدنيا، والنعيم المقيم في الآخرة، ومهددا إذا عصوه، بالهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة، والقوم لا يزدادون إلا عنادا واستكبارا، حتى يأتي أمر الله، فيضطر إلى أن يتعلم النجارة لصنع سفينة ينجو فيها بنفسه ومن آمن معه بأمر من ربه، ويرى فلذة كبده وهو يغرق مع أعداء الله.

وقد صورت الآيات القرآنية قصته تصويرا مفصلا دقيقا فلنذكر بعض الآيات بدون تعليق فلا كلام يمكن أن يؤدي معانيها مثلها:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} . [العنكبوت: 14]

ص: 194

بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا} {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا} {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} {

ص: 195

وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا} {لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا} {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا} {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ

ص: 196

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} {أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي

ص: 198

أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} {قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} {فَسَوْفَ

ص: 199

تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} {وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ

ص: 200

هذا هو النموذج الأول، وهو أول رسول بعثه الله إلى الناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وهو نوح عليه السلام ولولا ما رزقه الله من رحمة وشفقة وصبر، لما قدر أن يستمر في دعوة قومه الذين وقفوا منه هذه المواقف تلك المدة الطويلة المديدة:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [العنكبوت] وقصص الأنبياء عليهم السلام -غير نوح - شبيهة بقصته

النموذج الثاني: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهو الذي ختم به جميع الرسل، وختم بكتابه ودينه المفصل الكامل جميع الكتب والأديان رحمة من الله للعالمين.

ص: 202

فقد بعثه صلى الله عليه وسلم في وقت أظلمت فيه الآفاق بالشرك والوثنية والجهل، وانطمست معالم الرسالات، وكلف تبليغ هذا الدين إلى قومه الأقربين، ثم عشيرته المحيطين به، ثم العرب أجمعين، ثم أمم الأرض وعظماءها من الأمراء والسلاطين، ولقي صلى الله عليه وسلم ما لقيه إخوانه المرسلون، من أقوامهم الضالين من الأذى والامتحان، والصد عن سبيل الله واتباع سبيل الشيطان، وأوذي معه صحبه الكرام الذين أقام الله بهم دين الإسلام.

دعا صلى الله عليه وسلم سرا وعلنا، وعرض دعوته على الغني والفقير، والقوي والضعيف، وهجر بلاده مكة هو وصحبه عندما سد المشركون أمام دعوته الأبواب، وكانت أحب البلاد إلى الله.

واصل دعوته في المدينة، وهجم عليه المشركون من كل حدب وصوب، فجاهد في الله حق جهاده مدافعا عن دين الله، وقائما بدعوة الله، وسالت دماؤه الزكية وجرح جسمه الطاهر وكسرت أسنانه النظيفة، وقتل كثير من أصحابه، مستشهدين في ساح الجهاد التي اشترك معهم فيها الملائكة المقربون، حتى نصر الله دينه وأعلى كلمته وكان ذلك كله امتثالا لأمر ربه، ورحمة بعباد الله ليخرجهم من الظلمات إلى النور.

ص: 203

ولنقرأ كذلك بعض الآيات في معاناته صلى الله عليه وسلم وكيف وقف قومه المشركون واليهود والنصارى من الحق الذي جاء به، وكيف صبر ومضى مشفقا عليهم رحيما بهم.

ص: 204

قال تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ} {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ

ص: 205

قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ

ص: 206

} {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا

ص: 207

ومع هذه المواقف القاسية العنيدة التي كان يقفها قومه المشركون منه، كان يحزن لحالهم ويتحسر ويهتم بأمرهم، رحمة بهم وإشفاقا على ما سيلقونه من مصير سيئ في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى له مسليا ومصبرا:{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} . [النحل: 127]

وقال تعالى: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} . [النمل: 70]

وقال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} . [الكهف: 6]

هكذا كان صلى الله عليه وسلم يحزن لحال أمته الذين لم يستجيبوا لدعوته، مشفقا عليهم راغبا في هدايتهم برغم عدائهم وحربهم له ولدينه.

وكان صلى الله عليه وسلم أشد رحمة وشفقة على من آمن به من أصحابه، كما قال تعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} . [التوبة: 128والعنت المشقة]

ص: 209

وقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} . [الحجرات: 7]

وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} . [الفتح: 29]

وقد ضرب لرحمته وشفقته على أمته، مثلا برجلٍ استوقد نارا فلما أضاءت جعل الفراش والدواب تقع في النار والرجل يحاول منعها وحجزها عن النار، وهي تأبى إلا الوقوع فيها.

كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارا، فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه، فأنا آخذ بحجزكم، وأنتم تقحمون فيه» ..) وفي لفظ: «مثلي كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها، قال: فذلكم مثلي ومثلكم، أنا أخذ بحجزكم عن النار هلم عن النار، هلم عن النار، فتغلبوني تقحمون فيها» ..) [مسلم (4 / 1789) ، والتقحم الإقدام والوقوع في الأمور الشاقة من غير تثبت، والحجز جمع حجزة وهي معقد الإزار.] .

ص: 210

والذي يدرس سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وما قام به من الدعوة إلى الله بين المشركين وحرصه الشديد على هدايتهم، وسيرته صلى الله عليه وسلم مع أهله وخَدَمه وأصحابه يرى رحمته شاخصة في تلك السيرة العطرة، تتحرك بحركة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتتحدث بلسانه.

وعلى تلك الرحمة ربى أصحابه فكانوا يتسابقون إلى نفع المحتاجين ونصرة الضعفاء.

ويكفي لمعرفة رحمة أبي بكر الصديق رضي الله عنه برعيته، بيانه السياسي بعد بيعته الذي أولى فيه من يستحق الرحمة اهتمامه، حيث خصه بنسبة كبيرة من معاني ذلك البيان نصا، فكان مما قاله في ذلك البيان:"والضعيف فيكم قوي عندي حتى أزيح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله.."[تاريخ الخلفاء، للإمام السيوطي ص69]

وكان -وهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيره عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يتسابقان دون أن يعلم أحدهما بالآخر لخدمة عجوز كبيرة السن، وكان الخليفة يسبق وزيره إليها [نفس المرجع: ص80] .

النموذج الثالث: مؤمن آل فرعون.

ص: 211

وهو الذي انبرى محاميا عن موسى عليه السلام ومرغبا فرعون وقومه في الاستجابة لدعوته، ومرهبا لهم من مخالفته والاعتداء عليه بالقتل، في بيان طويل وجدال قائم على الحجة والبرهان والعاطفة والرحمة.

ص: 212

فعندما سمع فرعون يستأذن ملأه -وليس استئذانه منهم إلا لخداعهم وإظهار أنه يرجع إليهم في الأمور المهمة- قائلا: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} وسمع موسى عليه السلام وهو يستعيذ بربه -الذي لا ملجأ له سواه- كما قال الله تعالى عنه: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} خرج ذلك الرجل المؤمن رضي الله عنه من صمته وهو من آل فرعون -فدافع عن موسى ودعا فرعون وقومه إلى اتباعه والبعد عن إيذائه، كما قال تعالى:{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ

ص: 213

بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [إلى هنا تظهر رحمة الرجل المؤمن بموسى عليه السلام حيث يحذر قومه من قتله بسبب يقتضي مناصرته والاستجابة له، وهو أنه يقول ربي الله، ثم يفترض أنه إما أن يكون صادقا -وهذا هو الذي يعتقده هذا المحامي- وإما أن يكون كاذبا -حسب زعم فرعون وملئه- فإن صدق فسيكون قتلهم له ومحاربة دعوته وبالا عليهم، وإن كذب فتركهم له لا يضرهم ويتحمل هو كذبه، وفي نصحه هذه رحمة بهم، ثم يظهر رحمته بهم بأنهم يحزرون الملك وهذا الملك لا يبقى مع الظلم بل سينزل بهم بأس الله فإذا نزل بهم فلا ناصر لهم، وفي هذا غاية النصح لهم والرحمة بهم] .

{قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ} {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [وفي هذا تخويف لهم من عقاب الله في الدنيا، وذلك رحمة بهم] .

ص: 214

{وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [وفي هذا تحذير لهم من عقاب الله لهم في الآخرة، وهو من رحمته بهم]

.إلى قوله تعالى {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [وهذا يعارض قول فرعون: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} .. كما سبق] ..

ص: 215

{يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} {لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ

ص: 216

الْعَذَابِ} [الآيات من سورة غافر: 26-46] .

ما أصعب كلمة الحق أمام الطغاة الفراعنة، وكثيرا ما يكون أناس يؤمنون بالحق الذي يكفر به الطغاة الفراعنة، ويودون أن يؤمن به أولئك الطغاة الفراعنة من أهل الباطل وأتباعهم، ولكنهم لا يجرءون على الجهر بذلك، فيؤمنون بالحق في أنفسهم ويكتمون ذلك الإيمان، خوفا من جبروت الطغاة الفراعنة وليس عليهم شيء في ذلك الكتمان اضطرارا، ولكن الإيمان عندما يقوى والرحمة بالطغاة وأتباعهم عندما تشتد، وكذلك الرحمة بأهل الحق المهدَّدين بالقتل والأذى، يأبى ذلك الإيمان أن يبقى في الصدور فيظهر في الأفعال والأقوال، وتتضاءل قوة الطغاة الفراعنة في نفوس المؤمنين الذين كانوا يكتمون إيمانهم، فيصدعون بالحق رحمة بالداعي المغلوب وبالمدعو المعاند، وهذا ما حصل من مؤمن آل فرعون رضي الله عنه وأرضاه وأكثر في قصور الطغاة الفراعنة من أمثاله، وهكذا يكون أهل الحق رحماء فيما بينهم ورحماء بغيرهم، بخلاف أهل الباطل فالغالب فيهم أن تكون الرحمة منزوعة من قلوبهم، وبخاصة فيما يعارض مصالحهم -ولو كانت تلك المصالح ظلما صريحا- وبخاصة مع أهل الحق فإن الغلظة والقسوة تكون ملازمة لهم في معاملتهم.

ص: 217

أهل الحق يدعون أهل الباطل إلى الحق وينصحونهم بترك الباطل رحمة بهم، وأهل الباطل يحاربون أهل الحق وينابذونهم العداء، ويخرجونهم من ديارهم، ويفتنونهم في دينهم بالضرب والرجم والحبس والقتل، تجبرا عليهم وقهرا وإذلالا لهم وقسوة عليهم.

والتاريخ البشري والقرآن العظيم والواقع المعاصر كلها تدل على ذلك.

ولو أردنا تتبع ذلك الظلم والقسوة والقهر التي تباين الرحمة وتنافيها، من القرآن الكريم وكتب السنة، والتاريخ والواقع المعاصر، لاحتاج ذلك منا إلى كتاب مستقل، فلنذكر نماذج من القرآن الكريم ونشير إلى شيء من الواقع للربط بين أهل الباطل في القديم والحديث.

سبق أن أهل الحق تلازمهم صفة الرحمة في أغلب الأوقات -هذا إذا كانوا من غير الأنبياء، وغير الأنبياء ليسوا بمعصومين، أما الأنبياء فلا تفارقهم سجية الرحمة- وأما أهل الباطل فالأصل أنهم غير رحماء، فإذا ما وجدت عند بعضهم بعض معاني الرحمة، فالغالب أنها تتعلق بتحقيق مصالح لهم.

ومن مستلزمات القسوة عند أهل الباطل اعتداء القوي على الضعيف.

مظاهر الاعتداء.!!!

وللاعتداء مظاهر:

المظهر الأول: إخراج القوي الضعيف من بلده وداره.

ص: 218

وقد يكون المعتدى عليه من أهل الحق الرحماء الذين يريدون الخير لذلك المعتدي، كالأنبياء والدعاة من أتباعهم.

فتأمل كيف يتلطف نبي الله شعيب عليه السلام مع قومه، ويطلب منهم الصبر والمهادنة -إذا لم يستجيبوا لدعوته- حتى يحكم الله بينه وبينهم، وكيف يردون عليه؟

قال تعالى عنه، وهو يخاطب قومه:{وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} فيردون عليه في قسوة وكبرياء: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} . [الأعراف: 87-88] .

ص: 219

بل حكى الله تعالى عن الكفار عموما، تهديدهم لأهل الحق من الأنبياء الرحماء الذين جاءوهم بالرحمة والخير، بإخراجهم من أرضهم، ما لم يتركوا دين الرحمة الذي جاءوهم به ويعودوا إلى ملة الكفر والعذاب، كما قال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} . [إبراهيم: 13] .

وقال تعالى عن قوم لوط -وقد دعاهم لوط عليه السلام إلى الطهر والعفة والبعد عن فعل الفاحشة المنكرة- الذين سخروا من دعوته لهم إلى التطهر من الفاحشة: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} . [الأعراف: 82]

وقال تعالى -مسليا رسوله صلى الله عليه وسلم وقد أخرجه قومه من أحب بلد إليه -المسجد الحرام-: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} . [محمد: 13]

ص: 220

وقال تعالى -مبينا مكر قومه به وتآمرهم عليه بالسجن أو القتل أو الإخراج من بلده-: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} . [الأنفال: 30]

وقال تعالى عن رأس المنافقين -ومثله رؤوس العلمانيين المنتسبين إلى الإسلام المحاربين له اليوم- وهو يهدد الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، وبخاصة المهاجرين:{يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} . [المنافقون: 8]

ص: 221

وقال تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه المهاجرين الذين أخرجتهم قريش من ديارهم وأموالهم وأهليهم: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} . [الحج: 40] وما أشق خروج الإنسان -أي إنسان من منزله وبلاده بالقوة والإكراه- وبخاصة عندما يكون إخراجه بسبب دعوته إلى الحق، قوما ضلالا متمسكين بالباطل صادين عن الحق، فيخرجونه مقهورا مظلوما، هو يجاهد في وصول الخير إليهم في حال كونه مشفقا عليهم رحيما بهم، وهم يصرون على إخراجه من دياره، قاسية قلوبهم لا تعرف الرحمة والرأفة بمن يستحقها.

المظهر الثاني: سجن المعتدى عليه بدون حق.

وهذه العقوبة القاسية تعتبر عند الطغاة الفراعنة أهل الباطل تفضلا منهم على أعدائهم من أهل الحق، لأن أهل الحق لا يستحقون الحياة، والسجن قد يكون محطة يعبر منها السجين إلى مشنقة الموت، أو ينسى في السجن نسيان القساة الذين نزعت الرحمة من قلوبهم.

ص: 222

ففرعون يهدد موسى عليه السلام الرسول الموحد الذي يدعو إلى توحيد الله وعبادته وحده، ويحذره من أن يعبد إلها غيره، ويتوعده بالسجن مع المجرمين من قطاع الطرق وسارقي الأموال وقاتلي النفوس بدون حق، كما قال تعالى عنه:{لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} . [الشعراء: 29]

هذا التهديد بالسجن قصد منه إكراه الرسول الموحد الداعي إلى التوحيد الذي هو أصل كل حق، على الإشراك بالله وعبادة الطاغوت الذي هو أصل كل باطل.

ويوسف عليه السلام تعرض للسجن بسبب تنزهه عن الفاحشة التي طلبتها منه امرأة العزيز في قصر السلطة، وقصور طغاة الملوك والزعماء تضيق بالطاهرين الذين ينزهون أنفسهم من الفواحش، ولا يلقى الترحيب فيها -غالبا- والتمكين إلا الفسقة والمجرمون الذين يحبون الفاحشة، لذلك حاولت عزيزة القصر إكراهه على المنكر واتخذت لذلك الإكراه كل وسيلة، فلما رفض صاحب الحق طلبها واعتصم بالله طلبت سجنه، فاستجاب لطلبها زوجها الديوثُ وسَجَنَه، وكان السجن أحب إلى صاحب الحق من أن يستجيب للباطل.

ص: 223

قال تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . [يوسف: 24 - 25]

وبعد إقرارها بأنها هي العاصية وإقرارها بأنها هي التي راودته على الفاحشة، صدر منها التهديد الظالم الذي هو عادة أهل الباطل، للمظلوم البريء صاحب الحق، كما قال تعالى عنها:{وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ} . [يوسف: 32]

ووقف صاحب الحق عالي الرأس، مفضلا السجن على الاستجابة للمنكر، كما قال تعالى عنه:{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} . [يوسف: 33]

ص: 224

ويصدر الحكم الظالم من أهل الباطل على البريء المظلوم صاحب الحق، دون رحمة لضعفه ولا تقدير لبراءته كما قال تعالى:{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} . [يوسف: 35] والآيات: الأدلة والبراهين والقرائن الدالة على براءته وإثم العاصية.

المظهر الثالث: الرجم بالحجارة.

وقد هدد أهل الباطل بالرجم رسلَ الحق ودعاته وأهله، كما قال تعالى عن قوم نوح:{قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} . [الشعراء: 116]

وهدد آزر أبو إبراهيم ولدَه إبراهيم بالرجم، كما قال الله تعالى عنه:{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} . [مريم: 46]

وحكى الله عن قوم شعيب أنهم لم يتركوا رجمه إلا خوفا من رهطه، كما قال تعالى عنهم:{قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} . [هود: 91]

ص: 225

ويظهر من بعض الآيات أن موسى عليه السلام هدده فرعون وملؤه بالرجم فاستعاذ بالله من ذلك، كما قال تعالى عنه:{وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ} . [الدخان: 20]

وذكر تعالى عن بعض الأمم أنها هددت رسلها بالرجم والعذاب المؤلم، كما قال تعالى:{قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} . [يس: 18]

رسل الله وأتباعهم من أهل الحق، يسعون جادين إلى إنقاذ أهل الباطل من ضلالهم الذي يشقيهم في الدنيا والآخرة، شفقة عليهم ورحمة بهم، وأهل الباطل تتصلب قلوبهم وتقسو نفوسهم، فيهددون من يريد رحمتهم، بالرجم والعذاب الأليم! لأن قلوب أهل الحق مليئة بالرحمة وقلوب أهل الباطل خالية من الرحمة مليئة بالقسوة.

المظهر الرابع: تقطيع الأطراف والصلب.

ص: 226

وهذا النوع من أنواع الاعتداء من قساة القلوب -أهل الباطل- والتهديد به أمر شائع في طواغيت الأرض وفراعنتهم، وقد هدد به فرعون السحرة الذين استنجد بهم للانتصار على آيات موسى وبراهينه بسحرهم، فبطل سحرهم وتسلل الإيمان برب موسى ودعوته إلى قلوبهم، فانقلبوا مؤمنين بالحق الذي جاء به موسى عليه السلام ضد الباطل الذي كانوا قد نشئوا عليه وأعانوا عليه فرعون، وعندما {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} اشتدت قسوة فرعون فأخذ يعاتب وينكر ويهدد، كما قال تعالى عنه:{قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} . [الأعراف: 123-124]

ص: 227

وقال تعالى: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} . [طه: 71]

وقال تعالى عنه: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} . [الشعراء: 49]

المظهر الخامس من مظاهر العنف والقسوة: الذبح، وهو أحد أنواع القتل. وقد كان فرعون -لشدة قسوته- يذبح صغار بني إسرائيل أمام أعين آبائهم وأمهاتهم، ليستأصل ذريتهم الذكور، حرصا على ملكه وخوفا متوهما أن يسلبوه ذلك الملك.

قال تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} . [البقرة: 49]

ص: 228

وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} . [إبراهيم: 6]

وقال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} . [القصص: 4]

المظهر السادس: التحريق.

ومن أنواع القتل الشنيع التي يتخذها قساة القلوب من أهل الباطل، تحريق أهل الحق بالنار.

كما فعل قوم إبراهيم الخليل عليه السلام لولا أن الله تعالى سلب النار قدرتها على إيذائه بقدرته تعالى.

قال تعالى فيهم -بعد أن أقام إبراهيم عليه السلام الحجة عليهم واعترفوا بأنه على حق وأنهم هم أهل باطل وظلم: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 68-69] .

ص: 229

ومن أعظم القصص الدالة على أن أهل الباطل قد نزعت الرحمة من قلوبهم قصة أصحاب الأخدود التي أشارت إليها هذه الآيات: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} . [البروج: 4، 10 ويمكن مراجعة هذه القصة في كتب التفسير ومنها تفسير القرآن العظيم لابن كثير] .

المظهر السابع: القتل بكل الوسائل المؤدية إليه.

وهو شامل لقتل أهل الباطل أهلَ الحق، نصرا للباطل على الحق، ومحاولة لاستئصال مصادر الحق التي تؤدي إلى إبلاغ الحق إلى عقول الناس من أجل أن تخلو الأرض للباطل وأهله.

ص: 230

وشامل كذلك لاعتداء أهل الباطل على الضعفاء من الصغار -من أولادهم بسبب خشية العار إن كان القتل للبنات، أو خشية الفقر- أو أولاد أعدائهم، كما يحصل في الحروب، أو من بعض الطغاة الفراعنة لأولاد بعض الطوائف المضطهدة تحت حكمهم وسيطرتهم، وذلك كله يدل على نزع الرحمة والشفقة من قلوبهم فمن النوع الأول -قتل أهل الحق من الأنبياء وأتباعهم- قوله تعالى في اليهود القساة:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} . [البقرة: 61]

وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} . [آل عمران: 21]

وقال تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} . [آل عمران: 181]

ص: 231

وقال تعالى: {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} . [المائدة: 70] هذه الآيات وغيرها في أهل الكتاب.

وقال تعالى في مشركي قريش وهم يتآمرون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويطرحون خياراتهم في التخلص منه ومن دعوته -ومن ذلك القتل-: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} . [الأنفال: 30]

ومن النوع الثاني -أي قتل الصغار- ما كان يفعله فرعون مع أولاد بني إسرائيل الذكور، كما مضى قريبا.

ومن ذلك ما كان يفعله مشركو قريش حيث يذبح الأب ابنه خشية الفقر، أو ابنته خشية العار، وهما ينظران والأم تبصر قتل رضيعها، دون رحمة ولا شفقة، كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} . [الأنعام: 137]

وقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} . [الإسراء: 31]

ص: 232

وقال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} . [النحل: 59]

وقال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} . [التكوير: 8-9]

ترى هل يوجد شيء من الرحمة في قلوب من يقتلون الأولاد الصغار، سواء كانوا أولادهم أو أولاد أعدائهم؟!

المظهر الثامن: الأذى بكل أنواعه.

وهو يشمل مظاهر القسوة المذكورة سابقا وغيرها.

وأذى أهل الباطل يشمل المخلوقات كلها: الإنسان وغيره، سواء كان من أهل الحق أو من أهل الباطل، فصاحب الباطل القوي يؤذي الضعيف سواء كان من أهل الحق أو من أهل الباطل، ولكن إيذاءه أهل الحق له الأولوية عنده، وسنقتصر عليه ها هنا بذكر بعض الآيات القرآنية التي نصت على الأذى.

قال تعالى -مخاطبا عباده المؤمنين مصبرا لهم، مبينا لهم، أنهم لا بد أن يتعرض لهم أعداء الحق من أهل الباطل، من اليهود والنصارى والمشركين سواء، بالأذى الذي يحتاجون معه إلى الصبر والتقوى في ثباتهم على الحق:

ص: 233

كان يمكن الاكتفاء بذكر أن أهل الباطل أعداء الحق قد نزعت الرحمة من قلوبهم، لأنهم قد تكبروا وتجبروا وطغوا لبعدهم عن الله وعدم الاستجابة لرسله، ولذلك هم لا يدعون شيئا من أنواع الأذى إلا أنزلوه بالضعيف، وبخاصة إذا كان هذا الضعيف من أهل الحق، كان يكفي ذكر ذلك والاستدلال بآية أو آيتين بدون سوق المظاهر الثمانية المذكورة الدالة على قسوتهم وعدم رحمتهم.

ولكن أردت من سوق هذه المظاهر التنبيه إلى شيء -وليس كل شيء- من قاموس الشر والفتنة الذي يزاوله أعداء الحق، من أهل الباطل ضد أهل الحق من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم، ليفتنوهم عن دينهم بكل صنوف الأذى، وليصدوا الناس عن الاستجابة لدعوتهم بغاية القسوة والشدة.

ولو أنا عدنا إلى التاريخ لضرب أمثلة تندرج تحت هذا القاموس وتزيد عليه لما اتسع المقام لذلك.

ص: 235

ولهذا نحاول أن ننبه على الواقع وما يجري فيه من وبال على العالم كله، من قبل الطغاة والفراعنة من أهل الباطل، وبخاصة على أهل الحق من الدعاة الذين امتلأت قلوبهم رحمة ورأفة، فأجهدوا أنفسهم واقتحموا العقبات لإبلاغ الخير إلى أهل الباطل، ليسعدوا بهذا الخير في الدنيا والآخرة، ولكن أهل الباطل وجهوا إليهم سهام العداء والحرب بقسوة بالغة فأنزلوا بهم كل أنواع الأذى والمحن.

نماذج من قساة القلوب في عصر حقوق الإنسان!

لا نريد -كما سبق- تتبع قسوة الطغاة ووحشيتهم التي يعاملون بها الضعيف من قديم الزمان، بسبب فقد قلوبهم الرحمة والرأفة، والاستشهاد على ذلك بحوادث التاريخ، سواء أكان ذلك صادرا من أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، أو الوثنيين من مجوس وغيرهم من الهندوس والبوذيين، وسواء عاملوا بتلك القسوة والوحشية دعاة الحق من الأنبياء والرسل وأتباعهم، أو عاملوا بها أبناء جنسهم من الكفار، فإن ذلك -لو أردنا تتبعه- من الصعوبة بمكان.

ص: 236

والذي يرغب في الاطلاع على نماذج من قسوة أي أمة من تلك الأمم فإنه واجد في كتب التاريخ القديمة والحديثة ما يغنيه، فهذه الرسالة ليست معنية بذلك، وحسبها أن تشير بسبابتها إلى المكتبات العامة والخاصة، والمكتبات التجارية لمن عنده تلك الرغبة.

ولكنها -أي هذه الرسالة- معنية بذكر نماذج تثبت بها دعواها، وهي أن صفات أهل الباطل الذين يسابقون بباطلهم أهل الحق إلى العقول هي على نقيض صفات أهل الحق، فإذا كان أهل الحق يتصفون بالرحمة بالخلق، ورحمتهم بهم تحملهم على إبلاغ الحق إلى عقولهم، فإن أهل الباطل يتصفون بالقسوة والغلظة، ولعدم رحمتهم بالخلق يحاولون أن يسبقوا أهل الحق بإبلاغ باطلهم إلى عقول الناس، ويتخذون لذلك كل الوسائل القاسية الغليظة الخالية من الرحمة لذلك السباق.

ولما كانت النماذج المعاصرة أقرب إلى ذهن القارئ لأنه يراها ويسمع عنها، ويعيش في زمن أحداثها، فإن الاستشهاد بها أقرب إلى إقامة الحجة بها.

وسنعرض هنا خمسة نماذج من قساة القلوب الذين نزعت الرحمة من قلوبهم:

النموذج الأول: قساة القلوب من اليهود.

النموذج الثاني: قساة النصارى.

النموذج الثالث: قساة الوثنيين.

النموذج الرابع: قساة الملحدين.

ص: 237

النموذج الخامس: قساة المنافقين.

النموذج الأول قساة اليهود.

إن الأمة التي تكذب قادة دعاة الحق- الأنبياء والرسل- وتقتلهم، وهم يتوجهون إليها بدعوتها إلى الدخول في رحمة الله بها في الدنيا والآخرة، هي أمة بلغت أقصى حد القسوة والغلظة، وإذا نزعت الرحمة من قلوبها في معاملتها لأنبيائها ورسلها، فما الذي يتوقع منها في معاملتها لغيرهم؟ وبخاصة إذا كانوا أعداءها، وبالأخص إذا كان أعداؤها هم المسلمين الذين حسدوا رسولهم ورسالته في أول مجيئها، وحاولوا القضاء عليها في مهدها بقتل نبيها غيلة، وتأليب قوى الشر في الجزيرة العربية على حملتها، بعد نقضهم العهود والمواثيق التي كانت بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم.

فها هم اليوم يغتصبون بلاد المسلمين -بمعاونة النصارى- ويقتلون أبناءهم، ويسجنونهم، ويعذبونهم بأقسى أنواع التعذيب، ويخرجونهم من ديارهم، ويهدمون على رؤوسهم منازلهم، ويدنسون مقدساتهم -ومنها قبلة المسلمين الأولى ومسرى رسولهم صلى الله عليه وسلم.

ص: 238

وقد اغتصبوا أرض فلسطين سنة 1948م وأخذوا يعيثون فسادا في البلاد والعباد، ولست بمحاول تتبع معاملتهم القاسية لأهل البلاد من ذلك التاريخ، وإنما أذكر أمثلة قليلة من تلك المعاملة قريبة العهد، قرأها الناس في الصحف والمجلات، وشاهدوها في التلفاز وسمعوها في الإذاعة، وأكثر ما تذكر ذلك مفصلا وسائل الإعلام الأجنبية الموالية والمؤيدة لليهود: الأوروبية والأمريكية [هذا كان قبل وجود بعض الفضائيات العربية التي أصبحت تنقل مجازر اليهود للفلسطينيين ساعة بساعة، وفي مواقع الإنترنت خير شاهد على ذلك] وشهادة الأهل على الأهل أقوى حجة من غيرها -ومع أن هذه الإشارة كافية لمن يعيش في هذه الأيام على الكوكب الأرضي؛ لأن مظاهر قسوة اليهود تعتبر بدهية عندهم، ويكفي أن يُذكَّرُوا بها للدلالة على فقد اليهود الرحمة في قلوبهم، أقول مع أن ذلك كاف فلا بد من ضرب أمثلة لتكون أكثر تذكير للحاضر ومرجعا للأجيال القادمة.

وسأقتصر على بعض الأمثلة بذكرها من مرجع واحد وهو: (الانتفاضة المباركة، وقائع وأبعاد)[للكاتب غسان حمدان] .

فقد ذكر في الفصل الثالث من الكتاب -وعنوانه الإجراءات الإسرائيلية الإرهابية: العناوين الآتية:

ص: 239

سياسة القبضة الحديدية. الاعتقالات العشوائية.

مبدأ رابين [كان وزيرا للدفاع، ثم أصبح رئيسا للوزراء، وقد اغتاله بنو جلدته احتجاجا على ما ظهر لهم من تقارب مع الشرطة الفلسطينية] في تكسير العظام. تعطيل الخدمات الصحية.

العقاب الجماعي. انتهاك حرمة المقدسات الإسلامية.

الحرب الاقتصادية. اشتراك المستوطنين في القمع.

محاولة كسر الإضراب التجاري. دفن الأحياء.

الاعتداء على المؤسسات التعليمية. هدم ونسف المنازل.

قنابل الغاز السامة. أجهزة عسكرية متطورة.

إبعاد المواطنين خارج فلسطين. الحرب النفسية.

التعتيم الإعلامي.

وسأقتطف بعض الجمل مما فصل المؤلف، بعد ذكره هذه البنود قال: (لم يترك جنود الجيش الإسرائيلي أسلوبا للتنكيل بالمواطنين إلا وتسابقوا على تنفيذه، حتى وإن أثار إرهابهم العالم -إلى أن قال: وحول الأساليب القمعية والإجراءات التي اعترف المجرم شامير [كان رئيسا للوزراء] بأن الجنود كلفوا بتنفيذها، فإنها تحتاج إلى مجلدات كبيرة، ويكفي أن نورد أبرز هذه الأساليب مدعمة ببعض الشواهد، على سبيل المثال لا الحصر:

ص: 240

1-

اقتحام المنازل بعد فرض حظر التجول، وتحطيم الأثاث وزجاج النوافذ، والعبث بمحتويات المنزل

بالإضافة إلى الاعتداء على الموجودين فيها

رجالا ونساء

كبارا في السن أو صغارا

2-

قذف قنابل الغاز السامة والمسيلة للدموع داخل المنازل

كما عمدت قوات العدو إلى أسلوب جديد للتنكيل باستخدام هذه القنابل، حيث يقوم الجنود بإطلاق عدد من القنابل الغازية والدخانية في المنازل، ثم يجبرون المواطنين على دخول المنازل تحت الضرب الشديد.

3-

إطلاق يد حرس الحدود

بأعمال تخريب وإهانة..

4-

إخراج الرجال والأطفال من منازلهم وضربهم ضربا مبرحا بالهراوات وأعقاب البنادق، ثم ربطهم إلى أعمدة الكهرباء والهاتف والاستمرار في ضربهم إلى أن يفقد الشخص المربوط وعيه، وعندئذٍ يرش عليه الماء البارد ويعود الضرب من جديد، وقد يلجأ الجنود إلى ضرب رأس المعتقل بالحائط والعمود

5-

استغلال تأخر بعض المواطنين في الوصول إلى منازلهم ليلا، فيقوم الجنود باعتقالهم وتكسير أطرافهم

وإلقائهم في أماكن نائية في الطريق

ص: 241

6-

تجميع أعداد كبيرة من المواطنين ممن يتصادف مرورهم في الشوارع، وحشرهم في محلات تجارية، بعد فتحها بالقوة ثم يقوم الجنود بإلقاء قنابل غاز مسيل للدموع

ويغلقون أبواب المحال والمواطنون بداخلها

7-

إلقاء الحجارة أو إطلاق النار على اللواقط الزجاجية للسخانات الشمسية المنصوبة على أسطح المنازل.. وتحطيمها.. إطلاق النار على خزانات المياه لتفريغها من الماء، بهدف تعطيش المجاهدين الصامدين، ووصل الأمر إلى أن يقوم بعض الجنود الذين يحتلون أسطح المنازل والمدارس بالتبول داخل خزانات المياه.. وتحطيم أسقف المنازل المصنوعة من القراميد، ونتيجة لهذا العمل باتت كثير من الأسر الفلسطينية في مخيم جباليا تحت المطر وفي البرد والعراء.

8-

ربط بعض الشباب إلى مقدمة سيارات الجيب العسكرية، التي تنطلق بسرعة ثم تتوقف فجأة، مما يؤدي إلى قذف الشخص الذي كان موثوقا إلى مقدمة السيارة مسافة بعيدة عنها، مما يؤدي إلى إصابتهم بجروح وكسور ورضوض في جميع أنحاء الجسم.

9-

استخدام الجيش بعض المعتقلين أو المارة دروعا بشرية في مواجهة المظاهرات، وحجارة المجاهدين..

ص: 242

10-

إدخال الإطارات المشتعلة إلى منازل المواطنين الذين يرفضون إطفاءها مما يؤدي إلى احتراق المنازل أو أجزاء منها

11-

تجميع المعتقلين في سيارة باص.. والاعتداء عليهم بالضرب، ثم إلقاؤهم واحدا بعد الآخر أثناء سير الباص في أماكن مختلفة

12-

إلقاء مواد تموينية فاسدة، وبخاصة البسكويت والشيكولاتة في مداخل القرى والمخيمات -لتقع- تحت متناول الأطفال في محاولة لتسميمهم وقتل أكبر عدد ممكن من أبطال الانتفاضة

13-

قتل الأسرى والمعتقلين.

14-

استخدام طائرات الهليكوبتر.. في إطلاق القنابل الغازية والمسيلة للدموع على جموع المتظاهرين في داخل القرى والمخيمات عند عجز قوات المشاة والآليات في اقتحام مناطق المظاهرات، كما جرى تطوير عدد من هذه الطائرات، حتى تتمكن من إلقاء كمية كبيرة من الحجارة على المجاهدين، حيث زودت بمدفع قاذف للحجارة

كما تقوم الطائرات العسكرية المروحية بعمليات إنزال جوي للمظليين في القرى التي يغلق أهلها جميع مداخلها في وجه الجنود.. وتستخدم شبكة تلقيها من الطائرة لاعتقال الشباب المجاهد -كما يفعل صيادو الأسماك في البحر.

ص: 243

بل إن الجنود يحملون المعتقل في الطائرة ويرمونه من الجو فيصاب بجروح وكسور خطيرة

15-

الانقضاض على من يتم القبض عليهم من الشباب المجاهد بالهراوات والعصي وأعقاب البنادق، وعلى جميع الأعضاء في الجسد وخاصة اليدين والقدمين.. وهذا هو مبدأ إسحاق رابين الذي نعت هذه العمل بقوله:(إن هذا الأسلوب أكثر فعالية من الاعتقالات، حيث إن المعتقل في سجن الفارعة مثلا يمكث.. (18يوما) يعود بعدها إلى الشوارع للتظاهر وقذف الحجارة، أما إذا قام الجنود بكسر يديه فإنه لن يتمكن من العودة إلى الشارع قبل شهر ونصف على الأقل

[وقد شاهد العالم في كل مكان الجنود اليهود وهم يكسرون عظام الشباب الفلسطيني بالحجارة] .

وهكذا يضرب الجنود اليهود كثيرا من الشباب الفلسطيني حتى يموتوا

ص: 244

16-

يضاف إلى ذلك أنواع أخرى من التعذيب الوحشي الذي يصعب حصره، وقطع المواصلات والاتصالات الهاتفية، ومنع إبلاغ المواد الغذائية والتموينية إلى المخيمات، وقطع الخدمات الأساسية، كالكهرباء والماء وتخفيض السيولة النقدية في المناطق المحتلة إلى أدنى حد ممكن، ووقف صرف رواتب المعلمين والمعلمات، ورفع الضرائب المرهقة، ومنع تصدير المنتجات الزراعية لإحداث خسائر فادحة على الفلسطينيين، وإغلاق الأسواق وإتلاف المحاصيل الزراعية، وإغلاق الجامعات والمدارس، وتحويل بعض المدارس إلى ثكنات عسكرية وتعطيل الخدمات الصحية، ومداهمة المستشفيات والعيادات الصحية.

17-

انتهاك حرمات المقدسات الإسلامية:

- تكثيف الوجود العسكري حول المساجد وإقامة الحواجز في الطرق المؤدية إليها ومضايقة.. الذاهبين لأداء الصلاة بتفتيشهم ومصادرة هوياتهم -مع السب والشتم المؤذي لمشاعرهم.

- اقتحام المساجد والاعتداء على المصلين بالضرب بالهراوات وأعقاب البنادق والركل بالأرجل، ولا يستثنى من هذا الاعتداء أئمة المساجد.

- قطع الكهرباء عن المساجد قبيل موعد صلاة الجمعة لمنع الخطباء من التطرق إلى الانتفاضة الجهادية عن طريق مكبرات الصوت..

ص: 245

- اعتقال عدد من علماء الإسلام وخطباء المساجد.

- قذف قنابل الغاز داخل المساجد أثناء تجمع المصلين وإغلاق أبواب المساجد، وأحيانا إطلاق الرصاص على المصلين

- إغلاق عدد من المساجد ومنع المواطنين من أداء الصلاة فيها

- مصادرة مكبرات الصوت الخاصة بالأذان

- الاعتداء على كبار العلماء مثل مفتي القدس ومحاولة إحراق المسجد الأقصى

- الإذن للعصابات اليهودية بتدنيس المسجد الأقصى.

- تمزيق جنود اليهود أعدادا كبيرة من المصاحف وسب الدين الإسلامي

18-

دفن الأحياء من شباب الجهاد.

19-

هدم ونسف المنازل.

20-

إبعاد المواطنين خارج فلسطين (إخراجهم من أرضهم وديارهم..)[راجع الكتاب المذكور من صفحة 327، 376 وقد حاولت أن أسجل للقارئ صورا مختصرة جدا مع شيء من التصرف] .

وبمناسبة ذكر إبعاد المواطنين عن ديارهم وأرضهم، فإن المناسب ذكر حادثة حصلت هذه الأيام، وهي حادثة مؤلمة أمام سمع العالم وبصره، وأمام سمع العالم الإسلامي وبصره، وأمام من يسمى بالعالم العربي وبصره.

وخلاصتها:

ص: 246

أن شباب الجهاد (المنتمين إلى منظمة حماس) اختطفوا جنديا يهوديا في الأرض التي احتلها اليهود سنة 1948م وطالبوا بالإفراج عن زعيمهم المقعد المحكوم عليه بالسجن الأستاذ أحمد ياسين مقابل الإفراج عن الجندي اليهودي وحددوا وقتا معينا لدولة اليهود وإذا لم يفرجوا عن الزعيم المسلم فإنهم سيقتلون الجندي اليهودي، وبعد مضي المدة المحددة بفترة قتلوه ووجدت القوات اليهودية القتيل في الضفة الغربية مقتولا فطارت طائرتهم بعد أن حملوا حملة اعتقالات وداهموا المدن والقرى والمنازل وقتلوا عددا من شباب فلسطين وجرحوهم قبل العثور على جثة القتيل.

أما بعد ذلك فقد أضاف اليهود إلى قسوتهم قسوة أشد فأخذوا آلافا من منازلهم وزجوا بهم في السجون والمعتقلات واختاروا أربعمائة وخمسة عشر من خيرة رجال الدعوة والجهاد من ذوي المؤهلات العلمية من حملة الدكتوراه والماجستير والليسانس من معلمين وأطباء ومهندسين وكتاب وعلماء شريعة وحملوهم في شاحنات معصوبي الأعين وتعاونت الحكومة اليهودية والمحكمة العليا اليهودية فأصدرت هذه حكمها القاسي الظالم وطرد العدد المذكور ونفذت تلك المحكمة اليهودية الظالمة هذا الحكم الجائر!

ص: 247

وفي الحدود بين ما يسمى بالشريط الأمني الذي اغتصبته الدولة اليهودية من لبنان وبين الحدود اللبنانية، أنزلوا المظلومين وأطلقوا فوق رؤوسهم النار ليدخلوا الأراضي اللبنانية، واستقبلهم الجنود اللبنانيون بالنار من الجهة اللبنانية، فإذا هم على قمة جبل تتساقط عليه الثلوج وهم في العراء في الشتاء القارص، لا طعام، ولا شراب ولا مأوى، ولا غطاء ولا دواء، وكان ذلك في يوم الخميس الموافق لـ23من شهر جمادى الآخرة سنة 1413هـ- 17ديسمبر سنة 1992م، وتمكن الصليب الأحمر في الأيام الأولى من مساعدتهم بعدد من الخيام والأغطية والطعام والماء والدواء، ثم تآمر اليهود من الجنوب، والنصارى والعلمانيون من الشمال، على منع أي مساعدات لهم عن طريق أهليهم أو الصليب الأحمر، لا من فلسطين المغتصبة، ولا من لبنان، بحجة أن كل دولة منهما ليست مسؤولة عنهم، أما اليهود فلا يريدون الاعتراف بأن لهم أي حق في المساعدة التي تأتيهم من دولتهم، لأنهم قد أبعدوا إلى خارجها، وأما اللبنانيون فيريدون أن لا يتحملوا تصرفات حكومة اليهود، ويزعمون أن في ذلك ضغطا على اليهود لإعادتهم، فانقطع عنهم كل شيء في ذلك الجبل وفشت في بعضهم الأمراض وصورهم المحزنة

ص: 248

تنقل للعالم كله عبر التلفاز، وأصدر مجلس الأمن الأمريكي الذي يُزْعَم له بأنه تابع لهيئة الأمم المتحدة قرارا يدين الدولة اليهودية ويطلب منها إعادة النظر في قرارها، وبعث النصراني المتعصب الحاقد على الإسلام والمسلمين بطرس غالي أمين عام هيئة الأمم المتحدة مندوبا عنه إلى دولة اليهود ودولة لبنان للإذن بإسعاف المظلومين، الذين يطلقون عليهم كلمة مبعدين، ولكن كلتا الدولتين ردته على عقبه خائبا وهو يوالي ضحكاته في اجتماعاته مع اليهود واللبنانيين وكأنه بعث لحضور عرس وليس لإنقاذ نفوس.

وها أنا أكتب هذه الصفحات في يوم الثلاثاء الموافق 5 من شهر رجب سنة 1413هـ- وهم على حالهم من الجوع والعطش والبرد والمرض وقد مضت عليهم اثنتا عشرة ليلة على تلك الحال، والعالم يتفرج والمسلمون يتفرجون والعرب يتفرجون!.

فهل من قسوة فوق هذه القسوة اليهودية، وهل يمكن أن تكون في قلوب أعداء الله وأعداء رسله رحمة بعد هذه الأعمال (1) ؟!

وقد اضطرت الدولة اليهودية المُغتَصِبَة إلى قبول عودتهم، لكثرة الاحتجاجات العالمية، وزجت بكثير منهم في السجون بعد أشهر من الإبعاد والحرمان من أي حق يستحقه أي حيوان في الأرض!

(1) هذه الحادثة لا تحتاج إلى ذكر مرجع، ويكفي أن يعرف القارئ التاريخ ثم يضع يده على أي جريدة أو مجلة في أي بلد وبأي لغة ليقرأ تفاصيل القصة، والذي يشاهد التلفاز لا يحتاج إلى قراءة، والذي سيقرأ القصة في المستقبل يستطيع البحث عن شريط فيديو ليرى ما رأينا.

ص: 249

هؤلاء هم اليهود وهذا فعلهم بذراري من آووهم وحموهم، وفتحوا لهم أبواب الاقتصاد والعلم والسياسة والحرية العقدية والعبادية من المسلمين، عندما كان النصارى يتتبعونهم ويضطهدونهم، وينزلون بهم أنواع النكال فيجازون الآن أبناء المسلمين الذين أحسنوا إليهم كما يجزى سنمار [راجع كتاب: خطر اليهودية العالمية على الإسلام والمسيحية لعبد الله التل لمعرفة ما واجهه اليهود من مطاردة وقتل وتشريد في الدول الأوروبية، وبخاصة بريطانيا وفرنسا وأسبانيا وألمانيا وغيرها كبولندا وإيطاليا ورومانيا وبلغاريا وسويسرا وهنغاريا، وفي روسيا أيضا، كل ذلك بسبب ما عرفه العالم من مكر اليهود وخبثهم ومحاولتهم السيطرة على غيرهم واستعباد الشعوب. ولم يجد اليهود من يجمعهم ويرعاهم ويحسن إليهم إلا المسلمون في أسبانيا ثم في البلدان الإسلامية في الشرق راجع الكتاب المذكور من ص 106-120. دار القلم الطبعة الثانية] .

ص: 250

وكان ينبغي أن يعتبر اليهود بما نالهم من عذاب وقسوة من عهد فرعون إلى عصرنا هذا، ويقدروا صفة الرحمة التي كانوا في أمس الحاجة إلى من يعاملهم بها فيدربوا أنفسهم على اكتسابها -وإن كانت مفقودة في قلوبهم- ولكنهم لم يعتبروا، بل لا زالت قلوبهم تقسو وتزداد غلظة كلما زادت قوتهم وسيطرتهم.

كانت كتابة هذه السطور قبل تسع سنين. وقد اشتدت المحنة على إخواننا الفلسطينيين، بعد قيام الحركة الجهادية الثانية -حركة الأقصى- التي أشعل فتيلها المجرم شارون، عندما دنس بدخوله باحة الأقصى بحماية الجيش اليهودي، بتاريخ1 / 7 / 1421هـ ـ 28 / 9 / 2000م قبل أن يكون رئيسا للوزراء، وهو اليوم [بعد أن أصبح رئيسا للوزراء] يعيث في الأرض المباركة فسادا لا يخفى على أهل الأرض جميعا، بعون ومدد من الدولة الصليبية المعاصرة [أمريكا] وحلفائها الأوروبيين، مع خذلان زعماء العالم الإسلامي، وبخاصة زعماء العرب للمظلومين من أبناء هذا الشعب المجاهد المسلم، وكأن الأمر لا يعني هؤلاء الزعماء، الذين سيتفرغ لهم اليهود بعد القضاء على الشعب الفلسطيني وتشريده من أرضه [نرجو الله ألَاّ يحصل ذلك] وسيقول كل زعيم عندئذ: أكلت يوم أكل الثور الأبيض!

ص: 251

هؤلاء هم اليهود، فما نصيب النصارى من الرحمة؟!

النموذج الثاني: قساة النصارى في العصور الماضية.

من الصعب جدا تتبع الأمثلة الدالة على أن الرحمة قد نزعت من قلوب زعماء النصارى وكثير من مفكريهم، وأن القسوة والغلظة والوحشية قد حلت محلها، ويكفي المرء دليلا على ذلك أن يتتبع ممارساتهم في هذا العصر، في مشارق الأرض ومغاربها، عن طريق أجهزة إعلام النصارى أنفسهم -وما يخفونه أكبر- وبخاصة ما يسومون به المسلمين من قتل وتشريد وظلم متعمد.

وسأكتفي بمثالين بارزين قديمين دالين على قسوة كثير من النصارى ووحشيتهم وغلظ قلوبهم وخلو قلوبهم تلك من الرحمة، قبل أن أنتقل إلى ذكر بعض الأمثلة المعاصرة الدالة على ذلك.

المثال الأول:

معاملة النصارى في الأندلس للمسلمين الذين أسسوا في بلادهم -عندما فتحوها- حضارة لم تعهدها أوروبا ولا غيرها من بلاد العالم، حتى أشرقت أنوار تلك الحضارة على أوروبا، وكانت هي منطلق التقدم المادي الذي نشاهده الآن في الغرب، ولو أن أهل الغرب أخذوا بتوجيه المنهج الإسلامي كله، لكانوا حملة راية الإسلام وقادة المسلمين في العالم كله.

وشهد شاهد من أهلها.

ص: 252

وسأنقل نصا فيه شيء من الطول لهذا المثال، من كتاب لمؤلف غربي حتى ينطبق عليه المثل القرآني السائر:{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف: 26] .

ص: 253

قال غوستاف لوبون: (وعاهد فرديناند -نصراني أسباني كاثوليكي استولى على آخر مملكة إسلامية وهي غرناطة سنة 1492م- العرب على منحهم حرية التدين واللغة، ولكنه في سنة 1499م، لم تكد تحل حتى حل بالعرب دور الاضطهاد والتعذيب الذي دام قرونا، والذي لم ينته إلا بطرد العرب من إسبانيا، وكان تعميد العرب كرها فاتحة ذلك الدور، ثم صارت محاكم التفتيش تأمر بإحراق كثير من المعمدين على أنهم من النصارى، ولم تتم عملية التطهر بالنار إلا بالتدريج، لتعذر إحراق الملايين من العرب دفعة واحدة، ونصح كردينال طليطلة التقي! الذي كان رئيسا لمحاكم التفتيش، بقطع رؤوس جميع من لم يتنصر من العرب رجالا ونساء وشيوخا وولدانا، ولم ير الراهب الدومينيكي " بليدا " الكفاية في ذلك، فأشار بضرب رقاب من تنصر من العرب، ومن بقي على دينه منهم، وحجته في ذلك أن من المستحيل معرفة صدق إيمان من تنصر من العرب، فمن المستحب إذن قتل جميع العرب بحد السيف، لكي يحكم الرب بينهم في الحياة الأخرى ويُدخِل النار من لم يكن صادق النصرانية منهم، ولم تر الحكومة الأسبانية أن تعمل بما أشار به هذا الدومينيكي الذي أيده الأكليروس في رأيه، لما قد يبديه الضحايا من

ص: 254

مقاومة، وإنما أمرت في سنة 1610م بإجلاء العرب عن أسبانيا، فقتل أكثر مهاجري العرب في الطريق، وأبدى ذلك الراهب البارع " بليدا " ارتياحه لقتل ثلاثة أرباع هؤلاء المهاجرين في أثناء هجرتهم، وهو الذي قتل مائة ألف مهاجر من قافلة واحدة، كانت مؤلفة من أربعين ومائة ألف مهاجر (140000) مسلم حينما كانت متجهة إلى أفريقيا.

وخسرت أسبانيا بذلك مليون مسلم من رعاياها في بضعة أشهر، ويقدر كثير من العلماء -ومنهم " سيديو "- عدد المسلمين الذين خسرتهم أسبانيا منذ أن فتح " فرديناند " غرناطة حتى إجلائهم الأخير بثلاثة ملايين، ولا تعد ملحمة سان باتلمي إزاء تلك المذابح سوى حادث تافه لا يؤبه له.

ولا يسعنا سوى الاعتراف بأننا لم نجد بين وحوش الفاتحين من يؤاخذ على اقترافه مظالم قتل كتلك التي اقترفت ضد المسلمين.

ومما يرثى له أن حرمت إسبانيا عمدا هؤلاء الملايين الثلاثة الذين كانت لهم إمامة السكان الثقافية.. والصناعية..

ص: 255

وسيرى القارئ في الفصل الذي خصصناه للبحث في وارثي العرب مقدار الانحطاط الذي أسفر عن إبادة العرب، وإذا كنت قد أشرت إلى هذا هنا فلأن شأن العرب المدني لم يبد في قطر ملكوه كما أبيد في أسبانيا، التي لم تكن ذات حضارة تذكر قبل الفتح العربي، فصارت ذات حضارة ناضرة في زمن العرب، ثم هبطت إلى الدرك الأسفل من الانحطاط بعد جلاء العرب، وهذا مثال بارز على ما يمكن أن يتفق لعرق من التأثير

) [كتاب حضارة العرب، للدكتور غوستاف لوبون، ترجمة عادل زعيتر، الطبعة الرابعة ص 270، 272 وراجع الفصل الذي يليه لمعرفة أثر الحضارة الإسلامية في أوروبا] ..

المثال الثاني:

ومما يدل على قسوة كثير من النصارى ووحشيتهم وخلو قلوبهم من الرحمة، ما عاملوا به المسلمين في بعض الحروب الصليبية.

وأنقل في ذلك نصا فيه شيء من الطول كذلك لنفس الكاتب: " غوستاف لوبون " الذي قال:

(ويدل سلوك الصليبيين في جميع المعارك على أنهم من أشد الوحوش حماقة، فقد كانوا لا يفرقون بين الحلفاء والأعداء، والأهلين الْعُزل والمحاربين، والنساء والشيوخ والأطفال، وقد كانوا يقتلون وينهبون على غير هدى.

ص: 256

ونرى في كل صفحة من الكتب التي ألفها النصارى في ذلك الزمن براهين على توحش الصليبيين، ويكفي لبيان ذلك أن ننقل الخبر الآتي الذي رواه الشاهد الراهب " روبرت " عن سلوك الصليبيين الحربية [الصواب أن يقال:(الحربي) لأنه نعت حقيقي لسلوك، وهو مفرد، ونعت المفرد يكون مفردا] . وذلك بالإضافة إلى ما حدث حين الاستيلاء على القدس.

قال المؤرخ الراهب التقي! روبرت:

" وكان قومنا يجوبون الشوارع والميادين وسطوح البيوت، ليرووا غليلهم من التقتيل، وذلك كاللبؤات التي خطفت صغارها، وكانوا يذبحون الأولاد والشبان والشيوخ ويقطعونهم إرْبا إرْبا، وكانوا لا يستبقون إنسانا، وكانوا يشنقون أناسا كثيرين بحبل واحد بغية السرعة، فيا للعجب ويا للغرابة أن تذبح تلك الجماعة الكبيرة المسلحة بأمضى سلاح من غير أن تقاوم! [يبدو أنه يستبعد أن يكون هؤلاء الضحايا مسلحين، لأنهم لو كانوا مسلحين لدافعوا عن أنفسهم.]

ص: 257

وكان قومنا يقبضون على كل شيء يجدونه، فيبقرون بطون الموتى، ليخرجوا منها قطعا ذهبية، فيا للشره وحب الذهب! وكانت الدماء تسيل كالأنهار في طرق المدينة المغطاة بالجثث فيا لتلك الشعوب العمي المعدة للقتل! ولم يكن بين تلك الجماعة الكبرى واحد ليرضى بالنصرانية دينا، ثم أحضر " بوهيموند " جميع الذين أعتقلهم في برج القصر، وأمر بضرب رقاب عجائزهم وشيوخهم وضعفائهم، وبسوق فتيانهم وكهولهم إلى أنطاكية لكي يباعوا فيها

". إلى أن قال:

"وكان سلوك الصليبيين حين دخلوا القدس غير سلوك الخليفة عمر بن الخطاب نحو النصارى حين دخلها منذ بضعة قرون، قال كاهن مدينة "لوبوي" " ريموند داجي ": حدث ما هو عجب بيد العرب عندما استولى قومنا على أسوار القدس وبروجها، فقد قطعت رؤوس بعضهم. فكان هذا أقل ما يمكن أن يصيبهم (!) وبقرت بطون بعضهم فكانوا يضطرون إلى القذف بأنفسهم من على الأسوار، وحرق بعضهم في النار، فكان ذلك بعد عذاب طويل، وكان لا يرى في شوارع القدس وميادينها سوى أكداس من رؤوس العرب وأيديهم وأرجلهم، فلا يمر المرء إلا على جثث قتلاهم، ولكن كل هذا لم يكن سوى بعض ما نالوا

".

ص: 258

وروى ذلك الكاهن الحليم خبر ذبح عشرة آلاف مسلم في مسجد عمر، فعرض الوصف اللطيف الآتي:

" لقد أفرط قومنا في سفك الدماء في هيكل سليمان، وكانت جثث القتلى تعوم في الساحة هنا وهناك، وكانت الأيدي والأذرع المبتورة تسبح كأنها تريد أن تتصل بجثث غريبة عنها، فإذا ما اتصلت ذراع بجسم لم يعرف أصلها، وكان الجنود الذي أحدثوا تلك الملحمة لا يطيقون رائحة البخار المنبعثة من ذلك إلا بمشقة

" [المرجع السابق: ص325، 327] .

قسوة النصارى ووحشيتهم في هذا العصر.

ص: 259

أما الأمثلة على قساوة قلوب النصارى وغلظتهم ووحشيتهم في هذا العصر وبخاصة على المسلمين، فالكرة الأرضية كلها تشهد بها وتئن من وطئتها، وساكنو هذا الكوكب يقرؤون ذلك ويسمعونه ويشاهدونه في كل مكان [لا نريد الحديث عن الفظائع التي ارتكبها النصارى في القارات التي احتلوها بالكامل وقضوا على سكانها بدون رحمة وجعلوا من بقي منهم ذليلا مهانا أقل عندهم من رتبة الحيوان، كما هو الحال في أمريكا الشمالية والجنوبية وأستراليا، ولا الحديث عن تجارة الرقيق التي عمت أقطار أفريقيا وأسهمت فيها كل دول النصارى فهذا أمر يطول (راجع كتاب أفريقيا الإسلامية للدكتورة عنايات الطحاوي ص 231) ] ..

فقد عاثت الدول النصرانية فسادا، اعتدت فيه على ما اتفقت الأمم على وجوب حفظه، من الضرورات التي لا تحيا تلك الأمم إلا بحفظها، وهي: النفوس والعقول والنسل والمال -إضافة إلى الدين- ومن أمثلة ذلك:

أولا: في القارة الأفريقية:

ص: 260

فقد تداعت دول أوروبا النصرانية على البلدان الأفريقية، في شمالها وجنوبها وشرقها وغربها ووسطها، وتقاسموها فيما بينهم -على شدة الاختلافات السائدة بينهم- وأنزلوا بسكانها من الدمار والهلاك ما تتورع عنه الوحوش في غاباتها، قضوا في كل بلد على زعمائه وقادته وسفكوا دماء الآلاف من أبنائه، بدون تفرقة بين الرجال والنساء، والشيوخ والكهول والشباب والأطفال، وشردوا الآلاف المؤلفة، وحرموا من بقي في البلاد من أقل حقوق الإنسان التي يتشدق النصارى بالدعوة إليها، فأذلوا بذلك سكان البلدان الأفريقية كلهم واستعبدوهم ونهبوا خيراتهم، كل ذلك باسم الاستعمار والتحرير.

في شمال أفريقيا:

فقد نقل الأمير شكيب أرسلان عن بعض المراسلين الأوروبيين الذين رافقوا الجيوش الإيطالية عندما اغتصبت ليبيا شيئا يسيرا مما ذكره أولئك المراسلون وشاهدوه من أعمال غزاة النصارى الوحشية، فقال:

ص: 261

(وليس المسلمون وحدهم هم الذين شاهدوا أعمال الطليان وضجوا منها، بل ثمة كثير من الإفرنج شاهدوها وأنكروها، ومن ذلك المستر " فرانسس ماكولا " الإنجليزي الذي كان مرافقا للجيش الإيطالي في طرابلس عند الاحتلال وشاهد تلك الفظائع بعينه، فقد قال: "أبيت البقاء مع جيش لا هم له إلا ارتكاب جرائم القتل، وإن ما رأيته من المذابح، وترك النساء المريضات العربيات وأولادهن يعالجون سكرات الموت على قارعة الطريق جعلني أكتب للجنرال " كانيفا " كتابا شديد اللهجة، قلت له: إني أرفض البقاء مع جيش لا أعده جيشا، بل عصابة من قطاع الطرق والقتلة) .

(ومن ذلك شهادة الكاتب الألماني " فون غوتبرغ " الذي قال: " إنه لم يفعل جيش بعدوه من أنواع الغدر ما فعله الطليان في طرابلس، فقد كان الجنرال كانيفا يستهين بكل قانون حربي، ويأمر بقتل جميع الأسرى، سواء قبض عليهم في الحرب أو في بيوتهم، وفي سيراكوزه الآن كثير من الأسرى الذين لم يؤسر واحد منهم في الحرب، وأكثرهم من الجنود الذين تركوا في مستشفى طرابلس.

وقد قبض الطليان على ألوف من أهل طرابلس في بيوتهم ونفوهم -بدون أدنى مسوغ- إلى جزر إيطاليا حيث مات أكثرهم من سوء المعاملة.

ص: 262

وأقر ما قاله " هرمان رنولوف " المراسل النمساوي الحربي فقد وجد في الباخرة التي نقلت جانبا من هؤلاء الأسرى فوصف تلك الحالة، فقال:

" في الساعة السادسة من مساء كل يوم يكبل هؤلاء المرضى بالحديد في اليد اليمنى والرجل اليسرى، حقا إن موسيقى هذه السلاسل تتفق مع المدنية التي نقلتها إيطاليا إلى أفريقيا، لا ريب أن الطليان قد أهانوا كثيرا، فلم يكف أنهم أسقطوا منزلة أوروبا العسكرية في نظر أفريقيا، حتى شوهوا اسم النصرانية أمام الإسلام "ثم قال:" وقد قتل الطليان في غير ميدان الحرب كل عربي زاد عمره على أربع عشرة سنة، ومنهم من اكتفوا بنفيه.

وأحرق الطليان في 26 أكتوبر سنة 1911م حيا خلف بنك روما، بعد أن ذبحوا أكثر سكانه بينهم النساء والشيوخ والأطفال "قال:" ورجوت طبيبين عسكريين من أطباء المستشفى أن ينقلوا بعض المرضى والمصابين المطروحين على الأرض تحت حرارة الشمس فلم يفعلا، فلجأت إلى راهب من كبار جمعية الصليب الأحمر، هو الأب " يوسف بافيلاكو " وعرضت عليه الأمر، وأخبرت شابا فرنسيا أيضا، لكن الأب " بافيلاكو " حول نظره عني ونصح الشاب بأن لا يزعج نفسه بشأن عربي في سكرات الموت، وقال: "دعه يموت".

ص: 263

قلت (القائل هو الأمير أرسلان) : "ليتأمل القارئ أن هذا الذي يقول هذا القول هو قسيس يزعم أنه ممثل المسيح على الأرض، وأنه من رجال الصليب الأحمر، أي الجمعية التي تزعم أنها تخدم الإنسانية بلا استثناء" ثم قال هذا المراسل النمساوي: "ورأيت على مسافة قريبة جنديا إيطاليا يرفس جثة عربي برجله، وصباح اليوم التالي وجدت الجرحى والمرضى الذين رجوت الراهب من أجلهم قد ماتوا

" ثم قال: "رأينا طائفة من الجنود تطوف الشوارع مفرغة رصاص مسدساتها في قلب كل عربي تجده في طريقها، قد نزع أكثرهم معاطفهم، ورفعوا أكمام قمصانهم كأنهم جزارون......"

وقال مراسل التايمز يومئذٍ -قلت [القائل هو شكيب أرسلان] : ولا يجوز أن ننسى أن غارة إيطاليا على طرابلس كانت بالاتفاق مع فرنسا وإنجلترا، استرضاء لإيطاليا على إثر تقاسم إنكلترا وفرنسا مصر والمغرب-:"إن قسوة الانتقام التي استعملها الطليان في وقعة يوم الاثنين يليق أن يقال عنها إنها أعمال قتل عام، فقد فتكوا بكثير من الأبرياء، وستبقى ذكرى هذا الانتقام زمنا طويلا".

ص: 264

وقال المسي كسيرا مراسل جريدة " إكسليسيور" الباريسية:" لا يخطر ببال أحد ما رأيناه بأعيننا من مشاهد القتل العام ومن أكوام جثث الشيوخ والنساء والأطفال، يتصاعد منها الدخان تحت ملابسهم الصوفية كالبخور يحرق أمام مذبح من مذابح النصر الباهر، ومررت بمائة جثة بجانب حائط قضي عليهم بأشكال مختلفة.

وما فررت من هذا المنظر حتى تمثلت أمام عيني عائلة عربية قتلت عن آخرها، وهي تستعد للطعام، ورأيت طفلة صغيرة أدخلت رأسها في صندوق حتى لا ترى ما يحل بها وبأهلها. إن الإيطاليين فقدوا عقولهم وإنسانيتهم من كل وجه"....) [حاضر العالم الإسلامي (264-128) ذكر فيها الأمير شكيب أرسلان من الفظائع الوحشية التي قام بها النصارى الإيطاليون ما لا يكاد يصدقه العقل فراجع ذلك إن شئت والتاريخ الإسلامي (14 / 24) ] ..

هذه نصوص مختزلة لبعض المراسلين الأوروبيين عن وحشية النصارى وقساوة قلوبهم وخلوها من الرحمة، في بلد واحد وهو ليبيا ومن جيش بلد أوروبي نصراني واحد، هو الجيش الإيطالي برضا الدول النصرانية الأخرى في أوروبا، وهو مثال ينطبق على كل البلدان التي اغتصبها النصارى في أفريقيا -وغيرها.

ص: 265

والعالم كله يعرف غلظة النصارى الفرنسيين وقسوتهم ووحشيتهم التي عاملوا بها الشعب الجزائري الذي قدم مليون شهيد في سبيل إزاحة نير أولئك القساة من على كاهله، مع إهانة مقدساته والاعتداء على مساجده، التي حولوها إلى كنائس ودنسوها بالشرك بدلا من التوحيد الذي كان يعمرها [راجع كتاب: الاستعمار أحقاد وأطماع للأستاذ محمد الغزالي ص37. وراجع كذلك التاريخ الإسلامي 14 / 229 وما بعدها لمحمود شاكر.] .

وحدث عن قسوة النصارى واليهود مجتمعين على المسلمين اجتماعا مباشرا، كما حصل من بريطانيا وفرنسا ودولة اليهود على مصر المسلمة، ولا حرج.

واقرأ السطور القليلة الآتية التي سطرها الشيخ محمد الغزالي رحمه الله عن العدوان الثلاثي على مصر سنة:

قال: "وإني ساعة كتابة هذه السطور أستمع إلى رواية شاهد عيان يصف غزو الحلفاء الثلاثة: إنجلترا وفرنسا وإسرائيل لمدينة "بور سعيد" قال: بذل الأهلون قصاراهم في رد الجنود الهابطين بالمظلات، واستطاعوا مغالبة الأفواج الأولى منهم، بيد أنهم بوغتوا بمئات الطائرات ترجم المدينة بقذائفها الحارقة، وكان الأفق مليئا بهذه الأسراب المغيرة، تغدو وتروح، وهي تفرغ الهلاك في كل مكان!

ص: 266

خمسمائة غارة في هذا اليوم الأغبر -كما نطقت بذلك بلاغات العدو- وانضمت سفن الأسطول إلى هذا الهجوم، فأخذت تطلق مدافعها على المدينة اللاغبة، فرئيت القصور والنار تخرج من نوافذها، ثم ما هي إلا لحظات حتى تندك فوق رؤوس ساكنيها.

وسرى الرعب إلى الحيوانات التي تقطن المدينة، فانسابت تجري في مراعيها على غير هدى، غير أن الرصاص المنهمر لا يدعها تصل إلى مهرب، فأين المهرب للإنسان والحيوان في هذا البلاء المحيط؟ ولذلك تجاورت في الميادين والأزقة جثة كلب شارد وإنسان بائس

وكانت الجثث المتناثرة كأوراق الشجر الساقطة في فصل الخريف، تكسو الأرض المخضبة في منظر يثير اللوعة وأحيانا تجد كوما من الموتى وقع بعضهم على بعض فتتساءل: أُركِموا هكذا بفعل فاعل؟

لله كم هي رخيصة دماء أولئك المسلمين؟! [الاستعمار أحقاد وأطماع ص 130، 131] .

أما ما فعله الاستعمار الفرنسي ثم الاستعمار الإنجليزي في مصر فله شأن آخر وكذلك في السودان. [راجع شيئا من فظائع الفرنسيين في مصر في نفس الكتاب ص 152، 169] .

في شرق أفريقيا:

ص: 267

ولا يختلف ظلم النصارى الأحباش، وبخاصة في عهد الطاغية هيلاسلاسي، عن ظلم النصارى الأوروبيين للمسلمين وقسوتهم، إلا في أن ظلم نصارى الحبشة وقهرهم للمسلمين مستمر طويل لأنه صادر من قساة قلوب حاكمين من أهل البلاد أنفسهم، أما الأوروبيون فاغتصابهم للبلاد طارئ، ومقاومة الطارئ مهما عتا وتجبر أخف من مقاومة طاغ أصيل في البلاد، يمكنه أن ينال عون الظالم الأجنبي الطارئ، كما حصل لوحش الحبشة الذي أيدته جميع الدول النصرانية في الغرب لإنزال الضربات القاسية على المسلمين قتلا وتشريدا وإذلالا واعتداء على كل ضرورات الحياة، هذا مع أن نسبة المسلمين في البلاد تفوق نسبة غيرهم، ولكن عدوهم ينكر ذلك ويدعي العكس، وتعدت قسوتهم حدود الحبشة إلى الأوغادين الصومالية.

فكم قتلوا من النفوس وكم هدموا من القرى وكم شردوا من البشر [اقرأ في ذلك المرجع السابق من ص71، 106] .

أما "إريتريا" المسلمة فقد دمروها وأحرقوها حرقا وأبادوا شعبها إبادة جماعية، برغم مقاومتها الباسلة.

ص: 268

يقول هارون آدم علي: " تمكنت حركة الكفاح المسلح للشعب الإريتري في الفترة من 1381هـ-1386هـ من تصعيد عملياتها الجهادية بأسلوب حرب العصابات، حتى استطاعت استقطاب الجماهير في الريف الإريتري، وأصبحت عملياتها العسكرية تقض مضاجع الاستعمار الأثيوبي

(و) جن جنون الإمبراطور هيلاسلاسي، فأمر قواته بالزحف على الريف الإريتري معقل الثوار برا وجوا للقضاء على اليابس والأخضر، دون تمييز بين الثوار والشعب الأعزل من النساء والأطفال، بل أمر جنوده بإبادة ما يصادفونه من المواطنين بالرصاص وإضرام النار في المنازل، حيث عمت البلاد في عام 1387هـ سلسلة من المجازر البشرية ما تفوق في قسوتها مجازر دير ياسين بفلسطين وشارب بفيل في جنوب أفريقيا، إذ سقط خلال عدة شهور من القصف الجوي الأثيوبي أكثر من 60 ألف مواطن، جلهم من النساء والأطفال والكهول، ودمرت أكثر من 1500 قرية، وقتل ما يقارب المليون رأس من الثروة الحيوانية، بالإضافة لانتهاك الحرمات وعمليات النهب والسلب والتدمير التي مارستها قوات الاحتلال الأثيوبي ضد الشعب الإريتري

" [واقرأ كذلك: الأفعى اليهودية في معاقل الإسلام ص 178، 184] .

ص: 269

ولا زال المسلمون في إريتريا يعانون عنتا من النصارى، وبخاصة بعد استيلاء الحزب النصراني على البلاد الآن، بقيادة أسياسي أفورقي الذي ارتمى في أحضان اليهود وأنزل من الأذى والتشريد بالمسلمين ما يندى له الجبين.

ولعل هذه النماذج لقسوة النصارى في شمال أفريقيا وشرقها كافية لليقين بأن هؤلاء الأجلاف العتاة الذين يزعمون التمدن وحماية حقوق الإنسان وإعمار الأرض وتحضير الناس والارتقاء بهم قد نزعت الرحمة من قلوبهم.

ص: 270

ولا داعي لزيادة ذكر نماذج في بقية بلدان أفريقيا في غربها ووسطها وجنوبها، فالنماذج متقاربة، ولكن يضاف إلى أعمال الغاصبين الأوروبيين في غرب أفريقيا ووسطها، أنهم اتخذوا الجنس البشري بضاعة مزجاة، إذ كانوا يصطادون أهل البلاد رجالا ونساء وصغارا وكبارا بأعداد هائلة ويملئون بهم السفن التي تبحر بهم إلى بلدان أوروبا وأمريكا، ليبيعوهم عبيدا بأبخس الأثمان، حيث يستعبدهم الجنس الأبيض ويرهقهم بالأعمال الشاقة، ليجود عليهم بلقمة العيش التي يبقون بها أحياء يكدون ويكدحون في المزارع والمصانع، ويعاملونهم معاملة أدنى من معاملة الحيوان، فلا يساكنونهم ولا يؤاكلونهم ولا يشاربونهم، ولا يسمحون لهم أن يلبسوا مثل لباسهم، ولا يركبوا مركوباتهم، ولا يأذنون لهم بتلقي التعليم مثلهم، وعندما انفرج الأمر قليلا أذن لهم بالتعليم في مدارس خاصة بهم لا يختلطون بالبيض في مدارسهم.

وكان كثيرا من هؤلاء الأفارقة مسلمين.

ولم تلغ التفرقة العنصرية البغيضة قانونا إلا بعد كفاح مرير ومعاناة شديدة مروا بها.

ص: 271

ولا زال الاحتقار عمليا موجودا ضد الأفارقة في أمريكا، وكان أول حصن يحتمون به من تلك التفرقة العنصرية ويكافحون الجنس الأبيض انطلاقا منه، هو الإسلام الذي اعتنقه أليجا محمد من أجل تحرير قومه من ذلك الظلم الغاشم، وكان فهمه للإسلام فهما منحرفا، وبعد وفاته خلفه ابنه وارث الدين الذي بدأ يتفهم الإسلام شيئا فشيئا بسبب زياراته للحرمين ولقائه العلماء في الحجاز واتصاله بالمسلمين العرب وغيرهم به في أمريكا حتى تخلص من مفاهيم والده الخطيرة للإسلام.

وأصبح هو وقومه الآن أقرب إلى فهم الإسلام، وبذلك أصبحت عندهم عزة وبدأ الأمريكيون يحترمونهم.

قسوة النصارى في آسيا:

قسوة الإنجليز على أهل فلسطين قبل أن تسلم أرضهم لليهود.

وقد ذكر نبذة مختصرة من ذلك الشيخ الغزالي، فقال:

ص: 272

(تفننت السلطة البريطانية في أساليب التعذيب ووسائله، واستخدمت العلم وأدواته لإنزال أشد ما يمكن من الألم بأهالي فلسطين، والتعذيب عندهم على نوعين: تعذيب فردي لإكراه الفرد على الاعتراف. وهو ما يجري عادة في سراديب تحت الأرض [وهو أسلوب متبع لدى كل من انتزعت الرحمة من قلبه حتى من المنتسبين إلى الإسلام، كما سيأتي.] وتعذيب عام يرتكب في الجماعات لإرهاب الأهلين وإرهاقهم، وهو ما يجري على ملأ من الناس في البيوت والطرق وساحات القرى في الليل والنهار.

التعذيب الفردي

[وهو أيضا أسلوب متبع يمارسه الآن اليهود في فلسطين والعلمانيون في بلاد المسلمين] .

1-

الزنزانة: وهي سجن ضيق لا يكاد يسع الإنسان، وطعام السجين كسرة صغيرة من الخبز الرديء مع قليل من الماء.

2-

الضرب، وهم يضربون الشخص بالسياط والأيدي والأرجل، حتى يغمى عليه، وتتورم الرجلان من كثرة الضرب، ثم يضعونه تحت صنابير الماء البارد زيادة في إيلامه.

3-

التهديد بالقتل، يخرجون المسدسات، ويصوبونها إلى وجهه، ويهددونه بإطلاقها عليه.

ص: 273

4-

الزجاج والمسامير، يكرهونه على السير فوق قطع من الزجاج والمسامير، ويكرهونه على القفز فوقها، فإذا توقف ضربوه بالسياط، فلا يزال يقوم ويقع والدم ينزف من رجليه ويديه وسائر جسمه، حتى يرتمي آخر الأمر منهوكا أو مغمى عليه، وينزعون ثيابه، ويضربونه بألواح من خشب فيها مسامير فيسيل دمه.

5-

أو يجلسونه على خشبة خازوق ويربطون في رجليه أثقالا من أكياس الرمل، حتى يغمى عليه.

6-

أو يربطون إبهامي رجليه بسلك من الحديد، ثم يشدونه حتى تكاد إبهامه تنقطع.

7-

أو يربطون أعضاءه التناسلية برباط متصل بِبَكْرة من السقف، ثم يجذبون الحبل شيئا فشيئا حتى يغمى عليه، وكثيرا ما قطعوا عضوه التناسلي.

8-

تقطيع الأظافر والشعر بكلاليب خاصة، ويشدونه من شاربه ولحيته وينتفون شعره.

9-

صب الماء في الجوف، ويصبون الماء في فمه بواسطة قمع خاص، حتى يملئوا جوفه، وينتفخ كالقربة ويتألم أشد الألم.

10-

الكي بالنار، ويحمون أسياخ الحديد حتى تلتهب كالجمر، ثم ينخسونه بأطرافها، ويأتون بالمسامير المحماة بالنار ويغرسونها تحت أظافره.

ص: 274

11-

التعذيب بالكهرباء: يضعون في يديه جهازا كهربائيا ويسلطون عليه تيارا كهربائيا أقل قوة مما يكفي للموت فيرتعد ويضطرب ويختلج، ولا يستطيع أن يلقى الجهاز من يديه.

12-

الفعل الشنيع!.

13-

سلخ قدمي المعذب، وصب الزيت المغلي عليها، ونسف الرجال بالديناميت، كما حدث في قرية الزيت.

14-

ينقلونه إلى المستشفى، حتى إذا شفي أرجعوه إلى التعذيب ثانية.

15-

يخفون الشخص الذي يظهر عليه أثر التعذيب، وأحيانا يقتلونه، ليخفوا أثر الجريمة.

16-

التعذيب بالإغراق، يلقونه في البحر حتى يشرف على الغرق، لإكراهه على الاعتراف.

17-

المسكرات والمخدرات، يجرعونها للقرويين كرها يصبونها بحلوقهم، ويحقنونهم بالمورفين، ويسممونهم بالكوكايين والهروين، كما جرى مع رفاق الشهيد المرحوم الشيخ فرحان السعدي.

18-

يعدون سراديب خاصة للتعذيب في دائرة المباحث الجنائية بالقدس وغيرها، فلما يجيء دور الرجل المراد تعذيبه، يأخذونه إلى أقبية التعذيب، وهو معصوب العينين بعد منتصف الليل، وبعد إغمائه من الألم ينقلونه إلى مخفر البوليس، ثم إذا أفاق يعيدون به إلى أقبية التعذيب.

ص: 275

19-

يخفون المعذبين عن أهلهم وسائر الناس، لكي لا يمكنوا أحدا من زيارتهم أو معرفة مكانهم.

فإذا فرغوا من تعذيبهم وزال أثر التعذيب، نقلوهم إلى سجن القدس أو عكا أو معتقل المزرعة.

التعذيب العام.

عندما يعجز الجيش عن أن ينال من المجاهدين، ينقلب إلى الفلاحين المساكين الآمنين في بيوتهم ينتقم منهم، ويشفي صدره بتعذيبهم بالضرب الشديد بأعقاب البنادق والهراوات الغليظة بلا شفقة ولا رحمة، وبدون تفريق بين الصغار والكبار والرجال والنساء، يسمون هذا العمل عملية تفتيشية، ويرتكب خلالها من الفظائع أشكالا وألوانا، وكل القرى ذاقت فظاعة التفتيش، ويتخلله تخريب البيوت ونسفها بالديناميت، وإتلاف أمتعة الفلاحين ومؤنهم ونهب الحلي والأموال، وترويع النساء والأطفال، وقتل الآمنين على قارعة الطريق من رجال ونساء وأطفال [الاستعمار أحقاد وأطماع 280، 288.

ص: 276

وقد كانت هذه الأساليب من الإنجليز نواة لأساليب اليهود في فلسطين الآن، وها هم اليوم قد نفوا أكثر من أربعمائة من خيرة المسلمين في فلسطين إلى جبل في مرج الزهور في فصل الشتاء القارص بدون طعام ولا شراب ولا دواء ومر عليهم في هذا التعذيب الجماعي أكثر من شهر. راجع ما مضى في هذه القصة] .

قسوة الإنجليز على المسلمين في الهند.

عندما استولى الإنجليز على الهند وجهوا حقدهم على المسلمين إلى محاربتهم، وتحريض الهندوس والسيخ على الفتك بهم، بعد أن فتكوا هم بمن استطاعوا الفتك به منهم، والاستيلاء على أملاكهم وأراضيهم، وبعد أن أعلن الحاكم البريطاني:"أن العنصر الإسلامي في الهند هو عدو بريطانيا اللدود، وأن السياسة البريطانية يجب أن تهدف إلى تقريب العناصر الهندوكية لتساعدهم في القضاء على الخطر الذي يتهدد بريطانيا في هذه البلاد...."

ص: 277

" فاشتد الإنجليز في هجمتهم على المسلمين بعد إنهاء الثورة واستولوا على أراضيهم، ففقد المسلمون أملاكهم الواسعة ولم يبق لهم سوى 5% من أراضيهم التي كانوا يملكونها من قبل وسدت في وجوههم أبواب الرزق في الدواوين، وصودرت أملاكهم، وأخذ الإنجليز جانب الهندوس والسيخ وأطلقوهم يهزءون بالمسلمين وبدينهم، ويسومونهم سوء العذاب فكانت المذابح التي راح ضحيتها الآلاف من المسلمين

" لـ[حاضر العالم الإسلامي وقضاياه للدكتور جميل عبد الله المصري ص 397. دربت بريطانيا الهندوس على ارتكاب المذابح للمسلمين في الهند كما دربت اليهود -وهم في الأصل مُدَرِّبون- على ذلك بالنسبة للفلسطينيين] .

ص: 278

لقد اغتصب النصارى الأوروبيون عامة البلدان الأسيوية، وعاثوا فيها فسادا وقتلوا وشردوا ودمروا وأذلوا أهلها، وعاملوا المسلمين بالذات معاملات وحشية قاسية دلت على نزع الرحمة من قلوبهم من غرب آسيا إلى شرقها وجنوب شرقها، لا فرق بين إنجليزي وفرنسي وأسباني وبرتغالي وهولندي، وختموا أعمالهم في البلدان الإسلامية بإيجاد أحزاب متناحرة ودول متحاربة يكيد بعضها لبعض، وهم الآن يورون زناد المعارك بين الشعوب الإسلامية ويصنعون لهم السلاح الذي يقتل به بعضهم بعضا، ولكنهم يحجرون على الحكومات القائمة في الشعوب الإسلامية أن تقتني سلاحا متطورا يكون شبه هجومي، ويأذنون بذلك لأعداء المسلمين من اليهود في فلسطين والهند في جنوب القارة الهندية ليمكنوا الدولتين من السيطرة على الشعوب الإسلامية وضربها بشدة وبدون رحمة عند اللزوم.

قسوة نصارى الفلبين وغلظتهم على المسلمين.

ص: 279

تعرض المسلمون في الفلبين لحملة إبادة من نصارى أوروبا، ومن أمريكا -مؤخرا- ولا نحتاج للحديث عن ذلك، فقد عرفنا كيف نزعت الرحمة من قلوبهم في معاملتهم المسلمين في الأندلس، وفي الحروب الصليبية، وفي زمن اغتصابهم بلدان المسلمين في الشمال الأفريقي وشرقه، والقارة الأفريقية بصفة عامة والآن في البوسنة والهرسك.

والذي نريد الإشارة إليه هو ما قام به نصارى الفلبين أنفسهم في العصر الحاضر ضد المسلمين.

ص: 280

فقد تآمر ماركوس والرهبان والقسس في الفلبين -بإمداد من اليهود في فلسطين، ومن النصارى في الدول الغربية- على المسلمين وقرروا إبادتهم وأنشئت منظمة نصرانية إرهابية أطلق عليها:(إيلاجا) أي جماعة الفئران -على اعتبار أنها منظمة شعبية، والواقع أن ماركوس هو الذي أمدها وأيدها بكل الوسائل، بل يقال: إنه هو الذي أنشأها، وقد ارتكبت هذه المنظمة من الفظائع ما يترفع عنه وحوش الغاب، فطردت المسلمين من ديارهم وأرضهم، وأحرقت بيوتهم ومساجدهم ومزارعهم ومصاحفهم، وقتلوا علماءهم وأئمتهم، وهتكوا أعراض نسائهم ومثلوا بشهدائهم، حيث يقطعون رؤوس الأطفال وآذان الرجال وأثداء النساء، وينالون جوائز على هذا التمثيل من المنظمات السرية مقابل كل أذن أو رأس أو ثدي يحضرونه [راجع مجلة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، العدد الثالث من السنة الخامسة محرم سنة 1393هـ / فبراير 1973م ص 105 وما بعدها] ..

ص: 281

وعلم العالم كله بالمذابح والاعتداءات على المسلمين العُزْل، ولا زالت الاعتداءات مستمرة من قبل حكام الفلبين على المسلمين حتى كتابة هذه السطور [1422هـ ـ2001م] ، وأمامي رسائل من لجنة الإعلام التابعة "لجبهة تحرير مورو الإسلامية" تبين الحملات التي يقوم بها الجيش الفلبيني بين حين وآخر على المسلمين، وحشد قواته في جنوب الفلبين، ومحاصرة معسكر أبي بكر الصديق الذي يحتمي فيه الشيخ سلامت هاشم قائد الجبهة.

والمسلمون يستنجدون في هذه الرسائل، يطلبون أن يمدوا بالمؤن الغذائية والملابس والأغطية والأموال التي يؤمنون بها لأنفسهم سلاحا يدافعون به عن أنفسهم وأعراضهم [التقيت الشيخ سلامت هاشم في مقر قيادته وسجلت بعض المعلومات -كتابة- عن تاريخ جهادهم، كان ذلك في 2 صفر سنة 1410هـ] .

هؤلاء هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وهذه نتف قليلة جدا من حوادث قسوتهم، تكفي وحدها للدلالة على غلظ قلوبهم وخلوها من الرحمة وبخاصة على المسلمين.

ص: 282

وإذا كانوا بهذه الصفة وهم يسابقون بمبادئهم وأفكارهم الباطلة إلى العقول، فهل يرجى منهم -بكثرة أتباعهم واستيلائهم على العالم- إلا القسوة والغلظة والوحشية التي دمروا ولا زالوا يدمرون بها العالم.!

قسوة النصارى في أوروبا [المتحضرة!]

وفي قسوة النصارى الصرب على المسلمين في البوسنة والهرسك ما يكفي دلالة على وحشية النصارى وقسوتهم ونزع الرحمة من قلوبهم، وقد أنزل الصربيون -فيما كان يسمى بيوغوسلافيا- بالمسلمين في البوسنة والهرسك ما تتنزه عنه الحيوانات المتوحشة، من قتل ما يزيد على مائة وخمسين ألفا من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال، وذلك في أقل من سنة، وشردوا أكثر من مليونين من المسلمين، كثير منهم أطفال ونساء وشيوخ، يتلقف الأطفال منهم المؤسسات التنصيرية في أوروبا، لتحويلهم من الفطرة الإسلامية إلى الشرك النصراني وينتزعون من قلوبهم أغلى ما وهبه الله للمسلم وهو إيمانه.

ص: 283

واشتدت القسوة على هؤلاء اللاجئين أكثر بتفريق الأسر المسلمة في دولة أوروبية واحدة أو عدة دول: الأب في مكان، وأبناؤه في مكان آخر، والزوج في مكان، وزوجه في مكان آخر، وهكذا الإخوان والأخوات.. يضاف إلى ذلك معسكرات الاعتقال والتعذيب التي فاقت في الاعتداء على حقوق الإنسان المعسكرات النازية التي يندد بها الغرب ويبدي ويعيد في التنديد بها. يعذب القريب فيها أمام قريبه، ويقتل الأب أمام الابن والزوجة.

وأشد من ذلك وأنكى اغتصاب الوحوش المتمدنين في قارة حقوق الإنسان أكثر من خمسين ألف امرأة وفتاة مسلمة، بعض تلك الاغتصابات تقع أمام أعين أسرة الفتاة المغتصبة.

ص: 284

وهذا غير الحصار المستمر الذي يفرضه النصارى منذ ما يقارب العام على مدن المسلمين، وقراهم وقصف مرافقهم وهدم منازلهم عليهم، والحول بينهم وبين الإمداد والإغاثة بلقمة العيش والدواء والملبس والغطاء، في أشد أوقات البرد القاسي الذي قطعت على المسلمين فيه الكهرباء وكل وسائل التدفئة، حتى أنك ترى العجائز والصبيان يحاولون التماس الأخشاب في الشوارع وحملها إلى منازلهم من أجل الطبخ عليها والتدفئة، فيطلق عليهم النصارى قساة القلوب الرصاص ويُرْدُونهم قتلى أو جرحى تنزف منهم الدماء وتسيل، حتى يموتوا في الشوارع دون إسعاف.

ص: 285

وقد كشف حدث البوسنة غلظة وقسوة جميع الدول النصرانية الغربية التي تزعم أنها حامية حقوق الإنسان، وأنها تقف ضد التطرف والتشدد والإرهاب والتطهير العرقي، واعتداء الدول القوية على الدول الضعيفة، فقد اعترفت الدول النصرانية الغربية بدولة البوسنة والهرسك وأصبحت عضوا في هيئة الأمم المتحدة، وبعد هذا الاعتراف اعتدى الصرب على المسلمين بعون من حكومة صربيا والجبل الأسود، يشمل الأسلحة الثقيلة والطائرات الحربية، وبمساعدات وتأييد من دولة روسيا، وأصدر مجلس الأمن (المزعوم) قرارا بحظر الأسلحة ووصولها إلى البوسنة والهرسك، فطبق الحظر على المسلمين وبقي الصرب يتلقون العون من إخوانهم النصارى بالسلاح وغيره.

وأصدر مجلس الأمن (المزعوم) قرارا بحظر التحليق الجوي على البوسنة والهرسك، ولكن الصرب تحدوا ذلك ولا زالت الطائرات تقصف المسلمين، ولم يحرك مجلس الأمن ساكنا وكذلك المجلس الأوروبي وحلف الناتو.

ص: 286

ولكن الدول الغربية إذا تحرك صاروخ في العراق أو طائرة عراقية قريبة من منطقة الحظر الجوي الذي فرضته أمريكا باسم هيئة الأمم المتحدة يرسلون أسرابا من الطائرات الغربية لتصب نيرانها على الهدف وما جاوره ويطلقون مئات الصواريخ من الخليج للقضاء على أي حركة، زعما منهم أنهم ينفذون قرارات مجلس الأمن، وهكذا يعامل النصارى قساة القلوب المسلمين ويصدرون القرارات التي ظاهرها في مصلحة المسلمين وينفذون عكس ذلك، ولكنهم ينفذون قراراتهم فقط عندما تكون في مصلحة النصارى أنفسهم.

إنها وحشية دعاة حقوق الإنسان وقسوة دعاة الحرية والتمدن: نصارى الغرب كله.

ص: 287

وقد وجدت الدول النصرانية الغربية بغيتها في الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة النصراني " بطرس غالي " العربي الذي يعطيها المسوغ تلو المسوغ لعدم تدخلها في إنقاذ المسلمين في البوسنة والهرسك، ولذلك تصدر هي الاستنكار لأفعال الصرب وتصرح بأنها تريد التدخل لمنع الصرب من العدوان، ولكن النصراني العربي يحذرها من مغبة التدخل العسكري، فتظهر للعالم وللمسلمين أنها إنما تأخرت عن هذا التدخل بسبب عدم الإذن به من قبل هيئة الأمم المتحدة!. [اقرأ عن تنفيذ هذا النصراني العربي لمخطط التجمعات الكنسية جريدة الشرق الأوسط ص 23 بعنوان: بطرس غالي بطل البوسنة. عدد (5167) 27 رجب 1413هـ ـ20 / 1 / 1993م. وقد سماه الكاتب: بالجلاد، وأنا أسميه بما سماه الله: النصراني] .

والسبب الحقيقي هو أن المظلومين مسلمون، ولو كانوا يهودا أو نصارى أو وثنيين، بل لو كان المعتدى عليهم قرودا أو كلابا لهبوا لنجدتهم.

ص: 288

وقد صرح زعيم المعتدين النصارى الصرب بأن الاعتداء على المسلمين سيستمر ما داموا مسلمين: " فقائد القوات الصربية في البوسنة والهرسك أكد في تصريح نشرته مؤخرا مجلة: "شبيجل" الألمانية، قال فيه: إن هدفنا هو القضاء على المسلمين في أوروبا، يجب أن يختفوا كأمة، وعلى المسلمين في البوسنة إعلان تحولهم عن الإسلام وأن يصبحوا صربيين أو كرواتا، أما الخيار الثالث لهم فلن يكون إلا الموت

" [مجلة المجتمع الكويتية: العدد (1027) الثلاثاء جمادى الآخرة سنة 1413هـ - أول ديسمبر 1992 م] .

وصدق الله القائل: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] .

ولا نحتاج إلى ذكر مراجع لهذه لحوادث في هذه القسوة النصرانية، فالتلفاز يعرض قسوة النصارى على المسلمين فيها مرات كل يوم، والصحف العالمية تنشر أخبارها المأساوية كل يوم، والإذاعات في العالم كله تذيع فظائعها كل ساعة: أخبار وتقارير وتعليقات ومقابلات

ص: 289

[ومع ذلك أحيل القارئ إلى بعض الجرائد والمجلات منها: جريدة الشرق الأوسط عدد 5158 ص 19 بعنوان: مفكرة العار في البوسنة 18 / 7 / 1413هـ-. ومجلة المجتمع الأعداد: 966، 17شوال 1412هـ-ص22، العدد:999 في 21 / 1 / 1414هـ-ص 28، العدد:1005 في 29 / 12 / 1412هـ-ص 30، العدد: 1027 في 7 / 6 / 1413هـ-ص28، العدد: 1026 في 30 / 5 / 1413هـ-ص26 العدد: 1008 في 20 / 1 / 1413هـ-ص30 العدد:989 في 13 / 8 / 1412هـ-ص16. وجريدة المسلمون، كل أعداد عام 1412-1413هـ- وكذا العالم الإسلامي ومجلة الإصلاح وغيرها..] .

النموذج الثالث: قساة الشيوعيين (الملحدين)

الشيوعيون الروس.

ولننتقل الآن إلى غير أهل الكتاب من أهل الباطل، لنأخذ نتفا أخرى من سلوكهم الدال على القسوة والغلظة وعدم الرحمة، لتكتمل الصورة، ويعلم القارئ أن أهل الحق هم الرحماء، وأن الرحمة هي من الأخلاق التي يريدون غرسها في نفوس الناس، وأن غرس الأخلاق الحميدة هو إحدى غاياتهم في السباق إلى العقول.

ص: 290

الحديث عن قسوة الشيوعيين وغلظتهم لا يأتي للناس بجديد، فقد عرف العالم كله في خلال ما يزيد عن سبعين سنة أن الشيوعيين أقسى الناس قلوبا وأغلظ أفئدة وأبعد عن الرحمة في كل مكان حلوا فيه.

وعداؤهم للإسلام أشد من عدائهم لجميع الأديان، ومعاملتهم للمسلمين، لصرفهم بالقوة عن دينهم بقضائهم على علمائهم وهدمهم مساجدهم ومدارسهم، وتحويل ما بقي من المساجد والمدارس إلى مسارح وحظائر ومخازن ودور للسينما أمر معروف مشهور.

ص: 291

ويكفي أن نذكر لبالغ قسوتهم ما رواه أحد الناجين من الموت من تعذيبهم، وهو الأستاذ " عيسى يوسف آلب تكين " الذي فر من إدارتهم الجهنمية وكتب كتابه الذي فضحهم فيه وهو:(المسلمون وراء الستار الحديدي) . فقد نقل عنه سيد قطب رحمه الله في كتابه دراسات إسلامية ما يلي من صور التعذيب الوحشي فقال: " فلندع كاتبا أخذ يحدثنا عن وسائل التعذيب الجهنمية التي سلطت على العنصر الإسلامي في التركستان الغربية الخاضعة لروسيا، والتركستان الشرقية التابعة للصين الشيوعية اسما، ولروسيا الشيوعية فعلا " إلى أن قال سيد: "وسنضطر أن نغفل ذكر بعضها -أي صور التعذيب- هنا، لأنها من القذارة بحيث يخدش ذكرها كل أدب إنساني، مكتفين بما تطيق الآداب الإنسانية أن نذكره للناس

وهذه هي:

1-

دق مسامير طويلة في الرأس حتى تصل إلى المخ.

2-

إحراق المسجون بعد صب البترول عليه وإشعال النار فيه.

3-

جعل المسجون هدفا لرصاص الجنود يتمرنون عليه.

4-

حبس المسجونين في سجون لا ينفذ إليها هواء ولا نور، وتجويعهم إلى أن يموتوا.

5-

وضع خوذات معدنية على الرأس وإمرار التيار الكهربائي فيها.

ص: 292

6-

ربط الرأس في طرف آلة ميكانيكية وباقي الجسم في ماكينة أخرى، ثم تدار كل من الماكينتين في اتجاهات متضادة، فتعمل كل وحدة مقتربة من أختها حينا ومبتعدة آخر، حتى يتمدد الجسم الذي بين الآلتين، فإما أن يقر المعذب وإما أن يموت.

7-

كي كل عضو من الجسم بقطعة من الحديد مسخنة إلى درجة الاحمرار.

8-

صب زيت مغلي على جسم المعذب.

9-

دق مسمار حديدي أو إبر الجراموفون في الجسم.

10-

تسمير الأظافر بمسمار حديدي حتى يخرج من الجانب الآخر.

11-

ربط المسجون على سرير ربطا محكما ثم تركه لأيام عديدة.

12-

إجبار المسجون على أن ينام عاريا فوق قطعة من الثلج أيام الشتاء.

13-

نتف كتل من شعر الرأس بعنف، مما يسبب اقتلاع جزء من جلد الرأس.

14-

تمشيط جسم المسجون بأمشاط حديدية حادة.

15-

صب المواد الحارقة والكاوية في فم المسجونين وأنوفهم وعيونهم، بعد ربطهم ربطا محكما.

16-

وضع صخرة على ظهر المسجون، بعد أن توثق يداه إلى ظهره.

17-

ربط يدي المسجون وتعليقه بهما إلى السقف، وتركه ليلة كاملة أو أكثر.

18-

ضرب أجزاء الجسم بعصا فيها مسامير حادة.

19-

ضرب الجسم بالكرباج حتى يدميه، ثم يقطع الجسم إلى قطع بالسيف أو بالسكين.

ص: 293

20-

إحداث ثقب في الجسم وإدخال حبل ذي عقد واستعماله بعد يومين كمنشار، لتقطيع قطع من أطراف الجرح المتآكل.

21-

ولكي يضمنوا أن يظل المسجون واقفا على قدميه طويلا، يلجئون إلى تسمير أذنيه في الجدار.

22-

وضع المسجون في برميل مملوء بالماء في فصل الشتاء.

23-

خياطة أصابع الرجلين واليدين والرجلين وشبك بعضهما إلى بعض.

24-

والنساء حظهن مثل هذا العذاب، أنهن يعرين ويضربن ضربا مبرحا على ثديهن وصدورهن.

أما بقية تعذيب النساء فإننا نمسك عنه، لأن المواقع التي اختاروها من أجسامهن والطرق الدنيئة التي استعملوها تجعلنا نستحي من ذكرها وكتابتها [دراسات إسلامية الطبعة الرابعة ص200، 206.

وعندما كتب سيد هذه الصور لم تكن قد طبقت عليه هو في مصر ولكنه رحمه الله قد ذاق في زنزانات المجرمين هو وإخوانه وأخواته شيئا منها قبل أن يشنقه أعداء الإسلام] ..

يكفي هذا النموذج لمعرفة ما إذا كانت توجد في قلوب الشيوعيين الروس رحمة!!!.

تدمير شعب أفغانستان.

ص: 294

ولكن مثالا آخر ظهر أكثر وضوحا في الدلالة على خلو قلوبهم من الرحمة، وهو أنهم غزوا أفغانستان بجيوش جرارة وأسلحة فتاكة، برا وجوا، وقتلوا من الشعب الأفغاني مليونا ونصف المليون، وطردوا ما يقارب ستة ملايين، وعاثوا في الأرض فسادا يندر أن يوجد له مثيل، ومكثوا يزاولون أعمالهم الوحشية في هذا الشعب أكثر من سبع سنوات، هدموا فيها المساجد وأهانوا المصاحف واغتصبوا النساء، وفرقوا كلمة المسلمين وجعلوا بعضهم يقتل بعضا، ولازال الأفغان يعانون الأمرين من آثار غزوهم.

ولكن الله تعالى نصر الفئة المؤمنة التي تصدت لهؤلاء القساة، ومع الصبر والمصابرة نصر الله المجاهدين -على قلة عُدَدِهِم- على أعظم قوة عسكرية ضاربة، فهزم الجيش الروسي الشيوعي وعاد إلى بلاده يجر أذيال الهزيمة، وكان الجهاد الأفغاني من أعظم الأسباب التي هيأها الله لانهيار الاتحاد السوفيتي الظالم.

ص: 295

ولعل المسلمين يقطفون آثار هذا الجهاد في تطبيق الإسلام في أفغانستان وفي الشعوب الإسلامية المجاورة التي كانت تابعة للاتحاد السوفيتي المنهار. [لقد خيب المجاهدون الأفغان آمال المسلمين الذين أعانوهم بالمال والرجال والعتاد، لرفع راية الإسلام في بلادهم، حيث أخذوا يقتتلون فيما بينهم بعد انسحاب العدو الشيوعي من بلادهم، ومازالت دماء المدنيين العزل تراق بأسلحة إخوانهم ممن كانوا قادة للجهاد، إلى يومنا هذا (كتبت هذا التعليق في 22 / 5 / 1418هـ) ] .

الشيوعيون في الصين.

ولا تقل قسوة الشيوعيين في الصين وغلظتهم على المسلمين -وعلى كل من يخالفهم- عن قسوة الشيوعيين في الاتحاد السوفيتي السابق، وبخاصة في إقليم "تركستان الشرقية" الذي غيروا اسمه إلى "سانكيانج" وبالغوا في الاعتداء على أهله، فقتلوا علماءهم، وأتلفوا مصاحفهم وكتبهم الدينية، ومنعوهم من أداء شعائرهم الدينية، وأغرقوهم بالمهجرين الشيوعيين من مناطق أخرى، لتصبح نسبة المسلمين في هذا البلد المسلم 10% بعد أن كانت نسبتهم من قبل أكثر من 90%.

ص: 296

وقد ذكر أن المسلمين الذين تم قتلهم من سنة 1950م إلى سنة 1972م بلغ 360 ألفا، وأن الذين سيقوا إلى المعسكرات التعذيبية والأشغال الشاقة بلغ عددهم (500) ألف، وأن الذين هربوا من ديارهم بسبب ذلك العدوان بلغ (100) ألف [1- راجع محلة الإصلاح عدد 219 ص35 ومجلة المجتمع الكويتية عدد 967 ص28] .

هذه الفظائع ذكرت في بلد واحد من بلدان الصين وهو تركستان الشرقية.

أما على مستوى الصين فالأمر أعظم من ذلك، وقد ذكر لي الشيخ عبد الرحمن بن إسحاق الصيني الذي زرته في مدرسة التقوى في مدينة تشانجماي في شمال تايلاند في 24 / 11 / 1409هـ. أن الشيوعيين في الصين قتلوا خلال ست عشرة سنة من سنة 1950م إلى +1976م عشرة ملايين (ولا بد أن يكون للمسلمين حظهم الوافر من هذا القتل) ومات بسبب الجوع سبعة ملايين.

أما المسلمون فقد كانت مساجدهم في الصين (45) ألف مسجد، فصادرها الشيوعيون وحولوها إلى مصانع ومسارح ودور سينما، وبنوا في محاريبها الطاهرة التي كان الأئمة يتلون فيها كتاب الله ويسجدون فيها لربهم، المراحيض إهانة لها وللمسلمين، وقتلوا كثيرا من الأئمة والعلماء، وقتلوا من المسلمين ما لا يقل عن مليون شخص.

ص: 297

وكانوا يأمرون العالم المسلم بحمل القاذورات ليسمد بها الأرض الزراعية، ويعلقون في عنقه الكومة من تلك القاذورات، ويقولون له من باب التهكم والإذلال والسخرية بربه وبدينه: إذا كنت تعبد الله فادعه ليساعدك

[المجلد الخاص بتايلاند من سلسلة (في المشارق والمغارب) مخطوط في مكتبة المؤلف] .

وهذه الفظائع هي التي علمت، وما لم يعلم أكثر من ذلك بكثير، وبخاصة إذا علمنا أن الشيوعيين يحيطون بلدانهم وتصرفاتهم بما يسترها من الكتمان والحجر الإعلامي، وعدم الإذن بتسرب تلك التصرفات، ولكن ذلك يكفي لمعرفة أن الرحمة قد نزعت من قلوبهم.

[راجع على سبيل المثال ما نشر على أحد مواقع الإنترنت على الوصلة الآتية: http / / www.islam-online.net / Arabic / news / 2001-06 / 17 / Article36.shtml]

ص: 298

وفي هذه الأيام يعيث الشيوعيون ذوو الأسماء الإسلامية في طاجكستان فسادا في هذا البلد المسلم، فقد قتلوا الآلاف من المسلمين الذين يطالبون بالتمتع بالإسلام، وشردوا مئات الآلاف، وأخافوا الآمنين من أبناء البلد متعاونين مع الشيوعيين من ذوي الأسماء الإسلامية في بلدان أخرى ومع الروس بمساعدات من الغرب وبخاصة أمريكا، والكفر ملة واحدة [راجع مجلة المجتمع عدد 1038-25شعبان 1413هـ-ص22] ..

بل لقد غزت روسيا الجمهورية الشيشانية في 9 / 7 / 1415هـ-الموافق 11 / 12 / 1994م-ودمرت عاصمتها جروزني تدميرا كاملا، وقتلت المسلمين المدنيين، ولا زالت تواصل القتل والتدمير على مرأى ومسمع من دول الصليب التي تدعي أنها ترعى حقوق الإنسان، بل على مرأى ومسمع من حكام الشعوب الإسلامية الذين ماتت الحمية في نفوسه على حفظ ضروراتهم التي لا حياة لهم بدونها.

ص: 299

وقد تكبد الروس خسائر فادحة في جمهورية الشيشان الإسلامية، وخرجوا منها يجرون أذيال الهزيمة، كما خرجوا من أفغانستان، وذلك بفضل الله ثم بفضل قوة إيمان أهلها

ثم غزت روسيا الشيشان مرة أخرى في سنة 1420هـ ـ1999م ودمرت البلد مرة أخرى وعاثت فيه فسادا، ولا زالت القوات الروسية تحتل هذا البلد المسلم، وتقتل أهله وتشردهم وتعتقلهم، وموقف دعاة حقوق الإنسان الغربيين هو موقفهم المعروف، عندما يكون الإنسان مسلما لا يحركون ساكنا، اللهم إلا إظهار شيء من الاستنكار البارد، ليقال عنهم: إنهم أنكروا! وليقارن المسلم موقف الغرب من الشيشان، وموقفهم من تيمور الشرقية التي أجبروا أندونيسيا على التخلي عنها خلال فترة وجيزة!

النموذج الرابع: قساة الوثنيين.

قسوة الوثنيين الهنود.

والوثنيون -ومنهم الهندوس والبوذيون وغيرهم- لا تقل وحشيتهم وغلظتهم عن اليهود والنصارى والشيوعيين.

ص: 300

فالهندوس في الهند بتواطؤ مع النصارى الإنجليز، أذاقوا المسلمين من العذاب والتشريد والقتل وسوء المعاملة ما يصعب وصفه، واعتدوا على أموالهم ومنازلهم ومساجدهم، ولا يخلو عام من الأعوام من الاعتداء عليهم، حتى اضْطَرُّوا المسلمين على الانقسام: قسم منهم سئم العيش تحت الذل والقهر الهندوسي، فقرروا الهجرة إلى ما سمي في حينه بباكستان الشرقية وباكستان الغربية، حيث تفصل بينهما مساحات شاسعة من الهند ثم تدخلت الهند وحليفتها روسيا (الاتحاد السوفيتي سابقا) للتحريش بين الباكستانيين فحصل الانشقاق والقتال الذي راح ضحيته الآلاف من المسلمين، وعلى أثره انفصلت باكستان الشرقية وسميت باسم قومي انفصالي:"بنغلادش" فضعف بذلك المسلمون في الجناحين، وضعف المسلمون كذلك في الهند الذين يبلغ عددهم الآن أكثر من 150 مليونا في كل أنحاء الهند، وهم اليوم يواجهون حربا وثنية شرسة، حيث نظمت جمعيات هندوسية لمحاربتهم تحت سمع وبصر الحكومة الهندية التي تزعم أنها دولة ديمقراطية علمانية، وتشير الإحصاءات إلى أن الاعتداء الهندوسي على المسلمين بلغ حدا خطرا لا يطاق، يتعاون عليهم في ذلك الاعتداء المنظمات المذكورة وقوات الشرطة، بل والجيش

ص: 301

أحيانا.

وعلى سبيل المثال فإن الهندوس قتلوا خمسة عشرة ألف مسلم في مجزرة "أحمد آباد" باعتراف رئيسة الوزراء أنديرا غاندي سنة 1970م وأحرقوا ثلاثمائة امرأة مسلمة بالنار وهن أحياء، وفي مذبحة آسام قتل الهندوس 50 ألف مسلم [راجع حاضر العالم الإسلامي لجميل المصري ص420] .

وفي هذه الأيام تجمع جماهير الهندوس وهدموا مسجد "البابري" وقتلوا الآلاف من المسلمين في أنحاء متفرقة من الهند وأحرقوا ممتلكاتهم وهدموا منازلهم وطردوهم من ديارهم [راجع على سبيل المثال مجلة المجتمع عدد 1029 20جمادى الآخرة سنة 1413هـ ص20] . واستولوا على كثير من مساجدهم وحولوها إلى معابد وثنية.

ص: 302

وكل الفظائع التي يرتكبها الهندوس في حق المسلمين لا يوجد أي مسوغ لها، فالمسلمون مسالمون، لا يريدون إلا العيش بطمأنينة في ديارهم، يقيمون شعائر دينهم ويعلمون أبناءهم دين الإسلام دون أن يحركوا ساكنا ضد الهندوس ابتداء، وإنما يضطرون أن يدافعوا عن أنفسهم عندما يعتدي عليهم هؤلاء، مع قلتهم وفقدهم آلة الدفاع على عكس الوثنيين الهندوس، والمتتبع لوحشية هؤلاء الهندوس وقسوتهم ضد المسلمين يتضح له أنهم قوم قد نزعت الرحمة من قلوبهم وحلت محلها الغلظة والشراسة والوحشية.

قسوة الوثنيين في سيريلانكا.

وهكذا يلاقي المسلمون في سيريلانكا قسوة بالغة من الهندوس والسنهال والشيوعيين، ومن الحكومة البوذية من اغتيالات ومذابح جماعية ونهب أموال ومتاجر وإحراق منازل وأسواق [راجع مجلة المجتمع الكويتية. عدد 957 في 9 شعبان 1410هـ ص40 ومجلة رابطة العالم الإسلامي عدد 319 ص7] .

ص: 303

وفي " بورما" لا تنقطع مذابح المسلمين وتشريدهم ونهب أملاكهم والاعتداء على أعراضهم، يقوم بذلك الوثنيون البوذيون فقد قتلوا منهم عشرات الآلاف، وشردوا ملايين، وهدموا المساجد، وأغلقوا المدارس، واغتصبوا المسلمات وأجهضوا الحوامل منهن، وفي يوم عيد من أعياد الفطر قتلوا مائتي مسلم، وكثير من المسلمين يموتون جوعا في مخيمات الموت في "بنغلادش" أو في الطريق بين حدود بورما وبنغلادش وهم فارون بأنفسهم من القتل الجماعي [راجع: العالم الإسلامي (جريدة تصدرها رابطة العالم الإسلامي) 24ربيع الأول-1ربيع الثاني 1413هـ- ص4، و6 محرم 1412هـ-ومجلة المجتمع عدد 993 ص 10 وعدد 989ص16] ..

قسوة الوثنيين في تايلاند.

ص: 304

وفي تايلاند أذاقت الحكومة الوثنية البوذية المسلمين أهوالا من العذاب والقتل والتدمير والاغتيال والتشريد، وأذلت المسلمين في جنوب البلاد، وأصبحت "فطاني" المسلمة تحت سيطرة الجيش ووزارة الداخلية، وقد قسمتها تقسيمات إدارية جديدة، حيث أصبحت محافظات صغيرة، وحشدت أعدادا كبيرة من البوذيين من شمال تايلاند ووسطها للهجرة إلى بلاد المسلمين، وملكتهم أراضيهم ويسرت لهم إقامة الشركات والمشاريع المتنوعة ليستولوا على البلاد المسلمة، ويكونوا أكثرية ينشرون الفساد الخلقي والاجتماعي من أجل إذابة المسلمين وتحاول الحكومة تغيير مناهج المدارس الإسلامية وكتبها وحروف لغتها [وقد فصل المؤلف شيئا من ذلك في المجلد الخاص بتايلاند من سلسلة في المشارق، وهو مخطوط في مكتبته]

وقد خف التضييق على المسلمين نسبيا، وتمكن علماؤهم من إقامة مؤسسات تعليمية ودعوية، كان لها أثر جيد في تعليم أبنائهم وتفقيههم، وعلى رأس هؤلاء العلماء الدكتور إسماعيل لطفي المتخرج من الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض.

قساة أهل الباطل من المنتسبين الإسلام!

ص: 305

مرت فترة على المسلمين ضعفت فيه دولتهم، بل اضمحلت وهوت، فتأخروا في كل شؤون الحياة الدينية والاقتصادية والعلمية -علم الشرع وعلم المادة- والسياسية والعسكرية والاجتماعية، وتقدم غير المسلمين في الحضارة المادية، فأصيب المسلمون بالهوان وكبر في صدورهم تقدم غيرهم، وانقسموا قسمين:

ص: 306

القسم الأول: رأى أن تقدم البلدان الإسلامية مرهون باتباع خطوات الغرب حذو القذة بالقذة، وذلك بتنحية الدين الإسلامي عن أن يكون منهج حياة للشعوب الإسلامية، والفصل التام بينه وبين تدبير شؤونها، بحيث يكون الدين أمرا يتعلق بالأفراد بأشخاصهم فيما بينهم وبين ربهم، يصلون ويصومون ويحجون ويقرؤون القرآن، دون أن يتدخل الإسلام في الشؤون السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية وغيرها من مناهج الإعلام والتعليم وهلم جرا

-ولا يستثنون من ذلك إلا بعض الأحوال الشخصية- وذلك على غرار ما فعله أهل الغرب بالدين النصراني المحرف، حيث نحوه عن شؤون الحياة التي وضعت لها الدساتير والقوانين البشرية، اتقاء التصرفات الكنسية ورجالها الذين كانوا يزاولون تدبير شؤون الشعوب تدبيرا ظالما، وينسبون تصرفاتهم تلك إلى الله، ويتلخص ذلك كله فيما يقال له:"العلمانية" التي تعني فصل الدين عن الدولة.

ص: 307

وقد أوهم أهل الغرب هذا القسم من أبناء المسلمين أن الدين هو سبب التأخر عندما يتدخل في حياة البشر، بدليل أن الغرب عندما فصل الدين عن الدولة تقدم حضاريا وأصبح يقود العالم، وأنه لا يمكن للمسلمين أن يتقدموا إلا إذا فعلوا كما فعل الغرب، ففصلوا الدين الإسلامي عن الدولة.

وتتلمذ أبناء المسلمين هؤلاء على أساتذة الغرب في العلوم المتنوعة: الإنسانية والتطبيقية واقتنعوا بتلك الفكرة، بسبب جهلهم بالإسلام الذي جعلهم يساوون بينه وبين الدين النصراني، ويقفون من دينهم كما وقف أهل الغرب من الدين النصراني، وبسبب فقدهم العلماء الذين يجمعون بين فقه النصوص الواردة في القرآن والسنة الصحيحة والمقاصد الشرعية من جهة وبين فقه العصر والواقع من جهة أخرى، فانطلق هذا القسم من أبناء المسلمين وقد أحرز شيئا من الثقافة التي تؤهله لقيادة الشعوب الإسلامية وإدارتها مغرورا بنفسه وبثقافته، متجاهلا أولئك العلماء، بل مذلا لهم ضاربا بآرائهم وراء الحائط، وسبب هذا سبق غير المسلمين إلى عقول أبناء المسلمين وكسبهم في صفهم.

ص: 308

والقسم الثاني: رأى في حضارة الغرب المادية وما رافقها أفكارا فاسدة وأخلاقا سيئة وعقائد ملحدة وهجوما على الإسلام وأهله، فانزوى عن علوم الغرب كلها، ودعا الشعوب إلى مقاطعتها والبعد عنها والاكتفاء بما تجود به كتاتيب المعلمين الذين يلقنون التلاميذ تلاوة القرآن الكريم، ويعلمونهم بعض مبادئ الفقه والتوحيد والكتابة وشيئا من الحساب، فكان نصيب هذا القسم البعد عن ممارسة إدارة شؤون الأمة والمشاركة فيها، فاستبد القسم الأول بالحكم والإدارة وغيرها، وأخذ يكبت كل صوت يخالف منهجه ومسيرته، يسنده في ذلك ما تحت يده من إمكانات الدولة في الداخل ومؤازرة الدول والمؤسسات الغربية في الخارج.

ص: 309

وبعد أن مضت فترة ليست بالقصيرة على هذه الحالة المزرية، هيأ الله للمسلمين من صحا منهم من نومه، وتنبه من غفلته، فرأى بنور من الله وبصيرة تلك الهاوية التي تردى فيها المسلمون والأسباب التي أدت إلى ذلك التردي، والواجب الذي لا بد من القيام به لانتشال الأمة الإسلامية من وهدتها، إلى قمة مجدها وعزها، فظهرت دعوات المفكرين الإسلاميين بصفة فردية هنا وهناك، ولم يمض وقت غير طويل نسبيا حتى أثمرت تلك الدعوات، ونتج عنها قيام حركات إسلامية تعتمد التعليم والتربية وبيان شمول الإسلام، وأنه منهج لحياة البشر يجب أن يعود ليحكم حياتهم، فأزعج ذلك تلاميذ الغرب الذين كان الجو قد خلا لهم، فتربعوا على كراسي الحكم وأمروا ونهوا دون منازع لهم إلا من أمثالهم، كما أزعج ذلك الغرب الذي طن أن الإسلام قد مات وقبر، فاتفق السيد في الغرب والعبد في الشرق، على القضاء على الإسلام دون هوادة ولا رحمة، فكان أن حصل من أعداء الإسلام المنتسبين إليه مثل ما حصل من أعداء الإسلام من اليهود والنصارى والملحدين والوثنيين، من الهجوم على الإسلام وتشويهه، ومحاولة القضاء على دعاته بالسجون والمعتقلات والتعذيب الوحشي والتشريد، وانتهاك الأعراض

ص: 310

ومصادرة الأموال والتضييق عليهم في لقمة العيش وإيذاء أسرهم وأقربائهم وأصدقائهم بالقتل والاغتيالات، حصل ذلك في أغلب بلدان الإسلام في شمال أفريقيا، وفي الصومال، واليمن، والعراق، وسوريا، وباكستان، وأفغانستان، وإندونيسيا، وتركيا، وبنغلادش، وألبانيا وغيرها.

قسوة أعداء الإسلام من المنتسبين إليه أشد من قسوة غيرهم!

ولعل قسوة أعداء الإسلام من المنتسبين إليه من أبناء المسلمين أشد من قسوة غير المسلمين على المسلمين وذلك لأمور ثلاثة:

الأمر الأول: أن عدو الإسلام المنتسب إلى الإسلام يعد من أبناء البلد وليس أجنبيا عنه، وتصرفاته الظالمة لا ينظر إليها عامة الناس -وبخاصة الجهلة- نظرتهم إلى تصرفات العدو الأجنبي الظالم، ولذلك تجد العدو الأجنبي غير المسلم يخفف من طغيانه وظلمه، إذا لم يتعرض العلماء والدعاة لمصالحه تعرضا مباشرا، بخلاف الطاغية من أبناء البلد، فإنه يوسع دائرة ظلمه وقسوته، لتشمل المعارض الصريح والساكت الذي لم يظهر تأييده لظلمه وقسوته.

ص: 311

الأمر الثاني: أن عدو الإسلام المنتسب إليه من أبناء المسلمين يجد المؤيدين له ولظلمه وقسوته من أبناء البلد من أقربائه وقبيلته والمنتفعين بحكمه ما لا يجده غير المسلم الظالم، لأن تأييد غير المسلم يعد منقصة يعير بها المؤيد، بخلاف من يؤيد الظالم من أبناء البلد، وبخاصة عندما يدعي الوطنية والقومية والتقدمية والثورية -مع ادعائه الإسلام!

الأمر الثالث: أن عدو الإسلام المنتسب إليه يستغل إمكانات البلد البشرية والمادية والإعلامية والتعليمية والاقتصادية والسياسية والعسكرية في ضرب الإسلام والمسلمين، وهو ينعت بالوطني القومي والثوري والراعي والحامي، وليس بالمستعمر المغتصب والعدو والمحتل.

لذلك تجد قسوة هذا العدو على دعاة الإسلام من أبناء بلده تفوق قسوة اليهود والنصارى والملحدين والوثنيين أحيانا.

ولو أردنا أن نذكر نماذج لقسوة أعداء الإسلام من المنتسبين إليه على دعاة الإسلام وعلمائه في كل بلد ومن كل طاغية لاحتاج ذلك إلى كتاب مستقل.

نموذجان لقسوة أعداء الإسلام من المنتسبين إليه.

ولنكتف بالإشارة العاجلة إلى نموذجين نوضح بهما شدة قسوة من حارب الإسلام من المنتسبين إليه:

الأول: الأنموذج الثوري الناصري!

ص: 312

وهو القدوة الحسنة الأولى للثوريين والقوميين العرب على تنوع مسمياتهم، وهو ما فعله عبد الناصر في مصر بالمسلمين الذين نذروا أنفسهم للدعوة إلى الله وإقامة حكمه في الأرض، ويكفي أن أنقل بعض النصوص للذين ذاقوا وبال تعذيبه للدلالة على قسوة الطاغية وأعوانه وخلو قلوبهم من الرحمة، قال أحد المعذبين: (الأمكنة التي وضعنا فيها لا يمكن أن تكون إلا مقابر، إن كلمة زنازين التي تستعمل في السجون لا يمكن أن تعطيك فكرة صحيحة عن الأمكنة التي رأيتها في ذلك الليمان [وهو سجن جهنمي يعد أحد الإنجازات الثورية الناصرية] . عندما دفع بي العسكري في العنبر لم أجد مكانا أضع فيه قدمي، لقد كان المكان مليئا بالأجساد البشرية المتكدسة، بحيث لا يجد المرء فيه مكانا للجلوس أو الوقوف.. فما بالك بالنوم؟!.

إن مساحة العنبر -كما تبين لي بعد قياسه بواسطة بلاط الأرض- خمسة وأربعون مترا.. كان به عندما دخلته ثمانية وثمانون معتقلا، أي كل مخلوق بشري له نصف متر فقط لجلوسه ونومه وطعامه وشرابه وملابسه وحذائه وكل شؤونه) [هذا وصف لبعض أماكن السجن، وهناك أماكن وصفها آخرون أسوأ من ذلك. نافذة على الجحيم ص56]

ص: 313

وتحت عنوان: الرياضة الجهنمية. قال المعذب:

ص: 314

(ينادي جاويش السجن: كل الناس بره [أي اخرجوا جميعا] الزنازين. وهذا النداء يستعمل دائما إذا أرادوا أن يلقوا أمرا عاما على الجميع ويقول الجاويش: إحنا -نحن- حننزل -سننزل- دي الوأت -ذا الوقت- علشان -من أجل- تشموا هواء يا أولاد الكلب! ويقول: انزل بسرعة يا بن الكلب، وما هي إلا لحظات فتتدفق الجموع الغفيرة سريعا.. وبها ما بها من الآلام.. وهم مع ذلك صفوة أبناء الشعب ومن أنبل أبنائه، فيهم الوزير ووكيل الوزارة، والطبيب والمهندس، والمحامي، والتاجر والصانع، والمزارع، والطالب، والمدرس، والقاضي، والفراش، والضابط، ثم ينتظم الجميع عدة طوابير في مكان واسع كبير، ويبدأ سير الطابور سريعا.. ويسير الطابور في شبه دائرة أو مستطيل.. والطابور يتكون من عدة صفوف ويقف على جانبي كل صف رجال الجيش [الذي الأصل فيه أن يعد للجهاد في سبيل الله وطرد العدو اليهودي من بلاد المسلمين في أرض الإسراء والمعراج!] وهم ممسكون بالسياط والكرابيج والمدافع الخفيفة في أكتافهم، ويسير الطابور تحت الضرب، فكل شرطي يكلف أن يضرب من يمر عليه بصفة مستمرة، وبمرور الوقت تهوي الضحايا على الجانبين، لطول الزمن الذي قد يمتد إلى ثلاث ساعات متواصلة من

ص: 315

الجري الشديد المصحوب بالضرب العنيف، وكلما ازدادت سرعة الطابور تزايد عدد الضحايا، بين فاقد الوعي ومقعد تماما لا يقوى على الحركة، والشيء الملفت للنظر أن من يقع على الأرض، يتجمع الشرطة حوله وينهالون عليه ضربا بالكرابيج، فإما أن يقوم إذا استطاع وإما أن يمزق جسمه فوق ما به من تمزيق، وفي موكب الطابور تتساقط العروق مصحوبة بالدماء من أجساد البشر) [نافذة على الجحيم ص80] .

ولعل بعض المقاطع من قصيدة أحد المعذبين، وهو من العلماء الأفذاذ في هذا العصر تظهر بعض صور القسوة لزعيم الثورة العربية والقومية العربية وأعوانه:

قال في مطلع قصيدته:

ثار القريض بخاطري فدعوني

أفضي لكم بفجائعي وشجوني

فالشعر دمعي حين يعصرني الأسى

والشعر عودي يوم عزف لحوني

ألهمتها عصماء تنبع من دمي

ويمدها قلبي وماء عيوني

نونية والنون تحلو في فمي

أبدا فكدت يقال لي ذو النون

في ليلة ليلاء من نوفمبر

فزِّعت من نومي لصوت رنين

فإذا كلاب الصيد تهجم بغتة

وتحوطني من شمأل ويمين

فتخطفوني من ذويّ وأقبلوا

فرحا بصيد للطغاة سمين

وعزلت عن بصر الحياة وسمعها

وقذفت في قفص العذاب الهون

ص: 316

أسمعت بالإنسان ينفخ بطنه

حتى يرى في هيئة البالون

أسمعت بالإنسان يضغط رأسه

بالطوق حتى ينتهي لجنون

أسمعت بالإنسان يشعل جسمه

نارا وقد صبغوه بالفازلين

أسمعت ما يلقى البريء ويصطلي

حتى يقول أنا المسيء خذوني

أسمعت بالآهات تخترق الدجى

رباه عدلك إنهم قتلوني

إن كنت لم تسمع فسل عما جرى

مثلي ولا ينبيك مثل سجين

وسل السياط السود كم شربت دما

حتى غدت حمرا بلا تلوين

وسل العروسة قبحت من عاهر

كم من جريح عندها وطعين

كم فتية زفوا إليها عنوة

سقطوا من التعذيب والتوهين

[من القصيدة أو الملحمة التي أنشأها الدكتور يوسف القرضاوي في السجن وكادت تضيع لولا أن هيأ الله لها من حفظها من إخوانه في السجن، نافذة على الجحيم ص 135.

أما العروسة فهي خشبة تعذيب يصلب عليها المسجونون شرحها أحد السجناء كما في نافذة على الجحيم ص100 وراجع كتاب: أيام من حياتي لزينب الغزالي لترى أنواع التعذيب التي لا تخطر على البال لها ولإخوانها في السجن، ولماذا أعدم سيد قطب وإخوانه، ودفاع لم يسمع، وغيرها من الكتب التي كتبت في هذا الموضوع]

الثاني: الأنموذج الشيوعي الصومالي!

ص: 317

في الصومال عندما أظهر حاكم الصومال الانضمام إلى المعسكر الشيوعي، وأراد إثبات ولائه للشيوعيين الروس حارب الإسلام، وأنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة، وادعى في بعض خطبه أن نصف القرآن منسوخ، ومنع العلماء والخطباء من القيام بالدعوة في المساجد، وعندما أنكر عليه بعضهم زج بالكثير منهم في السجون، وقتل عشرة من خيارهم حرقا بالنار وعاث في الأرض فسادا، ولا زالت بلاد الصومال وشعبها يتجرعون غصص تصرفاته إلى اليوم [راجع مجلة المجتمع الكويتية: عدد 240 بتاريخ 28صفر سنة 1395هـ ص17 وعدد 239 بتاريخ 21صفر من نفس السنة ص20. المجلد العاشر] .

هذه القسوة والوحشية التي انتهت إلى حرق علماء المسلمين والدعاة إلى الله تعالى بالنار في شعب مسلم، بسبب دفاعهم بالكلمة فقط عن كتاب الله وشريعة الإسلام، تدل دلالة واضحة أن كل من وقف ضد الإسلام وشريعته، سواء كان من المنتسبين إليه اسما دون مسمى، أو من أعداء الله الكافرين من يهود ونصارى وملحدين ووثنيين، قد نزعت الرحمة من قلوبهم.

ص: 318

والذي تنزع الرحمة من قلبه من أعداء الإسلام لا ينتظر منه في سباقه إلى العقول بباطله إلا إعنات الناس وإنزال الحرج والضيق بهم وجلب التعاسة والشقاء لهم، تحقيقا لغاياته الباطلة وأهدافه الخبيثة.

وبعد، فقد أطلت كثيرا بذكر الأمثلة الدالة على قسوة غير المسلمين ووحشيتهم وفقدهم الرحمة من قلوبهم، سواء أكانوا من أهل الكتاب: اليهود والنصارى، أو الملحدين -الشيوعيين- أو الوثنيين من هندوس وبوذيين وغيرهم، أو من المنتسبين إلى الإسلام -بعد أن بينت اتصاف المسلمين بالرحمة حتى بأعدائهم، ليتبين للقارئ أن سباق المسلمين إلى العقول هو سباق رحمة ورحماء، مع أن الغايات التي يريدون تحقيقها بسباقهم إلى العقول كلها غايات تسعد البشرية كلها، وأن سباق غير المسلمين إلى العقول هو سباق قسوة وشدة وغلظة -وإن حاولوا أن يظهروا بعض أعمالهم بما قد يبدو فيه رحمة- مع أن الغايات التي يحاولون السباق من أجلها إلى العقول هي غايات فاسدة تشقى بتحقيقها البشرية في الأرض كما هو حاصل الآن.

ص: 319

وبهذا يتضح أن من أهم أهداف أهل الحق وغاياتهم في السباق إلى العقول: غرس الأخلاق الفاضلة في نفوس الناس، وأن من أهم أهداف أهل الباطل في سباقهم إلى العقول محاربة الأخلاق الفاضلة وتمكين الأخلاق الفاسدة، وأن أهل الحق قدوة حسنة في تطبيق الأخلاق الفاضلة، وأن أهل الباطل قدوة سيئة في تطبيق الأخلاق الفاسدة.

وأكتفي بما ذكرت من الأخلاق الفاضلة التي يسعى أهل الحق إلى غرسها في نفوس الناس من باب التمثيل لا الحصر، ولو أُرِيدَ التوسع في ذكر كل خلق من الأخلاق الفاضلة وما يضادها، لاقتضى ذلك تأليف كتاب مستقل، وليس هذا هدفنا من هذا الكتاب وإنما الهدف بيان أن من غايات سباق أهل الحق إلى العقول غرس الأخلاق الفاضلة في نفوس البشر.

ص: 320