الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب يذكر فيه ما يتعلق بالوفود التي وفدت عليه صلى الله عليه وسلم
أي غير من تقدم، فقد تقدم أنه قدم عليه صلى الله عليه وسلم وفد هوازن بالجعرانة، وكذا وفد عليه بها مالك بن عوف النصري وذلك في آخر سنة ثمان: أي ووفد نصارى نجران، أي قبل الهجرة، ووفد بني تميم في سرية عيينة بن حصن. وذكر ابن سعد أن ذلك كان في المحرم سنة تسع.
ووفد عليه وفد نصارى نجران أيضا بعد الهجرة وكانوا ستين راكبا ودخلوا المسجد النبوي، أي وعليهم ثياب الحبرة وأردية الحرير مختمين بخواتم الذهب، أي ومعهم هدية وهي بسط فيها تماثيل ومسوح، فصار الناس ينظرون للتماثيل فقال صلى الله عليه وسلم:
أما هذه البسط فلا حاجة لي فيها، وأما هذه المسوح فإن تعطونيها آخذها، فقالوا نعم: نعطيكها. ولما رأى فقراء المسلمين ما عليه هؤلاء من الزينة والزي الحسن تشوقت نفوسهم إلى الدنيا، فأنزل الله تعالى: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [آل عمران: الآية 15] الآيات، وأرادوا أن يصلوا بالمسجد بعد أن حان وقت صلاتهم وذلك بعد العصر، فأراد الناس منعهم، فقال صلى الله عليه وسلم:
دعوهم، فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم، فعرض عليهم صلى الله عليه وسلم الإسلام وتلا عليهم القرآن فامتنعوا وقالوا قد كنا مسلمين قبلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبتم، يمنعكم من الإسلام ثلاث: عبادتكم الصليب، وأكلكم لحم الخنزير، وزعمكم أن لله ولدا: أي لأن أحدهم قال له صلى الله عليه وسلم: المسيح عليه الصلاة والسلام ابن الله لأنه لا أب له. وقال له آخر: المسيح هو الله لأنه أحيا الموتى، وأخبر عن الغيوب، وأبرأ من الأدواء كلها، وخلق من الطين طيرا. وقال له أفضلهم: فعلام تشتمه وتزعم أنه عبد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هو عبد الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ [النساء: الآية 171] فغضبوا، وقالوا: إنما يرضينا أن تقول إنه إله، وقالوا له صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقا فأرنا عبد الله يحيي الموتى ويشفي الأكمه والأبرص ويخلق من الطين طيرا فينفخ فيها فتطير؟ فسكت صلى الله عليه وسلم عنهم، فنزل الوحي بقوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة: الآية 17] وقوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آل عمران: الآية 59] ثم قال لهم صلى الله عليه وسلم: إن الله أمرني إن لم تنقادوا للإسلام أن أباهلكم، أي ندعوا ونجتهد في الدعاء باللعنة على الكاذب، فقالوا له: يا أبا القاسم نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك، فخلا بعضهم ببعض، فقال بعضهم: والله علمتم أن الرجل نبيّ مرسل، وما لاعن قوم قط إلا استؤصلوا: أي أخذوا عن آخرهم، وإن أنتم أبيتم إلا دينكم فوادعوه وصالحوه وارجعوا إلى بلادكم، وفي
لفظ: أنهم ذهبوا إلى بني قريظة: أي من بقي منهم وبني النضير وبني قينقاع واستشاروهم، فأشاروا عليهم أن يصالحوه ولا يلاعنوه.
وفي لفظ: أنهم وادعوه على الغد، فلما أصبح صلى الله عليه وسلم أقبل ومعه حسن وحسين وفاطمة وعلي رضي الله عنهم وقال: اللهم هؤلاء أهلي، أي وعند ذلك قال لهم الأسقف: إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل لهم جبلا لأزاله، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني، فقالوا: لا نباهلك.
وعن عمر رضي الله عنه: «أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لولا عنتهم يا رسول الله بيد من كنت تأخذ؟ قال صلى الله عليه وسلم: آخذ بيد عليّ وفاطمة والحسن والحسين وعائشة وحفصة» وهذا أي زيادة عائشة وحفصة في هذه الرواية دل عليه قوله تعالى: وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ [آل عمران: الآية 61] وصالحوه صلى الله عليه وسلم على الجزية، صالحوه على ألف حلة في صفر، وألف في رجب، ومع كل حلة أوقية من الفضة، وكتب لهم كتابا وقالوا له: أرسل معنا أمينا، فأرسل معهم أبا عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه، وقال لهم: هذا أمين هذه الأمة، أي وفي رواية: هذا هو القويّ الأمين، وكان لذلك يدعى في الصحابة بذلك.
ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أما والذي نفسي بيده لقد تدلى العذاب على أهل نجران، ولو لاعنوني لمسخوا قردة وخنازير، ولأضرم الوادي عليهم نارا، ولا ستأصل الله تعالى نجران وأهله حتى الطير على الشجر، ولا حال الحول على النصارى حتى يهلكوا» .
ووفد عليه صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة الداريون أبو الهند الداري وتميم الداري وأخوه نعيم، وأربعة آخرون، وسألوا رسول الله أن يعطيهم أرضا من أرض الشام فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوا حيث شئتم، قال أبو هند: فنهضنا من عنده نتشاور في أي أرض نأخذ؟ فقال تميم الداري رضي الله تعالى عنه نسأله بيت المقدس وكورتها، فقال أبو هند: هذا محل ملك العجم وسيصير محل ملك العرب، فأخاف أن لا يتمّ لنا، قال تميم: نسأله بيت جيرون وكورتها، فنهضنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا له، فدعا بقطعة من أدم وكتب لهم كتابا نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب ذكر فيه ما وهب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم للداريين إذا أعطاه الله الأرض وهب لهم بيت عينون وجيرون والمرطوم، وبيت إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى أبد الأبد، شهد بذلك عباس بن عبد المطلب، وخذيمة بن قيس، وشرحبيل ابن حسنة، وكتب: ثم أعطانا كتابنا، وقال: انصرفوا حتى تسمعوا أني قد هاجرت، قال أبو هند: فانصرفنا، فلما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قدمنا عليه وسألناه أن يجدد لنا كتابا آخر، فكتب لنا كتابا نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أنطى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لتميم الداري وأصحابه، إني أنطيتكم بيت عينون وجيرون والمرطوم، وبيت إبراهيم عليه الصلاة
والسلام برمتهم وجميع ما فيهم نطية بيت ونفذت، وسلمت ذلك لهم ولأعقابهم من بعدهم أبد الأبد، فمن آذاهم آذاه الله، شهد بذلك أبو بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وكتب نقل ذلك في المواهب وأقره.
وخطب صلى الله عليه وسلم خطبة، قال فيها: حدثني تميم الداري، وذكر خبر الجساسة: أي لأن تميما رضي الله عنه أخبره صلى الله عليه وسلم أنه ركب البحر فتاهت به سفينته. فسقطوا إلى جزيرة فخرجوا إليها يلتمسون الماء فلقي إنسانا يجر شعره، فقال له: من أنت؟ قال:
أنا الجساسة، قالوا: فأخبرنا، قال: لا أخبركم ولكن عليكم بهذه الجزيرة فدخلناها، فإذا رجل مقيد، فقال: من أنتم؟ قلنا ناس من العرب، قال: ما فعل هذا النبي الذي خرج فيكم؟ قلنا قد آمن به الناس واتبعوه وصدقوه، قال: فإن ذلك خير لهم، قال:
أفلا تخبروني عن عين ذعر ما فعلت؟ فأخبرناه عنها، فوثب وثبة، ثم قال: ما فعل نخل بيسان العرب، هل أطعم بتمر؟ فأخبرناه أنه قد أطعم، فوثب مثلها، فقال: أما لو قد أذن لي في الخروج لو طئت البلاد كلها غير طيبة، فأخرجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدث الناس، فقال: هذه طيبة وذاك الدجال، قال ابن عبد البر: وهذا أولى ما يخرجه المحدثون في رواية الكبار عن الصغار، أي كما تقدم.
ووفد عليه صلى الله عليه وسلم وهو في خيبر الأشعريون صحبة أبي موسى الأشعري، وصحبوا جعفر بن أبي طالب من الحبشة، وقال صلى الله عليه وسلم فيهم كما تقدم:«أتاكم أهل اليمن أرق أفئدة وألين قلوبا، الإيمان يمان، والحكمة يمانية» وقال في حق أهل اليمن: «يريد أقوام أن يضعوهم ويأبي الله إلا أن يرفعهم» والأشعري نسبه إلى أشعر، واسمه نبت بن أدد بن يشجب، وإنما قيل له أشعر، لأن أمه ولدته والشعر على بدنه.
قال: ولما فتحت مكة ودانت له صلى الله عليه وسلم قريش عرفت العرب أنه لا طاقة لهم بحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بعداوته، لأن قريشا كانت قادة العرب ودخلوا في دين الله أفواجا.
قال في النهاية: الوفد القوم يجتمعون ويردون البلاد واحدهم وافد اه.
والوفد رسول القوم يقدمهم، وقد يراد به ما هو أعم من ذلك، فيشمل من قدم غير رسول الله، وحينئذ يكون من ذلك كعب بن زهير رضي الله تعالى عنه فإنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وسبب ذلك أن أخاه بجير بن زهير خرج يوما هو وكعب في غنم لهما، فقال لأخيه كعب اثبت في الغنم حتى آتي هذا الرجل، يعني النبي صلى الله عليه وسلم فأسمع كلامه وأعرف ما عنده، فأقام كعب ومضى بجير، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع كلامه وآمن به، وذلك أن أباهما زهيرا كان يجالس أهل الكتاب ويسمع منهم أنه قد آن مبعثه
صلى الله عليه وسلم، ورأى زهير والدهما رضي الله تعالى عنهما أنه قد مد بسبب من السماء، وأنه مد يده ليتناوله ففاته، فأوله بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي يبعث في آخر الزمان وأنه لا يدركه وأخبر بنيه بذلك وأوصاهم إن أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يسلموا، ولما اتصل خبر إسلام بجير بأخيه كعب أغضبه ذلك، فلما كان منصرفه صلى الله عليه وسلم من الطائف كتب بجير رضي الله تعالى عنه إلى أخيه كعب بن زهير- وكان ممن يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بفتح مكة وأنه صلى الله عليه وسلم قتل بها رجالا ممن كان يهجوه من شعراء قريش، وهرب بعضهم في كل وجه كابن الزبعرى وهبيرة بن أبي وهب وأنه صلى الله عليه وسلم، قال: من لقي منكم كعب بن زهير فليقتله: فإن كان لك في نفسك حاجة فطر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقتل أحدا جاء تائبا، ولا يطالبه بما تقدم الإسلام، وإن أنت لم تفعل فانج إلى نجاتك.
وفي تصحيح الأنساب لابن أبي الفوارس أن زهير بن أبي سلمى قال لأولاده:
أني رأيت في المنام سببا ألقي إليّ من السماء، فمددت يدي لأتناوله ففاتني، فأولته أنه النبي الذي يبعث في هذا الزمان وأنا لا أدركه، فمن أدركه منكم فليصدّقه وليتبعه ليهتدي به، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم آمن به ابنه بجير وأقام كعب ابنه على الشرك والتشبيب بأم هانىء بنت أبي طالب رضي الله تعالى عنها، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال: لئن وقع كعب في يديّ لأقطعن لسانه الحديث.
أي ولا مانع أن يكون ضم إلى هذا هجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ كعبا الكتاب ضاقت به الأرض، وأرجف به أعداؤه، وصاروا يقولون هو مقتول لا محالة، فلم يجد بدا من مجيئه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعمل القصيدة التي مدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر فيها إرجاف أعدائه به رضي الله تعالى عنه التي مطلعها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
ثم خرج رضي الله تعالى عنه حتى قدم المدينة فنزل على رجل كان بينه وبينه معرفة، فغدا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى الصبح، فأشار له ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هذا رسول الله، فقم إليه واستأمنه، فقام إلى أن جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع يده في يده وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ومن حضره لا يعرفه، فقال: يا رسول الله إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائبا مسلما، فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، فقال: يا رسول الله أنا كعب بن زهير، فوثب رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله دعني وعدو الله أضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعه عنك فإنه قد جاء تائبا نازعا، فلما أنشد القصيدة المذكورة ومدح فيها المهاجرين ولم يتعرض للأنصار، قيل حمله على ذلك ما سمعه من ذلك الأنصاري مما غاظه، ولم يسمع من المهاجرين شيئا يغيظه.
وفيه أن هذا واضح إذا كان أنشأ ذلك في ذلك الوقت، وأما إذا كان عمله قبل مجيئه كما هو ظاهر ما تقدم أنه عمل تلك القصيدة التي من جملتها ما ذكر فلا، فعند ذلك غضب الأنصار، فمدحهم بالقصيدة التي مطلعها.
من سره كرم الحياة فلا يزل
…
في مقنب من صالحي الأنصار
أي ويقال إنه صلى الله عليه وسلم هو الذي حضه على مدحهم وقال له لما أنشد: بانت سعاد، ورآها صلى الله عليه وسلم مشتملة على مدح المهاجرين دون الأنصار: لولا: أي هلا ذكرت الأنصار بخير، فإن الأنصار أهل لذلك؟ أي ولما أنشده صلى الله عليه وسلم بانت سعاد وقال:
إن الرسول لسيف يستضاء به
…
مهند من سيوف الله مسلول
ألقى صلى الله عليه وسلم بردة كانت عليه صلى الله عليه وسلم، وقد اشتراها معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما من آل كعب بمال كثير، أي بعد أن دفع لكعب فيها عشرة آلاف، فقال:
ما كنت لأوثر بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا، فلما مات كعب رضي الله تعالى عنه أخذها من ورثته بعشرين ألفا، وتوارثها خلفاء بني أمية، ثم خلفاء بني العباس. اشتراها السفاح أول خلفاء بني العباس بثلاثمائة دينار بعد انقراض دولة بني أمية، أي وكانوا يطرحونها على أكتافهم جلوسا وركوبا، وكانت على المقتدر حين قتل وتلوثت بالدم.
ويقال إن التي كانت عند بني العباس بردته صلى الله عليه وسلم التي أعطاها لأهل أيلة مع كتابه الذي كتبه لهم أمانا وذلك في غزوة تبوك، وحينئذ تكون بردة كعب رضي الله تعالى عنه فقدت عند زوال دولة بني أمية. وأما هذه البردة فلعل فقدها كان في فتنة التتار.
ثم رأيت ابن كثير رحمه الله قال: إن معاوية رضي الله تعالى عنه اشترى البردة التي كانت عند الخلفاء من أهل كعب بأربعين ألف درهم توارثها الخلفاء الأمويون والعباسيون حتى أخذها التتر منهم سنة أخذ بغداد. وقال: هذا من الأمور المشهورة جدا، ولكني لم أر ذلك في شيء من الكتب بإسناد أرتضيه. وصار كعب رضي الله تعالى عنه من شعرائه صلى الله عليه وسلم الذين يذبون عن الإسلام كعبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت رضي الله تعالى عنهما.
ولما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة من تبوك في رمضان قدم عليه في ذلك الشهر وفد ثقيف.
وكان من خبرهم أنه لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن محاصرتهم تبع أثره عروة بن مسعود رضي الله تعالى عنه حتى أدركه صلى الله عليه وسلم قبل أن يصل إلى المدينة فأسلم، وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهم قاتلوك، فقال له عروة: يا رسول الله أنا أحب إليهم من أبكارهم: أي أول أولادهم. وفي رواية: من أبصارهم، فخرج رضي الله تعالى عنه يدعو قومه إلى الإسلام رجاء أن لا يخالفوه لمرتبته فيهم، أي لأنه رضي الله تعالى عنه كان فيهم محببا مطاعا، فلما
أشرف لهم على علية ودعاهم إلى الإسلام وأظهر لهم دينه رموه بالنبل من كل جانب فأصابه سهم فقتله.
وفي لفظ: أنه رضي الله تعالى عنه قدم الطائف عشاء، فجاءته ثقيف يسلمون عليه، فدعاهم إلى الإسلام ونصح لهم فعصوه وأسمعوه من الأذى ما لم يكن يغشاه منهم، فخرجوا من عنده حتى إذا كان السحر وطلع الفجر قام على غرفة في داره وتشهد، فرماه رجل من ثقيف بسهم فقتله، فقيل له قبل أن يموت: ما ترى في دمك؟ فقال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إلى فليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معهم، فدفنوه معهم، وقال في حقه صلى الله عليه وسلم: «إن مثله في قومه كمثل صاحب يس إنه قال لقومه:
اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ [يس: الآية 20] الآيات فقتله قومه» أي المذكورة في سورة يس وهو حبيب بن بري.
وقال السهيلي: يحتمل أن المراد به صاحب إلياس، فإن إلياس يقال في اسمه يس أيضا. وقد قال صلى الله عليه وسلم مثل هذه المقالة في حق شخص آخر يقال له قرة بن حصين أو ابن الحارث، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى هلال بن عامر يدعوهم إلى الإسلام فقتلوه، فقال صلى الله عليه وسلم:«مثله مثل صاحب يس» .
ثم إن ثقيفا أقامت بعد قتل عروة شهرا، ثم إنهم ائتمروا بينهم، ورأوا أنهم لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب وقد أسلموا. فأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا، فكلموا عبد ياليل بن عمرو وكان في سن عروة بن مسعود رضي الله تعالى عنه في ذلك، فأبي أن يفعل، لأنه خشي أن يفعل به كما فعل بعروة. وقيل كلموا مسعود بن عبد ياليل ونسب قائله إلى الغلط، فقال: لست فاعلا حتى ترسلوا معي رجالا فبعثوا معه خمسة أنفار منهم شرحبيل بن غيلان أحد أشراف ثقيف، أسلم غيلان بالغين المعجمة على عشر نسوة، وممن أسلم على عشر نسوة أيضا عروة بن مسعود، وكذلك مسعود بن معتب، ومسعود بن عمير، وسفيان بن عبد الله، وأبو عقيل مسعود بن عامر، وكلهم من ثقيف.
ويقال: وفد عليه صلى الله عليه وسلم تسعة عشر رجلا هم أشراف ثقيف، فيهم كنانة بن عبد ياليل وهو رأسهم يومئذ، وفيهم عثمان بن أبي العاص وهو أصغرهم، فلما قربوا من المدينة لقوا المغيرة بن شعبة الثقفي، فذهب مسرعا ليبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومهم عليه، فلقيه أبو بكر رضي الله تعالى عنه فأخبره، فقال له أبو بكر رضي الله تعالى عنه: أقسمت عليك لا تسبقني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكون أنا أحدثه ففعل، فدخل أبو بكر رضي الله تعالى عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بقدومهم عليه، ثم خرج المغيرة أي وعلمهم رضي الله تعالى عنه كيف يحيون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبوا إلا تحية
الجاهلية وهي عم صباحا، ثم قدم بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب لهم قبة في ناحية المسجد: أي ليسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صلوا، وكانوا يغدون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كل يوم، ويخلفون عثمان بن أبي العاص عند أسبابهم، فكان عثمان إذا رجعوا ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الدين ويستقرئه القرآن، وإذا وجد النبي صلى الله عليه وسلم نائما ذهب إلى أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وكان يكتم ذلك عن أصحابه، فأعجب ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحبه وكان فيهم رجل مجذوم، فأرسل صلى الله عليه وسلم يقول له: إنا بايعناك فارجع. وفي المرفوع: «لا تديموا النظر إلى المجذومين» وجاء: «كلم المجذوم وبينك وبينه قيد رمح أو رمحين» وهذا معارض بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى ولا طيرة» وبما جاء في أحاديث أخر: «أنه صلى الله عليه وسلم أكل مع المجذوم طعاما. وأخذ يده وجعلها معه في القصعة وقال: كل بسم الله، ثقة بالله، وتوكلا عليه» .
وأجيب بأن الأمر باجتناب المجذوم إرشادي، ومؤاكلته لبيان الجواز، أو جواز المخالطة محمولة على من قوي إيمانه وعدم جوازها على من ضعف إيمانه، ومن ثم باشر صلى الله عليه وسلم الصورتين ليقتدى به، فيأخذ القوي الإيمان بطريق التوكل، والضعيف الإيمان بطريق الحفظ والاحتياط.
وعند انصرافهم قالوا: يا رسول الله: أمر علينا رجلا يؤمنا، فأمر عليهم عثمان بن أبي العاص لما رأى من حرصه على الإسلام وقراءته للقرآن وتعلم الدين، ولقول الصديق رضي الله تعالى عنه له صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إني رأيت هذا الغلام من أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن.
وفي رواية أن عثمان بن أبي العاص قال: قلت: يا رسول الله اجعلني إمام قومي، قال: أنت إمامهم، وقال لي: إذا أممت فأخف بهم الصلاة، واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا، فكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كتب لهم كتابا، وكان الكاتب له خالد المذكور. ومن جملته:
بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المؤمنين، إن عضاه وجّ وصيده حرام، لا يعضده شجره، ومن وجد يفعل شيئا من ذلك فإنه يجلد وتنزع ثيابه. ووج: واد بالطائف، وقيل هو الطائف. والعضاه: كل شجر له شوك واحده عضة كشفه وشفاه.
وروى أبو داود والترمذي: «ألا إن صيد وجّ وعضاهه حرام محرم» وكانوا لا يطعمون طعاما يأتيهم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأكل منه خالد حتى أسلموا.
وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يترك لهم الصلاة. فقال: لا خير في دين لا صلاة فيه.
وفي لفظ: لا ركوع فيه. وأن يترك لهم الزنا والربا وشرب الخمر فأبي ذلك. وسألوه أن يترك لهم الطاغية التي هي صنمهم وهي اللات، أي وكانوا يقولون لها الربة، لا
يهدمها إلا بعد ثلاث سنين من مقدمهم له، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فلا زالوا يسألونه سنة وهو يأبى عليهم حتى سألوه شهرا واحدا بعد قدومهم وأرادوا بذلك ليدخل الإسلام في قومهم ولا يرتاع سفهاؤهم ونساؤهم بهدمها، فأبى عليهم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أي وعند خروجهم قال لهم سيدهم كنانة: أنا أعلمكم بثقيف، اكتموا إسلامكم وخوّفوهم الحرب والقتال، وأخبروهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم سألنا أمورا عظيمة ما أبيناها عليه، سألنا أن نهدم الطاغية، وأن نترك الزنا والربا وشرب الخمر، فلما جاءتهم ثقيف وسألوهم قالوا: جئنا رجلا فظا غليظا قد ظهر بالسيف ودان له الناس، فعرض علينا أمورا شدادا وذكروا ما تقدم، قالوا: والله لا نطيعه ولا نقبل هذا أبدا، فقالوا لهم: أصلحوا السلاح، وتهيؤوا للقتال، ورموا حصنكم، فمكثت ثقيف كذلك يومين أو ثلاثة، ثم ألقى الله الرعب في قلوبهم وقالوا: والله ما لنا طاقة، فارجعوا إليه وأعطوه ما سأل، فعند ذلك قالوا لهم: قد قاضيناه وأسلمنا، فقالوا لهم: لم كتمتمونا؟ قالوا أردنا أن ينزع الله من قلوبكم نخوة الشيطان، فأسلموا ومكثوا أياما، فقدم عليهم رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنهما لهدم الطاغية.
وفي رواية: لما فرغوا من أمرهم وتوجهوا إلى بلادهم راجعين بعث صلى الله عليه وسلم معهم أبا سفيان والمغيرة بن شعبة لهدم الطاغية، فخرجا مع القوم، حتى إذا قدموا الطائف أراد المغيرة رضي الله تعالى عنه أن يقدم أبا سفيان، فأبى ذلك أبو سفيان عليه وقال:
ادخل أنت على قومك، فلما دخل المغيرة علاها ليضربها بالمعول: أي الفأس العظيمة التي يقطع بها الصخر، وقام قومه دونه خشية أن يرمي كما رمى عروة، وخرج نساء ثقيف حسرا. أي مكشوفات الرؤوس حتى العواتق من الحجال يبكين على الطاغية.
قال: وفي رواية يظنون أنه لا يمكن هدمها لأنها تمنع من ذلك، وأراد المغيرة رضي الله تعالى عنه أن يسخر بثقيف، فقال لأصحابه: لأضحكنكم من ثقيف، فألقى نفسه لما علا على الطاغية ليهدمها. وفي لفظ: أخذ يرتكض فصاحوا صيحة واحدة، فقالوا: أبعد الله المغيرة قتلته الربة، وقالوا: والله لا يستطيع هدمها.
وفي رواية لما أخذ المعول وضرب به اللات ضربة صاح وخرّ لوجهه، فارتجّ الطائف بالصياح سرورا، وإن اللات قد صرعت المغيرة، وأقبلوا يقولون كيف رأيت يا مغيرة؟ دونكها إن استطعت، ألم تعلم أنها تهلك من عاداها؟ فقام المغيرة يضحك منهم ويقول لهم: يا خبثاء، والله ما قصدت إلا الهزء بكم.
وفي رواية: فوثب وقال لهم: قبحكم الله، إنما هي لكاع، حجارة ومدر،
فاقبلوا عافية الله واعبدوه، ثم أخذ في هدمها اه، فهدمها بعد أن بدأ بكسر بابها حتى هدم أساسها وأخرج ترابها لما سمع سادنها يقول: ليغضبن الأساس فليخسفن بهم وأخذ مالها وحليها، فلما قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان أن يقضي دين عروة والأسود أخاه من مال الطاغية، فقضاه، فإن أبا مليح بن عروة بن مسعود وقارب ابن عمه ابن الأسود أخو عروة بن مسعود سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وكانا قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمين لما قتلت ثقيف عروة بن مسعود قبل أن تسلم ثقيف كما تقدم، وكان صلى الله عليه وسلم قد أجاب أبا مليح، فقال له نعم، فقال له ابن عمه قارب بن الأسود: وعن الأسود يا رسول الله، فإن عروة والأسود أخوان لأب وأم، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الأسود مات مشركا، فقال قارب: يا رسول الله إنما الدين عليّ وأنا الذي أطلب به.
ومن الوفود وفد بني تميم وقد تقدم ذكره: أي في الكلام على سرية عيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم، وفي ذلك الوفد عطارد بن حاجب وعمرو بن الأهتم والأقرع بن حابس والزبرقان بن بدر.
وذكر في الاستيعاب أنه كان مع وفد تميم قيس بن عاصم فأسلم، وذلك في سنة تسع، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا سيد أهل الوبر، وكان عاقلا حليما مشهورا بالحلم. قيل للأحنف بن قيس- وكان من أحلم الناس: ممن تعلمت الحلم؟
قال: من قيس بن عاصم، رأيته يوما قاعدا بفناء داره محتبيا بحمائل سيفه يحدّث قومه، فأتي برجل مكتوف وآخر مقتول، فقيل له: هذا ابن أخيك قد قتل ابنك، قال: فو الله ما حل حبوته ولا قطع كلامه، فلما أتمه التفت إلى ابن أخيه، فقال:
يا بن أخي بئس ما فعلت، أثمت بربك، وقطعت رحمك، وقتلت ابن عمك، ورميت نفسك بسهمك، ثم قال لابن له آخر: قم يا بني فوار أخاك، وحل كتاف ابن عمك، وسق إلى أمك مائة ناقة دية ابنها فإنها غريبة.
وكان قيس بن عاصم رضي الله تعالى عنه ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية. وسبب ذلك أنه سكر يوما فغمز عكنة ابنته وسب أبويها، ورأى القمر فصار يخاطبه، وأعطى الخمار مالا كثيرا، فلما أفاق أخبر بذلك فحرمها على نفسه وقال في ذمها أبياتا كثيرة.
ولما حضرته الوفاة دعا بنيه، فقال لهم: يا بني احفظوا عني فلا أحد أنصح لكم مني، إذا مت فسودوا كباركم، ولا تسودوا صغاركم فيسفه الناس كباركم وتهونوا عليهم. وعليكم بإصلاح المال فإنه منبهة للكريم، ويستغنى به عن اللئيم. وإياكم ومسألة الناس فإنها آخر كسب الرجل، فإذا مت فلا تنوحوا عليّ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينح عليه، وقد قيل فيه من جملة أبيات عند موته:
فما كان قيس هلكه هلك واحد
…
ولكنه بنيان قوم تهدما
وتقدم أنهم نادوه صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات: يا محمد اخرج إلينا ثلاث مرات، فخرج إليهم إلى آخر ما تقدم.
ومنها وفد بني عامر فيهم عامر بن الطفيل وأربد بن قيس وجبار بن سلمى بضم السين وفتحها، وكانوا أي هؤلاء الثلاثة رؤساء القوم، وكان عامر بن الطفيل عدو الله سيدهم، كان مناديه ينادي بسوق عكاظ: هل من راجل فنحمله، أو جائع فنطعمه، أو خائف فنؤمنه؟ وكان من أجمل الناس، وكان مضمرا الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لأربد وهو أخو لبيد الشاعر: إذا قدمنا على هذا الرجل فإني شاغل عنك وجهه؟ فإذا فعلت ذلك فاعله السيف، وقد قال قومه: يا عامر إن الناس قد أسلموا فأسلم، فقال: والله لقد كنت آليت: أي حلفت أن لا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي، فأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عامر بن الطفيل: يا محمد خالني: أي اجعلني خليلا وصديقا لك، قال: لا والله حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له، قال: يا محمد خالني، وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم وينتظر من أربد ما كان أمره به فجعل أربد لا يأتي بشيء.
وفي رواية لما أتاه صلى الله عليه وسلم عامر وسده: أي ألقى له وسادة ليجلس عليها، ثم قال له صلى الله عليه وسلم: أسلم يا عامر، فقال له عامر: إن لي إليك حاجة، قال: اقرب مني، فقربت منه حتى حنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن قوله خالني: أي اجعل لي منك خلوة، وهو المناسب لقول عامر لأربد إني أشاغل عنك وجهه.
قال: وذكر أن عامر بن الطفيل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال له أسلم يا عامر، فقال: أتجعل لي الأمر بعدك إن أسلمت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس ذلك لك ولا لقومك: أي إنما ذلك إلى الله يجعله حيث يشاء: أي وقال له: يا محمد أسلم على أن لي الوبر ولك المدر، فقال: لا، فقال: ما لي إن أسلمت؟ فقال: لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم، فقال: أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا، وفي رواية: خيلا جردا ورجالا مردا، ولأربطن بكل نخلة فرسا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يمنعك الله عز وجل.
قال السهيلي: وجعل أسيد بن حضير رضي الله تعالى عنه يضرب في رؤوسهما ويقول اخرجا أيها الهجرسان: أي القردان، فقال له عامر: ومن أنت؟ فقال:
أسيد بن حضير، فقال: أحضير بن سماك؟ قال نعم، قال: أبوك كان خيرا منك، قال: بلى أنا خير منك ومن أبي، لأن أبي كان مشركا وأنت مشرك.
ومكث صلى الله عليه وسلم أياما يدعو الله عليهم ويقول: اللهم اكفني عامر بن الطفيل بما شئت
وابعث له داء يقتله اه. أي ثم قال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لو أسلم وأسلمت بنو عامر لزاحمت قريشا على منابرها، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا قوم آمنوا، ثم قال: اللهم اهد بني عامر، واشغل عني عامر بن الطفيل بما شئت وأني شئت.
وفي البخاري: «أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم أخيرك بين ثلاث خصال: يكون لك أهل السهل ولي أهل الوبر، وأكون خليفتك من بعدك، أو أغزوك من غطفان بألف أشقر وألف شقراء، فلما خرجوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عامر لأربد: ويلك يا أربد، أين ما كنت أمرتك به، والله ما كان على وجه الأرض من رجل أخافه على نفسي منك أبدا، وايم الله لا أخافك بعد اليوم أبدا، فقال: لا أبالك، لا تعجل عليّ، والله ما هممت بالذي أمرتني به إلا دخلت بيني وبين هذا الرجل حتى ما أرى غيرك، أفأضربك بالسيف؟ أي وفي رواية: إلا رأيت بيني وبينه سورا من حديد. وفي رواية:
لما وضعت يدي على قائم السيف يبست فلم أستطع أن أحركها. وفي رواية: لما أردت سل سيفي نظرت فإذا فحل من الإبل فاغر فاه بين يديّ يهوي إليّ، فو الله لو سللته لخفت أن يبتلع رأسي.
ويمكن الجمع بأن ما في الرواية الأولى كان بعد أن تكرر منه الهم، وما في الرواية الثانية كان بعد أن حصل منه هم آخر، وكذا يقال في الثالثة، وخرجوا راجعين إلى بلادهم، حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه: أي وفي لفظ حلقه، أي وأوى لبيت امرأة سلولية من بني سلول، وكانوا موصوفين باللؤم.
وفي كلام السهيلي: إنما اختصها بالذكر لقرب نسبها منه لأنها منسوبة إلى سلول بن صعصعة، والطفيل من بني عامر بن صعصعة أي فهي تأسف عليه، وصار يأسف الذي كان موته ببيتها، وصار يمس الطاعون ويقول: يا بني عامر غدة: أي أغد غدة كغدة البعير، وموتا في بيت امرأة من بني سلول، ائتوني بفرسي، ثم ركب فرسه وأخذ رمحه، وصار يجول حتى وقع عن فرسه ميتا.
أي ويذكر أنه صار يقول: ابرز يا ملك الموت. وفي لفظ: يا موت ابرز لي:
أي لأقاتلك، وهذا يدل على أن موت عامر لم يتأخر سيما وقد جاء في رواية:
فخرج حتى إذا كان بظهر المدينة صادف امرأة من قومه يقال لها سلولية فنزل عن فرسه ونام في بيتها، فأخذته غدة في حلقه فوثب على فرسه وأخذ رمحه، وأقبل يجول وهو يقول: غدة كغدة البكر، وموت في بيت سلولية، فلم يزل على تلك الحالة حتى سقط عن فرسه ميتا.
ويحتاج للجمع بينه وبين قول الأوزاعي قال يحيى: فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على عامر بن الطفيل ثلاثين صباحا، وقدم صاحباه على قومهما، فقالوا لأربد: ما
وراءك يا أربد؟ فقال: لا شيء، والله لقد دعانا إلى عبادة شيء لوددت أني عنده الآن فأرميه بالنبل حتى أقتله، فخرج بعد مقالته هذه بيوم أو يومين معه جمله يتبعه فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة أحرقتهما. أي وذلك في يوم صحو قائظ، وأنزل الله تعالى قوله: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ [الرّعد: الآية 13] وأما جبار بن سلمى الذي هو ثالثهم فقد أسلم مع من أسلم من بني عامر.
ومنها وفود ضمام بن ثعلبة، أي وقيل وفد في سنة خمس، بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه متكئا جاءه رجل من أهل البادية قال فيه طلحة بن عبيد الله: جاءنا أعرابي من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دويّ صوته ولا نفقه ما يقول، الحديث: أي جاء على جمل وأناخه في المسجد ثم عقله وقال: أيكم ابن عبد المطلب، أي وفي رواية: أيكم محمد؟ قالوا هذا الأمغر المرتفق: أي الأبيض المشرب بحمرة المتكىء على مرفقه، فدنا منه صلى الله عليه وسلم فقال: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة قال: سل عما بدا لك. أي وفي رواية: لمغلظ عليك في المسألة فلا تجد عليّ في نفسك ما لا أجد في نفسي، فقال: سل ما بدا لك، فقال: يا محمد جاءنا رسولك فذكر لنا أنك تزعم أن الله أرسلك، قال: صدق، فقال: أنشدك بفتح الهمزة برب من قبلك ورب من بعدك. وفي رواية: بالذي خلق السموات والأرض، ونصب هذه الجبال، قال:
اللهم نعم. قال: وفي رواية أنه قال له قبل ذلك: آلله أمرك أن تأمرنا أن نعبده وحده لا نشرك به شيئا، وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون؟ قال: اللهم نعم انتهى. قال: أنشدك بالله آلله أمرك أن نصلي خمس صلوات في كل يوم وليلة؟ قال اللهم نعم. قال: وأنشدك بالله آلله أمرك أن تأخذ من أموال أغنيائنا فترده على فقرائنا؟
قال: اللهم نعم، قال وأنشدك بالله آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من اثني عشر شهرا؟ قال: اللهم نعم، قال: وأنشدك بالله آلله أمرك أن يحج هذا البيت من استطاع إليه سبيلا، قال: اللهم نعم، قال: فأنا قد آمنت وصدقت وأنا ضمام بن ثعلبة.
أقول: وهذا السياق يدل على أن وفوده كان بعد فرض الحج، وهو يخالف ما سبق أنه كان في سنة خمس ومن ثم استبعده ابن القيم. قال: والظاهر أن هذه اللفظة مدرجة من كلام بعض الرواة.
وفيه أن الذي جزم به إسحاق وأبو عبيدة أنه وفد في سنة تسع وصوبه الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى، ومن ثم جاء ذكر الحج في مسلم، ويؤيد ذلك قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: بعثت بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم علينا الحديث، لأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إنما قدم المدينة بعد الفتح، فلما أن ولي ضمام رضي الله تعالى عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقه الرجل:
أي بضم القاف صار فقيها، وبكسرها فهم. وفي لفظ: لئن صدق ليدخلنّ الجنة،
وكان عمر رضي الله تعالى عنه يقول: ما رأيت أحدا أحسن مسألة ولا أوجز من ضمام بن ثعلبة. أي وفي لفظ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: فما سمعنا بوافد وقد كان أفضل من ضمام.
ولما رجع ضمام رضي الله تعالى عنه إلى قومه قال لهم: إن الله تعالى قد بعث رسولا، وأنزل عليه كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه.
قال: وفي رواية أن أول شيء تكلم به أن سب اللات والعزى، فقال له قومه:
مه يا ضمام، اتق البرص، اتق الجذام، اتق الجنون، فقال لهم: ويلكم، والله إنهما لا يضران ولا ينفعان، إن الله قد بعث رسولا إلى آخر ما تقدم، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه، فلم يبق من القوم رجل ولا امرأة إلا وأسلم.
ومنها وفد عبد القيس وفيهم الجارود، وكان نصرانيا: أي قد قرأ الكتب فقال أبياتا مخاطبا بها النبي صلى الله عليه وسلم، منها:
يا نبي الهدى أتاك رجالا
…
قطعت فدفدا وآلا فآلا
تتقي وقع شر يوم عبوس
…
أوجل القلب ذكره ثم هالا
الفدفد: المفازة، والآل: ما يرفع الشخوص في أول النهار وفي آخره، وقيل السراب. وقيل وكانوا ستة عشر، فعرض عليهم صلى الله عليه وسلم الإسلام، فقال: يا محمد إني كنت على دين وإني تارك ديني لدينك فتضمن لي ذنبي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم أنا ضامن لك أن قد هداك إلى ما هو خير لك منه، فأسلم وأسلم أصحابه، ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحملهم، فقال: والله ما عندي ما أحملكم عليه، فقال: يا رسول الله يحال بيننا وبين بلادنا ضوالّ من ضوال المسلمين أي من الإبل والبقر مما يحمي نفسه أفنتبلغ عليها: أي نركبها إلى بلادنا. قال: لا، إياك وإياها، فإنما تلك حرق النار أي لهبها كذا في الأصل.
وفي السيرة الهشامية أن الجارود إنما وفد مع حليف له يقال له سلمة بن عياض الأزدي وأن الجارود قال لسلمة: إن خارجا خرج بتهامة يزعم أنه نبي، فهل لك أن تخرج إليه، فإن رأينا خيرا دخلنا فيه، وأنا أرجو أن يكون هو النبي الذي بشر به عيسى ابن مريم، لكن يضمر كل واحد منا له ثلاث مسائل يسأله عنها لا يخبر بها صاحبه، فلعمري إنه إن أخبرنا بها إنه لنبي يوحى إليه، فلما قدما عليه صلى الله عليه وسلم قال له الجارود: بم بعثك به ربك يا محمد؟ قال: بشهادة أن لا إله إلا الله وأني عبد الله ورسوله، والبراءة من كل ند أو دين يعبد من دون الله، وبإقام الصلاة لوقتها، وإيتاء الزكاة لحقها، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا بغير إلحاد مَنْ
عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)[فصّلت: الآية 46] قال الجارود: يا محمد إن كنت نبيا فأخبرنا عما أضمرنا عليه، فخفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة كأنها سنة ثم رفع رأسه الشريف والعرق يتحدر عنه، فقال: أما أنت يا جارود، فإنك أضمرت أن تسألني عن دماء الجاهلية، وعن حلف الجاهلية، وعن المنيحة. ألا وإن دم الجاهلية موضوع وحلفها مردود، ولا حلف في الإسلام. ألا وإن أفضل الصدقة أن تمنح أخاك ظهر دابة أو لبن شاة، فإنها تغدو برفدة وتروح بمثله. وأما أنت يا سلمة فإنك أضمرت على أن تسألني عن عبادة الأوثان، وعن يوم السباسب، وعن عقل الهجين. فأما عبادة الأوثان فإن الله تعالى يقول: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98)[الأنبياء: الآية 98] وأما يوم السباسب فقد أعقبه الله ليلة خيرا من ألف شهر، فاطلبوها في العشر الأواخر من رمضان، فإنها ليلة بلجة سمحة لا ريح فيها، تطلع الشمس في صبيحتها لا شعاع لها. وأما عقل الهجين، فإن المؤمنين إخوة تتكافأ دمائهم، يجير أقصاهم على أدناهم، أكرمهم عند الله أتقاهم، فقالا: نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك عبده ورسوله انتهى.
وذكر في السيرة الهشامية في وفد عبد القيس أنه كان قبل فتح مكة، وذكر ما حاصله:«أنه صلى الله عليه وسلم بينما هو يحدّث أصحابه، إذ قال لهم: سيطلع عليكم من ههنا ركب هم خير أهل المشرق» وفي رواية: «ليستبين ركب من المشرق لم يكرهوا على الإسلام قد أنضوا» أي أهزلوا «الركائب، وأفنوا الزاد، اللهم اغفر لعبد القيس، فقام عمر رضي الله تعالى عنه، فتوجه نحو مقدمهم، فلقي ثلاثة عشر راكبا، وقيل كانوا عشرين راكبا، وقيل كانوا أربعين رجلا، فقال: من القوم؟ قالوا: من بني عبد القيس، فقال: أما إن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكركم آنفا، فقال خيرا، ثم مشى معهم حتى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عمر للقوم: هذا صاحبكم الذي تريدون، فرمى القوم بأنفسهم عن ركائبهم بباب المسجد بثياب سفرهم، وتبادروا يقبلون يده صلى الله عليه وسلم ورجله، وكان فيهم عبد الله بن عوف الأشج، وهو رأسهم، وكان أصغرهم سنا، فتخلف عند الركائب حتى أناخها وجمع المتاع، وذلك بمرأى من النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرج ثوبين أبيضين لبسهما، ثم جاء يمشي حتى أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلها، وكان رجلا دميما ففطن لنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دمامته، فقال: يا رسول الله إنه لا يستقي أي يشرب في مسوك: أي جلود الرجال، وإنما يحتاج الرجل من أصغريه لسانه وقلبه. فقال له رسول الله: إن فيك خلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة، فقال: يا رسول الله أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما؟ قال: لا، بل الله تعالى جبلك عليهما، فقال:
الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله ورسوله صلى الله عليه وسلم» والأناة على وزن قناة:
التؤدة. وقد جاء: «التؤدة والاقتصاد والسمت الحسن جزء من أربعة وعشرين جزآ من النبوة» .
وفي رواية: «أنهم لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: من القوم؟ قالوا:
من ربيعة» أي وهو المراد بما في بعض الروايات ربيعة، فإنه من التعبير عن البعض بالكل.
وفي البخاري في الصلاة: «إن هذا الحي من ربيعة» أي إن هذا الحي من ربيعة وهو في الأصل اسم لمنزل القبيلة، سميت به القبيلة لأن بعضهم يحيا ببعض، قال:
«خير ربيعة عبد القيس، مرحبا بالقوم» أي صادفتم رحبا بضم الراء: أي سعة. وأول من قال مرحبا سيف بن ذي يزن، وقد تكررت هذه الكلمة منه صلى الله عليه وسلم، قالها لابنة عمه أم هانىء رضي الله تعالى عنها. وقال لعكرمة بن أبي جهل رضي الله تعالى عنه:
«مرحبا بالراكب الهاجر» وقال لا بنته فاطمة رضي الله تعالى عنها: «مرحبا بابنتي» وقال لشخص دخل عليه: «مرحبا، وعليك السلام» .
ثم قال لهم صلى الله عليه وسلم: «غير خزايا، ولا ندامى» أي حالة كونكم سالمين من الخزي ومن الندم، وفي لفظ:«مرحبا بالوفد الذين جاؤوا غير خزايا ولا ندامى، أنا حجيج من ظلم عبد القيس، فقالوا: يا رسول الله إنا نأتيك من شقة بعيدة» أي من سفر بعيد، لأن مساكنهم بالبحرين وما والاها من أطراف العراق. «وإنه يحول بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، وإنا لا نصل إليك إلا في شهر حرام» أي وفي لفظ: «إلا في هذا الشهر الحرام» «وهو كمسجد الجامع ونساء مؤمنات» وهو شهر رجب للتصريح به في بعض الروايات.
وقال بعضهم: وفي هذا دليل على أن الأعمال الصالحة تدخل الجنة إذا قبلت، وقبولها يقع برحمة الله، لأن مضر كانت تبالغ في تعظيم شهر رجب زيادة على بقية الأشهر الحرم ومن ثم قيل رجب مضر:«فأمرنا بأمر فصل» أي فاصل بين الحق والباطل «فقال: آمركم بأربع» أي بخصال أربع أو جمل أربع.
ففي بعض الروايات: «قالوا: حدثنا بجمل من الأمر، وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله» أي وفيه أن القوم كانوا مؤمنين مقرين بكلمة الشهادة.
ووقع في البخاري في الزكاة زيادة واو قبل شهادة وهي زيادة شاذة لم يتابع عليها راويها: «وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس» أي لأنهم كانوا بصدد محاربة كفار مضر، وهذا زائد على الأربع، ومن ثم قال بعضهم هو معطوف على قوله بأربع: أي آمركم بأربع وبأن تعطوا، ومن ثم غاير في الأسلوب.
وفي مسلم: «آمركم بأربع: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأقيموا الصلاة،
وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان، وأعطوا الخمس من الغنائم» ولم يذكر الحج، لأنه لم يكن فرض على الصحيح كما قال الحافظ الدمياطي رحمه الله، وهو بناء على الأصح أنه فرض سنة ست. وقول الواقدي إن قدوم وفد عبد القيس كان في سنة ثمان ليس بصحيح، لكن ذكر بعضهم أن لعبد القيس وفدتين، واحدة كانت قبل فرض الحج، وواحدة بعده. ومن ثم جاء ذكر الحج في مسند الإمام أحمد، وهو «وأن تحجوا البيت» وأنه لم يتعرض في هذه الرواية لعدد: أي لقوله أربع، ثم قال صلى الله عليه وسلم لهم:
«وأنهاكم عن أربع، عن الدباء» أي القرع: أي عما ينبذ فيها «والحنتم» وهو جرار مدهونة بدهان أخضر: أي عما ينبذ فيها: أي وقيل الحنتم جرار كانت تعمل من طين وشعر وأدم «والنقير» أصل النخلة ينقر وينبذ فيه التمر، أي ما ينبذ في ذلك «والمزفت» ما طلي بالزفت أي عما ينبذ فيه. وفي رواية زيادة على ذلك «والقير» ما طلي بالقار، وهو نبت يحرق إذا يبس وتطلى به السفن كما تطلى بالزفت، زاد في رواية:«وأخبروا بهن من وراءكم» أي من جئتم من عندهم، ومن يحدث من الأولاد «قالوا: فيم نشرب يا رسول الله؟ قال: في أسقية الأدم» أي الجلود التي يلات: أي يربط على أفواهها «قالوا: يا رسول الله إن أرضنا كثيرة الجرذان» ، أي الفئران: أي لا تبقي فيها أسقية الأدم، قال «وإن أكلها الجرذان، قال ذلك مرتين أو ثلاثا» فقال له الأشج «يا رسول الله إن أرضنا ثقيلة وخمة، وإنا إذا لم نشرب هذه الأشربة عظمت بطوننا، فرخص لنا في مثل هذه، فأومأ صلى الله عليه وسلم بكفيه وقال له: يا أشج إن رخصت لك في مثل هذه شربته في مثل هذه وفرج بين يديه وبسطها» يعني أعظم منها: «حتى إذا ثمل» أي سكر «أحدكم من شرابة قام إلى ابن عمه فضرب ساقه بالسيف» وكان في القوم رجل وقع له ذلك أي وهو جهم بن قثم، قال: لما سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت أسدل ثوبي لأغطي الضربة وقد أبداها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، أي وفي كلام السهيلي: فعجبوا من علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وإشارته إلى ذلك الرجل هذا كلامه.
أي وفي رواية: «أنهم سألوه عن النبيذ، فقالوا: يا رسول الله إن أرضنا أرض وخمة لا يصلحها إلا النبيذ، قال: فلا تشربوا في النقير، فكأني بكم إذا شربتم في النقير قام بعضكم إلى بعض بالسيوف، فضرب رجلا منكم ضربة لا يزال يعرج منها إلى يوم القيامة فضحكوا، فقال صلى الله عليه وسلم: ما يضحككم؟ قالوا: والله لقد شربنا في النقير فقام بعضنا إلى بعض بالسيوف فضرب هذا ضربة بالسيف فهو أعرج كما ترى، ثم ذكر لهم صلى الله عليه وسلم أنواع تمر بلدهم، فقال: لكم تمرة تدعونها كذا وتمرة تدعونها كذا، فقال له رجل من القوم: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لو كنت ولدت في جوف هجر ما كنت بأعلم منك الساعة، أشهد أنك رسول الله، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أرضكم رفعت إليّ منذ قعدتم، أي فنظرت من أدناها إلى أقصاها وقال لهم: خير
تمركم البرني، يذهب بالداء ولا داء معه» أي وإنما اقتصر صلى الله عليه وسلم في المناهي على شرب الأنبذة في الأوعية المذكورة مع أن في المناهي ما هو أشد في التحريم لكثرة تعاطيهم لها.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ومعنى النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية بخصوصها أنه يسرع فيها الإسكار، فربما يشرب منها من لا يشعر بذلك.
وكان في عبد القيس أبو الوازع بن عامر وابن أخته مطر بن هلال، ولما ذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم أنه ابن أختهم قال:«ابن أخت القوم منهم» وكان فيهم ابن أخي الوازع وكان شيخا كبيرا مجنونا جاء به الوازع معه ليدعو له صلى الله عليه وسلم، فمسح ظهره ودعا له، فبرأ لحينه وكسي شبابا وجمالا حتى كأن وجهه وجه العذراء.
ومنها وفد بني حنيفة ومعهم مسيلمة الكذاب، قيل جاء بنو حنيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهم مسيلمة الكذاب، يسترونه بالثياب، وكان رسول الله جالسا في أصحابه رضي الله تعالى عنهم معه عسيب من عسب النخل في رأسه خويصات، فلما انتهى مسيلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يسترونه بالثياب، كلمه وسأله أن يشركه معه في النبوة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتكه.
وقيل إن بني حنيفة جعلوه في رحالهم، فلما أسلموا ذكروا مكانه، فقالوا: يا رسول الله إنا قد خلفنا صاحبنا في رحالنا يحفظها لنا فأمر له صلى الله عليه وسلم بمثل ما أمر به لواحد من القوم، وهو خمس أواق من فضة، وقال: أما إنه ليس بشركم مكانا، فلما رجعوا إليه أخبروه بما قال عنه، فقال: إنما قال ذلك لأنه عرف أن لي الأمر من بعده، فلما رجعوا وانتهوا إلى اليمامة ارتد عدو الله وتنبأ وكذب، وادعى أنه أشرك معه صلى الله عليه وسلم في النبوة وقال لمن وفد معه: ألم يقل لكم حين ذكرتموني له: أما إنه ليس بشركم مكانا ما ذاك إلا لما كان يعلم أني أشركت معه في الأمر. أي وهو صلى الله عليه وسلم إنما أراد بذلك أنه حفظ ضيعة أصحابه.
هذا وفي الصحيحين: «أنه صلى الله عليه وسلم أقبل ومعه ثابت بن قيس بن شماس رضي الله تعالى عنه وفي يد النبي صلى الله عليه وسلم قطعة من جريد حتى وقف على مسيلمة في أصحابه فقال: إن سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، أي فإنه صلى الله عليه وسلم بلغه عنه أنه قال: إن جعل لي محمد الأمر من بعده اتبعته «وإني لأراك الذي منه رأيت» وهذا قيس يجيبك عني ثم انصرف» .
والذي رآه منه صلى الله عليه وسلم أنه رأى في المنام أن في يده سوارين من ذهب قال:
فأهمني شأنهما فأوحى الله إلى في المنام: أن انفخهما، فنفختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان من بعدي: أي وهما طليحة العبسي صاحب صنعاء، ومسيلمة الكذاب صاحب اليمامة، فإن كلا منهما ادعى النبوة في حياته صلى الله عليه وسلم. وكان طليحة العبسي يقول: إن ملكا كان يقال له ذو النون يأتيني كما يأتي جبريل محمدا، فلما بلغه صلى الله عليه وسلم ذلك، قال: لقد ذكر ملكا عظيما في السماء يقال له ذو النون. وجمع بعضهم بين هذا الذي في الصحيحين وما هنا بأنه يجوز أن يكون مسيلمة قدم مرتين:
الأولى كان تابعا ومن ثم كان في حفظ الرحال، والثانية كان متبوعا ولم يحضر أنفة منه واستكبارا، وعامله صلى الله عليه وسلم معاملة الإكرام على عادته صلى الله عليه وسلم في الاستئلاف فأتى إلى قومه وهو فيهم كذا قيل.
ولا يخفى أن قوله ولم يحضر يقتضي أنه لم يجىء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المرتين، وتقدم أنه جاء إليه صلى الله عليه وسلم وهم يسترونه بالثياب، وهذا: أي ستره بالثياب وهو المناسب لكونه متبوعا ثم صار مسيلمة لعنه الله يتكلم بالهذيان يضاهي به القرآن. فمن ذلك قوله قبحه الله: لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمه تسعى من بين شغاف وحشا، وقال: والطاحنات طحنا. والعاجنات عجنا. والخابزات خبزا. والثاردات ثردا. واللاقمات لقما. ووضع عنهم الصلاة، وأحل لهم الخمر والزنا. وقيل إنه لعنه الله طلب منه أن يتفل في بئر تبركا ففعل فملح ماؤها. ومسح رأس صبي فصار أقرع قرعا فاحشا. ودعا لرجل في بنين له بالبركة فيهما، فرجع الرجل إلى منزله فوجد أحدهما قد سقط في بئر والآخر أكلة الذئب. ومسح على عيني رجل للاستشفاء بمسحة فابيضت عيناه، فعل ذلك مضاهاة للنبي صلى الله عليه وسلم. وهذا السياق يرشد إلى أنه كان برأس ذلك الصبي قرع يسير فمسح عليه للاستشفاء، ثم أظهر معجزة بزعمه. وهو أنه أدخل بيضة في قارورة وافتضح بأن البيضة بنت يومها إذا ألقيت في الخل والنوشادر يوما وليلة فإنها تمتد كالخيط. فتعجل في القارورة ويصب عليها ماء فتجمد، وبهذا يردّ على من رثاه من بني حنيفة بقوله:
لهفي عليك أبا ثمامة
…
كم آية لك فيهمو
كالشمس تطلع من غمامه
فيقال له: كذبت، بل كانت آياته معكوسة.
قال: وكتب مسيلمة قبحه الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم كتابا فقال: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، أما بعد- فإني قد أشركت في الأمر معك وإن لنا نصف الأمر، وليس قريش قوما يعدلون، وبعث رجلين. فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة الكذاب سلام على من
اتبع الهدى. أما بعد- فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين» ثم قال للرجلين: وإنما يقولان مثل ما يقول؟ قالا نعم، قال: أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما انتهى.
ومنها وفد طيىء، وفيهم زيد الخيل رضي الله تعالى عنه. وفد عليه صلى الله عليه وسلم، وفيهم قبيصة بن الأسود، وسيدهم زيد الخيل. قيل له ذلك، لخمسة أفراس كانت له: أي ولو كان وجه التسمية يلزم اطراده لقيل للزبرقان بن بدر زبرقان الخيل.
فقد قيل: إنه وفد على عبد الملك بن مروان وقاد إليه خمسة وعشرين فرسا، ونسب كل واحدة من تلك الأفراس إلى آبائها وأمهاتها، وحلف على كل فرس يمينا غير اليمين التي حلف بها على غيرها، فقال عبد الملك: عجبي من اختلاف أيمانه أشدّ من عجبي من معرفته بأنساب الخيل.
وكان زيد الخيل شاعرا خطيبا بليغا جوادا، فعرض عليهم صلى الله عليه وسلم الإسلام فأسلموا وحسن إسلامهم. وقال صلى الله عليه وسلم في حق زيد الخيل:«ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني إلا رأيته دون ما قيل فيه إلا زيد الخيل، فإنه لم يبلغ أي ما قيل فيه كل ما فيه» وسماه صلى الله عليه وسلم زيد الخير، أي فإنه صلى الله عليه وسلم قال له وهو لا يعرفه:«الحمد لله الذي أتى بك من سهلك وحزنك، وسهل قلبك للإيمان، ثم قبض صلى الله عليه وسلم على يده، فقال: من أنت؟ قال: أنا زيد الخيل بن مهلهل، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، فقال له صلى الله عليه وسلم: بل أنت زيد الخير، ثم قال: يا زيد ما أخبرت عن رجل قط شيئا إلا رأيته دون ما أخبرت عنه غيرك أي وأجاز صلى الله عليه وسلم كل واحد منهم خمس أواق، وأعطى زيد الخيل اثنتي عشرة أوقية ونشا: أي وأقطعه محلين من أرضه، وكتب له بذلك كتابا، ولما خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم متوجها إلى قومه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن ينجو زيد من الحمى» أي ما ينجو منها، ففي أثناء الطريق أصابته الحمى، أي وفي لفظ أنه صلى الله عليه وسلم قال له: يا زيد تقتلك أم ملدم يعني الحمى.
وفي رواية أن زيد الخيل لما قام من عنده صلى الله عليه وسلم وتوجه إلى بلاده، قال صلى الله عليه وسلم:
«أيّ فتى إن لم تدركه أم كلبة» يعني الحمى، والكلبة الرعدة.
قال: ولما مات أقام قبيضة بن الأسود الناحة عليه سنة، ثم وجه براحلته ورحله. وفيه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أقطعه فيه محلين بأرضه، فلما رأت امرأته الراحلة ضرمتها بالنار، فاحترقت واحترق الكتاب انتهى.
وفي كلام السهيلي: وكتب له كتابا على ما أراد وأطعمه قرى كثيرة منها فدك،
هذا كلامه. وقيل بقي إلى خلافة عمر رضي الله تعالى عنهما.
ومنها وفود عدي بن حاتم الطائي. حدث عديّ رضي الله تعالى عنه قال: كنت امرأ شريفا في قومي، آخذ المرباع من الغنائم كما هو عادة سادات العرب في الجاهلية: أي وهو ربع الغنيمة كما تقدم، فلما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم كرهته، ما من رجل من العرب كان أشد كراهة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به مني، فقلت لغلام كان راعيا لإبلي: لا أبا لك اعزل من إبلي أجمالا ذللا سمانا، فاحتسبها قريبا مني، فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطىء هذه البلاد فآذني ففعل، ثم إنه أتاني ذات يوم، فقال يا عديّ ما كنت صانعا إذا غشيك محمد فاصنعه الآن، فإني قد رأيت رايات فسألت عنها، فقالوا: هذه جيوش محمد. فقلت له قرب لي أجمالي، فقرّبها فاحتملت أهلي وولدي، والتحقت بأهل ديني من النصارى بالشام، وخلفت بنتا لحاتم في الحاضر، فأصيبت فيمن أصيب: أي سبيت فيمن أصيب من الحاضر، فلما قدمت في السبايا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم هربي إلى الشام منّ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكساها، وحملها، وأعطاها نفقة، وخرجت إلى أن قدمت عليّ الشام، فو الله إني لقاعد في أهلي، إذ نظرت إلى ظغينة تؤمنا، فقلت: ابنة حاتم، فإذا هي هي. فلما وقعت عليّ قالت: القاطع الظالم، احتملت بأهلك وولدك، وقطعت بقية والديك وعورتك، فقلت: أي أخية، لا تقولي إلا خيرا فو الله ما لي من عذر، ولقد صنعت ما ذكرت، ثم نزلت وأقامت عندي. فقلت لها وكانت امرأة حازمة: ماذا ترين في أمر هذا الرجل؟ قالت: أرى والله أن تلحق به سريعا، فإن يكن نبيا فللسابق إليه فضله، وإن يكن ملكا فأنت أنت. فقلت والله إن هذا للرأي، أي ولعلها لم تظهر له إسلامها لئلا ينفر طبعه من قولها له إن يكن نبيا أي على الفرض والتنزل تحريضا له على اللحوق به صلى الله عليه وسلم، فخرجت حتى جئته صلى الله عليه وسلم بالمدينة فدخلت عليه. فقال: من الرجل؟ فقلت: عدي بن حاتم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وانطلق بي إلى بيته، فو الله إنه لقائدني إليه إذ لقيته امرأة كبيرة ضعيفة فاستوقفته صلى الله عليه وسلم فوقف لها طويلا تكلمه في حاجتها. فقلت ما هو بملك، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا دخل بيته تناول وسادة بيده من أدم محشوة ليفا فقدمها إليّ وقال: اجلس على هذه. فقلت بل أنت فاجلس عليها، قال: بل أنت، فجلست عليها، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض.
فقلت والله ما هذا بأمر ملك، ثم قال لي ما معناه: يا عدي بن حاتم أسلم تسلم قالها ثلاثا. فقلت: إني على دين، قال: أنا أعلم بدينك منك، فقلت أنت أعلم بديني؟
قال نعم ألست من الركوسية: ألست من القوم الذين لهم دين؟ لأنه تقدم أنه كان نصرانيا. فقلت بلى، فقال: ألم تكن تسير في قومك بالمرباع، أي تأخذ ربع الغنيمة كما هو شأن الأشراف من أخذهم في الجاهلية ربع الغنيمة؟ قلت بلى. قال: فإن
ذلك لم يكن يحل لك في دينك. فقلت: أجل والله وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يجهل، ثم قال صلى الله عليه وسلم: لعلك يا عدي إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى، تقول إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا قوة له، وقد رمتهم العرب مع حاجتهم، فو الله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك أنما يمنعك من الدخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم، أتعرف الحيرة؟ قلت لم أرها وقد سمعت بها، قال: فو الله، وفي لفظ: فو الذي نفسي بيده ليتمن هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة تطوف بالبيت من غير جوار أحد.
وفي رواية: ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية: أي وهي قرية بينها وبين الكوفة نحو مرحلتين- على بعيرها حتى تزور البيت، أي الكعبة لا تخاف- ولعلك إنما يمنعك من الدخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وايم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم. قال عدي:
وقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تحج بالبيت وايم الله لتكونن الثانية ليفيض المال حتى لا يوجد من يأخذه.
ومنها وفود فروة بن مسيك المرادي، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فروة مفارقا لملوك كندة، وكان بين قومه مراد وبين همدان قبيل الإسلام وقعة أصابت فيها همدان من مراد ما أرادوا في يوم يقال الردم، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل ساءك ما أصاب قومك يوم الردم. فقال: يا رسول الله من ذا تصيب قومه مثل ما أصاب قومي يوم الردم ولا يسؤوه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إن ذلك لم يزد قومك في الإسلام إلا خيرا، واستعمله صلى الله عليه وسلم على مراد وزبيد، وبعث معه خالد بن سعيد العاص على الصدقة فكان معه في بلاده حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال فروة عند توجهه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لما رأيت ملوك كندة أعرضت
…
كالرجل خان الرجل عرق نسائها
فركبت راحلتي أؤمّ محمدا
…
أرجو فواضلها وحسن ثوابها
ومنها وفد بني زبيد بضم الزاي وفتح الموحدة. وفد بنو زبيد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم عمرو بن معد يكرب الزبيدي، وكان فارس العرب مشهورا بالشجاعة، شاعرا مجيدا، قال لابن أخيه قيس المرادي: إنك سيد قومك وقد ذكر لنا أن رجلا من قريش يقال له محمد قد خرج بالحجاز يقول إنه نبيّ فانطلق بنا إليه حتى نعلم علمه، فإن كان نبيا كما يقول فإنه لن يخفى عليك، وإذا لقيناه اتبعناه، وإن كان غير ذلك علمنا علمه، فأبى عليه قيس ذلك وسفه رأيه. فركب عمرو رضي الله تعالى عنه حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه فأسلم، فلما بلغ ذلك قيسا قال: خالفني
وترك أمري ورأيي، وتوعد عمرا، فقال عمرو في قيس أبياتا منها:
فمن ذا عاذري من ذي سفاه
…
يريد بنفسه شدّ المزار
أريد حياته ويريد قتلي
…
عذيرك من خليلك من مرادي
أي وبعد موته صلى الله عليه وسلم ارتد عمرو هذا مع الأسود العبسي، ثم أسلم وحسن إسلامه، وشهد فتوحات كثيرة في أيام الصديق وأيام عمر رضي الله تعالى عنهما.
وعن ابن إسحاق: قيل إن عمرو بن معد يكرب لم يأت النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلم قيس بعد ذلك، قيل له صحبة، وقيل لا.
ومنها وفد كندة، أي وله صلى الله عليه وسلم جدّة منهم، وهي أمّ جدّه كلاب. وفد عليه صلى الله عليه وسلم ثمانون، أي وقيل ستون من كندة فيهم الأشعث بن قيس، وكان وجيها مطاعا في قومه، وفي الإمتاع وهو أصغرهم. فلما أرادوا الدخول عليه صلى الله عليه وسلم رجلوا: أي سرحوا جممهم. أي شعور رؤوسهم، أي الساقطة على مناكبهم، وتكحلوا، ولبسوا عليهم جبب الحبرة أي بوزن عنبة: برود اليمن المخططة، قد كففوها: أي سجفوها بالحرير. فلما دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي وعند ذلك قالوا: أبيت اللعن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لست ملكا أنا محمد بن عبد الله. قالوا: لا نسميك باسمك، قال:
أنا أبو القاسم. فقالوا: يا أبا القاسم إنا خبأنا لك خبئا فما هو؟ وكانوا خبؤوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عين جرادة في ظرف سمن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله، إنما يفعل ذلك بالكاهن، وإن الكاهن والكهانة والمتكهن في النار، فقالوا: كيف نعلم أنك رسول الله؟ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم كفا من حصباء فقال: هذا يشهد أني رسول الله، فسبح الحصى في يده، فقالوا: نشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله بعثني بالحق وأنزل عليّ كتابا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فقالوا:
أسمعنا منه، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1)[الصافات: الآية 1] حتى بلغ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [المعارج: الآية 40] ثم سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكن بحيث لا يتحرك منه شيء ودموعه تجري على لحيته، فقالوا: إنا نراك تبكي، أفمن مخافة من أرسلك تبكي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إن خشيتي منه أبكتني، بعثني على صراط مستقيم في مثل حد السيف، إن زغت عنه هلكت، ثم تلا صلى الله عليه وسلم: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الإسراء: الآية 86] الآية، ثم قال لهم صلى الله عليه وسلم: ألم تسلموا؟ قالوا بلى، قال: فما بال هذا الحرير في أعناقكم. فعند ذلك شقوه منها وألقوه.
وفيه أن هذا يخالف ما قاله فقهاؤنا معاشر الشافعية من جواز التسجيف بالحرير، إلا أن يقال الجواز مخصوص، بأن لا يجاوز الحد اللائق بالشخص، ولعل سجفهم جاوزت الحد اللائق بهم وقد قال الأشعث له صلى الله عليه وسلم: نحن بنو آكل المرار
وأنت ابن آكل المرار، يعني جدته أم كلاب، فقد تقدم أنها من كندة، وقيل إنما قال ذلك الأشعث، لأن عمه العباس بن عبد المطلب كان إذا دخل حيا من أحياء العرب، لأنه كما تقدم كان تاجرا، فإذا سئل من أين؟ قال: أنا ابن آكل المرار ليعظم، يعني انتسب إلى كندة، لأن كندة كانوا ملوكا فاعتقدت كندة أن قريشا منهم لقول العباس المذكور، فقال له صلى الله عليه وسلم: لا، نحن بنو النضر بن كنانة، لا نقفو أمنا ولا ننتفي من آبائنا: أي لا ننتسب إلى الأمهات ونترك النسب إلى الآباء.
والأشعث هذا ممن ارتد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دعا إلى الإسلام في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أي فإنه حوصر، ثم جيء به أسيرا، فقال للصديق حين أراد قتله: استبقني لحروبك وزوّجني أختك، فزوجه أخته أم فروة فدخل سوق الإبل بالمدينة واخترط سيفه، فجعل لا يرى جملا إلا عرقبه، فصاح الناس: كفر الأشعث، فلما فرغ طرح سيفه وقال: والله ما كفرت إلا أن الرجل يعني أبا بكر رضي الله تعالى عنه زوجني أخته، ولو كنا ببلادنا لكانت لنا وليمة غير هذه وقال: يا أهل المدينة انحروا وكلوا، وأعطى أصحاب الإبل أثمانها، قال: وقال صلى الله عليه وسلم للأشعث: «هل لك من ولد؟ فقال: لي غلام ولد لي عند مخرجي إليك لوددت أن لي به لسبعة، فقال: إنهم لمجبنة مبخلة محزنة، وإنهم لقرة العين، وثمرة الفؤاد» انتهى.
ومنها وفد أزد شنوءة. وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع من الأزد وفيهم صرد بن عبد الله الأزدي أي وكان أفضلهم، فأمّره صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه، وأمره أن يجاهد بمن أسلم من كان يليه من أهل الشرك من قبائل اليمن، فخرج حتى نزل بجرش بضم الجيم وفتح الراء وبالشين المعجمة وهي مدينة بها قبائل من قبائل اليمن وحاصرها المسلمون قريبا من شهر ثم رجعوا عنها، حتى إذا كانوا بجبل يقال له شكر بالشين المعجمة والكاف المفتوحتين، وقيل بإسكان الكاف، فلما وصلوا ذلك المحل ظن أهل جرش أن المسلمين رضي الله تعالى عنهم إنما رجعوا عنهم منهزمين، فخرجوا في طلبهم حتى إذا أدركوهم عطفوا عليهم فقتلوهم قتلا شديدا.
وقد كان أهل جرش بعثوا رجلين منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة يرتدان: أي ينظران الأخبار، فينما هما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بأيّ بلاد الله شكر؟ فقام إليه رجلان فقالا: يا رسول الله ببلادنا جبل يقال له كشر، فقال إنه ليس بكشر ولكنه شكر، قالا: فما شأنه يا رسول الله؟ قال إن بدن الله لتنحر عنده الآن، وأخبرهما الخبر، فخرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى قومهما فوجدا قومهما قد أصيبوا في اليوم والساعة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، وعند إخبارهما لقومهما بذلك وفد وفد جرش على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
مرحبا بكم أحسن الناس وجوها، وأصدقه لقاء، وأطيبه كلاما، وأعظمه أمانة، أنتم مني وأنا منكم، وحمى لهم حمى حول بلدهم.
ومنها وفد رسول ملوك حمير، وحامل كتابهم إليه صلى الله عليه وسلم، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول ملوك حمير وحامل كتابهم إليه صلى الله عليه وسلم بإسلام الحارث بن عبد كلال بضم الكاف.
وقد اختلف في كون الحارث له وفادة فهو صحابي أولا، والنعمان ومعافر بالفاء مكسورة وهمدان، أي بإسكان الميم وفتح الدال المهملة وهي قبيلة.
وأما همذان بفتح الميم والذال المعجمة فقبيلة بالعجم، فكتب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى الحارث بن عبد كلال وإلى النعمان ومعافر وهمدان، أما بعد: فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو. أما بعد: فإنه قد وقع بنا رسولكم مقفلنا من أرض الروم: أي رجوعنا من غزوة تبوك، فلقيناه بالمدينة فبلغ ما أرسلتم به وخبر ما قبلكم، وأنبأنا بإسلامكم وقتلكم المشركين، وإن الله قد هداكم بهداه إن أصلحتم وأطعتم الله ورسوله، وأقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وأعطيتم من الغنائم خمس الله وسهم النبي صلى الله عليه وسلم وصفيه، وما كتب على المؤمنين من الصدقة. أما بعد: فإن محمدا النبي أرسل إلى زرعة ذي يزن. وفي الاستيعاب: زرعة بن سيف ذي يزن. وفي كلام الذهبي: زرعة بن سيف ذي يزن أن: إذا أتاكم رسلي فأوصيكم بهم خيرا: معاذ بن جبل، وعبد الله بن زيد، ومالك بن عبادة، وعقبة بن نمر، ومالك بن مرارة وأصحابهم، وأن اجمعوا ما عندكم من الصدقة والجزية من مخاليفكم بالخاء المعجمة جمع مخلاف، وأبلغوها رسلي، وأن أميرهم معاذ بن جبل، فلا ينقلبن إلا راضيا. أما بعد فإن محمدا يشهد أن لا إله إلا الله وأنه عبده ورسوله.
ثم إن مالك بن كعب بن مرارة قد حدثني أنك قد أسلمت من أول حمير وقتلت المشركين: فأبشر بخير، وآمرك بحمير خيرا، ولا تخونوا، ولا تخاذلوا بضم التاء المثناة الفوقية وكسر الذال. ويجوز أن يكون بفتح المثناة وفتح الذال محذوف إحدى التاءين، فإن رسول الله هو مولى غنيكم وفقيركم، وإن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لأهل بيته إنما هي زكاة يزكي بها على الفقراء المسلمين وابن السبيل، وإن مالكا قد بلغ الخبر وحفظ الغيب، وآمركم به خيرا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ومنها وفد رسول فروة بن عمرو الجذامي: وفد رسول الله فروة إلى رسول صلى الله عليه وسلم يخبره بإسلامه: وأهدى له صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء: أي يقال لها فضة وحمارا يقال له يعفور وفرسا يقال له الظرب وثيابا وقباء مرصعا بالذهب.
وكان فروة رضي الله تعالى عنه عاملا للروم على ما يليهم من العرب، فلما بلغ الروم إسلامه أخذوه وحبسوه، ثم ضربوا عنقه وصلبوه أي بعد أن قال له الملك ارجع عن دين محمد ونحن نعيدك إلى ملكك قال: لا أفارق دين محمد صلى الله عليه وسلم، فإنك تعلم أن عيسى عليه الصلاة والسلام بشّر به، ولكنك تضنّ بملكك.
ومنها وفد بني الحارث بن كعب بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى بني الحارث بن كعب بنجران، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم، وقال له: إن استجابوا فاقبل منهم، وإن لم يفعلوا فقاتلهم، فخرج خالد رضي الله تعالى عنه حتى قدم عليهم، فبعث الركبان يضربون في كل وجه ويدعون إلى الإسلام ويقولون: أيها الناس أسلموا تسلموا فأسلموا، فقام فيهم خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنهم يعلمهم الإسلام، أي شرائعه، وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبل ويقبل معه وفدهم. فأقبل رضي الله تعالى عنه ومعه وفدهم، وفيهم قيس بن الحصين ذو الغصة بالغين المعجمة. أي لأنه كان في حلقه غصة لا يكاد يبين الكلام منها. وهي صفة لأبيه الحصين. وربما وصف بها قيس.
قال في النور: ويحتمل أن يقال له ذو الغصة وابن ذي الغصة لأنه وأباه كانت بهما الغصة وفيه بعد.
وحين اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم قال لهم: بم كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية؟
قالوا: كنا نجتمع ولا نتفرق ولا نبدأ أحدا بظلم. قال صدقتم. وأمر عليهم صلى الله عليه وسلم زيد بن الحصين، ولم يمكثوا بعد رجوعهم إلى قومهم إلا أربعة أشهر حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنها أنه وفد عليه صلى الله عليه وسلم رفاعة بن زيد الخزاعي. وفد رفاعة بن زيد الخزاعي بالخاء المعجمة والزاي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلاما فأسلم وحسن إسلامه، وكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا إلى قومه «بسم الله الرحمن الرحيم.
من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لرفاعة بن زيد إني بعثته إلى قومه عامة ومن دخل فيهم يدعوهم إلى الله وإلى رسوله، فمن أقبل منهم ففي حزب الله وحزب رسوله، ومن أدبر فله أمان شهرين» فلما قدم رفاعة رضي الله تعالى عنه على قومه أجابوا وأسلموا.
ومنها وفد همدان. وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع من همدان فيهم مالك بن نمط وكان شاعرا مجيدا، فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من تبوك، عليهم مقطعات من الحبرات بكسر الحاء المهملة: ثياب قصار. وقيل مخططة من برود اليمن. والعمائم العدنية نسبة إلى عدن مدينة باليمن، سميت بذلك لأن تبعا كان يحبس فيها أرباب الجرائم. وفدوا إليه صلى الله عليه وسلم على الرواحل المهرية والأرحبية. والمهرية: نسبة إلى قبيلة يقال لها مهرة باليمن والأرحبية: نسبة إلى أرحب وصار مالك بن نمط يرتجز: أي
يقول الرجز بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول:
إليك جاوزنا سواد الريف
…
في هبوات الصيف والخريف
مخطمات بجبال الليف
ومن شعره:
حلفت برب الراقصات إلى منى
…
صوادر بالركبان من هضب قردد
بأن رسول الله فينا مصدق
…
رسول أتى من عند ذي العرش مهتد
فما حملت من ناقة فوق رحلها
…
أشد على أعدائه من محمد
وقد أمره صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه، وأمره بقتال ثقيف، فكان لا يخرج لهم سرح إلا أغار عليه كذا في الأصل.
وفي الهدى: روى البيهقي بإسناد صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى من ذكر يدعوهم إلى الإسلام، فأقام ستة أشهر يدعوهم إلى الإسلام، فلم يجيبوه. ثم إنه صلى الله عليه وسلم بعث عليا كرم الله وجهه وأمر خالدا بالرجوع إليه وأن من كان مع خالد إن شاء بقي مع عليّ وإن شاء رجع مع خالد، فلما دنا من القوم خرجوا إليه، فصف علي كرم الله وجهه أصحابه صفا واحدا، ثم تقدم بين أيديهم وقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا جميعا، وكتب بذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب خر ساجدا ثم رفع رأسه، ثم قال:
السلام على همدان، السلام على حمدان وهذا أصح، لأن همدان لم تكن تقاتل ثقيفا، فإن همدان باليمن وثقيفا بالطائف.
أي وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال: نعم الحي همدان، ما أسرعها إلى النصر، وأصبرها على الجهد. وفيهم أبدال وفيهم أوتاد.
ومنها وفد تجيب أي بضم المثناة فوق وتحتية ويجوز الفتح، وهي قبيلة من كندة. وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد تجيب وقد كانوا ثلاثة عشر رجلا، وقد ساقوا معهم صدقات أموالهم التي فرض الله عليهم، فسرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وأكرم مثواهم.
وقالوا: يا رسول الله إنا سقنا إليك حق الله في أموالنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ردوها فاقسموها على فقرائكم، قالوا: يا رسول الله ما قدمنا عليك إلا بما فضل عن فقرائنا، أي وفضل بفتح الضاد وكسرها، قال أبو بكر: يا رسول الله ما قدم علينا وفد من العرب مثل هذا الوفد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الهدى بيد الله عز وجل، فمن أراد به خيرا شرح صدره للإيمان، وجعلوا يسألونه عن القرآن والسنن، فازداد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم رغبة، وأرادوا الرجوع إلى أهليهم فقيل لهم ما يعجلكم؟ قالوا: نرجع إلى من وراءنا فنخبرهم برؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلاقينا إياه وما ورد علينا، ثم جاؤوا
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فودعوه، فأرسل إليهم بلالا فأجازهم بأرفع ما كان يجيز به الوفود، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هل بقي منكم أحد؟ قالوا: غلام خلفناه على رحالنا وهو أحدثنا سنا، قال: فأرسلوه إلينا، فأرسلوه فأقبل الغلام حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله أنا من الرهط الذين أتوك آنفا فقضيت حوائجهم، فاقض حاجتي؟ قال: تسأل الله عز وجل أن يغفر لي ويرحمني، ويجعل غناي في قلبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر له وارحمه واجعل غناه في قلبه، ثم أمر له صلى الله عليه وسلم بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه.
ثم إنهم بعد ذلك وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى في الموسم إلا ذلك الغلام، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل الغلام الذي أتاني معكم؟ قالوا: يا رسول الله، ما رأينا مثله قط، ولا حدثنا بأقنع منه بما رزقه الله، لولا أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها ولا التفت إليها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله إني لأرجو أن يموت جميعا، فقال رجل منهم، أو ليس يموت الرجل جميعا يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
تشعب أهواؤه وهمومه في أودية الدنيا، فلعل الأجل يدركه في بعض تلك الأودية فلا يبالي الله عز وجل في أيها هلك.
ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجع من رجع من أهل اليمن عن الإسلام قام ذلك الغلام في قومه فذكرهم الله والإسلام، فلم يرجع منهم أحد، وجعل أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يذكر ذلك الغلام ويسأل عنه، ولما بلغه ما قام به كتب إلى زياد بن الوليد أي وكان واليا على حضرموت يوصيه به خيرا.
ومنها وفد بني ثعلبة. وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من الجعرانة أربعة نفر من بني ثعلبة: أي مقرين بالإسلام، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج من بيته ورأسه يقطر ماء. قال بعضهم: فرمى ببصره إلينا فأسرعنا إليه وبلال يقيم الصلاة، فسلمنا عليه وقلنا يا رسول الله إنا رسل من خلفنا من قومنا، ونحن مقرون بالإسلام وقد قيل لنا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا إسلام لمن لا هجرة له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حيثما كنتم واتقيتم الله فلا يضركم، أي ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنا الظهر ثم انصرف إلى بيته فلم يلبث أن خرج إلينا فدعا بنا، فقال: كيف بلادكم؟ فقلنا مخصبون، فقال:
الحمد لله، فأقمنا أياما وضيافته صلى الله عليه وسلم تجري علينا، ثم لما جاؤوا يودعونه صلى الله عليه وسلم قال لبلال أجزهم، فأعط كل واحد منهم خمس أواق فضة أي والأوقية أربعون درهما.
ومنها وفد بني سعد هذيم من قضاعة. عن النعمان رضي الله تعالى عنه قال:
قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وافدا في نفر من قومي وقد أوطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاد:
أي جعلها موطأة قهرا وغلبة، وأزاح العرب: أي استولى عليها والناس صنفان إما داخل في الإسلام راغب فيه، وإما خائف السيف، فنزلنا ناحية من المدينة، ثم
خرجنا نؤم المسجد حتى انتهينا إلى بابه، فنجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على جنازة في المسجد، أي وهو سهيل ابن البيضاء، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يصل في مسجده على جنازة إلا عليه رضي الله تعالى عنه. وما وقع له في مسلم أنه صلى الله عليه وسلم صلى فيه على سهيل وأخيه نظر فيه مع أن فقهاءنا ذكروه وأقروه، فقمنا خلفه ناحية ولم ندخل مع الناس في صلاتهم. وقلنا حتى يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبايعه.
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر إلينا، فدعا بنا فقال: ممن أنتم؟ فقلنا:
من بني سعد هذيم، فقال: أمسلمون أنتم؟ قلنا: نعم، فقال: هلا صليتم على أخيكم؟ قلنا: يا رسول الله ظننا أن ذلك لا يجوز لنا حتى نبايعك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيما أسلمتم فأنتم مسلمون قال: فأسلمنا وبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأيدينا على الإسلام، ثم انصرفنا إلى رحالنا وقد كنا خلفنا عليها أصغرنا، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبنا، فأتى بنا إليه، فتقدم صاحبنا فبايعه صلى الله عليه وسلم على الإسلام. فقلنا: يا رسول الله إنه أصغرنا، وأنه خادمنا فقال صلى الله عليه وسلم «سيد القوم خادمهم، بارك الله عليه» قال النعمان رضي الله تعالى عنه: فكان والله خيرنا وأقرأنا للقرآن لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له، ثم أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا فكان يؤمنا فلما أردنا الانصراف أمر صلى الله عليه وسلم بلالا فأجازنا بأواق من فضة، لكل رجل منا، فرجعنا إلى قومنا.
ومنها وفد بني فزارة. وفد عليه صلى الله عليه وسلم بضعة عشر رجلا من بني فزارة فيهم خارجة بن حصن أخو عيينة بن حصن وابن أخيه الجد بن قيس بن حصن وهو أصغرهم مقرين بالإسلام وهم مسنتون: أي توالى عليهم الجدب على ركائب عجاف: أي هزال، فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بلادهم؟ فقال رجل منهم: أي وهو خارجة: أسنتت بلادنا، وهلكت مواشينا، وأجدب جنابنا: أي ما حولنا وغرثت أي جاعت عيالنا فادع لنا ربك يغيثنا، واشفع لنا إلى ربك، وليشفع لنا ربك إليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«سبحان الله ويلك يا هذا أنا أشفع إلى ربي عز وجل، فمن ذا الذي يشفع ربنا إليه! لا إله إلا هو العلي العظيم، وسع كرسيه: أي علمه، كذا قيل. وقيل موضع قدميه السموات والأرض: أي أحاط بالسموات والأرض، وهو دون العرش كما جاءت الآثار، فهي تئط: أي تصوت من عظمته وجلاله كما يئط الرحل بالحاء المهملة» الحديث: أي من ثقل الحمل.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله ليضحك من شغفكم وأزلكم: أي شدة ضيقكم وجدبكم، وقرب غياثكم، فقال الأعرابي: لن نعدم من رب يضحك خيرا، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله، وصعد صلى الله عليه وسلم المنبر فتكلم بكلمات، وكان لا يرفع يديه: أي الرفع البالغ في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء، فرفع صلى الله عليه وسلم يديه حتى رئي بياض إبطيه. أي وفي النور: وقد جوزت وجها وهو أنه عليه الصلاة والسلام كان يرفع يديه
في الاستسقاء يعني ظهور كفيه إلى السماء كما في مسلم، أي فيكون التقدير: لا يرفع ظهور كفيه إلى السماء إلا في الاستسقاء.
وأقول: فيه أن هذا يقتضي أنه يفعل ذلك، وإن كان استسقاؤه لطلب حصول شيء كما في دعائه صلى الله عليه وسلم في هذا الاستسقاء فإنه متضمن للحصول.
وقد ذكر في النور أن ما كان الدعاء فيه لطلب شيء كان ببطون الكفين إلى السماء.
والظاهر أن مستند ذلك استقراء حاله صلى الله عليه وسلم في الدعاء في الاستسقاء وغيره فليتأمل، والله أعلم.
ومما حفظ من دعائه صلى الله عليه وسلم: «اللهم اسق» بقطع الهمزة ووصلها «بلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت، اللهم اسقنا غيثا» أي مطرا «مغيثا مربعا» بضم الميم وإسكان الراء، وبالموحدة مكسورة وبالعين المهملة: مسرعا لإخراج الربيع، «مرتعا» بالتاء المثناة فوق من رتعت الدابة: إذا أكلت ما شاءت «طبقا» أي مستوعبا للأرض منطبقا عليها، واسعا «عاجلا غير آجل، نافعا غير ضار.
اللهمّ اسقنا رحمة، ولا تسقنا عذابا، ولا هدما، ولا غرقا، ولا محقا. اللهمّ اسقنا الغيث، وانصرنا على الأعداء. فقام أبو لبابة رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله التمر في المرابد، أي وتكرر ذلك منه صلى الله عليه وسلم ومن أبي لبابة ثلاث مرات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اللهم أسقنا الغيث حتى يقوم أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده، أي المحل الذي يخرج منه ماء المطر بإزاره فطلعت من وراء سلع سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، فو الله ما رأينا الشمس سبتا» أي من السبت إلى السبت الآخر، وقام أبو لبابة رضي الله تعالى عنه عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره لئلا يخرج التمر منه.
وفي بعض الروايات: «فأمطرت السماء وصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم طاف الأنصار بأبي لبابة رضي الله تعالى عنهم يقولون له: يا أبا لبابة إن السماء والله لم تقلع حتى تقوم عريانا تسد ثعلب مربدك بإزارك كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام أبو لبابة رضي الله تعالى عنه عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره فأقلعت السماء» وحينئذ يكون قول الراوي لئلا يخرج منه التمر بحسب ما فهم، ويكون قول الصحابة: فو الله ما رأينا الشمس سبتا كان في قصة غيرها فخلط بعض الرواة: فجاء ذلك الرجل أو غيره. والذي في الصحيح أنه الرجل الأول.
وذكر بعض الحافظ: «أنه خارجة بن حصن، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السبل، فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، فدعا ورفع يديه حتى رئي
بياض إبطيه» وهو أي بياض الإبط معدود من خصائصه صلى الله عليه وسلم «ثم قال: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الإكام» بكسر الهمزة، جمع أكمة: وهي التل المرتفع «والظراب» بكسر الظاء المشالة جمع ظرب بفتحها: الروابي الصغار «وبطون الأودية، ومنابت الشجر فانجابت السحابة» أي أقلعت عن المدينة انجياب الثوب.
أقول: لعل هذا المطر كان عاما للمدينة وما حولها حتى وصل إلى محل هؤلاء الوفد، وإلا فهم إنما طلبوا حصول المطر لمحلهم، ولا يلزم من وجوده بالمدينة وجوده بمحلهم إلا إذا كان قريبا بالمدينة بحيث إذا وجد المطر بها يوجد بمحلهم غالبا، وقد أشار صاحب الهمزية رحمه الله تعالى إلى هذه القصة بقوله:
ودعا للأنام إذ دهمتهم
…
سنة من محولها شهباء
فاستهلت بالغيث سبعة أيا
…
م عليهم سحابة وطفاء
تتحرى مواضع الرعي والسق
…
ي وحيث العطاش توهي السقاء
وأتى الناس يشتكون أذاها
…
ورخاء يؤذي الأنام غلاء
فدعا فانجلى الغمام فقل في
…
وصف غيث إقلاعه استسقاء
ثم أثرى الثرى وقرت عيون
…
بقراها وأحييت إحياء
فترى الأرض عنده كسماء
…
أشرقت من نجومها الظلماء
يخجل الدر واليواقيت من نو
…
ر رباها البيضاء والحمراء
ثم رأيت في الحدائق لابن الجوزي رحمه الله عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: «أصابت الناس سنة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر يوم الجمعة، فقام أعرابي فقال: يا رسول الله هلك المال، وجاع العيال، فادع الله أن يسقينا فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وما في السماء قزعة سحاب، فدار السحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل صلى الله عليه وسلم عن المنبر حتى رأينا المطر يتحادر على لحيته الشريفة، قال: فمطرنا يومنا ذلك. ومن الغد ومن بعد الغد والذي يليه إلى الجمعة الأخرى، فقام ذلك الأعرابي أو غيره فقال: يا رسول الله تهدم البناء، وغرق المال، ادع الله لنا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقال: اللهم حوالينا ولا علينا قال: فما جعل يشير بيديه إلى ناحية السماء إلا انفرجت حتى صارت المدينة في مثل الجونة حتى سال الوادي شهرا فلم يجيء أحد من ناحية إلا حدث بالجود.
ثم رأيت بعضهم قال: أحاديث الاستسقاء ثابتة في الصحيحين. وظاهرها أنه تعدد، ففي بعضها أنه وقع وهو في خطبة الجمعة، وفي بعضها أنه صعد المنبر حين شكي إليه فخطب ودعا.
وفي بعضها، أنه خرج إلى المصلى بعد أن وعد الناس يوما يخرج فيه ونصب له منبرا واستسقى وأجيبت دعوته ونزل المطر وجاء إليه صلى الله عليه وسلم أعرابي. وقال له: يا رسول الله أتيناك وما لنا بعير يئط، ولا صغير يغط، ثم أنشد شعرا يقول فيه:
وليس لنا إلا إليك فرارنا
…
وأين فرار الناس إلا إلى الرسل
فقام صلى الله عليه وسلم يجر رداءه حتى صعد المنبر فدعا فسقي، ثم قال صلى الله عليه وسلم: لو كان أبو طالب حيا لقرت عيناه، من ينشدنا قوله؟ فقام علي كرم الله وجهه فقال: يا رسول الله كأنك تريد قوله:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
…
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
الأبيات. فقال صلى الله عليه وسلم: «أجل» .
وفي رواية: «لما جاءه صلى الله عليه وسلم المسلمون: وقالوا: يا رسول الله، قحط المطر، ويبس الشجر، وهلكت المواشي وأسنت الناس، فاستسق لنا ربك، فخرج صلى الله عليه وسلم والناس معه يمشون بالسكينة والوقار حتى أتوا المصلى، فتقدم صلى الله عليه وسلم فصلى بهم ركعتين يجهر فيهما بالقراءة وكان يقرأ في العيدين والاستسقاء في الركعة الأولى بفاتحة الكتاب: وسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)[الأعلى: الآية 1]، وفي الركعة الثانية بفاتحة الكتاب وهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) [الغاشية: الآية 1] ، فلما قضى صلاته استقبل الناس بوجهه وقلب رداءه لكي ينقلب القحط إلى الخصب، ثم جثى صلى الله عليه وسلم على ركبتيه ورفع يديه وكبر تكبيرة، ثم قال: اللهم اسقنا، وأغثنا غيثا مغيثا رحيما واسعا وجدا، طبقا مغدقا عاما، هنيئا مريئا مربعا مرتعا وابلا، سائلا مسيلا، مجللا دائما، دارّا نافعا، غير ضار، عاجلا غير واب غيثا. اللهم تحيي به البلاد، وتغيث به العباد، وتجعله بلاغا للحاضر منا والباد. اللهم أنزل في أرضنا زينتها، وأنزل علينا سكنها. اللهم أنزل علينا من السماء ماء طهورا، تحيي به بلدة ميتة واسعة، مما خلقت أنعاما وأناسيّ كثيرا، فما برحوا حتى أقبل قزع من السحاب فالتأم بعضه إلى بعض. ثم أمطرت سبعة أيام لا تقلع عن المدينة، فأتاه صلى الله عليه وسلم المسلمون فقالوا: قد غرقت الأرض، وتهدمت البيوت، وانقطعت السبل، فادع لله يصرفها عنا، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر حتى بدت نواجذه، تعجبا لسرعة ملالة ابن آدم. ثم رفع يديه، ثم قال: اللهم حوالينا ولا علينا. اللهم على رؤوس الظراب، ومنبت الشجر، وبطون الأودية، وظهور الآكام، فتقشعت عن المدينة ثم قال صلى الله عليه وسلم: لله در أبي طالب لو كان حيا قرت عيناه، من الذي ينشدنا قوله؟ فقام علي كرم الله وجهه فقال: يا رسول الله كأنك أردت قوله فقال الأبيات.
ومنها وفد بني أسد. وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم رهط من بني أسد، منهم ضرار بن الأزور، ووابصة بن معبد وطلحة بن عبد الله الذي ادعى النبوة بعد ذلك، ثم أسلم وحسن إسلامه، ومنهم معاذة بن عبد الله بن خلف.
وقد استهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ناقة تكون جيدة للركوب والحلب، من غير أن تكون لها ولد معها، فطلبها فلم يجدها إلا عند ابن عم له، فجاء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحلبها فشرب منها ثم سقاه، ثم قال: اللهم بارك فيها وفيمن منحها، فقال: يا رسول الله وفيمن جاء بها، فقال: وفيمن جاء بها. ومنهم حضرمي بن عامر ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد مع أصحابه، فسلموا عليه، وقال شخص منهم: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك عبده ورسوله، وجئناك يا رسول الله ولم تبعث إلينا بعثا، ونحن لمن وراءنا.
أي وفي لفظ إن حضرمي بن عامر قال: أتيناك نتدرع الليل البهيم في سنة شهباء: أي ذات قحط ولم تبعث إلينا. وفي رواية: يا رسول الله أسلمنا ولم نقاتلك كما قاتلك العرب، فأنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) [الحجرات: الآية 17] .
وسألوه صلى الله عليه وسلم عما كانوا يفعلونه في الجاهلية، من العيافة وهي زجر الطير، والتخرص على الغيب، والكهانة، وهي الأخبار عن الكائنات في المستقبل، وضرب الحصباء، فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقالوا: يا رسول الله خصلة بقيت، فقال: وما هي؟
قالوا الخط: أي خط الرمل ومعرفة ما يدل عليه، قال صلى الله عليه وسلم: علمه نبي، فمن صادف مثل علمه علم. أي وفي رواية لمسلم: فمن وافق خطه، أي علم موافق خطه فذاك:
أي يباح له وإلا فلا يباح له إلا بتبيين الموافقة.
أي وفي شرح مسلم أن محصل مجموع كلام العلماء فيه الاتفاق على النهي عنه، أي لأنه لا طريق لنا إلى العلم اليقيني بالموافقة، وكأنه صلى الله عليه وسلم قال: لو علمتم موافقته، لكن لا علم لكم بها، وأقاموا أياما يتعلمون الفرائض، ثم جاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فودعوه وأمر لهم بجوائز ثم انصرفوا إلى أهليهم.
ومنها وفد بني عذرة: قبيلة باليمن، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر رجلا من بني عذرة، أي وسلموا بسلام الجاهلية فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: من القوم؟ فقال قائلهم: من بني عذرة: أي أخو قصي لأمه: نحن الذين عضدوا قصيا، وأزاحوا من بطن مكة خزاعة وبني بكر، فلنا قرابات وأرحام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مرحبا بكم وأهلا: أي لقيتم رحبا وأتيتم أهلا، فاستأنسوا ولا تستوحشوا، ما أعرفني بكم، قال:
ثم قال صلى الله عليه وسلم لهم: فما يمنعكم من تحية الإسلام؟ قالوا: يا محمد كنا على ما كان عليه آباؤنا، فقدمنا مرتادين لأنفسنا ولقومنا، وقالوا إلام تدعو؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأن تشهدوا أني رسول الله إلى الناس كافة، فقال متكلمهم: فما وراء ذلك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلوات الخمس تحسن
طهورهن وتصليهن لمواقيتهن فإنه أفضل العمل، ثم ذكر لهم صلى الله عليه وسلم باقي الفرائض من الصيام والزكاة والحج انتهى فأسلموا، وبشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتح الشام عليهم، وهرب هرقل إلى ممتنع بلاده، ونهاهم صلى الله عليه وسلم عن سؤال الكاهنة: أي فقد قالوا: يا رسول الله إن فينا امرأة كاهنة قريش والعرب يتحاكمون إليها، أفنسألها عن أمور؟
فقال صلى الله عليه وسلم: لا تسألوها عن شيء. ونهاهم صلى الله عليه وسلم عن الذبائح التي كانوا يذبحونها إلى أصنامهم، وقالوا نحن أعوانك وأنصارك، ثم انصرفوا وقد أجيزوا، أي وكسا رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهم بردا.
ومنها وفد بني بليّ على وزن علي مكبرا، وهو حي من قضاعة. وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد من بلي، منهم- وهو شيخهم- أبو الضبيب تصغير الضب: الدابة المعروفة، نزلوا على رويفع بن ثابت البلوي، وقدم بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له:
هؤلاء قومي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: مرحبا بك وبقومك، فأسلموا، وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي هداكم للإسلام، فمن مات منكم على غير الإسلام فهو في النار.
قال: وفي رواية عن رويفع رضي الله تعالى عنه قال: قدم وفد قومي، فأنزلتهم عليّ، ثم خرجت بهم حتى انتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في أصحابه، فسلمنا عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: رويفع؟ فقلت: لبيك، قال: من هؤلاء القوم؟ قلت: قومي يا رسول الله، قال: مرحبا بك وبقومك. قلت: يا رسول الله قدموا وافدين عليك مقرّين بالإسلام وهم على من وراءهم من قومهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من يرد الله به خيرا يهديه للإسلام» فتقدم شيخ الوفد أبو الضبيب فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنا وفدنا إليك لنصدّقك، ونشهد أنك نبي حق، ونخلع ما كنا نعبد وكان يعبد آباؤنا، فقال صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي هداكم للإسلام، فكل من مات على غير الإسلام فهو في النار انتهى. وقال له أبو الضبيب: يا رسول الله إن لي رغبة في الضيافة، فهل لي في ذلك أجر؟ قال: نعم، وكل معروف صنعته إلى غنيّ أو فقير فهو صدقة، فقال: يا رسول الله ما وقت الضيافة؟ قال: ثلاثة أيام فما بعد ذلك صدقة، ولا يحل للضيف أن يقيم عندك فيحوجك: أي يضيق عليك، أي وفي لفظ:
فيؤثمك: أي يعرضك للإثم: أي تتكلم بسيء القول، قال: يا رسول الله أرأيت الضالة من الغنم أجدها في الفلاة من الأرض؟ قال: هي لك، أو لأخيك، أو للذئب. قال: فالبعير؟ قال: ما لك وله؟ دعه يجده صاحبه. قال رويفع: ثم قاموا فرجعوا إلى منزلي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي منزلي يحمل تمرا، فقال: استعن بهذا التمر، فكانوا يأكلون منه ومن غيره، فأقاموا ثلاثة أيام، ثم ودعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجازهم ورجعوا إلى بلادهم.
ومنها وفد بني مرة. وفد عليه صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر رجلا من بني مرة، رأسهم الحارث بن عوف، فقال: يا رسول الله إنا قومك وعشيرتك، نحن قوم من بني لؤي بن غالب، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للحارث: أين تركت أهلك؟ فقال: بسلاح وما والاها، فقال: كيف البلاد؟ فقال: والله إنا لمسنتون، وما في المال مح: أي صوت يردده فادع الله لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اسقهم الغيث فأقاموا أياما، ثم أرادوا الانصراف إلى بلادهم، فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مودعين له فأمر بلالا أن يجيزهم، فأجازهم بعشرة أواق من فضة، وفضل الحارث بن عوف فأعطاه اثني عشر أوقية، أي وهذا يفيد أن كل واحد أعطي عشر أواق، ورجعوا إلى بلادهم فوجدوا البلاد مطيرة، فسألوا قومهم متى مطرتم؟ فإذا هو ذلك اليوم الذي دعا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخصبت لهم بعد ذلك بلادهم.
ومنها وفد خولان، وهي قبيلة من اليمن. وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة من خولان، فقالوا: يا رسول الله نحن على من وراءنا من قومنا، ونحن مؤمنون بالله عز وجل، مصدقون برسوله، وقد ضربنا إليك آباط الإبل وركبنا حزون الأرض وسهولها. وحزون كفلوس: وهو ما غلظ منها، والمنة لله ولرسوله علينا، وقدمنا زائرين لك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ما ذكرتم من مسيركم إليّ، فإن لكم بكل خطوةخطاها بعير أحدكم حسنة، وأما قولكم زائرين لك، فإنه من زارني بالمدينة كان في جواري يوم القيامة. فقالوا: يا رسول الله، هذا السفر الذي لا توى عليه:
أي والتوى بفتح المثناة فوق وفتح الواو مقصورا: هو هلاك المال، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل عم أنس؟ وهو صنم خولان الذي كانوا يعبدونه، قالوا: بشرّ بدلنا الله تعالى ما جئت به، وقد بقيت منا بعد بقايا شيخ كبير وعجوز كبيرة متمسكون به، ولو قدمنا عليه هدمناه إن شاء الله تعالى فقد كنا منه في غرور وفتنة، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما أعظم ما رأيتم من فتنة؟ قالوا: لقد رأيتنا بضم المثناة فوق، أسنتنا حتى أكلنا الرمة، فجمعنا ما قدرنا عليه وابتعنا مائة ثور ونحرناها لعم أنس قربانا في غداة واحدة، وتركناها يردها السباع ونحن أحوج إليها من السباع، فجاءنا الغيث من ساعتنا، ولقد رأينا الغيث يواري الرحال ويقول قائلنا أنعم علينا عم أنس، وذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا يقسمون لهذا الصنم من أموالهم من إنعامهم وحرثهم، فقالوا: كنا نزرع الزرع، فنجعل له وسطه، فنسميه له ونسمي زرعا آخر حجرة: أي ناحية لله، فإذا مالت الريح بالذي سميناه له: أي لله جعلناه لعم أنس، وإذا مالت الريح بالذي سميناه لعم أنس لم نجعله لله، فذكر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى أنزل عليّ في ذلك وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً [الأنعام:
الآية 136] الآية، قالوا: وكنا نتحاكم إليه فيتكلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلك الشياطين
تكلمكم، وسألوه صلى الله عليه وسلم عن فرائض الله فأخبرهم بها صلى الله عليه وسلم، وأمرهم بالوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وحسن الجوار لمن جاوروا، وأن لا يظلموا أحدا، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، ثم ودعوه صلى الله عليه وسلم بعد أيام وأجازهم: أي أعطى كل واحد اثنتي عشرة أوقية ونشا، ورجعوا إلى قومهم فلم يحلوا عقدة حتى هدموا عم أنس.
ومنها وفد بني محارب. وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة من بني محارب وفيهم خزيمة بن سواد، وكانوا أغلظ العرب وأشدهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام عرضه نفسه على القبائل في المواسم يدعوهم إلى الله تعالى، فجلسوا عنده يوما من الظهر إلى العصر، وأدام صلى الله عليه وسلم النظر إلى رجل منهم، وقال له: قد رأيتك، فقال له ذلك الرجل:
إي والله لقد رأيتني، وكلمتك بأقبح الكلام، ورددتك بأقبح الرد بعكاظ وأنت تطوف على الناس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، ثم قال: يا رسول الله ما كان في أصصحابي أشد عليك يومئذ ولا أبعد عن الإسلام مني، فأحمد الله الذي جاء بي حتى صدقت بك، ولقد مات أولئك النفر الذين كانوا معي على دينهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذه القلوب بيد الله عز وجل. فقال: يا رسول الله استغفر لي من مراجعتي إياك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا الإسلام يجب ما قبله: يعني الكفر، أي مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه خزيمة بن سواد فصارت له غرة بيضاء، وأجازهم كما يجيز الوفود، ثم انصرفوا إلى أهليهم.
ومنها وفد صداء: حيّ من عرب اليمن. وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة عشر رجلا من صداء.
وسبب ذلك أنه صلى الله عليه وسلم هيأ بعثا أربعمائة من المسلمين استعمل عليهم قيس بن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنهم، ودفع له لواء أبيض، ودفع إليه راية سوداء، وأمره أن يطأ ناحية من اليمن كان فيها صداء، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل منهم، وعلم بالجيش، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله جئتك وافدا على من ورائي، فاردد الجيش، وأنا لك بقومي، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم قيس بن سعد رضي الله تعالى عنهما وخرج الصدائي إلى قومه، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأولئك القوم، فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله دعهم ينزلون عليّ، فنزلوا عليه فحباهم بالموحدة:
أعطاهم وأكرمهم وكساهم، ثم ذهب بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم: فبايعوه على الإسلام، وقالوا له: نحن لك على من وراءنا من قومنا فرجعوا إلى قومهم ففشا فيهم الإسلام، فوافى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم مائة رجل في حجة الوداع، وسمي ذلك الرجل الذي كان سببا في رد الجيش ومجيء الوفد بزياد بن الحارث الصدائي، أي وذكر زياد أنه صلى الله عليه وسلم قال له: يا أخا صداء إنك لمطاع في قومك، قال: فقلت بلى من منّ الله عز وجل ومنّ رسوله. قال وفي رواية: بل الله هداهم للإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا
أؤمرك عليهم؟ فقلت: بلى يا رسول الله، فكتب لي كتابا بذلك، فقلت: يا رسول الله مر لي بشيء من صدقاتهم، قال: نعم. فكتب لي كتابا آخر انتهى.
قال زياد رضي الله تعالى عنه: وكنت معه صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وكنت رجلا قويا، فلزمت غرزه: أي ركابه، وجعل أصحابه يتفرقون عنه، فلما كان السحر قال صلى الله عليه وسلم: أذّن يا أخا صداء، فأذنت على راحلتي، ثم سرنا حتى نزلنا، فذهب صلى الله عليه وسلم لحاجته ثم رجع، فقال: يا أخا صداء هل معك ماء؟ قلت معي شيء في إداوتي: أي وهي إناء من جلد صغير. وفي رواية: لا إلا شيء قليل لا يكفيك، قال: هاته، فجئت به، قال: صب، فصببت ما في الإداوة في العقب، أي وهو القدح الكبير، وجعل أصحابه صلى الله عليه وسلم يتلاحقون، ثم وضع صلى الله عليه وسلم كفه في الإناء فرأيت بين كل أصبعين من أصابعه عينا تفور، ثم قال: يا أخا صداء لولا أني أستحي من ربي عز وجل لسقينا وأسقينا: أي من غير أصل، ثم توضأ وقال: أذن في أصحابي: من كانت له حاجة في الوضوء بفتح الواو فليرد، قال: فورد الناس من آخرهم، ثم جاء بلال يقيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أخا صداء أذن، ومن أذن فهو يقيم فأقمت، ثم تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بنا، فلما سلم: يعني من صلاته قام رجل يشكو من عامله، فقال: يا رسول الله إنه آخذنا بذحول كانت بيننا وبين قومه في الجاهلية: أي وفي رواية آخذنا بكل شيء كان بيننا وبين قومه في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا خير في الإمارة لرجل مسلم، ثم قام رجل آخر، فقال: يا رسول الله أعطني من الصدقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل لم يكل قسمتها إلى ملك مقرب ولا نبي مرسل حتى جزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت جزآ منها أعطيتك، وإن كنت غنيا عنها فإنما هي صداع في الرأس وداء في البطن، فقلت: يا رسول الله هذان كتاباك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم؟
قلت: إني سمعتك تقول: لا خير في الإمارة لرجل مسلم وأنا رجل مسلم، وسمعتك تقول: من سأل الصدقة وهو عنها غنيّ فإنما هي صداع في الرأس وداء في البطن وأنا غني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إن الذي قلت كما قلت، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دلني على رجل من قومك أستعمله، فدللته صلى الله عليه وسلم على رجل منهم فاستعمله.
قلت: يا رسول الله إن لنا بئرا إذا كان الشتاء كفانا ماؤها، وإن كان الصيف قلّ علينا فتفرقنا على المياه، والإسلام فينا قليل، ونحن نخاف، فادع الله عز وجل لنا في بئرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ناولني سبع حصيات، فناولته ففركهن في يده الشريفة ثم دفعهن إليّ وقال: إذا انتهيت إليها فألق فيها حصاة حصاة وسمّ الله، قال: ففعلت، فما أدركنا لها قعرا حتى الساعة.
ومنها وفد غسان: اسم ماء نزل عليه قوم من الأزد فنسبوا إليه، ومنهم بنو حنيفة، وقيل غسان قبيلة.
وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة نفر من غسان فأسلموا، وقالوا: لا ندري هل تبعنا قومنا أم لا وهم يحبون بقاء ملكهم وقربهم من قيصر، فأجازهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بجوائز، وانصرفوا راجعين إلى قومهم، فلما قدموا عليهم ولم يستجيبوا لهم كتموا إسلامهم.
ومنها وفد سلامان بفتح السين وتخفيف اللام. وفي العرب بطون ثلاثة منسوبون إليه: بطن من الأزد، وبطن من طيىء، وبطن من قضاعة وهم هؤلاء.
وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة نفر من سلامان، فيهم خبيب بن عمرو السلاماني فأسلموا.
قال: وعن خبيب رضي الله تعالى عنه: صادفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجا من المسجد إلى جنازة دعي إليها، فقلنا: السلام عليك يا رسول الله: فقال: وعليكم السلام من أنتم؟ قلنا: نحن من سلامان قدمنا إليك لنبايعك على الإسلام، ونحن على من وراءنا من قومنا، فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى ثوبان غلامه، فقال: أنزل هؤلاء، وسألنا عن أشياء انتهى.
قال خبيث رضي الله تعالى عنه: قلت يا رسول الله ما أفضل الأعمال؟ قال:
الصلاة في وقتها، وصلوا معه صلى الله عليه وسلم يومئذ الظهر والعصر، ثم شكوا له صلى الله عليه وسلم جدب بلادهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اسقهم الغيث في دارهم، فقلت يا رسول الله ارفع يديك فإنه أكثر وأطيب، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه، ثم قام صلى الله عليه وسلم وقمنا معه، وأقمنا ثلاثة أيام وضيافته صلى الله عليه وسلم تجري علينا، ثم ودعناه، وأمر لنا بجوائز، فأعطينا خمس أواق فضة لكل واحد واعتذر إلينا بلال رضي الله تعالى عنه وقال: ليس عندنا اليوم مال، فقلنا: ما أكثر هذا وأطيبه ثم رجعنا إلى بلادنا فوجدناها قد مطرت في اليوم الذي دعا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنها وفد بني عبس. وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة من بني عبس فقالوا: يا رسول الله قدم علينا قراؤنا فأخبرونا أنه لا إسلام لمن لا هجرة له، ولنا أموال ومواش هي معاشنا، فإن كان لا إسلام لمن لا هجرة له بعناها وهاجرنا من آخرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتقوا الله حيث كنتم فلن يلتكم أي ينقصكم من أعمالكم شيئا وسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خالد بن سنان هل له عقب؟ فأخبروه أنه لا عقب له كانت له ابنة فانقرضت، وأنشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه عن خالد بن سنان وقال: إنه نبي ضيعه قومه، وجاء:«ليس بيني وبين عيسى عليه الصلاة والسلام نبي» .
أي وإذا صح شيء من الأحاديث التي ذكر فيها خالد بن سنان أو غيره يكون معناه: لم يكن بينه صلى الله عليه وسلم وبين عيسى عليه السلام نبي مرسل، أي وتقدم ما في ذلك.
ومنها وفد النخع: أي بفتح النون والخاء المعجمة: قبيلة من اليمن، وهم آخر الوفود، وكان وفودهم سنة إحدى عشرة في النصف من المحرم.
وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مائتا رجل من النخع مقرين بالإسلام وقد كانوا بايعوا معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه، فقال رجل منهم يقال له زرارة بن عمرو: يا رسول الله إني رأيت في سفري هذا عجبا: أي وفي رواية: رأيت رؤيا هالتني، قال:
وما رأيت؟ قال: رأيت أتانا نركبها في الحي ولدت جديا: أي وهو ولد المعز أسقع أحوى، أي والأسقع الذي سواده مشرب بحمرة، والأحوى: الذي ليس شديد السواد ومن ثم فسر بالأخضر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تركت أمة لك مصرة لك على حمل؟ قال نعم، قال فإنها تلد غلاما وهو ابنك قال: يا رسول الله، فما له أسقع أحوى؟ قال: ادن مني، فدنا منه، فقال: هل بك من برص تكتمه؟ قال: فو الذي بعثك بالحق ما علم به أحد ولا اطلع عليه غيرك، قال هو ذاك، قال: يا رسول الله ورأيت النعمان بن المنذر أي وهو ملك العرب وعليه قرطان. والقرط: ما يكون في شحمة الأذن، ودملجان بضم الدال المهملة وضم اللام وفتحها، ومسكتان بضم الميم وسكون المهملة، قال: ذلك ملك العرب رجع إلى أحسن زيه وبهجته، قال:
يا رسول الله، ورأيت عجوزا شمطاء: أي يخالط شعر رأسها الأبيض شعر أسود خرجت من الأرض، قال: تلك بقية الدنيا، وقال: ورأيت نارا خرجت من الأرض فحالت بيني وبين ابن لي يقال له عمرو، وهي تقول لظى لظى، بصير وأعمى أطعموني أكلكم أهلكم ومالكم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك فتنة تكون في آخر الزمان، قال: يا رسول الله وما الفتنة؟ قال: يقتل الناس إمامهم ويشتجرون اشتجار أطباق الرأس، ويشتجرون بالشين المعجمة وبالجيم: أي يشتبكون في الفتنة اشتباك أطباق الرأس، وخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصبعيه، يحسب المسيء فيها أنه محسن، ويكون دم المؤمن عند المؤمن أسهل. أي وفي لفظ: أحلى من شرب الماء البارد، وإن مات ابنك أدركت الفتنة، وإن مت أنت أدركها ابنك، فقال: يا رسول الله ادع الله أني لا أدركها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم لا يدركها، فمات وبقي ابنه عمرو، ولم يجتمع به صلى الله عليه وسلم، فهو تابعي وكان ممن خلع عثمان رضي الله تعالى عنه.
قال: وفي رواية أن النخع بعثت رجلين منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهم أرطاة بن شرحبيل من بني حارثة والأرقم من بني بكر، فلما قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض عليهما الإسلام فقبلاه فبايعاه على قومهما، وأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم شأنهما وحسن هيئتهما، وقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل خلفتما وراء كما من قومكما مثلكما؟
قالا: لا يا رسول الله، قد خلفنا وراءنا من قومنا سبعين رجلا كلهم أفضل منا، وكلهم يقطع الأمر وينفذ الأشياء ما يشاء، فدعا لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقومهما بخير،
وقال: اللهم بارك في النخع.
وعقد صلى الله عليه وسلم لأرطاة لواء على قومه، فكان في يده يوم الفتح، وشهد به القادسية، وقتل يومئذ رضي الله تعالى عنه اه.
وقوله وكان في يده يوم الفتح لا يناسب ما تقدم أن وفد النخع كان قدومه في سنة إحدى عشرة، إلا أن يقال هذين وفدا قبل وفود ذلك الجمع.
وقد ترك الأصل التعرض لجملة من الوفود وذكرت في السيرة العراقية والسيرة الهشامية تركناها تبعا للأصل.
منها أن عمرو بن مالك وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم، ثم رجع إلى قومه فدعاهم إلى الإسلام، فقالوا: حتى نصيب من بني عقيل مثل ما أصابوا منا فكان بينهم وبين بني عقيل مقتلة، وكان عمرو بن مالك هذا من جملة من قاتل معهم، فقتل رجلا من بني عقيل، قال عمرو: فشددت يدي في غل وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغه ما صنعت، فقال صلى الله عليه وسلم: إن أتاني لأضرب ما فوق الغل من يده، فلما جئت سلمت فلم يرد عليّ السلام وأعرض عني، فأتيته عن يمينه فأعرض عني، فأتيته عن يساره فأعرض عني، فأتيته من قبل وجهه، فقلت: يا رسول الله إن الرب عز وجل ليترضى فيرضى، فارض عني رضي الله تعالى عنك، قال: رضيت.
وتقدم أنه قد جاء في الصحيح: «لا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، ولا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه، ولا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن» والله أعلم.