الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخامس: أنه مبنيٌّ على أن
عمومات الوعيد توجب تأويل خصوصيات الوعد
، وذلك عكس المعلوم في الأصول والفروع والمعقول والمسموع، وقد ذكر الفخر الرازي في كتاب " الأربعين " أن المعتزلة في هذه المسألة يحتجون بالعمومات، وأهل السنة بالنصوص الخاصة، وأن ذلك يكفي مرجِّحاً لمذهب أهل السنة فيها، والله سبحانه أعلم.
السادس: أن الله تعالى قد قال في شر الكفار المشركين: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 24]، وهي عند الجمهور من الفريقين في عذاب الدنيا، وقال:{لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 25]، يعني في الدنيا بالإجماع، فبطل وجوب عذاب المشركين في الدنيا، وكذا قوله تعالى:{وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ} [الرعد: 31]، يدلُّ على عدم وجوب عذاب المشركين فيها، وأنه مشروطٌ فوجب صرف قوله:{إن الله لا يغفر أن يشرك به} [النساء: 48]. وهذا واضحٌ.
السابع: أنا لو ساعدناه على قوله، لوجب صدق الوعيد في الدنيا، وقد علم أن الله لم يطمِسْ وجوه اليهود في الدنيا في عصر محمد صلى الله عليه وسلم، وقد زعم أن الله تعالى أراد ألا يغفر ذلك في الدنيا لهم، لأنه تعالى قال قبل الآية:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} [النساء: 47].
الثامن: أن ذلك لو كان كما زعم، لصدق، ولو صدق مستمراً، لبطلَ التكليف، وعدم الكفر بالقهر، وقد أشار الله تعالى إلى عكس ذلك في قوله تعالى:{وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} [الزخرف: 33].
التاسع: أنه يلزم الرجاء لهم في الآخرة لجواز إضمار قيدٍ أو شرطٍ مثل ذلك في كلِّ وعيدٍ.
العاشر: يلزم أن يكون مفهومُ الآية أن عذابهم في الآخرة جائزٌ، لا واجب، والمفهوم أخصُّ من عمومات الوعيد، أو معارض، فيبطل كونها قاطعة.
فإن قلت: ما منع الشيخ محموداً من القول بأن آخر (1) الآية هو الذي يختصُّ بأحكام الدنيا، ليخرج بذلك من هذه الإشكالات؟
قلت: منعه من ذلك أمورٌ أربعةٌ، منها: ثلاثةٌ قد تقدمت، وهي الثالث والرابع والخامس كما تقدم قريباً.
ومنها -وهو الحجة الواضحة- أن ذلك يؤدي إلى عدم الفرق بين الشرك وما هو دونه من الكبائر، وهو عنادٌ كما مضى، وذلك لأن الله لا يغفر ما دونه منها عند الخصم في الآخرة، ويغفر الشِّرْكَ في الدنيا لمن بشاء بالنَّصِّ، والوفاق قبل خلاف المخالف، أي: يؤخِّرُ عقوبته كما قرره الخصم، وكلامه مبسوطٌ في " التمهيد ". يتَّضح منه ما ذكرته عنه، والحمد لله.
فهذه جملة صالحة في جمهور ما يحتج به الوعيدية، والإرشاد في كيفية الجواب عليهم، أو المعارضة والتَّقصِّي لكل ما يمكن أن يحتجوا به، أو يُوردوه من الأسئلة. مما يُمِلُّ ولا ينفع البليدَ إذ قد يَرِدُ عليه ما لا يعرفه، ولو لم يكن إلا (2) مجرد المنع من الحجة الواضحة، أو تغيير العبارات، فإن البليد إذا غيرت عليه العبارة، ظن أن الحجة قد تغيَّرت، فأمَّا الفطينُ، فأقل من هذا ينفعه، لأنه يتنبه بالشيء على أمثاله، ويفتح له في كل باب أبواباً، وما أوتي أحدٌ خيراً من الفهم، والمواهب الرَّبَّانيَّة فيه لا تقف على حدٍّ، فمن لم يفهم، يسألُ الله أن يفتح عليه باب الفَهْمِ، ويداومُ المسألة والتضرع في أوقات الإجابة والرِّقَّة، فإنه سبحانه كما قال:{وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [هود: 123]، وكما قال:{وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان: 31].
(1) في (ف): " أجر "، وهو تصحيف.
(2)
" إلا " ساقطة من (ف).