المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة - السيرة الحلبية = إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون - جـ ٣

[نور الدين الحلبي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌[تتمة باب ذكر مغازيه ص]

- ‌غزوة بني لحيان

- ‌غزوة ذي قرد

- ‌ غزوة الحديبية

- ‌غزوة خيبر

- ‌غزوة وادي القرى

- ‌عمرة القضاء أي ويقال لها عمرة القضية

- ‌غزوة مؤتة

- ‌فتح مكة شرفها الله تعالى

- ‌غزوة حنين

- ‌ غزوة الطائف

- ‌غزوة تبوك

- ‌باب: سراياه صلى الله عليه وسلم وبعوثه

- ‌سرية حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه

- ‌سرية عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه

- ‌سرية سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه إلى الخرار

- ‌سرية عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه إلى بطن نخلة

- ‌سرية عمير بن عدي الخطمي الضرير إلى عصماء

- ‌سرية سالم بن عمير إلى أبي عفك

- ‌سرية عبد الله بن مسلمة رضي الله عنه إلى كعب بن الأشرف الأوسي

- ‌سرية عبد الله بن عتيك رضي الله عنه لقتل أبي رافع

- ‌سرية زيد بن حارثة رضي الله عنهما إلى القردة

- ‌سرية أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد

- ‌سرية الرجيع

- ‌سرية القراء رضي الله تعالى عنهم إلى بئر معونة

- ‌سرية محمد بن سلمة إلى القرطاء

- ‌سرية عكاشة بن محصن رضي الله تعالى عنه إلى الغمر

- ‌سرية محمد بن مسلمة رضي الله تعالى عنه لذي القصة

- ‌سرية أبي عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه إلى ذي القصة أيضا

- ‌سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه إلى بني سليم بالجموح

- ‌سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما إلى العيص

- ‌سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما إلى بني ثعلبة

- ‌سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما إلى جذام

- ‌سرية أمير المؤمنين أبي بكر الصديق رضي الله عنه لبني فزارة كما في صحيح مسلم بوادي القرى

- ‌سرية عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه إلى دومة الجندل

- ‌سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما إلى مدين

- ‌سرية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى بني سعد بن بكر بفدك

- ‌سرية عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه إلى أسير

- ‌سرية عمرو بن أمية الضمري وسلمة بن أسلم بن حريس رضي الله عنهما

- ‌سرية سعيد بن زيد رضي الله تعالى عنه

- ‌سرية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى طائفة من هوازن

- ‌سرية أبي بكر رضي الله تعالى عنه إلى بني كلاب

- ‌سرية بشير بن سعد الأنصاري رضي الله تعالى عنه إلى بني مرة بفدك

- ‌سرية غالب بن عبد الله الليثي رضي الله تعالى عنه إلى بني عوال وبني عبد بن ثعلبة بالميفعة، اسم محل وراء بطن نخل

- ‌سرية بشير بن سعد الأنصاري رضي الله تعالى عنه إلى يمن

- ‌سرية ابن أبي العوجاء السلمي رضي الله تعالى عنه إلى بني سليم

- ‌سرية غالب بن عبد الله الليثي رضي الله تعالى عنه إلى بني الملوّح

- ‌سرية غالب بن عبد الله الليثي رضي الله تعالى عنه إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد رضي الله تعالى عنه أي في بني مرة بفدك

- ‌سرية شجاع بن وهب الأسدي رضي الله تعالى عنه إلى بني عامر

- ‌سرية كعب بن عمير الغفاري رضي الله تعالى عنه

- ‌سرية عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه إلى ذات السلاسل

- ‌سرية الخبط وهو ورق السمر

- ‌سرية أبي قتادة رضي الله تعالى عنه إلى غطفان أرض محارب

- ‌سرية عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي رضي الله تعالى عنه إلى الغابة

- ‌سرية أبي قتادة رضي الله تعالى عنه إلى بطن أضم

- ‌سرية خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى العزى

- ‌سرية عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه إلى سواع

- ‌سرية سعد بن زيد الأشهلي رضي الله عنه إلى مناة

- ‌سرية خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى بني جذيمة

- ‌سرية أبي عامر الأشعري رضي الله تعالى عنه إلى أوطاس

- ‌سرية الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه إلى ذي الكفين صنم عمرو بن حميمة الدوسي ليهدمه

- ‌سرية عيينة بن حصن الفزاري رضي الله تعالى عنه إلى بني تميم

- ‌سرية قطبة بن عامر رضي الله تعالى عنه إلى حي من خثعم

- ‌سرية الضحاك الكلابي رضي الله تعالى عنه

- ‌سرية علقمة بن مجزز رضي الله تعالى عنهما

- ‌سرية علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى هدم الفلس بضم الفاء وسكون اللام «صنم طيىء» والغارة عليهم

- ‌سرية علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى بلاد مذحج

- ‌سرية خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل، وكان نصرانيا

- ‌سرية أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه إلى أبنى

- ‌باب يذكر فيه ما يتعلق بالوفود التي وفدت عليه صلى الله عليه وسلم

- ‌باب بيان كتبه صلى الله عليه وسلم التي أرسلها إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام

- ‌ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم إلى قيصر

- ‌ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم إلى كسرى ملك فارس على يد عبد الله بن حذافة، أي لأنه كان يتردد عليه كثيرا

- ‌ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم للنجاشي ملك الحبشة على يد عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه

- ‌ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم للمقوقس ملك القبط

- ‌ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم للمنذر بن ساوي العبدي بالبحرين على يد العلاء بن الحضرمي

- ‌ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم إلى جيفر وعبد ابني الجلندي ملكي عمان

- ‌ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم إلى هوذة

- ‌ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم إلى الحارث بن أبي شمر الغساني

- ‌حجة الوداع

- ‌باب ذكر عمره صلى الله عليه وسلم

- ‌باب ذكر نبذ من معجزاته صلى الله عليه وسلم

- ‌باب نبذة من خصائصه صلى الله عليه وسلم

- ‌باب ذكر أولاده صلى الله عليه وسلم

- ‌باب ذكر أعمامه وعماته صلى الله عليه وسلم

- ‌باب ذكر أزواجه وسراريه صلى الله عليه وسلم

- ‌باب ذكر المشاهير من خدمه صلى الله عليه وسلم من الأحرار

- ‌باب ذكر المشاهير من مواليه صلى الله عليه وسلم الذين أعتقهم

- ‌باب ذكر المشاهير من كتّابه صلى الله عليه وسلم

- ‌باب يذكر فيه حراسه صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67]

- ‌باب يذكر فيه من ولي السوق في زمنه صلى الله عليه وسلم

- ‌باب يذكر فيه من كان يضحكه صلى الله عليه وسلم

- ‌باب يذكر فيه أمناء رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌باب يذكر فيه شعراؤه صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يناضلون عنه بشعرهم ويهجون كفار قريش

- ‌باب يذكر فيه من كان يضرب الأعناق بين يديه صلى الله عليه وسلم

- ‌باب يذكر فيه مؤذنوه صلى الله عليه وسلم

- ‌باب يذكر فيه العشرة المبشرون الجنة رضي الله تعالى عنهم

- ‌باب يذكر فيه حواريوه صلى الله عليه وسلم

- ‌باب يذكر فيه سلاحه صلى الله عليه وسلم

- ‌باب يذكر فيه خيله وبغاله وحمره صلى الله عليه وسلم

- ‌باب يذكر فيه صفته صلى الله عليه وسلم الظاهرة وإن شاركه فيها غيره

- ‌باب يذكر فيه صفته صلى الله عليه وسلم الباطنة وإن شاركه فيها غيره

- ‌باب يذكر فيه مدة مرضه، وما وقع فيه، ووفاته صلى الله عليه وسلم التي هي مصيبة الأولين والآخرين من المسلمين

- ‌باب بيان ما وقع من الحوادث من عام ولادته صلى الله عليه وسلم إلى زمان وفاته صلى الله عليه وسلم على سبيل الإجمال وبيان زمن ولادته عاما ويوما وشهرا ومكانا

- ‌فهرس المحتويات

الفصل: ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة

ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة تبعته عمارة، أي وقيل اسمها أم أبيها، وقيل أمامة، وقيل أمة الله، قال ابن عبد البر: والمثبت أمامة، وأمها سلمى بنت عميس بنت عمه حمزة رضي الله تعالى عنه تنادي: يا عم يا عم، أي في لفظ: أن أبا رافع خرج بها فتناولها علي كرم الله وجهه؛ فأخذ بيدها وقال لفاطمة: دونك ابنة عمك، فلما وصلوا المدينة اختصم فيها عليّ وأخوه جعفر وزيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهم، فقال زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه: أنا أحق بها، لأنها بنت أخي أي وأنا وصيه، لأنه صلى الله عليه وسلم آخى بين حمزة وزيد، أي وجعل حمزة رضي الله تعالى عنه وصيه.

وقال علي كرم الله وجهه: أنا أحق بها لأنها ابنة عمي وجئت بها من مكة. وقال جعفر رضي الله تعالى عنه: أنا أحق بها لأنها بنت عمي وخالتها تحتي، أي وهي أسماء بنت عميس فقضى بها صلى الله عليه وسلم لجعفر رضي الله تعالى عنه، وقال «الخالة بمنزلة الأم» هذا.

وفي الإمتاع «وكلم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمارة بنت حمزة رضي الله تعالى عنهما، وكانت مع أمها سلمى بنت عميس بمكة، فقال: علام نترك بنت عمنا يتيمة بين أظهر المشركين؟ وإنه لما قضى بها لجعفر رضي الله تعالى عنه حجل جعفر حول النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا يا جعفر؟ فقال: يا رسول الله كان النجاشي إذا أرضى أحدا قام فحجل حوله، وفيه أنه فعل مثل ذلك بخيبر.

وما بالعهد من قدم

إلا أن يقال يجوز أن يكون في خيبر فعل ذلك ولم يره النبي صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها» وفيه تقديم الخالة في الحضانة على العمة، لأن عمتها صفية رضي الله تعالى عنها كانت موجودة، وقال صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله وجهه في هذا الموطن «أنت أخي وصاحبي» وفي لفظ «أنت مني وأنا منك» وقال صلى الله عليه وسلم لجعفر رضي الله تعالى عنه «أشبهت خلقي وخلقي» أي وقد تقدم منه صلى الله عليه وسلم ذلك له في خيبر، وقال صلى الله عليه وسلم لزيد رضي الله تعالى عنه «أنت أخي ومولاي» وفي لفظ «أنت مولى الله ومولى رسوله صلى الله عليه وسلم» .

‌غزوة مؤتة

بضم الميم وبالهمزة ساكنة ويترك الهمزة: موضع معروف عند الكرك. وفي كلام السهيلي مؤتة مهموز الفاء، وأما الموتة بلا همزة فضرب من الجنون، وفي الحديث «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في صلاته: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، من همزة، ونفخة، ونفثة» وفسره راوي الحديث فقال: نفثة: السحر، ونفخة: الكبر،

ص: 95

وهمزة: الموتة، هذا كلامه.

كانت هذ الغزوة في جمادى الأولى سنة ثمان. وكان سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الحارث بن عمير الأزدي بكتاب إلى هرقل عظيم الروم بالشام، أي فلما نزل مؤتة تعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني، أي وهو من أمراء قيصر على الشام، فقال: أين تريد، لعلك من رسل محمد؟ قال نعم، فأوثقه ربطا ثم قدمه فضرب عنقه ولم يقتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم رسول غيره، فلما بلغ رسول الله ذلك اشتدّ الأمر عليه، فجهز جمعا من أصحابه وعدّتهم ثلاثة آلاف وبثعهم إلى مقاتلة ملك الروم، وأمر عليهم زيد بن حارثة وقال «إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، وإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس» .

قال: وفي رواية «فإن أصيب ابن رواحة فليرتض المسلمون برجل منهم فليجعلوه عليهم» وقد حضر ذلك المجلس رجل من يهود فقال: يا أبا القاسم إن كنت نبيا يصاب جميع من ذكرت لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من بني إسرائيل كان الواحد منهم إذا استعمل رجلا على القوم وقال إن أصيب فلان لا بد أن يصاب، أي ولو عدّ مائة أصيبوا جميعا، ثم صار يقول لزيد: اعهد فلن ترجع إلى محمد أبدا إن كان نبيا، وزيد يقول أشهد أنه نبي، وعقد صلى الله عليه وسلم لواء أبيض ودفعه لزيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه، وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير ويدعوا من هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعانوا عليهم بالله تبارك وتعالى وقاتلوهم.

وذكر بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم نهاهم أن يأتوا مؤتة فغشيتهم ضبابة فلم يبصروا حتى أصبحوا على مؤتة انتهى.

وودعهم الناس وقالوا لهم: صحبكم الله، ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين.

قال: ويقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج مشيعا لهم حتى بلغ ثنية الوداع، فوقف فقال:

أي بعد قوله «أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيرا، اغزوا باسم الله، فقاتلوا عدو الله وعدوكم بالشام، وستجدون فيها رجالا في الصوامع معتزلين فلا تتعرضوا لهم، ولا تقتلوا امرأة، ولا صغيرا ولا بصيرا فانيا، ولا تقطعوا شجرة، ولا تهدموة بناء» انتهى، وقال لهم المسلمون: دفع الله عنكم، وردكم غانمين، فمضوا حتى نزلوا من أرض الشام؛ فبلغهم أن هرقل ملك الروم في مائة ألف من الروم وانضم إليه من قبائل العرب أي المنتصرة: أي من بني بكر ولخم وجذام مائة ألف.

وفي رواية: كانوا مائتي ألف من الروم وخمسين ألفا من العرب ومعهم من الخيول والسلاح ما ليس مع المسلمين وكان المسلمون ثلاثة آلاف كما مر، فلما بلغهم ذلك أقاموا في ذلك المحل ليلتين ينظرون في أمرهم. هل يبعثون لرسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرونه بعدد عدوهم؟ فإما أن يمدهم برجال، أو يأمرهم بأمر فيمضوا إليه، فشجعهم

ص: 96

عبد الله بن رواحة، وقال لهم: يا قوم والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم له، خرجتم تطلبون الشهادة ونحن ما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله تعالى به، فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور وإما شهادة، أي فقال الناس: صدق والله ابن رواحة، فمضوا للقتال. فلقيتهم جموع هرقل ملك الروم من الروم والعرب، فانحاز المسلمون إلى مؤتة. فالتقى الجمعان عندها واقتتلوا، فقاتل زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه ومعه راية رسول الله صلى الله عليه وسلم:

أي لواؤه حتى قتل رضي الله تعالى عنه فأخذ الراية جعفر رضي الله تعالى عنه وقاتل على فرس أشقر ثم نزل عنه وعقره، أي وهو أول رجل من المسلمين عقر فرسه، وأول فرس عقر في سبيل الله، عقره خوفا أن يأخذه الكفار فيقاتلوا عليه المسلمين، ومن ثم لم ينكر عليه أحد من الصحابة، وبه استدل من جوّز قتل الحيوان خشية أن ينتفع به الكفار وتقاتل عليه المسلمين، ثم قاتل رضي الله تعالى عنه فقطعت يمينه، فأخذ الراية بيساره فقطعت يساره، فاحتضن الراية فأخذ الراية وقاتل حتى قتل رضي الله تعالى عنه، فأخذها عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه وتقدم بها وهو على فرسه وجعل يتردد في النزول عن فرسه، ثم نزل وقاتل حتى قتل، أي وحينئذ اختلط المسلمون والمشركون. وأراد بعض المسلمين الانهزام فجعل عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه يقول: يا قوم يقتل الإنسان مقبلا أحسن من أن يقتل مدبرا فأخذ الراية ثابت بن أرقم رضي الله تعالى عنه وقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم، فقالوا: أنت. فقال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه. أي ويقال إن ثابت بن أرقم دفعها إلى خالد رضي الله تعالى عنه وقال: أنت أعلم بالقتال مني. أي فقال له خالد: أنت أحق به مني، ونك ممن شهد بدرا. ثم أخذها خالد رضي الله تعالى ومانع القوم وثبت، ثم انحاز كل من الفريقين عن الآخر من غير هزيمة على أحدهما.

قال: وفي رواية قاتلوا المشركين حتى هزموهم. فعند ابن سعد أن خالدا رضي الله تعالى عنه لما أخذ اللواء حمل على القوم فهزمهم الله أسوأ هزيمة حتى وضع المسلمون أسيافهم حيث شاؤوا وأظهر الله المسلمين.

قيل وسبب ذلك أن خالدا رضي الله تعالى عنه لما أصبح جعل مقدمة الجيش ساقة وساقته مقدمة، وميمنته ميسرة، وميسرته ميمنة، فظن المشركون مجيء عدد للمسلمين فرعبوا وانهزموا فقتلوا قتلة لم يقتلها قوم. ويجوز أن يكون ذلك بعد انحياز المسلمين، فلا منافاة بين الروايتين، وكانت مدة القتال سبعة أيام.

وروى البخاري عن خالد رضي الله تعالى عنه قال: اندقت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، وما ثبت في يدي إلا صفيحة يمانية انتهى: وأطلع الله تعالى

ص: 97

رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، فأخبر به أصحابه، أي فإنه لما اطلع على ذلك نادى في الناس: الصلاة جامعة ثم صعد المنبر وعيناه تذرفان. وقال «أيها الناس باب خير باب خير باب خير ثلاثا. أخبركم عن جيشكم هذا الغازي، إنهم انطلقوا فلقوا العدو، فقتل زيد رضي الله تعالى عنه شهيدا فاستغفروا له. ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه وأثبت قدميه حتى قتل شهيدا فاستغفروا له، ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه وأثبت قدميه حتى قتل شهيدا فاستغفروا له، ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد ولم يكن من الأمراء وهو أمير نفسه ولكنه سيف من سيوف الله فآب بنصره» وفي لفظ «ثم أخذ الراية خالد بن الوليد، نعم عبد الله، وأخو العشيرة، وسيف من سيوف الله سله الله على الكفار والمنافقين من غير إمرة حتى فتح الله عليهم» .

قال وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم قال: اللهم إنه سيف من سيوفك فانصره. فمن يومئذ سمي خالد سيف الله» وفي لفظ «ثم أخذ اللواء سيف من سيوف الله تبارك وتعالى ففتح الله على يديه» .

وعن عبد الله بن أبي أوفى قال «اشتكى عبد الرحمن بن عوف خالد بن الوليد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا خالد لم تؤذي رجلا من أهل بدر؟ لو أنفقت مثل أحد ذهبا لم تدرك عمله، فقال: يا رسول الله إنهم يقعون فيّ فأرد عليهم، فقال: لا تؤذوا خالدا فإنه سيف من سيوف الله صبه الله على الكفار» قال بعضهم: وكون هذا نصرا وفتحا واضح لإحاطة العدو بهم وتكاثرهم عليهم لأنهم كانوا مائتي ألف والصحابة ثلاثة آلاف أي كما تقدم؛ إذا كان مقتضى العادة أن يقتلوا بالكلية.

وفي رواية أصاب خالد رضي الله عنه منهم مقتلة عظيمة، وأصاب غنيمة، وهذا لا يخالف ما يأتي أن طائفة منهم فروا إلى المدينة لما عاينوا كثرة جموع الروم فصار أهل المدينة يقولون لهم: أنتم الفرارون إلى آخر ما يأتي. وعن أسماء بنت عميس رضي الله عنهما، أي زوج جعفر رضي الله عنه قالت «دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أصيب جعفر وأصحابه، فقال ائتيني ببني جعفر فأتيته بهم فشمهم وذرفت عيناه أي وبكى حتى نقطت لحيته الشريفة، فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما يبكيك؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال نعم، أصيبوا هذا اليوم، فقمت أصيح واجتمع عليّ النساء: أي وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها: يا أسماء لا تقولي هجرا ولا تضربي خدا، وجاء إليه صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله إن النساء عيين وفتنّ، قال: فارجع إليهن فأسكتهن، فذهب ثم رجع، فقال له مثل الأول وقال نهيتهنّ فلم يطعنني، فقال اذهب فأسكتهن، فإن أبين فاحث في أفواههن التراب، وقال صلى الله عليه وسلم اللهم قد قدم، يعني جعفرا إلى أحسن الثواب فاخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت أحدا من

ص: 98

عبادك في ذريته، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله وقال: لا تغفلوا عن آل جعفر أن تصنعوا لهم طعاما فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم» انتهى.

أي وفي لفظ «دخل صلى الله عليه وسلم على فاطمة رضي الله عنها وهي تقول: واعماه، فقال صلى الله عليه وسلم على مثل جعفر فلتبك الباكية» وفي لفظ «البواكي» ثم قال صلى الله عليه وسلم «اصنعوا لآل جعفر طعاما، فقد شغلوا عن أنفسهم اليوم» وفي رواية «فإنهم قد شغلهم ما هم فيه» .

وعن عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنهما «أن سلمى مولاة النبي صلى الله عليه وسلم عمدت إلى شعير فطحنته ونسفته ثم طبخته وأدمته بزيت، وجعلت عليه فلفلا، قال عبد الله رضي الله عنه: فأكلت من ذلك الطعام، وحبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع إخوتي» وفي لفظ «أنا وأخي في بيته ثلاثة أيام، ندور معه صلى الله عليه وسلم كلما صار في بيت إحدى نسائه، ثم رجعنا إلى بيتنا» وهذا الطعام الذي فعل لآل جعفر رضي الله عنهم، قال السهيلي هو أصل في طعام التعزية وتسميه العرب الوضيمة، كما تسمي طعام العرس الوليمة، وطعام القادم من السفر النقيعة، وطعام البناء الوكيرة.

قال عبد الله رضي الله عنه: «ودعا لي صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم بارك له في صفقة يمينه، فما بعت شيئا ولا اشتريت شيئا إلا بورك لي فيه» .

ولما قدم عليه صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه بخبر الجيش قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن شئت فأخبرتني، وإن شئت فأخبرتك، قال: فأخبرني يا رسول الله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهم كله ووصف له، فقال: والذي بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا واحدا لم تذكره، وإن أمرهم لكما ذكرت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله رفع لي الأرض حتى رأيت معركتهم، أي وحين رأى ذلك صلى الله عليه وسلم، قال قد حمي الوطيس: أي حميت الحرب واشتدت، وقال صلى الله عليه وسلم: «مثل لي جعفر وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة في خيمة من در كل واحد منهم على سرير، فرأيت زيدا وابن رواحة في أعناقهما صدودا: أي اعتراضا، ورأيت جعفر مستقيما ليس في عنقه صدود، فسألت، فقيل لي: إنهما حين غشيهما الموت أعرضا بوجههما، وأما جعفر فإنه لم يفعل» .

وعن قتادة رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما قتل زيد أخذ الراية جعفر رضي الله عنه، فجاءه الشيطان لعنه الله فحبب إليه الحياة وكرّه إليه الموت ومناه الدنيا ثم مضى حتى استشهد رضي الله عنه.

قال وفي رواية «رأيتهم أي فيما يرى النائم» وفي رواية: «لقد رفعوا إليّ أي في الجنة فيما يرى النائم على سرير من ذهب، فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سريري صاحبيه: أي انحرافا؟ فقلت مم هذا؟ فقيل لي: مضيا وتردد عبد الله بعض التردد ثم مضى» انتهى. أي فإنه كما تقدم صار يستنزل نفسه ويتردد في

ص: 99

النزول بعض التردد. وفي لفظ «دخل عبد الله بن رواحة الجنة معترضا، فقيل: يا رسول الله ما اعتراضه؟ قال: لما أصابته الجراحة نكل، فعاتب نفسه فتشجع فاستشهد» وقال صلى الله عليه وسلم «إن الله أبدل جعفرا بيده جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء» .

قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: وجدنا فيما بين صدر جعفر ومنكبيه وما أقبل منه تسعين جراحة، ما بين ضربة بالسيف وطعنة بالرمح. وفي لفظ: طعنة ورمية. وفي لفظ آخر: ضربه رومي فقده نصفين، فوجدوا في إحدى شقيه بضعة وثمانين جرحا، وفيما أقبل من بدنه اثنين وسبعين ضربة بسيف وطعنة برمح. أي وقيل أربعا وخمسين ورواية التسعين أثبت. قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:

أتيته وهو مستلق آخر النهار فعرضت عليه الماء، فقال. إني صائم فضعه في ترسي عند رأسي، فإن عشت حتى تغرب الشمس أفطرت، قال: فمات صائما قبل غروب الشمس شهيدا وعمره إحدى وأربعون سنة، وقيل ثلاث وثلاثون سنة، وفيه أنه تقدم أنه كان أسن من عليّ بعشر سنين، وكان عقيل أسن من جعفر بعشر سنين، وكان طالب أسن من عقيل بعشر سنين.

ثم رأيت ابن كثير رحمه الله، قال: وعلى ما قيل إنه كان أسن من علي بعشر سنين يقتضي أن عمره يوم قتل تسع وثلاثون سنة، لأن عليا كرم الله وجهه أسلم وهو ابن ثمان سنين على المشهور، فأقام بمكة ثلاث عشرة سنة، وهاجر وعمره إحدى وعشرون سنة، ويوم مؤتة كان في سنة ثمان من الهجرة، وكونه رضي الله عنه مات صائما لا يناسب كونه شق نصفين.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع رأسه إلى السماء فقال: وعليكم السلام ورحمة الله، فقال الناس: يا رسول الله ما كنت تصنع هذا، قال مر بي جعفر بن أبي طالب في ملأ من الملائكة فسلم عليّ» .

ولما دنا الجيش من المدينة تلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، ولقيهم الصبيان ينشدون ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل مع القوم على دابة، فقال: خذوا الصبيان فاحملوهم، وأعطوني ابن جعفر، فأتي بعبد الله بن جعفر فأخذه فحمله بين يديه.

وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «هنيئا لك، أبوك يطير مع الملائكة في السماء» وفي الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا «دخلت البارحة الجنة فرأيت فيها جعفر بن أبي طالب يطير مع الملائكة» وفي رواية «يطير مع جبريل وميكائيل، له جناحان عوضه الله تعالى من يديه» وروي «جناحان من ياقوت» أي وذكر السهيلي رحمه الله أن الجناحين عبارة عن صفة ملكية وقوة روحانية أعطيهما جعفر رضي الله عنه يقتدر بهما على الطيران، لا

ص: 100

أنهما جناحان كجناح الطائر كما يسبق للوهم. أي لأن الصورة الآدمية أشرف الصور، أي ولا يضر في ذلك وصفهما بأنهما من ياقوت ولا كونهما مضمخين بالدم، وصار المسلمون يحثون في وجوههم التراب ويقولون لهم يا فرارون، فررتم في سبيل الله، فصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بل هم الكرارون. وفي لفظ: إنهم قالوا: يا رسول الله نحن الفارون، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أنتم العكارون: أي الكرارون، وهو دليل على أنه كان بينهم محاجزة وترك للقتال.

وعن بعض الصحابة: لما قتل ابن رواحة رضي الله عنه انهزم المسلمون رضي الله عنهم أسوأ هزيمة ثم تراجعوا، ولقد لقوا من أهل المدينة لما رجعوا شرا، حتى إن الرجل يجيء إلى أهل بيته يدق عليهم بابه، فيأبون يفتحون له ويقولون له: هلا تقدمت مع أصحابك؟ فقتلت، حتى إن نفرا من الصحابة رضي الله عنهم جلسوا في بيوتهم استحياء، كلما خرج واحد منهم صاحوا به، وصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل إليهم رجلا رجلا. ثم يقول: أنتم الكرارون في سبيل الله، ويعنون بالفرار انحيازهم مع خالد رضي الله عنه حين انحاز العدو عنهم؛ وإنما انحاز خالد رضي الله عنه لترتيبه العسكر، وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم خالدا رضي الله عنه على ذلك وأثنى عليه. وقتل رجل من المسلمين رجلا من الروم، فأراد أخذ سلبه فمنعه خالد رضي الله عنه، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال لخالد: ما منعك أن تعطيه سلبه؟ قال: استكثرته عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادفعه له.

وكان عوف بن مالك رضي الله عنه كلم خالدا في دفع ذلك لذلك الرجل قبل أن يقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مر خالد بعوف بن مالك أطلق لسانه في خالد رضي الله عنه وقال له: أما ذكرت لك ذلك ونحوه؟، فغضب صلى الله عليه وسلم وقال لخالد: لا تعطه يا خالد، هل أنتم تاركون لي أمرائي؟.

وفيه أن القاتل استحق السلب فكيف منعه. وأجيب بأنه يجوز أن يكون دفعه له بعد، وإنما أخر دفعه تعزيزا لعوف رضي الله عنه حين أطلق لسانه في خالد، وانتهك حرمته، وتطييبا لقلب خالد رضي الله عنه للمصلحة في إكرام الأمراء، وهذا السياق لا يدل على أن الجيش كله رضي الله عنهم قيل لهم الفرارون وإنما كان لطائفة من الجيش فروا إلى المدينة لما رأوا من كثرة العدو فليتأمل.

وعد هذه غزوة تبعت فيه الأصل، والحق أنها ليست من الغزوات بل من السرايا الآتي ذكرها لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن فيها، والله أعلم.

ص: 101