الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العواصم والقواصم
في الذب عن سنة أبي القاسم
تصنيف الإمام العلامة النظار المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير اليماني
المتوفى سنة 840 هـ
حققه وضبط نصه، وخرج أحاديثه، وعلّق عليه
شعيب الأرنؤوط
الجزء التاسع
مؤسسة الرسالة
العواصم والقواصم
في
الذب عن سنة أبي القاسم
9
جميع الحقوق محفوظَة
لمؤسسَة الرسَالة
ولا يحق لأية جهة أن تطبع أو تعطي حق الطبع لأحد.
سَواء كان مؤسسَة رسميّة أو أفراداً.
الطبعة الثالثة
1415 هـ - 1994 م
مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
مؤسسة الرسالة بَيْروت - شارع سُوريا - بناية صَمَدي وَصالحة
هاتف: 603243 - 815112 - ص. ب: 7460 برقياً، بيوشران
بسم الله الرحمن الرحيم
الوجه الرابعُ: أنَّه ورد في " صحيح مسلم " من حديثِ أبي موسى عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: " أنَّ اللهَ تعالى يُعْطِي كل مسلم يهودياً أو نصرانياً، فيقولُ (1): هذا فداؤك مِنَ النَّار "(2). وهذا ينظرُ في التأويل إلى قوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظيمٍ} [الصافات: 107] إلى أمثالٍ لذلك (3) كثيرةٍ، فلنتكلَّمْ على إسناده، ثم على معناه.
أمَّا إسناده، فإنه على شرط الجماعة كلهم، وقد أخرجه أبو عبد الله أحدُ شيعة أهل البيت عليهم السلام الكبار في كتابه " المستدرك " كما يأتي.
خرَّجه مسلم (4) من طرق عن قتادة، وهو من أئمة الاعتزال وفرسان الحديث: قال قتادة: إن عوناً -يعني ابن أبي جُحيفة- وسعيد بن أبي بُردة كلاهما حدَّثناه أنهما شَهِدا أبا بُرْدَةَ يُحَدِّثُ عمر بن عبد العزيز عن أبيه أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وكل رجاله مجمعٌ عليهم في كتب الجماعة، وقتادة صرَّح بالسماع، فلا يُخَافُ من تدليسه على أن أحمد بن حنبل، رواه في " المسند "(5) من غير هذه الطريق، فقال: أخبرنا أبو المغيرة النضرُ بنُ إسماعيل القاصُّ، حدثنا بُرَيْدُ بن عبد الله بن أبي بُردة، عن جده أبي بُردة، ورواه أيضاً من طريق مسلم في المقدمة لكن عن المسعودي، عن سعيد بن أبي بردة.
وخرجه الحاكم (6) في " المستدرك " في كتاب الإيمان بلفظٍ حسنٍ مفسر
(1) في (ش): ويقول.
(2)
تقدم تخريجه في الجزء السادس.
(3)
في (ش): " ذلك ".
(4)
رقم (2767)(50).
(5)
4/ 402.
(6)
1/ 58، وأخرجه أيضاً في 4/ 253 و607. وانظر 6/ 341 من هذا الكتاب.
بأحسنَ من لفظ مسلم في بعض، وبإسناد آخر يُقوي إسناد مسلم، فقال: أخبرني أبو الحسن أحمد بن عثمان الآدمي، حدثنا أبو قِلابة، حدثنا حجاج بن نُصير (1)، حدثنا شدَّاد بن سعيد (ح)، وأخبرني أبو بكر الفقيه -هو ابن إسحاق- حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدَّثنا عُبَيْدُ الله (2) بن عمر القواريري، أخبرنا حَرَمِيُّ بن عُمارة، حدثنا شداد بن سعيدٍ أبو طلحة الراسبي، عن غيلان بنِ جرير، عن أبي بُردة، عن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تُحْشَرُ هذه الأمة على ثلاثة أصنافٍ: صِنْفٌ يدخلون الجنة بغير حسابٍ، وصِنْفٌ يُحاسَبُونَ حساباً يسيراً ثم يدخلون الجنة، وصِنف يجيئون (3) على ظهورهم أمثال (4) الجبال الراسيات ذنوباً، فيقول الله تعالى: اجعلوها على اليهود والنصارى، وأدخلوهم الجنة برحمتي ".
قال الحاكم: صحيح على شرطهما (5)، وحرمي على شرطهما، فأمَّا (6) حجاج، فإنِّي قرنُته إلى حَرَمي، لأني علوتُ فيه.
قلت: وشواهده في تقسيم أهل الجنة إلى ثلاثة أقسام، كثيرةٌ مشهورةٌ في كتاب الله تعالى، وفي التفسير، والحديث كما يأتي إن شاء الله تعالى في تفسير قوله:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر: 32]، مع قوله تعالى:{وَسَلامٌ على عبادِهِ الذين اصطفى} [النمل: 59]، وقد عدَّ ممن (7) اصطفى من هذه الأمة الظالم لنفسه، فهذا هو الكلام على أسانيده.
وأما الكلام على معناه، فمن وجهين:
(1) في الأصول زيادة: " حدثنا حرمي بن عمارة " والتصويب من " المستدرك ".
(2)
تحرف في (ف) إلى: " عبد الله ".
(3)
في (ف) وفوقها في (ش): " يجثون ".
(4)
في (ف): " كأمثال ".
(5)
كذا قال مع أن شداد بن سعيد خرج له مسلم متابعة فقط، وهو صدوق حسنُ الحديث.
(6)
في (ف): " وأما ".
(7)
في (د) و (ف): " فيمن ".
الوجة الأول: أنه ليس في ذلك ظلم اليهود (1) والنصارى على جميع المذاهب، أما الأشعرية، فظاهر، وأما أهل السنة والمعتزلة فلأن اليهود والنصارى عادوا المسلمين في الدنيا، وظلموهم بالعداوة والسَّبِّ، وكثيرٌ منهم بالخوف والقتل والحرب، وما استطاعوا من أنواع المضار قتالاً وقتلاً وغِيلةً، وغشّاً، ونيةً وبُغضاً.
وقد ثبت وجوب القصاص بين المسلمين بعضهم من بعض، بل بين الشاة الجماء والقرناء، فكيف لا يُنْتَصَفُ (2) للمسلمين من أكفر الكافرين؟ والله تعالى يقول:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَاد} [غافر: 51]، وقد صح أن القِصاص إنما هو بالحسنات والسيئات إن كان للظالم حسناتٌ، أخذ منها (3) المظلوم بقدر مَظْلِمَتِهِ، وإن لم تكن له حسنات، حَمَلَ الظالم من ذنوب المظلوم بقدر مظلمته، وسيأتي أن هذا من العدل الذي لا يُناقِضُ قوله تعالى:{ولا تزر وازرةٌ وِزْرَ أُخرى} [الإسراء: 15]، لأن المقصد أنها لا تُظْلَمُ بتحميلها وزر الأخرى أما إذا كان على وجه الانتصاف من الظالم للمظلوم، فإنه يكون من العدل، ومنه قوله تعالى:{وأثقالاً مع أثقالهم} [العنكبوت: 13]، وقوله تعالى حكايةً عن ابن آدم الصالح. {إني أُرِيدُ أن تَبُوأَ بإثمي وإثمك} [المائدة: 29] وكذلك ورد في الأحاديث الصحاح (4) أن من سنَّ سُنَّةً سيئةً كان عليه إثمُها وإثم من عَمِلَ بها من غير أن يَنْقُصُ من آثامهم (5)، وأن على ابن آدم القاتل لأخيه إثم من قَتَلَ إلى يوم القيامة (6)، وإلى ذلك أشار
(1) في (ف): " لليهود ".
(2)
في (ف): " ينصف ".
(3)
في (ف): " أخذها ".
(4)
ساقطة من (ش).
(5)
أخرجه من حديث جرير بن عبد الله: أحمد 4/ 357 و358 و359 و360 و361 - 362، ومسلم (1017)، والطيالسي (670)، والنسائي 5/ 75 - 77، والطحاوي في " شرح معاني الآثار "(243) و (244) و (245) و (248)، والبيهقي 4/ 175 - 176، والبغوي (1661).
(6)
أخرجه البخاري (3335) و (6867) و (7321)، ومسلم (1677)، والترمذي =
القرآن الكريم في قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].
فالخاصُّ هنا عاضِدٌ لمعنى العام، لا ناقِضٌ له، لأنهما كِلَيْهما وَرَدا لتقرير قواعد العدل والتناصف، وكذا قوله تعالى:{وأنْ لَيْسَ للإنسان إلَاّ ما سعى} [النجم: 39] عمومٌ مخصوص بالأجر على الآلام المتفق عليه (1)، والمعنى: ليس له ما تمنَّى وتحكَّم وتأتَّى، وإنما له ما استحق بعمله، وأما ما يتفضَّل به (2) عليه من مغفرة، أو موهبةٍ، فليس يقال: إنه له، ولا يدخل في هذا، لأن اللام تقتضي الملك، وذلك فضل الله يُؤتيه من يشاء، لا مانع لما أعطى، ولا مُعْطِيَ لما منع، سبحانه وتعالى.
الوجه الثاني: أن الغرض بالفداء صدقُ الوعيد مع العفو، وعدم الخُلْفِ كما أشار إليه قوله تعالى:{وفديناه بذبحٍ عظيم} [الصافات: 107]، فإنه لا معنى له إلَاّ أن ذبحه يقوم مقام ذبح الذبيح عليه السلام، ومنه فداء عبد الله بن عبد المطلب بمئةٍ من الإبل، كما هو معروف في السيرة النبوية، ولا يُوصَفُ بالخلف من وَعَدَ بدراهم، فأدّى ما يَعْدِلُهَا دنانير ونحو ذلك.
وقد فُسِّرَ العدل بذلك في قوله تعالى فيمن لا يستحق الشفاعة: {ولا يُقْبَلُ
= (2673)، والنسائي 7/ 82 من حديث ابن مسعود.
(1)
ورد أكثر من حديث بهذا المعنى، منها حديث عائشة:" ما من مسلمٍ يُشاكُ شوكة فما فوقها إلا رفَعَه الله بها درجة، وحطَّ بها عنه خطيئةً ".
أخرجه البخاري (5649)، ومسلم (2572)، وانظر " صحيح ابن حبان "(2906) و (2919) و (2925).
وحديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري: " لا يصيب المرءَ المؤمن من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ ولا همٍّ ولا حُزْنٍ ولا غَمٍّ ولا أذىً حتى الشوكة يُشاكُها إلَاّ كفَّرَ الله عنه بها خطاياه ". أخرجه البخاري (5641) و (5642)، ومسلم (2573). وانظر " صحيح ابن حبان "(2095).
(2)
ساقطة من (ش).
منها شفاعةٌ ولا يُؤْخَذُ منها عَدْلٌ} [البقره: 48].
قال الزمخشري (1): أي: لا يُؤخَذُ منها فِديةٌ، لأنها معادلة للمَفْدِي، ومنه الحديث:" لا يُقْبَلُ منه صَرْفٌ ولا عَدْلٌ "(2) أي: توبة ولا فدية. انتهى كلام الزمخشري.
والمقصود من إيراد (3) الحجة على أن الفدية في لغة العرب تقوم مقام المَفْدِيِّ، والكتاب والسنة عربيان، وأهل الفِطَرِ السليمة على هذا قبلَ نبوغِ البراهمة والمبتدعة، وقد خصَّ الله المنافقين والكفار بعدم قبول الفدية، فقال في سورة الحديد في خطاب المنافقين:{فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِير} [الحديد: 15]، وفي تخصيصهم (4) بنفي قَبُول الفدية منهم إشارةٌ إلى قَبُولِها من المسلمين من قبيل مفهوم الصفة، والمسلمون أيضاً باقون على الأصل في حسن ذلك، إذا لم يُنْفَ ذلك عنهم، وذكر ابن عبد السلام في " قواعده " (5) في الرد على البراهمة أن العقول تستحسِنُ انتفاع الحيوان النفيس بالحيوان الخسيس ويشهد لما ذكره أن أهل الفِطَرِ السليمة حكموا بأن أنصف بيت قالته العرب قول حسان:
(1) 1/ 279.
(2)
قطعة من حديث علي، ولفظه:" المدينة حرامٌ ما بين عَيْرٍ إلى ثورٍ فمن أحدث حدثاً فيها، أو آوى مُحْدِثاً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يُقبل منه صرفٌ ولا عدلٌ، ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلماً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل، ومن والى قوماً بغير إذن مواليه، فعليه لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين ". أخرجه البخاري (1870) و (3172) و (3179) و (6755) و (7300)، ومسلم (1370)، وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان "(3716) و (3717).
وأخرجه مسلم (1366) من حديث أنس، و (1371) من حديث أبي هريرة.
(3)
في (د) و (ف): " إيراده ".
(4)
في (ف): " وتخصيصهم ".
(5)
1/ 5.
أتَهْجُوهُ ولست له بِكُفءٍ
…
فَشَرُّكما لِخَيْرِكُمَا الفِداءُ (1)
ويلزم البراهمة قبحُ التداوي لإخراج دود البطن لما فيه من دفع (2) ضررٍ خفيفٍ بقتل ألوفٍ من الحيوانات التي لا ذنب لها، بل يلزَمُهم أن يقبُح سقيُ الزرع، ويقبح الحرث، وغَرْفُ ماء الموارد ونحو ذلك إذا أدىّ إلى موت دودةٍ، أو ذرَّة أو نحوهما بسبب الماء أو الحرث (3)، كما مضى بيانُ ذلك في مرتبة الدواعي من الوهم الثامن والعشرين في المجلد الثالث.
خاتمة: وهذه الوجوه مما يتمشى على قول أهل السنة في غير من أدخلَ النار، وخرج بالشفاعة، أو فيمن أدخل النار وفُدِيَ من الخلود، أمَّا على قول المرجئة: إنه لا يُعذَّبُ أحدٌ من أهل لا إله إلَاّ الله بعد الموت بشيءٍ، فهذا باطلٌ إن قال به قائلٌ، بل قد صح حديث أبي هريرة مرفوعاً في تعذيب مانع الزكاة بماله في يوم القيامة حتى يُرى سبيله، إما إلى جنةٍ أو إلى نارٍ. رواه أحمد ومسلم (4).
وصح أن الشمس تدنو يوم القيامة من الخَلْق، فَيَعْظُمُ الغَمُّ والتعبُ والعَرَقُ، حتى يُلْجَمَ بعضُهم على قدر أعمالهم، ويتطاول ذلك حتى يَشْفَعَ لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفاعة العُظمى، المسماة بالمقام المحمود (5).
(1) تقدم في الجزء السابع.
(2)
في (ف): " رفع ".
(3)
في (ش): " والحرث ".
(4)
ولفظه: ما من صاحب ذهبٍ ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلَاّ إذا كان يوم القيامة صُفِّحت له صفائحُ من نارٍ، فأُحميَ عليها في نار جهنم، فيُكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بَرَدَت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار
…
".
أخرجه أحمد 2/ 262 و276 و283، ومسلم (987). وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان "(3253).
(5)
روى البخاري في " صحيحه "(1474) عن يحيى بن بكير: حدثنا الليث، عن عبيد الله بن أبي جعفر، قال: سمعتُ حمزة بن عبد الله بن عمر، قال: سمعتُ عبد الله بن عمر =
وخرَّج البخاري (1) في الرقاق من حديث الأعمش عن أبي وائل، عن ابن مسعودٍ، قال النبي صلى الله عليه وسلم:" الجنة أقرب إلى أحدكم من شِراكِ نعله، والنَّارُ مِثلُ ذلك " وهذا يوجب الجمع بين الخوف والرجاء، وأن لا ينظر العبد إلَاّ إلى رحمة الله، ولذلك خرَّج بعده حديث أبي هريرة (2) عنه صلى الله عليه وسلم:" أصدقُ بيتٍ قاله الشاعر: ألا كُلُّ شيءٍ ما خَلا الله باطِلُ ".
والبشارات لا تقتضي وقوع الفساد، ولو كانت خاصة ببعض الأشخاص كيف مع العموم؟ وقد بشَّر النبي صلى الله عليه وسلم جماعةً معينين بالجنة ممن لم يقل أحد بعصمتهم مثل أزواجه صلى الله عليه وسلم (3)
= رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأُذُن، فبينا هم كذلك استغاثوا بآدم، ثم بموسى، ثم بمحمد- صلى الله عليه وسلم ".
وزاد عبد الله: (هو ابن صالح كاتب الليث) حدثني الليث، حدثني ابن أبي جعفر:
" فيشفع ليقضى بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب فيومئذ يبعثه الله مقاماً محموداً يَحْمَدُه أهلُ الجمعِ كلهم ".
ورواه الطبري 15/ 146 وابن منده في " الايمان " من طريق محمد بن عبد الله بن الحكم، حدثنا شعيب بن الليث عن الليث به. وانظر " الفتح ".
(1)
رقم (6488).
(2)
رقم (6489). وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان "(5783) و (5784).
(3)
منها حديث أبي هريرة عند البخاري (3820) و (7497)، ومسلم (3242)، ولفظه:" أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك، فاقرأ عليها السلام من ربها ومني وبَشِّرْها ببيتٍ في الجنة من قصب لا صخبَ فيه ولا نصبَ ".
ومنها حديث عائشة عند الترمذي (3876) قالت: " ما حسدتُ أحداً ما حسدتُ خديجة، وما تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَاّ بعدَ ما ماتت، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَشَّرها ببيت في الجنة من قصبٍ لا صخبَ فيه ولا نصبَ ".
ومنها حديث عائشة عند الترمذي (3880)، وابن حبان (7094) و (7095) والحاكم 4/ 10 وهو صحيح. ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر فاطمة، قالت -أي: عائشة-: فتكلمت =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أنا، فقال:" أما تَرضَيْن أن تكوني زوجتي في الدنيا والآخرة ".
ورواه ابن حبان (7096) ولفظه أنها قالت: من أزواجُك في الجنة؟ قال: " أما إنك منهن ". وانظر تمام تخريجه فيه.
وقال ابن كثير 6/ 407: وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} وهذا نصٌّ في دخول أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في أهل البيت ها هنا، لأنهن سببُ نزول هذه الآية، وسبب النزول داخلٌ فيه قولاً واحداً، إما وحده على قول، أو مع غيره على الصحيح.
وروى ابن جرير، عن عكرمة أنه كان ينادي في السوق:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وهكذا روى ابن أبي حاتم قال: حدثنا علي بن حرب الموصلي، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا حسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} ، قال: نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وقال عكرمة: من شاء باهلته أنها نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن كان المراد أنهنَّ كن سببَ النزول دون غيرهن، فصحيح، وإن أُريد أنهن المراد فقط دون غيرهن، ففي هذا نظر فإنه قد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك.
ثم قال: ثم الذي لا يشك فيه من تدبر القرآن أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم داخلات في قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} ، فإن سياق الكلام معهن، ولهذا قال تعالى بعد هذا كله:{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَة} ، أي: اعملن بما ينزل الله على رسوله في بيوتكن من الكتاب والسنة، قال قتادة وغير واحد: واذكرن هذه النعمة التي خصصتن بها من بين الناس، أن الوحي ينزِلُ في بيوتكن دون سائر الناس وعائشة بنت الصديق أولاهن بهذه النعمة وأحظاهن بهذه الغنيمة، وأخصّهن من هذه الرحمة العميمة، فإنه لم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في فراش امرأة سواها، ولم يَنَمْ معها رجل في فراشها سواه، فناسب أن تُخَصَّصَ بهذه المزية، وأن تفرد بهذه الرتبة العلية، ولكن إذا كان أزواجُه من أهل بيته، فقرابته أحق بهذه التسمية، كما تقدم في الحديث:" وأهل بيتي أحق ": وهدا يُشبه ما ثبت في صحيح مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فقال:" هو مسجدي هذا ". فهذا من هذا القبيل؛ فإن الآية إنما =
والعشرة رَضِي الله تعالى عنهم (1)، وثابت بن قيس (2)، وعُكاشة (3)،
= نزلت في مسجد قباء، كما ورد في الأحاديث الأخر. ولكن إذا كان ذلك أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بتسميته بذلك، والله أعلم.
(1)
أخرجه أبو داود (4649) و (4650)، والترمذي (3748) و (3757)، وابن ماجه (134)، وأحمد (1/ 187 و188 و189، وفي " فضائل الصحابة " (87) و (90) و (225)، وابن أبي عاصم (1428) و (1431) و (1433) و (1436)، والحاكم 4/ 440، والنسائي في " الفضائل "(87) و (90) و (92) و (106)، وأبو نعيم 1/ 95. ولفظه: عن سعيد بن يزيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عشرة في الجنة: أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان، وعلي، والزبير، وطلحة، وعبد الرحمن، وأبو عبيدة، وسعد بن أبي وقاص " قال: فَعَدَّ هؤلاء التسعة وسكت عن العاشر، فقال القوم: ننشدك الله يا أبا الأعور: من العاشر؟ قال: نشدتموني بالله، أبو الأعور -يعني نفسه- في الجنة.
وأخرجه من حديث عبد الرحمن بن عوف: الترمذي (3748)، وأحمد 1/ 193، وفي " الفضائل "(278)، والنسائي في " الفضائل "(91)، والبغوي (3925) وسنده صحيح.
(2)
أخرجه البخاري (3613) و (4846)، ومسلم (119) من حديث أنس بن مالك أنه قال: لما نزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} إلى آخر الآية، جلس ثابتُ بن قيس في بيته، وقال: أنا من أهل النار، واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم سعدَ بن مُعاذ، فقال:" يا أبا عمرو، ما شأنُ ثابت؟ أشتكى؟ " قال سعد: إنه لجاري، وما علمتُ له بشكوى، قال: فأتاه سعد، فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ثابت: أنزلت هذه الآية، ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنا من أهل النار، فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" بل هو من أهل الجنة ". وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان "(7168) و (7169).
وأخرجه ابن حبان عن ثابت بن قيس بنحوه (7167) وفيه: " يا ثابت، ألا ترضى أن تعيش حَميداً، وتُقتل شهيداً، وتدخُلَ الجنة؟ " قال: بلى يا رسول الله، قال: فعاش حميداً وقُتل شهيداً يوم مُسيلمة الكذاب. وانظر تمام تخريجه فيه.
(3)
وفي حديث ابن عباس مرفوعاً: "عُرِضت عليَّ الأممُ، فرأيتُ النبي ومعه الرُّهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد، إذْ رُفِعَ لي سوادٌ عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى صلى الله عليه وسلم وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت، فإذا سواد عظيم، =
وحاطب (1)، وغيرهم، فازدادوا صلاحاً وتقوى، وكلُّ من تجرأ بعد سماع البشرى، فهو ممن عَلِمَ الله أنه جريء ولو لم يسمعها، وذلك مثل من تجرأ بعد سماع قبول التوبة، ومثل الشياطين الذين قال الله فيهم وفيمن أضلوه:{فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 161 - 163]، فنص على أنه ليس في خلقه لهم مفسدة، وكذلك جميع ما جاءت به رسله إلَاّ على الأشقياء الذين وصفهم الله بأن القرآن عليهم عمىً وهو أعظم الشقاء، وتأويل أهل السنة بالوجهين الأولين أصحُّ وأبعد من كل ما يَرِدُ على تأويلات المرجئة.
والإرجاء عند أهل السنة: بدعةٌ مذمومة لما فيه من مخالفة السنن الصحيحة، وإن كانت الأحاديت الواردة في ذم المرجئة غير صحيحة عند أئمة الأثر، كما أوضحتُه في الكلام على مسألة القدر، وقد اشتد خوفُ الصحابة من الله مع صحة إيمانهم وسماعهم للمبشرات بغير واسطةٍ، وقرب عهدهم، وأخبارهم في ذلك معلومةٌ في تراجمهم، والله أعلم.
ولا بد من ذكر ما أوجب ترجيح أكثر علماء الإسلام لقبول آيات الرجاء، وأخباره المتواترة بذكر ما حضرني منها مع بُعدي من لقاء علماء هذه الطائفة،
= فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذابٍ" ...... فقام عُكاشة بن مِحْصَن فقال: ادعُ الله أن يجعلني منهم، فقال:" أنت منهم "، ثم قام رجل آخر، فقال: ادعُ الله أن يجعلني منهم، فقال:" سَبَقَكَ بها عُكّاشة ". أخرجه البخاري (6541)، ومسلم (220). وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان "(6430).
وأخرجه أيضاً (6431) من حديث ابن مسعود.
(1)
أخرجه من حديث جابر مسلم (2195) ولفظه: أن عبداً لحاطب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطباً، فقال: يا رسول الله، إنه ليدخُلُ حاطب النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" كذبتَ، إنه لا يدخُلُها، إنه شهد بدراً والحديبية ". وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان "(4799) و (7120).
وقلةِ تواليفهم الحافلة عندي فبالوقوف على ما أذكره مع ذلك يعلم تواتر ذلك.
وقد مر منها إلى الآن واحد وثلاثون حديثاً عن تسعة عشر صحابياً، وستأتي زيادة كثيرة على هذا مُفَرَّقةٌ في غضون الكلام، وأختم الكلام بالتنبيه على ما لم يتقدم، وعلى عِدَّةِ ما تقدم، ثم بالتخويف من الله تعالى، وبيان أن الرجاء هو حسن ظنٍ، وأن من جعل القطع موضع الظن خرج إلى التألِّي على الله تعالى، وكان اعتقاده من جنس قول اليهود {سَيُغْفَرُ لنا} [الأعراف: 169]، وقد نَقَمَ اللهُ تعالى ذلك عليهم، ومن أين الأمانُ واللهُ تعالى يقول:{إنَّ عذاب ربِّهِمْ غير مأمونٍ} [المعارج: 28]، وهو في الصالحة المُثْنَى عليهم في كتاب الله، وفي آية:{إنَّ عذاب ربك كان محذوراً} [الإسراء: 57]، وقد أجمعت الأمةُ المرجئة والوعيدية أن الخواتم مجهولة، وإن قدرنا صلاح الحال مع بُعد ذلك، والله المستعان.
ولكني رأيتُ قبل ذلك أن أُورد شُبَه المخالفين وجوابها على الإنصاف بحسب علمي واجتهادي.
فأقول: إن قيل لا شكَّ في ورود القرآن والسنة بذلك ولكنه معارضٌ بثلاثة أمور:
أحدها: عمومات الوعيد.
وثانيها: الوعيد الخاص ببعض الكبائر كآية القتل وأحاديثه.
وثالثها: البيان الخاص في قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31]، فإن الخصوم يزعمون أن هذه أبينُ آيةٍ وأخصُّها، ورجَّحوا تأويل الوعد بترجيح الخوف، أو مصلحة الزجر خوف المفسدة في الرجاء.
والجواب من وجهين: جملي وتفصيلي:
أما الجُملي: فهو أنه وقع تعارضٌ في الوعد والوعيد في بعض المواضع
إلا أن يُجْمَعَ بينهما بنوعٍ من التأويل، وتأويل الوعيد أولى لوجوه:
الوجه الأول: أنها من المتشابه، والوعد بالخير من المحكم، والواجب تأويل المتشابه، وهذا جَلِيٌّ (1) إلَاّ كونها من المتشابه، والدليل عليه أن العفو أحب إلى الله في جميع شرائعه، والنصوص فيه أكثر من أن تُحصى، والخير هو المحكَمُ المقصود لذاته عقلاً وشرعاً، ولذلك قال الله تعالى:{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5 - 6]، وقال:{سيجعل الله بعد عسرٍ يُسْراً} [الطلاق: 7]، ولم يرد ذلك وقال:{يريد الله بكم اليسر} [البقرة: 15]، وقال:{والله يريد أن يتوب عليكم} [النساء: 27]، وإرادته نافذةٌ على ما تقرَّر في موضعه من هذا الكتاب.
الثاني: أن الأحاديث صحَّت في أن الخير والعفو مكتوم منه خوف أن يَتَّكِلَ الناسُ كما يأتي في حَدِيثَيْ علي ومعاذ.
الثالث: أن الخُلف في الوعد أقبح منه في الوعيد، ومن قَصَدَ المحافظة على صدق الوعيد تنزيهاً لله تعالى من الخُلْفِ فيه، فقد غَفِلَ غفلةً عظيمةً، وسيأتي تنزيهُ الله من الجميع.
الرابع: أنه أكثر ثناءً على الله، وأنسبُ بأكثر أسمائه الحسنى.
الخامس: أنه أقوى دلالةً، لأنه مبنيٌّ على قبول النصوص الخاصة وتقديمها على العمومات، وسيأتي تحقيق ذلك وما فيه من القوة المعلومة.
السادس: أنه قول السلف في الأسانيد الصحاح.
السابع: أنه قول جماهير علماء الإسلام وقد مر أنه لا مفسدة فيه.
الثامن: أن الله تعالى أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يُبَشِّرَ المؤمنين والمتقين، وكرَّر ذلك، وهذا مُبَيِّنٌ لِما أجمله من تسميته بشيراً ونذيراً، أي: بشيراً
(1) تحرفت في (ش) إلى: " خفي ".
للمؤمنين ونذيراً للكافرين، من ذلك قوله تعالى:{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ} الآية [الأحزاب: 47 - 48] فجعل المؤمنين قسماً واحداً مُستَخَصِّين للبشارة، وجعل قسمهم المقابل لهم الكافرين والمنافقين، وكذلك قال تعالى:{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم: 97]، وستأتي الأدلة على تفسير المؤمنين والمتقين.
وكذلك وردت السنن الصحاح، كقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذٍ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن:" يسِّرا ولا تُعَسِّرا، وبشِّرا ولا تُنَفِّرا " رواه خ م د ت من حديث أبي موسى (1).
وروى خ م عن أنس عنه صلى الله عليه وسلم مثله بلفظ الجمع: " يَسِّرُوا ولا تعسِّرُوا، وبَشِّروا ولا تُنفِّروا "(2).
وفعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما أمر به، بل مثل ما أمره الله تعالى به، كما تواتر في السنن الصحاح المأثورة، ومعلومٌ أن (3) الله تعالى لا يأمُرُ رسوله بما فيه مفسدةٌ، ولا يأمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يفعله، كما أنه أخبر بمعنى الإنذار ولم يكن فيه مفسدة، ولما قالوا: أفلا نَتَّكِلُ (4) على كتابنا قال: " كُلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له "(5).
وأما قوله في حديث معاذ: " دعهم يعملوا "(6) فإنه على الجواز لا على التحريم ولا الكراهة، بدليل أنه أعلمهم به في أكثر الأحاديث، ولأنه أخبر معاذاً بذلك، وهو منهم، ولأن معاذاً أخبر بذلك عند موته خوف الإثم في كتمه، وهو راوي الحديث والعارف بما صَحِبَه مِن القرائن، ولأن الإجماعَ استقر بعدُ على
(1) تقدم تخريجه في 1/ 259.
(2)
تقدم تخريجه في 1/ 173.
(3)
في (ش): " بأن ".
(4)
في (ف): " أفنتكل ".
(5)
تقدم تخريجه في الجزء الخامس وغيره.
(6)
أخرجه البخاري (128) و (129)، ومسلم (32) من حديث أنس.
رواية ذلك، والقرآن نص على الأمر به، لا على الأمر بنقيضه، وقد بشَّر يوسفُ إخوته بالمغفرة، وبشرهم أبوهم عليه السلام، وهذا كله مع بقاء الخوف بجهل الخواتم إجماعاً، ولشرط المشيئة في القرآن عند أهل السنة مع ذلك يُبْطِلُ ما يُظَنُّ من المفسدة، وتكون الفائدة منع القنوط لا سوى، تتبين بذكر كل واحدٍ من هذه الأمور الثلاثة على انفراده.
فأمَّا الأمر الأول: وهو المعارضة بعمومات الوعيد، فلا يَصِحُّ، لأن المعارضة تقتضي الوقف، والوقف يقتضي الرجاء، ولأنَّ الخاصَّ موجودٌ مشهور، والخاص مقدَّمٌ على العام، وأدلة الرجاء أخص وأبين كما يظهر لك الآن إن شاء الله تعالى.
والوعيدية على هذا في غير هذه المسألة، بل هم عليه فيها عند حاجتهم إليه، بل لا بد لهم من ذلك في هذه المسألة بعينها، فإنهم إنما قطعوا بغفران الصغائر وإخراجها من عموم:{ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم} [الجن: 23] لأن آية الصغائر أخصُّ مع معارضة قوله تعالى: {ومن يعمل مثقال ذرَّةٍ شرّاً يَرَهْ} [الزلزلة: 8]، لقوله (1):{إنْ تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه} [النساء: 31] من بعض الوجوه، ولذلك احتاجوا إلى تأويلها، بل تراهم يُخَصِّصُون القرآن بالحديث الآحادي متى كان عموم القرآن في الوعد بالثواب، كما يَخُصُّون قوله تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114] في نحو عشر آيات في هذا المعنى، كقوله تعالى في الصادقين والمصدقين في سورة " الزمر ":{لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُون} [الزمر: 35]، وقوله تعالى في " الأحقاف ":{أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُون} [الأحقاف: 16]، وقوله تعالى في المؤمنين في [العنكبوت: 7]: {لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ
(1) في (ش): " أي لقوله ".
أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} وغيرها مما يأتي بيانه، وأنه مُخَصَّصٌ للمجازاة على كل شيءٍ إن شاء الله تعالى بالكافرين (1)، وكذا نحو قوله تعالى:{ومن يوق شُحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون} [التغابن: 16]، يخصونه بكون الزكاة شُرعت مُسقطةً لبقية الحقوق ومطيبةً للأموال، فلو ذهب جميع ما يَمْلِكُ من غير نيةِ الزكاة ولا مصرفها، ولم يُزَكِّ ماله، لم ينفعه ذلك، ولو شحَّ ببقية ماله بعد إخراج الواجب (2) لم يَضُرَّه ذلك، وسمعتُ بعضهم يقول: إنما يُخَصُّ القرآن بهذه الأخبار الآحادية، لأنها عمليةٌ ظنية، والاعتقاد لا يدخله الظنُّ.
قلت له: فمحالٌ أن تُجوِّزوا صدقها عند العمل بها، واعتقادكم جازمٌ أن العموم لم يُخصَّ بها، أو أن تعملوا بها، واعتقادكم جازم على أنها مكذوبةٌ باطلةٌ، أو أن تعتقدوا أنها تُفيدُ العلم دون سائر أخبار الثقات، وهذا مُبْطِلٌ لقولهم: لا يصح التَّعبُّدُ بالظن فيما سبيله الاعتقاد، وهذا وقولهم: إن الاعتقاد لا يُخَصَّصُ يَبْطُلُ بمعارضتهم مثله في آيات الوعد، فما صنعوا فيها صنع أهل السنة في آيات الوعيد مثله (3) مع أنه مخالفٌ للظاهر من إجماع العترة حيث خصَّصُوا آية النجوى بما رُوي من تفرُّد علي عليه السلام بالعمل بها (4)، مع أن ظاهر القرآن أنه لم يعمل بها أحدٌ، لقوله تعالى:{فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [المجادلة: 13]، فخص أهل البيت علياً عليه السلام بحديثٍ آحادي، ولم يكن ذلك تكذيباً لكتاب الله تعالى عند أحدٍ ممن يعقلُ التخصيص، ويدري بالتفسير والحمد لله.
بل صرَّحوا بشفاعة قارىء: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] لمن عرفه في النار كما مر من رواية محمد بن منصور عنهم، عن علي عليه السلام في " علوم آل محمد صلى الله عليه وسلم "، وأوضحُ من هذا تخصيصهم للآل بآية التطهير دون نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع ظهورها فيهن، والاتفاق على أن سياقها، وما قبلها (5)، وما بعدها
(1) في (ف): " للكافرين ".
(2)
في (ف): " الزكاة ".
(3)
في (ف): " مثل "، وهو خطأ.
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
في (ف): " سياق ما قبلها ".
فيهن فاعتبِرْ هذا وزِنْ أقوالهم، فإنه لا فرق بين تأويلهم لقوله تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء: 69] وبين تأويل الجميع لقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [الجن: 23]، وذلك لأن الطاعة والمعصية تَصْدُقُ على المرة الواحدة، فمن أطاع مرة واحدة، وعصى مرة؛ فقد تناوله الوعد والوعيد ووَجَبَ الوقف في حاله، حتى يتبين مراد الله فيه من غير هاتين الآيتين. وكذلك قوله تعالى في الحِرْزِ:{مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُون} مخصوصٌ بالإجماع على أن محمداً صلى الله عليه وسلم شفيعٌ مُشفَّعٌ، وأن ذلك تفسير المقام المحمود الذي وعده في كتابه، وإن اختلفوا لمن تكون شفاعته، وكذلك نفيُ الشفيع مخصوصٌ مع الإجماع، كقوله (1) تعالى:{وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 86 - 87]، وبما تواتر في السنة النبوية، فما الفرق بين تخصيص وتخصيص؟ وكيف يكون التخصيص تكذيباً مع مثل هذا؟ وعند أهل السنة أن ذلك التعارض المتوهَّم قد تَبَيَّنَ بقوله تعالى:{إنَّ الحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السيئاتِ} [هود: 114]، وقوله:{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِم} [التوبة: 102]، وقوله:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء: 116]، مع ما عَضَدَ هذه الآيات وأمثالها من البيان النبوي المعتاد مثله في كل عمومات القرآن، وأنواع الشرائع والتكاليف، وعندَ الوعيدية أن ذلك قد تبين بقوله تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]، وسيأتي الكلام عليها، وإيضاح أنها في بيان حكم المجتنبين للكبائر، وآيات أهلِ السنة وأحاديثهم في بيان حكم المرتكبين للكبائر، وتقسيمهم إلى مشركٍ وغيره، فهو أبين كما يَتَّضِحُ إن شاء الله تعالى.
وأمَّا الأمر الثاني: وهو المعارضة بالوعيد الخاصِّ ببعض الكبائرِ بخصوصه، فلا نُسَلِّمُ صحة شيء من ذلك بخصوصه وَرَدَ في المؤمنين
(1) في (ف): " بقوله ".
بخصوصهم على سبيل النصوصية القطعية بحيث يَتَعَذَّرُ تخصيص المؤمنين من عمومه أصلاً، وأشهر ما تمسكوا به أمور:
الأول -وهو أعظم ما يشتبه من ذلك- قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] وهي آيةٌ عظيمة اشتملت على وعيدٍ هائلٍ لمن اجترأ على هذه المعصيةِ الكبيرة التي صح تسميتها كفراً في أحاديث كثيرة، ونص كتاب الله تعالى على أن فاعلها بغير حقٍّ كمن قَتَلَ الناس جميعاً.
ونص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنها أعظم عند الله من زوال الدنيا (1) وحَمَلَتْ (2) حَبْرَ الأمة وبحرَها عبد الله بن العباس رضي الله عنهما على القول بأن التوبة لا تُقْبَلُ منه (3) حِرصاً على بقاء وعيدها وعدم الترخيص لأحدٍ بتخصيصه، ولكنها مع ذلك كُلِّه لا يمنع من النظر في سائر كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولأمرٍ ما حفَّها الله تعالى بآيتين كريمتين، تقدَّمتها إحداهما وتعقبتها الأُخرى في سورةٍ واحدةٍ، وهما قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء: 116]، حتى روى أبو داود في " سُننه " عن أبي مجلز لاحقِ بنِ حميد التابعي الجليل أحد أصحاب ابن عباس أنه قال: هي جزاؤُه فإن شاء الله أن يتجاوز عن جزائه فَعَلَ (4). بل رَوَى العلاء بن المسيَّب، عن عاصم بن أبي
(1) تقدم تخريجه في الجزء الثامن.
(2)
في (ف): " وحمله ".
(3)
أخرج أحمد 1/ 240 و294، والترمذي (3029)، والنسائي 7/ 85 و87، وابن ماجه (2621)، والطبري (10188) و (10189) و (10190) و (10191) من حديث ابن عباس أنه سُئل عمن قَتَلَ مؤمناً متعمداً، ثم تاب وآمن وعَمِلَ صالحاً، ثم اهتدى، فقال ابن عباس: وأنَّى له التوبةُ، سمعتُ نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول:" يجيء متعلقاً بالقاتل تشخُبُ أوداجُه دماً، فيقول: أي رب، سَلْ هذا فيمَ قتلني؟ " ثم قال: واللهِ لقد أنزلها الله، ثم ما نسخها. وهذا حديث صحيح.
(4)
أخرجه أبو داود (4276)، والطبري (10184) من طريقين عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز قوله. وهذا إسناد صحيح.
النَّجود أحد القراء السبعة، عن ابن عباس أنه قال: هي جزاؤه إن شاء عذَّبه وإن شاء غَفَرَ له (1)، ورُوي نحو ذلك عن عون بن عبد الله (2)، وعن أبي صالح (3)، ومحمد بن سيرين (4)، ذكرها الظاهري في " تفسيره "، وتلا محمد بن سيرين {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ولا بد من ذكر الأقوال على التقصِّي في ذلك على حسب ما عرفت.
القول الأول: قول ابن عباس: إنها محكمةٌ، وإنها نزلَتْ بعد آية الفُرقان التي ذُكِرَتْ فيها التوبة، وأنه لا توبة للقاتل (5) يعني بحيث يقطع على وجود الطريق إلى النجاة.
أمَّا على جهة الرجاء مع بقاء الخوف الذي هو الوازعُ الشرعي، فقد روى
(1) ذكره السيوطي في " الدر المنثور " 2/ 627 ونسبه إلى ابن المنذر. ولا يعرف لعاصم بن أبي النجود رواية عن ابن عباس.
(2)
ذكره السيوطي في " الدر المنثور " 2/ 628 ونسبه إلى ابن المنذر.
(3)
أخرجه الطبري (10185)، وابن المنذر فيما ذكره السيوطي 2/ 628. ورجال الطبري ثقات. وتحرف فيه " سيَّار " إلى " يسار ".
(4)
أخرجه البيهقي في " البعث "(43) وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 2/ 628 وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر. ولفظه: عن هشام بن حسان قال: كنا عند محمد بن سيرين، فقال له رجل:{ومن يقتل مؤمناً متعمداًً فجزاؤه جهنم خالداً فيها} حتى ختم الآية.
قال: فغضب محمد، وقال: أين أنت من هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} قُم عني، اخرج عني، قال: فأُخرج.
(5)
أخرجه البخاري (3855) و (4590) و (4762) و (4763) و (4764) و (4765) و (4766)، ومسلم (3023)، وأبو داود (4273) و (4274) و (4275)، والنسائي 7/ 85 و86، والطبراني (12314) و (12501)، والنحاس في " الناسخ والمنسوخ " ص 137 من طرق عن سعيد بن جبير. وأحدُ ألفاظه: قال: قلت لابن عباس: ألمن قَتَلَ مؤمناً متعمداً من توبةٍ؟ قال: لا. قال: فتلوتُ عليه هذه الآية التي في الفرقان: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقّ} إلى آخر الآية، قال: هذه آية مكية، نسختها آية مدنية:{ومن يقتل مؤمناً متعمداًً فجزاؤه جهنم خالداً} .
عنه عاصم القارىء ما يقتضي جوازه كما قدَّمنا.
قال إمامُ أهلِ السنة ابن قيم الجوزية في كتابه الجليل المُسَمَّى بـ " الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي "(1): وقد جعل الله جزاء قتل النفس المؤمنة عمداً الخلود في النار، وغَضَبَ الجبار، ولعنتَه (2)، وإعداد العذاب العظيم له، هذا موجب قتل المؤمن عمداً ما لم يمنَعْ منه مانعٌ، ولا خلاف أن الإسلام الواقع طوعاً بعد القتل مانعٌ من نفوذ ذلك الجزاء، وهل تَمْنَعُ توبة المسلم منه بعد وقوعه؟ فيه قولان للسلف والخلف، وهما روايتان عن أحمد، والذين قالوا: لا تمنع التوبة منه رأوا أنه حقُّ الآدمي لم يَسْتوفِه في دار الدنيا وخَرَجَ منها بظُلامته، فلا بد أن يُستوفى له في دار العدل إلى آخر كلامه في ذلك وهو كلامٌ طويلٌ مفيدٌ.
والجواب على ابن عباس رضي الله عنهما ومن قال بقوله من وجوهٍ:
الأول: أن آية الفرقان، وإن تقدمتها، فإنها أخصُّ منها، والعام لا ينسخ الخاص على الصحيح، ألا ترى أن آية القتل هذه مخصوصة عند ابن عباس وعند الجميع بما ثبت قبلها من كون الإسلام يجب ما قبله، وقد نزل في المائدة:{اليوم أُحِلَّ لكم الطيبات} إلى قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب} [المائدة: 5] وهي بعد النساء، ولم تنسخ هذه العمومات شيئاً مما حرَّمه الله في سورة النساء من النساء المحرمات بالقرابةِ والمصاهرة، ولا من غيرهن، وإن كان العموم يقتضي ذلك، وأمثال ذلك ما لا يُحصى، وهذا مُستقصىً في أصول الفقه.
الوجه الثاني: أن التوبة قد وردت في " المائدة " وهي بعد النساء وذلك في قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا
(1) ص 171.
(2)
في (ف): " ولعنه ".
عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم} [المائدة: 33 - 34]، وكان نزولها في الذين قَتَلُوا رَاعِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاتفاق كما في دواوين الإسلاها كلها (1) مثل ما أن آية الفرقان نزلت في مشركي قريش كما في الكتب الصحيحة من حديث سعيد بن جُبير، عن ابن عباس (2) فإن قيل: إنها نزلت في الرعاء وكانوا مرتدين، وابن عباس لم يُخالِفْ في توبة الكافر والمرتد من القتل والكفر. قلنا: وآية القتل نزلت في مرتدٍّ عن الإسلام كما سيأتي، فإما أن يُعتبر العموم في جميع المواضيع، أو تُعتبرَ الأسباب، وأيضاً فإن جوابنا على تقدير اعتبار العموم المتأخر.
وكذلك قوله تعالى: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِين} [يوسف: 9] فيه ما يدل على صحة التوبة من القتل في شرع من قبلنا، وشرعنا أكثر ترخيصاً وتيسيراً بالإجماع.
(1) أخرجه أبو داود (4366)، والنسائي 7/ 94 من طريق عمرو بن عثمان عن الوليد، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أنس. أن نفراً من عُكْلٍ قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة، فيشربوا من أبوالها وألبانها، ففعلوا، فقتلوا راعيها، واستاقوها، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم، قال: فأُتِيَ بهم، فَقَطَّعَ أيديهم وأرجلهم، وسمَّرَ أعيُنَهم، ولم يحسمهم، وتركهم حتى ماتوا، فأنزل الله عز وجل:{إنما جزاءُ الذين يحاربون الله ورسوله} الآية. وذكره عبد الغني في " إيضاح الإشكال " من طريق أبي قلابة مختصراً كما في " الدر المنثور " 3/ 66 - 67.
وأخرجه أحمد 3/ 163 و233، والطبري (11808) و (11809) و (11815)، والواحدي في " أسباب النزول " ص 129 - 130 من طرق عن قتادة، عن أنس نحوه. وفي آخره: قال قتادة: فبَلَغَنا أن هذه الآية نزلت فيهم: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} .
قلت: وأخرج القصة من حديث أنس البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه ولم يذكروا فيها سبب نزول الآية.
(2)
أخرجه البخاري (3855)، ومسلم (3023)(18) و (19)، وأبو داود (4273) و (4274)، والنسائي 7/ 86.
الوجه الثالث: أنه لا يَحْصُلُ الأمان المقتضي للمفسدة من القول بقبولِ التوبة، فإن الخوف مع التوبة باقٍ، والخواتم والسوابق مجهولةٌ ولذلك قيل:
يَخَافُ على نفسه من يَتُوبُ
…
فَكَيْفَ يُرَى حَالُ من لا يتوبُ
وهذا إجماعٌ على قواعد المرجئة، بل القنوط أدعى إلى ارتكاب الكبائر، كما صح في حديث الذي قتل تسعة وتسعين (1) كما يأتي في بقية الحُجج على ابن عباس رضي الله عنه.
الوجه الرابع: أن الله تعالى وإن نصَّ على أن جهنم جزاء القاتل، فإنَّ رحمته سابقةٌ غالبةٌ لغضبه، واسعةٌ لجميع المذنبين من خلقه، كما نصَّ على ذلك القرآن والسنة، ومن رحمته قبولُ توبة التائبين، وقد قال تعالى:{عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156] وقال تعالى حاكياً عن الملائكة إنهم قالوا: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَك} [غافر: 7] ففرّق سبحانه في الآيتين بين سعة رحمته وكتابتها، فجعل سعتها عامةً لِكُلِّ شيءٍ على حدِّ عمومه لكل شيء، وجعل كتابتها التي هي وجوبها خاصةً (2) بالمؤمنين والتائبين الذين كلامنا فيهم، فلو خَرَجَ القاتل التائب من خصوص من كُتِبَتْ له الرحمة ما خرج من عموم من وَسِعَتْهُ، والدليل على أن سعتها غير كتابتها وجوه:
الأول: أنه الظاهر لغة.
الثاني: أنه جعل السَّعَة لكل شيء في الآيتين (3) معاً، وجعلها مثل سعة العلم الذي لا أوسع منه، فلا يخرج منه شيءٌ قطعاً، وجعل الكتابة خاصَّةً بالمؤمنين، والدعاء خاصّاً بهم.
الثالث: أنه لو لم تَسَعْ ذنبَ الكفر والقتل، لم يَهْدِ كافراً، ولا قاتلاً إلى
(1) تقدم تخريجه في 1/ 219 و314.
(2)
في (ف): " خاصاً ".
(3)
في (ف): " الاثنين ".
التوبة، ثم يقبلها منه، وقد قال في اليهود الذين هم المغضوب عليهم في التفسير المرفوع، وفي نصوص القرآن، على لعنهم والغضب عليهم، فقال في حقِّهم:{ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} [البقرة: 51 - 52]، يعني سبحانه: وفَّقَهُمْ للتوبة ثم قَبِلَها منهم.
الرابع: أنه تعالى إذا أفردَ الخطاب مع المؤمنين، ذكر كتابة الرحمة التي تمنع الوجوب، وإذا خاطب الكافرين مفردين، ذكر سَعة الرحمة التي تمنعُ القنوط ويكون رجاؤها سبباً للرجوع إلى الله تعالى، فقال في خطاب المؤمنين:{وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة} [الأنعام: 54]، وقال في الكفار:{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِين} [الأنعام: 147].
الوجه الخامس: أنها قد قُبِلَتْ توبة القاتل إذا كان مُشركاً، فأسلم بموافقة ابن عباس، فأولى أن تُقبل توبةُ المسلم، لأن الإسلام يزيد أهله قُرباً إلى الله تعالى، وإلى قبولِ ما يتقربون إليه به من توبةٍ وغيرها، بل هو شرطٌ في قبول عباداتهم، فيقبلُ منهم ما لا يُقبل من الكافرين إجماعاًً.
الوجه السادس: أن طاعات القاتل صحيحةٌ، ولذلك خُوطِبَ بالفرائض ووجبت عليه، وصحَّت منه، وكما صَحَّت صلاته وزكاته وحجه وصومه تصحُّ توبته ورجوعه إلى الله تعالى، وأي توبة أعظم من توبه القاتل الذي يَبْذُلُ نفسَه للقَوَدِ، بل قد جَعَلَها مختارٌ في كتابه " المُجتبى " حُجَّة على من قال من شيوخ المعتزلة: إن التائب لا يعلم قبول توبته، لأنه يجد الخوفَ مع التوبة، ولأنه لا يأمن أن يكون مُفرطاً في بعض شروطها، فأجاب الشيخ مختار: بأن أحوال التائبين تختلِفُ، وقد يمكن أن يعلَمَ ذلك بعضهم كمن تاب من القتل، وبذل جميع ما يعلم أنه يجب حتى بَذَلَ نفسه، وسلَّمها للقتل.
الوجه السابع: أنها قد وردت منصوصةً في الأحاديث المتفق على
صحتها كحديث الذي قتل تسعةً وتسعين، ثم سألَ عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على رجلٍ عابدٍ، فقال له:" لا توبة لك فقتله، ثم دُلَّ على رجلٍ عالمٍ، فأمره بالتوبة، وبمفارقة أرضه، فسار مهاجراً إلى أرضٍ غير أرضه، فمات في الطريق، فتخاصمت فيه ملائكةُ الرحمة وملائكة العذاب، فأمرَ اللهُ تعالى مَلَكاً أن يحكُمَ بينهم، أن يقيسوا ما بينه وبين الأرض التي عصى فيها، والأرض التي هاجر إليها، فقاسوا، فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بشبرٍ، فقبضته ملائكة الرحمة ". رواه أهل الصحاح من وجوه كثيرة (1).
وروى البخاريُّ عن عبد الله بن يوسف، عن مالكٍ، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال:" يضحك الله عز وجل إلى رجلين يقتل أحدهما الآخرَ يدخلان الجنة، يُقاتِلُ هذا في سبيل الله فيُقتلُ، ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد " رواه البخاري في " الجهاد "، وترجم له: باب الكافر يقتلُ المسلم [ثم يُسلم] فيسدِّدُ بعدُ ويُقتل.
ورواه النسائي في " الجهاد "، وفي " النعوت " عن محمد بن سلمة، والحارث بن مسكين كلاهما عن ابن (2) القاسم، عن مالكٍ بسنده، وقال في متنه:" يَعْجَبُ الله من رجلين " وساق الحديث (3).
(1) تقدم تخريجه في 1/ 219 و314. وانظر " صحيح ابن حبان " (611) و (615).
(2)
تحرفت في الأصول إلى: " أبي "، والمثبت من " سنن النسائي " 6/ 38. وهو عبد الرحمن بن القاسم بن خالد المصري أحد رواة الموطأ عن مالك، وهو أول من دوَّن مذهب مالك في المدونة، وعليها اعتمد فقهاء المذهب، وهو ثقة من رجال البخاري وكانت وفاته في مصر سنة 191 هـ.
(3)
أخرجه مالك في " الموطأ " 2/ 460، والبخاري (2826)، ومسلم (1890)، والنسائي 6/ 39، وفي " الكبرى " كما في " التحفة " 10/ 194، وابن ماجه (191)، وعبد الرزاق (20280). وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان "(215).
الوجه الثامن: ما يذكره أهل علم الكلام أو بعضُهم من النظر العقلي، لأنه يلزَمُ من ذلك بُطلان التكليف، لأن التكليف مبنيٌّ على الابتلاء، لقوله تعالى في غير آية:{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]، و [الملك: 2]، والابتلاء لا يصحُّ إلَاّ مع بقاء الدواعي، والصوارف، والخوف، والرجاء، والقنوط يبطل ذلك، وربما قالوا: إن ذلك يؤدي إلى تكليف ما لا يطاق، وهو ممنوعٌ كما ذلك مُقرَّرٌ في مواضعه، وإنما كان يُؤدي إلى ذلك، لأنه مخاطبٌ بطاعة الله ما دام في دار التكليف، فوجب أن يكون له إليها طريق، ولا طريق له إليها إلَاّ بالتوبة، وبذل ما يجبُ، وهذا واضحٌ والحمد لله وحده.
القول الثاني: إن القاتل المتعمد كافرٌ، لأنه عصى الله تعالى عمداً، وكل من عصى الله متعمداً (1) فهو كافر، وهذا هو قول الخوارج، وهو مخالفٌ لما عُلِمَ من ضرورة الدين وإجماع المسلمين قبلهم وبعدهم، وقد انقرضوا ولله الحمد.
القول الثالث: أن صاحب الكبيرة منافق، لأنه لو كان مؤمناً لمنعه (2) الإيمانُ بالله وجلاله ووعيده من ارتكابها، وهذا مرويٌّ عن الحسن البصري، وقد انقطع وانقرض خلافه أيضاً، وقد عُلِمَ من الدين خلافه، وقد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم الحدود على المسلمين، ولا حدَّ على كافرٍ، ولا منافق، وقد صح أنها كفارات لأهلها (3)، ولا كفارة لكافر ولا منافق، وسيأتي في الرد على من قال بكُفرِ القاتل
(1) في (ش): عمداً.
(2)
في غير (ف): " منعه ".
(3)
أخرج أحمد 5/ 313 و314 و320، والبخاري (18) و (3892) و (3893) و (3999) و (4894) و (6784) و (6801) و (6873) و (7055) و (7199) و (7213) و (7468)، ومسلم (1709)، والترمذي (1439)، والنسائي 7/ 141 - 142، وابن ماجه (2603)، والدارمي 2/ 220 من حديث عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه: "بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وَفَى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقبَ في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب =
خصوصاً، ما يدل على بطلان قول الخوارج، وقول الحسن البصري:
القول الرابع: أن قاتل المؤمن عمداً كافرٌ دون سائر الكبائر، لما ورد في ذلك من النصوص الصِّحاح المتفق على صحتها وشُهرتها وتلقِّيها بالقبول، مع ما يشهد لها من غيرها، فمن أصحِّها (1) وأصرحها:
الحديث الأول: عن المقداد بن الأسود أنه قال لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أرأيت إن لقيتُ رجلاً من الكفار فاقتتلنا، فضرب إحدى يديَّ بالسيف فقطعها، ثم لاذَ مِنِّي بشجرةٍ، فقال: أسلمتُ لله، أأقتله يا رسول الله بعد أن قالها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا تقتله "، فأعاد السؤال، فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الجواب، ثم قال:" فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تَقْتُلَهُ، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كَلِمَتَه التي قالها ".
وفي رواية: فلَمَّا أهويتُ لأقتُلَه قال: لا إله إلَاّ الله، وذكره. أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود من حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار، عن المقداد (2).
الحديث الثاني: حديث (3) ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سِبَابُ المؤمن فُسُوقٌ وقتاله كفرٌ " متفق على صحته (4).
الحديث الثالث: " لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض " متفق عليه من حديث أبي بكرة وغيره (5).
= من ذلك شيئاً، ثم ستره الله، فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه" فبايعناه على ذلك. لفظ البخاري.
(1)
في (ف): " أوضحها ".
(2)
أخرجه البخاري (4019) و (6865)، ومسلم (95)، وأبو داود (2644). وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان "(164).
(3)
في (ف): " عن ".
(4)
تقدم تخريجه في 8/ 33.
(5)
أخرجه البخاري (1741)، ومسلم (1679). وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان "(3848)، وانظر الجزء الثامن من هذا الكتاب ص 140.
الحديث الرابعُ: حديث مروق الخوارج، وفيه أحاديث صحيحة شهيرة (1) والعلة في مروقهم هو ذلك.
وأما شواهد ذلك، فقوله تعالى:{أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]، فيكون كمن قتل جميع الأنبياء والمرسلين، وذلك كافرٌ إجماعاً، فمن أشبهه (2)، فهو كافر مثله.
ومنها حديث: " كلُّ ذنبٍ عسى أن يغفره الله (3) إلَاّ من مات كافراً أو مؤمنٌ قتل مؤمناً متعمداً " رواه أبو داود (4) وحده من حديث خالد بن دهقان، عن عبد الله بن أبي زكريا، عن أمِّ الدرداء، عن أبي الدرداء، وإسناده صالح ليس فيه من تُكلم فيه، إلَاّ مؤمَّل بن الفضل الراوي (5) له أبو داود عنه، عن محمد بن شعيب بن شابُور، عن خالدٍ به.
قال العقيليُّ: في حديث مؤمَّلٍ وهم لا يُتابع عليه.
وقال أبو حاتم: ثقةٌ رضاً.
ومع هذا، فقد شَهِدَ له ما رواه النسائي (6) من حديث معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ولفظه:" كل ذنبٍ عسى الله أن يغفره إلَاّ الرجل يقتل مؤمناً متعمداً أو الرجل يموت كافراً "، وهذا مثل الأول في النصوصية، لأن القاتل لو كان كافراً لم يعطف عليه من مات كافراً.
(1) تقدمت في أكثر من موضع منها 1/ 232.
(2)
في (ف): " شبه به ".
(3)
في (ف): " عسى الله أن يغفره ".
(4)
رقم (4270). وأخرجه ابن حبان (5980)، والحاكم 4/ 351، رالبيهقي 8/ 21، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
(5)
لكنه توبع في رواية ابن حبان والحاكم والبيهقي.
(6)
7/ 81، وأخرجه أحمد 4/ 99، والحاكم 4/ 351، والطبراني 19/ (856) و (857) و (858).
وروى أحمد في " المسند "(1) قال: حدثنا زكريا بن عدي، أخبرنا بقية، عن بُحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن المتوكل أو أبي المتوكل، عن أبي هريرة:" خمسٌ ليس لهُنَّ كفارةٌ: الشرك بالله، وقتل النفس بغير حق، وبَهْتُ (2) مؤمنٍ، والفِرار يوم الزَّحفِ، ويمينٌ صابرةٌ يقتطعُ بها مالاً بغيرِ حقٍّ " ذكره ابن الجوزي في الحديث الثاني والسبعين بعد السبعمئة من مسند أبي هريرة.
وروى ابن ماجه (3) في الديات، عن عمرو بن رافع، عن مروان بن معاوية الفزاري، عن يزيد بن زياد الدمشقي، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، عنه صلى الله عليه وسلم:" من أعان على قتل مؤمنٍ ولو بشطر كلمةٍ، لَقِيَ الله مكتوبٌ بين عينيه: آيِسٌ من رحمة الله ".
وروى النسائي والترمذي (4) من حديث ابن عمرو بن العاص، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجلٍ مسلمٍ ". قال الترمذي: وقد رُوي موقوفاً عليه، وهو أصح.
وروى الترمذي (5) من حديث أبي الحكم البَجَليِّ قال: سمعت أبا هريرة وأبا سعيدٍ الخدري يذكران عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لو أن أهل السماء وأهل (6) الأرض اشتركوا في دمٍ، لأكَبَّهُمُ الله في النار ".
(1) 2/ 361 - 362 وأبو الشيخ في " التوبيخ "(215)، وابن أبي حاتم في " العلل " 1/ 339. وصرح فيه بقية بالتحديث ومن فوقه ثقات.
(2)
في (ف): " أو بهت " وفي غيرها: " ونهب "، وفي " التوبيخ ":" بُهتان ".
(3)
رقم (2620) ويزيد بن زياد متروك.
(4)
حديث صحيح أخرجه الترمذي (1395)، والنسائي 7/ 82 ولم يرفعه، وقال الترمذي: وهذا أصح من الحديث المرفوع.
وأخرجه النسائي 7/ 83 من حديث بريدة، وابن ماجه (2619) من حديث البراء بن عازب. وقال البوصيري في " مصباح الزجاجة " 2/ 334 تعليقاً على حديث البراء: وإسناده صحيح رجاله ثقات. وقد تقدم هذا الحديث في الجزء الثامن.
(5)
رقم (1398).
(6)
ساقطة من (ف).
وخرَّج الحاكم في " المستدرك "(1) من حديث نصر بن عاصم، عن عقبة بن مالك في قصة من أسلم تعوّذاً وخوفاً (2) من القتل في ظن القاتل، فَغَضِبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله وهو يُعْرِضُ عنه، فقال له في الثالثة:" إن الله أبى على من قَتَلَ مؤمناً. إن الله أبى على من قتل مؤمناً. إن الله أبى على من قتل مؤمناً " قالها ثلاثاً مؤكداً لذلك. وقال الحاكم: هذا حديثٌ مخرَّجٌ مثله في " صحيح مسلم ". وهو نصٌّ في سببه.
ورواه أحمد في " المسند "(3)، وقال: بشر بن عاصم مكان نصر بن عاصم.
وخرَّجه ابن ماجه (4) عقبة، عنه صلى الله عليه وسلم:" من لَقِِيَ الله لا يُشرك به شيئاً لم يَتَنَدَّ (5) بِدَمٍ حرامٍ دخل الجنة "، وسنده قوي ليس فيه إلَاّ عبد الرحمن بن عائذ، عن عقبة، قيل: إنه صحابي ووثقه النسائي، وإنما ضعَّفه الأزدي، وليس بمعتمدٍ، بل هو مضعف مختلف فيه.
وقال أحمد في " المسند "(6): حدثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن
(1) 1/ 18 - 19 وهو حديث صحيح. وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان "(5972).
(2)
في (ش): " أو خوفاً ".
(3)
4/ 110 و5/ 288 - 289.
(4)
رقم (2618) عن محمد بن عبد الله بن نمير، عن وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الرحمن بن عائذ، عن عقبة بن عامر الجهني.
وأخرجه أحمد 4/ 148 و152، والطبراني 17/ (936) و (969)، والحاكم 4/ 351 - 352 من طرق عن إسماعيل، به.
قال البوصيري في " مصباح الزجاجة " 2/ 333: هذا إسناد صحيح إن كان عبد الرحمن بن عائذ الأزدي سمع من عقبة بن عامر، فقد قيل: إن روايته عنه مرسلة.
(5)
أي: لم يُصب منه شيئاً، أو لم ينله منه شيء.
(6)
4/ 278 وإسناده صحيح. وأخرجه الحميدي (824)، وابن أبي شيبة 8/ 2، والطيالسي (1232)، وأبو داود (3855)، والترمذي (2038)، وابن ماجه (3436)، والبخاري في " الأدب المفرد "(291). وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان "(6061).
زياد بن علاقة، عن أسامة بن شريك، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عنده .. إلى قوله: وسألوه عن أشياء: [هل] علينا حرجٌ في كذا وكذا، قال:" عِبَادَ الله وَضَعَ الله الحَرَجَ إلَاّ امرءاً اقترض (1) امرءاً مسلماً ظلماً، فذلك حَرِجَ وهلك " قالوا: ما خير ما أُعطِيَ الناسُ قال: " خُلُقٌ حَسَنٌ ".
وخرَّجه الحاكم (2) في الطب عن زياد، كلهم أئمة وبالغ في تصحيحه، لكن لفظه:" إلَاّ من اقترف من عرض امرىء مسلم "، وطرقُه في العِرْض كلها، لا في القتل.
وفي " الكشاف " نحو هذه الأحاديث السديدة بغير إسناد، وهذه تشهد لها، والله أعلم.
وفي " الصحيحين " أحاديث نصوص في أن قاتل نفسه من أهلِ النار.
أحدها: عن سهل بن سعد (3)، وثانيها: عن جندب (4)، وثالثها عن أبي هريرة (3) وهي في الرجل الذي قاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُدَّعٍ للإسلام. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل النار، فارتاب بعض الناس، وقالوا: " أيُّنا من أهل الجنة إن كان من أهل النار، فقال رجلٌ من القوم: أنا صاحبه أبداً، فجاء فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الرجل أصابه جِراحٌ شديدةٌ، فَجَزِعَ وقتل نفسه.
ورابعها: عن أبي هريرة أيضاً وتفرد فيه بذكر الخلود، ولم يرد على سبب له، وأوله:" من تَرَدَّى من جبلٍ فَقَتَلَ نفسه، فهو في النار يتردَّى خالداً فيها مُخَلَّداً "(5) الحديث. ذكرها ابن الأثير كلها في كتاب القتل من حرف القاف من " جامع الأصول "(6).
(1) أي: قطع، ومعناه: إلَاّ من اغتاب مسلماً أو سبه أو آذاه في نفسه، عبر عنه بالاقتراض لأنه يُسترد منه في العقبى.
(2)
4/ 399.
(3)
تقدم تخريجه في الجزء الخامس.
(4)
أخرجه البخاري (1364) و (3463)، ومسلم (113).
(5)
تقدم تخريجه.
(6)
10/ 216 - 221.
وفي حديث جندب: " بدرني عبدي بنفسه حَرَّمْتُ عليه الجنة " وفيه: " أنه ممن كان قبلكم " وحديث علي عليه السلام وجابر، في هذه الأمة والله أعلم.
وفي الترمذي من حديث ابن عباس: " يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ورأسه وناصيته بيده، وأوداجه تشخُبُ دماً، يقول: يا رب سَلْ هذا فِيمَ قتلني " وقال: حديثٌ حسن (1).
وفيه أيضاً عن نافع قال: نظر عبدُ الله يوماً إلى الكعبة، فقال: ما أعظمك وأعظم حُرمتك، والمؤمن أعظم حرمةً عند الله منك " وقال: حديثٌ حسن (2).
وفي " صحيح البخاري "(3) عن جندبٍ: " ومن استطاع أن لا يحول بينه وبين الجنة كفٌّ من دمٍ أهراقه، فليفعل ".
وفي " صحيحه "(4) أيضاً عن ابن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يزال المؤمن (5) في فُسحَةٍ من دينه ما لم يُصِبْ دماً حراماً ".
وذكر البخاري (6) أيضاً عن ابن عمر قال: من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفكُ الدم الحرام بغير حِلِّهِ ".
وفي " صحيح البخاري "(7): " من قَتَلَ معاهداً لم يَرَحْ رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً " فهذه عقوبة قاتل عدو الله إذا كان في عهده وأمانه، فكيف عقوبة قاتل عبده المؤمن الذي صح أن الله يُعادي من يؤذيه ويُؤْذِنُه
(1) تقدم تخريجه ص 21.
(2)
تقدم في الجزء الثامن.
(3)
رقم (7152).
(4)
رقم (6862). وأخرجه أحمد 2/ 94، والحاكم 4/ 351.
(5)
في (ف): " المسلم ".
(6)
رقم (6863).
(7)
رقم (3166) و (6914) من حديث عبد الله بن عمرو، وأخرجه أحمد 2/ 186، والنسائي 8/ 25، وابن ماجه (2686)، والحاكم 2/ 126 - 127.
وفي الباب حديث أبي بكرة، انظر تخريجه في " صحيح ابن حبان "(4881) و (4882).
بالحرب، وقد عُذِّبَتِ امرأةٌ في هِرَّةٍ حبستها حتى ماتت جوعاً وعطشاً كما ثبث في " الصحيح "(1).
فهذه شواهد تحمل كفر القاتل المتعمد على ظاهره، فلا يَرِدُ وعيدُ القاتل نقضاً على أهل السنة في رجائهم لسائر أهل الكبائر التي لم يرد في شيء منها أنه كفر.
والجواب أن القتل أكبر الكبائر بعد الشرك بالله بغير ريب، والمصير إلى السنن الصحاح الخاصة واجبٌ على مقتضى قواعد أهل العلم، ولكن قد صح ورود الكفر في الحديث، والمراد به كفرٌ دون كفرٍ، كما في حديث وصف النساء بالكفر، قالوا: يا رسول الله: يكفرن بالله؟ قال: " لا، يكفرن العشير " يعني الزوج. متفق على صحته (2). وله نظائرُ كثيرةٌ، هذا (3) منها لما نذكره من الأدلة الواضحة إلَاّ من استحل قتل المؤمن، فإنه كافر، وخصوصاً أفاضل المؤمنين المعلوم إيمانهم بل فضلهم وتفضيلهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يأتي.
ولمن لا يكفره حُججٌ:
الحجة الأولى: حديث ابن مسعود المتفق على صحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يَحِلُّ دمُ امرىءٍ مسلمٍ يشهد أن لا إله إلَاّ الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاثٍ: الثَّيِّبُ الزاني، والنفسُ بالنفس، والتاركُ لدينه المفارق للجماعة "(4).
وعن عائشة نحوه رواه أبو داود والنسائي (5).
(1) تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
في (ش): " وهذا ".
(4)
أخرجه البخاري (6878)، ومسلم (1676). وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان "(4408).
(5)
أخرجه مسلم (1676)(76)، وأبو داود (4353)، والنسائي 7/ 91، وأحمد 6/ 181، وابن حبان (4407).
وعن أبي أُمامة بن سهل، عن حنيف، عن عثمان أنه قال يوم الدار مثل ذلك. رواه الترمذي والنسائي (1).
قلت: وفيه تقرير الحاضرين مع كثرتهم لعثمان على ذلك، وفي جميع هذه الأحيان جعل القاتل مسلماً، ويعضُدُهُ من النظر أنه أوجب القصاص عليه، وأجمع المسلمون على ذلك، مع الإجماع على (2) أنه (3) لا قِصاص بين المسلمين والكفار، فلو تاب الكافر بعد قتل المسلم لم يُقْتَصَّ منه إجماعاً، ولو تاب القاتل بعد القتل وجب القصاص بعد التوبة إجماعاً.
الحجة الثانية: إسقاط العفو من أولياء المقتول للقصاص ولو كان القتل كُفراً، وَجَبَ قتل القاتل بالكفر وإن سقط القصاص.
الحجة الثالثة: الإجماع على وجوب الصلاة والزكاة عليه، وصحة فرائض الإسلام منه، وإقامة حدِّ الزنى عليه، وحد السرقة والخمر وغير ذلك مما يختصُّ بأهل الإسلام، ولا يشرع في حق أهل الكفر، ولا تصح الفرائض من كافر إجماعاً، بل لا تجب عليه عند الزيدية والحنفية.
الحجة الرابعة: أنه لا ينفسِخُ نكاح زوجته بالقتل ويجوز (4) تزويجه ابنته المسلمة (5)، بل لا تسقط ولايته لقريبته المسلمة في النكاح عند كثيرٍ من العلماء، إلَاّ عند الناصر والشافعي.
وبهذه الأشياء يلزم المعتزلة ومن وافقهم من الوعيدية تسميته مسلماً، والمسلم عندهم مؤمنٌ لا فرق بينهما، والمؤمن المسلم محل لما وَرَدَ في آيات الوعيد بالمغفرة والتجاوز لمن شاء الله أن يغفر له ممن ذنبه دون الشرك، ولكن
(1) أخرجه الترمذي (2158)، وأبو داود (4502)، والنسائي 7/ 92.
(2)
ساقطة من (ف).
(3)
في (ش): " على ذلك وأنه ".
(4)
في (ش): " وتجويز ".
(5)
تحرفت في (ش) إلى: ابتداء بالمسلمة.
قد صَحَّتِ الأحاديث بإخراجه من ترجِّي المغفرة المحضة عند الجمهور، إنما بقي الخلاف في أنه من أهل الخلود والكفارات أو لا كما سيأتي.
الحجة الخامسة: ما تقدم هو ما رواه أبو داود والنسائي من حديث واثلة بن الأسقع أن ناساً من عبد القيس سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صاحبٍ لهم أوجب النار بالقتل، فقال:" أعتِقُوا عنه يعْتِقِ الله بكل عضوٍ منها عضواً منه في النار ".
وإسناده قوي، خرَّجه الحاكم في العتق من " المستدرك " وقال: على شرطهما (1)، وتشهد له أحاديث فضل العتق كما يأتي، وهذا من قبيل، التكفير، لا من قبيل المغفرة المَحْضَة قوله تعالى:{إنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السيئات} [هود: 114]، في عشر آياتٍ أو أكثر في معناه كما يأتي خصوصاً على قول الخصوم: إن العموم في الأخبار يفيد الاعتقاد القاطع، ولا يجوز تخصيص الاعتقاد كعمومات الوعيد سواء.
الحجة السادسة: أنه لا يَجِبُ قتله بولده، ولو كان كُفراً قُتِلَ بالكفر، وسواءٌ كفر بقتل ولده أو غيره، وكذلك لا يُقْتَلُ بعبده على الخلاف في ذلك، وكذلك (2) اختلفوا في قتلِ الرجل بالمرأة وإن كان فيه شذوذ، بل اختلفوا في القتل إذا كان بالحجر ونحوه، ولم يكن بالسيفِ ونحوه، فلم يوجبْ أبو حنيفة فيه القصاص ولا القتل.
الحجة السابعة: ما تقدَّم من حديث عبادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بايعهم ليلة العقبة على أشياء أن لا يفعلوها، منها: قتل أولادهم، ثم قال:" فمن عُوقِبَ بشيءٍ من ذلك في الدنيا، فهو كَفَّارتُه، ومن لم يعاقب فأمره إلى الله إن شاء عذَّبَه وإن شاء عَفَا عنه "(3) وسيأتي تمام البحث فيه، ويعضد عمومه ما رواه النسائي (4)
(1) حديث صحيح أخرجه أبو داود (3964)، والنسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " 9/ 79، والحاكم 2/ 212. وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان " (4307).
(2)
من قوله: " أنه لا يجب " إلى هنا ساقط من (د) و (ف).
(3)
تقدم تخريجه ص 28.
(4)
8/ 17 - 18.
في القتل بخصوصه من حديث بريدة أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن هذا قتل أخي، قال:" اذهب فاقتله كما قتل أخاك "، فقال له الرجل: اتق الله واعفُ عني، فإنه أعظم لأجرك، وخيرٌ لك ولأخيك يوم القيامة، قال: فخلَّى عنه، فأُخْبِرَ النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله، فأخبره بما قال له، قال: فأعتَقَه، فقال:" أما إنه كان خيراً مما هو صانعٌ بك يوم القيامة، يقول: يا ربِّ سَلْ هذا فِيم قتلني " ذكره ابن الأثير في الفصل الرابع في العفو من كتاب القتل من حرف القاف من " الجامع "(1) وهو يدل على أن من قُتلَ قِصاصاً كان ناجياً يوم القيامة فهو بالقصاص (2) بالقتل مثل حديث قتادة في الحدود على العموم والحمد لله.
الحجة الثامنة: حديث جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجر الذي مَرِضَ فجَزِعَ فقَطَعَ براجِمَه فمات، فرآه الطفيل بن عمرو في الجنة مُغَطِّياً يديه، وقال: إن الله غفر له بهجرته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: فما بالك (3) مغطياً يديك قال: قال الله لي: أما ما أفسدت من نفسك، فلَنْ نُصْلِحَه، فقَصَّها الطفيل على رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وَلِيَدَيْهِ فاغفر " رواه مسلم (4).
ويعضُده قوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100]، وقاتل نفسه كقاتل غيره في الإثم (5) وفيه الأحاديث الصحاح مثل حديث:" من قَتَلَ نفسه بحديدةٍ فحديدته في يده يجأ بها بطنه في النار خالداًَ مخلداً "(6).
الحجة التاسعة: ما ورد مما يدلُّ على استحباب العفو عنه وتأكيد ذلك حتى روى النسائي (7)، من حديث أنس، أن رجلاً أتى بقاتل وَليِّه رسول الله، فقال
(1) 10/ 275. هو في كتاب القصاص، وليس في القتل كما ذكر المؤلف.
(2)
في (ف): " في القصاص ".
(3)
في (د) و (ف): " فمالك ".
(4)
رقم 116. وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان " (3017).
(5)
في (ش): " بالإثم ".
(6)
تقدم تخريجه.
(7)
8/ 17.
له النبي صلى الله عليه وسلم: " اعفُ عنه " فأبى، فقال:" خُذِ الدية "، فأبى، فقال:" اذهب فاقتله فإنك مثله " فذهب فلحِقَ الرجل. فقيل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قتله فإنه مثله " فخلَّى سبيله فمرَّ بي الرجل وهو يَجُرُّ نِسْعَتَه (1). فهذا رواه النسائي على تشيعه ورواه ابن الأثير في " الجامع "(2) في حرف القاف في الفصل الرابع في العفو.
وذكر بعده حديثاًً في معناه رواه مسلم في " صحيحه "(3) من حديث وائل بن حُجر وفي آخره عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن أشوع ما يُوهمُ أن العلة في كونه مثله أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله أن يعفُوَ عنه فأبى، ويدل عليه حديث بريدة المقدم في الحجة السابعة.
الحجة العاشرة: أن القتل لو كان كفراً لكان الأمر في قتل القاتل إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا إلى أولياء المقتول.
القول الخامس: أنه مؤمن كامل الإيمان، وأن إيمانه يُكَفِّرُ ذنبه قطعاً إن استقام على الإيمان حتى يموت، وختم له بذلك، لكنه لا يعلم ذلك، فهو يخاف العذاب لعدم علمه بالخاتمة، ويخاف من ذنب القتل أن يكون سبباً في سوء الخاتمة، والموت على غير الإسلام، وهذا قول المرجئة، وأحاديث الشفاعة العامة في العصاة ترُدُّه، لأنها مصرِّحة بدخولهم النار، بل أحاديث قتل المؤمن للمؤمن المقدمة تردُّه، وإنما لم يُحتج عليهم بالآية، لأن النزاع فيها لعدم نصِّها على أن القاتل مؤمن كما يأتي بيانه.
أمَّا الأحاديث المقدمة عن أبي الدرداء، ومعاوية، وعقبة بن مالك، فإنها نصوصٌ في قتل المؤمن للمؤمن، وإنه كالشرك بالله مما خص بأنه لا يُغفر، فوجب تقديمها لنصوصها وخصوصها على جميع قواعد أهل العلم، إلَاّ أنه يلزَمُ
(1) هي حبل من جلود مضفورة، جعلها كالزمام له.
(2)
10/ 275.
(3)
رقم (1680).
المعتزلة ألا يقولوا بها متى التزموا قاعدتهم في أن العمومات الخبرية في الوعد والوعيد لا يجوز تخصيصها بالآحاد، وإنه لا يجوز التخصيص للاعتقاد وقد تقدم بطلانه، وسيأتي أيضاً والرد على المرجئة في كل كتابٍ من كتب الحديث الصحاح، وبذلك ابتدأ البخاري " صحيحه " ونصرَه شُرَّاح كتب الحديث، وقد تطابق على تزييف قولِهم أهل الحديث وأهل الكلام وجميع طوائف الإسلام، وانقرضوا فلم نُعَاصِرْ منهم أحداً بحمد الله، ولذلك لم نُطَوِّلْ بالرد عليهم، كما لم نطول في الرد على الخوارج، ومن قال: إن العاصي المتعمد منافقٌ ونحوهم، لظهور بُطلانها، وانقراض أهلها، وعدم معاصرة من يجادل عليها ويَذُبُّ عنها، ولكن ينبغي ممن يسمعُ بقول المرجئة ممن أنكره أو قَبِلَه، أن لا يغفل عن قولهم: إن الكبيرة قد تكون سبباً للكفر عند الموت، " وكان صلى الله عليه وسلم يتعوَّذ من تخبُّطِ الشيطان عند الموت " (1) خاصة إذا قاربها الاستحقاق أو الأمان كقوله تعالى:{ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّه} [الروم: 10]، وقد جوّد التعبير عن هذا المعنى الغزالي في كتاب التوبة من " إحياء علوم الدين " فليطالع هنالك، وما أوقع قوله (2) فيه: وقول العاصي للمطيع: إني مؤمنٌ وأنت مؤمن، كقول شجرة القرع لشجرة الصنوبر: إني شجرة وأنت شجرةٌ، فتقول شجرة الصنوبر بلسان الحال: ستعرفين اغترارك بشمول الاسم، إذا عصفت رياح الخريف، فعند ذلك تَنْقلِعُ أصولُك، وتتناثر أوراقك، وينكشف غرورك، بالمشاركة في اسم الشجرة مع الغفلة عن أسباب ثبات الأشجار، وهو أمرٌ يظهر عند الخاتمة. وإنما تقطعت نياط قلوب العارفين خوفاً من الفوت، ودواعي (3) الموت، ومقدماته الهائلة التي لا يثبُتُ عليها غير الأقلين، فالعاصي إذا كان لا
(1) أخرجه أحمد 3/ 427، وأبو داود (1552) و (1553)، والنسائي 8/ 282 - 283 و283، والطبراني 19/ (381)، والحاكم 1/ 531، من حديث أبي اليَسَر، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
(2)
4/ 8.
(3)
في الأصول: " دواهي "، والمثبت من " إحياء علوم الدين ".
يخافُ الخلود كالصحيح الذي لا يخاف الموت فجأة لندوره، لكنه إذا انهمك في الشهوات المضرة، فإنه يخاف المرض، ثم إذا مرض خاف الموت، فكذلك العاصي المسلم يخاف سوء الخاتمة، ثم إذا خُتِمَ له بذلك وَجَبَ الخلود في النار، فالمعاصي للإيمان كالمأكولات المُضرة للأبدان. إلى آخر كلامه في ذلك، وهو كلامٌ بليغٌ مجوَّد ينبغي من كل مسلم معرفته، والعمل بمقتضاه، نسأل الله التوفيق.
وعن علي عليه السلام: أن عابداً زنى بامرأةٍ، فخاف الفضيحة، فقتلها فافتضح، وأخذوه، فجاءه الشيطان فقال: اسجُدْ لي أُنجيك، فسجَدَ له وفيه نزلت:{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ} [الحشر: 16] صححه الحاكم في تفسير الآية (1).
القول السادس: قول المعتزلة: إن الآية مخصوصة متأولة بغير التائب، وغير من جَدَّد الإسلام بعد القتل، وغير قاتل المؤمن في القصاص، وحد الزنى خصوصاً بعد التوبة فيهما، وذلك لأن الآية لم تَنُصَّ علي التعدي مع التعمد ولا بد منه، ومن تعمد وليس بمتعدٍّ، فلا وعيد عليه، وإن وعيد القاتل بالعذاب والخلود إنما هو بسبب حق الله، لا بسبب حق المقتول، فإنه لا يستحق به الخلود، بل ولا العذاب، لأنه يَجِبُ عندهم على الله أن لا يُميت القاتل حتى يُعِدَّ له من أعواضه ما يقضي حق المقتول، ويوفيه ولا يخاف الظالم عندهم من المظلوم في الآخرة البتة من جهة حقوق المخلوقين، لكن من جهة حق الله تعالى، فإذا ثَبَتَ أنه عمومٌ مخصوصٌ فقد اشتد الخلاف فيه في أمرين خفيَّيْن ظنيين:
أحدهما: هل هو حقيقة في الباقي أم مجاز، وفيه ثمانية أقوال، وقول الجمهور منها: إنه مجاز لوجهين.
أحدهما: أنه لو كان حقيقة في الباقي بعد التخصيص كما كان قبله، لكان
(1) تقدم تخريجه.
مشتركاً، وذلك باطلٌ، لأن الغرض أنه حقيقة في الاستغراق.
وثانيهما: أن الخصوص لا يُفْهَمُ إلَاّ بقرينةٍ كسائر المجاز، قال المخالف مطلقاً: -وهم الحنابلة- المتأول باقٍ، وكان حقيقةً، قلنا: كان حقيقةً مع غيره، قالوا: يسبق إلى الفهم كغيره، قلنا: بقرينة وهو دليل المجاز.
الأمر الثاني: اختلافهم في كونه حجةً بعد التخصيص، والسرُّ في ذلك أن أدلَّتَهم فيه معروفة في كتب الأصول، وهي من قَبيل الأمارات الظنية والذوق، وليس فيها دِلالةٌ قاطعةٌ، وذلك جَلِيٌّ لمن يعرف شروط القطع، وهو في النقليات، التواتر الضروري في النقل، والتجلي الضروري في المعنى، وهذه المسألة نقلية عن أهل اللغة العربية وعرفها، وليس للعقل فيها مجالٌ، فانظر الآن الأقوال ومآخذها، فقد اشتد اختلاف المعتزلة وغيرهم في العموم المخصوص كما هو مُبَيَّنٌ في كتب أصول الفقه.
فقال شيخ الاعتزال أبو القاسم البَلْخي: إن العموم المخصوص ليس بحجة، إلَاّ أن يكون خُصَّ بمتصل كالاستتناء ونحوه، لأنا قد علمنا أن ظاهره غير مراد.
وقال الشيخ أبو عبد الله البصري: إن كان العموم مُنبئاً عن المخرج منه المخصوص، فهو حجةٌ كقوله تعالى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] مع تحريم قتل أهل الذمة منهم وإن لم يكن منبئاً عنه لم يكن حجة بعد التخصيص كالسارق والسارقة، فإنه لا يُنبىءُ عن النصاب والحِرز.
وقال قاضي القضاة: إن كان غير مفتقرٍ إلى بيانٍ كالمشركين، فهو حجة بعد التخصيص، وإلا فهو غير حجة، مثل:{أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الأنعام: 72] مع تحريمها على الحائض. ومن العلماء من قال: يكون حجة في أقل الجمع.
وقال أبو ثور: ليس بحجةٍ، والصحيح أنه حجة ظنية إلَاّ أن ينضم إليه ما
يصيرُ معناه قطعياً، ولم (1) يُؤَثم أحدٌ من هؤلاء المختلفين، ثم إنهم بعد ذلك غَفَلُوا عن قواعدهم في أصول الفقه، وزعموا أن دلالة الآية بعد تخصيصها باقيةٌ على إفادة القطع بأن الإسلام لا يجوز أن يكون له تأثير في تخصيص القاتل المسلم من أهل الخلود إذا تقدم إسلامه على القتل، وإن استقام عليه وخُتم له به (2)، ومات على الاستقامة على ذلك مع إجماعهم على أن هذا الإسلام الذي لا أثر له عندهم قطعاً لو تأخَّرَ بعد القتل لَهَدَم القتل بمجرده، وإن كان قد قتل ألف نبيٍّ مرسل، وإن كان معه جميعٌ أنواع الشرك والجحود والإلحاد وأنواع الطغيان والفساد، فيا عجباً لهم كيف استنكروا من أهل السنة أن يجعَلُوا له تأثيراً في عدم الخلود، ولا (3) في عدم العقاب والانتصاف للمقتول، وهو يهدم الكفر وما صَحِبَه من الموبقات، بحيث إن القاتل المستحق للعذاب الدائم عند المعتزلة لو ضمَّ الشرك إلى ذنب القتل، ثم أسلم آخر عُمرِه لنفَعَه الموت على الإسلام، أفما ضَرَّه إلَاّ سبقُه إلى الإسلام، وعدم جمعه بين الشرك والقتل، وأنه استقام على الإسلام حتى مات ولم يُشرك بربِّه طرفة عين؟ فكذلك عند المعتزلة لو كَفَرَ بعد القتل ثم أسلم نفعه إسلامه بخلاف ما لو استقام على إسلامه، فلو أن رجلين قتلا رجلاً، ثم استقام أحدهما على الإسلام والقيام بجميع فرائضه ونوافله غير أنه لم يجمع شرائط التوبة النصوح مع الاستغفار، وعفا المقتول عنه أو أرضاه (4) بالاستيفاء والتعرُّض لجميع المكفِّرات من العِتْقِ والحج والجهاد والصدقات العظيمة والصدقات الدائمة من عمارة المناهل والمساجد والمدارس وسائر أنواع المصالح التي جاءت الآيات والأخبار بتكفيرها للذنوب واستجلابها لرحمة خير الراحمين. وأحدهما ارتدَّ عن الإسلام وسعى في الفساد في الأرض، وقتل الصالحين وحَرَبَ (5) المُحقين، لكنه خُتِمَ له ببعض ما استقام عليه، وهو مجرد النطق بالشهادتين عند النَّزْعِ، لَوَجَبَ القطع بأنه أسعد من
(1) في (ش): " ولو لم ".
(2)
في (ش): " بذلك ".
(3)
في (ش): " لا ".
(4)
في (ش): " وأرضاه ".
(5)
في (ش): " وأحرب ".
صاحبه المستقيم على الإسلام، بل لوجب القطع لصاحبه المستقيم أنه خالدٌ في النار أبداً مع الكفار لا تُدركه رحمة، ولا يُكفِّرُ عنه شيء من حسناته تكفيراً يجوز معه مجرد تجويز أن يخرج من النار بعد أن يقف فيها عدد رمل الرمال، ومثاقيل ذرِّ الجبال أعواماً وقرونا ودهوراً وأحقاباً، وإن أخرجه الله من النار بعد ذلك وأضعافه وأضعاف أضعافه، فما جزاه حق جزائه، وكان ذلك خُلفاً قبيحاً، وكذباً مَحْضاً، لا يصح فيه تأويلٌ لأحدٍ من الراسخين، بل لا يجوز مجرد تجويز أن (1) يَصِحَّ أن يستأثر الله بعلم تأويلٍ يحسن ذلك معه، ولا يخرُجُ عفو الله عنه معه من صريح القُبح المبطل للربوبية والنبوات وشرائع الإسلام مع ما وَرَدَ في الأحاديث الصحيحة الشهيرة من تحسين ذلك، فقد صح أن الله تعالى يقول:"الحسنة بعشر أمثالها وأزيد، والسيئة بمثلها أو أعفو"(2) خرجه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيدٍ الخدري (3) وابن عباس (4) وأبي ذر (5)، وأحمد من حديث أبي رزين العُقيلي رضي الله عنهم نحوه (6) ولولده عبد الله والطبراني (7)
(1) في (ف): " أنه ".
(2)
في (ف): "عفو".
(3)
أخرجه البخاري (41) تعليقاً عن مالك، أخبرني زيد بن أسلم أن عطاء بن يسار أخبره أن أبا سعيد الخُدري أخبره أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" إذا أسلم العبد فحسُنَ إسلامه، يُكَفِّرُ الله عنه كل سيئة كان زَلَفَها، وكان بعد ذلك القِصاصُ: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف والسيئة بمثلها إلَاّ أن يتجاوز الله عنها ". ووصله النسائي 8/ 105 - 106، وابن حجر من طرق عن مالك.
وأخرج نحوه من حديث أبي هريرة: البخاري (42)، ومسلم (129)، وابن حبان (228)، والبغوي (4148).
(4)
أخرجه البخاري (6491)، ومسلم (131).
(5)
أخرجه مسلم (2687)، وابن ماجه (3821).
(6)
" المسند " 4/ 11 - 12 ولفظه: " قلت: يا رسول الله، كيف لي بأن أعلم أني مؤمن؟ قال: ما من أمتي أو هذه الأمة عبد يعمل حسنة، فيعلم أنها حسنة، وأن الله جازيه بها خيراً، ولا يعمل سيئة فيعلم أنها سيئة، واستغفر الله عز وجل منها أنه لا يغفر إلَاّ هو إلا وهو مؤمن ".
(7)
" المسند " 4/ 13 - 14، والطبراني 19/ (477) وهو حديث مطول وقد قال الحافظ =
نحوه (1) من حديث لقيط بن عامر (2) بسندين مرسلٍ ومسندٍ، ورجاله ثقات (3).
فهذه خمسة أحاديث مع ما يَعْضُدُهُ من الأحاديث ويشهَدُ لها من القرآن مثل: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِم} [الأحزاب: 24] الآية. والإجماع، ومن حلف على يمين ورأى غيرها خيراً منها، ومع ما في النظر من حسن ذلك، بل يرجحه (4) على العقوبة المستحقة، وإن قلنا: إن الله تعالى لا يفعل ذلك بلا تأويل مع حسنه، لغنائه عنه بما هو أحسن منه، كما يأتي الآن. وخالف الخصوم هذا كله، ورجَّحوا تأويل الوعد على تأويل الوعيد، وأدَّاهم ذلك إلى أشياء ركيكةٍ، مثلما ذكرتُه الآن من الرجاء لمن أسلم عند موته دون من سَبَقَه بالإسلام واستقام عليه، حتى وجد فيهم من يكفر عند موته ثم يتوب ليحصل له بذلك القطع بالمغفرة على زعمه، ويلزمهم أن يكون الأحوط للكافر تأخيرُ الإسلام متى قال: اللهُمَّ إنِّي أشهدُ بالتوحيد في آخر وقت يصحُّ مني فيه الإسلام أو نحو ذلك كما حُكِيَ (5) عن مصنفِ " كنز الأخيار " الأمير إدريس بن علي بن عبد الله الحمزي (6) أنه كَفَرَ عند موته ثم
= في " تهذيب التهذيب " 5/ 57: حديث غريب جداً.
قلت: ووقع في المطبوع من " المسند ": حدثنا عبد الله، حدثني أبي، حدثنا عبد الله، وهو خطأ وصوابه: حدثنا عبد الله، حدثنا عبيد الله .... وعبيد الله هذا هو أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد الرازي وهو من شيوخ عبد الله بن أحمد.
(1)
ولفظه: قلت: يا رسول الله، فيم نجزى من سيئاتنا وحسناتنا؟ قال:" الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها أو يغفر ".
(2)
في الأصول: " صبرة "، وهو خطأ، وقد ذكره المؤلف على الصواب ص 48.
(3)
انظر " المجمع " 10/ 338 - 340.
(4)
في (ش): " مرجحة "، وفي (ف):" ترجيح ".
(5)
في (ف): " رُوِيَ ".
(6)
عماد الدين أبو موسى الصنعاني، من أمراء صنعاء وأشرافها، كان إماماً لا يُجارى، وعالماً لا يُبارى، وكان زيدي المذهب، وله " الأدب المذهب "، وكان رُشِّح للإمامة، له =
تاب، وأفتى بعضُ الشيعة بذلك الأمير الباقر بن محمد الهادوي، فغضب من ذلك، وأقسم لا كَفَرَ بالله أبداً وإن عذَّبه، فرحمه اللهُ إني لأرجو له المغفرة بهذا وحده. فإن كانوا قالوا ذلك بمحض العقل، فإن فِطَر عقول العقلاء تُنكر ذلك بدليل ما عليه من لم يتلقن علم الكلام، والامتحان للعقلاء بالسؤال عن ذلك يوضِّحُ ما ذكرت، وإن كانوا قالوا ذلك من أجل التصديق للسمع والإيمان بأن العمومات لا تُخصَّصُ، فإن الإيمان بعموم الوعد بالرحمة والمغفرة، وخصوص الإخراج من النار لمن دخلها من الموحدين كالقاتل ولو على سبيل التجويز من غير قطعٍ بذلك، آكدُ من الإيمان بعموم الوعيد، لأن إخلاف الوعد بالخير فيه قبيحٌ بإجماع الخصوم، وإخلاف الوعيد بالشر مختلفٌ فيه، فإن كان تأويلهم لبعض الوعد تفسيراً لا تكذيباً، كان تأويل أهل السنة لبعض الوعيد كذلك، وإن كان تأويل بعض الوعيد عندهم تكذيباً، ونسبة للخلف إلى الله تعالى كان تأويلهم (1) لبعض الوعد كذلك وقد أجمعنا على أن من حَلَفَ على الوعيد استُحبَّ له الحِنْثُ والتكفير عن يمينه، وصحت فيه النصوص، وتلقتها الأمة بالقبول، وسمته العرب في أشعارها عفواً لا كذباً ولا خُلْفاً، كما قال قائلهم وهو كعب بن زهيرٍ في قصيدته المشهورة في النبي صلى الله عليه وسلم:
نُبِّئْتُ أن رسول الله أوعدني
…
والعفو عند رسول الله مأمولُ (2)
ولم يقل: والخُلْفُ عند رسول الله مأمولٌ، والمختار لنا أن نقول: إن الله تعالى منزه عن ذلك، ولا يجوز لعلمه السابق عند الوعيد بالعواقب الحميدة من
= مؤلفات عدة، منها " كنز الأخيار في معرفة السير والأخبار " رتبه على السنين وذكر حوادث كل سنة مع عناية تامة بتراجم رجال الزيدية وأئمتهم. وفرغ من تأليفه سنة (713 هـ)، وتوفي سنة (714 هـ). انظر " العقود اللؤلؤية " 1/ 324 و410 - 411، و" الدرر الكامنة " 1/ 345، و" ملحق البدر الطالع " ص 52، وكشف الظنون " 2/ 1512.
(1)
في (ش): " كتأويلهم ".
(2)
القصيدة بتمامها في " السيرة النبوية " لابن هشام 4/ 147 - 165.
غيرها وقدرته سبحانه على ما هو خيرٌ منه لما فيه من نسبة (1) الخُلْفِ المذموم، فهو غنيٌّ عنه بخيرٍ منه، ولأن الله تعالى يختار من كل شيءٍ حسنٍ أحسنه فهو كما قال:{ما يُبَدَّلُ القولُ لَدَيَّ} [ق: 29]، وإنما يقع في كلام الله تعالى التأويل لا الخلف، كالضرب بالضِّغثِ في قصة أيوب، وكما صح فيمن مات له وِلْدانٌ أنها لا تمسُّه النار إلَاّ تَحِلَّةَ القسم (2)، وهذه الآية تشهد لصحة هذا الحديث من حيث التأويل، وكما صح قصرُ كثيرٍ من العمومات على أسبابها، كما صح في ذَمِّ {الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} [آل عمران: 188] أنها نزلت في اليهود أو في المنافقين (3)، وأن المؤمن من سرَّته حسنتُه وساءته سيئتُه (4) ولم يكن ذلك ردّاً لكتاب الله، وكما صح تخصيص:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [الجن: 23] بغير أهل الصغائر، وما تعارض، ولم يتضح الخاصُّ فيه، وجب الوقف فيه، وإذا كان التخصيص والتفسير ليس من التكذيب في شيء فما بال المعتزلي يعترض السني في تخصيص القرآن بالقرآن وبالأخبار،
(1) في (أ) و (ف): " شبه ".
(2)
أخرج مالك في " الموطأ " 1/ 235، والبخاري (1251)، ومسلم (2632) من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لا يموت لأحدٍ من المسلمين ثلاثةٌ من الولد فتمسَّه النارُ إلَاّ تَحِلَّةَ القسم ". وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان "(2942). وقد تقدم في 8/ 420.
(3)
أخرجه البخاري (4568)، ومسلم (2778)، والترمذي (3014) وفيه:" فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه الآية؟ إنما أنزلت هذه الآية في أهل الكتاب ".
وأخرجه البخاري (4567)، ومسلم (2777) من حديث أبي سعيد الخدري أن رجالاً من المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغزو، تخلّفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قَدِمَ النبي صلى الله عليه وسلم، اعتذروا إليه، وحلفوا، وأحَبُّوا أن يُحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت:{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَاب} .
(4)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي (2165)، وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان "(4576).
وينسبه إلى التأتيم المقطوع به؟
وقالت المرجئة وكثيرٌ من أهل السنة: إن قوله تعالى: {ما يُبَدَّلُ القولُ لَدَيَّ} [ق: 29] نزل في الكفار المشركين كقوله تعالى قبلها: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق: 24 - 29] فالخصومة هنا بين المشركين وقرنائهم من الشياطين، وذلك بيّن، وقد ثبت أن تعدية الآيات عن أسبابها ظني، ولكنه قد يقوى (1) ويضعف على حسب الدلائل المنفصلة من القرائن المرجحة، والتعدية هنا لا تقوى لوجهين:
أحدهما: النصوص الصحاح "أن الله تعالى يقول: الحسنة بعشر أمثالها أو أزيد والسيئة بمثلها أو أعفو"(2) متفق على صحة هذا المعنى من حديث ابن عباس، ومن حديث أبي سعيد وأحسبه لمسلم عن أبي ذر، وفي مسند أحمد وغيره عن أبي رزين العقيلي، واسمه لقيط بن عامر، والجمع بين الآية والأحبار يقتضي أن الآية في الكافرين الذين نزلت فيهم، وأن الأخبار فيمن (3) عداهم، والجمع أولى من الطرح ويؤيِّده.
الوجه الثاني: وهو أن القرآن قد دلَّ على حسن التبديل بالقول إلى أحسن منه كما قال تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، والنسخ في معنى التبديل أو هو أشدُّ لقوله (4) {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَة} [النحل: 101] ويعضُدُهُ النص والإجماع على أن من حَلَفَ على شيءٍ ٍفرأى غيره خيراً منه، فليأت الذي هو خير، وما تقدم في أول هذه المسألة من ذكرِ فداء
(1) في (ش): " يترك "، وهو خطأ.
(2)
تقدم تخريجه ص 44.
(3)
في الأصول: " فيما "، وكتب فوقها في (ف):" فيمن ".
(4)
في (د) و (ش): " بقوله ".
الذبيح بالكبش، وكل مسلم بيهودي أو نصراني وما أشبه ذلك يعضده أن التبديل لم يقبُحْ لذاته، فقد قال الله تعالى:{فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} ، فدل على أن التبديل المذموم، تبديلٌ مخصوص لا كل تبديل، فقد بَدَّل الله ذبح الذبيح بالكبش، وضرب امرأة أيوب بالضِّغث (1)، واستقبال بيت المقدس بالكعبة، بل ذمَّ الله من بدَّل ذلك حيثُ قال لهم سفهاء، حيث قال تعالى:{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} يوضحه أن فعل الله لا يكون إلَاّ راجحاً لأن غير الراجح يُباح (2) وهو العبث واللعب، والله منزهٌ عنه، وقد ثبتَ بالسمع أن عذاب الكفار راجحٌ، فلا يحسُنُ تبديله، ولم يثبُت ذلك في عذاب المسلمين، أو في عذاب كثيرٍ منهم لقوله:{ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فيجوز أن يكون العفو راجحاً، فلا يجوز قياس التبديل فيهم للوعيد بالعفو على ذلك خصوصاً على سبيل القطع.
ومذهبُ أهل السنة، ونَسَبَهُ ابنُ هبيرة والريمي إلى أئمة الفقهاء الأربعة (3) في إجماعها هو القول السابع: وهو أن القاتل عاصٍ لله، صاحب ذنبٍ كبير، مستحقٌّ للعذاب الشديد العظيم المهين في الآخرة، مستحق في الدنيا للقتل، مجروح العدالة، واجبٌ على كل مسلم البراءةُ من فعله، والكراهةُ له، ومنعه منه، وقتاله عليه، وقتله دونه إن كان إلى ذلك سبيلٌ، واجبٌ في حكم الله وحكمته أن يُنتصف للمقتول منه، ويُرضيه في يوم الدين، ولا يُسقط حقاً (4) للمقتول حتى يستوفي حقه، ويرضى بعدل الله تعالى أتم الرضا، حتى إذا لم يبق إلَاّ حقُّ أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، وَكَلُوا الأمر في ذلك إلى من له الحق وله الحكم، ولم يقضوا عليه في حقه (5) بشيء، وقالوا: إن عاقبه فبعدله وإن سامحه فبفضله، لكنهم قطعوا بعدم خلوده، والمختار الوقف وهو القولُ
(1) هو قبضة حشيش مختلط رطبها بيابسها.
(2)
في (ف): " مباح ".
(3)
ساقطة من (ف).
(4)
في (ش): " حق ".
(5)
في (ش): " حكمه ".
الثامن، وإنما قطعوا بعدم خلوده لأدلة سمعية، ونظرية معارضاتٍ لهذا العموم نذكر ما حضر منها:
الدليل الأول: أن الآية تحتمل معنيين احتمالاً واضحاً:
أحدهما: أن الله تعالى أراد الإخبار بما يستحقُّ قاتل المؤمن على سبيل التخويف الصارف عن القتل، والإعلام بأنه من الكبائر، ولم يَرِدِ الإخبارُ المحضُ من كون ذلك عاقبته ومصيره، وقد فَهِمَ هذا من قَدَّمنا ذكره، وهم من أهل اللسان العربي كابن عباس، وصاحبه أبي مجلز لاحق بن حُميد أحد رجال الجماعة وثقات التابعين، ومحمد بن سيرين، وعون بن عبد الله، وأبي صالح.
وقد قال الخليل عليه السلام: {فَمَنْ تَبِعَني فإنَّه مني ومن عَصَاني فإنَّكَ غفورٌ رَحيمٌ} .
وقال عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} .
وثبت في الأحاديث الصحاح عن ابن عباسٍ، وأبي سعيد، وأبي ذرٍّ، وأبي رزين العُقيلي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن الله عز وجل إنه يقول:"الحسنة بعشر أمثالها أو أزيد والسيئة بمثلها أو أعفو" كلها في الصحيح إلَاّ حديث أبي رزين العقيلي، ففي مسند أحمد.
وعضدها قوله تعالى في " آل عمران ": {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128]، وقوله تعالى في سورة الأحزاب:{لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 24] فأطلق الوعد للصادقين، ولم يقيده بشرطٍ أصلاً، وشَرَطَ المشيئة في وعيد المنافقين الذين هم شر الكافرين بشهادة نص القرآن على أنهم في الدرك الأسفل من النار هذا وقد توعَّدَهم في سورة الفتح بالعذاب، وزاد على ذلك قوله تعالى: {وغَضِبَ عليهم ولَعَنَهُم
وأعَدَّ لهم جَهَنَّم وساءَتْ مصيراً} [الفتح: 6] وهذا يشبه (1) بوعيد القاتل، فكما أنه شرط المشيئة في وعيد (2) المنافقين في آية، وأطلقه في آية أخرى، جاز مثلُ ذلك في آية القتل، وإن كانت التوبة المشروطة للمنافقين قبل الموت فالمسوغُ تخصيص العموم تخصيصاً منفصلاً من غير إشعار بذلك متقدم، والمقصودُ هنا من الآيتين الكريمتين مشابهة الأحاديث الصحاح في شرط المشيئة في وعيد العصاة دون وعد المؤمنين، لكن شرط المشيئة مؤثرٌ في وعيد عصاة المسلمين مطلقاً في الدنيا والآخرة، وعليه دَلَّت النصوص في وعيد عُصاة الكفار في الدنيا فقط، لمنع الإجماع والنصوص من الرجاء في الآخرة المعفوّ عنهم، وقوله تعالى في [هود: 107]: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيد} ، وفي [الأنعام: 128]: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيم} وجائزٌ أن يرجع الاستثناء إلى بعض من توعد بالخلود من الموحدين إن صح وعيدُ أحدٍ منهم به.
فإن قيل: فقد وَرَدَ الاستثناء في أهل الجنة ولا خلاف في خلودِ جميع أهلها حتى من دخلها بغير عمل كالأطفال.
قلنا: قد دلَّت الأخبار التي ذكرناها على (3) أن الاستثناء في الخير للزيادة (4) وفي الشرِّ للنقصان، ويشهَدُ له من كتاب الله:{ولدينا مزيدٌ} [ق: 35]، {ويزيدهم من فضله} [النور: 38]، {للذين أحسنوا الحسنى وزيادةٌ} [يونس: 26] ونحوه، ولذلك أشار الله تعالى إلى هذا في آية الاستثناء بنفسها فقال بعد الاستثناء من خلود النار:{إن ربَّك فَعَّالٌ لِمَا يُريدُ} [الأنعام: 128].
وقال بعد الجنة: {عطاءً غَيرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108] أي: غير مقطوع، والعقل يعضُدُ ذلك، وهذا مُنَزَّلٌ على ما ذكرنا من أن الوعيد أو كثيراً منه خَرَجَ مَخْرَجَ
(1) في (ف): " مشبه ".
(2)
في (ف): " بوعيد ".
(3)
في الأصول: " إلى "، وفوقها في (ف):" على ".
(4)
في (د) و (ش): " للخير في الزيادة ".
التهديد والتخويف للوقوع فيما يستحقُّ العاصي، والخبر عما يستحقه وما أعد له إن لم يعف عنه، وقد أجمعوا على إضمار التوبة في آيات الوعيد ولو انفصلت أدلتها، وكذلك التكفير بالحسنات، وزاد أهل السنة إضمار المشيئة والعفو فيما دون الشرك للنصوص الواردة فيه قرآناً وسنة، وعلى هذا يخرج الجواب على من احتجَّ على تكليف ما لا يُطاق بقوله تعالى في أبي لَهَبٍ:{سَيَصْلَى ناراً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد: 3]، فإنهم قالوا: قد كلف بالإيمان والطاعة التي ينجو معها من النار، ومن جُملة الإيمان أن يؤمن بأنه سيصلى ناراً ذات لهب، ومع إيمانه بهذا كيف يجوز ألا يقع حتى يسعى في عدم وقوعه، وفَتَحَ الله عليَّ في الجواب عن ذلك، أن الآية يجوز أنها خرجت مخرج الوعيد، لا مخرج الخبر المحض عن عاقبته، وكذلك يتخرج الجواب عن نجاة قوم يونس من العذاب بعد وعدِ يونس لهم به ليومٍ معين، ثم عفا الله عنهم بعد مُشاهدة العذاب بالنص والوفاق من غير توبةٍ صحيحة، لأنهم قد كانوا مُلحين بمشاهدة العذاب على الصحيح، وممَّنْ اختاره القرطبي في " تذكرته "(1)، واحتج بقوله تعالى في يونس:{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِين} [يونس: 98]، وبقوله فيهم:{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِين} [الصافات: 147 - 148]، والفرق بينهما واضحٌ، فإنه يحسن الوعيد في المستقبل ممن لا يعلم الغيب، ولا يحسن الخبر المحض بذلك لجواز أن يموت أحدهما أو يعجز صاحب الوعيد، أو يرجع عن وعيده أو غير ذلك (2)، وإذا ثبت أنه يجوز أن الآية المتعلقة بأبي لهب خرجت مخرج الوعيد العام للعاصين، فإنه بالإجماع موقوفٌ على شروطٍ تجمعها مشيئة الله تعالى، منها ما هو مجمعٌ عليه كالإسلام أو التوبة أو تكفير الصغائر، ومنها مختلفٌ فيه كالعفو وتكفير بعض الكبائر بما سيأتي بيانه ولا دليلَ قاطعٌ مع الوعيدية في هذه الآية خصوصاً يمنع من هذا الاحتمال
(1) وانظر " الجامع لأحكام القرآن " 8/ 384.
(2)
في (ف): "نحو".
لاحتمال لفظها ولو تجويزاً مرجوحاً، فإن التجويز البعيد المرجوح يمنع من القطع.
الدليل الثاني: سلَّمنا أنه خبر محض عن العاقبة لا يحتمل الشرطية قطعاً، لكنه عام محض بالنظر إلى القاتل الكافر والقاتل المسلم، والعموم يجوز أن يُراد به بعض ما يدل عليه لدليل ولو منفصلاً، وإن كان خبراً محضاً، كما جاء في قوله تعالى:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُم} [آل عمران: 173]، فإن الذي قال:{مِنَ النَّاسِ} نعيم بن مسعود الأشجعي والذي جمع من الناس هو أبو سفيان بن حرب (1)، وقد سمع الآية من لم يعرف هذا.
وقد قال الله تعالى في سورة [الذاريات: 41 - 42]: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيم} ، وقال في:[الحاقة: 8] فيهم: {فهل ترى لهم من باقيةٍ} ، وهذا عموم خبري لا يتخصص بالعقل، والذى يسمعه يعتقد ظاهره حتى يسمع قوله تعالى:{فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِين} [الأحقاف: 25] بعد أن قال فيها: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} فدلَّ قوله: {إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} على أن الريح ما دمَّرَتْهُمْ، وأنها مخرجةٌ من تلك العمومات الخبرية المحضة.
وقال تعالى في [سوره القمر: 33 - 34]. {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} ، ولم يستثن في هذه الآية ولا في
(1) نسب هذا القول ابن الجوزي في " زاد المسير " 1/ 504 إلى مجاهد وعكرمة ومقاتل في آخرين.
وثمة قول آخر ذكره ابن إسحاق كما في " السيرة " 3/ 128، ونقله عنه الطبري في " تفسيره " (8244):{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل} ، و" الناس " الذين قالوا لهم ما قالوا: النفر من عبد القيس الذين قال لهم أبو سفيان ما قال: إن أبا سفيان ومن معه راجعون إليكم، يقول الله عز وجل:{فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء} .
السورة امرأة لوط من آلهِ الذين أخبر بنجاتهم مع دخولها فيهم لُغةً، ولذلك استثناها في غير موضع، والعقل هنا لا يخصُّها أيضاً، فدلَّ على جواز التخصيص في الأخبار المحضة بالدليل المنفصل، وذلك يمنع القطع عند سماع العموم، لأن القطع (1) لا ينتقض، فمن سمع آية سورة القمر قبل سماع الاستثناء، لم يُفدْه القطعُ بقبح الاستثناء في غيرها، وأمثال هذا كثيرٌ في كتاب الله تعالى.
ولذلك أجمع العلماء على جواز تخصيص العموم، وأنه ليس من التكذيب في شيءٍ، حتَّى قال بعضهم: إن العموم مشتركٌ بين العموم والخصوص، وإنه يُطلقُ عليهما معاً على جهة الحقيقة دون المجاز لكثرة وقوعه، وهذا العموم الذي لم يخصص ولا نزل على سبب، أما العموم المخصص ففيه الخلاف المتقدم، لأنه قد عُلِمَ أن ظاهره لم يُرَدْ به، وقد أقرَّت المعتزلة أن هذه الآية مخصوصة بما قدمنا ذكره من القاتل غير المتعدي في القصاص والحدود للمؤمن التائب، ويخص أيضاً بقتل الباغي والمدفوع، لأن المؤمن المُحَرَّمَ قتلُه هو المصدَّق لا العدل عند الجميع، كما سيأتي بيانه، وكذلك هي مما نزلت على سبب مخصوص كما سيأتي.
فإن قيل: إنها نص (2) في القتل.
قلنا: صحيح، لكنها عامةٌ في القاتلين غير نصٍّ في كل منهم، ولا يلزم أن يكون نصاً في كل قاتل كما أجمعنا عليه في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِه} [النساء: 48 و116] فإنها (3) نصٌّ في الشرك لا في كل مشركٍ، فقد أجمعنا على تخصيصها بالإسلام بعد الشرك، بل كما خَصَّتِ المعتزلة من آية القتل: التائب، وقاتل المؤمن في القِصاص والحد، ومن أسلم بعد القتل، ولم يمنع من ذلك كونها نصاً في القتل، كذلك لا يمنع كونها نصاً فيه وجود
(1) في (ف): " دلالة القطع ".
(2)
في (ف): " هي سبب ".
(3)
في (ف): " أنها ".
مخصِّصٍ آخر لبعض القاتلين، كقاتل الزاني المحصن التائب من الزنى وأمثال ذلك.
وكذلك قوله تعالى: {ومن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره} [الزلزلة: 8]، فإنها نص في الصغيرة، وحجة للخوارج خصوصاً، وقد اتفقوا على صحة حديث ابن عباس الذي فيه:" وما يُعَذَّبانِ في كبيرٍ "(1) وقد تأولها (2) الجميع.
أما أهل السنة فما ورد في الحديث عن أنس أنها نزلت وأبو بكر يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما نزلت رفع أبو بكر يده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما ترون مما تكرهون فذلك ما تُجزون، ويُدَّخَرُ الخير لأهله إلى الآخرة ". رواه الحاكم (3) من طريق سفيان بن حسين، وقال: صحيح، وله شاهد رواه الطبراني من طريق شيخه موسى بن سهل، والظاهر أنه الوشاء (4).
(1) وتمامه: " مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين، فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدُهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة
…
". وزاد في رواية بعد قوله: " ما يعذبان في كبير ": " ثم قال: بلى ". أخرجه البخاري (216) و (218) و (1361) و (1378) و (6052) و (6055)، ومسلم (292)، وأبو داود (20): والترمذي (70)، والنسائي 1/ 28 - 30، وابن ماجه (347). وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان " (3128).
(2)
أي: الآية.
(3)
2/ 532 - 533 من طريق سفيان بن حسين، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء الرحبي قال: بينا أبو بكر
…
فذكره، وليس هو من حديث أنس كما ذكر المؤلف. وتعقبه الذهبي بأنه مرسل.
(4)
ذكره الهيثمي في " المجمع " 7/ 141 - 142 من حديث أنس، وقال: رواه الطبراني في " الأوسط " عن شيخه موسى بن سهل، والظاهر أنه الوشاء، وهو ضعيف.
قلت: وأخرجه أيضاً الطبري في " تفسيره " 30/ 268، وابن أبي حاتم فيما ذكر ابن كثير في " تفسيره " 8/ 484. وفيه الهيثم بن الربيع، وهو ضعيف.
وله شواهد عن أبي أيوب الأنصاري عند ابن مردويه، وعن أبي إدريس الخولاني، وأبي قلابة مرسلاً عند ابن جرير الطبري 30/ 268 - 269. انظر " الدر المنثور " 8/ 594.
وأما المعتزلة، فقال الزمخشري (1): إن المعنى: من يعمل من أهل الشر مثقال ذرة شراً يره، ومن يعمل من أهل الخير مثقال ذرة خيراً يره. فلم يمنعِ النص على الصغر من التأويل لذلك النص على بعضه (2)، هذا هو التخصيص، وعلى الجملة كلما صحَّ من المتكلم أن يستثنيه استثناءاً متصلاً، صح أن يخُصَّه خصوصاً منفصلاً بالإجماع، إلا أن بعضهم يُسميه نسخاً، والأكثر على تسميته تخصيصاً، أي: بياناً لمراده الأول، لا رجوعاً عنه ولا تبديلاً.
فإن قيل: إن وعيد الآية خاصٌّ بالقاتل المؤمن.
فالجواب: أن ذلك ممنوعٌ لوجوه:
الأول: عموم لفظ " مَنْ " وهو المعتمد، وقد اختاره الزمخشري في " كشافه "(3) فإنها من ألفاظ العموم، ولذلك يحتج بها الخصوم في نحو:{ومن يعصِ الله ورسوله} .
الثاني: أن إخراج الكافر القاتل من الوعيد لكونه زاد الكفر على القتل عناد، وداعٍ إلى الزيادة في الفساد، وعكس للمعروف في دليل الفحوى عند أهل العلم، فإن المعروف أنها لو نزلت في حقِّ المؤمن، لكان الكافر أولى بها، كما أن التأفُّف لما حُرَّمَ كان ما فوقه من العقوق أولى بخلاف العكس، ولذلك كان القطع على سرقةِ عشرة دراهم دليلاً على القطع فيما فوقها، لا فيما دونها.
الثالث: إنها نزلت على سبب قتل كافرٍ لمؤمن فيما رواه أهل التفسير. قال الواحدي في " أسباب النزول "(4)، قال الكلبي عن أبي صالحٍ، عن ابن عباس
(1) نصه في " الكشاف " 4/ 228: المعنى فمن يعمل مثقال ذرة خيراً من فريق السعداء، ومن يعمل مثقال ذرة شراً من فريق الأشقياء.
(2)
في (ف): " لبعضه ".
(3)
1/ 291.
(4)
ص 114 - 115. والكلبي -وهو محمد بن السائب- متهم بالكذب، وأبو صالح =
أن مِقْيسَ بن صُبابة وجد أخاه هشام بن صُبابة قتيلاً في بني النجار، وكان مسلماً فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم معه رسولاً من بني فِهْرٍِ، وقال له:" إيت بني النجار فأقرِئْهم السلام وقل لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم إن علمتم قاتل هشام بن صُبابة أن تدفعوه إلى أخيه يقتصُّ منه، فإن (1) لم تعلموا له قاتلاً أن تدفعوا إليه ديته " فأبلغهم الفِهري ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمعاً وطاعةً لله ولرسوله والله ما نعلم له قاتلاً، ولكنا نؤدي إليه ديته، فأعطوه مئةً من الإبل، ثم انصرفا راجعين نحو المدينة وبينهما وبين المدينة قريب، فأتى الشيطانُ مِقْيساً فوسوس إليه، فقال: أيَّ شيءٍ صنعت، تقبل دية أخيك، فتكون عليك مسبةً، اقتل الذي معك، فتكون نفسٌ مكان نفس وفضل الدية، ففعل ذلك مِقْيَسٌ، ورمى رأس الفِهْري بصخرةٍ فشَدَخَ رأسه، ثم رَكِبَ بعيراً منها وساق بقيتها راجعاً إلى مكة كافراً، وجعل يقول في شعره:
ثأرتُ به فِهراً وحَمَّلْتُ عقله
…
سَراة بني النجار أرباب فارعِ (2)
فأدركت ثأري واضطجعتُ موسداً
…
وكنتُ إلى الأوثان أول راجعِ (3)
= -وهو باذام مولى أم هانىء- ضعيف.
وأخرجه بغير هذا السياق ابن جرير الطبري في " تفسيره "(10186) من طريق عكرمة مرسلاً.
(1)
في (ف): " وإن ".
(2)
في الأصل: قتلت به فهراً، والتصويب من ابن هشام، وقوله:" ثأرت به فهراً " فإنه يعني أبناء فهر وهم رهطه أدرك ثأرهم بقتله الأنصاري، وسراة بني النجار: خيارهم، وفارع: حصن لهم.
(3)
رواية الشطر الأول في ابن هشام:
حللت به وتري وأدركت ثؤرتي
وقبل البيتين بيتان هما:
شفى النفس أن قد بات بالقاع مسنداً
…
تُضَرِّجُ ثَوْبَيْهِ دماءُ الأخادع
وكانت هموم النفس من قبل قتله
…
تُلِمُّ فتحميني وِطاءَ المضاجعِ =
فنزلت هذه الآية: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً} [النساء: 93]، ثم أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه يوم فتح مكة، فأدركه الناس وهو في السوق فقتلوه.
فهذا السبب يدلُّ على دخول الكفار في الوعيد، وإذا كانوا داخلين فيه جاز أن يُرادوا بالخلود الذي فيه، ويُخَصُّوا به لنزول الآية بسببهم كما نزل فيهم:{من كان يريد الحياة الدنيا} الآية وتجويز ذلك في أمثال هذا مجمعٌ عليه، وإنما يختلف العلماء في الظاهر المظنون في العمليات، هل هو شمول غير السبب أم لا، وللعلماء فيه قولان معروفان، وممن قال بقصره على سببه ما لم يدلُّ دليلٌ على شموله الشافعي، ومن قال بقوله، وهو ظاهر مذهب أهل البيت والشيعة، فإنهم أخرجوا نساء النبي صلى الله عليه وسلم من قوله تعالى:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] بسبب الحديث الوارد (1)
= انظر " سيرة ابن هشام " 3/ 305 - 306، و" تاريخ الطبري " 3/ 66، وتفسيره 9/ 62، و" معجم البلدان " فارع.
(1)
أخرجه الترمذي (3205) عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} في بيت أم سلمة، فدعا فاطمة وحسناً وحسيناً فجللهم بكساء وعلي خلف ظهره، فجللهم بكساء، ثم قال:" اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذْهِبْ عنهم الرجس، وطَهِّرْهم تطهيراً "، قالت أم سلمة: وأنا معهم يا نبي الله، قال:" أنت على مكانك وأنت علي خيرٍ ". وأخرجه (3871) من حديث أم سلمة بنحوه وقال: هذا حديث حسن، وهو أحسن شيء رُوِيَ في هذا الباب.
وأخرج مسلم (2424) من حديث عائشة قالت: خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداةً وعليه مِرْط مُرَحَّل (كساء موشى) من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله، ثم قال:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} .
والصواب أن الآية نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت ها هنا، لأنهن سبب نزول هذه الآية، لكنه صلى الله عليه وسلم بيّن في هذا الحديث أن المراد بها أعمُّ من ذلك، ولا شك أن قرابته صلى الله عليه وسلم أحق بهذه التسمية.
مع أن أول الآية وآخرها فيهن، ومن حُججهم ما رُوِيَ عن الصحابة من ذلك مع الإجماع على حفظ أسباب النزول، ولولا ذلك ما (1) كان في حفظها، فائدة ولا له ثمرة، ولذلك أورد المصنفون في المناقب أمثال ذلك، فيذكرون في مناقب علي عليه السلام قوله تعالى:{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُون} [المائدة: 55]، ويقولون: إنه المراد بها لما نزلت بسبب صدَقَته بخاتَمه وهو راكع. كما رواه الطبراني من حديث عمار بن ياسر قال: وقف على علي عليه السلام سائل، وهو راكع في تطوع، فنزع خاتمه، فأعطاه السائل فنزلت:{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُون} فقرأها النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: " من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ". رواه الحافظ الهيثمي في " مجمع الزوائد "(2) في تفسير سورة المائدة وعزاه إلى الطبراني، وهو من أحاديث الرجاء كحديث أنس عنه صلى الله عليه وسلم:" المرء مع من أحب " متفق عليه (3).
ولأجلِ الأسباب افترق الحال بين المستأذنين في التخلف عن الجهاد، ففي التوبة التشديد في ذلك حيث قال:{لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر} .. إلى قوله: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُون} [التوبة: 44 - 45]، وقال تعالى في آخر النور:{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
(1) في (ف): " لما ".
(2)
7/ 17 وقال: رواه الطبراني في " الأوسط " وفيه من لم أعرفهم.
(3)
أخرجه البخاري (6168) و (6169)، ومسلم (2640) من حديث عبد الله بن مسعود.
وأخرجه البخاري أيضاً (6170)، ومسلم (2641) من حديث أبي موسى الأشعري.
وأخرجه البخاري (6171)، ومسلم (2639) من حديث أنس.
[النور: 62]، وقال في الأولين:{عفا الله عنك لم أذنت لهم} [التوبة: 43] فقاسه على ذلك، فانظر إلى هذا الاختلاف الكبير بين الآيتين، وما ذلك إلا لاختلاف (1) أسباب النزول لما نزلت آية التوبة في المنافقين، وآية النور في المؤمنين على اعتبار الأسباب.
وعن علقمة قال: كنا عند عائشة فدخل أبو هريرة فقالت: أنت الذي تحدث: " أن امرأةً عُذِّبت في هرة إذ ربطتها فلم تطعمها ولم تَسْقِها "، فقال: سمعته منه -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقالت: هل تدري ما كانت المرأة مع ما فعلت، كانت كافرةً، والمؤمن أكرم على الله من أن يعذبه في هرةٍ، فإذا حدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطر كيف تُحدِّثُ. رواه أحمد (2). وقال الهيثمي (3) رجاله رجال الصحيح خرجه فيما يستحقر من الذنوب من أبواب التوبة، ولابن عبد البر مثل هذا التأويل في " التمهيد " عند ذكر عذاب بني إسرائيل على ذنوبهم، ولذلك يظهر مثل ذلك في كثير من الوعيد على بعض الذنوب مثل قوله تعالى:{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} إلى قوله: {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين: 1 - 5]، وكذلك عذاب (4) قوم شعيب على إخسار (5) الميزان مع كفرهم ونحو ذلك، وهذا وأمثاله كثيرٌ.
فاحتج الشافعي بأن الظاهر خصوص هذه العمومات بما نزل فيه وما نزلت بسببه: ألا ترى أنه لو تَصَدَّقَ مُتصَدِّقٌ في الصلاة بعد نزولها لم يقطع على أنه داخلٌ (6) في هذه الفضيلة، وإن كان ذلك مجوزاً ممكناً، وقد ينص في بعض ما نزل على سبب أنه أريد به العموم كما جاء في حديث كعب بن عجرة حين نزلت فيه:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: 196] فكان يقول:
(1) في (ف) و (ش): " اختلاف ".
(2)
أخرجه الطيالسي (1400)، وأحمد 2/ 519، وفي إسناده صالح بن رستم أبو عامر الخزاز، مختلف فيه، ووصفه الحافظ في " التقريب " بأنه كثير الخطأ.
(3)
" المجمع " 2/ 190.
(4)
في (ف): " تعذيب ".
(5)
في (ف): " إخسارهم ".
(6)
في (ف): " بدخوله ".
نزلت لي خاصةً، وهي لكم عامة (1)، والحق أن ذلك يختلف بحسب القرائن، ففي التحليل والتحريم يكون للعموم، لأن الحكم لو اختص بالواحد من غير عموم لزم عمومه، لأن حكم التكليف واحد، وحكم الرسول على الواحد حكمه على الجماعة (2)، كيف إذا انضمَّ إلى ذلك العموم، وفي غير ذلك (3) نقف على القرائن والله سبحانه أعلم.
فإن قيل: إن أول الكلام في القتل مسوقٌ في قتل المؤمن للمؤمن، لأن الآيات في ذلك مصدرة بقوله تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأ} [النساء: 92] إلى آخر ما ذكره في أحكام قتل الخطأ، فيلزم أن تكون هذه الآية الثانية كذلك.
قلنا: هذا لا يلزم، وقد قال الله تعالى في سورة البقرة:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيم} [البقرة: 104] وقال في آخر آية الظِّهار بعد خطاب المؤمنين: {وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم} فهذه آيةٌ واحدة جعل أولها خطاباً للمؤمنين، وآخرها مختصاً بالكافرين ووعيداً لهم، فكيف بآيتين مختلفتين، خصوصاً مع طول الأولى، ونزول الثانية على سببٍ يختص بالكافرين، وقد ثبت في " صحيح مسلم " وغيره نزول قوله تعالى:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] في علي وفاطمة وابنيهما عليهم السلام (4) مع أن الآيات قبلها وبعدها في نساء النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن، فلم (5) يمنع ذلك من قبول الرواية في ذلك.
فلو سلمنا أن آية القتل نزلت صريحةً في المسلمين لكانت خاصةً فيمن
(1) أخرجه البخاري (1816)، ومسلم (1201).
(2)
في (ش): " كحكمه على الجملة ".
(3)
في (ش): " وفي ذلك العموم ".
(4)
تقدم تخريجه ص 58.
(5)
في (ش): " لم "
ارتدَّ منهم، فقد يسمى مسلماً باسم ما كان عليه كما كان يسمى المُعْتَقُ عبداً بذلك (1).
وإن كان ذلك السبب من طريق الكلبي، فقد قال ابن عدي (2): إنه صالحٌ في التفسير، وضعيفه محمولٌ على غير التفسير جمعاً بين كلام الحفاظ، ولو سُلِّمَ ضعفُه فصدقه محتملٌ، ومجرد التجويز يمنع القطع خصوصاً، والمخصصات المنفصلة تُقَوِّي ذلك، ولا يلزم في رجال أسباب النزول من التشدد (3) ما يلزَمُ في رجال الحديث، كما لم يلزم مثل ذلك في آثار الصحابة والتابعين ومذاهب العلماء ورواة اللغات والتواريخ وسائر العلوم، وقد تقدم (4) حديث واثلة في كفارة العتق للقتل العمد في حق المسلم، رواه صاحب " شفاء الأوام " واحتجَّ به وجعلَه المذهب، وذهب إليه الشافعي وغيره من علماء الإسلام.
وعضدَه قوله تعالى: {إنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} وأحاديث فضل العتق، وقد روى منها صاحب " الشفاء " حديث ابن عباس (5)، وحديث أبي هريرة (6)، وتقدم حديث جابر في القاتل المهاجر:" وليديه فاغفر " رواه مسلم (7).
ويعضُدُه قوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 100].
(1) في (ش): " قبل ذلك ".
(2)
" الكامل في الضعفاء " 6/ 2127 - 2132.
(3)
في (ش): " التشديد ".
(4)
تقدم ص 37.
(5)
ولفظه: " من أعتق مؤمناً في الدنيا، اعتق الله بكل عضو منه عضواً منه من النار ".
أخرجه الطبراني (10640) و (10641) وذكره الهيثمي في " المجمع " 4/ 243 وقال: وفيه محمد بن أبي حميد وهو ضعيف. قلت: ولكنه صحيح بشواهده.
(6)
أخرجه البخاري (2517) و (6715)، ومسلم (1509)، والترمذي (1541).
(7)
تقدم ص 38.
وكذلك حديث علي عليه السلام المتفق عليه الذي فيه: " لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة "(1) وفيه شهادة لعدم خلودهم في النار مع الكفار متى كانوا مسلمين، مع أنهم قاتلون لأنفسهم.
وكذلك حديث عبادة المتقدم (2) المتفق على صحته في تكفير العقوبات الدنيوية كالحدود لمن فعل شيئاً مما بُويعوا عليه، ومن ذلك الذي بويعوا عليه:[عدم] قتل أولادهم وفيه تفويض أمرهم في الآخرة إلى الله تعالى، وعدم الجزم بيقين عذابهم، ولا يخفِّف ذلك كونهم أولادهم، فإنه أعظم للإثم لقطيعة الرحم مع وزْرِ القتل، ولا كونهم صغاراً، لأنه أعظم من الإثم حيث لم يذنبوا قطعاً، ويدل عليه تخصيص الموؤودة بالسؤال والإشارة إلى سبب تخصيصها بقوله عز وجل:{بأيِّ ذنبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 9].
وكذلك صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من مات له ثلاثةٌ من الولد لم يبلُغُوا الحِنْثَ كانوا له حِجاباً من النار " وقد مرَّ (3)، فقُيِّدَ بعدم بلوغ الحنث لذلك، ولأنهم وُلِدُوا على الفطرة، ولذلك كتب لهم ما عَمِلُوا قبل البلوغ من حجٍّ وصلاةٍ، كما وردت به النصوص، ويصح عتقهم عند كثرٍ من العلماء في كفارة القتل لدخولهم في أهل الإسلام والإيمان اسماً وحُكماً لقوله صلى الله عليه وسلم:" كُلُّ مولودٍ يُولَدُ على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه وينصرانه "(4) وقوله بعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30]. وفي
(1) أخرجه البخاري (4340) و (7145) و (7257)، ومسلم (1840)، وأبو داود (2625)، والنسائي 7/ 159. ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعَثَ جيشاً وأمَّرَ عليهم رجلاً، فأوقد ناراً وقال: ادخلوها، فأراد ناسٌ أن يدخلوها، وقال الآخرون: إنا قد فررنا منها، فذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال للذين أرادوا أن يدخلوها:" لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة " وقال للآخرين قولاً حسناً، وقال:" لا طاعة لمخلوق في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف ". لفظ مسلم.
(2)
تقدم ص 28.
(3)
تقدم ص 47.
(4)
تقدم تخريجه.
" الكشاف "(1) أنه قول عامة العلماء، وعن الحسن البصري: لا تُجزىء الصغيرة، ويُقَوِّي ذلك عموم قوله تعالى:{إنَّ الحسنات يُذهبن السيئات} وحديث أبي ذر مرفوعاً: " واتبع الحسنة السيئة تَمْحُها " رواه الترمذي (2) والنووي في " الأربعين "(3) ورواه الترمذي عن معاذ أيضاً (4)، وليس في رواته إلَاّ ميمون بن أبي شبيب التابعي، قال الذهبي: صدوق، وقال أبو (5) حاتم: صالح الحديث روى له الأربعة (6).
ويعضُدُه حديث واثلة في كفارة القتل بالعتق كما مضى (7) أو يأتي، و [ما] عقبها بها (8) إلَاّ لحكمةٍ بالغةٍ، ورحمةٍ واسعة، وبذلك ينقطع قول من قال: إنها نزَلَتْ بعدها، والله أعلم.
على أن الخصوص مُقدمٌ، وإن تأخر كما هو موضَّحٌ في الأصول، وقد مرَّ شيءٌ من بيان ذلك، ويقوي هذا أنه الذي فَهِمَتْهُ الصحابة وفهمُهم حجةٌ كما سيأتي عند ذكر قوله:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فإنهم فهموا العموم لما عدا الشرك من الكبائر.
وروى الذهبي ما يدلُّ على فهمِهم لذلك في القتل بخصوصه، فإنه روى في ترجمة مسلم بن خالدٍ الزنجي (9)، من حديث عن عُبيد الله بن عمر، عن
(1) 1/ 289 في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ونصه: والمراد برقبة مؤمنة كل رقبة كانت على حكم الإسلام عند عامة العلماء، وعن الحسن لا تجزي إلَاّ رقبة قد صلت وصامت، ولا تجزىء الصغيرة.
(2)
(1987)، وأحمد 5/ 153 و158 و177، وهو حديث حسن.
(3)
وهو الحديث الثالث والعشرون.
(4)
أخرجه الترمذي (1987)، وأحمد 5/ 236.
(5)
في الأصول: " ابن أبي حاتم "، والصواب ما أثبت.
(6)
انظر " الكاشف " 3/ 193، و" التهذيب " 10/ 388.
(7)
تقدم ص 37.
(8)
في (ش): " به ".
(9)
" ميزان الاعتدال " 4/ 102، و" الكامل " لابن عدي 6/ 2311.
نافع، عن ابن عمر، قال: كنا نَبُتُّه على القاتل حتى نزل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء: 48] فأمسكنا.
وقد تقدم الكلام في (1) الزنجي، وعلى كل حال (2) إنه حسن الحديث كقول ابن عدي وصححه في رواية عثمان الدارمي، عن ابن معين، وكذلك على قواعد الفقهاء، وأهل الأصول لا سيما المعتزلة، لأنه كان يرى رأيَهُم في القدر، وذلك من أسباب الكلام عليه، وهو من شيوخ الإمام الشافعي، وكان فقيهاً عابداً يصوم الدهر، وحديثه هذا حديثٌ جيد، يدلُّ على تأخر قوله:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} على وعيد القاتل وهم يتمسكون في التاريخ بدون هذا، وهذه فائدةٌ عظيمة، والأمر مع ذلك في غاية الخطر، لقوله تعالى:{لِمَنْ يَشَاء} ، فسبحان المخوف مع سعة رحمته، المرجُوِّ مع شديد انتقامه، الذي لا ينبغي لأحدٍ أن يأمن عذابه، ولا يقنط من رحمته، ولا يحكم على مشيئته إلا ما حكم على نفسه، لا مُعَقِّبَ لحكمه، ولا محيطَ بعلمه.
هذا وقد قيل: إن ظاهر الآية في قتل الكافر للمؤمن بالنظر مع الأثر، وذلك أن الله تعالى لما ابتدأ الآية بقتل المؤمن للمؤمن، وذكر أحكامه حتى فَرَغَ منها، شرع بعدها في قسم هذا الذي بدأ به، وهو قتل الكافر للمؤمن والقرينة الدالة على هذا أنه لم يذكر القصاص قط في قتل العمد هنا وهو واجبٌ بين المسلمين بالإجماع، وكفارةٌ لهم عند كثيرٍ من العلماء، وذلك يقوِّي هذا النظر مع ما عَضَّدَه من الأثر خصوصاً، وقد ذكر الخلود في الوعيد في هذه الآية، ولم يذكره في الآية التي قبلها مع أنها في القتل لما خصَّ بها المؤمنين، وذلك قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 29 - 30].
يوضح ذلك أنه قَيَّدَ الوعيد هنا بكونه عدواناً وظلماً لما كان قتل المسلم ينقسم
(1) في (ف): " على "
(2)
في (ش): " حاله ".