المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ تخصيص الكافرين والمنافقين بالخزي والسوء يوم القيامة - العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم - جـ ٩

[ابن الوزير]

الفصل: ‌ تخصيص الكافرين والمنافقين بالخزي والسوء يوم القيامة

وفي الأحاديث الحِسان أن الموت كفارةٌ لكل مسلم، وبالإجماع أن المسلم يُثابُ على ألمِ الموت بخلاف الكافر، فكذلك أحوال الآخرة، ويدل على صحة ذلك وجهان:

الوجه الأول: ما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما من حديث النَّجوى، وهي المسارَّةُ في حساب المؤمن حتى لا يُعْلِمَ أحداً ما بينه وبين ربِّه ستراً عليه، حتى لا

(1)، وذلك ما رواه البخاري في مواضع كثيرة من طرقٍ جمَّةٍ، ومسلمٌ والنسائي وابن ماجة، وغيرهم من أهل المسانيد، عن صفوان بن مُحرزٍ المازني قال: بينما أنا (2) أمشي مع ابن عمر آخذاً بيدي، إذ عرض رجل، فقال: كيف سمعتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في النجوى؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله يُدني المؤمن، فيضعُ عليه كنفه وسِتْره " -وفي رواية: يستره- فيقول: أتعرفُ ذنب كذا، أتعرفُ ذنبَ كذا، فيقول: نعم أيْ ربِّ، حتى إذا قرَّره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال: سترتُها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيُعطى كتاب حسناته، وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين ". هذا لفظ البخاري في كتاب المظالم، وله ولمسلم: " فينادى على رؤوس الأشهاد "، وفي رواية: " الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على ربِّهم، ألا لعنة الله على الظالمين "، ولفظ مسلم في كتاب التوبة: " وأما الكفار والمنافقون، فيُنادى بهم على رؤوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على الله ".

وهذا حديثٌ جليل دالٌّ على‌

‌ تخصيص الكافرين والمنافقين بالخزي والسوء يوم القيامة

، كما دَلَّ عليه (3) القرآن.

رواه البخاري في المظالم: عن موسى بن إسماعيل، عن همام، وفي التفسير: عن مسدِّدٍ، عن يزيد بن زُريع، عن سعيد، وهشام، وفي الأدب وفي

(1) بياض في الأصول.

(2)

" أنا " ساقطة من (ش).

(3)

في (ف): " على ذلك ".

ص: 293

التوحيد: عن مسدَّد، عن أبي عوانة، وقال آدم عن شيبان: خمستهم عن قتادة، عن صفوان.

ورواه مسلم في التوبة: عن زهير بن حرب، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن هشام، به. وعن أبي موسى، عن ابن أبي عدي، عن سعيدٍ، به، وعن بُندار، عن ابن أبي عدي، عن سعيد وهشام، به.

ورواه النسائي في " التفسير " عن أحمد بن أبي عبيد الله، عن يزيد بن زُريع، عن سعيد، به، وفي الرقائق: عن سُويد بن نصر، عن عبد الله بن المبارك، عن محمد بن يسار، عن قتادة، به.

ورواه ابن ماجه في السنة: عن حميد بن مسعدة، عن خالد بن الحارث، عن سعيد، به (1).

قال المزي (2): وحديث النسائي ليس في السماع ولم يذكره أبو القاسم.

وذكر البخاري في " التوحيد " في باب كلام الرَّبِّ عز وجل مع الأنبياء وغيرهم يوم القيامة في آخر الباب أن آدمَ قال. أخبرنا شيبان، قال: حدثنا قتادة، قال: حدثنا صفوان، وإنما ذكره البخاري، لأنه ليس في الحديث مقالٌ إلا عنعنة قتادة، لأنه مدلِّسٌ على حفظه العظيم وجلالته في هذا الشأن، فبيَّن البخاري أنه قد صرَّح بالسماع في رواية شيبان عنه، فأمن تدليسه، وهي زيادةٌ حسنةٌ، لأنه لم يختلف فيها على شيبان، فتكون عنه مُعَلَّةً، ولا يثبت أن شيبان سَمِعَه من قتادة مع من رواه بالعنعنة (3) عن قتادة، فيُعَلُّ بذلك، على أن قتادة كان من أوائل المعتزلة، وليس يُتَّهمُ في مثل هذا الإجماع على صدقه وحفظه.

(1) الحديث أخرجه البخاري (2441) و (4685) و (6070) و (7514)، ومسلم (2768)، والنسائي في " التفسير "(262)، وابن ماجه (183)، وأحمد 2/ 74 و105، وابن حبان (7355) و (7356)، وانظر تمام تخريجه فيه.

(2)

في " تحفة الأشراف " 5/ 437.

(3)

في (ش): " مع رواية العنعنة ".

ص: 294

ويعضُدُه حديث عائشة، قال ابن أبي مُليكة: كانت عائشة لا تسمع شيئاً لا تعرفه إلَاّ (1) راجعت فيه حتى تعرفه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من نُوقِشَ الحساب عُذِّبَ ". قالت: فقلتُ: أليس الله يقول: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق: 7 - 9]، فقال:" إنما ذلك العرض، وليس أحدٌ يحاسَبُ يوم القيامة إلَاّ هلك ". وفي رواية: " وليس أحدٌ يُناقَشُ الحساب يوم القيامة إلَاّ عُذِّبَ ". رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي (2)، وذكره ابن الأثير، وحديث ابن عمر الذي في النجوى في الباب الثاني من كتاب القيامة من حرف القاف في " جامع الأصول "(3).

وهذه سنة الله في الدنيا والآخرة، وربُّ الدَّارَيْنِ واحدٌ، وحكمتُه فيهما (4) متشابهةٌ، ألا تراه يقول في قتال الكفار في الدنيا:{وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِين} [التوبة: 14]، فذكر خِزيَهم في الدنيا، وأنه مقصودٌ له.

وأما من يستحق القتال من بُغاة المسلمين، فقال فيهم:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} ، إلى قوله:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُم} [الحجرات: 9 - 10]، فسمى الباغي والمبغيَّ عليه أخَوَيْنِ للمؤمنين بعد وقوع البغي من الباغي.

وكذلك ورد في حديث القصاص يوم القيامة: " من كانت عنده مظلمةٌ لأخيه، فليستحلِلْهُ منها قبل أن يُؤخَذَ لأخيه من حسناته، فإن لم تكن له حسناتٌ، أُخِذَ من سيئات أخيه، فطُرِحَتْ عليه ". رواه البخاري (5) في باب

(1) في (ف): " حتى ".

(2)

تقدم تخريجه في الجزء الخامس.

(3)

10/ 432 و456.

(4)

" فيهما " ساقطة من (ف).

(5)

(6534)، وانظر " صحيح ابن حبان "(7361) و (7362).

ص: 295

القصاص من كتاب " الرقاق "، من حديث مالك عن المقبري، عن أبي هريرة.

والقرآن كافٍ في ذلك، بل هو أنصُّ على المراد، إذ هو في القتال الذي ورد في الصحيح تسميتُه كفراً، ولذلك أمر بقتالهم لحسم مادة هذه الفتنة الكبرى، وهذا القتال القصد به كفُّهم عن البغي الذي يَضرُّهُم في أُخراهم ويضرُّ المبغيَّ عليه في دنياه، ولذلك لم يُجمع العلماء على الإجهاز على جريحهم والاتباع لمُدبِرهم، لأن القصد كفُّهم عن المضرة لأنفسهم وللمحقين، لا قتلهم، فصارَ قتلهم كقطع الإنسان يده المتآكلة، لا يحِلُّ إلَاّ عند خوفه على نفسه للضرورة، وكالقصاص الذي أُرِيدَ به الحياة (1) الأُخرى، كما قال تعالى:{ولكم في القِصَاص حَياةٌ يا أولي الألباب} [البقرة: 179].

وكذلك الحدود، وإن سُمِّيَتْ عذاباً ونكالاً من وجهٍ، فإنها كفاراتٌ ورحمةٌ من وجهٍ، ويدلُّ على هذا أنه يُحَدُّ التائب على قول الجماهير، وهو الصحيح، وإلا بَطَلَتْ بدعوى التوبة من غير التائب، ولا يمتنع أن يكون للشيء جهتان، كخروج آدم عليه السلام بسبب الذنب وهو صغيرٌ مغفورٌ، وإنما خرج على الحقيقة للاستخلاف في الأرض كما سبق به العلم والخبر، والذي يدلُّ على أن كفَّهم عن مضَرَّة نفوسهم (2) مقصودٌ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمَّى ذلك نصراً لهم، حيث قال عليه السلام:" انصُر أخاك ظالماً أو مظلوماً " قيل: يا رسول الله، هذا ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟ قال:" يُؤْخذ فوق يديه ". رواه البخاري (3) في المظالم من حديث معتمر بن سليمان، عن حميد، عن أنس، عنه صلى الله عليه وسلم.

يوضحه استحبابُ العفو، وعدم وجوب الانتقام، بخلاف الكفار الذين يَجِبُ قتالهم، ويحرُم العفو عنهم.

(1)" الحياة " ساقطة من (ف).

(2)

في (ف): " أنفسهم ".

(3)

(2443) و (2444)، وأخرجه أيضاً الترمذي (2255)، وابن حبان (5167) و (5168). وانظر تمام تخريجه فيه.

ص: 296

وكذلك روى البخاري في " الحدود " عن أبي هريرة أنه أُتِيَ برجُلٍ جُلِدَ في الخمر، فلما انصرف، قال رجلٌ: ما له أخزاه الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا تكونوا أعوان الشيطان على أخيكم " زاد أحمد: " وقولوا يرحمه الله "(1).

وروي عن عمر بن الخطاب أيضاً أن رجلاً كان اسمه عبد الله، وكان يُلَقَّبُ حماراً، وكان يُضحِكُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأُتِيَ به يوماً، فأُمِرَ به فجُلِدَ، فقال رجلٌ من القوم:" اللهم العَنْهُ، ما أكثر ما يُؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تلعنوه فوالله ما علمت إلَاّ أنه يحب الله ورسوله " (2). انتهى.

وفيه حجةٌ على أن متابعة الرسول في الإسلام دِلالةُ المحبة، وإن لم تكمل، كما في قوله تعالى:{إن كنتم تحبُّون الله فاتبعوني يُحبِبْكُمُ الله} [آل عمران: 31].

وثبت في " الصحيحين " وغيرهما أنه قال عليه السلام: " إذا زنت الأمة، فتبيَّن زناها، فليجلِدْها، ولا يعيّرها، ولا يثرِّب عليها "(3)، كما تقدم، بل جاء في كتاب الله عن نبي الله يوسف الكريم بن الكريم بن الكريم أنه قال لإخوته بعد القدرة عليهم واعترافهم:{لا تثريب عليكم اليوم} ثم قال مستغفراً لهم: {يغفر الله لكم وهو أرحمُ الراحمين} [يوسف: 92]، فجرت سنةُ الله وسنة خير خلقه في الدارين بعدم الخزي والإهانة لمن أُرِيدَ له المغفرة والكرامة في عاقبة أمره.

وكذلك أمرَ الله بالسَّتر على المسلم في الدنيا.

وفي " صحيح مسلم "(4)، عن أبي هريرة، عنه صلى الله عليه وسلم:" من سَتَرَ مسلماًَ، ستره الله في الدنيا والآخرة ".

(1) تقدم تخريجه ص 236 من هذا الجزء.

(2)

تقدم ص 235.

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

برقم (2699)، وأخرجه أيضاً أبو داود (4946)، والترمذي (1425)، وابن ماجه (225)، وأحمد 2/ 252، وابن حبان (534).

ص: 297

وروى الحاكم في " علوم الحديث "(1) له في أول نوعٍ منها نحو ذلك من حديث أبي أيوب الأنصاري وعقبة بن عامرٍ، كلاهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي سعدٍ المكِّيِّ الأعمى. ذكره الذهبي في " الميزان "(2)، فلم يقدح فيه ألا يتفرَّدِ ابن جُريجٍ بالرِّواية عنه، فيقوي حديث الستر على المسلم في الدنيا ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلاً.

وأما قوله في حديث ابن عمر في النَّجوى (3): " وأنا أغفرُها لك اليوم "، ففيه بحثٌ، وهو أنه يمكن أن يخرُجَ منه المجاهرون الذين ستر الله عليهم، ففضحوا نفوسهم في الدنيا، وجاهروا بالفجور.

وروى البخاري من حديث محمد بن عبد الله بن مسلمٍ المعروف بابن أخي الزهري، عن عمِّه الزُّهري، عن سالم، عن أبي هريرة، عنه صلى الله عليه وسلم " كل أمتي مُعافى إلَاّ المجاهرين، وإنَّ من الجِهَارِ أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يُصبحُ، وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلانُ، عملتُ البارحة كذا وكذا، وقد بات يستُرُهُ ربُّه، فيصبح يكشفُ نفسه ". ورواه مسلم من طريق ابن أخي الزهري (4)، والذي يدل على تخصيصهم منه قوله:" سترتُها عليك في الدنيا "، وهذا فيمن لم يُعاقب في الدنيا من المجاهرين، وأما من عُوقِبَ بالحدِّ وغيره من المصائب؛ فقد صح في حديث عليٍّ عليه السلام، وحديث عبادة أنها لا تُعادُ عليه العقوبة، على أن في ابن أخي الزهري خلافاً، وعلى أن حديث علي عليه السلام أرجى من حديث عُبادة، فإن في حديث عبادة:" ومن لم يُعاقب في الدنيا، فأمره إلى الله، إن شاء عذَّبه، وإن شاء غفر له ". متفق عليه (5).

(1) ص 7 - 8. وانظر ابن حبان (517).

(2)

4/ 529.

(3)

تقدم قريباً.

(4)

البخاري (6069)، ومسلم (2990).

(5)

أخرجه البخاري (18)، ومسلم (1709)، والترمذي (1439)، والنسائي 7/ 142 و148 و161 - 162، وابن ماجه (2603).

ص: 298

وفي حديث علي عليه السلام: " ألا أخبركم بأفضل آيةٍ في كتاب الله، حدثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، وسأفسِّرُها لك يا عليُّ: ما أصابكم من مصيبةٍ أو مرضٍ أو بلاءٍ في الدنيا، فبما كسبت أيديكم، والله أكرمُ من أن يثنِّي عليكم العقوبة في الآخرة، وما عفا الله عنه في الدنيا، فالله أحلم من أن يعودَ بعد عفوه ". رواه جماعة، منهم الترمذي والحاكم وابن ماجه وأحمد في " المسند "، وأبو يعلى وهذا لفظهما (1).

وشهد له أحاديث المصائب. قال ابن عبد البر في " التمهيد ": إنه مجمعٌ عليها، فلا يخرُجُ من حديث ابن عمر مؤمنٌ على جهة القطع، لأنَّ المستور في الدنيا داخلٌ فيه، ومن لم يستره في الدنيا، يجوز أنه عُوقِبَ في الدنيا.

بقي أن يُقال: لا يدل على سلامة كل المؤمنين من دخول النار، إنما يدل على سلامة المستورين منهم.

فالجواب: إنا إنما استدللنا به (2) على أن الخِزْيَ والإهانة تخصُّ الكفار والمنافقين، وهذه الدِلالة لم يحصُل لها معارضٌ صريحٌ، إلَاّ ما توهَّموا من مفهوم:{من تُدْخِلِ النارَ فقد أخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192]، وهي حكايةٌ حكاها الله تعالى من كلام أهل الإسلام وظاهرها في الكفار، لقوله عقيبها:{وما للظالمين من أنصارٍ} ، وقد قال تعالى:{والكافرون هم الظالمون} [البقرة: 254]. وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفسيرُ الظلمِ بالشرك في قوله: {ولم يَلبِسُوا إيمانهم بِظُلْمٍ} (3)[الأنعام: 82]، وقدمنا في ذلك من النظر العقلي، والآثار النبوية المفسَرة المفصلة، فكما أنها مقبولةٌ في العبادات التي نحنُ أحوجُ

(1) أخرجه أحمد 1/ 99 و159، والترمذي (2628)، وابن ماجه (2604)، وأبو يعلى (453)، وعبد بن حميد (87)، وصححه الحاكم 2/ 445، ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: حسن غريب.

(2)

" به " ساقطة من (ش).

(3)

انظر ص 187 من هذا الجزء.

ص: 299

إلى بيانها لنا إذا كانت من أعمالنا، فقبُولُها أولى في (1) أفعال الله في الآخرة التي يكفينا فيها الإيمان الجمليُّ (2) بأنه العدل، الحكيم، البَرُّ الصادق.

وأما قوله تعالى فيها: {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، فلا تردُّ مذهبَ أهل السنة، فيقال: إن صاحب الكبيرة غير آمنٍ في الدنيا بالإجماع، لأن المراد: لهم الأمن في وقتٍ مخصوصٍ في الآخرة، وأما في الدنيا، فلا أمنَ لأحدٍ فيها بالإجماع، لو لم يكن إلَاّ لجهل الخواتم.

ولقد خاف الذين بشَّرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، ونصَّ عليهم، مع أن الآية تحتمل أن لهم الأمن من مضرَّةِ شركائهم (3) لهم، كما دل عليه أول الآية، وقوله:

{فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إن لم يكن هذا مخالفاً لحديث ابن مسعود (4)، وفهمِ الصحابة، فيُنظر في ذلك.

فإن قيل: فإنه قَوِيَ بالنظر الي السياق، فكيف يدخل في الظالمين الذين لا ناصِرَ لهم من أعدَّ الله له أحب خلقه إليه شفيعاً، وكيف لا يُقْبَلُ البيان النبوي في ذلك والله يقول:{وما أَتَاكُمُ الرسولُ فخُذُوهُ وما نَهَاكُمْ عنه فانْتَهُوا} [الحشر: 7]، ويقول. {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" لا يأتي رجلٌ مُتْرَفٌ متكىءٌ على أريكته، يقول: لا أعرف إلَاّ هذا القرآن، ما أحلَّه أحللتُه، ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه "(5). ولم يقر الوعيديُّ في هذا إلَاّ مجرد الاشتراك في اسم الدخول، وليس ذلك يمنع من الافتراق العظيم بين الداخلين كالمحدودين، ألا ترى أن آدم صلوات الله عليه،

(1) في (ش): " من ".

(2)

في (ش): " بالجملة ".

(3)

في (ش): " شركائكم ".

(4)

تقدم تخريجه ص 187 من هذا الجزء.

(5)

أخرجه من حديث المقدام بن معد يكرب أحمد 4/ 131 و132، وأبو داود (4604)، وابن ماجه (12)، وحسنه الترمذي (2664)، وصححه ابن حبان (12)، والحاكم 1/ 109، ووافقه الذهبي.

ص: 300

والشيطان لعنه الله قد اشتركا في الخروج من الجنة بسبب الذنب، وإن كان بين الخارجَيْنِ ما بين السماء والأرض، مع الاشتراك في اسم الخروج؟

أما آدم، فقال الله تعالى:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 121 - 122]، ثم أخرجه خليفةً في الأرض مرضيّاً ورسولاً له سبحانه ونبيّاً، وجعل على إبليس لعنتُه إلى يوم الدين، وأقسم ليملأنَّ جهنم منه، وممَّن تَبِعَهُ أجمعين، فإياك أن تغترَّ بمجرد الاشتراك في بعض الأسماء، ألا ترى أن صاحب الصغيرة مشارِكٌ للكفار في اسم العاصي والغاوي ونحوهما؟ وإن كان متميِّزاً بغير ذلك. فكذلك عُصاة المسلمين متميِّزين عن المشركين بخُروجهم من النار، كما جاء في تفسير قولي تعالى:{رُبَما يَوَدُّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين} [الحجر: 2]، وذلك أنهم حين يرونهم معهم في النار يَشْمَتُون بهم، ويقولون:" ما نفعكم إسلامكم، فيخرجهم الله، فيودُّ الذين كفروا أنهم كانوا مسلمين "(1).

وقد سمَّى يوسفُ أخاه سارقاً لِغرض له، ولم يكن مُخزِياً له بذلك في الحقيقة والعاقبة، وإن كان ذلك خِزْياً لمن سُمِّيَ به حقيقة، ولم ينكشف خلافُ ذلك في العاقبة، وهذا الكلام كله في حقوق الله وتعالى بعد صحة التوحيد والسلامة من أنواع الكفر.

وأما حقوق المخلوقين، فقد روى البخاري في " المظالم "، وفي " الرقاق "(2)

(1) أخرجه الطبراني في " الأوسط "، وابن مردويه من حديث جابر مرفوعاً:" إن ناساً من أمتي يعذَّبون بذنوبهم، فيكونون في النار ما شاء الله أن يكونوا، ثم يعيّرهم أهل الشرك، فيقولون: ما نرى ما كنتم فيه من تصديقكم نفعَكُم! فلا يبقى موحِّدٌ إلَاّ أخرجه الله تعالى من النار "، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} .

وأورده السيوطي في " الدر المنثور " 5/ 62، وصحح إسناده، وقال الهيثمي في " المجمع " 10/ 379: رواه الطبراني في " الأوسط "، ورجاله رجال الصحيح غير بسام الصيرفي، وهو ثقة.

(2)

البخاري (2440) و (6535). وأخرجه أيضاً أحمد 3/ 13 و63 و74، وأبو يعلى =

ص: 301

من ثلات طُرُقٍ، عن قتادة، عن أبي المتوكِّل النَّاجي، واسمه علي بن دؤاد، عن أبي سعيد الخُدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال:" إذا خَلَصَ المؤمنون من النار، حُبِسُوا بقنطرةٍ بين الجنة والنار، فيَتَقاصُّون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا نُقُّوا وهُذِّبُوا، أُذِنَ لهم بدخول الجنة ".

وصرح قتادة بالسماع في رواية شيبان كما تقدم لشيبان مثل ذلك في حديث النجوى، وهذا يدل على تقدُّم شيبان بالإتقان لحديث قتادة كما قال يحيى بن معين: هو أحبُّ إلي في قتادة من معمر. وقال أحمد بن حنبل: هو ثبتٌ في كلِّ المشايخ، وقد جوّد ابن حجرٍ الثناء عليه في " مقدمة شرح البخاري "(1)، وأنه مُجْمَعٌ عليه، إلَاّ خلافاً مدفوعاً في حديثه عن الأعمش، وأما كون البخاري روى ذلك تعليقاً (2) عن يونس بن أحمد، عن شيبان، فهو بصيغة (3) الجزم، وقد أسنده ابن منده في كتاب " الإيمان "(4)، ذكره ابن حجر (5).

وفي هذا الحديث أعظم بُشرى، حيث لم يُخْزَوْا ويدخلوا النار بحقوق المخلوقين. وأما خُلوصهم من النار قبل ذلك، فيحتمل أنه المرور على الصراط كالورود، بل هو الظاهر، وأنه الخُلوص من خوفها، ولو كان منها لم يضرَّ، لكن يكون معناه بعض المؤمنين، لكن لا مُلجِىءَ إليه، لأن الخلاصَ من النار يُحتمل في اللُّغة أنه النَّجاة، كقول هِرقل: لو أعلم أني أخلُصُ إليه (6)، وأنه التَّميُّز، كقوله تعالى:{خَلَصُوا} [يوسف: 80]، أي: تميزوا من الناس متناجين، ومنه يوم الخلاص يوم يخرُجُ إلى الدَّجَّال من المدينة كلُّ منافقٍ ومنافقة، فيتميز المؤمنون منهم (7).

= (1186)، وابن حبان (7434)، والحاكم 2/ 354.

(1)

ص 410.

(2)

برقم (2440) في المظالم.

(3)

في (ف): " على صيغة ".

(4)

برقم (839).

(5)

في " الفتح " 5/ 96.

(6)

قطعة من حديث مطول رواه ابن عباس عن أبي سفيان، وقد تقدم غير مرة.

(7)

أخرج ابن ماجه (4077) في حديث مطوَّل عن أبي أمامة مرفوعاً: "إنه لا يبقى شيءٌ =

ص: 302