المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌عمرة القضاء أي ويقال لها عمرة القضية - السيرة الحلبية = إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون - جـ ٣

[نور الدين الحلبي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌[تتمة باب ذكر مغازيه ص]

- ‌غزوة بني لحيان

- ‌غزوة ذي قرد

- ‌ غزوة الحديبية

- ‌غزوة خيبر

- ‌غزوة وادي القرى

- ‌عمرة القضاء أي ويقال لها عمرة القضية

- ‌غزوة مؤتة

- ‌فتح مكة شرفها الله تعالى

- ‌غزوة حنين

- ‌ غزوة الطائف

- ‌غزوة تبوك

- ‌باب: سراياه صلى الله عليه وسلم وبعوثه

- ‌سرية حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه

- ‌سرية عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه

- ‌سرية سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه إلى الخرار

- ‌سرية عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه إلى بطن نخلة

- ‌سرية عمير بن عدي الخطمي الضرير إلى عصماء

- ‌سرية سالم بن عمير إلى أبي عفك

- ‌سرية عبد الله بن مسلمة رضي الله عنه إلى كعب بن الأشرف الأوسي

- ‌سرية عبد الله بن عتيك رضي الله عنه لقتل أبي رافع

- ‌سرية زيد بن حارثة رضي الله عنهما إلى القردة

- ‌سرية أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد

- ‌سرية الرجيع

- ‌سرية القراء رضي الله تعالى عنهم إلى بئر معونة

- ‌سرية محمد بن سلمة إلى القرطاء

- ‌سرية عكاشة بن محصن رضي الله تعالى عنه إلى الغمر

- ‌سرية محمد بن مسلمة رضي الله تعالى عنه لذي القصة

- ‌سرية أبي عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه إلى ذي القصة أيضا

- ‌سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه إلى بني سليم بالجموح

- ‌سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما إلى العيص

- ‌سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما إلى بني ثعلبة

- ‌سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما إلى جذام

- ‌سرية أمير المؤمنين أبي بكر الصديق رضي الله عنه لبني فزارة كما في صحيح مسلم بوادي القرى

- ‌سرية عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه إلى دومة الجندل

- ‌سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما إلى مدين

- ‌سرية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى بني سعد بن بكر بفدك

- ‌سرية عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه إلى أسير

- ‌سرية عمرو بن أمية الضمري وسلمة بن أسلم بن حريس رضي الله عنهما

- ‌سرية سعيد بن زيد رضي الله تعالى عنه

- ‌سرية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى طائفة من هوازن

- ‌سرية أبي بكر رضي الله تعالى عنه إلى بني كلاب

- ‌سرية بشير بن سعد الأنصاري رضي الله تعالى عنه إلى بني مرة بفدك

- ‌سرية غالب بن عبد الله الليثي رضي الله تعالى عنه إلى بني عوال وبني عبد بن ثعلبة بالميفعة، اسم محل وراء بطن نخل

- ‌سرية بشير بن سعد الأنصاري رضي الله تعالى عنه إلى يمن

- ‌سرية ابن أبي العوجاء السلمي رضي الله تعالى عنه إلى بني سليم

- ‌سرية غالب بن عبد الله الليثي رضي الله تعالى عنه إلى بني الملوّح

- ‌سرية غالب بن عبد الله الليثي رضي الله تعالى عنه إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد رضي الله تعالى عنه أي في بني مرة بفدك

- ‌سرية شجاع بن وهب الأسدي رضي الله تعالى عنه إلى بني عامر

- ‌سرية كعب بن عمير الغفاري رضي الله تعالى عنه

- ‌سرية عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه إلى ذات السلاسل

- ‌سرية الخبط وهو ورق السمر

- ‌سرية أبي قتادة رضي الله تعالى عنه إلى غطفان أرض محارب

- ‌سرية عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي رضي الله تعالى عنه إلى الغابة

- ‌سرية أبي قتادة رضي الله تعالى عنه إلى بطن أضم

- ‌سرية خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى العزى

- ‌سرية عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه إلى سواع

- ‌سرية سعد بن زيد الأشهلي رضي الله عنه إلى مناة

- ‌سرية خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى بني جذيمة

- ‌سرية أبي عامر الأشعري رضي الله تعالى عنه إلى أوطاس

- ‌سرية الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه إلى ذي الكفين صنم عمرو بن حميمة الدوسي ليهدمه

- ‌سرية عيينة بن حصن الفزاري رضي الله تعالى عنه إلى بني تميم

- ‌سرية قطبة بن عامر رضي الله تعالى عنه إلى حي من خثعم

- ‌سرية الضحاك الكلابي رضي الله تعالى عنه

- ‌سرية علقمة بن مجزز رضي الله تعالى عنهما

- ‌سرية علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى هدم الفلس بضم الفاء وسكون اللام «صنم طيىء» والغارة عليهم

- ‌سرية علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى بلاد مذحج

- ‌سرية خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل، وكان نصرانيا

- ‌سرية أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه إلى أبنى

- ‌باب يذكر فيه ما يتعلق بالوفود التي وفدت عليه صلى الله عليه وسلم

- ‌باب بيان كتبه صلى الله عليه وسلم التي أرسلها إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام

- ‌ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم إلى قيصر

- ‌ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم إلى كسرى ملك فارس على يد عبد الله بن حذافة، أي لأنه كان يتردد عليه كثيرا

- ‌ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم للنجاشي ملك الحبشة على يد عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه

- ‌ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم للمقوقس ملك القبط

- ‌ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم للمنذر بن ساوي العبدي بالبحرين على يد العلاء بن الحضرمي

- ‌ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم إلى جيفر وعبد ابني الجلندي ملكي عمان

- ‌ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم إلى هوذة

- ‌ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم إلى الحارث بن أبي شمر الغساني

- ‌حجة الوداع

- ‌باب ذكر عمره صلى الله عليه وسلم

- ‌باب ذكر نبذ من معجزاته صلى الله عليه وسلم

- ‌باب نبذة من خصائصه صلى الله عليه وسلم

- ‌باب ذكر أولاده صلى الله عليه وسلم

- ‌باب ذكر أعمامه وعماته صلى الله عليه وسلم

- ‌باب ذكر أزواجه وسراريه صلى الله عليه وسلم

- ‌باب ذكر المشاهير من خدمه صلى الله عليه وسلم من الأحرار

- ‌باب ذكر المشاهير من مواليه صلى الله عليه وسلم الذين أعتقهم

- ‌باب ذكر المشاهير من كتّابه صلى الله عليه وسلم

- ‌باب يذكر فيه حراسه صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67]

- ‌باب يذكر فيه من ولي السوق في زمنه صلى الله عليه وسلم

- ‌باب يذكر فيه من كان يضحكه صلى الله عليه وسلم

- ‌باب يذكر فيه أمناء رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌باب يذكر فيه شعراؤه صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يناضلون عنه بشعرهم ويهجون كفار قريش

- ‌باب يذكر فيه من كان يضرب الأعناق بين يديه صلى الله عليه وسلم

- ‌باب يذكر فيه مؤذنوه صلى الله عليه وسلم

- ‌باب يذكر فيه العشرة المبشرون الجنة رضي الله تعالى عنهم

- ‌باب يذكر فيه حواريوه صلى الله عليه وسلم

- ‌باب يذكر فيه سلاحه صلى الله عليه وسلم

- ‌باب يذكر فيه خيله وبغاله وحمره صلى الله عليه وسلم

- ‌باب يذكر فيه صفته صلى الله عليه وسلم الظاهرة وإن شاركه فيها غيره

- ‌باب يذكر فيه صفته صلى الله عليه وسلم الباطنة وإن شاركه فيها غيره

- ‌باب يذكر فيه مدة مرضه، وما وقع فيه، ووفاته صلى الله عليه وسلم التي هي مصيبة الأولين والآخرين من المسلمين

- ‌باب بيان ما وقع من الحوادث من عام ولادته صلى الله عليه وسلم إلى زمان وفاته صلى الله عليه وسلم على سبيل الإجمال وبيان زمن ولادته عاما ويوما وشهرا ومكانا

- ‌فهرس المحتويات

الفصل: ‌عمرة القضاء أي ويقال لها عمرة القضية

رجوت أن لا يسلمك إلا خير. قلت: يا رسول الله ادع الله لي أن يغفر لي تلك المواطن التي كنت أشهدها عليك، فقال صلى الله عليه وسلم:«الإسلام يجب ما كان قبله» أي وتقدم عثمان وعمرو فأسلما.

وفي رواية عن عمرو بن العاص قال: قدمنا المدينة فأنخنا بالحرة فلبسنا من صالح ثيابنا ثم نودي بالعصر، فانطلقنا حتى اطلعنا عليه صلى الله عليه وسلم وإن لوجهه تهللا والمسلمون حوله قد سروا بإسلامنا؛ تقدم خالد بن الوليد فبايع، ثم تقدم عثمان بن طلحة فبايع، ثم تقدمت فو الله ما هو إلا أن جلست بين يديه صلى الله عليه وسلم، فما استطعت أن أرفع طرفي حياء منه صلى الله عليه وسلم، قال: فبايعته على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي ولم يحضرني ما تأخر، فقال:«إن الإسلام يجب ما كان قبله، والهجرة تجب ما كان قبلها» فو الله ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخالد بن الوليد أحدا من الصحابة في أمر حربه منذ أسلمنا، ولقد كنا عند أبي بكر رضي الله تعالى عنه بتلك المنزلة، ولقد كنت عند عمر رضي الله تعالى عنه بتلك الحالة، وكان عمر رضي الله تعالى عنه على خالد كالعاتب، وتقدم أن عمرا رضي الله تعالى عنه أسلم على يد النجاشي رضي الله تعالى عنه.

قال بعضهم: وفي إسلام عمرو على يد النجاشي لطيفة وهي صحابي أسلم على يد تابعي. ولا يعرف مثله. ومن حين أسلم خالد رضي الله تعالى عنه لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوليه أعنة الخيل فيكون في مقدمها. والله أعلم.

‌عمرة القضاء أي ويقال لها عمرة القضية

أي لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضى قريشا عليها، أي صالحهم عليها، ومن ثم قيل لها عمرة الصلح، ويقال لها عمرة القصاص. قال السهيلي رحمه الله: وهذا الاسم أولى بها، لقوله تعالى الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ [البقرة: الآية 194] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: فتحصل من أسمائها أربعة: القضاء، والقضية، والصلح، والقصاص: أي لأنها كانت في شهر ذي القعدة من السنة السابعة، أي وهو الشهر الذي صدّه فيه المشركون عن البيت منها سنة ست، وليست قضاء عن العمرة التي صدّ عن البيت فيها. فإنها لم تكن فسدت بصدهم له عن البيت، بل كانت عمرة تامة معدودة في عمره صلى الله عليه وسلم التي اعتمرها صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة، وهي أربعة: عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، وعمرة الجعرّانة لما قسم غنائم حنين، والعمرة التي قرنها مع حجه في حجة الوداع بناء على ما هو الراجح من أنه كان قارنا، ولكنها في ذي القعدة إلا التي كانت مع حجه.

وقد مكث صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة لم ينقل عنه أنه اعتمر خارجا من مكة إلى الحلّ في تلك المدة أصلا، ولم يفعل هذا على عهده صلى الله عليه وسلم إلا عائشة رضي الله

ص: 89

تعالى عنها كما سيأتي في حجة الوداع.

وكون العمرة لا تفسد بالصدّ إنما هو على ما يراه إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه. أما على من يرى أن العمرة تفسد بالصدّ عنها، وأنه يجب قضاؤها كما هو المنقول عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، فواضح أنها قضاء، وهذه العمرة ليست من الغزوات، وإنما ذكرها البخاري فيها، لأنه صلى الله عليه وسلم خرج مستعدا بالسلاح للمقاتلة خشية أن يقع من قريش غدر، وليس من لازم الغزو وقوع المقاتلة، ومن ثم قيل لها غزوة الأمن.

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قاصدا مكة للعمرة على ما عاقد عليه قريشا في الحديبية، أي من أنه يدخل مكة في العام القابل معه سلاح المسافر ولا يقيم بها أكثر من ثلاثة أيام.

وفي أنس الجليل ما يفيد أن اشتراط الثلاثة أيام كان في عمرة القضاء، ففيه:

ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمرا عمرة القضاء، فأبى أهل مكة أن يدعوه صلى الله عليه وسلم يدخل مكة حتى قاضاهم على أن يقيم ثلاثة أيام، وأن لا يخرج من أهلها أحد إن أراد أن يتبعه، وأن لا يمنع من أصحابه أحدا أن يقيم بها وأصحابه كانوا ألفين، أي وأمر أن لا يتخلف عنه أحد ممن شهد الحديبية، فلم يتخلف أحد إلا من استشهد في خيبر ومن مات، وخرج معه جمع ممن لم يشهد الحديبية، واستخلف على المدينة أبا ذر الغفاري وقيل غيره، وساق ستين بدنة وقلدها: أي جعل في عنق كل بعير قطعة من جلد أو نعلا بالية ليعلم أنه هدي فيكف الناس عنه، ولم يذكر هنا الإشعار، أي وجعل عليها ناجية بن جندب.

قال: وحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم والدروع والرماح، وقاد مائة فرس عليها محمد بن مسلمة رضي الله عنه، أي وعلى السلاح يشير بوزن أمير ابن سعد، وأحرم صلى الله عليه وسلم من باب المسجد، فلما انتهى إلى ذي الحليفة قدم الخيل أمامه فقيل: يا رسول الله حملت السلاح وقد شرطوا أن لا ندخلها عليهم بسلاح إلا بسلاح المسافر السيوف في القرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ندخل عليهم الحرم بالسلاح ولكن يكون قريبا منا، فإن هاجنا هيج من القوم كان السلاح قريبا منا، فمضى بالخيل محمد بن مسلمة، فلما كان بمر الظهران وجد نفرا من قريش فسألوه، فقال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح هذا المنزل غدا إن شاء الله، أي وقد رأوا سلاحا كثيرا، فخرجوا سراعا حتى أتوا قريشا فأخبروهم بالذي رأوا من الخيل والسلاح، ففزعت قريش وقالوا: ما أحدثنا حدثا، وإنا على كتابنا ومدتنا ففيم يغزونا محمد في أصحابه.

ثم إن قريشا بعثت مكرز بن حفص في نفر من قريش إليه صلى الله عليه وسلم، فقالوا والله يا محمد ما عرفت صغيرا ولا كبيرا بالغدر، تدخل بالسلاح في الحرم على قومك وقد

ص: 90

شرطت عليهم أن لا تدخل إلا بسلاح المسافر السيوف في القرب، فقال صلى الله عليه وسلم: إني لا أدخل عليهم بسلاح، فقال مكرز: هو الذي تعرف به البرّ والوفاء، ثم رجع مكرز إلى مكة سريعا وقال: إن محمدا لا يدخل بسلاح وهو على الشرط الذي شرط لكم انتهى.

فلما اتصل خروجه لقريش خرج كبراؤهم من مكة حتى لا يروه صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت وهو وأصحابه عداوة وبغضا وحسدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة، أي راكبا ناقته القصواء وأصحابه محدقون به، قد توشحوا السيوف يلبون، ثم دخل من الثنية التي تطلعه على الحجون وهي ثنية كداء بالمد، أي وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل مكة قال: اللهم لا تجعل منيتنا بها، يقول ذلك من حين يدخل حتى يخرج منها، أي وجعل صلى الله عليه وسلم في بطن ناجح، موضع قريب من الحرم، وتخلف عنده جمع من المسلمين؛ أي نحو مائتين من أصحابه عليهم أوس بن خولى، وقعد جمع من المشركين بجبل قينقاع ينظرون إليه صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه وهم يطوفون بالبيت، وقد قالوا: أي كفار قريش: إن المهاجرين أوهنتهم: أي أضعفتهم حمى يثرب. وفي لفظ قالوا: يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا، ثم قال صلى الله عليه وسلم: رحم الله امرأ أراهم من نفسه قوة فأمر أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة، أي ليروا المشركين أن لهم قوة: أي فعند ذلك قال المشركين؛ أي قال بعضهم لبعض: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهمتهم، هؤلاء أجلد من كذا، إنهم لينفرون: أي يثبون نفر الظبي: أي الغزال، وإنما لم يأمرهم صلى الله عليه وسلم بالرمل في الأشواط كلها رفقا بهم، واضطبع صلى الله عليه وسلم بردائه وكشف عضده اليمنى ففعلت الصحابة رضي الله تعالى عنهم كذلك، وهذا أوّل رمل واضطباع في الإسلام.

وأقام صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثلاثة أيام، فلما تمت الثلاثة التي هي أمد الصلح جاء حويطب بن عبد العزى ومعه سهيل بن عمرو رضي الله تعالى عنهما- فإنهما أسلما بعد ذلك- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرانه بالخروج هو وأصحابه من مكة، فقالوا:

نناشدك الله والعقد إلا ما خرجت من أرضنا فقد مضت الثلاث، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه منها، وكان صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة بنت الحارث الهلالية رضي الله عنها؛ أي وكان اسمها برة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهي أخت أم الفضل زوج العباس رضي الله عنهما، وأخت أسماء بنت عميس لأمها زوج حمزة رضي الله تعالى عنه، وكان تزوجه صلى الله عليه وسلم ميمونة قبل أن يحرم بالعمرة، وقيل بعد أن أحلّ منها، وقيل وهو محرم، أي وهو ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ورواه الدارقطني من طريق ضعيف عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، فإنه صلى الله عليه وسلم كان قد بعث إليها جعفرا رضي الله عنه ليخطبها، ولما انتهت إليها خطبة النبي صلى الله عليه وسلم كانت

ص: 91

على بعيرها، فقالت: البعير وما عليه لله ولرسوله، أي ومن ثم قيل إنها التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم. وقيل جعلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي وقيل جعلت أمرها لأم الفضل أختها فجعلت أمّ الفضل أمرها للعباس فزوجها العباس وأصدقها عنه صلى الله عليه وسلم أربعمائة درهم، ولا مانع من نكاحه صلى الله عليه وسلم وهو محرم، فإن من خصائصه صلى الله عليه وسلم حلّ عقد النكاح في الإحرام.

أي وفي كلام السهيلي، كان من شيوخنا من يتأول قول ابن عباس: تزوجها محرما: أي في الشهر الحرام وفي البلد الحرام، ولم يرد الإحرام بالحج، أي كما أراد ذلك الشاعر بقوله في عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه:

قتلوا ابن عفان الخليفة محرما

ورعا لم أر مثله مقتولا

أي في شهر حرام، فإنه قتل في أيام التشريق هذا كلام السهيلي.

قال ابن كثير رحمه الله: وفيه نظر لأن الروايات عن ابن عباس رضي الله عنهما متضافرة بخلاف ذلك التي منها تزوجها وهو محرم هذا كلامه.

وعن ابن المسيب: غلط ابن عباس، أو قال: وهم ابن عباس، ما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم إلا وهو حلال، ومن ثم روى الدارقطني عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال، قال السهيلي: فهذه الرواية عن ابن عباس موافقة لرواية غيره، فقف عليها فإنها غريبة عن ابن عباس.

وذكر بعض فقهائنا «أنه صلى الله عليه وسلم وكل أبا رافع رضي الله تعالى عنه في نكاح ميمونة رضي الله تعالى عنها» وفي بعض السير، وعن أبي رافع قال «تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال وبنى بها وهو حلال، وأنا الرسول بينهما» رواه البيهقي والترمذي والنسائي، وأراد صلى الله عليه وسلم أن يا بني بها في مكة فلم يمهلوه يا بني بها، قال: وقد قال لهم «ما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم، فصنعت لكم طعاما؟ فقالوا: لا حاجة لنا في طعامك، اخرج عنا من أرضنا، هذه الثلاثة قد مضت» وفي لفظ «قال لهم: إني قد نكحت فيكم امرأة فما يضركم أن مكثت حتى أدخل بها وأصنع الطعام فنأكل وتأكلون معنا» وفي رواية «جاؤوا إليه صلى الله عليه وسلم في قبته التي نصبها بالأبطح، وذلك وقت الظهر، وقيل وقت الصبح» ولا مخالفة لجواز مجيئهم له في الوقتين. وعند مجيئهم له صلى الله عليه وسلم كان مع الأنصار يتحدث مع سعد بن عبادة، فصاح حويطب: ناشدتك الله والعقد إلا ما خرجت من أرضنا فقد مضت الثلاث، فغضب سعد بن عبادة رضي الله عنه لما رأى من غلظ كلامهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال لذلك القائل: كذبت لا أمّ لك، ليست بأرضك ولا أرض آبائك، أي وفي لفظ قال: يا عاضّ بظر أمه أرضك وأرض أمك دونه، ليست بأرضك ولا أرض آبائك، والله لا يبرح منها إلا طائعا راضيا،

ص: 92

فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا سعد لا تؤذ قوما زارونا في رحالنا، وأسكت الفريقين. ثم إنه صلى الله عليه وسلم أمر أبا رافع رضي الله تعالى عنه أن ينادي بالرحيل ولا يمسي بها أحد من المسلمين وخلف أبا رافع ليأتي له بميمونة حين يمسي، فخرج بها، ولقيت ميمونة رضي الله تعالى عنها من سفهاء مكة عناء.

فعن أبي رافع رضي الله تعالى عنه: لقينا عناء من أهل مكة من سفهاء المشركين من أذى ألسنتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ولميمونة، فقلت لهم: ما شئتم، هذه والله الخيل والسلاح ببطن ناجح وأنتم تريدون نقض العهد والمدة، فولوا راجعين منكسين، وأقام صلى الله عليه وسلم بسرف بكسر الراء: وهو محل بين مساجد عائشة وبطن مرو، وهو أقرب إلى مساجد عائشة، وفيه دخل صلى الله عليه وسلم بميمونة: أي تحت شجرة هناك، وكان محل موتها ودفنها، دفنت فيه بعد ذلك، فإنه صلى الله عليه وسلم أخبرها بأنها لا تموت بمكة، فلما ثقل عليها المرض وهي بمكة قالت: أخرجوني من مكة فإني لا أموت بها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني بذلك، فحملوها حتى أتوا بها ذلك الموضع فماتت به ودفنت به، أي وهي آخر امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخر من توفي من أزواجه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن.

وحين دخوله صلى الله عليه وسلم مكة أخذ عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه بغرزه: أي ركابه صلى الله عليه وسلم أي وقيل بزمام الناقة، وهو رضي الله تعالى عنه وعنا وعن المسلمين يقول من أبيات:

خلوا بني الكفار عن سبيله

خلوا فكلّ الخير في رسوله

قد أنزل الرحمن في تنزيله

بأن خير القتل في سبيله

فاليوم نضربكم على تأويله

كما ضربناكم على تنزيله

وفي لفظ:

نحن قتلناكم على تأويله

كما قتلناكم على تنزيله

وما قيل:

نحن قتلناكم على تأويله

كما ضربناكم على تنزيله

ضربا يزيل الهام عن مقيله

أو يذهل الخليل عن خليله

قال عمار بن ياسر يوم صفين: لا يمنع أن يكون ذلك من كلام ابن رواحة رضي الله تعالى عنه وتمثل به عمار رضي الله تعالى عنه.

أي وأما ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: أنا أقاتل على تنزيل القرآن وعليّ يقاتل على تأويله، فقال فيه الدارقطني رحمه الله تفرد به بعض الرافضة.

ص: 93

قال: وذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: مه يا بن رواحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حرم الله تقول الشعر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خلّ عنه يا عمر، فلهو أسرع فيهم من نضح النبل.

وذكر أنه صلى الله عليه وسلم قال: إيها يا بن رواحة: «قل لا إله إلا الله وحده. صدق وعده.

ونصر عبده. وأعز جنده. وهزم الأحزاب وحده» فقالها وقالها الناس، أي وفي الإمتاع: وكان ابن رواحة يرتجز في طوافه وهو آخذ بزمام الناقة، فقال عليه الصلاة والسلام: إيها يا بن رواحة «قل: لا إله إلا الله وحده. صدق وعده. ونصر عبده.

وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده» فقالها وقالها الناس، وطاف صلى الله عليه وسلم على راحلته، واستلم الحجر بمحجنه.

وذكر أنه صلى الله عليه وسلم دخل البيت، فلم يزل به حتى أذن بلال الظهر فوق ظهر الكعبة، فقال عكرمة بن أبي جهل: لقد أكرم الله تعالى أبا الحكم: يعني والده أبا جهل، حيث لم يسمع هذا العبد يقول ما يقول. وقال صفوان بن أمية: الحمد لله الذي أذهب أبي قبل أن يرى هذا، وقال خالد بن أسيد: الحمد لله الذي أذهب أبي ولم يشهد هذا اليوم، حيث يقوم بلال ينهق فوق الكعبة، وسهيل بن عمرو لما سمع ذلك غطى وجهه، وكل هؤلاء أسلموا بعد ذلك رضي الله تعالى عنهم.

قال بعضهم: وكون ما ذكر: أي من دخوله صلى الله عليه وسلم داخل الكعبة وأذان بلال رضي الله تعالى عنه فوق ظهرها كان في عمرة القضاء خلاف المشهور، إذ المشهور أن ذلك كان في يوم الفتح، ويدلّ لذلك ما قيل: لم يدخل صلى الله عليه وسلم الكعبة وأنه أراد ذلك فأبوا وقالوا لم يكن في شرطك، فأمر بلال فأذن فوق ظهر الكعبة مرة واحدة ولم يعد بعدها، قال الواقدي: في هذا القيل إنه أثبت.

أقول: ويؤيد الأول ما جاء «دخلت الكعبة ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما دخلتها، إني أخاف أن أكون قد شققت على أمتي من بعدي» أي لاتخاذهم ذلك سنة، إلا أن يقال يجوز أن يكون ذلك كان منه صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، وينبغي أن يكون هذا من أعلام النبوة، فإن الناس يحصل لهم من التعب بسبب دخولها سيما زمن الموسم ما لا يعبر عنه من المتاعب والأمور الفظيعة، والله أعلم.

ثم سعى صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة، أي وأوقف الهدي عند المروة، وقال «هذا المنحر وكل فجاج مكة منحر فنحر عندها وحلق» ولم أقف على من حلق رأسه الشريف في هذه العمرة. ثم رأيته في الإمتاع قال: حلقه معتمر بن عبد الله العدوي وفعل كفعله صلى الله عليه وسلم المسلمون، أي ومن لم يجد منهم بدنة رخص له في البقرة، وكان قدم رجل مكة ببقر فاشتراه الناس منه، وأمر صلى الله عليه وسلم من تحلل أن يذهب إلى السلاح ويأتي آخرون فيقضوا نسكهم ففعلوا.

ص: 94