الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مع التعمد (1) إلى العدوان وغيره إلى القصاص والحدود، وما تقدم، ولم يُقَيَّدْ بذلك في تلك الآية، لأن قتل الكافر للمؤمن مع التعمد لا يخلو عن العدوان، ولا ينفَكُّ عنه، ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً والله أعلم.
فإن قيل: إنما أوَّلُ الآيات في قتل المؤمن للمؤمن خطأ، وآخرها في قتله (2) عمداً، فهو قسيمه، لا ما ذكرتم.
قلنا: هذا مبنيٌّ على أن الاستثناء متصلٌ في قوله: {إِلَّا خَطَأً} وهو ممنوعٌ لأن قتل الخطأ غير موصوف بالإباحة والحل، فلذلك شُرعت له الكفارة، وسماه الله تعالى توبةً منه على المخطىء (3)، ومتى لم يبق في الخطأ شيء من التقصير البتة، لم يوصف بحظرٍ ولا إباحةٍ، لأنهما من صفات الأفعال الاختيارية، وحينئذٍ تكون الكفارة تعبُّداً محضاً، لكن الله تعالى أعلم وأحكم، والظاهر أنه علم أن المخطىء لا يخلو من تقصيرٍ، حيث شرع الكفارة وسمَّاها توبةً منه، سبحانه على عباده فلله الحمد كثيراً، وبكلِّ حالٍ فلا برهان ينتهض للقطع بامتناع تخصيص المسلم من وعيد الخلود في هذه الآية، كما لم يمتنع تخصيص غيره ممَّن قدمنا، والوقف في أحكام الآخرة أولى بالمتحرِّي في عذاب القاتل وخلوده، لتعارض الأدلة القرآنية، وما ورد من التشديد في الأحاديث النبوية وحديث:" كل ذنب عسى الله أن يغفره، إلَاّ الشرك بالله وقتل المؤمن " وقد تقدَّم (4)، وعدم النص عليه في أحاديث الشفاعة، وعدم الحاجة إلى تعجيل المفصل (5) فيه قبل يوم الفصل والله أعلم.
خاتمة: وهي من وصايا حُذَّاق العلماء المجرِّبين لجدال المبطلين
، وذلك أنهم كثيراً ما يمنعون من (6) أدلة المحقين، ويشوِّشُون فيها وإن تجلت، فيعسر
(1) في (ش): " العمد ".
(2)
" في قتله " ساقطة من (ش).
(3)
من قوله: " لأن " إلى هنا ساقطة من (ش).
(4)
ص 30.
(5)
ساقطة من (ش).
(6)
ليست في (د) و (ف).
علاجهم (1) في هذا المقام مع اعتمادهم على ما هو دونها فيما يحتاجون إلى إثباته، فليعتمد المجادل لهم المُحِقُّ على معارضتهم بذلك، وسبقهم إليه، فلا يسند على المعاند (2) منهم، ويمتنع (3) من تسليم صحة الشُّبه التي يحتج بها، فيكون بذلك أولى منهم، وهذا حين اليأس من التناصف وظهور قرائن التعسُّف، وإن ظن الإنصاف استدل فأفاد واستفاد، ورَجَعَ ورُجِعَ إليه، هذا على أن المعتزلة قد أوجبوا على الله تعالى أن يُعِدَّ للقاتل المتعمد وسائر الظلمة من أعواضهم على الآلام في الدنيا وعلى المصائب ما يقضي عنهم حقوق المخلوقين في الآخرة ويقوم بذلك، وقطعوا على أنه يَقْبُحُ من الله أن يُميت ظالماً قاتلاً أو غيره كافراً أو مسلماً إلَاّ وقد عوَّضه من بلاويه بما يُرضي جميع خصومه، ويُوَفِّي بجميع ما عليه، فعلى قاعدتهم هذه يجب أن يأمن جميع الظلمة الجبارين، وقتلة الأولياء من المؤمنين العذاب على شيءٍ من حقوق المخلوقين، وإنما عُذِّبُوا في الآخرة في حق أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، كأنهم لم يسمعوا قول الله تعالى:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَاد} [غافر: 51] إلى غير ذلك من الآيات التي سقتُها في سبب ترجيح العقاب على العفو في الآخرة في حقِّ من حَقَّ عليه العذاب أو الخلود، وقولهم هذا عكس ما عُلِمَ من الدين من أن أعظم الخوف من حقوق المخلوقين، فكيف ساغ لهم لأنظارٍ عقليةٍ لا يدرون تُخطىء أم تُصيب القطع أنه لا يسوغ لغيرهم التجويز فكان قطعهم، مع بقاء الخوف في الدارين أن يُعِدَّ الله للمسلم دون الكافر فيما يختص بحق الله الغني الحميد دون حقِّ العباد وما يُكَفِّرُ ذنبه العظيم أو يدخله في واسع رحمة أرحم الراحمين الذي لا يتعاظمه عظيمٌ بعد الانتصاف للمظلوم، وانحسام موادِّ المفاسد هنالك في عفو الحي القيوم، لما ورد في ذلك من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلف هذه الأمة، أليس تجويز ذلك في فضلِ الله من غير تقبيح خلافه أيسر من إيجاب ما أوجبوه على الله تعالى وأمَّنوا فيه
(1) في (ش): " على الخصم ".
(2)
في (ف): " المعارض ".
(3)
في (ش): " ويمنع ".
الظَّلَمَةَ والكَفَرَة من عذاب الله، ولم يأتوا عليه بأثارةٍ من علمٍ من كتاب الله ولا من سُنَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من أحدٍ من سلف هذه الأمة، المجمع على فضلهم ونبلهم، وعلى قيامهم بحق علوم الإسلام من قبلهم.
فإن قيل: أين موضع التشنيع عليهم بالترخيص، وقد أوجبوا خلود القاتل في النار؟
قلت: موضعه أنهم عكسوا المعلوم في ذلك بالقرائن الضرورية، وذلك أن سبب الوعيد العظيم في هذا الذنب هو حق المؤمن، والتعدي في احترامه، لا مجرد مخالفة أمر الله الذي غَفَرَه الله في الصغائر، فجعلوا العذاب العظيم فيه لا في مقابلة ما عظَّمه الله تعالى من حق المؤمن، وأهل السنة عظَّموا حق المؤمن، ومنعوا الرجاء فيه وجعلوا العقاب عليه، وجعلوا تجويز الرجاء في حق الغني الحميد لنصوص خاصة، فقصدوا الجمع بين الإيمان بالجميع سبيل تقديم الخاص لأنه أبينُ، وتقديمه القاعدة المستمرة عند علماء الإسلام في مثل هذا.
تكميل: أما الأحاديث التي يحتج بها المعتزلة على خلود أهل الكبائر، فهي كلها في القتل، وهي بصيغة العموم، كلها كالآية سواء، وهي كلها عن أبي هريرة، وكثيرٌ منهم يقدَحُ فيه، ومن لا يقدح فيه يوثق من يقدح فيه منهم، والكلامُ فيهما واحد، إلَاّ حديث علي عليه السلام في أهل السرية الذين أمرهم أميرهم بدخول النار، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:" لو دخلوها ما خرجوا منها " فإن الصحيح فيه كما يقدم أنه قال: " ما خرجوا منها إلى يومِ القيامة ". رواه البخاري ومسلم والنسائي (1)، وذكره ابن الأثير في الغَزَوات (2)، ورُوِيَ:" ما خرجوا منها أبداً "(3) ولكن تلك الزيادة صحيحة، وهي مبينةٌ مفسرة واجبٌ قبولها، ولا قائل أيضاً بتأبيد عذاب البرزخ لتوسُّط يوم القيامة وهو خمسون ألف سنة، ولهذا (4)
(1) تقدم تخريجه ص 63.
(2)
" جامع الأصول " 8/ 415 - 416.
(3)
لفظ البخاري (7145).
(4)
في (ف): " ولها ".
شاهد حسن، وهو حديث أبي مُوَيْهِبَةَ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله خَيَّرني في مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة ولقاء ربي، فاخترت لقاء ربي "(1). رواه ابن عبد البر في " التمهيد " وفي " الاستيعاب "(2) وقال: إنه حديث حسن، ورواه قاسم بن أصبغ.
وذكر الذهبي في ترجمته من " التذكرة "(3) أن له صحيحاً على هيئة " صحيح مسلم ".
ورواة الوعيد في قتل المرء لنفسه جماعة لم يذكر الخلود منهم فيه إلَاّ أبو هريرة، وكثيرٌ من المعتزلة لم (4) تحتج بذلك، وتقدم في أبي هريرة فاعرف ذلك.
بل هذا كله مستندٌ إلى الاستثناء الوارد في كتاب الله تعالى كما تقدم في قوله: {إلَاّ ما شاء الله} [الأنعام: 128] وتعقيبه بقوله: {إن ربك فَعَّالٌ لما يريدُ} [هود: 107]، وما ثبت في الكتاب والسنة من أن الاستثناء في الخير للزيادة، ولذلك قال بعد ذلك في الجنة:{عَطاءً غير مجذودٍ} [هود: 108]، وفي الشر للنقصان، وقد تقدم ما ورد في ذلك من الأحاديث الصحيحة الكثيرة، ووعيدُ
(1) إسناده ضعيف، وفي سنده عبيد الله بن عمر العَبَلي لم يوثقه غير ابن حبان 7/ 36، ولم يرو عنه غير ابن إسحاق، وشيخه فيه عبيد بن جبير مثله، لم يوثقه غير ابن حبان 5/ 135.
وأبو مويهبة -ويقال: أبو موهبة، وأبو موهوبة-، وهو قول الواقدي، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال البلاذري: كان من مُوَلَّدي مزينة وشهد غزوة المريسيع، وكان ممن يقود لعائشة جملها.
وأخرجه ابن إسحاق كما في " السيرة " 4/ 291 ومن طريقه أحمد 3/ 489، والدارمي 1/ 36 - 37، والدولابي 1/ 57 - 58، والبزار (863)، والطبراني (22/ (871)، والحاكم 3/ 55 - 56، وابن الأثير في " أسد الغابة " 6/ 309.
وأخرجه أحمد 3/ 488، والطبراني 11/ (872) من طريقين عن الحكم بن فضيل، عن يعلى بن عطاء، عن عبيد بن حنين، عن أبي مويهبة. والحكم بن فضيل واهٍ كما قال الذهبي في " الميزان ". ومع ذلك فقد صححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وحسنه ابن عبد البر في " الاستيعاب " 4/ 179!!
(2)
4/ 179.
(3)
3/ 853.
(4)
ساقطة من (د) و (ف).
القاتل المسلم يحتمل مثل هذا كما ورد في وعيد تارك الزكاة (1)، بدليل عموم أحاديث الشفاعة وخصوص حديث جابرٍ في المهاجرٍ الذي قتل نفسه، فيغفرُ الله له بهجرته. رواه مسلم (2).
ويعضُدُه قوله: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 100] وحديثُ الذي أوجب النار بالقتل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أعْتِقوا عنه يعتِق الله بكلِّ عضوٍ من النار عضواً منه " كما مرَّ (3). رواه أبو داود والنسائي وأحمد من حديث واثلة، واللفظ لأبي داود والنسائي.
ويعضده أحاديث فضل العتق الصحيحة الشهيرة وقوله: {إن الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} [هود: 114] وما في معناها من كتاب الله، وقد تقدم.
وأما حديث: " لو بَلَغْتِ معهم الكُدَى " فضعيفٌ. رواه أحمد وأبو داود (4) من حديث ربيعة بن سيفٍ المعافري المصري، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: بينما نحن نمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نظر بامرأةٍ لا تَظُنُّ أنه عَرَفَها (5)، فلما توسَّط الطريق وقف حتى انتهت إليه، فقال:" ما أخرجَكِ من بيتك يا فاطمة " قالت: أتيتُ أهل هذا البيت فرَحَّمْتُ إليهم (6) ميتهم وعزَّيْتُهم، قال:" لَعَلَّك بلَغْتِ معهم الكدا "(7) قالت: معاذ الله أن أكون
(1) تقدم تخريجه ص 10.
(2)
تقدم تخريجه ص 38.
(3)
تقدم تخريجه ص 37.
(4)
أخرجه أحمد 2/ 169، وأبو داود (3123)، والنسائي 4/ 27، وابن عبد الحكيم في " فتوح مصر " ص 259، وابن حبان (3177)، والحاكم 1/ 373 - 374، والبيهقي 4/ 60 و77 - 78 من طرق عن ربيعة بن سيف المعافري به.
(5)
كذا في النسائي، وفي أبي داود:" قال: أظنه عرفها ".
(6)
في (ش): " لهم ".
(7)
جمع كُدية، وهي الأرض الصلبة، وسمي به المقابر، لأن مقابرهم كانت في مواضع صلبة من الأرض.
بلغتُها معهم، وقد سمعتُكَ تذكُرُ في ذلك ما تذكُرُ، قال:" لو بَلَغْتِها ما رأيتِ الجنة حتى يراها جَدُّ أبيك " هذا حديث منكرٌ تفرَّدَ به ربيعةُ، قال البخاري، وابن يونس: عنده مناكير، وضعَّفه الحافظ عبد الحق الأزدي عندما رَوَى له هذا، وقال ابن حبان: لا يتابع ربيعة على هذا (1)، ولم يُخَرِّجْ له أحدٌ من أهل الصحيح لا البخاري ولا مسلم، وأما النسائي والدارقطني فجعلاه حَسَنَ الحديث (2).
قلت: حسن الحديث هو الذي لا يحتمل التفرد (3) بالمنكرات، وإنما أراد في غير هذا الحديث، فأما في هذا فقد خالف مما تواتر من أحاديث الشفاعة في خروج الموحدين، وخالف الحديث الصحيح عن أم عطية: نُهينا عن اتِّباع الجنائز، ولم يُعْزَمْ علينا، متفق على صحته (4).
ولحديث الكُدا مُعارِضٌ في " مسند أحمد " فيه أنه صلى الله عليه وسلم قبرَ بنتَه رُقيةَ وفاطمةُ واقفة (5) على شفيرِ القبرِ تبكي. رواه أحمدُ (6) من حديث علي بن زيد، عن بوسف بن مهران، عن ابن عباس.
وعلي بن زيد أحد علماء التابعين والشيعة الصادقين، خَرَّجَ له مسلم (7)
(1) هذا النقل عن ابن حبان استريب في صحته، فلم يذكره عنه أحد غير الذهبي، ولم أجده في " المجروحين والضعفاء " له، وقد ذكره في " الثقات " 6/ 301، وقال: كان يخطىء كثيراً، ومع ذلك، فقد أخرج حديثه في " صحيحه "(3177).
(2)
قلت: نقل صاحب التهذيب عن النسائي قوله: لا بأس به، ولكنه ضعفه بإثر حديثه هذا في " سننه ".
(3)
في (ف): " لا ينفرد ".
(4)
أخرجه البخاري (1278)، ومسلم (938)، وأبو داود (3167).
(5)
في الأصل بياض، والمثبت من " المسند ".
(6)
1/ 335 وعلي بن زيد بن جدعان ضعيف، ويوسف بن مهران فيه لين.
(7)
لم يخرج له مسلم في الأصول، بل أخرج له حديثاًً واحداً برقم (1789) مقروناً بثابت البناني. ثم هو ضعيف ضعفه حماد بن زيد، ويحيى القطان، وأحمد، وابن معين، والبجلي، وقال البخاري وأبو حاتم: لا يحتج به، وقال ابن خزيمة: لا أحتج به لسوء حفظه.
والأربعة، وقال الترمذي: صدوقٌ، وأنكر الذهبي (1) شهود فاطمة القبر، وما أظنه إلا لحديث ربيعة بن سيف (2)، وعليٌّ أوثق منه، فكيف تُنْكَرُ مخالفته له؟
وكذلك حديث حذيفة بن اليمان: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يدخل الجنة قتات "(3) عمومٌ مخصوصٌ بقوله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48] وبأحاديث الشفاعة، وهي نصوصٌ متواترةٌ، وقد أجمعنا على تخصيصه (4) بالتوبة فيه والإسلام بعد الكفر، لكونهما (5) أخص منه، فكذلك سائر المخصصات. وإذا صَحَّ تخصيصه بهما قبل أن يخصَّ بغيرهما، صح بعده بهما أولى، لأن العام بعد أن يُخَصَّ أضعف منه قبل ذلك، وأقبل للتخصيص (6).
وقد أجمعنا على تخصيص: {ولن يَتَمَنَّوْهُ أبداً} [البقرة: 95] بقولهم: {يا مالك لِيَقْضِ علينا ربُّك} [الزخرف: 77] مع تأكيده بالتأبيد ودعوى الخصم أن " لن " أقوى في النفي من " لا "، وكذلك:{يا ليتنا نُرَدُّ} [الأنعام: 27]، {يا ليتها كانت القاضية} [الحاقة: 27]، ونحو ذلك، وقد فسر ذلك ونحوه بأنه لا يدخل الجنة مع أهلها حين يدخلونها، فيكون من الجمع لا من التخصيص مع أن التخصيص نوع جمع، ولو سَلِمَ فيه المعارضة وجب ترجيح القرآن والسنة المتواترة عليه، أعني قوله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك
(1) في " الميزان " 3/ 129 في ترجمته.
(2)
تحريف في (ش) إلى: " يوسف "، قلت: وليس كما قال المصنف رحمه الله، فالذهبي عدَّ هذا الحديث في منكرات علي بن زيد، لاتفاقهم على ضعفه وعدم الاحتجاج بما ينفرد به.
(3)
أخرجه البخاري (6056)، ومسلم (105)، وأبو داود (4771)، والترمذي (6026). والقَتَّات: النمَّام، وهو الذي ينقل الحديث بين الناس ليوقع بينهم.
(4)
في (ش): " تخصيصها ".
(5)
في (ش): " لكونها ".
(6)
قوله: " وأقبل للتخصيص " ساقط من (ف).
لمن يشاء} وأحاديث الشفاعة، فإنه آحاديٌّ من رواية همَّام وشقيق عن حُذيفة، خرَّجاه.
وعلى تقدير صحة أحاديث خلود القاتل المؤمن وعدم المعارض وعدم التأويل، فلا يصح قياس شيءٍ من الكبائر عليه، لأن شرط القياس الظني مساواة الفرع للأصل، وليس فيها ما يُساويه في الإثم لِمَا وَرَدَ فيه من التشديد في القرآن والأحاديث الصحاح وغيرها. وهذا ليس موضعاً للقياس القطعي لو كان يسلمُ وجودُه، كيف وهو ممتنعُ الوجود.
ومن ذلك -وهو الثاني من أدلة الوعيد- قوله تعالى في الفرقان بعد ذكر الشرك وقتل النفس والزنى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 68 - 69]، والجواب عنها من وجوه:
الأول: أنها نزلت في مشركي قريش كما هو ثابتٌ في البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عباس (1).
الثاني: أن قوله تعالى ذلك راجعٌ إلى جميع ما تقدَّم، ومنه الشرك بالله تعالى، يدل عليه أنه لو قال: ومن يفعل بعض ذلك، دل على مقصود الخصوم بغير شك، فكان في قوله ذلك ما يدل على نقيض مقصودهم، ألا تراه قال:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُون} ، ولم يقل: والذين لا يقتلون، والذين لا يزنون كما يقول في كثيرٍ من آيات الوعد بالثواب، ولا نص على التبعيض هنا كنصه حيث قال:{ومن يعمل من الصالحات} ونحوها كما نُوضِّحه.
الوجه الثالث: وهو قوله تعالى: {إلا من تاب وآمن} [الفرقان: 70] بواو الجمع، فإنها تدل على أنها في المشركين، لأن المؤمنين لا يقال فيهم:{إلَاّ من تاب وآمن} ، ومثلها في سورة مريم [60]، وفي سورة طه [82]:
(1) أخرجه البخاري (3855) و (4765) و (4766)، ومسلم (3023)، وأبو داود (4273) و (4274).
{وإني لَغَفَّارٌ لمن تاب وآمن} ، وهذه كلها في المشركين، وكذا قوله:{وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له} [الزمر: 54]، من بعد قوله:{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] يدل على أنها نزلت فيهم، وأنهم المرادون بهذا الأمر بعدها، فلو أراد الجميع لقال في هذه الآيات: إلَاّ من تاب أو آمن.
ومن ذلك -وهو الثالث من أدلتهم- قوله تعالى في الحجرات [2]: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُون} وفيها حجةٌ للجميع على المرجئة إن سَلَّموا أن ذلك ليس بكفر ولا يؤول إلى الكفر، لتضمُّنِه الاستهانة برسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قد صح أن الآية لم تنزل فيمن هو جهوريٌّ الصوت خِلقةً لا اختيار له فيها، فروى موسى بن أنس، عن أنس بن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيسٍ، فقال رجل: أنا أعلم لك علمه، فوجده جالساً في بيته منكّساً رأسه، فقال: ما شأنك؟ قال: شَرٌّ، من كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم فقد حَبِطَ عمله، وهو من أهل النار، فأتى الرجل، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فرجع المرة الثانية ببشارةٍ عظيمةٍ، فقال:" اذهب إليه فقل له: إنك لست من أهل النار، ولكن من أهل الجنة " رواه البخاري وحده في علامات النبوة، وفي التفسير عن ابن المديني، عن أزهر بن سعد، عن ابن عون، عن موسى (1).
فإن قيل: في هذا فَهِمَ ثابتٌ لما فهمته المعتزلة من ظاهر الآية، وهو حجةٌ، لأنه (2) عربي.
قلنا: لا يصح ذلك مع بطلان ما فهمه بالنص النبوي الموافق لما فهمه أهل السنة، وقد يَغْلَطُ العربي في فهمه كما غَلِطَ عدي بن حاتم في الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وقال له صلى الله عليه وسلم:" إنك لعريض القفا "(3).
(1) تقدم تخريجه.
(2)
في (ف): "وهو".
(3)
أخرجه البخاري (1916) و (4509) و (4510)، ومسلم (1090)، والترمذي =
وغَلِطَ عمر في قوله تعالى: {إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} [التوبة: 80](1)، فالعربي حجةٌ ما لم يَتَّضِحْ غَلَطُه.
وقد قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: أو فَهْمٌ أُوتيه أحدٌ (2).
ونصَّ القرآن (3) على تفضيل سليمان على أبيه داود في الفهم.
وأما احتجاج المعتزلة بها على أهل السنة على أن الكبائر بمنزلة الشرك في الإحباط، وأن ذلك مستلزم الخلود، وقُبح العفو من الله، فمردودٌ لوجوه:
الأول: ما ذكرنا من جواز أن الإحباط بسبب تجويز الوقوع في الكفر بسبب الاستهانة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أجل أن ذلك قد يؤدي إليها على جهة التجويز جاء بأن المصدرية التي للتخويف، أي: مخافَةَ أن تحبط أعمالكم، ولو كان ذلك استهانةً محضة أو كانت الاستهانة لازمةً له ولا بد، لما جاء بهذه الصيغة.
الوجه الثاني: أنه فرقٌ واضح بين أن يقول: تحبط من غير إدخال " أن " المصدرية، ويكون مجزوماً في إعرابه، تقديره: إن تفعلوا ذلك تَحْبَطْ أعمالكم، وبين إدخال " أن " المصدرية، ولا شك أن الصورة الأُولى تدل على الإحباط وأن دخول " أن " قد غيَّرَ معناها إلى معنى التخويف الذي قد يقع وقد لا يقع. يوضحه ما في " صحيح البخاري " عن ابن أبي مُليكة عن عبد الله بن الزبير أنها نزلت في أبي بكرٍ، وعمر وأنهما كادا يَهْلِكان. رواه البخاري في
= (2970)، وأبو داود (2349)، والنسائي 4/ 148.
(1)
أخرجه البخاري (1269) و (4670) و (4672) و (5796)، ومسلم (2400) و (2774)، والنسائي 4/ 67 - 68، والترمذي (3098).
(2)
ولفظه: " عن أبي جُحيفة قلتُ لعليٍّ: هل عندكم كتابٌ؟ قال: لا إلَاّ كتاب الله أو فهمٌ أعطيه رجلٌ مسلم، أو ما في هذه الصحيفة
…
" أخرجه البخاري (111) و (1870) و (3047) و (3172) و (3179) و (6755) و (6903) و (6915) و (7300)، والترمذي (1412)، والنسائي 8/ 23، وابن ماجه (2658).
(3)
في قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79].
" المغازي "، والترمذي، والنسائي في " التفسير " (1). فهي في التخويف مثل قوله تعالى:{أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 73]، وقوله:{أن تُرَدُّ أيمانٌ بعد أيمانهم} [المائدة: 108].
الوجه الثالث: أنا لو سَلَّمنا دلالة ذلك على أن في ذنوب المسلمين ما يُحْبِطُ العمل لم يستلزم أن الإحباط يستلزم الخلود، وقبح العفو من الله، لأنه لا مانع من أن يَحْبَطَ عمل العبد ويدخل الجنة برحمة الله تعالى فقد دخلها الصبيان بغير عمل، ويخلق الله لفضول الجنة خلقاً لم يعملوا، ولم يُكَلَّفُوا، كما ثبت في البخاري وغيره (2).
وقد جاء في الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: " اللهم إني أعوذ بك أن أكسِبَ خطيئةً مُحبطةً أو ذنباً لا يُغْفَرُ " ففرَّق بين الخطيئة المحبطة، وبين الذنب الذي لا يُغفر. رواه أحمد والحاكم من حديث زيد بن ثابت (3).
وكذلك بَيَّنَ الله تعالى في قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين} [المائدة: 5] أن الخسران في الآخرة أمرٌ غير
(1) البخاري (4367) و (4845) و (4847) و (7302)، والترمذي (3266)، والنسائي 8/ 226 وفي التفسير من " الكبرى " كما في " التحفة " 4/ 324.
(2)
أخرجه البخاري (7384)، ومسلم (2848) من حديث أنس، والبخاري (4850)، ومسلم (2646) من حديث أبي هريرة.
(3)
أخرجه أحمد 5/ 191، والطبراني (4803)، والحاكم 1/ 516 - 517 من طريق أبي بكر بن أبي مريم، عن ضمرة بن حبيب، عن أبي الدرداء، عن زيد بن ثابت، وصححه الحاكم، وتعقبه الذهبي بقوله: أبو بكر ضعيف فأين الصحة.
وأخرجه الطبراني (4932) من طريق عبد الله بن صالح، حدثني معاوية بن صالح، عن ضمرة بن حبيب، عن زيد بن ثابت. وعبد الله كاتب الليث في حفظه شيء، وباقي رجاله ثقات.
وذكره الهيثمي في " المجمع " 10/ 113 وقال: رواه أحمد والطبراني، وأحد إسنادي الطبراني رجاله وُثِّقُوا، وفي بقية الأسانيد أبو بكر بن أبي مريم، وهو ضعيف.
الإحباط، والظاهر في الذنب الذي لا يُغفر أنه الشرك، لقوله تعالى:{إن الله لا يغفر أن يُشرك به} [النساء: 48 و116]، وقد خرَّج الحاكم ما يدل على ذلك نصاً صريحاً في تفسير قوله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يُتَقَبَّلُ (1) عَنْهُمْ أَحْسَنُ مَا عَمِلُوا وَيُتَجَاوَزُ (1) عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُون} [الأحقاف: 16]. كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وفيه عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله قضى أن يُؤتى بحسنات العبد وبسيئاته، ويُقَصُّ بعضُها ببعض، فإن بقيت حسنةٌ، وسَّعَ الله له في الجنة ما شاء، وإن لم يبق له شيءٌ فـ {أولئك الذين يُتَقَبَّلُ عنهم أحسنُ ما عَمِلُوا، ويُتجاوزُ عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يُوعَدُونَ} قال الحاكم: صحيح الإسناد (2).
فهؤلاء الذين لم يبق لهم من حسناتهم هم الذين حبطت أعمالهم (3)، فلم يمنع ذلك من تدارُكِ رحمة الله تعالى الواسعة لهم، وفيه دِلالةٌ على أنه يجوز أن يحبط عملُ المؤمن بذنوبه ثم تُدركه الرحمة والحمد لله.
وأما حديثُ سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعاً: "رُبَّ صائمٍ حَظُّه من
(1) كذا الأصول: " يُتَقَبَّلُ ويُتَجاوز " بالياء المضمومة فيهما، و" أحسن " رفع على ما لم يسم فاعله، وهي قراءه ابن كثير، وأبي عمرو، وابن عامر، ونافع، وأبي بكر عن عاصم. وقرأ حمزه والكسائي وحفص عن عاصم:" نتقبل " و" نتجاوز " بالنون فيهما ونصب (أحسن). انظر " حجة القراءات " ص 664، و" زاد المسير " 7/ 379.
(2)
أخرجه البخاري في " تاريخه " 7/ 113، والطبري في " تفسيره " 26/ 18، والحاكم 4/ 252، والدولابي في " الكنى " 2/ 152 من طريق الحكم بن أبان، عن الغطريف، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس. ورجاله ثقات غير الغطريف، فلم يوثقه غير ابن حبان 7/ 313 - 314، ولم يرو عنه غير الحكم.
وذكره ابن كثير في " تفسيره " 7/ 265 - 266 وساق إسناد ابن أبي حاتم له، وقال: وهو حديث غريب، وإسناده جيد لا بأس به.
(3)
في (د) و (ف) وفوقها في (ش): " حسناتهم ".
صيامه الجوعُ والعطش، وربَّ قائمٍ حظه من قيامه السهر" رواه أحمد والنسائي وابن ماجه. فرواه مرةً أحمد (1) من طريق عمرو بن أبي عمر، وعن سعيد وقد كان أحمد يُوثقه، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والعجلي، لكن ضعَّفه ابن معين والنسائي، وأبو داود، وعثمان الدارمي (2)، ورواه النسائي وابن ماجه (3) من طريق أُسامة بن زيد الليثي، عن سعيد، وأسامة مختلفٌ فيه كذلك، ثم سعيد المقبري مختلفٌ فيه، وقد اضطرب في هذا الحديث، فرواه النسائي عنه موقوفاً ومرفوعاً، ومرةً عن أبي هريرة، ومرةً عن أبيه، عن أبي هريرة (4)، وعلى تسليم صحته فهو محتملٌ أنه في المُرائي، وفي غير أهل الإسلام احتمالاً بيناً، ويعارضه في أهل الإسلام ما لا يحصى مثل آية الخالطين [التوبة: 102]، وأن الحسنات يذهبن السيئات وما سيأتي.
وأما ما رواه البخاري والنسائي (5)، عن أبي المَليح، عن بُريدة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من ترك العصر فقد حَبِطَ عمله "، فتفرد به البخاري دون مسلم، لأجل يحيى بن أبي كثير وتدليسه، والخلاف فيه مع اضطرابٍ وقع في القصة، فروي أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفرٍ في يوم غيم فقال:" بَكِّرُوا بالصلاة (6) في يوم الغيم، فإنه من ترك العصر، فقد حَبِطَ عملُه " وروي عن أبي المليح أنهم كانوا مع بُريدة في سفرٍ في يوم غيم فقال ذلك لهم، لأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول الحديث، وإن صح ففي مسلم من طريقين عن جابر أن ترك الصلاة
(1) 2/ 273، والدارمي 2/ 301، والحاكم 1/ 431 وإسناده حسن، وصححه الحاكم على شرط البخاري، ووافقه الذهبي.
(2)
انظر " التهذيب " 8/ 82 - 84.
(3)
النسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " 9/ 469، وابن ماجه (1690)، وأحمد 2/ 441، وقال البوصيري في " مصباح الزجاجة " 2/ 18: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات!
(4)
انظر " تحفة الأشراف ": 9/ 469 و10/ 300.
(5)
البخاري (553) و (594)، والنسائي 1/ 236.
(6)
في (ش): " في الصلاة ".
كفر، وشواهده كثيرة، والقول بكفر تارك الصلاة شهيرٌ في الحديث، رواه الجماعة إلَاّ البخاري عن جابر مرفوعاً (1)، والأربعة، وأحمد عن بريدة مرفوعاً (2) والترمذي (3)، عن الصحابة موقوفاً من طريق عبد الله بن شقيق، والنووي في " شرح مسلم "(4) عن علي عليه السلام موقوفاً، وروى أحمد عن ابن عمرو عنه صلى الله عليه وسلم:" أن تاركها يُبْعَثُ مع قارون وفرعون وأُبيّ بن خلف "(5) وهو الحديث الرابع عشر بعد المئة من (6) مسند عبد الله بن عمرو من " جامع المسانيد "، وفي صحته نظر، لأنه من رواية سعيد يحتمل أنه ابن بشير، وله معارِضٌ بل معارضات.
أما إطلاق الكفر عليه، فصحيحٌ، ولكنه يحتمل كُفراً دون كُفرٍ، ودَلَّت على هذا دلائل منها حديث عُبادة عنه صلى الله عليه وسلم:" ومن لم يحافظ عليها فليس له عند الله عهدٌ إن شاء عذَّبه وإن شاء غفر له ". رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة (7)، وصَحَّحَه ابن كثير.
وخرَّج البخاري ومسلم عن عبادة: " من قال: أشهد أن لا إله إلَاّ الله -الحديث- أدخله الله الجنة على ما كان من العمل "(8). وخرَّجا من حديث أبي
(1) أخرجه مسلم (82)، وأبو داود (4678)، والترمذي (2618) و (2619) و (2620)، والنسائي 1/ 232، وابن ماجه (1078).
(2)
أخرجه الترمذي (2621)، والنسائي 1/ 231 - 232، وابن ماجه (1079)، وأحمد 5/ 346 و355، وليس هو في " سنن أبي داود " فقول المؤلف " والأربعة " من باب التغليب.
(3)
برقم (2622)، وابن أبي شيبة 11/ 49، وإسناده صحيح.
(4)
2/ 70.
(5)
تقدم تخريجه.
(6)
في (ف): " في ".
(7)
حديث صحيح. أخرجه مالك 1/ 123، وأحمد 5/ 315 و317 و319 و322، وأبو داود (425) و (1420)، والنسائي 1/ 230، وابن ماجه (1401). وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان "(1731) و (1732).
(8)
البخاري (3435)، ومسلم (28). وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان "(202) و (207).
موسى: " من صلَّى البَرْدَيْن، دخل الجنة "(1) وعن عُمارة بن رُوَيْبَة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لن يلج النارَ أحدٌ صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها " -يعني الفجر والعصر- فقال له رجل من أهل البصرة: أنت سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم، قال: وأنا سمعتُه منه صلى الله عليه وسلم (2).
رواه مسلم في الصلاة من ثلاث طرقٍ عن وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، ومسعر، والبَخْتَريِّ بن المختار، سمعوه من أبي بكر بن عمارة، عن أبيه.
ورواه أبو داود فيه عن مسدد، عن يحيى بن سعيد، عن إسماعيل به، وذكر حديث الرجل.
والنسائي من طريق رابعة عن وكيع به، وقال البختري بن أبي البختري، ولم يذكر حديث الرجل. ومن طريق يحيى ولم يذكره، وفي التفسير من طريق ثانية عن قُتيبة، عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق -وهو السبيعي- عن عمارة ابن رويبة، وذكر حديث الرجل.
وزاد المِزِّيُّ أنه رواه عبد الله بن رجاء الغُداني عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي بكر بن حفص، عن عُمارة، وذكر فيه حديث الرجل (3).
قلت: وله طريق أخرى خرَّجها أحمد (4) عالياً عن سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن عمير، عن عمارة. وخرجها مسلم نازلاً عن الدَّوْرَقي، عن يحيى بن أبي بكير، عن شيبان، عن عبد الملك بن عمير، عن ابن عمارة، عن أبيه عمارة. والظاهر عندي أن أبا إسحاق وعبد الملك سمعاه بواسطةٍ أولاً ثم سألا
(1) البخاري (574)، ومسلم (635)، وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان "(1739).
(2)
أخرجه مسلم (634)، وأبو داود (427)، والنسائي 1/ 235. وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان " (1738) و (1740).
(3)
" تحفة الأشراف " 7/ 486 - 487.
(4)
4/ 136.
عُمارة عنه فسمعاه منه لما فيه من البُشرى، فلم يكتفيا (1) حتى سمعاه منه، فقد اجتمع على هذه البُشرى الجليلة أبو موسى وعُمارة من أربع طرقٍ عنه، ورجلٌ من أهل البصرة صحابي، فلله الحمد.
وروى أبو داود (2) من حديث فضالة شاهداً لذلك بغير لفظه.
وروى النسائي، عن عثمان، عنه صلى الله عليه وسلم:" من علم أن الصلاة حَقٌّ واجبٌ دخل الجنة ".
ورواه عبد الله بن أحمد في " زوائد المسند "(3).
وفي حديث أبي سعيد وأبي هريرة: " أخرجوا من النار من لم يعمل خيراً قط، وكان في قلبه من الإيمان ما يزن ذرة " متفق عليه (4)، وغير ذلك وسيأتي والله أعلم.
وعلى الجملة فلم يصح في الإحباط بغير الشرك نصٌّ متفق عليه جَلِيُّ المعنى، فإن صح لم يمتنع معه تجويز العفو كما تقدم في حديث ابن عباس، وأحاديث الشفاعة الصحاح بل المتواترة مُصَرِّحةٌ بخروج أهل التوحيد كلهم من النار، سواءٌ حَبِطَتْ أعمالهم أو لم تَحْبَطْ، وهي متواترةٌ كما يأتي والله سبحانه أعلم.
وقد قيل: إنه يمكن أن يحبط في الدنيا حتى يُشْفَعَ له في الآخرة، ومعنى إحباطها في الدنيا، عدمُ تأثيرها في حقن دمه وماله وعدم الدفع من الله تعالى
(1) في (د) و (ف): " يكفيا ".
(2)
برقم (428) ولفظه: " حافظوا على العصرين
…
صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها ". وهو حديث صحيح. وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان " (1742).
(3)
1/ 60، وأخرجه الحاكم 1/ 72 وإسناده ضعيف، وليس هو في النسائي. ولم يذكره المزي في " تحفة الأشراف ".
(4)
تقدم تخريجه.
عنه، فإن الله يدافع عن الذين آمنوا كما قال تعالى، وهذا يستحق العقوبة بعدم الدفع، وبإنزال المصائب عليه.
وعن المهلب نحو في تفسير: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " كما سيأتي (1).
وروى الحاكم في " المستدرك " في كتاب التوبة عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله قضى أن يُؤتى بحسنات العبد وسيئاته ويُقَصَّ بعضُها ببعض، فإن بقيت حسنةٌ وَسَّعَ الله له بها في الجنة ما شاء، وإن لم يبق له شيء فـ {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} (2).
ورواه في موضعٍ قبل هذا بنحوه من طريق الحكم بن أبان، عن الغطريف، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: صحيح، ذكره في كتاب التوبة، والآية في الأحقاف [16].
وروى الحاكم (3)، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، [عن أبيه]، عن أبي طلحة الأنصاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم:" إن أحدَكُم ليجيء بالحسنات لو وُضِعَتْ على جَبَلٍ لأثقلته ثم [يجيء] النعم، فتذهب تلك بتلك، ويتطاول (4) الريب بعد ذلك برحمته " ويشهد لهذا حديث جابر في الذي عبد الله في جزيرةٍ في البحر خمس مئة عام لم يُذنب، فحوسِبَ فلم تَفِ عبادتُه (5) بشكر نعمة البصر.
الحديث أخرجه الحاكم أيضاً وصححه (6) من حديث جابر فهذا الحديث الأول نصٌّ -ولله الحمد- على النظر الذي ذكرت، فإن هذا هو الإحباط الذي لا
(1) ص 165.
(2)
تقدم تخريجه ص 77.
(3)
4/ 251 وصححه، ووافقه الذهبي، ومع ذلك فيه من لا يعرف.
(4)
في الأصول: " ويتفاول "، والمثبت من " المستدرك ".
(5)
في (ف): " نعمته "، وهو خطأ.
(6)
4/ 250 - 251 وتعقبه الذهبي بقوله: لا والله، وسليمان -وهو ابن هرم- غيرُ معتمد.
يُبقي (1) للعبد حسنةً بسبب كثرة سيئاته وغلبتها على حسناته، فلم يكن ذلك مانعاً من تدارُكِ رحمةِ الله للعبد المسلم، والحمد لله رب العالمين.
ويشهد له من القرآن تقسيمُ أهل الجنة، وقوله فيمن اصطفى:{فمنهم ظالمٌ لنفسه} [فاطر: 32] مع قوله: {وسلامٌ على عباده الذين اصطفى} [النمل: 59].
ومن ذلك وهو الرابع من أدلتهم، وهو يلحق بالنوع الثاني، منها ظواهر، ومطلقات، وعمومات، ربما وَهِمَ بعضهم أنها نصوص أو أوهمت عبارته ذلك، ولا نص فيها غير مُحتملٍ للتأويل مثل (2) قوله تعالى في الجواب على اليهود حين زعموا أنهم لا يكونون في النار إلَاّ أياماً معدودةً:{بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطيئاتُهُ (3) فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81] والجواب من وجهين:
أحدهما: أن سبب نزول الآية في خطاب اليهود ورد قولهم بتقدير مكثهم في النار بالأيام المعدودة، وهي سبعة أيام (4)، فيما نقله المفسرون وقد ذكرنا أن
(1) تحرفت في (ش) و (د) إلى: " ألا يبقى ".
(2)
تحرفت في (ش) إلى: " من ".
(3)
بالجمع وهي قراءة نافع، حمله على معنى الإحاطة، والإحاطة إنما تكون بكثرة المحيط، فحمله على معنى الكبائر، والسيئة: الشرك، وقرأ الباقون:" خطيئته " بالتوحيد على تأويل الخطيئة بالشرك فوحَّدوه على هذا المعنى وتكون السيئة الذنوب، وهي بمعنى السيئات، ويجوز أن تكون الخطيئة في معنى الجمع، لكن وحِّدَت كما وحدت السيئة، وهي بمعنى الجمع، فتكون كالقراءة بالجمع في المعنى. انظر " الكشف عن وجوه القراءات " 1/ 249.
(4)
أخرجه الطبراني (11160) من طريق محمد بن إسحاق، عن سيف بن سليمان، عن مجاهد، عن ابن عباس أن يهود كانوا يقولون: هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما تعذب لكل ألف سنة يوماً في النار، وإنما هي سبعة أيام معدودات، فأنزل الله عز وجل في ذلك:{وقالوا لن تمسنا النار إلَاّ أياماً معدودة} إلى قوله: {فيها خالدون} . =
تعديةَ ما نزل (1) بسبب إلى غيره ظنيٌّ مختلف فيه كما هو مقرر في الأصول.
وثانيهما: أنه مُسلَّم لو لم يرد من القرآن إلَاّ هذا الجنس أنه كان يدل على ما ذكروا (2)، فلما ورد القرآن والحديث بما (3) هو أبينُ منه، وجب الجمعُ بينهما والرجوع إلى الأبين، وقد قال تعالى:{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48] فدل على خروج ما دون الشرك من القطع، كما دلَّ القرآن بإجماعنا على خروج الصغائر المعمودة، ويقوى ذلك بمثل قوله تعالى في النار في غير آية:{أعدّت للكافرين} ، بل قوله:{لا يَصلاها إلا الأشقى، الذى كَذَّبَ وتَولَّى} [الليل: 15 - 16]، وقوله تعالى:{إنا قد أُوحيَ إلينا أنَّ العذاب على من كَذَّبَ وتولَّى} [طه: 48]، وقوله في الجنة:{أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم} [الحديد: 21]، وتفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى:{ولَمْ يَلْبسُوا إيمانهم بظُلْمٍ} [الأنعام: 82]، أنه الشرك (4)، مع قوله تعالى بعد ذلك:{أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} [الأنعام: 82] والمراد إن شاء الله لهم الأمن في الآخرة، ولا أمان في الدنيا لصالح، فكيف غيره لقوله في مغفرة ما دون ذلك لمن يشاء، ولجهل السوابق والخواتم، ولقوله تعالى:{إنَّ عذابَ ربِّهم غيرُ مأمونٍ}
= قلت: ورجاله ثقات غير أن محمد بن إسحاق مدلس ولم يصرح بالتحديث.
وأخرجه الطبري في " تفسيره "(1410) و (1411) والواحدي في " أسباب النزول " ص 16 من طريق ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس. ومحمد بن أبي محمد لم يرو عنه غير ابن إسحاق، ولم يوثقه غير ابن حبان، وقال الذهبي: لا يعرف.
(1)
تحرفت في (ش) إلى: " نزلت ".
(2)
من قوله: " أنه مسلم " إلى هنا ساقط من (ش).
(3)
في (ش): " فلما ورد من القرآن والحديث مما ".
(4)
أخرجه من حديث ابن مسعود: البخاري (32) و (3360) و (3428) و (3360) و (3428) و (3429) و (4629) و (4776) و (6918)، ومسلم (124)، والترمذي (3067).
[المعارج: 28]، ولما في الأمن من فساد أكثر الخلق، وبمثل ذلك يُجاب على من احتجَّ بقوله تعالى:{وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: 102]، ويُزاد عليه الاستدلال على أنها في الكفار قوله قبلها:{إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُر} [البقرة: 102]، وقوله بعدها:{وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَة} [البقرة: 103].
ومن ذلك قوله تعالى: {وما للظالمين من أنصارٍ} [البقرة: 270]، والظاهر فيها وفي غيرها من لا خير فيه وهم الكفار، لأنَّ الله تعالى قد ميَّزَ الخالطين (1) بحكم، وكذلك:{ومَنْ يعملْ مِنَ الصالحات وهو مؤمنٌ} [طه: 112] بآيات كريمة لو لم يكن إلَاّ قوله تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود: 114]، فقد خرجوا بالمخصص كما خرج صاحب الصغيرة، وقد صح حديث ابن مسعود عنه صلى الله عليه وسلم في تفسير الظلم بالشرك في قوله تعالى:{ولم يلبسوا إيمانَهم بظُلْمٍ} (2). وكذلك قال تعالى: {والكافرون هم الظالمون} [البقرة: 254]، وكذلك ها هنا، ولا بُدَّ من إثبات ظلمٍ دون ظلم، فقد قال آدم عليه السلام:{ربَّنا ظلمنا أنفسنا} [الأعراف: 23]، مع أنه معصومٌ من الكبائر، وإن أُطلق على ذنبه اسم ظلم، وقد تقدَّمَ هذا المعنى في قبول المتأولين، وسبيل هذه الآيات سبيلُ قوله تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 18]، فإنها مخصوصةٌ (3) بمن نزلت فيه من المشركين ولو كانت على ظاهرها، هَلَكَ الخلق، وكفى بياناً لها (4) قوله تعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] فأثنى عليهم بذلك، فكذلك مطلق الظالمين يخرج منهم أهل الإسلام في كثيرٍ من المواضع، وقد تناولهم وَعْدُ المحسنين والمسلمين كما
(1) في (ش): " الخلاطين ".
(2)
تقدم في الصفحة السالفة.
(3)
في (ش) و (د): " مخصصة ".
(4)
في (ش): " له ".
تناولهم وعيد الظالمين، فتعارَضَ فيهم، ويجب أن يشتقَّ لهم اسم الإحسان من إحسانهم، والإسلام من إسلامهم، والظلم من ظلمهم، ويبقى الوعيد خالصاً لمن له اسم الظلم خالصاً، وعلى نحو هذا يُفَسَّرُ قوله تعالى:{وقد خاب من حمل ظلماً} [طه: 111]، كما فسر النبي صلى الله عليه وسلم:{ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ} ولذلك قال الله تعالى بعد قوله: {وقد خاب من حمل ظلماً} : {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمنٌ فلا يخاف ظلماً ولا هضماً} [طه: 112]، فدل على أن معنى التي قبلها: من حمل ظلماً ولم يعمل من الصالحات وهو مؤمنٌ فذلك هو المشرك، أما لو كان قد عَمِلَ من الصالحات وهو مؤمن تناقض وعده ووعيده، هذا لو لم يرِدْ بيان ذلك مُفَصَّلاً من السنة، فأما بعد وروده فلا يعدل (1) عنه، ومن عَدَلَ عنه، فلا بد أن يقع في أضعف مما فَرَّ منه، ويتناقض، ويرد الظن الصحيح الواجب قبوله كنصوص الأخبار الصحاح بالظن الضعيف المُحَرَّم قبوله من الآراء الفاسدة، ولكنه مع ذلك يُسميه علماً لتقليده في قواعده من غير شعورٍ بالتقليد، لأنه قَطَعَ بها لشهرتها بينهم وظن ذلك القطع علماً كظن جميع المبطلين، وهذه ظلماتٌ بعضُها فوق بعض، تَرَكَّبَ منها صورة اعتقاد علم فيما هو مجموع جهالات، وأنتج هذا رد السنن والآثار وتفاسير السلف، فنعوذ بالله من ذلك، ومنهم من مَنَعَ الأخبار مطلقاً، حتى في الفروع كالبغدادية، وعَلَّلوا ذلك بتقبُّح الظن، ولم يشعروا أنهم ما تمسكوا في رده إلَاّ بظواهرَ سمعيةٍ ظنيةٍ، وأما العقل، فهو عليهم لا لهم، كما بيَّنه الأئمة وأبو الحسين (2) فالله المستعان.
وتأتي الأجوبة مفرقة في كل آية أو في أكثرها فتأمله، وإنما القصد سياقة الأجوبة على غير ترتيب للبينة على النظر، ومن أحَبَّ التحقيق، نظر الجواب المبسوط في آيه القتل، ونقل تلك الوجوه كلها أو معظمها إلى كل آيةٍ عُرضت من العمومات التي يحتج بها الخُصُومُ، وكذلك المباحث المتعلقة بتفسير
(1) في (د) و (د): " معدل ".
(2)
هو محمد بن علي بن الطيب البصري المعتزلي صاحب كتاب " المعتمد في أصول الفقه "، المتوفى 436 هـ. وقد تقدمت ترجمته.
الإسلام، والإيمان، والإحسان، تأتي مبسوطةً في موضعٍ واحدٍ، وقد تُذكر في غيره من غير بسطٍ فتأمَّلْ ذلك.
ويتصل (1) بهذه الآيات التي يحتج بها المعتزلة في نفي الشفاعة -وهو لاحق (2) بالأمر الثاني من أنواع أدلتهم- مثل قوله تعالى: {ما للظالمين من حميمٍ ولا شفيعٍ يُطاعُ} [غافر: 18]، والذي قبلها والذي بعدها يدل على أنها في الكفار كقوله قبلها:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [غافر: 10]، إلى قوله:{وإن يُشْرَكْ به تؤمنوا} ، وقوله بعدها:{وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْء} [غافر: 20] فرجع الضمير في الذين يدعون من دونه إلى الظالمين ولو تجويزاً، والداعون (3) معبوداً دون الله كفارٌ، فكذلك الظالمون الذين وصفهم الله بهذا الكفر ولو تجويزاً، وهذه كالآية الثانية، وهي قوله تعالى:{قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِين} [الشعراء: 96 - 102]، وقال:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِين} [الروم: 13]، وقال:{ما سَلَكَكُم في سَقَرَ} إلى قوله: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِين} [المدثر: 46 - 48].
وفيه حديث ابن مسعود خرَّجه الحاكم (4) في التفسير، وفيه إثبات الشفاعة
(1) في (ف): " ومما يتصل ".
(2)
في (ش): " الأحق ".
(3)
في (ش): " والمدعون ".
(4)
2/ 507 - 508 و4/ 598 - 600. وأخرجه الطبراني (9761) و (9762)، وابن جرير الطبري 29/ 167، والبيهقي في " البعث " (80) و (598) مختصراً ومطولاً من طرق عن سلمة بن كهيل، عن أبي الزعراء، عن ابن مسعود موقوفاً. وهذا إسناد صحيح.
وذكر الهيثمي في " المجمع " 19/ 328 - 330 رواية الطبراني المطولة (9761) -ومثلها رواية الحاكم 4/ 598 - 600، وهي غير الرواية التي أشار إليها المؤلف- وقال: رواه الطبراني =
للمسلمين، ونفيُها عن الكافرين، رواه عن أبي الزعراء، عن ابن مسعود وقال: على شرطهما.
وقال الله تعالى في ذلك: {ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من وليٍّ ولا شفيعٍ أفلا تَتَذَكَّرون} [السجدة: 4]، وهذا مع ما قدمنا أن الظالمين في عُرْفِ القرآن يخُصُّ الكافرين، لقوله تعالى:{والكافرون هم الظالمون} [البقرة: 254]، لأنه صح تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للظلم بالشرك في قوله:{ولم يلبسوا إيمانهم بظُلمٍ} وقد مرّ (1) تقريره في الكلام على قبول المتأولين في أول الكتاب، وقد خصَّ الله تعالى عموم نفي الشفاعة بقوله في سورة مريم:{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 85 - 87]، وإنما ينفي الله تعالى الشفاعة عن المشركين، لأنه صرَّح في القرآن: أنهم عَبَدُوا غير الله، ليكونوا لهم شفعاء، والآيات في التصريح بذلك ونفي هذه الشفاعة لا تُحصى، ومن ذلك قوله تعالى:{وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء} [الأنعام: 94]، وقوله:{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيم} [الشعراء: 97 - 101]، ولذلك قال الله تعالى:{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام: 51]، ولذلك ذكر الولي مع الشفيع، ولا حجة فيها للمعتزلة، فإنها في المؤمنين الصالحين، والشفاعة عند المعتزلة ثابتةٌ لهم، فتأويلها بما ذكرنا لازمٌ للجميع يُوضِّحه قوله تعالى بعدها: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِك
= وهو موقوف مخالف للحديث الصحيح وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أنا أول شافع ".
قلت: يُشير إلى قوله في الحديث المطول: " فيكون أول شافع يوم القيامة جبريل، ثم إبراهيم، ثم موسى أو قال عيسى ثم يقوم نبيكم
…
".
(1)
ص 84.
الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [الأنعام: 70]، فأوضح في آخرها أنها في الكفار.
وكذلك لا حجة لهم في قوله تعالى: {ولا يشفعون إلَاّ لمن ارتضى} [الأنبياء: 28]، لأنها في شفاعة الملائكة، ومن كانوا يُعبدون من دون الله، لا في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن مفعول " ارتضى " المحذوف هو المذكور قبله، أي: لمن ارتضى أن يشفعوا له؛ لا لمن ارتضى عمله باتفاق أهل العربية، كما تقول: لا تُكْرِ دارَك (1) إلَاّ لمن ارتضيتَ، أي: الكراء منه لا عمله، وإنما هي كقوله:{ولا تنفع الشفاعة عنده إلَاّ لمن أذِنَ له} [سبأ: 23]، ويُشْبِهُها من وجهٍ قوله تعالى:{يومئذٍ لا تنفع الشفاعة إلَاّ من أذن له الرحمن ورَضِيَ له قولاً} [طه: 109]، فالمرضي مفعوله المأذون له هنا هو الشافع لا المشفوع له، والمرضي في الأولى: هو الشفاعة نفسها، وأما المشفوع له، فلو كان مرضياً من كُلِّ وجه، لكان بأن يكون شافعاً أنسب من أن يكون مشفوعاً له، بل ذلك ثابتٌ في الحديث المتفق على صحته، وفيه يقول الله:" شَفَعَتِ الملائكة، وشَفَعَ الأنبياء، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلَاّ أرحم الراحمين " الحديث (2)، والعمدة دِلالة الفعل المذكور على المُضمرِ المُقَدَّر، وهو إجماع أهل العربية، وهذا الذي حمل الزمخشري (3) على تقدير: أمرنا مُترفيها بالفِسْقِ مجازاً، لقوله بعده:
(1) في (ش): " داري ".
(2)
قطعة من حديث أبي سعيد الخدري الطويل: " هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة
…
" أخرجه البخاري (7439)، ومسلم (183). وقد تقدم تخريجه في الجزء الخامس.
(3)
" الكشاف " 2/ 354. ونص كلامه {وإذا أردنا} وإذا دنا وقت إهلاك قوم ولم يبق من زمان إمهالهم إلَاّ قليل أمرناهم (ففسقوا) أي: أمرناهم بالفسق، ففعلوا والأمر مجاز، لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم: افسقوا، وهذا لا يكون فبقي أن يكون مجازاً، ووجه المجاز أنه صبَّ عليهم النعمة صباً، فجعلوها ذريعة إلى المعاصي، واتباع الشهوات، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه وإنما خولهم إيَّاها ليشكروا، ويعملوا فيها الخير، ويتمكنوا من الإحسان والبر كما خلقهم أصحاء أقوياء، وأقدرهم على الخير والشر، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وطلب منهم إيثارَ الطاعة على المعصية فآثروا الفسوق، فلما فسقوا حق عليهم القول، وهو كلمة العذاب، فدمرهم.
قلت: وقد قدر المحذوف غير واحد من السلف بالطاعة.
قال ابن جرير في " تفسيره " 15/ 54 - 55: اختلفت القراء في قراءة قوله: {أمرنا مترفيها} فقرأت ذلك عامةُ قراء الحجاز والعراق {أمَرْنَا} بقصر الألف وغير مدها وتخفيف الميم وفتحها، وإذا قرىء ذلك كذاك، فإن الأغلب من تأويله: أمرنا مترفيها بالطاعة، ففسقوا فيها بمعصيتهم الله وخلافهم أمره، كذلك تأوَّله كثير ممن قرأه كذلك، ثم أخرجه عن ابن عباس وسعيد بن جبير.
وأما المترفون، فهم المتنعمون الذين قد أبطرتهم النعمة وسعة العيش، والمفسرون يقولون: هم الجبارون والمتسلطون والكبراء.
قال الألوسي في " روح المعاني " 15/ 43: وخصَّهم بالذكر مع توجه الأمر إلى الكل، لأنهم أئمة الفسق، ورؤساء الضلال، وما وقع من سواهم باتباعهم لأن توجه الأمر إليهم آكد.
ويدل على تقدير " الطاعة " أن فَسَقَ وعَصَى متقاربان بحسب اللغة، وإنَّ خص الفسوق في الشرع بمعصية خاصة، وذكر الضد يدل على الضدِّ، كما أن ذكر النظير يدل على النظير، فذكر الفسق والمعصية يدل على تقدير الطاعة، كما قيل في قوله تعالى:{سرابيل تقيكم الحر} ، فيكون نحو: أمرته فأساء إلي، أي: أمرته بالإحسان بقرينة المقابلة بينهما المعتضدة بالعقل الدال على أنه لا يؤمر بالإساءة، كما لا يؤمر بالفسق، والنقل، كقوله تعالى:{إن الله لا يأمر بالفحشاء} وجوز أن ينزل الفعل منزلة اللازم كما في: يُعطي ويمنع، أي: وجهنا الأمر.
وقال ابن الجوزي في " زاد المسير " 5/ 18 - 19: قوله تعالى: {أمرنا مترفيها} قرأ الأكثرون: {أمرنا} مخففة على وزن " فعلنا " وفيها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه من الأمر، وفي الكلام إضمار، تقديره: أمرنا مترفيها بالطاعة، ففسقوا، هذا مذهب سعيد بن جبير. قال الزجاج: ومثله في الكلام: أمرتك فعصيتني، فقد علم أن المعصية مخالفة الأمر.
والثاني: " كثرنا " يقال: أمرت الشيء وآمرته، أي كثرته، ومنه قولهم: مُهَرةٌ مأمورة أي كثيرة النِّتَاج، يقال: أَمِر بنو فلان يأمرون أمراً: إذا كثروا، هذا قول أبي عبيدة، وابن قتيبة.
والثالث: أن معنى: " أمرنا ": أمرنا، يقال: أمرت الرجل، بمعنى: أمَّرتَه، والمعنى: سلُطنا =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= مترفيها بالإمارة، ذكره ابن الأنباري.
وقال ابن القيم في " شفاء العليل " ص 281: وقوله تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها} فهذا أمر تقدير كوني لا أمر ديني شرعي، فإن الله لا يأمر بالفحشاء والمعنى: قضينا ذلك وقدرناه.
وقالت طائفة: بل هو أمر ديني، والمعنى أمرناهم بالطاعة، فخالفونا وفسقوا، والقول الأول أرجح لوجوه.
أحدها: أن الإضمار على خلاف الأصل فلا يصار إليه إلَاّ إذا لم يمكن تصحيح الكلام بدونه.
الثاني: أن ذلك يستلزم إضمارين أحدهما: أمرناهم بطاعتنا، الثاني، فخالفونا أو عصونا ونحو ذلك.
الثالث: أن ما بعد الفاء في مثل هذا التركيب هو المأمور به نفسه كقولك أمرته ففعل، وأمرته فقام، وأمرته فركب لا يفهم المخاطب غير هذا.
الرابع: أنه سبحانه جعل سبب هلاك القرية أمره المذكور، ومن المعلوم أن أمره بالطاعة والتوحيد لا يصلح أن يكون سبب الهلاك، بل هو سبب النجاة والفوز. فإن قيل: أمره بالطاعة مع الفسق هو سبب الهلاك. قيل: هذا لا يبطل بالوجه.
الخامس: وهو أن هذا الأمر لا يختص بالمترفين بل هو سبحانه يأمر بطاعته واتباع رسله المترفين وغيرهم، فلا يصح تخصيصُ الأمر بالطاعة بالمترفين يوضحه.
الوجه السادس: أن الأمر لو كان بالطاعة لكان هو نفس إرسال رسله إليهم، ومعلوم أنه لا يحسن أن يقال: أرسلنا رسلنا إلى مترفيها ففسقوا فيها، فإن الإرسال لو كان إلى المترفين، لقال من عداهم: نحن لم يُرسل إلينا.
السابع: أن إرادة الله سبحانه لأهلاك القرية إنما يكون بعد إرسال الرسل إليهم وتكذيبهم، وإلا فقبل ذلك هو لا يريد إهلاكهم لأنهم معذورون بغفلتهم، وعدم بلوغ الرسالة إليهم، قال تعالى:{وما كان الله ليهلك القرى بظلم وأهلها غافلون} فإذا أرسل الرسل، فكذبوهم أراد أهلاكها، فأمر رؤساءهم ومترفيها أمراً كونياً قدرياً لا شرعياً دينياً بالفسق في القرية فاجتمع أهلها على تكذيبهم وفسق رؤسائهم، فحينئذ جاءها أمر الله وحق عليها قوله بالإهلاك.
وسيأتي رد المؤلف على الزمخشري في الصفحة 192.
ففسقوا، وذلك أن المحذوف إذا دل عليه المنطوق وجب تقديره من جنسه.
ومثلهما قوله تعالى في الشفاعة: {من ذا الذي يشفع عنده إلَاّ بإذنه} [البقرة: 255]، وقوله:{إلَاّ من بعد أن يأذنَ الله لمن يشاء ويرضى} كلها في نفي الشفاعة من غير مشيئته ردّاً على المشركين في جهالاتِهم، ولولا قبولُ الخاص وتقديمه على العامِّ، لَوَجَبَ نفيُ الشفاعة عن المؤمنين لقوله تعالى:{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254]، فكيف تُرَدُّ أخبار الشفاعة الصريحة الصِّحاح، بل المتواترة عند أهل العلم التامِّ بالحديث لأجل عموماتٍ نزلت في ردِّ جهالات المشركين، وما يجري هذا المجرى في الاحتجاج منهم والحساب عليهم قوله تعالى:{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّار} [الزمر: 19].
والجواب أنها عمومٌ، وأن آية سورة مريم أخصُّ وأحاديث الشفاعة المتواترة وسائر أدلة أهل السنة، ويوضح ذلك أن هذه فيمن حقَّتْ عليه كلمة العذاب كما هو بيِّن فيها، وقد قال الله تعالى:{وكذلك حقت كلماتُ (1) ربك على الذين كفروا أنهم أصحابُ النار} [غافر: 6]، ولها نظائر، وفي حديث الشفاعة الصحيح تقول الملائكة (2): لم يبق في النار إلَاّ من حَبَسَهُ القرآن (3)، يريد الكفار الموعودين بالخلود، والآية التي احتجوا بها في " الزمر " وعقيبها قوله تعالى:{لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} [الزمر: 20]، وبعدهما بيسير:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون} [الزمر:
(1) بالألف على الجمع، وهي قراءه نافع وابن عامر، وقرأ الباقون:" كلمة " بالإفراد.
انظر " حجة القراءات " ص 627.
(2)
لم يرد في الصحيح أن هذا قول الملائكة كما أشار إليه، وإنما هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونصه:" فأقول: يا رب، ما بقي في النار إلَاّ من حَبَسَه القرآن، أي: وجب عليه الخلود ".
(3)
أخرجه البخاري (4476) و (6565) و (7410)، ومسلم (193)، وابن ماجه (4312) من حديث أنس.
33]، فحكم لهم بالتقوى كما سيأتي تحقيقه لأنهم اتقوا الشرك بالله، وقد قال فيهم:{لِيُكَفِّرَ اللهُ عنهم أسْوَأ الذي عَمِلُوا} [الزمر: 35].
ومن ذلك قوله تعالى في تحريم الربا: {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275]، وظاهرها في الكفار، لأنه قال في أولها:
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} ، وهذا الكلام يخُصُّ الكافرين، لأنه صريح الإنكار لتحريم الربا، والاحتجاج على الله تعالى بالقياس كما احتج الشيطان في تفضيل نفسه على آدمَ، وإنما الذي يَخُصُّ المؤمن من وعيد الربا قوله تعالى:{فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِه} وليس فيه ذكر الخلود، على أنه من أشَدِّ وعيدٍ، وأعظم تهديد.
ونحوه ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة، عنه صلى الله عليه وسلم:" أن الله تعالى يقول: من عادى لي ولياً فقد آذَنْتُه بحربٍ "(1). وكذلك جعل هذه الآية الآخرة في المؤمنين الواحديُّ في " أسباب النزول "(2).
وقد ثبت أن أكل الربا من السبع الموبقات (3)، وفي حديث سمرة في الرؤيا النبوية، رواه البخاري (4):" وأما الرجل الذي يسبح في النهر ويُلْقَمُ الحجارة، فإنه آكلُ الربا "، وهذا التفسير إشارة إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم قبله: "فأتينا على نهر -حسبتُ أنه قال:- أحمر مثل الدم، فإذا في النهر رجلٌ يسبح، وإذا على شَطِّ النهر رجلٌ قد جمع عنده حجارةً كثيرة، وإذا ذلك السابحُ يسبَحُ ما سَبَحَ، ثم يرجع إليه، كلما رجع إليه، فَغَرَ له فاه، فيُلقمه حجراً (5)، قال: قلتُ ما هذا؟
(1) تقدم تخريجه. وانظر " صحيح ابن حبان "(347).
(2)
ص 58 - 59.
(3)
أخرجه من حديث أبي هريرة: البخاري (2766) و (5764) و (6857)، ومسلم (89)، وأبو داود (2874)، والنسائي 6/ 257.
(4)
رقم (1386) و (2085) و (7047).
(5)
في (ف): " حجراً حجراً ".
قالوا: انطلِقْ انطلِقْ" الحديث، ثم فَسَّراه بما تقدم من أنه آكلُ الربا، وهو حديثٌ شديد، إلَاّ أن في آخره ذكر المغفرة للخالطين (1). رواه البخاري في تفسير قوله تعالى:{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102].
وله شاهدٌ حَسَنٌ بغير لفظه رواه أحمد وابن ماجه (2) من طريق ابن لهيعة، عن عبد رَبِّه بن سعيد، عن المَقْبُري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يدخل النار إلَاّ شَقيٌّ " قيل: ومن الشقي؟ قال: " الذي لا يعمل بطاعةٍ ولا يَتْرُكُ لله معصيةً " خرَّجه ابن ماجه في الزهد وهو الحديث (652) من مسند أبي هريرة في " جامع ابن الجوزي " وهو يدلُّ على مثل حديث البخاري عن سَمُرَة في الخالطين.
وكان أحمد يقوي شأن ابن لهيعة في الحديث، ويقول: إنه محدثُ مصر، ويقول: من مثله في حفظه وإتقانه، وأثْنى عليه ابن وهب، وقال: إنه بارٌّ صادقٌ، وأثنى عليه الليثُ وسفيان، وخرَّج له الأربعة، وإن ضعَّفه الأكثرون فقد علم هؤلاء تضعيفهم له وسببه، ثم خالفوهم فيه.
وإنما قلت: إن حديثه يشهد لحديث سمرة في الخالطين، لأن كل مسلمٍ قد أطاع الله في التوحيد، وفي ترك الشرك، وجميع أنواع الكفر، وتعظيم الرسل، وحُبِّهم لله عز وجل، وقد كان بعضهم يقول: اللهم إني أطعتُك في فعل أحب الأشياء إليك، وتَرْكِ أبغضها إليك، فاغفر لي ما بينهما، أو كما قال، فنسأل الله أن يصدق ذلك بواسع رحمته، وعظيم فضله، إنه على ذلك قدير، وبكل خيرٍ جدير، وقد يُجازى المؤمن في الدنيا بعقوباتٍ مختلفة على جهة التدريج، على ما جاء تفسيره في قوله تعالى: {أو يأخُذَهُم على تَخَوُّفٍ فإنَّ
(1) ونصه (4674): " وأما القوم الذين كانوا، شطرٌ منهم حسن وشطرٌ قبيح، فإنهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيِّئاً، تجاوَزَ الله عنهم ".
(2)
أحمد 2/ 349، وابن ماجه (4298).
ربكم لرؤوفٌ رحيم} [النحل: 47]، والتخوُّف: التنقص قليلاً قليلاً، ونسألُ الله العافية من ذلك كله، فإن البشر ضعيفٌ، وقليلُ العذاب شديد، ولا أمان من واحدٍ منهما، ولا نجاة إلَاّ برحمة الله فحسبنا الله ونعم الوكيل.
ومن أشدِّ وعيدٍ وَرَدَ في خطاب المؤمنين فيما علمتُه قوله تعالى في " الأنفال "[15 - 16]: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِير} فهذا وعيدٌ شديد يخص المؤمنين، ولذلك لم يذكر فيه الخلود.
وعن الحسن البصري أنه مُختَصٌّ بيوم بدر (1)، وإن كان الفرار من الزحف أحد السبع الموبقات في كل موطن على ما ثبت في حديث أبي هريرة (2)، لكنه قد صحَّ أن النبي صلى الله عليه وسلم فئة المسلمين، كما في حديث ابن عمر في فِرارِهم من نجد، وقولهم للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن الفرارون، فقال:" أنتم العَكَّارون " وهو صحيحٌ (3) فدلَّ على صحة قول الحسن البصري في أن هذا الوعيد يختصُّ بيوم بدر، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ كان معهم فيه، فالفِرار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتَرْكُه للمشركين يُنافي الإيمان، لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يؤمن أحدُكُم حتى أكون أحبَّ إليه من نفسه"(4).
(1) أخرجه الطبري في " تفسيره "(15805) و (15807) و (15809)، والنحاس في " ناسخه " ص 184 من طرق عن الحسن.
(2)
تقدم في ص 93.
(3)
أخرجه الترمذي (1816) من طريق سفيان، وأبو داود (2647)، وأحمد 2/ 70 من طريق زهير، وأحمد 86 من طريق شعبة و100 من طريق خالد الطحان و111 من طريق شريك خمستهم عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عبد الله بن عمر .... وقال الترمذي: هذا حديث حسن لا تعرفه إلَاّ من حديث يزيد بن أبي زياد. قلت: يزيد بن أبي زياد تكلم فيه غير واحد من الأئمة. وقال أبو زرعة: لين يكتب حديثه، ولا يحتج به، وقال في " التقريب ": ضعيف كبر وصار يتلقن، روى له مسلم مقروناً.
(4)
تقدم تخريجه في 8/ 97.
وكذلك يُقاسُ عليه الفِرارُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غير فئةٍ في كل موطن مثل بدر، ولعلَّ هذا الوعيد إن شاء الله من قبيل قوله تعالى:{لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر: 65] لعلم الله أن أهل بدر لا يَفِرُّ منهم أحدٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدعه للمشركين، ولذلك قال الله تعالى بعد هذه الآية:{وليُبْلِي المؤمنين منه بلاءً حسناً إن الله سميعٌ عليمٌ} [الأنفال: 17]، ويدل على جواز تخصيص الوعيد العام، وأن رحمة الله تعالى قد تغلبُ على غضبه المنصوص في الوعيد حيث يشاء سبحانه، أن طائفةً من المسلمين قد انهزَمُوا يوم أحد، فنَزَلَ القرآن صريحاً بالمغفرة لهم والعفو عنهم، بل صرَّح بأن الله تعالى وليُّهم في قوله تعالى:{والله وليُّهُما} [الأنعام: 127]، وسُرَّ بعض المنهزمين بهذه الآية، بل اعتذر الله سبحانه لهم لُطفاً بهم، فقال:{إنما استزلَّهُم الشيطان ببعض ما كَسَبُوا} [آل عمران: 155] كما نَزَلَ القرآن بالعفو عنهم في حديث الإفك في سورة النور مع أنه أحد الموبقات السبع، ولم تشتهر التوبة عنهم في القصتين معاً، بل الظاهر خصوصاً في حديث الإفك إصرار جميعهم أو بعضهم حتى نزلت مع أن الإفك من حقوق المخلوقين، ولذلك كَرَّرَ الله آيات الرحمة في ذلك كقوله:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 14]، وقوله:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيم} [النور: 20]، {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم} [النور: 21]. ومن أرجى آيةٍ فيها قوله تعالى في قطع أبي بكر نفقة مِسْطَحٍ وحَلِفِه على ذلك، لأن مِسْطَحاً كان من أهل الإفك، فأنزل الله في قَسَمِ أبي بكر على قطع نفقته:{وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22] فانظر كيف أثنى الله تعالى على مسطحٍ مع ذنبه المجمع على كبره، بأنه من المهاجرين في سبيل الله، وترحَّم له بأنه من المساكين، وأمر بالعفو عنه، ووَعَدَ بالمغفرة جزاءً لمن عفا عنه، وهذه الآياتُ مدنيةٌ من آخر ما
نَزَلَ، وكذلك السورة كلها، وهذا مع التشديد العظيم في هذه السورة في هذا الذنب، فالحمد لله رب العالمين.
ومما يوضح لك (1) اعتبار أسباب النزول، والفرق بين وعيد المسلمين والكافرين في الذنب الواحد، أن الله قال بعد الحَثِّ على العفو على مِسْطح من غير فصل:{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِين} [النور: 23 - 25]. فهذه في المنافقين من أولها، وآخرها صريحٌ في ذلك، وشهادة الجوارح لا تكون إلَاّ على المنافقين كما في الحديث الصحيح (2)، لأن المنافق هو الذي يختص بالإنكار، ودعوى الإيمان والصلاح في الآخرة كما كان في الدنيا، والقرآن يكفي في الرد على منع صحة هذا، فسبحان المخوف مع سَعةِ رحمته، المرجوِّ مع شديد انتقامه، الحكيم الذي لم يُؤَمِّنِ الصالحينَ بحكمته، ولم يُقَنِّطِ المسرفين لرحمته، ومن نَظَرَ في قطع يد السارق الفقير البائس المسكين في رُبْعِ دينار أو عشرة دراهم، وإن كان سَرَقَها على أعتى الناس وأفجرهم لم يأمن من شديد عقوبة الله تعالى، وعظيم انتقامه، فإن هذه العقوبة تُخالِفُ ظنون العقلاء ومقاييس أهل الرأي، وأقوى البشر يضعُفُ عن أهون عقوبات الآخرة، وقد شاهدنا في الدنيا من أنواع المصائب والبلاوي ما لا تحتمله (3) قوانا، فنعوذ بالله من مباشرة المعاصي التي هي أسبابُ البلاء (4) والمصائب في الدارين، وكم من أهوالٍ في الدنيا، وفي البرزخ، وفي عَرَصَاتِ القيامة في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة، وإن سَلِمَ العاصي المسلم من الخلود، فدون الخلود من العقوبات والمصائب والأهوال ما لا تَقْوَى له (5) الجبالُ، وكفى عبرةً في ذلك بما حكاهُ الله تعالى من مَشيبِ الأطفال في يوم
(1) تحرفت في (ف) إلى: " ذلك ".
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
في (ش): " تحمله ".
(4)
في (ش): " البلايا ".
(5)
في (ش): " يقوى في ".
القيامة مع عدم الذنوب، وأعظم من ذلك ما وَرَدَ في أحاديث الشفاعة الصحاح من خوف كبار الأنبياء من ذنوبهم، وامتناعهم من الشفاعة بسبب ما صدر منهم من الصغائر المغفورات التي لا قَدْرَ لها في جنب عظيمِ إحسانهم ورفيع مكانهم ومما قلتُ في ذلك:
إذا خافَ الخليلُ وخافَ موسى
…
وآدَمُ والمسيحُ وخافَ نوحُ
ولم يَتَشَفَّعُوا للناس خوفاً
…
فما لي لا أخافُ ولا أنوحُ
فالأمر عظيمٌ، والخطبُ جسيمٌ، والخوف من عذاب الرب العظيم عظيم، لولا ما آنس قلوب العارفين من سَعةِ رحمة الرحمن الرحيم، وعلى كُلِّ حال فما لنا إلَاّ رحمته، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الأمر الثالث من الأصل ما تعلَّقوا به قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31]، فإنهم زعموا أنها أخص وأبين من قوله تعالى:{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48]، وأبين من سائر ما ذكرنا ومن سائر ما نذكره من أدلة أهل السنة، والجواب عليهم من وجوه:
الوجه الأول: وهو تمهيدٌ للتحقيق (1)، أن ذلك لا يصح إلَاّ لو كان أهلُ الجنة من المسلمين نوعاً واحداً لا تفاضُلَ ولا اختلاف، وأما مع صحة انقسامهم إلى قسمين كما في " الواقعة " و" الرحمن " وغيرهما، وإلى ثلاثة أقسام كما في " التوبة " وغيرها، ألا تراه يقول في بعضهم:{وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً} [التوبة: 102]، ويقول في بعضهم:{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ .. } إلى قوله: {والذين كفروا لهم نارُ جهنم .. } الآية [فاطر: 32 - 36]. ويقول في آيةٍ: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25)
(1) في (ش): " التحقيق ".
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى: 25 - 26]، ويقول في آياتٍ كثيرةٍ:{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 124]، وفي آية:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُون} [الأنبياء: 94]، وفيها دلالةٌ واضحةٌ على التفرقة بين الإيمان والعمل في الوضع الحقيقي، كما سيأتي، وإلا لكان المعنى: ومن يعمل من الصالحات وهو عاملٌ للصالحات، ويعضُده ما جاء في كتاب الله تعالى من الوعيد على بعض الصالحات صريحاً كقوله تعالى:{ومن يوق شُحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر: 9]، وفي قوله في الجهاد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّه
…
} الآية [الصف: 10 - 11].
ومثلها: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُون
…
} [التوبة: 111]، وقوله تعالى:{فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [المائدة: 85]، وفي قوله في سورة الحديد [21] في الجنة:{أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} وقوله فيها: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 18] قرأ ابن كثير:
المُصَدِّقين بتخفيف الصاد من التصديق فيهما، وقرأ الأكثرون بتشديد الصاد فيهما من الصدقة (1)، وفي الصدقة يقول الله تعالى:{الشيطانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ ويأمُرُكُم بالفحشاء} [البقرة: 268]، وهي الشُّحُّ هنا كما دل عليه أول الآية:{وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم} [البقرة: 268]، وأصرحُ منها في الصدقة قوله تعالى في آخر " التغابن ":{إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيم} [التغابن: 17].
وخرَّج الحاكم (2) من حديث الأوزاعي عن أبي كثيرٍ الزُّبيدي عن أبيه وكان
(1) انظر " حجة القراءات " ص 701.
(2)
1/ 63. ورجاله ثقات غير والد أبي كثير، فلم أقف له على ترجمة وفي كلام الحاكم =
يُجالسُ أبا ذر. قلت: يا أبا ذر، دُلَّني على عملٍ إذا عَمِلَ به العبد دخل الجنة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تؤمن بالله " قلت: يا رسول الله: إن مع الإيمان عملاً قال: " يَرضَخُ مما رزقه الله " قلت: يا رسول الله، فإن كان مُعْدِماً لا شيء له، قال:" يقول معروفاً " وذكر أشياء من أعمال الخير على هذا التدريج حتى قال: " يَدَعُ الناس من أذاه " قلتُ: يا رسول الله، إن هذا ليسير كله، قال:" والذي نفسي بيده ما من خَصْلةٍ يَعْمَلُ بها عبدٌ يبتغي بها وجه الله تعالى إلَاّ أخذتْ بيده يومَ القيامة فلم تُفارقه حتى تُدخله الجنة ". قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم.
وروى ابن عبد البر نحوه عن أبي سعيد الخُدري، ذكره صاحب " التنضيد " في باب ما يكره من الكلام، وصحَّحَ الحاكم (1) نحوه من حديث أنس، وصححه ابن قيم الجوزية في " حادي الأرواح " وفي (652) عن أبي هريرة مرفوعاً نحو ذلك بغير لفظه (2).
وفي " صحيح البخاري "(3) ورد عن ابن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أربعون خَصلة، من عَمِلَ بواحدةٍ منها دخل الجنة، أعلاها منيحة الشاة " أو كما قال، ويشهَدُ لذلك قوله تعالى:{ومَنْ يعمل من الصالحات وهو مؤمنٌ} [طه: 112] في غير آية، وسيأتي مبسوطاً.
فإذا تقرر انقسام أهل الجنة، فهذه الآية التي ذكروها من أهلِ مرتبةٍ رفيعة من أهل الجنة، ألا تراه رَتَّبَ على اجتناب الكبائر أمرين، كل واحدٍ منها أرفعُ من المغفرة:
أحدهما: قوله تعالى: {نُكَفِّرْ عنكُم سيئاتِكم} [النساء: 31]، فإن
= وهمان الأول: وصفُه أبا كثير بالزبيدي، والصواب السحيمي، والثاني: قوله: صحيح على شرط مسلم، ولم يُنبه عليهما الذهبي في " مختصره ".
(1)
انظر " المستدرك " 1/ 70.
(2)
تقدم تخريجه ص 94.
(3)
رقم (2631)، وأخرجه أبو داود (1683).
التكفير بالأعمال في عُرفِ الشرع، ولذلك فرَّق الزمخشري (1) بين المغفرة والتكفير في قوله (1):{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران: 193]، ومنه سُمِّيَتِ الكَفَّارات خصوصاً عند الخصوم أن التكفير على جهة الوجوب على الله دون التفضُّل بالمغفرة الذي هو نصيب بعض أهل الآخره بنص كتاب الله حيث قال:{وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} [الحديد: 20]، وقد يُسمى التكفير مغفرةً، ولا تسمى المغفرة تكفيراً، فالمغفرة جنسٌ يدخُلُ التكفير تحتها، والتكفير نوعٌ منها عند أهل السنة، وقد فرَّق الله بينهما فقال:{ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكَفِّرْ عنا سيئاتنا وتوفَّنَا مع الأبرر} .
وثانيهما: قوله تعالى: {ونُدخلكم مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء: 31]، فإنه يحتمل أن هذا المدخل الكريم هو درجةٌ شريفةٌ من دَرَجِ الجنة، إما درجة المقتصدين أو غيرهم، بل قد دل القرآن على أنها درجة المحسنين، لقوله تعالى في سورة النجم:{ويَجْزِيَ الذين أحسنَوا بالحُسنى} [النجم: 31] ثم وصفهم بصفة مجتنتبي الكبائر، فقال:{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَة} [النجم: 32]، كما سيأتي في تفسيرها، فجعل أهل الصغائر واللَّمَم مُحسنين في النجم، وجعلهم في هذه الآية من أهل المُدْخَلِ الكريم، فدلَّ على أنهم طائفةٌ من أهل الجنة، وأهل الجنة طوائف متفاوتة، ولهم دَرَجٌ كثيرةٌ كما قال تعالى:{هم درجاتٌ عند الله} [آل عمران: 163]، وقال في المجاهدين:{وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 95 - 96].
وفي " الصحيح " أن في الجنة مئة درجة بين كل درجتين كما بين السماء
(1) 1/ 238.
والأرض (1). صحَّحَ ابن تيمية أن الحديث في الجنة، لا أنه أن الجنة مئةُ درجة، وطوَّل في هذا، وفي الأدلة عليه، ذكره تلميذه ابن قيم الجوزية في كتابه " حادي الأرواح "(2).
وفي " الأنفال "[2 - 4]: {إنما المؤمنون الذين إذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قلوبهم}
…
إلى قوله: {أولئك هم المؤمنون حقاً} وبعدها [5 - 6]: {وإنَّ فريقاً من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعدما تبَيَّنَ} فلما كان المؤمنون في الدنيا مراتب متفاوتة، كانوا كذلك في الآخرة، وقد دل حديث الشفاعة أن الخارجين من النار بالشفاعة ثلاث طوائف، وأن الله يُخرج بعدهم (3) من النار برحمته لا بالشفاعة طائفة رابعة لم يعملوا خيراً قط، ولا في قلوبهم خيرٌ (4) قط، ممن قال: لا إله إلَاّ الله، يُسَمِّيهم أهل الجنة عُتقاء الله من النار بل في الجنة من لم يَقُلْ قبل موته لا إله إلَاّ الله، ولا يدخُلُها بعملٍ كالأطفال، وفيها من لم يُكَلَّفْ كحور العين، وفيها قومٌ يُنشئُهم ويسكنهم فضولَ الجنة التي تبقى ليس فيها أحدٌ كما في " الصحيحين "(5).
(1) أخرجه البخاري (2790) و (7423)، وأحمد 2/ 335 و339، والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 398، والحاكم 1/ 80، وابن حبان (4611)، والبغوي (2610) من حديث أبي هريرة.
وأخرجه أحمد 5/ 316 و321، والترمذي (2531)، والحاكم 1/ 80، وابن أبي شيبة 13/ 138، وأبو نعيم في " صفة الجنة "(225) من حديث عبادة بن الصامت.
وأخرجه أحمد 5/ 240 - 241، والترمذي (2530)، وابن ماجه (4331)، وأبو نعيم في " صفة الجنة "(227) من حديث معاذ.
وأخرجه أحمد 2/ 399 و424، والنسائي 8/ 119، وابن حبان (4612)، والبيهقي 9/ 39 و157 من حديث أبي سعيد الخدري.
(2)
ص 55.
(3)
تحرفت في (ش) إلى: " بعضهم ".
(4)
في الأصول: " خيراً "، والجادة ما أثبت.
(5)
تقدم ص 76.
فإذا تقرَّرَ هذا، فالمعتزلة لم تُقِرَّ ببعضه، وهو انقسامُ دَرَجِ الجنة على حَسَبِ أعمالِ أهلها، بل تقول: إن الأطفال من أهلها بغير عمل، فما أمنهم أن الآيات التي احتجوا بها في صفة بعض أهل الجنة لا في صفة جميعهم، بل لا بد من ذلك عندهم، وإلا لَمَا دخلها الأطفال، وإنما أخبر الله تعالى بهذه الآية عن طائفةٍ من الجنة أنهم من أهل المُدْخَلِ الكريم عنده، وسكت في هذه الآية عمَّنْ عداهم، ثم ذكرهم في غيرها من كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي.
الوجه الثاني: تمهيدٌ كالأول أيضاً، وذلك أن الشرع ورد بأن الحسنات يُذهبن السيئات، ومنه قوله:{إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النمل: 11]. وقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَه} [المائدة: 45].
وروى أحمد حديثين في ذلك: أحدهما في تفسير الآية (1)، والثاني حديثُ هشام بن عامر في المتهاجرين، وأن من بدأ منهما بالرجوع عن ذلك كانت كفارة له (2).
وفي الحديث: " وأتْبِعِ السيئة الحسنةَ تَمْحُها "(3) رواه الترمذي من حديث أبي ذرٍّ ومعاذ، وحديث أبي ذر أصحُّ وإسناده صالح. ورواه النووي في " مباني الإسلام "(4) والآية المقدمة تشهد له، وجاء في الشرع صريحاً بذكر التكفير
(1) تقدم تخريجه ص 400.
(2)
حديث صحيح، أخرجه أحمد 4/ 20، وابن حبان (5664)، والبخاري في " الأدب المفرد "(402) و (407)، والطبراني 22/ (454) و (455)، وأورده الهيثمي في " المجمع " 8/ 66 ونسبه لأحمد وأبي يعلى، وقال: رجال أحمد رجال الصحيح.
(3)
حديث حسن، أخرجه أحمد 5/ 135 و158 و169 و228، والترمذي (1987)، والدارمي 2/ 323 من حديث أبي ذر، وأخرجه أحمد 5/ 153 و228، و236، والترمذي (1987) من حديث معاذ. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(4)
هو الحديث الثالث والعشرون.
والكفارات، فالإسلام يَجُبُّ ما قبله ويُكَفِّرُ ما تقدمه من حقوق الله وحقوق المخلوقين بالإجماع.
وكذلك التوبة تُكَفِّرُ الذنوب بالإجماع مع اجتماع شرائطها، وكذلك كفارات الأيمان، وكفارات الظِّهار، وقتل الخطأ، وقتل الصيد في الحرم إجماعاً، واختلف في كفاره من تَرَكَ الجمعة أو أتَى حائضاً، وقتل العمد كما مضى، وغير ذلك.
وكذلك اجتناب الكبائر تُكفِّرُ الصغائر بالإجماع أيضاً، ولا يُعْتَدُّ بخلاف الخوارج في ذلك. وقال تعالى:{إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُم} [التغابن: 17] وأمثالها كثيرٌ في الوعد بالمغفرة على العمل الواحد من الصدقة أو الجهاد أو غير ذلك من الطاعات، فقد قال الله تعالى:{ومَنْ يُطعِ الله} في الوعد كما قال: {ومَنْ يَعْصِ الله} في الوعيد كما مضى قريباً. وقال: {هل جزاء الإحسان إلَاّ الإحسان} [الرحمن: 60]، والإحسان: هو الإخلاص في العمل وإن قَلَّ، كما يأتي بيانه، يُوضِّحُ ذلك أنه تعالى جعل السيئة بسيئة مثلها واحدة في جميع كتبه، وعلى ألسنة رسله، ومثله في جميع الأحوال إلَاّ ما اختلف فيه من سيئات الحرم، ولم يَصِحَّ فيه شيءٌ، وأما الحسنة، فجعلها بعشرٍ إلى سبع مئة ضعف والله يُضاعفُ لمن يشاء، أي: يزيد على السبع مئة لمن يشاء على أحد التفسيرين، وهو الصحيح لقوله تعالى في جزاء الصابرين: إنه بغير حساب [الزمر: 10]، ولما صح (1) من حديث: "كل حسنةٍ
(1) بل لا يصح، فقد رواه الطبراني في " الكبير "(12606)، وفي " الأوسط "(2696)، وابن خزيمة (2791)، والحاكم 1/ 460 - 461، والبيهقي 10/ 78، والدولابي في " الكنى " 2/ 13، والبزار (1120) من طرق عن عيسى بن سوادة، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن زاذان عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حج ماشياً، كتب له بكل خطوة سبعمائة حسنة من حسنات الحرم، قال بعضهم: وما حسنات الحرم؟ كل حسنة بمائة ألف حسنة.
وهذا سند ضعيف جداً. عيسى بن سوادة قال أبو حاتم فيما نقله عنه ابنه في " الجرح والتعديل " 6/ 277: هو منكر الحديث ضعيف روى عن إسماعيل بن أبي خالد، عن زاذان، =
بعشر إلى سبع مئة إلَاّ الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" وهذا يدلُّ على أن جزاء الصوم يزيد على سبع مئة كالصبر، فهو (1) يُناسِبُ في المعنى، لأن الصومَ صبرٌ مخصوص، فقد دَخَلَ في وعدِ الله في كتابه للصابرين حيث قال:{إنما يُوفَّى الصابرون أجرهم بغير حسابٍ} [الزمر: 10] وصح في حسنة الحرم أنها بمئة ألف حسنة، وأن الصلاة فيه بمئة ألف صلاة، ومتى انضم ذلك إلى مضاعفة الجماعة كانت الصلاة الواحدة فيه تعدل ثمانين سنةً في غيره، ومتى انضم ذلك إلى تضعيف الأجير في ليلة القدر أعجز الحاسبين حسابه، فتضعيف الحسنات على السيئات تشهَدُ لتكفيرها، وهي من غَلَبِ الرحمة الغضب، ولله الحمد.
وجاءت السنن الصِّحاح بما شَهِدَ (2) له القرآن الكريم من تكفير الحسنات
= عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاًً منكراً. وقول الحاكم بإثره: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، تعقبه الذهبي بقوله: ليس بصحيح. أخشى أن يكون كذباً، وعيسى قال أبو حاتم: منكر الحديث.
وقال ابن خزيمة في العنوان الذي وضعه له: باب فضل الحج ماشياً من مكة إن صح الخبر، فإن في القلب من عيسى بن سوادة هذا.
وقال يحيى بن معين فيما نقله عنه الذهبي في " الميزان ": كذاب.
وقال الهيثمي في " المجمع " 3/ 209: رواه البزار والطبراني في " الأوسط " و" الكبير "، وله عند البزار إسنادان، أحدهما فيه كذاب (يعني عيسى بن سوادة)، والآخر فيه إسماعيل بن إبراهيم عن سعيد بن جبير ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.
قلت: والإسناد الآخر عند البزار (1121) من طريقين عن يحيى بن سُليم الطائفي، عن محمد بن مسلم، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. ويحيى بن سُليم الطائفي سيء الحفظ، وشيخه فيه محمد بن مسلم الطائفي صدوق يخطىء من حفظه، وإسماعيل بن إبراهيم لا يعرف.
ورواه أبو نعيم في " تاريخ أصبهان " 2/ 354، والأزرقي في " أخبار مكة " 2/ 7 من طريق يحيى بن سليم، عن محمد بن مسلم، فقالا عن إبراهيم بن ميسرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
(1)
في (ف): "وهو".
(2)
في (ش): " يشهد ".
للسيئات مُطلقاً، وتكفير الحدود للكبائر كما يعرفُه من طالع كتب الحديث، ووقف على فضل الوضوء، والصلاة، والصوم، والحج، والصدقة ولو بِشقِّ تمرة، والجهاد ولو فُواقَ ناقةٍ (1)، وسائر الأعمال. ومنها ما وَرَدَ في السنة من التكفير للذنوب، والآلام، والمصائب، والحدود مع الإسلام، وهو صحيحٌ بالأدله الواضحة، وإن خالف الخصم فيه كما نُقرره إن شاء الله تعالى في آخر هذه المسألة.
وإذا ثبت ذلك فما المانع أن تكون الآية في تكفير الذنوب بالأعمال الصالحات، فمن اجتنب الكبائر عُوفيَ عافيةً تامَّةً في الدنيا والآخرة، ومن لابس بعض الكبائر غير الشرك، كُفِّرَ عنه بأنواعٍ مختلفةٍ من طاعاتٍ، وأمراضٍ، وبلاوي، ومخاوف، وعذاب القبر، والوقوع في النار حتى يُشْفَعَ له، وقد ورد الشرع بتكفير الحسنات للسيئات، ويدخل في عموم ذلك ما شاء الله من الكبائر، لقوله تعالى:{ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48] وربما دل على ذلك بعض النصوص كما اتفقوا على صحته من حديث عبادة المتقدم في تكفير الكبائر بالحدود، وروى ابن أبي الحديد في شرح قول علي عليه السلام: أما إنه سيظهر عليكم رجلٌ رَحْبُ البُلعوم. في ذكرِ جماعةٍ من المُنْحرفين عنه عليه السلام، منهما رجلٌ يقال له: النجاشي من اليمانية، وأنه حده في الخمر فغضبت اليمانية، فقال عليه السلام: وهل هو إلَاّ رَجُلٌ من المسلمين انتَهَكَ حُرمةً من حُرَمِ الله، فأقمنا عليه حداً كان فيه كفارته (2). انتهى.
(1) حديث صحيح رواه من حديث معاذ أحمد 5/ 230 - 231 و235 و244، والدارمي 2/ 201، وأبو داود (2541)، والترمذي (1657)، والنسائي 6/ 25، وابن ماجه (2792)، وعبد الرزاق (9534)، والطبراني 20/ (203) و (204) و (206) و (207)، وابن حبان (4618)، والبيهقي 9/ 170، والحاكم 2/ 77، ولفظه:" من قاتل في سبيل الله فُواق ناقته وجَبَتْ له الجنةُ "، وفواق الناقة: -بضم فائه وتفتح-. وهو قدر ما بين الحلبتين من الراحة.
(2)
النجاشي: هو قيس بن عمرو بن مالك من بني الحارث بن كعب، شاعر مخضرم =
وفيه شُهرةُ هذا الحكم في ذلك الصدر الأول بغير مناكرةٍ، وروى في شرح قوله عليه السلام: فأما السبُّ فسُبُّوني، لأن طارق بن عبد الله الجُهني النَّهدي غَضِبَ لغضب النجاشي وسار معه إلى معاوية، فتكلَّم معاوية بكلامٍ قبيح انتقص فيه علياً عليه السلام، فقام طارقٌ فأثنى عليه، عليه السلام حتى أغضب معاوية، فبلَغَ علياً عليه السلام، فقال: لو قُتِلَ الجهني يومئذٍ قُتِلَ شهيداً. وهذا يدل على الرجاء للعُصاة، لأنه بمفارقة علي عليه السلام عاصٍ لله تعالى ولإِمامِهِ مُصِرٌّ على ذلك، وفي كلامه إنما غَصِبَ كما غَضِبَ جَبَلَةُ بن الأيْهَم، ومن يعص الله عند غضبه يخرُجْ من العدالة خصوصاً في الخروج من الجماعة والطاعة، فإذا كان ذنب هذا يُغفر بثنائه على أمير المؤمنين عليه السلام، فكيفَ لا يُرجى مثل ذلك بالثناء على رب العالمين، والتوحيد له، والإخلاص، والخوف، والرجاء، وترك ذنوب الكفر، وكثير من ذنوب الإسلام، ويأتي مثله في حديث أمير المؤمنين عليه السلام من طرق، ومن طريق أهل البيت عليهم السلام عن الصادق، عن الباقر، عن زين العابدين، عن أبيه الحسين، عن علي عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وسلم:" من أحَبَّني وأحَبَّ هذين وأباهما وأمهما كان معي في دَرَجتي يوم القيامة " رواه أهل البيت عليهم السلام وعبد الله بن أحمد في " زوائد المسند " والترمذي (1)، ولم يذكر أحدٌ من روايه علي أمير المؤمنين عليه
= من أشراف العرب إلَاّ أنه فاسق رقيق الإسلام كثير الهجو، شرب الخمر في رمضان فأتى به علي بن أبي طالب، فقال له: ويحك وِلداننا صيام وأنت مفطر، فضربه ثمانين سوطاً، وزاده عشرين سوطاً. أورد له ابن قتيبة في " الشعر والشعراء " 1/ 330 - 333 شيئاً من نظمه.
(1)
ضعيف، أخرجه الترمذي (3738)، وعبد الله بن أحمد في زوائد " المسند " 1/ 77، وفي " فضائل الصحابة " (1185). وقال الترمذي: هذا حديث غريب كما في " التحفة " 7/ 364 ونفى الذهبي في " الميزان " 3/ 117 أن يكون الترمذي صححه أو حسنه.
وقال: حديث منكر جداً، وقال في " السير " 3/ 254: إسناده ضعيف والمتن منكر، وفي 12/ 135: ما في رواة الخمر إلَاّ ثقة ما خلا عليّ بن جعفر، فلعله لم يَضْبِطْ لفظ الحديث، وما كان النبي صلى الله عليه وسلم من حبه وبَثِّ فضيلةِ الحسنين ليجعل كل من أحبهما في درجته في الجنة، فلعله قال: فهو معي في الجنة، وقد تواتر قوله عليه السلام:" المرء مع من أحب ".
السلام، فمن بعده من أئمة العترة له تأويلاً ولا على رجاء صدق وعدِه تحذيراً، فكذلك سائر فضائل الأعمال، وليس في سنده مجروح ولا مضعَّفٌ والحمد لله، ويشهد لصحته وصحة معناه:" أنْتَ مع من أحببتَ " و" المرء مع من أحب " متفق على صحته (1) من حديث أنس قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر جواباً على الأعرابي الذي سأله عن الساعة، وقال: إنه لم يُعِدَّلها كثيرَ عملٍ إلا أنه يحب الله ورسوله، فالحمد لله رب العالمين، واتفقا على مثله من حديث ابن مسعود (2)، وهو الحديث الثالث والخمسون بعد المئة من مسنده من " جامع المسانيد " لابن الجوزي.
وفي الباب عن جابر (3)، وعلي عليه السلام (4)، وعنه (5) وعن ابن مسعود (6)
(1) تقدم تخريجه ص 59.
(2)
تقدم ص 59.
(3)
أخرجه أحمد 3/ 336 و394 وفيه ابن لهيعة -وهو سيىء الحفظ-، وأبو الزبير وهو مدلس وقد عنعن، وقال الهيثمي في " المجمع " 10/ 280: رواه أحمد والطبراني في " الأوسط "، وإسناد أحمد حسن!
(4)
أخرجه البزار (3596). وقال الهيثمي 10/ 280: وفيه مسلم بن كيسان الملائي، وهو ضعيف.
(5)
أخرجه الطبراني في " الصغير "(874). وقال الهيثمي 10/ 280: رواه الطبراني في " الصغير "، و" الأوسط "، ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن ميمون الخياط وقد وثق. قلت: قال أبو حاتم: أُمِّيٌّ مُغَفَّلٌ روى حديثاًً باطلاً، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال في مشيخته: أرجو أن لا يكون به بأس، وذكره ابن حبان في " الثقات " وقال: ربما وهم.
(6)
أخرجه البزار (3597) مطولاً: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيخ كبير، فقال: يا محمد، متى الساعة؟ فقال: ما أعددت لها
…
فذكره.
وأخرج البخاري ومسلم منه: " المرء مع من أحب " وقد تقدم. ورواية البزار قال الهيثمي 10/ 280: فيه سمعان المالكي، وهو مجهول، وقد ضعفه أبو زرعة، وبقية رجاله رجال الصحيح.
وعنه (1) وعن أبي قتادة (2)، وأبي سريحة (3)، وعبد الله بن يزيد الخَطْمي (4)، وعبد الرحمن بن صفوان (5)، وعروة بن مُضَرِّس (6)، ومعاذ بن جبل (7)، وأبي أُمامة (8)، وأبي قِرْصافة (9)، والحسين بن علي عليهما السلام (10)، ذكرها الهيثمي في كتاب " الزهد "(11)، ووَثَّقَ رجال ثلاثةٍ منها.
لكن خرَّج قبلها (12) سبعة عشر حديثاًً في فضل المتحابين في الله، وأن
(1) أخرجه بغير اللفظ المتقدم البزار (3598) وفيه السري بن إسماعيل، وهو متروك كما قال الهيثمي.
(2)
قال الهيثمي: رواه الطبراني في " الكبير "، و" الأوسط "، وفيه عبد الله بن عباد أو ابن عبادة، ولم أعرفه.
(3)
أخرجه الطبراني (3061)، وقال الهيثمي: وفيه عبد الغفار بن القاسم الأنصاري -أبو مريم- وهو كذاب.
(4)
قال الهيثمي 10/ 281: رواه الطبراني، وفيه مسلم بن كيسان الملائي، وهو ضعيف.
(5)
أخرجه الطبراني في " الصغير "(133). وقال الهيثمي 10/ 281: رواه الطبراني في الثلاثة، وفيه موسى بن ميمون المَرَئي، وهو ضعيف. وقال في موضع آخر (9/ 365): وفيه موسى بن ميمون وكان قدريّاً، وبقية رجاله وثقوا.
(6)
أخرجه الطبراني في " الكبير " 17/ (395)، وفي " الصغير " (59). وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الثلاثة، ورجاله رجال الصحيح غير زيد بن الحريش، وهو ثقة.
(7)
أخرجه الطبراني 20/ (138). وقال الهيثمي: وفيه الخصيب بن جحدر، وهو كذاب.
(8)
أخرجه الطبراني (7650)، وقال الهيثمي 10/ 281: رواه الطبراني في " الكبير "، و" الأوسط " باختصار، فيه عمرو بن بكر السكسكي، وهو ضعيف.
(9)
قال الهيثمي: رواه الطبراني، وفيه من لم أعرفه.
(10)
أخرجه الطبراني (2880) موقوفاً، وقال الهيثمي: ورجاله وثقوا على ضعف في بعضهم.
(11)
من " المجمع " 10/ 280 - 281.
(12)
10/ 276 - 279.
الأنبياء والشهداء يَغْبِطونَهم لقربهم يوم القيامة من الله، ووجوب محبة الله لهم، ونحو ذلك. وَثَّقَ رجال تسعة (1) منها.
بل في كتاب الله تعالى ما يدل على هذا، وكذلك قوله تعالى:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُور} [الشورى: 23]، وهي حجةٌ على جميع الوجوه في تفسيرها، والزيادة في الحسنة حسناً، والتمدح بالغفور الشكور في تعليل ذلك تقوية.
وفي البغوي (2) عن ابن عباس: يغفر الكبائر ويجزي على الطاعات الصغائر في تفسير الغفور الشكور، أظنه ذكره في " فاطر "[30]، ونحو ذلك قوله تعالى في آخر " المجادلة " [22]:{لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر} الآية، وسائر أحاديث الحب في الله والبغض في الله، وهي كثيرةٌ، وقد أفردتُ الكلام في أعمال القلوب في قصيدةٍ طويلةٍ، وحَصَّلَها الصِّنْوُ العلامة صلاح الدين الداعي إلى سنة سيد المرسلين عبد الله بن الهادي ابن أمير المؤمنين (3)، وشَرَحَ كثيراً منها، وفيها فوائد نفيسة، تُقَوِّي هذا المعنى، والحمد لله رب العالمين.
وعن علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر في قصة حاطب: " وما يدريك لعلَّ الله اطلع إلى أهل بدرٍ، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم ".
رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وأحمد (4).
وعنه عليه السلام، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا عاد الرجل أخاه المسلم مشى في خِرافةِ الجنة حتى يجلس، فإذا جلس غَمَرَتْهُ الرحمة، فإن كان
(1) تحرفت في (ش) إلى: " سبعة ".
(2)
3/ 570، ولفظه: يغفر العظيم من ذنوبهم، ويشكر اليسير من أعمالهم.
(3)
هو صلاح الدين عبد الله بن الهادي بن يحيى بن حمزة، توفي نحو سنة (800 هـ).
انظر " فهرس مخطوطات المكتبة الغربية بصنعاء " ص 16 - 19.
(4)
تقدم تخريجه.
في غدوةٍ صلَّى عليه سبعون ألف ملكٍ حتى يمسي، وإن كان مساءً صلى عليه سبعون ألف ملكٍ حتى يُصبح". رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد، وهذا لفظه. ولفظ أبي داود: " كان له خريفٌ في الجنة " (1). قال أبو داود: وقد رُوِيَ من غير وجه عن علي عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر ابن الأثير في " الجامع " (2): أن الترمذي رواه، ولم يذكره المزي (3) في نسختين، أعني في ترجمة عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي، والظاهر أن الترمذي رواه من غيرها، فإنه رواه من طريق ثوير، وليس له ذكرٌ في هذه الترجمة. نعم ذكره المِزِّي (4) عن الترمذي في ترجمة سعيد بن علاقة أبي فاختة والدثوير (5)، عن علي عليه السلام، وقال: حسن غريب، رُوِيَ عن علي من غير وجهٍ، ومنهم من وَقَفَه، رواه في الجنائز، والنسائي في الطب (6).
وعن زيد بن وهب الجُهَني، عن علي عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سَمِعَه يقول في الخوارج:" لو يعلم الجيشُ الذين يُصيبونهم ما قُضِيَ لهم على لسان نبيهم صلى الله عليه وسلم لَنَكَلُوا عن العملِ ". رواه مسلم في الزكاة، وأبو داود في السنة (7)، وهو صريحٌ في عدم ذكر فضائل الأعمال، لأنها لو كانت له على وجهٍ يجب معه بقاء عموم الوعيد على ظاهره، ما قال: إن العلم بذلك يؤدي إلى ترك العمل، وسنده صحيحٌ ليس فيه من تكلم فيه إلَاّ عبد الملك بن أبي سليمان،
(1) أخرجه أحمد 1/ 81 و97 و118، وابن أبي شيبة 3/ 243، وأبو داود (3099)، وابن ماجه (1442)، والترمذي (969)، والحاكم 1/ 341 و349. وهو صحيح مخرج في " صحيح ابن حبان " (2958).
وخرافة الجنة، قال المنذري: أي: في اجتناء ثمر الجنة.
(2)
9/ 531.
(3)
7/ 421 - 422.
(4)
7/ 377.
(5)
في (د) و (ف) زيادة: " عن ثوير، عن أبيه "، وفي (ش):" عن أبيه "، وكلاهما خطأ.
(6)
من الطريق الأولى.
(7)
مسلم (1066)، وأبو داود (4768).
ولم يُتكلم فيه بشيءٍ إلَاّ أنهم خَطَّؤوه في حديث الشفعة (1) ووَثَّقُوه. وقال شعبة:
(1) وهو حديث جابر رفعه: " الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإذ كان غائباً إذا كان طريقها واحداً " أخرجه أبو داود (3518)، والترمذي (1369)، وابن ماجه (2494) من طريق عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن جابر قال الترمذي: حديث حسن غريب، ولا يُعلم أحداً روى هذا الحديث غير عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن جابر، وقد تكلم شعبة في عبد الملك بن أبي سليمان من أجل هذا الحديث، وعبد الملك ثقة مأمون عند أهل الحديث لا يُعلم أحداً تكلم فيه غير شعبة من أجل هذا الحديث.
وقال في " العلل الكبير " ص 571: سألتُ محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث، فقال: لا أعلم أحداً رواه عن عطاء غير عبد الملك بن أبي سليمان وتفرد به، ويُروى عن جابر خلاف هذا.
وقال صاحب " التنقيح " فيما نقله عنه الزيلعي في " نصب الراية " 4/ 174: واعلم أن حديث عبد الملك بن أبي سليمان حديث صحيح، ولا منافاة بينه وبين رواية جابر المشهورة -وهي الشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة- فإن في حديث عبد الملك إذا كان طريقُها واحداً، وحديث جابر المشهور لم ينف فيه استحقاق الشفعة إلَاّ بشرط تصرف الطرق، فنقول: إذا اشترط الجاران في المنافع، كالبئر، أو السطح، أو الطريق، فالجار أحق بصقب جاره، لحديث عبد الملك، وإذا لم يشتركا في شيء من المنافع، فلا شفعة لحديث جابر المشهور، وطعن شعبة في عبد الملك بسبب هذا الحديث، لا يقدح فيه، فإنه ثقة وشعبة لم يكن من الحذاق في الفقه ليجمع من الأحاديث، إذا ظهر تعارضها، إنما كان حافظاً، وغيرُ شعبة إنما طعن فيه تبعاً لشعبة؛ وقد احتج بعبد الملك مسلم في " صحيحه " واستشهد به البخاري، ويشبه أن يكونا إنما لم يخرجا حديثه هذا لتفرده به، وإنكاره الأئمة عليه فيه، وجعله بعضهم رأياً لعطاء، أدرجه عبد الملك في الحديث ووثقه أحمد، والنسائي، وابن معين والعجلي، وقال الخطيب: لقد أساء شعبة، حيث حدث عن محمد بن عبد الله العرزمي، وترك التحديث عن عبد الملك بن أبي سليمان، فإن العرزمي لم يختلف أهل الأثر في سقوط روايته، وعبد الملك ثناؤهم عليه مستفيض، والله أعلم.
وقال ابن القيم في " تهذيب السنن " 5/ 167: والذين ردُّوا حديث عبد الملك بن أبي سليمان ظنوا أنه معارضٌ لحديث جابر الذي رواه أبو سلمة عنه: " الشفعة فيما لم يُقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق، فلا شفعة " وفي الحقيقة لا تعارض بينهما، فإن منطوق =
لو رَوَى حديثاًً آخر مثله لطرحتُ حديثه، وليس هذا جرحاً، فإن شُعبة ما طَرَحَ حديثه، وهو المتكلم عليه.
ومثله حديث أبي هريرة، وعمر الذي فيه قول عمر للنبي صلى الله عليه وسلم:" دع الناس يعملوا ". رواه مسلم (1)، وكذا حديثُ معاذ الذي أخبر به عند موته تأثماً، رواه البخاري ومسلم (2) وغيرهما. كلها قاطعةٌ في نفي التأويل.
وعن عاصم بن ضمرة، عن علي عليه السلام:" من قرأ القرآن فاستظهره شَفَعَ في عشرة من أهل بيته كلهم قد استوجب "(3).
= حديث أبي سلمة انتفاء الشفعة عند تميز الحدود، وتصريف الطرق، واختصاص كل ذي ملك بطريق، ومنطوق حديث عبد الملك: إثبات الشفعة بالجوار عند الاشتراك في الطريق، ومفهومه: انتفاء الشفعة عند تصريف الطرق، فمفهومه موافق لمنطوق حديث أبي سلمة وأبي الزبير ومنطوقه غير معارض له وهذا بين وهو أعدل الأقوال في المسألة.
فإن الناس في شفعة الجوار طرفان ووسط.
فأهل المدينة، وأهل الحجاز، وكثير من الفقهاء: ينفونها مطلقاً.
وأهل الكوفة: يثبتونها مطلقاً.
وأهل البصرة: يثبتونها عند الاشتراك في حق من حقوق الملك، كالطريق والماء ونحوه، وينفونها عند تميز كل ملك بطريقة، حيث لا يكون بين الملاك اشتراك.
وعلى هذا القول تدل أحاديث جابر منطوقها ومفهومها، ويزول عنها التضاد والاختلاف، ويعلم أن عبد الملك لم يرو ما يُخالف رواية غيره.
والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد وأعدلها وأحسنها: هذا القول الثالث والله الموفق للصواب.
(1)
رقم (31).
(2)
البخاري (128) و (129)، ومسلم (32).
(3)
أخرجه الترمذي (2905)، وابن ماجه (216)، وابن عدي في " الكامل " 2/ 788 من طريقين عن حفص بن سليمان، عن كثير بن زاذان، عن عاصم بن ضمرة، عن علي.
وحفص ضعيف جداً. وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلَاّ من هذا الوجه، وليس له إسناد صحيح، وحفص بن سليمان يُضَعَّفُ في الحديث.
وعن عُبيد الله ابن أبي رافعٍ، عن أبيه، عن علي عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وسلم بحديث النزول بعد الثلث الأول، وفيه يقول الله:" ألا سائلٌ فيُعطى، ألا مُذْنِبٌ يَستَغْفِرُ فيُغْفَرَ له "(1) وهذا التخصيص بهذا الوقت يدلُّ على أن الاستغفار غير التوبة، وعن علي عليه السلام، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث:" من عُوقِبَ في الدنيا، فالله أكرمُ من أن يُثني عقوبته، ومن عفا الله عنه، فالله أحلمُ من أن يعود فيما عفى عنه "(2). وقد ذكرتُ طُرُقَهُ في غير هذا الموضع.
وعن علي عليه السلام، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ما تقدم، ذكره محمد بن منصور في " العلوم " فيما يُقال بعد الصلوات.
وعن النعمان، عن علي عليه السلام، عنه صلى الله عليه وسلم:" إن في الجنة غُرفاً لمن أطاب الكلام، وأفشى السلام، وأطعَمَ الطعام، وصلى بالليل والناس نيام "(3) فهذه تسعة أحاديث كلها من طريق أمير المؤمنين علي عليه السلام، تدل على صحة الرجاء، وعلى عدم تأويل أحاديثه.
وفي " نهج البلاغة "(4)، عنه عليه السلام في ذلك حديث عاشر، وهو في " مسند أحمد "(5)، عن النبي صلى الله عليه وسلم، من طريق عائشة ولفظه: "الدواوين عند الله
(1) أخرجه أحمد 1/ 120، وذكره الهيثمي في " المجمع " 10/ 154 - 155 وقال: رواه أحمد وأبو يعلى بنحوه، ورجالها ثقات، وقد صَرَّح ابن إسحاق بالسماع.
وفي الباب عن أبي هريرة عند البخاري (1145) و (6321) و (7494)، ومسلم (758).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي (2527). وفي الباب حديث أبي مالك الأشعري عند عبد الرزاق (20883)، وأحمد 5/ 173 و343، وابن حبان (509)، والطبراني في " الكبير "(3466)، والبيهقي 4/ 300 - 301، والحاكم 1/ 321.
(4)
ص 379 - 380.
(5)
6/ 240، وفي سنده صدقة بن موسى الدقيقي ضعيف، يكتب حديثه ولا يحتج به، وأورده الهيثمي في " المجمع " 10/ 348 عن أحمد وضعفه بصدقة ابن موسى.
ثلاثةٌ، ديوانٌ لا يَدَعُه -وهو: الشرك بالله-، وديوانٌ لا يتركُه -وهو: حقوقُ المخلوقين، وديوانٌ لا يُبالي به وهو: ما بين العبد وربه عز وجل من صلاةٍ وصومٍ- ". وله شاهد عن أنس مرفوعاً، رواه البغوي (1) في تفسير: {إن تجتنبوا كبائر ما تُنْهَونَ عنه} [النساء: 31]. ولفظه: " يُنادي منادٍ من بُطنانِ العرشِ يوم القيامة: يا أمة محمد، إن الله قد عفا عنكم جميعاً المؤمنين والمؤمنات، تواهَبُوا المظالم، وادخلوا الجنة برحمتي " ذكره بسنده.
وروى الهيثمي (2) مثل حديث عائشة، عن أنس (3)، وسلمان (4)، وأبي هريرة (5) في باب ما جاء في الحساب.
وروى عن أنس أيضاً نحو حديثه الذي رواه البغوي في باب آخر بعد ذلك، وهو باب من يتكفل الله تعالى بغرمائهم، وقال (6) فيه: رواه الطبراني في
(1) في " التفسير " 1/ 419، و" شرح السنة "(4365) من طريق الحسين بن داود البلخي، عن يزيد بن هارون، عن حميد، عن أنس. والحسين بن داود هذا قال الخطيب في " تاريخه " 8/ 44: لم يكن ثقة، فإنه روى نسخة عن يزيد بن هارون، عن حميد، عن أنس أكثرها موضوع.
(2)
في " المجمع " 10/ 348.
(3)
أخرجه البزار (3439). قال الهيثمي: رواه البزار عن شيخه أحمد بن مالك القشيري ولم أعرفه، وبقية رجاله قد وثقوا على ضعفهم.
(4)
أخرجه الطبراني في " الكبير "(6133)، وفي " الصغير "(102)، وابن حبان في " المجروحين " 3/ 102، قال الهيثمي: فيه يزيد بن سفيان بن عبد الله بن رواحة، وهو ضعيف تكلم فيه ابن حبان، وبقية رجاله ثقات، قلت: ونص كلام ابن حبان في " المجروحين ": يزيد بن سفيان بن عبد الله بن رواحة أبو خالد يروي عن سليمان التيمي بنسخة مقلوبة روى عنه عُبيد الله بن محمد بن الحارثي لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد لكثرة خطئه، ومخالفته الثقات في الروايات، وقال العقيلي في " الضعفاء " 4/ 384: يزيد بن سفيان أبو خالد بصري لا يعرف ولا يتابع على حديثه.
(5)
قال الهيثمي: رواه الطبراني في " الأوسط " وفيه طلحة بن عمرو، وهو متروك.
(6)
أي: الهيثمي في " المجمع " 10/ 356.
" الأوسط "، وفيه الحكم بن سنان أبو عون، قال أبو حاتم: عنده وهمٌ كثير، وليس بالقويِّ، ومحلُّه الصدق، ويُكْتَبُ حديثُه، وضعَّفه غيره، وبقيتُهم ثقات.
فكيف يتواتر مثل هذا عنهم من غر تأويلٍ، ويكون ظاهره ضلالاً وبدعة، وهم أعرف الناس بالسنة، وهم القدوة، وفيهم الأسوة.
وكذلك جاء عنه عليه السلام موقوفاً في ذلك أثران من رواية ابن أبي الحديد، وفي " النهج " أثرٌ ثالث وهو قوله عليه السلام في خطبته بعد ذكر الشهادتين: لا يَخِفُّ ميزانٌ توضعان فيه، ولا يثقل ميزانٌ ترفعان منه، وهذا مذهب أهل السنة، كان يخطب به من على فروع المنابر، في مشاهد الإسلام ومجامعه ومحافله، يُعَلِّمُه المسلمين ويُبَشِّرُهم به، فكيف يقال: إنه منكر من قائله، أو متشابهٌ يحرم إطلاقه للجاهلين من غير بيان، ومن المعلوم أنه يحضُرُ في الجمعة كثيرٌ من أهل الجهل، ومن لا يعرف المُخَصصات، وموجبات تأويل الظاهر، مع أن الأثرين الأولين نصَّان لا يَصِحُّ تأويلهما.
وفي حديث فَضْلِ الصلاة، عن عُبادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:" من أتى بِهِنَّ لم يُضَيَّعْ منهن شيئاً استخفافاً بحقِّهن كان له عند الله عهد أن يُدْخِلَه الجنة ". رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وقد تقدم (1).
ولأحمد عن عبد الله بن عمر نحوه أيضاً (2)، وتواتَرَ قول المؤذنين في الدعاء إليها:" حيَّ على الفلاح "، وأجمعت الأمة عليه إجماعاًً ضرورياً بحيث يكفر المخالف الجاحد له، والخالد في النار ليس من المفلحين ضرورةً.
وجاء في فضل الصلوات الخمس، عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" أرأيتُم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسِلُ فيه كل يومٍ خمس مرات، ما تقولون ذلك يُبقي مِنْ درنه؟ " قالوا: ما يبقى شيءٌ، قال: "فذلك (3) مثل
(1) وهو مخرج في " صحيح ابن حبان "(1731).
(2)
انظر " صحيح ابن حبان "(1744) لعله هو.
(3)
في (ش): " فكذلك ".
الصلوات الخمس يمحوا الله بها الخطايا".
وفي روايةٍ: " مثل الصلوات الخمس مثل نهرٍ عظيمٍ ببابِ أحدِكم يغتسل فيه كل يومٍ خمس مراتٍ، فإنه لا يُبقي ذلك من دَرَنِه شيئاً ". رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي (1)، من أربع طرقٍ، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هُريرة.
والمرويُّ عن عليِّ بن أبي طالب عليه السلام في " النهج " أنه كان يخطب بذلك من غير استثناء (2)، وكذلك سمعنا غير واحدٍ من خطباء أولاده وشيعته يخطُبون به من غير مناكرةٍ بينهم في ذلك.
وروى البُخاري أن قوله تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود: 114]، نزلت في الصلوات الخمس. رواه البخاري (3) من حديث ابن مسعود، ويعضُدُه مفهوم آية السجدة الأولى في سورة " الحج " فإن الله تعالى قال عقيب قوله فيها:{وكثيرٌ من الناس} يعني يسجدون لله تعالى، {وكثيرٌ حَقَّ عليه
(1) البخاري (528)، ومسلم (667)، والترمذي (2868)، والنسائي 1/ 230 - 231.
وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان "(1726). والدرن: الوسخ.
(2)
ص 457، ونصها: تعاهدوا أمر الصلاة وحافظوا عليها، واستكثروا منها، وتقرَّبوا بها، فإنها كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً، ألا تسمعون إلى جواب أهل النار حين سُئِلُوا:{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} وإنها لَتَحُتُّ الذنوب حَت الورق، وتُطلقها إطلاق الرِّبَقِ، وشَبَّهها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحَمَّةِ تكونُ على باب الرجل، فهو يغتسل منها في اليوم والليلة خمسَ مرات، فما عسى أن يبقى عليه بن الدَّرَنِ، وقد غَرَفَ حَقَّها رجالٌ من المؤمنين
…
(3)
رقم (526) و (4687) ولفظه: أن رجلاً أصابَ من امرأة قُبْلَةً، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فأنزل الله:{أقِمِ الصلاة طَرَفَي النهار وزُلَفاً من الليل إنَّ الحسنات يذهبن السيئات} فقال الرجل: يا رسول الله، ألي هذا؟ قال: لجميع أمتي كُلِّهم ". وانظر تخريجه في " صحيح ابن حبان " (1729).
العذابُ} [الحج: 18]، فجعل الذين حَقَّ عليهم العذاب هم الذين لا يسجُدُون لله وزادت السنة هذا بياناً، فورد في سجود التلاوة:" أن العبد إذا سَجَدَ للتلاوة اعتزل الشيطان يبكي ويقول: سجد ابن آدم فله الجنة، وعَصَيْتُ فلي النار " رواه مسلم (1) بتخويف كما يأتي قريباً بلفظه.
وعند بعض أهل العلم: دلَّت على أنهم الذين لا يسجدون تكذيباً وكفراً، وأما المُقِرُّون المُوَحِّدون فجعلوهم تحت المشيئة إما أن يُعفى عنهم، أو يُعَذَّبوا عذاباً منقطعاً حسب الحكمة لعموم:{ويَغْفِرُ ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48]، وخصوص حديث عبادة ابن الصامت فيمن حافظ على الصلوات ومن أضاعهن وغير ذلك كما تقدم (2)، وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَثَلُ الصَّلوات الخمس كمثل نهرٍ جارٍ غَمْرٍ على باب أحدكم يغتسل منه كل يومٍ خمسَ مراتٍ ". قال الحسن: وما يُبقي ذلك من الدرن. رواه مسلم (3).
وروى النسائي (4) نحو ذلك عن أبي أيوب، وعقبة بن عامر، ولم يختلف في هذه الأحاديث أنه لم يَرِدْ فيها استثناء شيء من الذنوب، إلَاّ حديثان يأتيان، وأما فضل الصلوات من غير استثناء، فرواه البخاري والنسائي (5) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها كَفَّارات لما بينها مُطلقاً.
وكذلك روى أبو داود (6) في ذلك حديثاًً (7) عن عبد الله بن عمرو بن
(1) رقم (81).
(2)
في ص 116 وقبل ذلك.
(3)
رقم (668)، وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان "(1725).
(4)
1/ 90 - 91.
(5)
البخاري (160)، والنسائي 1/ 91، ومالك 1/ 30 من حديث عثمان.
(6)
رقم (347) من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من اغتسل يوم الجمعة، ومسَّ من طيب امرأته إن كان لها، ولَبِسَ من صالح ثيابه ثم لم يتخط رقاب الناس، ولم يلغُ عند الموعظة، كانت كفارة لما بينهما ومن لغا وتخطى رقاب الناس، كانت له ظُهراً " وسنده حسن وصححه ابن خزيمة (1810).
(7)
في الأصول: "حديثين عن عبد الله بن عمرو بن العاص وعن أبيه عمرو" وهو خطأ، =
العاص، وكذلك رواه أحمد في " المسند " والترمذي (1) في البر من حديث زاذان، عن ابن عمر بن الخطاب، وهو الحديث (253) من مسنده في " الجامع ".
وكذلك رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي (2) ثلاثتهم عن أبي هريرة مطلقاً، وقال الترمذي: حَسَنٌ صحيحٌ، وانفرد مسلمٌ فرواه في كتاب الطهارة، من طريق هشام بن حسانَ، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، فزاد فيه:" ما لم يغشَ الكبائرَ "(3). وسيأتي الكلام عليه وهذا أحد الحديثين.
وثانيهما: حديث عثمان في فضل الصلوات تفرَّد به مسلم (4)، لكن رواه البخاري ومالكٌ في " الموطأ "، والنسائي (5) بنحو حديث أبي هريرة مُطلقاً، بل روى النسائي من حديث عثمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من علم أن الصلاة عليه حقٌّ واجبٌ دخل الجنة " وزاده عبد الله بن أحمد في " زوائد المسند " كلاهما
= فليس في سنن أبي داود حديث عن عمرو بن العاص بهذا المعنى وقد أثبت في نسخة (ش) إشارة الحذف على قوله: "وعن أبيه عمرو".
(1)
أحمد 2/ 26، والترمذي (1986) بلفظ:" ثلاثة على كثبان المسك أراه قال يوم القيامة: عبد أرى حق الله وحق مواليه، ورجل أمَّ قوماً وهم به راضون، ورَجُلٌ ينادي بالصلوات الخمس في كل يوم وليلة ".
وفي سنده أبو يقظان، وهو ضعيف. وصحابي هذا الحديث تحرف في " جامع الأصول " 9/ 562 إلى عبد الله بن عمرو بن العاص، وفات صاحبُنا الشيخ عبد القادر حفظه الله أن ينبه عليه.
(2)
مسلم (233)، والترمذي (214)، وابن ماجه (1086). وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان "(1733). وليس هو في " سنن أبي داود " كما ظن المؤلف.
(3)
هذه الرواية بهذا السند لم ترد فيها الزيادة، وإنما وردت عنده من طريق إسماعيل بن جعفر. عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، مولى الحُرقة عن أبيه، عن أبي هريرة. ومن طريق ابن وهب عن أبي صخر، عن عمر بن إسحاق عن أبيه، عن أبي هريرة.
(4)
رقم (228).
(5)
البخاري (160)، و" الموطأ " 1/ 30، والنسائي 1/ 91.
من طريق عبد الملك بن عبيد، عن حُمران عنه (1)، وعبد الملك لم يُذْكَرْ بجرحٍ قطُّ، وهو من تابعي التابعين، مُقِل، وهو أوثق من عمرو بن شعيب (2) في الظاهر، ويَشْهَدُ لذلك ما رواه البخاري ومسلم (3)، عن عثمان، عنه صلى الله عليه وسلم:" من مات وهو يعلم أنه لا إله إلَاّ الله دخل الجنة ".
وروى مسلمٌ من حديث عمرو بن سعيد بن العاص الأموي الأشدق فضل الصلوات والجمعة عن عثمان، فزاد فيه نحو ذلك (4).
ولهم في مخالفته ألفاظٌ منها عن عثمان أنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من توضأ فأسبغ الوضوء ثم مشى إلى صلاةٍ مكتوبةٍ فَصَلَاّها، غُفِرَ له ذنُبه "(5). رواه البخاري في الرقاق، عن سعد بن حفصٍ، عن شيبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن معاذ بن عبد الرحمن القرشي، عن حمران، عن عثمان.
والذي وجدت في كتاب الرقاق، وبعض نسخ " صحيح البخاري " في أوائله في باب قول الله عز وجل:{يا أيها الناس إن وعد الله حق} الآية [فاطر: 5]، قال [مجاهد]: الغرور الشيطان، ثم ذكر بالسند المقدم: "من توضأ نحو هذا
(1) تقدم تخريجه ص 81. وليس هو في النسائي كما زعم المؤلف، والحافظ المزي لم ينسبه إلى النسائي في " تحفة الأشراف "، وعبد الملك بن عبيد -وهو السدوسي- لم يرو له النسائي غير حديث واحد متابعة 8/ 192.
(2)
تحرفت في (ش): " سعيد "، وكذا فوقها في (ب).
(3)
انفرد بإخراجه مسلم (26) وليس هو في البخاري كما قال المؤلف. وانظر تمام تخريجه في ابن حبان (201).
(4)
مسلم (228)، وليس فيه فضل الجمعة ولفظه:" لا يسترعي الله عبداً رعية، يموت حين يموت وهو غاشٌّ لها، إلَاّ حرم الله عليه الجنة ".
(5)
أخرجه مسلم (232) من طريق نافع بن جبير وعبد الله بن أبي سلمة عن معاذ، عن حمران، عن عثمان بلفظ:" من توضأ للصلاة فأسبغ الوضوء ثم مشى إلى الصلاة المكتوبة، فصلاها مع الناس أو مع الجماعة أو في المسجد، غَفَرَ الله له ذنوبه " وسيأتي لفظ البخاري.
الوضوء، ثم أتى المسجد فرَكَعَ ركعتين، ثم جَلَسَ غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبه " قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تَغْتَرُّوا " انتهى (1).
ومعنى " لا تغترُّوا ": لا تقطعوا وتأمنوا لجهلِ الخواتم كما سيأتي، على أني لم أجدْ هذه الزيادة إلَاّ عند البخاري في هذا السند فقط ففي النفس منها على صحة معناها، ويحيى بن أبي كثير مُدَلِّس، وفي شيبان والتيمي كلام سهلٌ يُؤَثِّرُ مثله هنا، لأن هذه الزيادة لا يَغْفُلُ عن مثلِها من شاركهم في رواية الحديث من الثقات، عن مُعاذ بن عبد الرحمن ثم عن حُمران مع كثرتهم، فيجوز ذلك إلا أن يكون حديثاًً آخر غير متصل بهذا الحديث مرسلاً أو مسنداً، ويدل على ذلك قوله: وقال صلى الله عليه وسلم، فلو كان من الحديث لم يُناسبْ إفرادُها بذلك مدرجة بهذا السند أو بغيره، فيكون هنا لها حكم.
ورواه مسلم (2) في الطهارة عن أبي الطاهر بن أبي السَّرْحِ، ويونُسَ بن عبد الأعلى، كلاهما عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن حكيم بن عبد الله القُرشي، عن نافع بن جُبير بن مُطعم، وعبد الله بن أبي سلمة كلاهما عن معاذ بن عبد الرحمن به.
ورواه النسائي في الطهارة (3)، عن إسحاق بن منصور، عن عُبيد الله، عن شيبان به. وفي الصلاة (4)، عن سليمان بن داود، عن ابن وهب به.
(1) البخاري رقم (6433). وأخرجه أحمد (459).
وأخرجه أحمد (478). وابن ماجه (285) من طريقين عن الأوزاعي، حدثنا يحيى بن أبي كثير، حدثنا محمد بن إبراهيم، حدثني شقيق بن سلمة، حدثني حمران، عن عثمان.
وأخرجه ابن ماجه (285) عن هشام بن عمار، حدثنا عبد الحميد بن حبيب، حدثنا الأوزاعي، حدثني يحيى، حدثني محمد بن إبراهيم، حدثني عيسى بن طلحة، حدثني حمران، عن عثمان.
(2)
رقم (232) وقد تقدم.
(3)
في " الكبرى " كما في " التحفة " 7/ 252.
(4)
2/ 111.
قال المِزِّي (1): ورُوِيَ عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم، عن شقيق بن سلمة، عن حُمران، وعنه، عن محمد بن إبراهيم، عن عيسى بن طلحة، عن حُمران.
ومنها: عن عثمان، حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند انصرافنا من صلاتنا هذه -قال مسعر: أُراها العصر- فقال: " ما أدري هل أُحَدِّثُكم بشيءٍ أم أسكتُ " قلنا: يا رسول الله: إن كان خيراً فَحَدِّثنا، وإن كان غير ذلك، فالله ورسوله أعلم، فقال:" ما من مسلم يتطهَّرُ فيُتِمُّ الطُّهور الذي كتب الله عز وجل، فيُصلي هذه الصلوات الخمس إلَاّ كانت كفاراتٍ لما بينهُنَّ ". لفظ ابن الجوزي في " جامع المسانيد " وقال: تفرَّد به مسلمٌ (2)، فوهم في ذلك، إنما تفرد مسلم بطريق جامع بن شداد، لا بالمتن (3)، فإنه مما رواه البخاري ومسلم ومالك في " الموطأ "، والنسائي كما ذكره ابن الأثير في " جامع الأصول "(4) وهو يعتمد على نقل الحافظ الحميدي في " الجمع بين الصحيحين " وقد ساق في طرقه، والتمييز بين ما اتفق عليه البخاري ومسلم منها، وما انفرد به كل واحدٍ منهما ما يشهَدُ بتحقيقه.
وقد راجعتُ كتاب البخاري فوجدتُه قد خَرَّجه في الطهارة في باب الوضوء ثلاثاً، ثلاثاً (5)، من حديث عروة، وفيه: أن عثمان قال: ألا أحدِّثكم حديثاًً لولا آيةٌ في كتاب الله ما حدثتكموه؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يَتَوضَّأُ رجلٌ فيُحسن وضوءه ويُصلي إلَاّ غُفِرَ له ما بينه وبين الصلاة حتى يُصَلِّيها " قال عروة:
(1)" التحفة " 7/ 252.
(2)
رقم (231).
(3)
قلت: اللفظ المذكور لمسلم فقط، وروى معناه البخاري ومسلم في غير هذه الرواية ومالك والنسائي وغيرهم.
أما من حيث الإسناد فتفرد به مسلم من طريق مسعر عن جامع بن شداد، ورواه أيضاً هو والنسائي وابن ماجه من طريق شعبة، عن جامع، بنحوه.
(4)
9/ 390 - 392.
(5)
رقم (160).
الآية: {إنَّ الذين يكتمون ما أنزلنا} وقد ذكر ذلك المِزِّي (1) في ترجمة عروة، عن حمران، عن عثمان.
وقال المِزِّي في " الأطراف "(2) رواه مسلم (3) في الطهارة عن ابن مثنى وبندار، كلاهما عن غندر، وعن عُبيد الله بن مُعاذٍ، عن أبيه، كلاهما عن شُعبة، وعن أبي بكر، وأبي كُريب، وإسحاق بن إبراهيم، ثلاثتهم عن وكيعٍ، عن مِسعرٍ، كلاهما عن جامع بن شداد أبي صخرة، عن حُمران به. انتهى.
طريق أخرى شاهدة لرواية حُمران من غير طريقه، قال أحمد بن حنبل (4)، أخبرنا أبو عبد الرحمن المُقرىء، حدثنا حَيْوَةَ، أخبرنا أبو عقيل أنه سمع الحارث مولى عثمان يقول: جَلَسَ عثمان، وجلسنا معه، فجاء المؤذِّن فدعا بماءٍ في إناءٍ أظنُّه سيكون فيه مُدٌّ، فتوضأ، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وضوئي هذا، ثم قال: من توضَّأ وضوئي هذا فصلى صلاة الظهر غُفِرَ له ما بينه وبين صلاة الصبح، ثم صلَّى العصر، غُفِرَ له ما بينه وبين صلاة الظهر، ثم صلى المغرب غُفِرَ له ما بينه وبين صلاة العصر، ثم صلى العشاء، غُفِرَ له ما بينها وبين صلاة المغرب، ثم لَعَلَّه يبيتُ يتمرَّغُ ليله، ثم إن قام فتوضَّأ فصلى الصبح غُفِرَ ما بينها وبين صلاة العشاء، وهُنَّ الحسنات يذهبن السيئات ". وفي هذه الرواية نوع مخالفةٍ، لكنها صحيحة يشهد لها ما اتفق البخاري ومسلم على روايته من حديث أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من صَلَّى البردين، دخل الجنة " (5).
وروى مسلم، وأبو داود، والنسائي حديث أبي موسى هذا من حديث عمارة بن رُؤْبة، وتقدمت شواهد ذلك (6)، ويعضُده حديث فضل الوضوء وحده،
(1) في " التحفة " 7/ 250.
(2)
7/ 248.
(3)
رقم (231).
(4)
في " المسند " 1/ 71، وإسناده صحيح.
(5)
تقدم ص 80.
(6)
ص 80 - 81.
فقد ثبت عن عثمان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من توضأ فأحسن الوضوء، خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره "(1).
وفي رواية: أن عثمان توضَّأ، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مثل وضوئي هذا ثم قال: " من توضأ هكذا غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه، وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلةً ". رواه البخاري ومسلم (2).
ذكره كله ابن الأثير في " جامعه "(3) في الفضائل من حرف الفاء، وذكر ابن الجوزي منه الرواية الأولى، وعزاها إلى مسلمٍ وحده، ذكره في مسند عثمان من كتابه " جامع المسانيد " وليس في " مسند أحمد " الذي ذكره ابن الجوزي إلا عثمان بن حكيم، انفرد عنه مسلم، والأربعة، ولم يتكلَّم فيه أحدٌ، ولا ذكره في " الميزان ".
وقال في " الكاشف "(4): وثَّقوه، وبقية رجاله متفقٌ عليهم (5).
وخرَّج مسلم الرواية الثانية في أول كتاب الوضوء عن عبد العزيز الدراوردي، عن زيد بن أسلم، عن حمران، عن عثمان، ونسب المِزِّي (6) هذا السند ومتنه إلى مسلمٍ وحده، وأخرج مسلمٌ (7) الحديث بنحو ذلك من طريق هارون (8) بن سعيد الأيلي عن ابن وهب، عن مَخْرَمَة بن بُكيرٍ، عن أبيه، عن حُمرانَ بنحوه والله أعلم.
ولم يُشارك مسلماً أحدٌ من الستة في هاتين الطريقين على ما أشار إليه المِزِّي في أطرافه، وإنما رواه البخاري وغيره من طريق عروة، وعطاء، ومعاذ بن
(1) أخرجه مسلم (245).
(2)
لفظ مسلم (229)، وأخرجه بنحوه البخاري (159).
(3)
9/ 374 - 375 و390 - 392.
(4)
2/ 248.
(5)
في (ش): " عليه ".
(6)
في " التحفة " 7/ 249.
(7)
رقم (232).
(8)
تحرف في الأصل إلى: مروان.
عبد الرحمن، ثلاثتهم عن حُمران، وقد تقدم لفظ البخاري، عن معاذ في الرقاق وخالفه مسلم وغيره في الزيادة التي فيه، ولفظ البخاري عن عُروة، وعطاءٍ، في كتاب الطهارة (1) بالحديث من غير هذه الزيادة فكأنه إنما ذكرها في الرقاق، وقد يتساهل في الرقاق، ويمكن أنه حديثٌ آخر بسبب آخر، أدرجه على هذا الحديث، وهذا الإسناد (2) يحيى بن أبي كثير -لما فيه من الزجر- فقد كان يُدلِّسُ، فهذا أشبه (3) به والله أعلم.
ويدل على هذا قوله فيها: " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ولو كانت من جملة الحديث ما ناسب إفرادها بذلك، والرواية المشهورة فيه عن عقبة بن عامر قال: كانت علينا رعاية الإبل، فجاءت نوبتي أرعاها فروَّحْتُها بعشي، فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً يُحَدِّثُ الناس، فأدركت من قوله:" ما من مُسلمٍ يتوضأ، فيحسن وضوءه، ثم يقوم، فيصلي ركعتين يُقْبِلُ عليهما بقلبه ووجهه إلَاّ وجبت له الجنة ".
فقلتُ: ما أجود هذا، فإذا قائلٌ بين يدي يقول التي قبلها أجود، فنظرت، فإذا عمر بن الخطاب قال: إني قد رأيتك جئت آنفاً قال: " ما منكم من أحدٍ يتوضأ فيُبْلِغُ الوضوء، أو يُسبِغُ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلَاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إلَاّ فُتِحَتْ له أبواب الجنة الثمانية فيدخل من أيِّها شاء ".
قال ابن الأثير في " الجامع "(4): رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي (5)، وساق بقية ألفاظهم، وهذا لفظ مسلم. وللترمذي (6) إسنادٌ ضعيفٌ
(1) رقم (159) و (160).
(2)
في (ف): " إسناد ".
(3)
في (ف) و (د): " شبيه ".
(4)
9/ 402.
(5)
أخرجه بطوله مسلم (234)، وأبو داود (169) وأخرجه مختصراً أبو داود (906)، والنسائي 1/ 95.
(6)
رقم (55)، وأخرجه ابن ماجه أيضاً (470) من حديث عمر بن الخطاب، وقال الترمذي: وهذا حديث في إسناده اضطراب ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كبير شيء، =
غير إسناد مسلم، وهو شاهد مُقَوٍّ لا مُعْتَمَدٌ، والمراد بيان شذوذ الاستثناء الوارد، فلو جاء مع شُذوذه عن ثقةٍ حافظ كان الشذوذ له علةٌ، كيف وما جاء إلَاّ عن مُختلَفٍ فيه.
أما عمرو بن سعيد بن العاص (1) فكان من أُمراء بني أمية الكبار المشغولين بالمُلك، تَغَلَّبَ على دمشق من غير وجهٍ مُبيحٍ لذلك، وهمَّ بالخروج على عبد الملك بن مروان، فاحتال عليه عبد الملك بن مروان حتى ظَفِرَ به، فذبحه صبراً، ذكر ذلك الذهبي مختصراً في " الميزان "(2) ولم يحتج به البخاري، فينظر في " الكاشف "(3)، و" التهذيب " من وثَّقَه أو خرَّج حديثه، ولا ذكر المِزِّي في " تهذيب الكمال "(4) مع توسُّعِه فيه وتقصِّيه عن أحدٍ أنه وثَّقَه، وذكر من جُرأته على الملك نحواً مما ذكره الذهبي وروى عن البخاري صلى الله عليه وسلم (5) أنه غزا عبد الله بن الزبير، وفي " أطراف المِزِّي " (6) قيل: له رؤية ولم يَثْبُتْ، وفي " تهذيبه " نحوه، وفي " جامع المسانيد " لابن الجوزي قال البخاري: لا يصح سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هو عمرو بن سعيد بن العاص الذي هاجر الهجرتين، وقَدِمَ مع سفينة
= وخطّأه العلامة المحدث أحمد شاكر في هذه الدعوى، وقال: أصل الحديث صحيح مستقيم الإسناد، وإنما جاء الاضطراب في الأسانيد التي نقلها الترمذي منه، أو ممن حدثه بها، ثم أورد الحجج التي تدحض دعوى الاضطراب، وترده على قائله، فانظره.
(1)
الراوي عن عثمان حديث: " ما من امريء مسلم تحضره صلاةٌ مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها، إلَاّ كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يُؤْتِ كبيرة وذلك الدهر كله " مسلم (228).
(2)
3/ 262.
(3)
2/ 329 ذكر نحو كلامه في " الميزان ". وقال الحافظ ابن حجر في " التقريب ": وهم من زعم أن له صحبة، وإنما لأبيه رؤية، وكان عمرو مسرفاً على نفسه، وليست له في مسلم رواية إلَاّ في حديث واحد. قلت: وذكره ابن حبان في " الثقات " 5/ 178، وحديثه عند أبي داود في " المراسيل " والترمذي والنسائي وابن ماجه.
(4)
ص 1035.
(5)
" التاريخ الكبير " 6/ 338.
(6)
8/ 151.
جعفر، ذكره ابنُ الأثير في " جامع الأصول "(1) في الصحابة، وذكر الأخير في التابعين، ومن نظر إلى من خالفه في الحديث لم يلتفت إلى زيادته، ولذلك تركها البخاري، بل جاء في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بتركها في قوله تعالى:{إنَّ الحسنات يذهبن السيئات} [هود: 114]، وقوله:{ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48].
وأما مسلم، فيقوي لها (2) سبب نزول الآية في مقدمات الربا لا فيه، وهو متفقٌ على صحته من حديث ابن مسعود كما سيأتي (3)، ويوافقه هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، وإنما يُقوِّيه ويكون متابعاً له لو رواها عن عثمان.
وأما هذه الزيادة (4) في حديث أبي هريرة فهي فيه مُعَلَّةٌ مثل هذه في حديثِ عثمان على أنهما لو اجتمعا في حديثٍ واحد ما قَوِيا على مُعارضة من خالفهما من الثقات الأثبات كيف وهذا شعبة يقول في هشام بن حسان: لو حابيتُ أحداً لحابيتُ هشام بن حسان كان خَتَني، ولم يكن يحفظ.
وقال يحيى بن آدم: قال أبو شهاب: قال لي شعبة: عليك بحَجَّاجٍ، ومحمد بن إسحاق، فإنهما حافظان، واكتُم علي عند البصريين في خالدٍ وهشام، وقد رد الذهبي (5) هذا على شعبة فبالغ، ولكلام شعبة وجهٌ.
وقال عَفَّان: أخبرنا وُهيبٌ، قال لي الثوري: أفِدْني عن هشام، فقلت: لا أستحل ذلك، وقد نقل ابن حجر في " علوم الحديث "(6) له عن الذهبي أنه
(1) في القسم الأخير من التراجم 14/ 554، وأما الأخير -وهو عمرو بن سعيد بن العاص- فذكره في الصفحة:783.
(2)
في (ش): " بها ".
(3)
وقد تقدم ص 117.
(4)
وهي قوله: " ما لم تُغش الكبائر "، وقد تقدم في الصفحة 119 على أن هذه الزيادة ليست في مسلم من طريق هشام بن حسان، وإنما هي عنده من طريقين آخرين.
(5)
في " الميزان " 4/ 295 - 298.
(6)
" شرح نخبة الفكر " ص 299.
قال: ما اجتمع اثنان من أئمة هذا الشأن على توثيق رجلٍ أو تضعيفه إلَاّ كان كما قالا. قال ابن حجر: والذهبي من أهل الاستقراء التام، فقد اجتمع شعبةُ ووُهَيْبٌ على تضعيفٍ هشامٍ مُطلقاً ..
أما من ضعفه عن الحسن، فكثير، ومع ذلك فحديثه عن الحسن في الصحيح بغير متابع، لكن غير ما أُعِلَّ.
وقد احتج ابن حجر بذلك في مقدمة شرح البخاري (1) في ترجمة هشام على ما اختاره في " علوم الحديث " من كون الصحيح ينقسم إلى قسمين، وقد طَوَّلوا في الكلام عليه، خصوصاً في حديثه عن الحسن البصري. وأما روايته عن محمد بن سيرين فهو فيها قويٌّ عندهم، ولكن فيما لم يُخالِفْ فيه، ولذلك ترك البخاري هذه الزيادة من رواية هشام (2)، مع أنه من رجاله، وقد أنكر أيوب على هشام شيئاً من حديث محمد بن سيرين، وقد قال هشام: إنه ما كتب عن ابن سيرين شيئاً يعني لحفظه، وهذا هو سبب ما وقَعَ له من الوهم، فإن الحفظ خَوَّان، وقد كان أحمد بن حنبل لا يُحدث إلَاّ من الكتاب، وينهى عن الرواية من الحفظ لمثل هذا.
ولذلك أمر الله تعالى بكتابة الشهادة، وعلَّلَ ذلك بأنه أدنى أن لا يرتابوا، وحديث عمرو بن سعيدٍ، عن عثمان (3) أشدُّ ضعفاً لعدم صحة توثيقه من الأصل مع الإعلال البين.
(1) ص 448.
(2)
يبدو لي أن المؤلف كان يعتمد في النقل على ذاكرته والذاكرة خوَّانة، وإلا لَمَا وقع له هذا الوهم المبين، فإن هذه المحاولة التي عبأ لها كل ما استطاع لتضعيف هشام بن حسان فيما ينفرد به لا تفيده شيئاً، لأن هذه الزيادة لم ترد من طريقه في صحيح مسلم، وإنما من طريقين آخرين كما تقدم. على أن الإمام أحمد 2/ 359 أخرج هذا الحديث بهذه الزيادة من طريق أبي جعفر، عن عباد بن العوام، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة.
وبهذا يتبين أن هشام بن حسان لم ينفرد بها، فلا وجه لإعلاله من قبل المؤلف رحمه الله.
(3)
أخرجه مسلم (228)، وابن حبان (1044).
وحديث هشام عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة أشدُّ إعلالاً؛ لأن الرواة عن أبي هريرة كثرةٌ عظيمة، يَزيدون على ثمانِ مئة، ثم عن محمد بن سيرين، فتفرُّدُ محمد بن سيرين بمثلِ هذا عن أبي هريرة، ثم تفرُّد هشامٍ عن محمد غريبٌ جداً؛ لأن مغفرة الذنوب بذلك مستغربة مستنكرة في طباع المشددين، ولذلك أنكرها المبتدعة بآرائهم، بل أوجب تأويلها كثيرٌ من كبراء أهل السنة بمجرد الطبيعة مع موافقتها لأُصولهم، مثل ابن عبد البر وغيره، وقد كان من عمر بن الخطاب مع أبي هريرة في ذلك ما يأتي ذكره، فلو ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك استثناءً، لم يَغْفُلْ عنه أحدٌ قط.
فإن قلت: وكذلك الاستثناء لا يغترُّ به أحد.
قلت: بل قد يجوز في أهل الورع، والطبيعة الغليظة الغالبة أن تقطع على أن (1) ذلك هو مُرادُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يسمع أنه تأويل قوله، فيستثني هو من عند نفسه، ولا يقصد روايته، فيحسَبُه السامع من الحديث، وهو الذي يسمى المُدْرَجَ، أو يقصد إيهام ذلك، لأنه عنده حقٌّ، وقد نَسَبَ ابن عبد البر تعمُّدَ مثل هذا إلى الزهري، بل قال في موضعين من " تمهيده ": إن الزهري كثيراً ما يفعل ذلك، وخاصة مثل عمرو بن سعيد، فإنه يخاف التكذيب إن لم يَسْتَثْنِ ذلك أو أن يُتَّهَمَ، ويحتمل أن هشاماً ما سَمِعَ هذه الزيادة إلَاّ في حديث عمرو بن سعيد فتوهَّمها في الحديثين معاً خصوصاً (2) إن كان روى الحديثين، والحامل على الإصغاء إلى هذه الاحتمالات مخالفة الأكثرين من الثقات فيما لا يُحتملُ غفلتهم عنه من المهمات والله أعلم.
وليس القصد أنه يحصُلُ لأحدٍ بهذه المبشرات القطع بالغفران والأمان المطلق لجهل الخواتم وتخويف الله تعالى الصالحين حيث قال: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج: 27 - 28]، ولكن القصد بيان الصحيح من الرواية، وقد تقدمت الروايات المخالفات لهذه
(1) في (ش): " بأن ".
(2)
في (ف): " وخصوصاً ".
الزيادة وهي مشتملةٌ على حديثين عن أبي هريرة، وأربعة أحاديث عن عثمان، وحديثين عن أبي موسى، وعمارة بن رُوَيْبة، وحديث عقبة بن عامر، وحديث عبادة في فضل الصلاة، ومثله حديث ابن عمر، وهذه عشرة أحاديث ليس في شيءٍ منها استثناء، ومعناها يَرْجِعُ إلى شيءٍ واحد، وهو تجويز تكفير بعض الكبائر بغير التوبة.
وروى النسائي والترمذي (1) عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما قال عبدٌ: لا إله إلَاّ الله قط مُخلصاً إلَاّ فُتِحَتْ له أبواب السماء حتى يُفضي إلى العرش ما اجتنب الكبائر " قال الترمذي: واللفظ له: حسن غريب من هذا الوجه.
قلت: وهو من حديث الولد بن القاسم الهَمْدَاني عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هُريرة كما ذكره المِزِّي في " أطرافه " في هذه الترجمة، وفي الوليد بن القاسم، ويزيد بن كيسان كليهما كلامٌ يقتضي عدم صحة حديثهما من غير مُعارضة، كيف إن عارض معناه ما لا شك في رجحانه، والاتفاق على صحته، مما لا ذِكِرَ لذلك فيه -وسَلِمَتِ المعارضة- (2) مثل حديث معاذ (خ م)، وحديث عبادة (خ م)، وحديث أبي ذر (خ م)، وحديثي أبي هريرة حديث عند (خ)، وحديث عند (م)، وحديث ابن مسعود (خ م)، وحديث عتبان بن مالك وغيرها، وكل هذه في فضائل الإسلام من " جامع الأصول " في حرف الفاء (3)، وسيأتي ذكرها، وذكر غيرها في باب ما جاء في بُشرى هذه الأمة، وبيان تواترها، مع ما يشهد لها من القرآن، وبيان أن ذلك لا يُفيد الأمان، ولا يرفَعُ الخوف بالإجماع. ويعضُدُها أخبارٌ كثيرةٌ أذكر منها بعضها وكلها كالشرح لقوله تعالى:{ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48].
(1) النسائي في " عمل اليوم والليلة "(833)، والترمذي (3590).
(2)
" وسلمت المعارضة " ليست في (ف).
(3)
9/ 355. وأرقامها على ترتيب المؤلف: (7005) و (6998) و (7007) و (7011) و (7013) و (7008) و (7010).
فأقول: الحديث الحادي عشر عن أنس قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه رجلٌ فقال: يا رسول الله أصَبْتُ حدّاً فأقِمْ فيَّ كتاب الله، قال:" أليس قد صليت معنا "، قال: نعم، قال:" فإن الله قد غفر لك ذنبك "، أو قال:" حَدَّك "، رواه البخاري ومسلم (1) من طريقين عن عمرو بن عاصم، عن همام بن يحيى العَوْذي البصري، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس، ورواه البخاري في المحاربين، ومسلم في التوبة، وله شاهدٌ صحيحٌ من حديث أبي أُمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
وهو: الحديث الثاني عشر. رواه مسلم، وأحمد، وأبو داود، والنسائي (2) كلهم من حديث شداد بن عبد الله، عن أبي أمامة، ورواه عن شدادٍ الأوزاعي وعكرمة بن عمار، قال المِزِّي في " أطرافه ": رواه مسلم في التوبة، وأبو داود في الحدود، والنسائي في الرجم من طرقٍ تركتها اختصاراً.
الحديث الثالث عشر: ما رواه أحمد (3) قال أخبرنا هُشيمٌ، حدثنا العوَّام بن حَوْشَبٍ، عن عبد الله بن السائب، عن أبي هُريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الصلاة المكتوبة إلى الصلاة المكتوبة التي بعدها كفارةٌ لما بينهما، والجمعة إلى الجمعة، والشهر إلى الشهر -يعني رمضان إلى رمضان- كفارةٌ لما بينهما " ثم قال بعد ذلك: " إلَاّ من ثلاثٍ: إلَاّ من الإشراك بالله، ونكثِ الصفقة، وترك السُّنة، قلتُ: يا رسول الله أما الإشراك بالله، فقد عرفناه، فما نكث الصفقة قال: " أن تُبايِعَ رجلاً، ثم تخالِفَ إليه تقاتُله بسيفك، وأما ترك السنة، فالخروج من الجماعة " رواته ثقات إن كان عبد الله بن السائب هو الكوفي، وذلك هو الظاهر والله أعلم، وهذا الحديث هو الحديث الثاني والخمسون من مسند أبي هريرة من " جامع المسانيد ".
(1) البخاري (6823)، ومسلم (2764).
(2)
مسلم (2765)، وأحمد 5/ 251 - 252، و262 - 263 و265، وأبو داود (4381)، والنسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " 4/ 168.
(3)
2/ 229 وأخرجه الحاكم 1/ 119 - 120 و4/ 259 وصححه ووافقه الذهبي وهو كما قالا. وانظر " صحيح ابن حبان "(1733)، و" مسند أحمد " بتحقيق العلامة أحمد شاكر (7129).
وهذه الثلاثةُ الأحاديث عن أنس، وأبي أمامة، وأبي هريرة وما في معناها مما سيأتي ذكر بعضه الآن هي (1) أرجح من اعتبار سبب نزول الآية في مقدمات الربا، لأن قصر العموم على سببه مختلفٌ فيه، ومختلف المواقع في القوة والضعف بحسب القرائن، وهذه القرائن أقوى من النصوص (2) مع قُوَّةِ العموم. والله أعلم.
الحديث الرابع عشر: ما رَوَى حُريث بن قبيصة، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" أوَّلُ مما يُحاسَبُ عليه العبد الصلاة، فإن صَلَحَتْ، فقد أفلحَ وأنجحَ، وإن فَسَدَتْ، فقد خاب وخسِرَ " الحديث رواه الترمذي، والنسائي (3) من طريق الحسن البصري عن حُريثٍ، عن أبي هريرة، ورواه النسائي (4) أيضاً من طريق نفيع بن رافع، عن أبي هريرة، وذكر الطريقين المزي في " أطرافه "(5).
الحديث الخامس عشر (6): ما رواه مسلمٌ وأحمد من طريق أبي هريرة أيضاً، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إذا قرأ ابن آدم السجدة، فسجد، اعتزل الشيطان يبكي، ويقول: أُمِرَ بالسجود فسَجَدَ فله الجنة، وأُمِرْتُ بالسجود، فعَصَيْتُ، فلي النارُ " وهذا حكاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مُقَرِّراً له، فكان حجة كما تقرر. فمثله ما حكاه الله في كتابنا، وتلاه علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستحسناً له غير منكر، ويشهد لمعناه ما تقدم قريباً من مفهوم آية السجدة الأولى في سورة الحج، وكذلك سائر المُكَفِّرات لم يرد في شيءٍ منها استثناءٌ، وهي كثيرةٌ جداً، وليس هذا موضع استيفائها، ولكن نشيرُ إلى طرفٍ من مشهوراتها من ذلك وهو.
الحديث السادس عشر (7): عن عثمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ،
(1) في (ش): " إلَاّ أن هذا ".
(2)
في (د) و (ف): " القرائن ".
(3)
الترمذي (413)، والنسائي 1/ 232. وهو حديث صحيح بشواهده.
(4)
1/ 233.
(5)
9/ 314 و10/ 388.
(6)
تقدم تخريجه ص 118.
(7)
تقدم تخريجه ص 124.
فأحسنَ الوضوء خرجت خطاياه من جَسَدِه" وفي رواية: " من توضَّأ نحو وضوئي هذا غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه، وكانت صلاته نافلة " رواه البخاري ومسلم.
الحديث السابع عشر: عن أبي هريرة، عنه صلى الله عليه وسلم نحوه، وفي لفظه:" حتى يخرج نَقِيّاً من الذنوب ". رواه مالك في " الموطأ "، ومسلمٌ، والترمذي (1).
الحديث الثامن عشر: عن عبد الله الصُّنابحي عنه صلى الله عليه وسلم نحو ذلك. رواه مالك في " الموطأ " والنسائي (2).
الحديث التاسع عشر: عن أبي أُمامة الباهلي مثل ذلك وأبين منه، رواه النسائي (3) ويشهد لذلك القرآن الكريم، وذلك قوله تعالى في المائدة [6] بعد ذكر الوضوء والتيمم:{ما يريد الله ليجعل عليكم من حرجٍ ولكن يريد ليُطَهِّرَكُمْ} ، فقوله:{ولكن يريد ليطهركم} ، يدل على ذلك لأن التطهير بذلك له معنيان لغويٌّ: وهي النظافة، وشرعي: وكثير ما يرد لتطهير الذنوب، كقوله تعالى في الزكاة:{تطهرهم وتُزَكِّيهم بها} [التوبة: 103]. وأما النظافة التي هي الطهارة اللغوية، فيبعُدُ (4) إرادتها خصوصاً، والتطهير ورد بعد ذكر التيمم، وليس فيه نظافةٌ، وهو أقل الطهارتين قدراً وأجراً، لأنه لا يُعْدَلُ إليه إلَاّ عند الضرورة، وقد أخبر الله تعالى أنه يريد أن يُطهِّرَنَا به، فدَلَّ على أنها طهارةٌ شرعية، وتردد الأمر بين أن يكون ذلك هو رفع الحدث فقط، أو تكفير الذنوب، أو مجموعهما، فمن يجعل دلالته (5) عليهما من قبيل دلالة العام على مفرداته يقول: إن الآية تعُمُّهما (6)، ومن يجعله من المشترك، فلهم فيه قولان، منهم من
(1) مالك 1/ 32، ومسلم (244)، والترمذي (2).
(2)
مالك 1/ 31، والنسائي 1/ 74 - 75، وأخرجه ابن ماجه (282).
(3)
أخرجه النسائي 1/ 91 - 92 بإسناد صحيح.
(4)
في (ف): " فبعيد ".
(5)
في الأصول: " دلالة "، وكتب فوقها في (ف): دلالته ظ.
(6)
في الأصول: " تعمها "، وكتب فوقها في (ف): تعمهما ظ.
يقول: يدل على الجميع، وهو مذهب الزيدية، وبعض الأصوليين، ومنهم من يقول: يجب التوقف حتى تدُلُّ قرينةٌ، وقد دلت الأخبار هذه المذكورة على أن تكفير الذنوب مراد الله، فلم يَجُزْ نفي التفسير بذلك، وحَسُنَ إيرادُها في تفسير ذلك.
الحديث المُوَفِّي عشرين: عن أبي هريرة قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام بلالٌ يُنادي، فلما سكت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من قال مثل هذا (1) يقيناً، دخل الجنة " رواه النسائي (2).
الحديث الحادي والعشرون: عن عمر بن الخطاب، عنه صلى الله عليه وسلم بنحو حديث أبي هريرة فيمن أجاب المُؤذن، وزاد: لا حول ولا قوة إلَاّ بالله العلي العظيم حين الحيعلة. رواه مسلم وأبو داود (3).
الحديث الثاني والعشرون: عن سعد بن أبي وقَّاص عنه صلى الله عليه وسلم بنحو حديث عمر، وأبي هريرة في إجابة المؤذن، ولفظه:" ممن قال حين يسمع المؤذِّنَ: وأنا أشهد أن لا إله إلَاّ الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ رسولاً "، وفي رواية: نبياً، غُفِرَ له ذنبه " رواه مسلم وأبو داود، والترمذي، والنسائي (4).
الحديث الثالث والعشرون: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " المؤذن يُغْفَرُ له مدى صوته، ويشهد له كل رَطْبٍ ويابس، وشاهد الصلاة في الجماعة يُكْتَبُ له خمسٌ وعشرون صلاة، ويُكَفَّرُ عنه ما بينها ". رواه أبو داود، وروى
(1) في (ش): " ما قال ".
(2)
2/ 24، وأخرجه أحمد، وابنه عبد الله في زوائده على " المسند " 2/ 352، وابن حبان (1667)، والحاكم 1/ 204، وصححه ووافقه الذهبي. قلت: وإسناده قوي.
(3)
أخرجه مسلم (385)، وأبو داود (527).
(4)
مسلم (386)، وأبو داود (525)، والترمذي (210)، والنسائي 2/ 26، وأخرجه ابن ماجه (721).
النسائي منه فضل المؤذن، وزاد:" وله مثل أجر من صلَّى "(1).
الحديث الرابع والعشرون: مثل حديث النسائي المُقَدَّم، لكنه عن البراء بن عازب رواه النسائي (2).
الحديث الخامس والعشرون: ما ثبت من غير طريق، أو تواتر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال. " من وافق تأمينُه تأمينَ الملائكة غُفِرَ له (3) ما تقدم من ذنبه "(4).
وعن شدَّاد بن عبد الله عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: " من حافظ على سُبْحَةِ (5) الضحى، غُفِرَتْ ذنوبُه وإن كانت مثل زبد البحر ". رواه الترمذي وابن ماجه (6).
وعن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: " من غدا إلى المسجد أوراح أعدَّ الله له نُزُلاً كلما غدا أو راح، خرَّجاه (7).
وعنه [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:] ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات "، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: " إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطَا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرِّباط، فذلكم الرباط ". رواه مسلم، ومالك في " الموطأ "، والنسائي، وغيره (8).
(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (515)، والنسائي 2/ 13 وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان "(1666).
(2)
2/ 13 ورجاله ثقات.
(3)
في (د) و (ش): " الله ".
(4)
أخرجه البخاري (780) و (6402)، ومسلم (409) و (410)، وأبو داود (935) و (936)، والترمذي (250)، والنسائي 2/ 143 و144، ومالك في " الموطأ " 1/ 87.
(5)
في الترمذي وابن ماجه: " شفعة ".
(6)
الترمذي (476)، وابن ماجه (1382). وإسناده ضعيف.
(7)
البخاري (662)، ومسلم (669).
(8)
مسلم (251)، ومالك 1/ 161، والترمذي (51) و (52)، والنسائي 1/ 89 - 90.
وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من قام رمضان احتساباً، غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبه " رواه الجماعة (1).
كل هذه رُويت عنه صلى الله عليه وسلم، هكذا مطلقة (2) من غير استثناء، فإذا كانت المغفرة المطلقة قد صحت عن أبي هريرة في ثلاثة عشر حديثاًً فيما يتعلق بالصلاة والوضوء والأذان، بل في ذكر واحدٍ من أذكار الصلاة، وهو التأمين، ولكل واحدٍ من هذه الأحاديث أو الكثير (3) منها عدة طرقٍ وما ذكر أحدٌ في ذلك استثناء قط، مع أن الرواة عنه أكثرُ من ثمان مئةٍ من التابعين، والرواة عنهم أضعافُهم من تابعي (4) التابعين، فأين يقع هشام بن حسان (5) من هؤلاء مع صحة تضعيفه!
وكذلك عثمان قد صحت عنه ستة أحاديث بنحو ذلك مع قلة حديثه، وروى عنه عروة بن الزبير (6) ما يدلُّ على عدم الاستثناء، فإنه رواه عنه أنه قال: إني مُحدِّثُكم حديثاًً لَوْلا آيةٌ في كتاب الله ما حدَّثتكموه، ثم روى لهم حديث تكفير الوضوء، والصلوات لما بينها، فمراد عثمان أنه يخاف عليهم من معرفته التجرُّؤ على الكبائر، أما لو استثنى ذلك لما استعظم روايته، وامتنع منها حتى يخاف العقوبة على كتمِها (7)، فإن القرآن قد نص على مغفرة الصغائر لمجرد اجتناب الكبائر، كما قال تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} .
(1) أخرجه البخاري (35) و (37) و (1901) و (2008) و (2009) و (2014)، ومسلم (759)، وأبو داود (1371) و (1372)، والترمذي (808)، والنسائي 4/ 155 - 157، ومالك 1/ 113 - 114.
(2)
في (د) و (ف): " مطلقاً ".
(3)
في (ش): " كثير ".
(4)
في (ش): " تابع ".
(5)
سبق أن بينا أن هشام بن حسان قد توبع على هذه الزيادة، فلا وجه للطعن فيها.
(6)
رواه عن حمران، عن عثمان. أخرجه مسلم (227) وقد تقدم.
(7)
في (ف): " تركها ".
ورُوي: لولا أنه في كتاب الله بالنون، وهي في " الموطأ "(1)، قال النووي (2): والأولى هي الصحيحة، ومعناه على هذه الرواية الإشارة إلى قوله:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، يريد لا فائدة في الكتم، وقد ظهر هذا في كتاب الله تعالى، وعلى تسليم صحة هذه الزيادة فإن الجمع بين هذه الأحاديث يجوز أن يقتضي رُجحان الظن لغُفران جميع الذنوب بفضل الصلوات بدليل حديث أنس الصحيح المقدم (3) الذي فيه:" اذهب فقد غفر الله لك حَدَّكَ "، وبيانه أن الزيادة هذه لا تدل على عدم المغفرة للكبائر بالنص، بل بالمفهوم، وشرطُ المفهوم أن لا يكون للتخصيص بالذكر وجهٌ إلَاّ المخالفة (4)، وهنا وجهٌ ممكن غير المخالفة، وهو خوف المفسدة في البيان في بعض الأحوال كما سنذكره، فيكون المطلق هنا أكثر فائدةً من المقيَّد، فلا يكون للقيد مفهومٌ، كما قَوَّوا ذلك في صورة النهي، كالنهي عن القِرَان في التمر مُطلقاً (5)، والذي يشهد لهذا ما ثبت من أمثاله، وهي كثيرةٌ، من ذلك ما اتفقوا على صحته من قول النبي صلى الله عليه وسلم:" من مات له ثلاثةٌ من الولد لم تمسَّه النار إلَاّ تَحِلَّة القسم "(6). ومفهوم هذا
(1) 1/ 30 - 31.
(2)
في " شرح صحيح مسلم " 3/ 111.
(3)
ص 131.
(4)
في (ش): " بالمخالفة ".
(5)
أخرجه أحمد 2/ 7 و44 و46 و74 و81 و103، والبخاري (2455) و (2489) و (2490) و (5446)، ومسلم (2045)، وأبو داود (3834)، والترمذي (1814)، وابن ماجه (3331) ولفظه:" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرن الرجلُ بين التمرتين حتى يستأذن أصحابه ".
والقِران، ويُروى الإقران، والأول أصح، وهو أن يقرن بين التمرتين في الأكل، وإنما نهى عنه، لأن فيه شرهاً، وذلك يُزري بصاحبه، أو لأن فيه غبناً برفيقه. وقيل: إنما نهى عنه لما كانوا فيه من شدة العيش، وقلة الطعام، وكانوا مع هذا يواسون من القليل، فإذا اجتمعوا على الأكل، آثر بعضهم بعضاً على نفسه، وقد يكون في القوم من قد اشتد جوعه، فربما قرن بين التمرتين، أو عَظَّمَ اللقمة، فأرشدهم إلى الإذن فيه، لتطيب به أنفُس الباقين. " النهاية " 4/ 52 - 53.
(6)
تقدم ص 47.
مخالفةُ الاثنين للثلاثة في الحكم، فلمَّا قالوا: واثنان يا رسول الله، قال:" واثنان "، قال بعضهم: لو استزَدْناه لزادنا. ورواه أحمد في " مسنده "(1) في الواحد من حديث أبي عبيدة عن ابن مسعود، وهو الحديث الثاني من " مسنده " في " جامع المسانيد " لابن الجوزي، بل قد صح في البخاري (2) ما يقتضي ذلك في الواحد، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يقول الله من قَبَضْتُ صَفِيَّهُ من أهلِ الدنيا لم يكُن له جزاءٌ عندي إلَاّ الجنةُ ".
وقد صرَّحتِ الأحاديث بأن الكتم في هذا المعنى مقصودٌ كما في حديث مُعاذٍ المشهور (3) وفي غيره، وهو يُقوي هذا التأويل، ويُضعفُ العمل بالمفهوم في نحو ذلك، بل يوجب بطلانه، وليت شعري ما يقول متأوِّل النصوص بذلك وما يظن في رسول الله صلى الله عليه وسلم مع بلاغته وفصاحته، أنه لم يفهم العبارة، ولم يفهم أن للصغائر اسماً يخُصُّها، وللعموم لفظاً يدلُّ عليه، فما استطاع أن يوضِّحَ أن
(1) 1/ 375 و429، وأخرجه الترمذي (1061)، وابن ماجه (1606). وقال الترمذي: هذا حديث غريب، وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه. قلت: وليس فيه " لو استزدناه لزادنا ". وإنما لفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قدَّمَ ثلاثةً لم يبلغوا الحِنْثَ كانوا له حِصْناً حَصيناً من النار "، فقال أبو الدرداء: قدَّمتُ اثنين؟ قال: " واثنين "، فقال أُبي بن كعب أبو المنذر سيِّدُ القراء: قدمتُ واحداً؟ قال: " واحد، ولكن ذاك في أول صدمة ".
وأخرج أحمد 3/ 306 عن محمد بن أبي عدي، عن محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن إبراهيم، عن محمود بن لبيد، عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من مات له ثلاثة من الولد، فاحتسبهم دخل الجنة "، قال: قلنا: يا رسول الله، واثنان؟ قال: " واثنان " قال محمود: فقلت لجابر: جراكم لو قلتم: وواحد لقال: وواحد، قال: أنا والله أظن ذاك.
ذكره الهيثمي 3/ 7. وقال: رجاله ثقات.
(2)
رقم (6424).
(3)
يريد ما أخرج البخاري (2856)، ومسلم (30) عن عمرو بن ميمون، عن معاذ. وفيه:" فإنَّ حَقَّ الله على العباد أن يعبُدوا الله، ولا يُشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله عز وجل أن لا يُعَذِّبَ من لا يُشركُ به شيئاً " قال: قلت: يا رسول الله، أفلا أُبَشِّرُ الناسَ؟ قال:" لا تُبَشِّرْهُمْ فيَتَّكِلُوا ".
هذه المغفرة للصغائر فقط، على وجهٍ يَصِحُّ عنه صحةً لا ريب فيها، كما صَحَّ التَّعميم عنه، بل تواتر.
وإذا حُمِلَ ذلك على الصغائر فقد صَحَّ أن الجمعة تكفِّرُ ذنوب عشرة أيام (1)، فمن أين جاء القطع أن صلاة العشرة الأيام لا تُكفِّرُ كبيرةً، بل صح أن رمضان يُكَفِّرُ ذنوبَ السنة (2)، فمن أين القطع أن صلوات سنةٍ كاملة لا تكفر كبيرةً، فقد كُفِّرَتْ صغائرُها برمضان، أفلا تقوى صلوات العام مع اجتماعها على تكفير كبيرة، بل صح أن صوم يوم عرفة، ويوم عاشوراء يكفران ذنوب ثلاث سنين (3)، أفلا تقوى صلاةُ ثلاث سنين، وصيام ثلاثة أشهرٍ فيها فرائض من ما فيها من الجُمَعِ على تكفير شيءٍ من الكبائر، وتجويز ذلك قبيحٌ على الله، واجبٌ تكذيبُ من رواه من الثقات، وتأويل ما اقتضاه من الآيات فنعوذ بالله من الغُلُوِّ وتحريف النصوص.
وأما قول ابن عبد البر: إنه يلزم من عدم التأويل ألا تجب التوبة فباطلٌ، لأن التوبة واجبةٌ لقُبحِ الذنب، لا لخوف (4) العقوبة، ودفع المضرة، ولذا نزل قوله تعالى:{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 3]، بعد قوله:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2].
(1) أخرجه مسلم (857)، وأبو داود (343) و (1050)، والترمذي (498) من حديث أبي هريرة.
(2)
أخرجه مسلم (233)(16) من حديث أبي هريرة ولفظه: " الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضانُ إلى رمضان مكفراتٌ ما بينهن إذا اجتنب الكبائر " وقد تقدم عند المؤلف.
(3)
أخرج مسلم (1162) من حديث أبي قتادة الأنصاري، وفيه:" صومُ ثلاثة من كل شهر ورمضان إلى رمضان صوم الدهر " قال: وسُئل عن صوم يوم عرفة؟ فقال: " يُكَفِّرُ السنة الماضية والباقية "، قال: وسئل عن صوم يوم عاشوراء فقال: " يُكَفِّرُ السنة الماضية ". وأخرجه بنحوه الترمذي (749)، وابن ماجه (1730).
(4)
في (ش): " خوف ".
وأما ما ذُكر من خوف المفسدة الكبرى بترك الناس العمل، فقد اختلفت فيه الأحاديث، وانعقد الإجماع بعدُ على خلافه، فكيف يكتم أو ينكتِمُ ما يشهد به القرآن. والصحيح أن كل أحدٍ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له (1)، فلا يَضُرُّ، ولذلك قال عيسى عليه السلام:{والسلامُ عليَّ يَومَ وُلِدْتُ ويومَ أموتُ ويومَ أُبعَثُ حَيَّاً} [مريم: 33]، وكذلك قال الله في يحيى بن زكريا وأمثالهما من أهل العصمة، ولذلك كان الرواة لأحاديث الرجاء والشفاعة كبراء الصحابة، كأبي ذَرٍّ رضي الله عنه، وأبي الدرداء، وجابر وأمثالهم، فلم يَحْمِلْ ذلك أحداً منهم على الوقوع في كبيرةٍ، بل كانوا أعلام الهُدى، وإليهم المنتهى في التقوى، وكذلك من رواها عنهم من التابعين، فقد روى الصادق، عن أبيه الباقر، عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي " رواه الحاكم في " المستدرك "(2) مع تشيُّعِه، وقد اشتدَّ خوف الثلاثة المخلفين (3) مع عظيم فضلهم وصِحَّةِ بُشراهم، فإنَّ اثنين منهم من أهلِ بَدْرٍ، وثالثهم كعب بن مالك من السابقين الأولين (4) أهل بيعه العقبة مع صحة التوبة منهم (5)، ولم يكن أهل الإيمان يزدادون بمثل ذلك إلَاّ رغبةً، ولذلك قالت المعتزلة والصوفية: من عَمِلَ لأجلِ الخوف فقط، لم تَصِح عبادته، ولم تُقبل، ومن كان لا يُبالي بغضب الله تعالى ونواهيه ما لم يَخَفِ العقوبة، فهو ناقصُ الإيمان أو مسلوبُه (6)، ولما روى عمر حديث القَدَرِ، قال: الآن نجتهد (7) ولو كانت البُشرى مفسدةً، ما كان القنوط مفسدةً، وهو حرامٌ وِفاقاً، وإنَّما المفسدة الأمان. وأين هو ورسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) تقدم تخريج الأحاديث التي وردت بهذا المعنى.
(2)
1/ 69 من طريقين عن الصادق جعفر بن محمد، به.
(3)
في (ش): " المتخلفين ".
(4)
في (د) و (ف): " الأول ".
(5)
أخرجه البخاري (4418)، ومسلم (2769). وسيأتي بطوله.
(6)
في (ش): " ومسلوبه ".
(7)
أخرجه ابن أبي عاصم في " السنة "(165)، وابن حبان (108)، والآجري ص 170، والبزار (2137). وقد تقدم.
يقول: سَمِعَ رجلاً يقول لميت [يعني] مسلماً: أبشِرْ بالجنة، فقال:" وما يُدريك لَعَلَّه تكلَّم بما لا يَعنيه، أو بَخِلَ بما لا يُغنيه " رواه الترمذيُّ في " الزهد " عن سليمان الأعمش، عن أنس، وقال: غريب (1).
وقد صُرِّحَ بغُفران الكبيرة والصغيرة (2) في فضل صلاة التسبيح التي نقلها أهل البيت عليهم السلام وأهل الحديث، وما قال أحدٌ: إن رواية ذلك من الفساد المحرم (3).
وصنف عبد الغني في تصحيحها كتاباً مفرداً، وقال إمام النُقَّاد أبو الحسن الدارقطني: إنها أصحُّ شيء في فضائل الصلوات، وأصحُّ شيءٍ في فضائل سور القرآن سورة:" قل هو الله أحد "، ورُويت فيها (4) ستة أحاديث عن ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم عبد الله بن عباس (5)، وأخوه الفضل بن
(1) إسناده ضعيف لانقطاعه، فسليمان الأعمش لم يسمع من أنس. وأخرجه الترمذي (2316)، والذهبي في " السير " 6/ 240 من طريقين عن عمر بن حفص بن غياث، عن أبيه، عن الأعمش، عن أنس. وقال الذهبي: غريب يعدُّ من أفراد عمر بن حفص شيخ البخاري.
قلت: لم ينفرد عمر بن حفص به، فقد رواه أبو يعلى (4017) عن عبد الرحمن بن صالح الأزدي، حدثنا يحيى بن يعلى الأسلمي، عن الأعمش به. ويحيى بن يعلى ضعيف.
(2)
في (د) و (ف): " الكبير والصغير ".
(3)
في (د): " الكبير ".
(4)
في (ف): " فيه ".
(5)
أخرجه أبو داود (1297)، وابن ماجه (1387)، وابن خزيمة (1216)، والطبراني (11622)، والحاكم 1/ 318، والبيهقي 3/ 51 - 52، والدارقطني في مصنفه في صلاة التسابيح فيما نقله ابن ناصر الدين ص 8 من طريق عبد الرحمن بن بشر بن الحكم النيسابوري، حدثنا موسى بن عبد العزيز القنباري، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس.
وعبد الرحمن بن بشر بن الحكم: ثقة من رجال الشيخين.
وموسى بن عبد العزيز القنباري: روى عنه جمع، وقال ابن معين: لا بأس به، وقال النسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في " الثقات " وقال: ربما أخطأ، ووثقه ابن شاهين، وقول ابن المديني فيه: ضعيف، مردود، لأنه جرحٌ مبهم غير مفسر، وهو في مقابل تعديل =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ابن معين والنسائي، وهما مَنْ هما في التشدد في التوثيق، روى له البخاري في " جزء القراءة "، وأبو داود، والنسائي.
والحكم بن أبان: هو العدني، وثقه ابن معين والنسائي، وقال أبو زرعة: صالح، وذكره ابن خلفون في " الثقات " وقال: وثقه ابن نمير، وأبو جعفر السبتي، وعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، روى له البخاري في " القراءة خلف الإمام " وفي " الأدب المفرد " وأصحاب السنن.
وعكرمة مولى ابن عباس: ثقة ثبت، عالم بالتفسير، احتج به البخاري، وروى له مسلم مقروناً.
وهذا إسناد أقل ما يقال فيه: إنه حسن لذاته. قال ابن ناصر الدين في " الترجيح " ص 39 - 40: حديث عكرمة هذا صححه أبو داود، وأبو بكر محمد بن الحسين الآجري وغيرهما، وقال أبو بكر بن أبي داود: سمعت أبي يقول: ليس في صلاة التسبيح حديث صحيح غير هذا.
وأخرجه أبو يعلى الخليلي في " الإرشاد " عن أحمد بن محمد بن عمر الزاهد، عن أبي حامد أحمد بن محمد بن الشرقي، عن عبد الرحمن بن بشر، به. وقال بإثره: قال أبو حامد بن الشرقي: سمعت مسلم بن الحجاج -وكتب هذا عن عبد الرحمن- يقول: لا يروى في هذا الحديث إسناد أحسن من هذا. وانظر " سنن البيهقي " 3/ 51.
وقال الحافظ المنذري في " الترغيب والترهيب " 1/ 468: وقد رُوِيَ هذا الحديث من طرق كثيرة، وعن جماعة من الصحابة، وأمثلها حديث عكرمة، وقد صححه جماعة، منهم الحافظ أبو بكر الآجري، وشيخنا أبو محمد عبد الرحيم المصري، وشيخنا الحافظ أبو الحسن المقدسي رحمهم الله تعالى.
وقال الترمذي: وقد رأى ابن المبارك وغير واحد من أهل العلم صلاة التسبيح، وذكروا الفضل فيه.
وقال البيهقي في " سننه " 3/ 52: وكان عبد الله بن المبارك يفعلها، وتداولها الصالحون بعضهم عن بعض، وفيه تقوية للحديث المرفوع.
وقال الحاكم 1/ 319: ومما يستدل به على صحة هذا الحديث استعمال الأئمة من أتباع التابعين إلى عصرنا هذا، ومواظبتهم عليه وتعليمهم للناس، منهم عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى، ثم قال: ولا يتهم عبد الله أن لا يعلمه ما لم يصح عنده سنده. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وأخرجه الطبراني (11365) من طريق نافع أبي هرمز، عن عطاء، عن ابن عباس. ونافع أبو هرمز ضعيف.
قلت: وقد حسَّنَ حديث صلاة التسبيح المنذري، وابن الصلاح، وتقي الدين السبكي، وولده تاج الدين، وابن حجر في " الخصال المكفرة "، و" أمالي الأذكار ".
وقد اضطرب فيه الإمام النووي، فحسنه في " الأذكار "، وفي " تهذيب الأسماء واللغات "، وقال في " المجموع ": حديثها لا يثبت.
وصححه أبو داود، وابن منده، والحاكم، وأبو بكر الآجري، وأبو بكر بن أبي داود، وأبو موسى المديني، والخطيب البغدادي، وأبو الحسن بن المفضل، وعبد الرحيم المصري، والبلقيني، والحافظ العلائي، والبدر الزركشي، وابن ناصر الدين الدمشقي، والسيوطي.
وضعفه الترمذي، والعقيلي، وأبو بكر بن العربي، والذهبي في ترجمة موسى بن عبد العزيز من " الميزان "، ويغلب على ظني أن تضعيف الترمذي والعقيلي يتجه إلى الطرق التي وقفا عليها، ولو وقفا على بقية الطرق لتدل رأيهم.
وأما أبو بكر بن العربي، فقوله في هذا الباب لا يقاوم قول جهابذة هذا الفن الذين هم القدوة فيه، فإنه رحمه الله كان يغلب عليه الفقه، وهو به أقعد.
وقول الذهبي يُدفع بأن موسى بن عبد العزيز لم ينفرد به، بل رواه جمع من الرواة غيره.
وأما ابن الجوزي فقد أساء بذكره إياه في الموضوعات ظنّاً أن موسى بن عبد العزيز مجهول، وكم له من أمثال هذا الخطأ في كتابه الموضوعات كما نبه على ذلك غير واحد من أهل العلم. وموسى بن عبد العزيز كما تقدم روى عنه جماعة، ووثقه ابن حبان، وابن شاهين، وقال ابن معين والنسائي: لا بأس به، فكيف يكون مجهولاً؟!
والذي أقول به: إن حديث ابن عباس حسن لذاته صحيح لغيره كما تقتضيه الصناعة الحديثية، ودراسة الطرق التي انتهت إلينا، واتباعاً لمن قوَّاه من أئمة الحديث المشهود لهم بالعلم والبراعة والاعتدال. وفي الباب شواهد، سيرد بعضها في التعليقات الآتية. وانظر " الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة " للكنوي ص 123 - 143، فقد أجاد وأفاد، وأتى بما يفي بالمراد.
قلت: وقد كتب صاحبنا الشيخ الفاضل فضل عباس بحثاً موسعاً في صلاة التسابيح في كتابه " التوضيح " انتهى فيه إلى ترجيح القول بتضعيف الحديث سنداً ومتناً، وليته اقتصر على مجرد النقل عن الأئمة الحفاظ الذين تكلموا فيها، وأوسعوها بحثاً ودرساً، وانتهى معظمهم =
عباس (1)، وأنس (2)، وأبو رافع (3)، وعبد الله بن عمر بن الخطاب (4)،
= إلى تصحيحها، وأعفى نفسه من التورط في علم غير مختص به، إنه لو فعل ذلك، لسلم من جملة أخطاء حديثية غير قليلة وقعت له في بحثه.
(1)
ذكره ابن ناصر الدين في " الترجيح " من طريق أبي سلمة موسى بن إسماعيل المنقري، قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الحميد الطائي -وفي شرح ابن علان 4/ 315: عبد الحميد بن عبد الرحمن، ولم أتبينه- حدثني أبي، قال: لقيت أبا رافع، فسألته، فحدثني عن الفضل بن العباس مرفوعاً. وذكر الحديث بنحو حديث أبي رافع الآتي.
وأخرجه أبو نعيم في كتاب " القربات "، ونقل ابن علان عن الحافظ ابن حجر في " أماليه " قوله: " عبد الحميد بن عبد الرحمن الطائي عن أبيه: لا أعرفه، ولا أعرف أباه، وأظن أن أبا رافع شيخ الطائي غير أبي رافع إسماعيل بن رافع أحد الضعفاء فيما أظن.
(2)
أخرجه الترمذي (481)، والنسائي 3/ 51، والحاكم 1/ 317 - 318 من طريقين عن عكرمة بن عمار، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس أن أم سُلَيْم غَدَت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: عَلِّمنِي كلمات أقُولُهُنَّ في صلاتي، فقال:" كبِّري الله عشراً، وسبحي الله عشراً، واحمديه عشراً، ثم سلي ما شئت "، يقول: نعم نعم.
وهذا إسناد حسن من أجل عكرمة. وقال الترمذي: حديث حسن غريب، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وحسنه الحافظ ابن حجر فيما نقل ابن علان في " شرح الأذكار " 4/ 309.
(3)
أخرجه الترمذي (482)، وابن ماجه (1386) من طريقين عن زيد بن الحباب العكلي، حدثنا موسى بن عبيدة، حدثني سعيد بن أبي سعيد مولى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبي رافع.
موسى بن عبيدة: ضعفوه، وسعيد بن أبي سعيد لم يوثقه غير ابن حبان، فهو في عداد المجهولين. وقال الترمذي: حديث غريب.
(4)
أخرجه الحاكم 1/ 319، وفي سنده أحمد بن داود بن عبد الغفار، كذَّبه الدارقطني وغيره، وقول الحاكم: إسناد صحيح لا غبار عليه، رَدَّه الحافظان العراقي والذهبي نقل ذلك عنهما ابن علان في " شرح الأذكار " 4/ 316.
تنبيه: سقط تعقيب الذهبي من مختصره المطبوع مع " المستدرك "، وهذا حافز قوي لأهل العلم أن يتولوا نشر " المستدرك " نشرة صحيحة متقنة عن أصول خطية جيدة.
وعبد الله بن عمرو بن العاص (1).
أما حديث عبد الله، فهو أقواها رواه الحاكم، وأبو داود، والترمذي (2) وابن ماجة، وابن خزيمة المُسَمَّى إمام الأئمة في كتابه " الصحيح "، وأبو علي بن السكن في " صحيحه "، وذكر الحاكم أن النسائي (3) رواه في " صحيحه " عن عبد
(1) أخرجه أبو داود (1298) عن محمد بن سفيان الأُبَلِّي، حدثنا حبان بن هلال أبو حبيب، حدثنا مهدي بن ميمون، حدثنا عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، قال: حدثني رجل كانت له صحبة يرون أنه عبد الله بن عمرو قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم
…
وعمرو بن مالك: هو النكري، صدوق له أوهام.
ورواه مسلم بن إبراهيم، عن المستمر بن ريَّان، عن أبي الجوزاء، عن عبد الله بن عمرو. وهذه الطريق نالت إعجاب الإمام أحمد، قال أبو بكر الخلال في " العلل ": قال علي بن سعيد: سألت أحمد بن حنبل، عن صلاة التسبيح، قال: ما يصح عندي فيها شيءٌ، فقلتُ: حديث عبد الله بن عمرو، قال: كل من يرويه عن عمرو بن مالك -يعني وفيه مقال- فقلت: وقد رواه المستمر بن الريان عن أبي الجوزاء، قال: من حدثك؟ قلت: مسلم -يعني ابن إبراهيم- فقال: المستمر شيخ ثقة، وكأنه أعجبه.
قال الحافظ ابن حجر في " أجوبة المشكاة " 3/ 1779 - 1780: نقل الشيخ الموفق بن قدامة، عن أبي بكر بن الأثرم، قال: سألت أحمد عن صلاة التسبيح فقال: لا يعجبني، ليس فيها شيءٌ صحيح، ونفض يده كالمنكر.
قال الموفق: لم يثبت أحمد الحديث فيها، ولم يرها مستحبة، فإن فعلها إنسان فلا بأس.
قال الحافظ: وقد جاء عن أحمد أنه رجع عن ذلك، فقال علي بن سعيد النسائي: سألت أحمد عن صلاة التسبيح؟ فقال: لا يصح فيها عندي شيء.
قلت: المستمر بن الريان عن أبي الجوزاء، عن عبد الله بن عمرو؟ فقال: من حدثك؟ قلت: مسلم بن إبراهيم، قال: المستمر ثقة، وكأنه أعجبه.
قال الحافظ: فهذا النقل عن أحمد يقتضي أنه رجع إلى استحبابها، وأما ما نقله عن غيره، فهو معارض بمن قوى الخبر فيها، وعمل بها.
(2)
وهم المؤلف في نسبته إلى الترمذي.
(3)
لم أجده في المطبوع من " السنن "، ولم يذكره صاحب " التحفة ". وقال ابن حجر =
الرحمن بن بشر، والحديث مشهورٌ من حديث عبد الرحمن بن بشر بن الحكم، عن موسى بن عبد العزيز، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس.
قلت: أورده المِزِّي (1) في ترجمة الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، وقال: رواه أبو داود وابن ماجة جميعاً في الصلاة، عن عبد الرحمن بن بشر بن الحكم النيسابوري، عن موسى بن عبد العزيز القنباري، عن الحكم به.
قال ابن حجر (2): قال الحاكم (3): وتابعه إسحاق بن أبي إسرائيل عن موسى.
ورواه ابن خزيمة (4)، عن محمد بن رافع (5)، عن إبراهيم بن الحكم، عن أبيه، [عن عكرمة] مرسلاً.
قلتُ: روايته في " المستدرك "(6) من طريق إسحاق بن راهويه الإمام، قال:
= في " التلخيص " 2/ 7: وادعى الحاكم أن النسائي أخرجه في " صحيحه ".
ونص عبارة الحاكم 1/ 318: وقد خرَّجه أبو بكر محمد بن إسحاق، وأبو داود سليمان بن الأشعث، وأبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب في " الصحيح ".
فقوله: " في الصحيح " يحتمل أن يعود إلى " صحيح ابن خزيمة "، ويحتمل أن يعود إلى الثلاثة ابن خزيمة، وأبي داود، والنسائي، وقد ذكر الحافظ ابن حجر أن الحاكم أطلق الصحة على كتاب أبي داود والنسائي والترمذي.
أما الذهبي، فقد أصلح في " مختصره " عبارة الحاكم، فقال: وأخرجه أبو داود، والنسائي، وابن خزيمة في " الصحيح ". وهذا هو الصواب، فإن في سنن النسائي والترمذي وأبي داود أحاديث ضعيفة كما هو مبين في محله.
(1)
" التحفة " 5/ 123.
(2)
في " تلخيص الحبير " 2/ 7.
(3)
1/ 318 - 319.
(4)
الحديث رقم (1216).
(5)
في الأصل والتلخيص المنقول عنه: " محمد بن يحيى " وهو خطأ، والتصويب من ابن خزيمة و" المستدرك " ومحمد بن رافع هذا هو القشيري النيسابوري الحافظ الحجة الثقة، حدث عنه البخاري ومسلم وأصحاب السنن.
(6)
1/ 319.
أخبرنا إبراهيم وساقه مُسنداً كالأول، ثم قال الحاكم: ومما يُستدل به على صحته استعمال الأئمة من أتباع التابعين إلى عصرنا إياه، ومواظبتهم عليه، وتعليمهم الناس، منهم عبد الله بن المبارك رواه عنه من طريقٍ وَثَّقَ رجالها، ثم قال: ولا يُتَّهَمُ ابن المبارك أن يُعَلّم ما لم يصِحَّ عنده.
وذكر الذهبي (1): أن الحكم هذا الراوي له كان من العباد، وأنه (2) كان يقف في البحر الليل بين الماء، والماء إلى ركبتيه لا ينام، يذكر الله تعالى مع حيتان البحر.
وأما حديث الفضل، فذكره المُنذري (3)، وأما حديث أنسٍ فرواه الترمذي، وأما حديث أبي رافع فرواه الترمذي أيضاً، وأما حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب فرواه الحاكم، وقال: صحيحٌ لا غبار عليه بهذه العبارة، وخالف ابن حجر (4) فقال: ضعيف، وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، فرواه أبو داود، وفيه:" فإنك لو كنت أعظم أهل الأرض ذنباً غُفِرَ لك ذلك "، وقال في سنده: حدثنا محمد بن سفيان الأُبَلِّي، حدثنا حبان بن هلال أبو حبيب، حدثني مهدي بن ميمون، حدثنا عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، حدثني رجلٌ كانت له صحبة يرون أنه عبد الله بن عمرو، وساق الحديث، وإسناده قوي، ولم يُذكر في " الميزان " منهم أحدٌ بجرح ولا ضعفٍ، ولا تدليس.
وفي " الجامع الكافي " عن محمد بن منصور قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لو كانت ذنوبك عدد نجوم السماء، وعدد قطر الماء، وعدد أيام الدنيا، وعدد رمل عالج، لغفرها الله " وإنما أشرت إلى طَرَفِه باختصار لأنه مما يحافِظُ عليه أهل البيت عليهم السلام، يروونَه في كتبهم، ولم يُنكروا ما فيه من التصريح بغفران الكبير والصغير، ولا حذَّرُوا من اعتقاد ذلك، ولا من الرجاء له، وذلك دليل
(1) في " الميزان " 1/ 569.
(2)
في (ف): " فإنه ".
(3)
أشار إليه في " الترغيب والترهيب " 1/ 469، ولم يذكره.
(4)
2/ 7.
مخالفتهم لغُلاة المتكلمين في الشواهد على ذلك، ويُقَوِّي ما وَرَدَ في فضلها حديث " الحمد لله (1) تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض " رواه مسلم (2)، والله أكبر تملأُ ما بينهما أيضاً ولا إله إلَاّ الله أفضل من ذلك.
ويشهد له: {مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً} الآية [إبراهيم: 24]، ومن النظر أن التسبيح والتحميد يجمعان قسمي المحامد تنزيهاً وتحميداً (3)، والتهليل، والتكبير يجمعان قسمي الملك تعظيماً وتوحيداً، والحمد لله والملك يجمعان الأسماء الحسنى، فيكون فضل سبحان الله والحمد لله ثلاث مئة مرة، لأنهما يُقالان فيها ثلاث مئة مرة، وفضل التكبير كذلك، وفضل لا إله إلَاّ الله أكثر من ذلك لما وَرَدَ من تفضيلها (4)، صار الجميع ملء ما بين السماء والأرض تسع مئة مرة من غير فضل ما يقرؤه قبلها (5)، وفضل الركوع والسجود، فهذا مأخوذٌ من أحاديث صحاحٍ وحسان غير أحاديثهما مع ما ورد في المبالغة في تمثيل مقدار ذنوب الموحِّدِ بقوله:" وإن كانت مثل زَبَدِ البحر " رواه مسلم (6)، وحديث:" لو بلغت ذنوبُك عنان السماء " ثم استثنى: " لا يُشْركُ بي شيئاً "(7)، وذلك أن " لو" موضوعةٌ لامتناع الشيء لامتناع غيره، فدل على امتناع بلوغ (8) ذنوبه ذلك المبلغ برحمة الله مع (9) كلمةٍ واحدةٍ من ذكر الله، وهو حديثٌ صحيحٌ خَتَمَ
(1) في الأصول: " سبحان الله "، والمثبت من مصادر التخريج.
(2)
رقم (223) من حديث أبي مالك الأشعري، وأخرجه الترمذي (3517)، والنسائي 5/ 5 - 6.
(3)
في (د) و (ف): " وتمجيداً ".
(4)
في (د) و (ف): " تفضيلهما ".
(5)
في (د) و (ف): " يقرأ فيها ".
(6)
رقم (597) و (2691) من حديث أبي هريرة.
(7)
تقدم تخريجه من حديث أبي ذر. وأخرجه الترمذي (3540) من حديث أنس، وقال: حديث غريب.
(8)
زيادة من هامش (ف).
(9)
في الأصول زيادة: " أن "، والسياق لا يقتضيها.
النووي به مباني الإسلام مع شهادة كتاب الله لذلك بما ضربه مثلاً للكلمة الطيبة الواحدة، وكذلك ما ضَرَبَه للخبيثة، ومن شهادته بأن الله هو المتبارك المبارك فيما كان له، الذي لا نهاية لبركته، ومن هنا كانت الحسنات يذهبن السيئات، كما يُذهبُ الماء الكثير الطيب أقذار النجاسات، كما رواه الحاكم (1) عن أنس أن أبا ذرٍّ بال قائماً، وانتضح من بوله على ساقيه وقدميه، وقال: هذا دواء هذا، ودواء الذنوب أن تستغفروا الله عز وجل.
فهذه ستة أحاديث إلى تلك الخمسة والعشرين صارت إحدى وثلاثين حديثاًً، ويُشبه أحاديث صلاة التسبيح في النص على غفران الكبيرة حديث:" من قال بعد صلاة الفجر أو العصر أو المغرب وهو ثانٍ رجليه قبل أن يتكلم: لا إله إلَاّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحي ويميت، وهو على كل شيءٍ قدير، لم يَنْبَغِ لذنبٍ أن يدركه غيرُ الشرك بالله في يومه ذلك، وكُتِبَتْ له عشرُ حسنات، ومُحِيَتْ عنه عشر سيِّئاتٍ، ورُفِعَ له عشر درجات " الحديث.
وفي روايةٍ: " كانت له بعدلِ عشر رقابٍ مؤمناتٍ، ومُحِيت عنه عشرُ سيئات موبقاتٍ، وكُتبت له عشرُ حسنات موجبات ".
روى الترمذي في ذلك حديثين:
الأول: عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه، وقال: حديثٌ صحيح حسن غريب وهو اللفظ الأول (2).
والحديث الثاني: عن عمارة بن شبيب السَّبئيِّ الأنصاري، وقال: حديث
(1) 4/ 241 وصححه ووافقه الذهبي!
(2)
أخرجه الترمذي (3474)، والنسائي في " عمل اليوم والليلة "(127)، من طريق شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبي ذر.
وأخرجه أيضاً النسائي (126) من طريق شهر، عن عبد الرحمن، عن معاذ. وشهر مختلف فيه، والصوابُ قبولُ حديثه في المتابعات.
حسن غريب (1). ويعضُدُه حديثُ: " خيرُ دُعاءٍ دعاءُ يومِ عرفة، وخيرُ ما قلت أنا والنبيُّون من قبلي: لا إله إلَاّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمدُ، وهو على كل شيءٍ قدير "، رواه الترمذي (2) من حديث عمرو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، ولَفْظُه:" أفضلُ الدعاء يوم عَرَفَه، وأفضلُ ما قُلتُ أنا والنبيون قبلي " الحديث.
وروى الطبراني (3) نحوه من حديث (4) علي عليه السلام في كتاب المناسك من طريق قيس بن الربيع، ولفظه:" أفضل ما قلت أنا والأنبياء قبلي عشية عرفة " الحديث، وهكذا رواه مالك (5) في " الموطأ " مرسلاً من وجهٍ آخر ذكر ذلك كله ابنُ كثيرٍ في " الإرشاد " في باب صفة الحج.
قلتُ: قال المِزِّي (6) في حديث عُمارة المُقَدَّم: رواه الترمذي في الدعوات عن قُتيبةَ عن ليث (7)، عن الجُلاح أبي كثير، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي عن عُمارة، وقال: غريبٌ لا نعرفه إلَاّ من حديثِ كثير، ولا نعرف لعُمارة سماعاً من النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه النسائي في " اليوم والليلة " عن قتيبة به، وعن أبي الطاهر ابن
(1) أخرجه الترمذي (3534)، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " (577) وقال الترمذي: ولا نعرف لعمارة سماعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه النسائي (578) من طريق أخرى عن عمارة السبئي أن رجلاً من الأنصار حدثه
…
وإسناده صحيح.
ويشهد له حديث أبي أيوب، وأبي هريرة، والبراء، انظر تخريجها في " صحيح ابن حبان "(2023)(849) و (850).
(2)
رقم (3585) وفيه حماد بن أبي حميد، وهو ضعيف. لكنه يحسن بشواهده.
(3)
في " الدعاء "(874) ورجاله ثقات غير قيس بن الربيع، وحديثه صالح في المتابعات والشواهد.
(4)
في (ف): " عن ".
(5)
1/ 214 - 215 عن زياد بن أبي زياد، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز مرسلاً.
وإسناده صحيح.
(6)
في " التحفة " 7/ 488.
(7)
تحرف في الأصول إلى: كثير.
السرح، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن الجُلاح، عن أبي عبد الرحمن المعافري، أن عماراً السبئي حدَّثه أن رجلاً من الأنصار حدَّثه نحوه، قال أبو القاسم -يعني ابن عساكر-: وحديثُ عمرو هو الصواب إلَاّ قوله: " عمار " فإنه " عُمارة ".
قلتُ: بمثل هذا يُعْرَفُ فضلُ النسائي، فإن الترمذي مع علمِهِ قد كان حكم بغرابته وأنه لا يعرفه إلَاّ من حديث ليثٍ، فجاء به النسائي عن عمرو بن الحارث إمام الديار المصرية، عالمها، ومُفتيها، وأحد رجال الجماعة كلهم، ووصل انقطاعه، والجلاح ثقةٌ من رجال مسلم، [والترمذي]، والنسائي، وأبي داود، لم يذكره الذهبي في " الميزان " لعدم الاختلاف فيه، وشيخه أبو عبد الرحمن الحُبُلي متفقٌ عليه من رجال الجماعة، فهذا حديثٌ صحيح.
وقد أورد النسائي (1) في هذا المعنى ثلاثة أحاديث: عن أبي ذَرٍّ، واللفظ المقدم له، ورواه الترمذي معه، وقال: حسنٌ غريبٌ صحيح، وعن معاذ، وزاد فيه:" ومن قالهُنَّ حين ينصرف من العصر أُعطي مثل ذلك في ليلته "، وعن أبي أيوبَ بنحوه، ورواه معَهُ ابن حبان، ذَكَرَ ذلك مصنف " رياض الجنة " وغيره.
وروى أحمد (2) معنى ذلك من حديث أم سلمة مرفوعاً، وهو الحديث 49 من مسندها في " جامع " ابن الجوزي، وفيه دلالةٌ على أن في الحسنات ما يوجبُ الرضا، وله شواهد كقوله لأهل بدرٍ:" اعملوا (3) ما شئتم "(4)، وإنما نذكر هذا على جهة الترغيب في العمل، وحسن الظن بأرحم الراحمين.
وقد روى أحمد في " المسند "، وأبو داود، والترمذي عن سمير بن نهار،
(1) في " عمل اليوم والليلة "(127) و (126) عن أبي ذر ومعاذ، ولم يذكر الحديث الثالث عن أبي أيوب كما ذكر المؤلف.
(2)
6/ 298 وأخرجه الطبراني 23/ (787) وفيها شهر بن حوشب. وقال الهيثمي في " المجمع " 10/ 108: وإسنادهما حسن!
(3)
في (ش): افعلوا.
(4)
تقدم تخريجه.
وقيل: شُتَير بن نهار، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:" إن حُسْنَ الظن بالله من حُسْنِ العبادة "(1).
وفي الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يقول:" أنا عند ظن عبدي فليظن بي ما شاء "(2) ويشهدُ لذلك من كتاب الله تعالى مثل قوله في الحجرات [12]: {واتقوا الله إن الله توابٌ رحيمٌ} فجعل هذين الوصفين الحميدين من البواعث على التقوى، ولذلك هيَّج بذكرهما قلوبَ المتقين عند الأمر بالتقوى.
وأما قوله في غيرها: {فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً، واتقوا الله إن الله غفور رحيم} [الأنفال: 69]، فيحتمل أنه تأكيدٌ لأول آية، ويقوي هذا المعنى ما عُلِمَ من أن المقصود الأعظم في النبوات هو الدعاء إلى توحيد الله، وأن يكون هو المخصوصٌ بالدعاء والعبادة، وهو المذكور في عالم الذر (3) وفي فتنة القبر وحده وِفاقاً، ألا ترى إلى قوله تعالى في " إبراهيم ":{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وأوْصى (4) بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّين} إلى قوله في وصية يعقوب: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيم} ، إلى:{وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون} [البقرة: 131 - 133]، بل حكى الله عز وجل هذا عن الرسل كلهم.
(1) أخرجه أحمد 2/ 297 و304 و359 و407 و491، وأبو داود (4993)، والترمذي (3604)، وابن حبان (631)، والحاكم 4/ 241. وسُمير بن نهار لا يعرف.
(2)
هذا لفظ حديث واثلة بن الأسقع، ولم يخرجه الشيخان ولا أحدُهما، ولا أصحابُ السنن، وإنما خرجه ابن المبارك في " الزهد "(909)، وأحمد 3/ 491 و4/ 106، والدارمي 2/ 305، وابن حبان (633) و (634) و (635)، والدولابي 2/ 137 - 138، والطبراني 22/ (210) و (211).
وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة وليس فيه: " فليظن بي ما شاء ".
انظر تخريجه في " صحيح ابن حبان "(639) و (811) و (812).
(3)
في (د) و (ف): " المذر ".
(4)
هي قراءة نافع وابن عمر، وقرأ الباقون:" ووَصَّى ". انظر " حجة القراءات " ص 115، و" زاد المسير " 1/ 148.
فقال تعالى في سورة السجدة [وهي فصلت: 14]: {إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} .
وفي الأنبياء: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلَاّ يُوحىَ (1) إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء: 25].
وفي المؤمنين [23 و32] نحو هذا عن نوحٍ وغيره.
وفي يوسف عليه السلام [40] نحوه عنه، ويقرُبُ منه قوله في حم عسق [الشورى: 13]: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} .
وقريب منه ما ذكرته من تفسير الدين بذلك قوله: {كَبُرَ على المشركين} مع ما تبين في غير هذه الآية من تفسير الدين بذلك كآية السجدة التي تقدَّمت الآن، وما يأتي في تفسير الصراط المستقيم، وكقوله:{ومن يرتدد منكم عن دينه} [البقرة: 217]، والرِّدَّةُ لا تكون بذنبٍ دونَ الكفر إجماعاً، يؤيده أن هذا هو الصراط المستقيم كما دل عليه القرآن، قال الله تعالى في يس [61]:{وأنِ اعبدوني هذا صراطٌ مستقيمٌ} .
وقال تعالى حكايةً عن عيسى عليه السلام: {إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} [آل عمران: 51].
وفي حديث النَّوَّاس بن سَمْعَان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله ضرب مثلاً صراطاً مستقيماً على كَنفَي الصِّراط سُوران لهما أبوابٌ مُفَتَّحَةٌ، على الأبواب سُتورٌ، وداعٍ يدعو على رأس الصراط، وداعٍ يدعو فوقه:{والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} [يونس: 25]، والأبواب التي
(1) هي قراءة غير حمزة والكسائي وحفص، أما هؤلاء فقراءتهم بالنون " نُوحي ". انظر " الكشف عن وجوه القراءات " 2/ 15، و" حجة القراءات " ص 466 - 467.
على كَنَفي الصراط: حدود الله، فلا يقع أحدٌ فيها حتى يكشِفَ السِّتْرَ، والذي يدعو من فوقِه واعظُ ربِّه". رواه النسائي، والترمذي (1) وقال: حسنٌ غريب، وهو من حديث بقية، عن بَحير بن سعد، وروى رزين (2) نحوه من حديث ابن مسعود مرفوعاً، وفيه بيان: " أن الصِّراط المستقيم: الإسلام، والأبواب المُفَتَّحة: محارم الله، والستورَ المُرخاة: حدوده، والداعي على رأس الصراط: القرآن ".
وفي حديث معاذ (3) المتفق عليه: " إن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحقهم عليه إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم ". ومن أقامَ الصلواتِ فقد عبد الله وحده لُغَةً مع ما مَرَّ في فَضْلِها، وفضلِ البَرْدَينِ.
وخرَّج الحاكم (4)، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمرو حديثاً فيه طول، وفيه عنه صلى الله عليه وسلم:" أن نوحاً لما حضَرَتْه الوفاة دعا بنيه، فقال: إني قاصٌّ عليكم الوصية، آمُرُكم باثنتين، وأنهاكم عن اثنتين، أنهاكم عن الشرك والكِبرِ، وآمركم بلا إله إلَاّ الله، فإن السماوات والأرض وما فيها لو وُضعت في كَفَّةِ الميزان، ووُضِعَتْ لا إله إلَاّ الله في الكفة الأُخرى، كانت أرجحَ منها، ولو أن السماوات والأرض وما فيها كانت حلقةً، فوُضعت [لا إله إلَاّ الله] عليها لَقَصَمَتْهما، وآمركم بسبحان الله وبحمده، فإنها صلاة كل شيءٍ، وبها يُرْزَقُ كلُّ شيءٍ ". رواه الحاكم من حديث الصَّقْعَبِ، عن زيد، وحكى الحاكم عن
(1) النسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " 9/ 61، والترمذي (2859) من طريق بقية بن الوليد، عن بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن جبير بن نفير، عن النواس. وبقية يدلس، لكنه توبع.
فأخرجه أحمد 4/ 182 - 183، والحاكم 1/ 73 من طرق عن معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن النواس. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي كما قالا.
(2)
نقله عنه ابن الأثير في " جامع الأصول " 1/ 275.
(3)
تقدم تخريجه، وانظر تخريجه موسعاً في " صحيح ابن حبان "(362).
(4)
1/ 48 - 49 من طريقين عن الصَّقْعَب بن زهير، عن زيد، بهذا الإسناد وإسناده صحيح.
أبي زُرعة أنه ثقةٌ، ولم يُذْكَرْ في " الميزان " بجرحٍ ولا تضعيف (1). وما زال السلف يروون هذه المبشرات بغير مناكرةٍ، وقد جعلها الهيثميُّ فاتحة كتابه " مجمع الزوائد "(2) فأورد منها في باب فضل الإيمان ما يحصُلُ به التواتر، وذكر من خرَّجها من الأئمة والحُفَّاظ، مع أنها كلها زيادةٌ على ما في دواوين الإسلام الستة. ومما ذكره فيها عن أبي بكر الصديق أربعة أحاديث، وعمر بن الخطاب ثلاثة أحاديث، وسُهيل ابن البيضاء، وأبي موسى، وأبي الدرداء، حديثان، ومعاذ حديثان، وجابر، وأبي هريرة، وأبي سعيدٍ ثلاثة أحاديث، وزيد بن خالد، وسلمة بن نعيم الأشجعي، وأبي شيبة الخُدري أخي أبي سعيد، وشدَّاد، وعُبادة، وابن عمرو، وعمران حديثان، وجرير، وأبي عمرة، وعمارة بن رُويبة، وابن عمر، وخُرَيْم بن فاتِكٍ، وابن عباس، واشترط عدم القتل، وسعد بن عبادة، وعبد الرحمن بن عوف، وأنسٍ، فهؤلاء خمسةٌ وعشرون صحابياً رَوَى عنهم خمسة وثلاثين حديثاًً في هذا المعنى غير ما في الكتب الستة مما ذكره ابن الأثير في (3)" جامع الأصول "(4)، عن عُبادة (خ م ت)، وأنسٍ (ت)، والخدري (ت)، وأبي هريرة (خ م)، ومعاذ (خ م ت د)، وأبي ذرٍّ (خ م ت)، وابن مسعود (خ م)، وعُتْبانَ بن مالك (خ م)، وأبي هريرة (خ)، رضي الله عنهم، وكذلك سائرُ أحاديث سؤال الملكين كلها صريحةٌ في نَجاتِه بالشهادتين فقط، ورُواتها سبعةُ صحابة، وأحاديثها عشرةٌ، منهم أنسٌ، والبراءُ متفقٌ على حديثهما (5) وبقيتها في " الجامع "(6) و" مجمع الزوائد "(7).
(1) هذا يوهم أن الذهبي ترجمه في " الميزان "، وليس الأمر كذلك، والصَّقعب بن زهير ترجمه في " تهذيب التهذيب " ونقل عن أبي زرعة توثقيه، وقال أبو حاتم: شيخ ليس بالمشهور، وذكره ابن حبان في " الثقات ".
(2)
1/ 14 - 24.
(3)
في (د) و (ف) زيادة " أول "، وهو خطأ.
(4)
9/ 355.
(5)
سيأتي تخريجهما، وانظر " صحيح ابن حبان "(3117) و (3120) و7/ 387.
(6)
11/ 173 - 179.
(7)
3/ 47 - 54 وفيه حديث أبي سعيد الخدري، وجابر، والبراء، وأبي هريرة، وعبد =
وأما الأمان فلا سبيل إليه، بل الخوفُ واجب، وهو شعار الصالحين، وقد كان ابن مسعود يقول: وَدِدْتُ أن الله غَفَرَ لي ذنباً من ذنوبي، ودُعيتُ عبد الله بن روثة، بل في البخاري (1) أن عثمان بن مظعون لما تُوفي قالت زوجته: هنيئاً لك الجنة، فقال رسول الله:" وما يدريك، والله إني رسول الله وما أدري ما يُفْعَلُ بي " فقالت: لا أُزَكِّي بعده أحداً أبداً. وإنما المراد: الذبُّ عن السنن الصحيحة، وعن رواتها الثقات، وتلقي ما رُوِيَ بالإيمان مع الرجاء والخوف، وما زالَ المسلمون يروون المُكَفِّرات ويستبشرون بها، سواءٌ كانت من الأعمال أو من المصائب، ولا مانع أن تكون الفرائض والنوافل أو بعضُها مع أجر الآلام والمصائب والإيمان بالله ورسله، ومقابلة المصائب بالحمد والشكر مُكَفِّرَةً لذنوب بعض أهل الجنة، كما أن اجتناب الكبائر مكفِّرٌ لذنوب بعضهم، ورافعٌ لدرجتهم.
وفي " شرح مسلم "(2) للنووي في فضل الوضوء قوله: " ما لم يُؤتِ كبيرةً "(3):
قال القاضي عياض: هذا مذهب أهل السنة، أن الكبائر (4) إنما تكفِّرها التوبة أو رحمة الله وفضلُه.
قال النووي: وقد يُقالُ: إذا كفر الوضوء الصغائر، فماذا تكفِّرُ الصلوات، والجمعات، ورمضان، ويومُ عرفة، ويوم عاشوراء؟!
والجواب: ما أجاب به العلماءُ أن كل واحدٍ من هذه صالحٌ للتكفير
…
... إلى قوله: فإن صادف كبيرةً أو كبائر ولم يُصادف صغيرة، رجونا أن يخفف من الكبائر. انتهى.
= الله بن مسعود، وابن عباس.
(1)
رقم (1243) و (2687) و (3929) و (7003) و (7004) و (7018) بغير هذا اللفظ.
(2)
3/ 112.
(3)
تقدم تخريجه من حديث عثمان ص 119.
(4)
في (ش): " الكبيرة ".
وقد ثبت أن الدنيا دار بعض الجزاء، أما للمؤمنين، فعلى ذنوبهم، كما ورد في الأحاديث الصحاح، وستأتي، ويشهد لها من كتاب الله قوله تعالى:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [آل عمران: 165]، وقوله تعالى:{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُون} [الروم: 36]، وكذا قد تقدم لهم شيءٌ من ثوابهم لقوله تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون} [النحل: 97].
وفي هذا آياتٌ كثيرةٌ قد ذكرتُها في غير هذا الموضع، وأما الكفار فهم على العكس من حال المؤمنين، لا يُجْزَوْنَ في الآخرة بشيءٍ من حسناتهم، بل جزاؤهم عليها تقدم في حياتهم الدنيا إن كان لهم عليها أجرٌ، وقد ورد بذلك خبرٌ مرفوعٌ رواه مسلم في التوبة، عن أبي بكر، وزهير، وأحمد في " المسند " ثلاثتهم، عن يزيد بن هارون، عن همام بن يحيى، [عن قتادة]، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولفظه:" إن الله لا يظلم المؤمن حسنةً يُعْطَى عليها في الدنيا، ويُثابُ عليها في الآخرة، وأما الكافر فيُطعَمُ بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنةٌ يُعطى بها خيراً "(1) تفرد به مسلم وإسناده على شرط الجماعة كلهم.
وقد قال الله تعالى في هذا المعنى: {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت: 27]، لأن سيئات المؤمنين مُكَفَّرةٌ فلم يُجْزَوا إلَاّ بأحسنَ، وحسنات الكافرين مُحْبَطَة فلم يجزوا إلَاّ بالأسوأ، ومثل ذلك قوله تعالى فيهم:{وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} [الزمر: 48]، فثبت أن الدنيا دارٌ لبعض الجزاء، أما المؤمن فبسيئاته إن لم تُغفر، وشيءٍ قليلٍ من ثواب حسناته، وأما الكافر فبحسناته إن
(1) أخرجه أحمد 3/ 123 و283، ومسلم (2808)، والطيالسي (2011)، وابن حبان (377)، والبغوي (4118).
لم تُحْبَطْ بالمرَّة، وشيءٍ قليلٍ من عقابه، وهو الذي سمَّاه الله تعالى في كتابه بالعذاب الأدنى حيث قال سبحانه:{ولَنُذِيقَنَّهُم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون} عكس هذا قوله تعالى فيمن لَطَفَ به: {كذلك يُتِمُّ نعمته عليكم لعلكم تسلمون} [النحل: 81] فلله الحكمة البالغة وهو أعلم بما يُصْلِحُ عباده، وبما يستحقونه من العقوبات، أو الملاطفات، أو المسامحات، ولا قاطع بأيدي الخصوم يرفع هذه النصوص في تكفير ذنوب بعض المؤمنين في الدنيا كما جاء في تفسير قوله تعالى:{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيم} [النحل: 47].
الوجه الثالث من الجواب: وهو التحقيق أنه لا معارضة بين الآيتين بل قوله تعالى: {إن تجتنبوا} [النساء: 31]، بيان حكم المجتنبين، وليس فيه ذكرٌ لحكم مرتكبي الكبائر.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء: 48] بيان حكم مرتكبي الكبائر الذي لم يُبين في الآية الأولى إلَاّ من طريق مفهوم المخالفة، فإن المفهوم منها أن حكم المرتكبين يخالف حكم المجتنبين على سبيل الإجمال، وليس من شرط المخالفة أن يستوي جميع أهل الكبائر في الأحكام، فإن أحكامهم مختلفة بالإجماع في الدنيا والآخرة، وليس حكم الشرك وأهله حكم المرتكبين لشيءٍ مما دونه من الكبائر وأهلها عند أحدٍ إلَاّ الخوارج الموارق، وقد قال الخليل عليه السلام:{فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36]، فلم يلزم في من عصاه أن يكون مقطوعاً له بنقيض ذلك، بل اكتفى في مخالفته لمن يتبعُه (1) بأنه في حكم المشيئة، ومتبعه مقطوعٌ له بالنجاة، ومدارُ حجتهم على صحة مفهوم المخالفة، وصحته ظنيةٌ، وكيف يبنون على الظن مسألة قطعية.
(1) في الأصول: " لمن اتبعه ".
وإنما قلت: إن صحته ظنيةٌ، لأن الخلاف فيها شهيرٌ بين علماء الإسلام، وممن ينفي صحته أبو حنيفة وأصحابه، وهو إمام الزمخشري وكثير من المعتزلة، والأدلة من الجانبين ظنيةٌ، وهذه الآية من مفهوم الشرط أحد أقسام مفهوم المخالفة، وقد خالف في صحته مع الحنفية قاضي القضاة عبد الجبار، وأبو عبد الله البصري، والباقلَاّنيُّ، كل هؤلاء نَفَوْا كونه حجةً ظنيةً في الفروع كيف في القطعيات (1).
ومن أدلتهم: أنه قد وُجد الشرط من غير مخالفة في كثيرٍ من المواضع، مثل ما اتفق عليه الجمهور من قوله تعالى:{فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَاب} [النساء: 25]، لأنه عند الجمهور كذلك وإن لم يُحْصَنَّ، ولم يقل أحدٌ بتأثيم من خالف في مفهوم المخالفة كله، كيف في مفهوم الشرط وحده، وعلى تسليم أنه حجة ظنية فلا يلزم عند أحدٍ من القائلين به أن يكون ما خالف (2) الشرط على ضدِّ حكمه بنفي مخالفه كما ذكرنا في كلام الخليل عليه السلام، وأيضاً فشرطُ مفهوم المخالفة عند جميع من يقول به أن لا يكون تخصيص المذكور بالذكر محتملاً للموافقة بسببٍ من الأسباب، وقد بيَّنَّا في ما تقدم في الكلام على تكفير الصلوات الخمس لما بينها من الذنوب أنه قد صح أن كتم بعض المبشرات مقصود للنبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحوال، ولذلك صحَّ أنه قال:" من مات له ثلاثةٌ من الولد لم يبلُغُوا الحِنْثَ لم تمسَّه النار إلَاّ تحِلَّةَ القسم " قالوا: واثنان، قال:" واثنان "، قال بعضهم: ولو استزَدْناه لزادنا (3).
قلت: وقد صح في الواحد حديث خرَّجه البخاري لكن بلفظ الصَّفِيِّ كما
(1) انظر " شرح مختصر الروضة " 2/ 725. وأبو عبد الله البصري: هو الحسين بن علي الفقيه المتكلم المعتزلي الحنفي، صاحب التصانيف، المُلَقَّب بالجُعل، المتوفى سنة 369 هـ. انظر " سير أعلام النبلاء " 16/ 224.
(2)
في (ش): " مخالف ".
(3)
تقدم تخريجه ص 47.
تقدم (1)، ودل على أن المفهوم في نحو ذلك ليس بحجةٍ بخلاف الحلال والحرام الذي لا كتم فيه بالاتفاق، وهذه فائدة مهمةٌ ولله الحمد والمِنَّةُ.
فإذا ثبت ذلك نزلنا الآيتين منزلة الآية الواحدة، فكأنه عقيب آية الاجتناب قال (2): وإن لم تجتنبوا فإن الله لا يغفر أن يُشْرَكَ به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وفي هذا مخالفةٌ ظاهرة لحكم المجتنبين، لأن مخالفيهم ما بين مشرك لا يُغفر له، وصاحب كبيرة موقوفٍ تحت المشيئة يرجو المغفرة، ويخاف العقوبة، وقد خصَّ الله تعالى المجتنبين بالقطع لهم بتكفير سيئاتهم بحسناتهم، والوعد الصادق بالمدخل الكريم، وهذا ظاهر القرآن، ومقتضى الجمع بين الآيات على الإنصاف بالنظر الصحيح، كيف وقد تواترت الأخبارُ الصحيحة بذلك بنقل الصحابة والتابعين وخيار المسلمين خَلَفِهم عن سلفهم، وإن جَهِلَ ذلك، أو جَحَدَه من عادى السُّنن وأهلها كالخوارج ومن شابههم وما ضَرُّوا -ولله الحمد- إلَاّ أنفُسَهم، ولكن لا بد من إيراد بعض (3) ما يتمسك به المخالف ليتضح الحقُّ من الباطل، فمما تمسكوا به أن هذه الآية مجملةٌ لقوله:{لمن يشاء} .
والجواب: أن المغفرة تُعدَّى إلى مفعولين مغفورٍ، ومغفور له، والله تعالى لم يُجمِلِ الذنب المغفور، بل جعله ما دون الشرك، وإنما أجمل صاحب الذنب المغفور له لوجهين:
أحدهما: أنه سبحانه صادق الوعد فلو لم يُقَيِّدْ ذلك بالمشيئة لزم أن يدخل فيه ما دون الشرك من ذنوب المشركين.
وثانيهما: أنه سبحانه لطيفُ الحكمة، ولم يكن لِيُؤَمِّنَ أهلَ الكبائر لما في
(1) ص 138.
(2)
زياده من هامش (ش)، وكتب فوقها: ظ، أي: الظاهر.
(3)
ساقطة من (ش).
ذلك من الفساد، فإنه سبحانه لم يؤمِّن أهل الفضائل لما في الخوف من مصلحة العباد، وقد قال تعالى فيمن عَبَدَه المشركون لفضله كعيسى والملائكة:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 56 - 57].
وقال تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف: 56].
وقال: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّه} [الزمر: 9].
بل قال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28].
وقال تعالى فيمن أثنى عليه في كتابه: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90].
وقال خليل الله عليه السلام: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّين} [الشعراء: 82]، ولم يقل: والذي يغفرُ لي، كما قال:{وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِين} [الشعراء: 79 - 81]، بل جَزَمَ في جميع هذه الأفعال، وجعل هذه المغفرة مرجُوَّةً لا مقطوعةً مع رفيع منزلته عند الله، ومع عظيم رجائه، حيث قال:{وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36]، فكذلك فليكن العلماء.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج: 27 - 28]، فخَوَّفَهم سبحانه لصلاحهم، كما أنه لم يُقَنِّطِ المسرفين من رحمته لما في القنوط من الفساد أيضاً، فإن الخوف والرجاء جَنَاحَا العمل، ولا يقوم الطائر إلَاّ بجناحيه مع الأكثرين، ومتى عُدِمَ أحدُهما كان القنوط أشدَّ فساداً، ولذلك لم ينتقص رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمله ولا مناقبه بعد غفران ما تقدم من ذنبه وما تأخر من ذنبه.
ويُروى (1) عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " نِعْمَ العبدُ صهيبٌ، لو لم يَخَفِ الله لم يَعْصِه "(2) وكثير من أهل الصلاح يعمل على المحبة، ولذلك كان في المرجئة من يَعْظُمُ خوفُه وتقواه، وأما من أَيِسَ وقَنَطَ من الرحمة ورضيَ وعَلِمَ أنه مغضوبٌ عليه غيرُ مقبول منه، فإنه يكون أقرب إلى عدم الداعي إلى الطاعة، فلأجلِ تخويف المسلمين وصلاحهم.
قال الله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} مع إخراج كبائر الكفار وإن كانت المرجئة تزعم أنه تعالى ما قال: {لِمَنْ يَشَاءُ} إلا ليخرج كبائر أهلِ الكفر، وستأتي أدلتُهم، فإنهم أيضاً يقولون: الخوف باقٍ للجهل بالخواتمِ والسوابق، ويذكرون في مثل ذلك قصة بَلْعَم (3)، وقصةَ مانعِ
(1) في (ش): " ورُوي ".
(2)
قال السخاوي في " المقاصد الحسنة " ص 449: اشتهر في كلام الأصوليين وأصحاب المعاني وأهل العربية من حديث عمر، وذكر البهاء السبكي أنه لم يظفر به في شيء من الكتب، وكذا قال جمع جم من أهل اللغة، ثم رأيت بخط شيخنا -أي: الحافظ ابن حجر- أنه ظفر به في " مشكل الحديث " لأبي محمد بن قتيبة، لكن لم يذكر له ابن قتيبة إسناداً، وقال: أراد أن صهيباً إنما يطيعُ الله حُبّاً لا لمخافة عقابه. وانظر " كشف الخفاء " 2/ 428 - 429.
(3)
وهو المشار إليه في قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف: 175].
أخرجه النسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " 7/ 150، والطبري (15381) و (15382) و (15383) و (15384) و (15385) و (15386) من طرق عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود قال: رجل من بني إسرائيل يقال له: بَلْعَم بن أَبَر. وهذا إسناد صحيح إلى ابن مسعود. وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 3/ 608 وزاد نسبته إلى الفريابي، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، والطبراني، وابن مردويه.
وأخرجه الطبري (15387) عن ابن عباس أنه بلعم بن باعر.
وأخرجه الطبري (15417) بإسناد لا يصح لانقطاعه عن ابن عباس قال: لمَّا نزل موسى =
الصدقة (1) الذي نزلت فيه: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} [التوبة: 75]، وقيل: إنه
= عليه السلام -يعني بالجبارين- ومن معه، أتاه -يعني بلعم- أتاه بنو عمه وقومه، فقالوا: إن موسى رجل حديد ومعه جنود كثيرة، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا فادعُ الله أن يردَّ عنا موسى ومن معه قال: إني إن دعوتُ الله أن يرد موسى ومن معه ذهبت دنياي وآخرتي، فلم يزالوا به حتى دعا عليهم، فسلخه الله مما كان عليه، فذلك قوله:{فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} .
(1)
وهو ثعلبة بن حاطب، رواها بطولها الطبري (16987)، والطبراني (7873)، والبيهقي في " دلائل النبوة " 5/ 289 - 292 من طريق معان بن رفاعة، عن علي بن يزيد الألهاني، عن القاسم، عن أبي أمامة فذكر قصة ثعلبة. وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 4/ 264 وزاد نسبته إلى الحسن بن سفيان، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، والعسكري في " الأمثال "، وابن منده، والباوردي، وأبي نعيم في " معرفة الصحابة "، وابن مردويه، وابن عساكر.
وهي قصة ضعيفة جداً سنداً ومتناً.
أمَّا السند، ففيه معان بن رفاعة، وهو لين الحديث، عامة ما يرويه لا يتابع عليه، قال ابن حبان: منكر الحديث، يروي مراسيل كثيرة، ويحدث عن أقوام مجاهيل، لا يشبه حديثه حديث الأثبات، فلما صار الغالب في رواياته ما ينكره القلب، استحق ترك الاحتجاج به، وعلي بن يزيد الألهاني: منكر الحديث، ضعيف جداً. والقاسم -وهو ابن عبد الرحمن الشامي- في أحاديثه غرائب.
وقال البيهقي: هذا حديث مشهور فيما بين أهل التفسير، وإنما يُروى موصولاً بأسانيد ضعاف. وذكره الهيثمي في " المجمع " 7/ 32 وقال: وفيه علي بن يزيد الألهاني وهو متروك، وقال الحافظ ابن حجر في " تخريج أحاديث الكشاف " ص 77: وهذا إسناد ضعيف جداً.
وأما المتن ففيه ما يستنكر، لأن الأموال التي تجب فيها الزكاة مما هو مشاهد كان العمال الموظفون من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعدهم يأخذونها من أصحابها، وإذا امتنع أحدهم كانت تؤخذ منهم قهراً، وإذا اعتصبت جماعة، وامتنعت من دفعها، كانوا يقاتلون، وهذا ما فعله الخليفة أبو بكر رضي الله عنه، فكيف يذكر في القصة أن ثعلبة لم يدفعها إلى عمال النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك في عهد أبي بكر وعمر، ثم إن الآيات التي وردت في القصة إنما وردت في حق المنافقين الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، فهي لا تنطبق على المسلم الذي =
بدري، ولم يَصِحَّ أنه بَدْري (1).
وبقوله: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون} [الروم: 10] على أحد الاحتمالات، وأحد التفسيرين، ومجرد الاحتمال يوجب الخوف.
وقد خرَّج الحاكم (2) ما يشهد لذلك في تفسير الحشر من " المستدرك " فقال: أخبرنا أبو زكريا العنبري، أخبرنا محمد بن عبد السلام، أخبرنا إسحاق، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا الثوري، عن أبي إسحاق، عن حُميد بن عبد الله السلولي، عن علي عليه السلام: كان راهبٌ يتعبد في صومعةٍ، وإنَّ امرأةً زينت له نفسها، فوقع عليها، فحملت، فجاءه الشيطان، فقال له: اقتُلْها، فإنَّهم إن ظهروا عليك افتُضحت فقتَلَها، فدفَنَها، فجاؤوه، فأخذوه [فذهبوا به فبينما هم يمشون]، إذ جاءه الشيطان، فقال له: أنا الذي زينتُ لك، فاسجُدْ لي سجدة
= يخل في بعض الفرائض.
وقال العلامة محمد رشيد رضا رحمه الله في " تفسيره " 10/ 561: وفي الحديث إشكالات تتعلق بسبب نزول الآيات، وظاهر سياق القرآن أنه كان في سفر غزوة تبوك، وظاهره أنها نزلت عقب فرضية الزكاة، والمشهور أنها فرضت في السنة الثانية وفيه خلاف، وبعدم قبول توبة ثعلبة، وظاهر الحديث ولا سيما بكائه أنها توبة صادقة، وكان العمل جارياً على معاملة المنافقين بظواهرهم، وظاهر الآيات أنه يموت على نفاقه، ولا يتوب عن بخله وإعراضه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم وخليفتيه عاملاه بذلك لا بظاهر الشريعة، وهذا لا نظير له في الإسلام.
(1)
انظر " الإصابة " 1/ 199 - 200.
(2)
2/ 484 - 485، وحميد بن عبد الله السلولي لم أعثر له على ترجمة.
وأخرجه البخاري في " التاريخ الكبير " 5/ 213، والطبري في " جامع البيان " 28/ 49 من طريق النضر بن شميل، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن نهيك، عن علي.
وعبد الله بن نهيك لم يوثقه غير ابن حبان، ولم يرو عنه غير أبي إسحاق.
وذكره السيوطي في " الدر " 8/ 116 وزاد نسبته إلى عبد الرزاق، وابن راهويه، وأحمد في " الزهد "، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في " الشعب ".
أُنْجيك، فسجد له، فأنزل الله:{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْك} [الحشر: 16]. صحيح الإسناد.
والتفسيرُ الثاني: أن السوأى هي النار، وقوله:{أنْ كَذَّبوا} تعليل، ذكره البغوي والهروي والجوهري في " الصحاح "(1)، قال:{السُّوأَى} في الآية: النار، والله أعلم.
ولو لم تؤدِّ المعاصي إلى الكفر في الخاتمة، فإنها من غير شكٍّ تؤدي إلى ضعف الإيمان وقلته، كما دلت عليه آيةُ الظهار.
وقوله: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران: 155]، وحديث:" لا يزني الزاني وهو مؤمنٌ "(2). وحديث: " أعوذ بك أن يتخبَّطَني الشيطانُ عند الموت "(3) فيخافُ صاحبُ المعاصي أن يسلَّطَ عليه الشيطان ولو عند الموت، بما يُزيل إيمانه أو يُضعفه، فيدخل النار حين يضعف إيمانه على قول أهل الرجاء كما تقدم (4) في الجمع بين حديث:" من مات وهو يعلم أن لا إله إلَاّ الله " وحديث الشفاعة لمن في قلبه مثقالُ حبةٍ من إيمانٍ، والله أعلم.
وليس يلزم من إجمال أحد المفعولين، إجمالُ المفعول الآخر مع بيانه، ولا الإجمال فيما يسري بالمجاورة، كسَرْي النجاسة في الماء، ولذلك لم يرتضِ هذا الخيال الزمخشري في " كشافه " واضطَرَّ مع حِذْقِه في فَنِّه إلى ما لا يليق بمثله، وأنا أُورد كلامه بنصِّه، وما يرد عليه ليتضح ما ذكرت، فأقول: قال في " كشافه "(5): فإن قلت: قد ثبت أن الله يغفر الشرك لمن تاب منه، وأنه لا يغفر ما دون ذلك من الكبائر إلَاّ بالتوبة، فما وجهُ قوله:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .
(1) انظر " تفسير البغوي" 3/ 478، و" الصحاح " 1/ 56.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
وانظر ص 120.
(5)
1/ 273.
قلت: الوجه أن يكون الفعل المنفي والمثبت جميعاً موجَّهين إلى قوله: {لِمَنْ يَشَاءُ} ، كأنه قيل: إن الله لا يغفر لمن يشاء الشرك، ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك، على أن المراد بالأول من لم يتُبْ، وبالثاني: من تابَ، ونظيره قولُك: إن الأمير لا يبذُلُ الدينار، ويبذل القنطار لمن يشاء، يريد: لا يبذل الدينار لمن لا يستأهله، ويبذل القنطار لمن يستأهله. انتهى بحروفه.
ولو كان ممن لا يعرف العربية والمعاني والبيان لَعيبَ عليه هذا، كيفَ وهو من أئمةِ هذا العلم بلا خلافٍ!.
ولنتكلمْ على إيضاح غَلَطِه الذي لا يخفى على من هو دونه في تأويله وتمثيله.
أمَّا تأويله: فالجواب عليه من وجوه:
الوجه الأول: أن محصول كلامه أنه لا فَرْقَ بين الشرك وغيره في هذه الآية، فإن الشرك لا يُغْفَرُ إلَاّ مع التوبة، وكذلك ما دونه، وهما كلاهما لا يُغفران من غير توبة، وهذا حاصلُ كلامه على ما نُقرره.
والآية قاضيةٌ بالتفرقة بين الشرك وما دونه كما يقضي بذلك كلُّ ذَوْقٍ سليم، وفهم مستقيم، ولو كانت كما زَعَمَ لكان صواب التعبير عن ذلك عند كُلِّ من يعرفُ لسان العرب: إنَّ الله لا يغفر لمن لا يتوب، ويغفر لمن يتوب، أو: إن الله يغفر لمن يشاء، ويعذِّب من يشاء، كما قال في غير آيةٍ من دونِ فرقٍ بين الشرك وغيره، ألا ترى كيف قال سبحانه حيث أراد المغفرة بالتوبة:{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53]، ولم يُفَرِّقْ بين شركٍ وغيره، ولذلك قال بعدها لرفع الالتباس:{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَاب} [الزمر: 54]، فلمَّا فرَّق بين الشرك وما دونه في المغفرة لم يكن ذلك موجهاً إلَاّ إلى التوبة، ولذلك قال أهل التفسير: إن هذه الآية في مغفرة الآخرة بالتفَضُّلِ، وتلكَ في مغفرة
الدنيا بالتوبة. ذكره ابن عبد البر في " التمهيد "، وهو من أحسن الجمع وأوضحه، وأما الزمخشري فمحصول تأويله: أن الله أراد أن يُفَرِّقَ بين التائب وغيره، فجاء بالفرق بين الشرك وما دونه ليُفْهَمَ منه الفرق بين التائب، وغيره، فالعجبُ كيف جاء مثلُ هذا في أبلغ الكلام، مع أن الشرك ليس هو الإصرار، ولا هو بلازمهِ عقلاً، ولا ما دون الشرك هو التوبة لغةً، ولا بلازم التوبة عقلاً، بل قد يتوب المشرك وقد لا يتوب غير المشرك، فما الملجىءُ في أفصح الكلام وأبلغه إلى التعبير بالشرك عن المُصِرِّين وبما دونه عن التائبين، ولو قصد الفرقَ بين التائب وغيره العَييُّ من الناس الذي يجوز عليه الخطأ ما وقع في مثل هذه العبارة البعيدة من مراده، بل الدَّالة على ما يُخالِفٌ مراده، ويُفْهَمُ منه غيره، فالله المستعان.
فإن قيل: ما المانعُ أن يكون الله أراد ما ذكره الزمخشري على سبيلِ المجاز والكناية لما في ذلك من البلاغة على عادةِ بُلغاء العرب!!
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن شرط ذلك أن يدل عليه دليلٌ هو أحدُ القرائن الثلاث التي ذكرها علماء المعاني، ولولا تقييد صحة المجاز بذلك لصحَّ مذهب الباطنية، وادعى كل من شاء ما شاء في تأويله، وذلك مبطلٌ لفائدة تنزيله.
وثانيهما: ما ذكره الإمام المؤيَّدُ، والجاحظ في " إثبات النبوات " في الرد على ابن المُقَفَّع، حيث عارضَ القرآن بتلك الفصول الركيكة التي منها قوله: وأما الذين يزعمون أن الشك في (1) غير ما يفعلون.
قالا (2): هذا كلام مسترذل من ألفاظ العامة والسُّوقة، لأنه أراد أنهم نَفَوْا الشكَّ عما كانوا يفعلون (3). فلم يُصَرِّحْ به، وإنما أثبته في غير ما يفعلون،
(1) ساقطة من (ش).
(2)
في (ش): " فإن ".
(3)
في (ش): " يعملون ".
ولعمري إن الفصيح قد يعدِلُ عن التصريح إلى التلويح، لكن على وجهٍ يكونُ أبلغ من التصريح، ويكون ذلك لغرضٍ صحيح. إلى آخر ما ذكراه في هذا الفصل في إثبات النبوات، وهذا مُجَوَّد في علم المعاني، والشيخ لا يُؤْتى فيه من عدم المعرفة ولا من قلَّتِها، وإنما اضطره اعتقاده إلى ما وقع فيه، فإذا تقرَّرَ هذا، فمحالٌ أن تجيء العبارة هكذا عن اختيارٍ مع حكم تقدير أن مراده بيانُ ما ذكره الزمخشري من الفرق بين التائب وغيره على كل تقدير، فبَطَلَ ما أدَّى إلى هذا الباطل، والحمد لله الذي هدانا لهذا وكفى بربك هادياً ونصيراً.
وقد رُوِيَ عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه قال: ما في القرآن آيةٌ أحبُّ إليَّ من هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]. رواه الترمذي، وقال (1): حديث حسن غريب.
وقال الحاكم في " المستدرك "(2) في تفسير سورة النساء: حدثنا أبو العباسِ محمد بن يعقوب، أخبرنا أبو البختري عبد الله بن محمد بن شاكرٍ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن بِشْر (3) العَبْدي، حدثنا مسعرُ بن كِدامٍ، عن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، [عن] عبد الله بن مسعود قال: إن في سورة النساء لَخَمْسَ آيات ما يَسُرُّني أن لي بها الدنيا وما فيها، ثم عدَّها، وعَدَّ فيها:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} . وصححه الحاكم عند من يقول إن عبد الرحمن سمع من أبيه، فإن في ذلك خلافاً بين الأئمة.
قلت: المثبت أولى من النافي، وذكر الذهبي في " الميزان "(4) عن ابن معين
(1) رقم (3037) وفي إسناده ثُوير بن أبي فاختة، وهو ضعيف.
(2)
2/ 305. وأخرجه الطبراني في " الكبير " (9069) من طريق سفيان، عن مسعر، بهذا الإسناد. وقال الهيثمي في " المجمع " 7/ 12: ورجاله رجال الصحيح.
(3)
تحرفت في الأصول إلى: " قنبر ".
(4)
2/ 573.
قولين في ذلك، وأن النفاة استصغروه، فالظاهر أنه استبعادٌ، وحديثه عن أبيه في السنن الأربع وعلى تسليم الانقطاع، فإنه أعرف الناس بحديث أبيه، فهو منقطعٌ جيد، وهو حُجَّةٌ عند الخصم وحده، وإنما هو معنا شاهدٌ.
وروى الزمخشري هو في " كشافه "(1) في تفسير قولي تعالى: {يُريد أن يتوب عليكم} [النساء: 27] عن ابن عباس أنه قال: في سورة النساء ثماني آياتٍ هي خيرٌ لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس، وعدَّ هذه الآية منها (2).
وتقدم أن الطبراني روى عن ابن عمر أنهم كانوا لا يستغفرون لأهل الكبائر حتى نزلت، فرجَوْا لهم ثم استغفروا (3)، وهؤلاء عليٌّ، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم من أهل الفهم الصحيح، وفهمُهم مقدَّمٌ على كل أديبٍ وفصيحٍ، فلو فَهمُوا ما فَهِمَه الزمخشري ما كانت أحبَّ آيةٍ في القرآن إلى أمير
(1) 1/ 264.
(2)
قال الحافظ ابن حجر في " تخريج أحاديث الكشاف " ص 42: أخرجه البيهقي في " الشعب "(7141) في الباب السابع والأربعين من رواية صالح المُرِّي عن قتادة قال ابن عباس
…
فذكره، وهو عند الطبري من هذا الوجه، وصالح ضعيف، وقتادة عن ابن عباس منقطع.
(3)
أخرجه أبو يعلى (5813)، والبزار (3254) من طريق شيبان بن أبي شيبة، عن حرب بن سريج، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر قال: كنا نُمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} قال: " إني ادَّخرتُ دعوتي شفاعةً لأهل الكبائر من أمتي " قال: فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا، ثم نطقنا بعدُ ورَجَوْنا. وهذا حديث حسن. وقال البزار: لا نعلم رواه عن أيوب إلَاّ حرب، وهو بصري، لا بأس به. وذكره الهيثمي في " المجمع " في موضعين 7/ 5 و10/ 210 - 211 فقال في الأول: رجاله رجال الصحيح غير حرب بن سريج وهو ثقة، وقال في الآخر: إسناده جيد. وأورده في 10/ 378 من حديث ابن عباس وقال: رواه الطبراني في " الأوسط " وفيه حرب بن سريج وقد وثقه غير واحد وفيه ضعف!
ويشهد له ما رواه الطبراني (13364) من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: كُنَّا نَبُتُّ على القاتل حتى نزلت: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .
المؤمنين، وباب مدينة العلم، وإمام الراسخين، ولا كانت عند ابن عباس المُسَمَّى بالبحر والحَبْرِ خيراً لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس، ولا فرَّقَ عبدُ الله بن عمر وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حال أهل الكبائر قبل نزولها وبعده، وإنما ذكر الصحابة معه لأنه قال: كنا، وهذه العبارة تقتضي رواية إجماع الصحابة عند أهل العلم، وقد روى الزمخشري من هذه الآثار الثلاثة أثر ابن عباس فإن كان باطلاً، فما ينبغي له أن يرويه، ويسكُتَ عنه في كتابٍ سماه تفسيراً لكلام الله الحق الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه فلا يَحِلُّ لأحدٍ أن يُدْخِلَ في تفسيره شيئاً من الباطل، وإن كان حقَّاً، لَزِمَه ألَاّ يخالفَ معناه ومفهومه بالتأويلات المتعسَّفة، والتمحُّلات المُتَكَلَّفة، وما أشد مراء في ادعى أن هذه الآية لا تدل على التفرقة بين الشرك وما دونه ولا تخص الشرك بشيءٍ من التغليظ، ولا يُفْهَمُ منها أن ما دونه يختص بنوعٍ من التخفيف، وقد أردف الله تعالى هاتين الآيتين معاً بما يدلُّ على ما ذكرته، فقال عقيب الأولى:{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48]، وقال عقيب الثانية:{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 116]، وهذا يضطرُّ العاقل مع النصِّ المُكَرَّرِ فيهما المؤكد أن المرادَ بالفرق بين الشرك وما دونه، وأن الشركَ لكونه أغلظ مما دونه وأقبح وأفحش وأنكر، استحق زيادة تغليظٍ في العقوبة، والتشديد في الوعيد، والامتياز في الحكم المُغَلَّظِ في الدنيا والآخرة.
وكيف يَصَحُّ في الأذهانِ شيءٌ
…
متى احتاج النهارُ إلى دليلِ (1)
ولكن القصد التقرب إلى الله بتفهيم من أضرب عن تأمُّلِ (2) الجَليَّات وتذكير من غَفَلَ عن الضروريات.
الوجة الثاني: أن توجيه النفي إلى قوله: {لمن يشاء} ، يُفْسِدُ المعنى، لأن أهل البلاغة لا يقولون في من يعفو عن بعض المذنبين دون بعض على
(1) هو للمتنبي ديوانه 3/ 92 بشرح العكبري.
(2)
في (ش): " عن من تأمل ".
حسب مشيئته وحكمته: إنه لا يغفر لمن يشاء بالنفي، بل يقولون: إنه يغفرُ لمن يشاء، لأن الإثبات يُعطي هذا المعنى على أوضح ما يكون، فإذا أدخلت حرف النفي على هذا المعنى الصحيح البَيِّن، عَمَّاه، وغيَّره، وأوهم بمفهومه أنه لا يغفر لمن يشاء بالنفي، لكن (1) يغفر لمن لا يشاء، ولا يغفر لمن لا يشاء إلا المكرَهُ غير المختار، لأن حرف النفي إن دخل لغير فائدةٍ لم يكن كلام حكيم، ولا كلام فصيحٍ، وأقلُّ أحوال القرآن أنه كلامٌ بليغٌ، وإن كان حرف النفي دخل لفائدة، فلا تكون فائدته إلَاّ بتغيير المعنى الذي كان مفهوماً قبل دخوله، لأنه موضوعٌ لنفي ما دخل عليه، وقد كان المعنى قبله أن له المشيئة في المغفرة، فلما دخل نَفَى ما دخل عليه كما هو موضوعٌ لذلك، فصار المعنى أنه لا مشيئة له في المغفرة ولا اختيار، وهذا نقيض معنى الآية، ونقيض المعلوم ضرورةً من الدين، ومن إجماع المسلمين.
الوجة الثالث: أن أهل علم العربية -الذي هو أحدُ أئمته- قد ضعَّفوا مثل هذا فيما كان عمدةً من الكلام، والعمدة عندهم ما لا يَتِمُّ الكلام إلَاّ به، ومَثَّلُوا ذلك الذي ضَعَّفُوه، واسْتَرَكُّوْه بقول الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما
…
عندك راضٍ والرأيُ مختلفُ (2)
أي: نحن بما عندنا راضون وأنت بما عندك راضٍ.
قالوا: والوجه في ضعفه أنهم حذفوه في الأول ولم تَتَقَدَّمْهُ قرينةٌ تدل على
(1) في (ف): " بل ".
(2)
البيت منسوب إلى قيس بن الخطيم في " الكتاب " 1/ 75، و" معاهد التنصيص " 1/ 189، و" شواهد العيني " 1/ 557، وهو في ديوانه ص 173 ونسبه القرشي في " الجمهرة " ص 13، وابن منظور في " اللسان "(فجر)، والبغدادي في " الخزانة " 4/ 283 إلى عمرو بن امرىء القيس الخزرجي، وهو في " ديوان حسان " ص 337 منسوب إلى عمرو.
ونسبه صاحب " الإنصاف " إلى درهم بن زيد الأنصاري.
وهو غير منسوب في " المقتضب " 3/ 112 و4/ 73، و" أمالي ابن الشجري " 1/ 296 و310.
حذفِه، فلو ذكره في الأول، وحذفه في الثاني لكان فصيحاً، لأن ذكره في الأول قرينةٌ متقدمة تُسَوِّغُ حذفه في الثاني لتقدُّمِ دلالتها على الحذف، كما لو قال: نحن راضون بما عندنا وأنت بما عندك، أي: وأنت بما عندَك راضٍ، وكل صحيح الذوق يعرف صحة كلامهم هذا، وإنما وقع الشاعر فيما وقع فيه لضرورة الشعر، وهذا في العمدة (1) التي حذفها قرينةٌ ضرورية تُوجب تَطَلُّبَ التأويل والإضمار.
وأما قوله في الآية: {لمن يشاء} ، فليس بعمدةٍ في الكلام في عرفهم ومعنى هذا: أنه لو حذفها، لكان ما قبله كلاما صحيحاً (2) مستقلاًّ بنفسه لا يتوقفُ فهمه عليه، فلا يصحُّ أن يضمر فيه ما لم تدل عليه قرينةٌ متقدمةٌ، لأنه يَغْلَطُ السامع في معناه، ولا يعلم ما أضمره المتكلم من غير قرينةٍ إلَاّ الله، والكلامُ إنما وُضِعَ لإيضاح المعاني، خصوصاً الكلام البليغ، لأن البلاغة: بلوغُ المتكلم إلى مراده بأوضح عبارة، فمتى وقع الإضمارُ فيما ليس بعمدةٍ من غير قرينة متقدمةٍ كان من قبيل الإلْغازِ والتعميةِ للمقاصد، بل لو كانت الآية على العكس من كلامه -فقد ذكر المشيئة في الجملة الأولى، وحذفه في الثانية- ما دلَّ على كلامه، كما لو قال: إن الله يغفر ما دون أن يشرك به لمن يشاء، ولا يغفر أن يُشْرَكَ به، وإنما كان لا يدلُّ حينئذٍ على ما ادعى، ولا يكونُ تقدم ذكر المشيئة قرينةً، لِمَا ذكرنا من أن ذكر المشيئة غير عُمدةٍ في الكلام، بل ما قبله كلامٌ تام، وما بعده كذلك والسرُّ في هذا: أن الإضمار خلافُ الظاهر، فلا يُصارُ إليه إلَاّ لضرورةٍ ودلالةٍ على تعيين ما أضمر، وإلا لادَّعى كلُّ أحدٍ ما شاء من تأويلٍ وصحةَ تأويلات الباطنية، وانفتحت أبوابُ الجهالات في تأويل القرآن، وذلك أعظم أسباب (3) الفساد، لأن القرآن هو الفاروقُ الأعظمُ بين المُحقين والمُبطلين، فمتى صح للمبطلين انفتاحُ باب التأويلات الباطلة، لم يُنْتَفَعْ بما
(1) في (د) و (ف): " العمد ".
(2)
في (ف): " فصيحاً ".
(3)
في (ش): " أبواب ".
في القرآن من الحق المحفوظ، فلذلك يجب على من يتقي الله مراعاةُ قواعد العلم الصحيحة في التأويل وعدمُ الحَيْفِ فيه، ولو صح له مثلُ هذا في رَدِّ مذهب السنة صح للخوارج مثله في رد مذهب المعتزلة، فكانوا يقولون: إن معنى قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُم} [النساء: 31]، أي: بالتوبة، لقوله تعالى:{ومن يعمل مثقالَ ذرةٍ شراً يره} [الزلزلة: 8]، وقوله:{من يعمل سوءاً يُجْزَ به} [النساء: 123]، ولا يُغفر لمتعمدٍ خاصة، وهو يروي:" لا صغيرةَ مع الإِصرار "(1) عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أحوطُ وأنسبُ لسُنة التشديد والتغليظ التي اختارها الزمخشريُّ وادعى أنها سنةُ الله.
والعجب منه كيف يروي هذا الحديث ولا يُضَعِّفُه ولا يتأوَّلُه وهو يصادمُ (2) مذهبهم في مغفرة (3) الصغيرة، فدعوى صحة التأويل بغير دليل ليس أمراً مقصوراً على أحدٍ، وليته نقلَ فِرارَهُ من التقدير بغير قرينة من قوله تعالى:{أمرنا مُتْرَفيها} [الإسراء: 16] إلى هذه الآية، فإنه بالغ في تلك أنَّ معناها: أمرناهم بالفِسْقِ مجازاً (4) ليطابق قوله: {ففسقوا فيها} لأن المذكور بزعمه يدلُّ على المحذوف كقوله: أمرتُه فصام، فبالغ هناك في منع ما لا يدل دليلٌ على تقديره، وقدَّرَ هنا تقديرين ما دل على تقدير واحدٍ منهما شيءٌ مع تغييرهما للكلام على أنه
(1) خبر منكر قاله الذهبي في " الميزان " 4/ 537، وذكره السخاوي في " المقاصد " ص 467، فقال: رواه أبو الشيخ والديلمي والعسكري في " الأمثال " من حديث ابن عباس مرفوعاً بسند ضعيف، ومثله موقوفاً عند ابن المنذر في " تفسيره "، والبيهقي في " الشعب ". وله شاهد عند البغوي والديلمي من حديث أنس مرفوعاً، ورواه إسحاق بن بشر أبو حذيفة في " المبتدأ " من حديث عائشة، وإسحاق حديثه منكر، ورواه الطبراني في " مسند الشاميين " من حديث أبي هريرة، وفي إسناده بشر بن عبيد الدارسي وهو متروك، ورواه الثعلبي وابن شاهين في " الترغيب " بإسناد آخر عنه.
(2)
في (ف): " يخالف ".
(3)
تحرفت في (ش) إلى: " معرفة ".
(4)
" الكشاف " 2/ 354.
أخطأ في تلك الآية، لأن الأمر لا يكون إلَاّ بالطاعة، فهو قرينةٌ على تقديرها كقولك: أمرتُه فَعَصاني. ذكره المُرْتَضى في " الغُرر " والجوهري في " صحاحه "(1) في مادة " أمر " وهو صحيح.
الوجه الرابع: أنه جَعَل المشيئة بنفسها في الجملة الأولى دالةً على عدمِ التوبة، وفي الجملة الثانية دالةً على التوبة، فالمشيئة لا تدُلُّ على التوبة (2) في وضع اللغة، ولا على نفيها، ولا هي بعض من أبعاضها، ولا يُلازمُها في العقل، والدلائل عند أهل العلم خصوصاً أهل علم المعاني والبيان لا تخلو من هذه الأقسام الثلاثة، فإن اللفظ إن دلَّ على المعنى الذي وُضِعَ له، فهي الدلالة اللغوية، وهي تُسمى دلالة المطابقة، وإن دل على بعض من أبعاضه كدلالة الإنسان على الوجه، فهذه دلالة التضمن، وهي عقليةٌ، وإن دلَّ على ما يلازمُه كدلالة الإنسان على حاجته إلى الأكل والشرب، فدلالته التزامية، وهي أيضاً عقلية، ودلالة المشيئة في الجملة الأولى على نفي التوبة، وفي الثانية على حصولها ليست من أحدِ هذه الدلالات المعروفة عند العلماء، ولا رابعة لها بالإجماع، أو يجعل الدلالة على ذلك أمراً أجنبياً عن الآية، فهذه دعوى جديدة تحتاج إلى استئناف دلالة، وليست من تفسير هذه الآية في شيء، وإنما الكلام مسوقٌ لتفسير هذه الآية الذي يفهمُه أهلُ اللغة، ثم يخرج ما يُدَّعَى (3) منها بدليلٍ مستقلٍّ بعد تقرُّر معناها كما أُخرج التائبُ من وعيد القاتلٍ بعد تقرُّر معنى آية القتل، وكما أخرجنا كلُّنا مما دون الشرك كبائر الكفار، فدلَّ على أن كلامه في ذلك من جُملة الدعاوي الباطلة، ولو كانت المشيئة مذكورةً مرتين في الجملتين.
وأما ولم تذكر إلا مرةً في الجملة الأخيرة، فتفسيرُها بدلاليتها على النقيضين
(1) 2/ 581.
(2)
في (ف): " فالتوبة لا تدلُّ على المشيئة ".
(3)
في (ش): " ادُّعيَ ".
من غير إيضاح وجه الدلالة بما لا يَليقُ بحالِ العلامة على ما له في هذا الشأنِ من التقدُّم والإمامة.
وليحذَرِ المعاند بعد هذا البيان من الخذلان الذي وعد به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث حُذيفة الصحيح: قال حذيفة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " تُعْرَضُ الفِتَنُ على القلوب كالحصير عُوْداً عُوْداً (1)، فأيُّ قلبٍ أُشْرِبَها نُكِتَ فيه (2) نكتةٌ سوداء، وأيُّ قلبٍ أنكرها نُكِتَ فيه (2) نكتةٌ بيضاء حتى تصيرَ على قلبين، أبيض مثل الصَّفا، فلا تَضُرُّهُ فتنةٌ ما دامت السماوات والأرض، والآخرُ أسودُ مربدّاً كالكوز مُجَخِّياً لا يعرف معروفاً، ولا يُنكرُ مُنْكَراً إلَاّ ما أُشرِبَ من هواه "(3)، وفي رواية كعرضِ الحَصيرِ. ذكرها الحُميدي.
قال ابنُ الأثير في " الجامع "(4): والمعنى في الروايتين معاً: أن الفتن تُحيطُ بالقلوب كالمحصور المحبوس. يقال: أحصَرَه القوم: إذا أحاطوا به، وحَصَروه: إذا ضَيَّقُوا عليه.
قال: وقال الليث: حصيرُ الجَنْبِ: عِرْقٌ معترضٌ على الجنب إلى ناحية البطن، شَبَّهَ إحاطتها بالقلب بإحاطته بالبطن. وقوله:" عُوْداً عُوْداً " أي: مرةً بعد مرة - والمربادُّ والمُرْبَدُّ معاً: الذي في لونه رُبدةٌ، وهي بين السواد والغبرة، والمُجَخِّي: المائلُ عن الاستقامة والاعتدال ها هنا، وهذا عارضٌ لا يخلو من فائدة جعلنا الله ممن ينكر الفتن بقلبه ولسانه، وجعلنا من أوفر عباده حظّاً من رحمته وغفرانه.
(1) قال النووي في " شرح مسلم ": هذان الحرفان مما اختلف في ضبطه على ثلاثة أوجه: أظهرها وأشهرها: " عُوْداً عُوْداً "، والثاني:" عَوْداً عَوْداً "، والثالث:" عَوْذاً عَوْذاً "، ولم يذكر صاحب " التحرير " غير الأول، وأما القاضي عياض، فذكر هذه الأوجه الثلاثة عن أئمتهم، واختار الأول أيضاً.
(2)
في الأصول: " فيها "، والمثبت من " صحيح مسلم ".
(3)
أخرجه مسلم (144).
(4)
10/ 23.
الوجه الخامس: أن الزمخشري روى في " كشافه " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا صغيرةَ مع الإصرار ولا كبيرةَ مع الاستغفار "(1) فإن لم يكن هذا صحيحاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينبغي له أن يدخله في تفسير كلام الله الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإن كان صحيحاً فقد خالفه في كلا الجُملتين، أما أنه خالف قوله: لا صغيرةَ مع الإصرار، فذلك معلومٌ بالضرورة من مذهبه ومذهب شيوخه، فإن الصغيرة عندهم مكفَّرةٌ بحسنات صاحبها، والكبير لا تُكَفَّر إلَاّ بتوبةٍ (2). وهذا هو الفرق عندهم بين الصغائر والكبائر، ولكنهم لِعَدَمِ عنايتهم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدم التفاتهم إليه لا ينظرون في صحة سنده، ولا في صحة معناه فالله المستعان.
وأما مخالفته للجملة الأخيرة، فلأنها من أدلة أهل السنة، وسيأتي ذلك قريباً عند الكلام على تفسير الاستغفار في اللغة والشرع، على أنه غير صحيح عند أئمة الأثر نقلاً، كما أنه غير صحيح عند أئمة النظر عقلاً، وإنما رواه أبو شيبة الخُراساني -مجهول- عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس، وليس هذا في أحاديث هذين الإمامين، ولا عند أحد من ثقات أصحابهما. وقال الذهي: هو خبرٌ منكر، ذكره في ترجمة أبي شيبة من " الميزان "(3).
الوجه السادس: أنا نظرنا في سائر كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لعلنا نجد ما يناسب ظاهر هذه الآية، أو يدل على تأويلها وصرفها عن ظاهرها، فإن القرآن يفسر بعضه بعضاً، وكذلك السنة تفسر القرآن، وقد كانت الصحابة تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عما اشتد عليهم، أو أشكل عليهم فيوضحه لهم، فوجدنا القرآن والسنة يشهدان (4) لتقرير هذه الآية الكريمة، والبُشرى الصادقة على ظاهرِها،
(1) تقدم تخريجه ص 173، وأنه لا يصح.
(2)
في (د) و (ف): " بحسنات صاحبها لا بتوبته ".
(3)
4/ 537.
(4)
في (ش): " تشهد ".
والأدلةُ على ذلك لا تُحصى كثرة (1)، بل تنتهي عند البحث التام إلى العلم الضروري كما أوضحتُه (2) عند سرد الآيات والأخبار، لكن أشير ها هنا إشارةً يسيرة: فمن ذلك قوله تعالى: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل: 15 - 16]، كما سيأتي تقريره، ورَدُّ ما اعتذروا به عنها.
وقوله: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه: 48].
وقوله في النار: إنها {أُعدَّت للكافرين} في غير آية [البقرة: 24، آل عمران: 131].
وقوله تعالى في غير آية: {وبَشِّر المؤمنين} [التوبة: 112].
وقوله: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} [الرحمن: 46].
وقوله: {ذلك لمن خشي ربه} [البينة: 8].
وقد وَرَدَ الحديث عن أبي الدرداء (3)، أن المراد مجرد الخوف الملازم
(1) في (ش): " كثيراً ".
(2)
في (ش): " أوضحه ".
(3)
أخرجه أحمد 2/ 357 في مسند أبي هريرة (ولم يهتد من يصفه المفتونون به حافظ العصر إلى مكانه، فقال في تخريج السنة 2/ 473: ولم أره في مسند أبي الدرداء .... )، والنسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " 8/ 227 - 228 والطبري 27/ 146، والبغوي 4/ 273 من طريقين عن محمد بن أبي حرملة، عن عطاء بن يسار، عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ يوماً هذه الآية:{ولمن خاف مقام ربه جنتان} ، فقلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ قال: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} ، فقلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} ، فقلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال: وإن زنى وإن سرق رغم أنف أبي الدرداء. وهذا إسناده صحيح. وذكره الهيثمي 7/ 118 وقال: رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح.
وأخرجه النسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " 8/ 232 من طريق إسماعيل بن علية، عن سعيد الجريري، عن موسى، عن محمد بن سعد بن أبي وقاص، عن أبي الدرداء. =
للتصديق، لا العمل بمقتضاه كما تقضي بذلك اللغة، وسيأتي بيانه.
ومن ذلك أن الله تعالى نصَّ في غير آيةٍ من كتابه على استحقاق الجنة أو المثوبة على الإيمان به وبرسوله، والإيمان إذا قُيِّدَ بالله وبرسوله كان بمعنى التصديق بالاتفاق، من ذلك قوله تعالى بعد ذكر الجنة:{أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21].
وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُون} [الحديد: 19].
وقوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَه} [التغابن: 11].
وقوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم} [البقرة: 256].
وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 152].
وأجمعت الأمةُ على تفسير الإيمان بذلك في قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِك} [البقرة: 221].
= وأخرجه الطبري 27/ 146 من طريق شعبة، عن الجريري، عن محمد بن سعد، به. ولم يذكر موسى. وموسى هذا مجهول.
وأخرجه الطبراني وابن مردويه كما في " الدر المنثور " 7/ 707 من طريق الجريري، عن أخيه، عن محمد بن سعد مرسلاً.
وأخرجه ابن أبي عاصم في " السنة "(975)، وفيه عنعنة بقية بن الوليد.
وأخرجه أحمد 6/ 442 و447، والبزار (5) بغير هذا اللفظ ودون الآية. وإسناد البزار والثاني من أحمد صحيح. ولفظه:" من مات لا يشرك بالله دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق. قال: وإن رغم أنف أبي الدرداء ".
وفي قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93] كما أجمعوا على ذلك في تفسير المسلم حيث جعلوا الإسلام شرطاً في صحة الصلاة والزكاة، فما قال أحدٌ في هذه المواضع: إن الخروج من العدالة يُبطل الإسلام، ولا الإيمان، ولا يُحِلُّ القتل، ولا يفسَخُ النكاح، ولا يمنع وجوب العبادات ولا صحتها، حتى تمارَوْا في علم الكلام. وزَعَمت المعتزلة أن المسألة قطعية، وأن تسمية المُوَحِّدِ العاصي مؤمناً أقل الإيمان من الباطل المقطوع به، بل غَلَوْا، فسلبوه اسم الإسلام، وقالوا: إنه اسم مدحٍ لا يستحقه. وكان يلزمهم أن يسلُبوه اسم الموحد والمُصَلِّي لذلك، ويلزمهم ألا تتناول الآية التي في تحريم قتل المؤمن تحريم قتل المسلم صاحب الكبيرة، وأن يُحِلُّوه ولا (1) يجعلوا قتله كبيرةً، فإن الأحاديث الواردة في ذلك لفظها ليس هو مثل لفظ الآية في تحريم قتل المؤمن، ولو قَدَّرْنا وجود دليلٍ آحادي لهم أو عمومٍ ظني لم ينفعهم هنا، لأنهم يشترطون القطع في التفسيق، وسيأتي تمام البحث في المعارضات والجمع بينها، وكذلك السنة جاءت بمثل ذلك، ففي حديث الجارية السوداء التي سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تجزي عن (2) عتق الرقبة المؤمنة أنه سألها عن ربها، وعن نبيِّها لا سوى، ثم حَكَمَ بإيمانها، وله طُرُقٌ (3) صحيحة كثيرة تأتي إن شاء الله تعالى. ويأتي هذا المعنى مبسوطاً أكثر من هذا.
ومن ذلك أن الله أمرَ بتوحيده واستغفاره كقوله: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [فصلت: 6].
وقوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19].
وقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110]، وفي تفسيرها حديث أبي الدرداء عنه صلى الله عليه وسلم وفيه أنه
(1) في (د) و (ف): " أو لا ".
(2)
في (ش): " في ".
(3)
في الأصول: " طريق "، والجادة ما أثبت.
قال: يا رسول الله وإن زنى وإن سَرَقَ، ثلاثاً، وقال في الثالثة:" على رغم أنف أبي الدرداء "(1). وله طرقٌ أحدُها برجال الصحيح.
وجعل الله تعالى هذه صفة المذنبين من المؤمنين كما قال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُون} [آل عمران: 135].
وفي الحديث: " ما أصَرَّ من استغْفَرَ وإن عادَ في اليومِ سبعين مرةً ". رواه أبو داود والترمذي (2) من حديث أبي بكر، عنه صلى الله عليه وسلم بإسناد صالح.
وروى الزمخشري في " الكشاف "(3): " لا كبيرة مع الاستغفار ".
وقال الله تعالى في صفه الكافرين: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28].
وقال في صفة طائفةٍ من المذنبين المؤمنين: {َآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 102]. وسيأتي الكلام على معنى الإصرار المُجمع عليه، وأنه ليس من صفة المسلمين، ولذلك لم يأتِ الاستغفار منه، ولذلك جاء التكرار في
(1) تقدم تخريجه في 8/ 323 و9/ 177.
(2)
أخرجه أبو داود (1514)، والترمذي (3559)، والمروزي في " مسند أبي بكر "(121) و (122)، وأبو يعلى (137) و (138) و (139)، والطبري في " تفسيره "(7863) من طريق عثمان بن واقد، عن أبي نُصيرة، عن مولى لأبي بكر، عن أبي بكر. وقال الترمذي: هذا حديث غريب، إنما نعرفه من حديث أبي نُصيرة، وليس إسناده بالقوي. قال ابن كثير في " تفسيره " 2/ 106: وقول علي بن المديني والترمذي: ليس إسناد هذا الحديث بذاك، فالظاهر إنما لأجل جهالة مولى أبي بكر، ولكن جهالة مثله لا تضر، لأنه تابعي كبير، ويكفيه نسبته إلى الصديق، فهو حديث حسن.
(3)
1/ 128. وقد تقدم تخريج الحديث.
فضلِ الاستغفار، ولم يأتِ ذكرُه في التوبة (1)، إنما جاء من الإسرف، وفُهِمَ من مجموعها من الإجماع أنه لا ينفع الاستغفار وعدم الاعتراف بالذنب. وهذا إجماع، والنصوص دلَّت على نفعِه بعد التوحيد والاعتراف، وأنه غير التوبة، أما نفعه بعده فمنصوص مُجمعٌ على النص عليه، وأما أنه غيرُ التوبة فلوجوهٍ:
الأول: أن التوبة غير مرتبةٍ على الإسلام، بل التوبة من الشرك لقبحه صحيحةٌ قبل مجيء الرسول وبعده، لجمعها شرائط التوبة كما صحت من زيد بن عمرو بن نُفيل (2). وليست كالعبادة لا تصح قبل ذلك، فلو كان تقدُّمُ الإسلام شرطاً فيها، لأدى (3) إلى الدور بخلاف الاستغفار، فالنصوصُ والإجماع دلَاّ على اشتراط تقدم الإسلام في نفعه.
الثاني: قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]، ولا تصح التوبة لهم.
وكذلك مفهوم: {إن تستغفر لهم سبعين مرة} [التوبة: 70] أن ذلك ينفع غيرهم من المسلمين، كصلاة الميت، وإن للتكرار أثراً ولا معنى له في التوبة أصلاً، وكذلك قوله تعالى في الملائكة:{ويستغفرون لمن في الأرض} [الشورى: 5]، وفي آيةٍ:{للذين آمنوا} [غافر: 7].
وكذلك مدح المؤمنين بقولهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10].
وكذلك استغفار إبراهيم لأبيه، وأمثال ذلك لا يحصى مما لا يَصِحُّ حملُه
(1) من قوله: " ولذلك " إلى هنا ساقط من (د) و (ف).
(2)
أخرج البخاري (3826) و (3827) قصته من حديث ابن عمر، وأخرج الطيالسي (234) من حديث سعد بن زيد بإسناد ضعيف، وفيه: وجاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أبي كان كما رأيت، وكما بلغك، فاستغفر له، قال:" نعم، فإنه يكون يوم القيامة أمة واحدة ". وانظر " الإصابة " 1/ 552 - 553، و" الفتح " 7/ 143 - 144.
(3)
في (ش): " أدى ".
على التوبة لتعديه على الغير.
الثالث: قوله تعالى: {أفلا يَتُوبون إلى الله ويَستغفرونَه} [المائدة: 74]، وقوله تعالى:{واستَغْفِروا ربَّكُم ثم توبوا إليه} في غير آية [هود: 90]، ففرق بالنص بينهما.
وقد ذكر الحاكم المعتزلي في تفسيره لذلك:
أن الاستغفار باللسان، والتوبة بالقلب. ذكره عنه الخصم في تفسير سورة هود، ولم يعترضه، ولا تنبه على تحريم اعتقاده، وذكر قبله أشياء ركيكة لا حجة لصحتها.
أولها: تفسير الاستغفار بالإيمان بالله تعالى حتى تصح التوبة من عبادة الأوثان، وهذا كله عجيب منه من وجهين: أحدهما أن تفسير الاستغفار بالإيمان بالله غريبٌ يحتاج إلى نقلٍ صحيحٍ عن لغة العرب، وقد كان يشدِّدُ في تفسير القرآن بما نقله أئمة اللغة عن اللغة العربية، فكيف بالتفسير بما لم ينقله أحدٌ منهم عنها.
وثانيهما: اشتراطه الإيمان بالله في صحة التوبة من الشرك المعلوم بطلانه وقبحُه عقلاً، وقد يكون قبحه ضرورياً في العقل، مثل قبح عبادة الحجارة، فإنه أجلى من وجوب الإيمان بالله لتوقف الإيمان على النظر، ومن تَجَلَّى له قبح الشرك قبل أن ينظر في معرفة الله تعالى، كيف لا تصح منه التوبة على الفور، بل كيف يَحِلُّ له التراخي في التوبة عنه حتى ينظُر، وكيف لا يتضيَّقُ عليه وجوبها عن أقبح القبائح، وهل لوجوب التوبة وصحتها شرطٌ غير العلم بقُبحِ القبيح. وهذا نقله عن الزمخشري (1) وما أعلم أحداً سبَقَه إلى ذلك. والله أعلم.
وقد خالفه الحاكم في " التهذيب " مع اشتراكهما في المذهب، فقال:{واستغفروا ربكم} ، أي: اطلُبُوا المغفرة منه، ذكره عنه المقرىء الأعقم في
(1) 2/ 220.
" تفسيره "(1) كما قرَّره في أوله، فوافق الحاكم اختياري، وخاتمة الآية تدُلُّ عليه، وهو قوله:{إن ربي قريبٌ مُجيبٌ} في الآية الأولى في هود، وهو الظاهر كما يوضحه في الوجه الذي بعدَه.
الرابع: أن الفرق بينهما هو الظاهر في اللغة، فالاستغفار قولٌ باللسان معناه: طلب المغفرة وسؤالها، كالاسترزاق: طلب الرزق، والاستطعام: طلب الطعام، والاستسقاء: طلب السقيا، فثبت أنه من أعمال الجوارح، والتوبة من أعمال القلوب بالإجماع، فمن جعلَهُما شيئاً واحداً، فعليه الدليل، لأنه خالف الظاهر، لا من فرق بينهما.
الخامس: أنه قد صَحَّ الاستغفار مما تقدَّمَ ومما تأخَّرَ، كما في حديث التشهُّد في " صحيح مسلم " (2) من رواية علي عليه السلام:" اللهم اغفِرْ لي ما قَدَّمْتُ وما أخَّرتُ " الحديث، وكذا في حديث قيام الليل:" اللهم لك الحمد، أنت قَيِّمُ السماوات والأرض ومَنْ فيهن " إلى قوله: فاغفر لي ما قَدَّمْتُ وما أخَّرتُ " رواه البخاري (3) من حديث ابن عباس، وكذا في دعاء السجود عنه صلى الله عليه وسلم: " اللهم اغْفِرْ لي ذنبي كُلَّه دِقَّه وجِلَّه أوَّله وآخرَه " خرَّجاه (4)، ولا تَصِحُّ التوبة من الذنوب المستقبلة بالإجماع.
السادس: قوله تعالى: {والمستغفرين بالأسحار} [آل عمران: 17]، وما صح من تخصيص قبول الاستغفار في جوف الليل، فإنه لا معنى لتخصيص التوبة بالأسحار، بل هي واجبةٌ على الفَوْرِ، أي: وقت وقع الذنب تَضَيَّقَ وجوب التوبة والبِدار بها، وكذلك وجوب قبولها عند المخالف.
(1) منه نسخة خطية في الجامع الكبير بصنعاء (تفسير 13). انظر " فهرس مخطوطات المكتبة الغربية " ص 8.
(2)
رقم (771).
(3)
رقم (1120) و (6317) و (7385) و (7442) و (7499).
(4)
في الأصول: " عن عائشة "، وهو سبق قلم، ثم إنه من أفراد مسلم وليس هو في البخاري.
السابع: قوله تعالى في حق بني إسرائيل: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 58]، فقوله:{قولوا حِطَّةٌ} بمعنى حُطَّ عنا ذنوبنا عند الجميع، وهذا نظير الاستغفار، ولذلك قيل: بدّلوا قولاً غير الذي قيل لهم، فإذا كان هذا منصوصاً في بني إسرائيل فكيف فيمن خَفَّفَ الله عنهم، وحَطَّ عنهم الأغلال التي كانت على من قبلهم.
الثامن: ما جاء في حديث الخليل عليه السلام من قوله تعالى: " إن قَصْرَ عبدي مني إحدى ثلاثٍ: إما أن يتوب فأتوب عليه، أو يستغفرني فأغفر له، أو أُخْرِجَ من صلبه من يعبدني " رواه الهيثمي في " مجمع الزوائد " من حديث جابر، وقال: رواه الطبراني في " الأوسط "(1).
وقد تقدم أن الزمخشري روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا كبيرة مع الاستغفار "(2) فإن كان هذا باطلاً حَرُمَت عليه روايته وإن كان صحيحاً، أو يجوز أن يكون صحيحاً، بَطَلَ قطعه بالوعيد على الكبائر في حق من يجوز أنه من المستغفرين في اللغة التي لا يَحِلُّ (3) تفسير القرآن والسنة بغيرها، وهو أجلُّ من أن يجهَلَ أن الاستغفار في علم التصريف: استفعالٌ من طلب المغفرة، كالاستطعام وأمثاله مما تقدم.
أما أهل السنة، فلم أرَ أحداً منهم ذكره، ولا صَحَّحه، لكن روى أبو داود والترمذي بإسنادٍ صالح من حديث أبي بكر رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال:" ما أصَرَّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرةً "(4) وله شواهد بغير لفظه، منها حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم، أن رجلاً أذنب، فقال: اللهُمَّ اغفر لي، فقال تعالى: "عبدي أذنب ذنباً فعلِمَ أن له رباً يغفِرُ الذنب ويأخُذُ به، قد غفرتُ لعبدي، فعاد فأذنبَ فقال مثل ذلك، فقال الله تعالى مثل ذلك حتى قال في
(1) تقدم تخريجه في الجزء السادس والسابع.
(2)
تقدم تخريجه ص 173.
(3)
في (ف): " يجوز.
(4)
تقدم تخريجه ص 180.
الرابعة: أُشهِدُكم أنِّي قد غفرتُ لعبدي فليعمل ما شاء" رواه البخاري، ومسلم، والنسائي وأحمد (1)، وله شواهد، وهو يأتي بشواهده قريباً في الفرق بين الإسلام والإيمان، وسيأتي الاختلاف (2) في تفسير الإصرار.
والجواب عن معارضة هذه الأدلة الخمسة الجليَّة بما ظنه بعضهم في قوله تعالى في اليهود: {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} [الأعراف: 169]، فإن هذه في اليهود الكفار، ثم في حقوق المخلوقين، ثم في التألِّي على الله بالخبر القاطع، وقد جاء:" من يتألَّ على الله يُكَذِّبْه "(3)، ولما قالت امرأة عثمان بن مظعون: إنه في الجنة، زَجَرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه، وقال:" إني لأرجو له الخير "(4) فاليهود لم يستغفروا مُشفقين مجوِّزين للعفو والعقوبة، بل أخبروا عمَّا لم يُحيطوا به علماً، ولم يَنْقِمْ عليهم أنهم كلما أذنبوا، استغفروا، ولا قال أحدٌ بقُبح الاستغفار من العاصي لنفسه، حتى الوعيدية إنما قبَّحوا من الغير أن يستغفر للعاصي، وقد بَسَطْتُ جوابه في الإجادة. وربَّما يأتي في الكلام على الإصرار، فهي كقولهم:{لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75]، وقولهم: لن تمسَّهم النار إلَاّ سبعة أيام (5)، وقد قال الله تعالى في نحو ذلك: {وتَصِفُ ألسنتُهم الكَذِبَ أن لَهُم
(1) البخاري (7507)، ومسلم (2758)، والنسائي في " عمل اليوم والليلة "(419)، وأحمد 2/ 296 و405 و492.
(2)
في (ف): " الخلاف ".
(3)
قطعة من أثر مطول رواه ابن أبي شيبة 13/ 297 من طريق سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن عابس، عن إياس، عن عبد الله بن مسعود.
(4)
أخرجه البخاري (1243) و (2687) و (3929) و (7003) و (7004) و (7018).
والنسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " 13/ 94، وعبد الرزاق في " المصنف "(20422) من حديث أم العلاء الأنصارية.
(5)
أخرجه الطبري في تفسير الآية: {وقالوا لن تمسَّنا النارُ إلَاّ أياما معدودةً} برقم (1410) و (1411)، والواحدي ص 16 عن ابن عباس موقوفاً قال: كانت يهودُ يقولون: إنما مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما يعذّب اللهُ الناسَ يوم القيامة بكل ألف سنة من أيام الدنيا =
الحُسْنى} [النحل: 62]، ومدح المعترفين المستغفرين، ومن ذلك ورودُ القرآن بأن الحسناتِ يُذهبن السيئاتِ في حَقِّ المسلمين في عشر آيات تدل على ذلك كما سيأتي.
ومنها ترتيب الجزاء على مجرد التصديق، كقوله تعالي: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون
…
لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُون} [الزمر:33 و35] بخلاف الشرك، فقال تعالى:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُك} [الزمر: 65] وكل هذا يناسب ظاهر هذه الآية الكريمة، والقرآن يشبه بعضه بعضاً، ويفسر بعضه بعضاً.
وأما السنةُ، فلا خلاف في تصريحها بذلك، ولكن الخصم يقول: إنها آحادية، ونحن نقول: إنها متواترةٌ، ولو كانت آحادية، لصحَّ التفسير بها مع صحتها، أما التواتر فليس يصح إقامة البرهان عليه إلَاّ بكثرة النقل، وسوف يتضحُ ذلك، والمعتزلة تقول: إن التواتر يحصُلُ بنقل الخمسة ونحن ننقل مثل ذلك عن أضعافِ ذلك من الثقات، على أن العدالة لا تشترط في المتواترات.
وقد نقلت في هذا الكتاب قريباً من خمس مئة حديثٍ مما يدلُّ على الرجاء من غير استقصاءٍ، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وأما أن الآحادي الصحيح مما يدخُلُ في التفسير، فلإجماع المسلمين على ذلك في تفاسيرهم، وفي أسباب النزول حتى الخصوم كما مَرَّ تقريرهُ.
= يوماً واحداً من أيام الآخرة، وأنها سبعة أيام، فأنزل الله في ذلك من قولهم:{وقالوا لن تمسنا النار إلَاّ أياماً معدودةً} الآية. وفيه محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، وهو مجهول.
وأخرجه الطبراني (11160) بإسناد آخر عن ابن عباس، وفيه محمد بن حميد الرازي وسلمة بن الفضل، وعنعنة ابن إسحاق.
وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 1/ 207 وزاد نسبته إلى ابن إسحاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
ويوضحه أنه لا سبيلَ إلى القطع بتكذيب الراوي لتخصيصِ العموم، وتقييد المطلق بالإجماع، وإذا حَرُمَ تكذيبه، وكان ثقة، أثمر الظن بالضرورة، فيجبُ العمل في العمليات، ويمتنع القطع على ما يُخالفه في الاعتقاديات.
فمن ذلك تفسيرُ النبي صلى الله عليه وسلم للظُّلم بالشرك في قوله تعالى: {ولم يَلْبِسُوا إيمانهم بظُلْمٍ} [الأنعام: 82]، رواه البخاري، ومسلم عن ابن مسعود (1) وهو من أثبتِ الآثار وأبينها، وذلك أنها لما نَزَلَتْ، اشتدَّت عليهم، فسألوا عنها، وكذلك رَوَى في تفسيرها الحاكم -على تشيُّعِه- عن أبي بكرٍ في " المستدرك "(2) أن الظلمَ في هذه الآية هو الشرك، وخَرَّجَ في " المستدرك " (3) من حديث أبي ذرٍّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن الله يغفرُ لعبدِه ما لم يَقَعِ الحجابُ، قالوا: وما الحجاب؟ قال: " موتُ النفس مشركةً ". وختم النووي مباني الإسلام بحديث أنس قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أُبالي، يا ابن آدم، لو بَلَغَتْ ذنوبُك عنانَ السماء، ثم استغفرتَني غَفَرْتُ لك، يا ابنَ آدمُ، لو أتيتني بقِراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تُشركُ بي شيئاً، لأتيتُك بقرابِها مغفرةً " رواه الترمذي، وقال: حديث حسن (4)، وسيأتي تواترُ هذا المعنى.
ثم عَضَدْنا ذلك بالنظر العقلي على رأي من يراه، وإن لم يعتقد أنه حجةٌ قاطعة، فوجدنا الإسلام يهدِمُ الشرك، وما كان فيه بالإجماع والنصوص، فلم يُستنكرْ في العقل أن يكون لمن أخلصه، واستقام عليه حتى مات مُوقناً مَزِيَّةٌ تفرق بينه وبين المشركين (5)، كما جُعِلَ لهم في أحكام الدنيا مَزِيَّةٌ تدل على بقاء تعلق الرحمة والرفق بهم، كجواز مناكحتهم، وتحريم دمائهم وأموالهم، وأعظمُ
(1) البخاري (32) و (3360) و (3428) و (4629) و (4776) و (6918) و (6937)، ومسلم (124)، والترمذي (3067)، وأحمد 1/ 378 و424 و444.
(2)
2/ 440 وفي إسناده أحمد بن عبد الجبار، وهو ضعيف.
(3)
4/ 257 بإسناد ضعيف.
(4)
سيأتي تخريجه ص 272.
(5)
في (ف): " المشرك ".
من ذلك كلِّه وأَدَلِّه على الخير صحة العبادات منهم، فإنها تستلزم القبول ووجوب الثواب، وذلك أمارةُ صحة ما ذكره أهل السنة من جواز التكفير عنهم بعباداتهم ومصائبهم، وقد ذكر الرازي أن المعتزلة أخَلُّوا بالتحسين العقلي، حيثُ أوجبوا لمن خَلَطَ الطاعة والمعصية النار دون الجنة، وكان العدل العقلي يقتضي أن يُدْخَلَ النارَ مدةً، والجنة مدةً، بل لو خُلِّينا وقضية القياس العقلي الذي هو مفزَعُ الخصوم، لأوجبنا له الجنة كما قالت المرجئة، فإن الإسلام يزيد ولا ينقص، وقد أجمعنا على أن من كَفَرَ طول عمره، ثم أسلم عند موته أنه مغفورٌ له، فلا يكون بكفره طول عمره، وتأخُّر إسلامه أسعد من السابق إلى الإسلام المستقيم عليه الذي لابس بعض كبائر الشرك، بحيث ما ضرَّهُ إلَاّ تقدم إسلامه وسبقه إليه، واستقامته عليه، فإن التقدير أن المشرك المغفور له بالإسلام المتأخر قد لابس الكبيرة التي عُذِّبَ المسلم عليها لم يكن بينهما (1) فرقٌ إلَاّ أن المسلم فعلها وهو معها موحِّدٌ خائفٌ راجٍ، والمشرك على الضِّدِّ من ذلك حال فعلها، وقبله، وبعده. والإسلام الذي كفَّرها للمشرك، وكفَّر سائر كبائره حاصل مع المسلم الذي فعلها وحدها قبلها وبعدها وحالها مع حسنات (2) مكفِّراتٍ وبلاوي، فهو زائدٌ في الفضل على ذلك المشرك عقلاً، ولكن الله خَوَّفَ المسلمين كما خوّفَ الصالحين، ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ولِمَا عُلِمَ في التخويف من الصلاح لهم، فقلوبهم وجلةٌ، ودموعهم جاريةٌ، ولذلك تجد أكثرهم صلاحاً أكثرهم خوفاً، فالحمد لله رب العالمين. فقد فَضَّلَ الله السابقين في كتابه والمنفقين من قبل الفتح، فكيف تَجْعَلُ الإسلام الدائم كالأوصاف المُلغاة في القياس، وتنكر النصوص القرآنية الموافقة لهذا، وتَرْكَبُ في تأويلها الصعب والذَّلُول، وعادتكم تأويل النصوص إذا خالفت القياس، فهذا هو الكلام على ما سنَحَ من رد تأويله.
وأما الكلام على عدم المطابقة في تمثيله، فهو أوضح من أن يختص به الفطناء، وأجلى من أن يحتاج إلى كشفه الأذكياءُ، وذلك أنه جعل الآية نظير قولك: إن الأمير لا يبذُلُ الدينار، ويبذل القِنطار لمن يشاء، فبدأ في تمثيله بنفي
(1) في (ش): " بينها ".
(2)
تحرفت في (ش) إلى: " حساب ".
موهبه الحقير، وأخَّر ما نفاه من إثبات موهبه الخطير، وذلك نقيض ما ورد في الآية الكريمة، وعكسه فأول ما يُنْقَمُ عليه الأبله الذي لا يفهم غائلته (1) في هذا التحريف اللطيف أنه عاكس صورة الآية الظاهرة وخالفها، بل ضادَّها، ثم ادعى المماثلة، وحقُّ التمثيل أن يكون مطابقاً جليَّاً، لا معاكساً خفياً، ثم إن غرضه بهذة المعاكسة في التمثيل الاحتراز عما نقم عليه في التأويل.
بيان ذلك أنه نقم عليه في تأويله أنه أضمر في الجملة الأولى تقييدها بالمشيئة من غير دليلٍ، وإن ذلك لا يصح حتى إنه (2) ارتكب لأجل الفرار منه أن معنى قوله تعالى:{أمرنا مترفيها فَفَسَقُوا فيها} [الإسراء: 16]، أمرناهم بالفسق مجازاً، كما تقدم، وهو صريحٌ في " الكشاف "(3) في موضعه، فلم فهم هذا التأويل، احترز منه في التمثيل، فجعل تقديم الأدنى الحقير مع تعقيبه بالأعلى الخطير قرينةً عقليةً يحسن معها إضمارُ التقييد للجملة الأولى في تمثيله، وذلك أن من يَهَبُ القنطار لمن يشاء، أولى وأحرى أن يَهَبَ الدينار لمن يشاء، مثلما أن الآية لو وردت بأن الله يغفر الشرك لمن يشاء، ولا يغفر (4) ما دون ذلك، حَسُنَ أن يضمر إلَاّ أن يشاء، فيما دون ذلك بالقرينة العقلية، ولكن تكون العبارة في المضمر، إلَاّ أن يشاء، ولا يصلح أن يكون لمن يشاء، لما قدمنا ذكره من النظر في دُخُول حرف النفي في مثل هذا، وقد أخذ هذه الحيلة في تمثيله من قوله فيمن يُؤتمن ومن لا يؤتمن:{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75]، وليس مثل الآية إلَاّ أنه (5) يمكن الاعتراضُ عليه، ويمنع تقدير المشيئة في تمثيله، لاحتمال أن يكون الأميرُ لا يعطي الدينار أنَفَةً وترفُّعاً من عطاء الحقير، والقرينة الدالة على هذا ما وصف به بعده من إعطائه القنطار.
(1) في (ف): " جائلته ".
(2)
" إنه " ساقطة من (ش).
(3)
2/ 442.
(4)
في (ف): " يحسن ".
(5)
في (د) و (ف): " لأنه ".
وهذا وجهٌ جليٌّ لا غُبار عليه، موجِبٌ خروج الحق على كل تقديرٍ من يديه، وأما الآية الكريمة، فإنها دالةٌ على أن من أدَّى الأمانة في القنطار أولى بتأديتها فيما دونه، ومن لم يؤدِّها في الدينار أولى أن لا يؤدِّيها فيما فوقه، ولا يمكن الاعتراض فيها في كلا الجملتين. وبهذا يتميَّزُ القرآن وبلاغته على بلاغة (1) البُلغاء.
ولولا عصبية الشيخ في هذه المسألة، ما وقع في مثل هذا، مع إمامته في هذا الفن، فالله المستعان.
وبيان ذلك أنك لو عكست مثاله، وقدمت ما أخَّر، وجعلت الجملة الأولى مشتملة على الأمر الخطير كالآية سواء، انقلبت الحجة عليه، وخرجت الشبهة من يديه، وذلك هو الذي يعرِفُه كل منصفٍ، ولا يستطيع إنكاره بعد كشفه المتعسِّفُ، فالحمد لله الذي أنطق الخصم به، ليظهر التمثيل الصحيح من مثاله الذي اختاره، وارتضاه وطلبه (2) وانتقاه، فنقول: مثالُ الآية المطابق الدال على قول أهل السنة: إن الأمير لا يُعطي القنطارَ، ويُعطي الدينار من يشاء، فها هنا (3) لا يجوز إضمار المشيئة في الجملة الأولى بالإجماع، لعدم القرينة الدالة عليه، لا من اللفظ، ولا من العقل، كالآية سواء، إلَاّ أن المثال غير لائق، لأنه جعله في العطاء، لا في المغفرة، والله تعالى هو الرب الجليل المعطي لكل جزيلٍ، الملك الوهَّاب الرزاق لمن يشاء بغير حسابٍ، الذي لا يمنع العطاء والغفران إلا لما يعلم من جلب الصَّلاح ودفع الطغيان، وأمثال ذلك مما يُعدُّ (4) من جملة الإحسان، ولا يقال مثل ذلك في فضله العظيم، وجوده الواسع العميم.
ثم إنه غير المقدر المضمر في تمثيله، فلم يجعله المشيئة أيضاً، بل جعله الاستحقاقَ، وهذا مشكلٌ عليه أيضاً، ملزِمٌ له أن تكون المشيئة برحمته عن الاستحقاق، وإذا كان كذلك، فلا مانع من أن يعلم الله تعالى استحقاق المسلم
(1) في (ش): " وبلاغة ".
(2)
في (ف): " وتطلبه ".
(3)
في (ش): " فهذا ".
(4)
" مما يعد " ساقطة من (ش).
الموحد للمغفرة من غير توبة، واستحقاق المشرك ألا يغفر له إلَاّ بالتوبة، وهذا أيضاً مَنٌّ، ولله الحمد.
فإن قيل: ما ذكرتم من بطلان فائدة التقسيم للذنوب إلى شركٍ وما دونه على كلام الشيخ غير مُسَلَّمٍ، لأنه يمكن أن تكون (1) الفائدة فيه تعظيم الشرك بنفي المغفرة له مطلقاً، لأن الآية مَسُوقَةٌ لتعظيم ذنب المشرك، فلم يقتض هذا المقام التصريح بمغفرته مع التوبة، لمنافاته المقصود.
فالجواب من وجوهٍ:
الأول: أن تعظيم الشرك بإيهام ذلك، وإرادة ذلك الإيهام أمرٌ محال، ولو صحَّ، لكان قبيحاً، لا يجوز على الله تعالى. أما أنه أمر محالٌ غير ممكن، فلأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثرَ الرسل بُعِثُوا والأرض طافحةٌ بالشرك، داعين للمشركين إلى التوبة من الشرك، وقد علم المشركون ذلك ضرورةً من أديان الرسل، ولا يمكنُ إيهامُهم ذلك، ولا يرتفع عنهم ذلك العلمُ الضروري إلَاّ بنصٍّ جليٍّ وذلك لا يجوز عند الخصم، لقبحه عقلاً وشرعاً، ولو ورد نصٌّ بذلك، لكان فيه إفحامُ الرسل الداعين للمشركين إلى الإسلام، وإلزامهم المناقضة.
الثاني: أن نفي المغفرة لا يستلزم نفي قبول التوبة، لأنهما متغايران لغةً وشرعاً، بدليل قول الله سبحانه وتعالى:{غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر: 3]، {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى: 25]، وإنما بَنَوا ذلك على زعمهم في تأويل الآية، وهو ممنوعٌ من الأصل.
الثالث: أن تشبيه الشرك بما لا يغفر بالتوبة لا يصح؛ لعدم المشبه، وعدم إمكانه، فإنه ليس في الذنوب ما لا يغفر، وشرط صحة التشبيه وجود مشبَّهٍ به وإمكانه (2)، وقد صرحوا بذلك في توجيه كلام الزمخشري.
الرابع: أن ذلك إيهامٌ قبيحٌ عقليٌّ على الله، وذلك لا يصحُّ، ولو صح ما
(1)" تكون " ساقطة من (ش).
(2)
في (ف): " أو إمكانه ".
حَسُنَ على قواعد الخصوم.
الخامس: أن مجرد الوعيد من غير ذكر توبة لا يقتضي إيهام ذلك، فقد ورد ذلك في الكتاب والسنة على جميع المعاصي، ولم يقتضِ إيهام ذلك ولا أوهمه، ولا قال بذلك أحدٌ من مُفسِّري كتاب الله تعالى، كقوله تعالى:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} [الجن: 23]. بل قد جاء الوعيد على مثقال الذرة غير مقرونٍ بالتوبة، كما في سورة الزلزلة، وإنما ترك ذكر التوبة كثير، ولم تذكر التوبة عند كل وعيد، لأن قبولها معلومٌ ضرورة من أديان الأنبياء، وثابتٌ في غرائز العقول، وفِطَن العقلاء عند الخصوم، وإذا تعارضت الأقوال في تفسير الآية، كانت أقوال الصحابة مقدمة عند أهل الإنصافٍ، فإن أفهامهم كانت سليمةً، وعقائدهم مستقيمةً، ولم تكن بالابتداع مريضةً، ولا سقيمةً، وقد نقل الجميع عنهم أن هذه الآية الكريمة سرَّتهم، وفِرحُوا واستبشروا بها كما تقدم ذلك عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: وعن ابن عباس تُرجمان القرآن، وحبر الأمة وبحرها، وعن عبد الله بن مسعود، وابن عمر رضي الله عنهم، وحديث ابن عمر يقتضي رواية ذلك عن الصحابة أجمعين، ولا شك أن فهمهم صحيحٌ، بل حجةٌ، ولذلك كانت آثارهم مذكورة في تفسير القرآن بإجماع المسلمين، دون أقاويل من تأخَّرَ من جميع أهلِ الدعاوى، وتفسير القرآن (1) لمجرد التجويز والاحتمالات حرامٌ عقلاً وسمعاً.
أمَّا العقل، فلأنه لا يجوز الإخبار عن زيدٍ بأنه في الدار، لمجرَّدِ احتمالِ ذلك، فكيف الإخبار عن معاني كلام (2) الله الذي هو المفزع.
وأما السمع، فلقوله تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، ولحديث ابن عباسٍ وجُندُبٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم التفسير بالرأي، وقد تقدم ذكرُ
(1) في (ش): " وتفسير أهل القرآن "، وهو خطأ.
(2)
في (ف): " كتاب ".
ذلك مستوفىً، ولأن تفسير الصحابة هؤلاء هو السابقُ إلى الأفهام، ولا يشك كل سليم الفهم والطبع أن الآية مسُوقةٌ للفرق بين الشرك وما دونه، وجرب ذلك في كل من يتلقَّن خلافه من أسلافه وأصحابه، ويتعصَّب لمذاهب آبائه وأترابه، فنسأل الله الهداية والتوفيق وهو حسبي ونعم الوكيل.
ولأن تفسير الصحابة وأهل السنة من قبيل تخصيص العام، وهو صحيحٌ بالإجماع، كثير بالإجماع، لا تكلُّف فيها ولا شذوذ، حتى قيل: إن كل عمومات القرآن مخصوصةٌ إلا: {وهو بكل شيءٍ عليمٌ} [الأنعام: 101]، وحتى قيل: إن إطلاق العام على الخاص حقيقةٌ لا مجاز، وقد تأولت الوعيدية هذه الآية الكريمة مع خصوصها وبيانها وتأخرها -كما تقدم بيانه- بأنواع من التأويلات المتعسِّفة التي لا تحتاج إلى العناية في بطلانها، وإنما أوضحت الرد على الزمخشري، لأنه في العربية إمامٌ كبيرٌ، لا يظن بمثله ما اختار لنفسه من ذلك القول الساقط.
ومما ينبغى التعرض لذكره بعده من تأويلاتهم (1) تأويل الشيخ محمود بن الملاحمي، فإنه زعم أن الآيتين محمولتان على عذاب الاستئصال، واستدل بما قبلهما فأبعد (2)، فإن ما قبل الأولى يُوجِبُ أنه قد وقع الخُلْفُ، وما قبل الثانية ذكر جهنم، وفسَّر التوبة (3) بغير حجةٍ، ذكر تأويله هذا الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام في " التمهيد " والجواب عنه من وجوه:
الأول: أن هذا التأويل وأمثاله خلاف المعلوم ضرورةً لأهل البحث التام عن الأخبار النبوية، والآثار الصحابية، وسوف يظهر للمتأمِّل المنصف تواتُرُ ذلك بتأمل ما في هذا الكتاب وحده من ذلك، فقد اشتمل على ثلاث مئة حديثٍ في الرجاء، وكثيرٌ منها فيه التصريح بخروج الموحِّدين من النار. فرواة هذا النوع وحده بلغُوا حد التواتر، وزادوا عليه، ولا خلاف في تقديم التأويل
(1) في (ش): " بعد تأويلاتهم ".
(2)
في (ش): " فما بعد " وهو خطأ.
(3)
في (د) و (ف): " التولية ".
المنصوص الصحيح الآحادي على مجرد الاحتمال النظري، فكيف بالنصوص المتواترة؟ على أنه خلاف المعلوم ضرورةً للجميع، فإن كثيراً من المشركين -أو أكثرهم- ما عُذِّبُوا في الدنيا عذاب الاستئصال، وإنما عُذِّبَ به بعض من عاصر الأنبياء عليهم السلام، وهذا نبينا محمد صلوات الله عليه الذي أنزلت عليه هاتان الآيتان لم يعذِّب من عاصره منهم عذاب الاستئصال، بل كان حربُه لهم سجالاً، وهؤلاء خصومه اليهود والنصارى في ذمته إلَاّ من أبى، مع قولهم بأعظم الشرك من نسبة عيسى وعزير إلى أنهما ولدان لله سبحانه وتعالى عما يقولون علوَّاً كبيراً.
الثاني: أنه مصادم للنصوص النبوية الواردة بنقيضه، فإنها وردت لمخالفة ذلك على وجوهٍ شتَّى، ومن أصرحها ما رواه مسلم في " الصحيح " في التوبة منه من حديث همَّامٍ، عن قتادة، عن أنسٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه:" إن الله لا يظلم المؤمن حسنةً يُعطى عليها في الدنيا ويُثابُ عليها في الآخرة، وأما الكافر، فيُطعَمُ بحسناته في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم يكن له حسنةٌ يُعطى بها خيراً "(1).
وعن علي عليه السلام، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ذلك في تفسير قوله تعالى:{وما أصابكم من مصيبةٍ فبما كَسَبَتْ أيديكم} [الشورى: 30]. رواه أحمد، والترمذي، والحاكم في " المستدرك " وصححه، وقال: خرَّجه إسحاق بن راهويه في تفسيره (2).
وخرَّج الحاكم نحوه من حديث طارق بن شهابٍ عن ابن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكره في كتاب القراءآت في قراءة النبي منها، أول كتاب التفسير، وقال: صحيح الإسناد (3).
(1) تقدم تخريجه ص 157 من هذا الجزء.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
" المستدرك " 2/ 253، ورد تصحيحه الحافظ الذهبي بقوله: عتبة (هو ابن يقظان أحد رواته) واهٍ.
وروى السيد هذا المعنى في " تفسيره " في تفسير قوله تعالى في هود: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُون} [هود: 15].
وفي " مجمع الزوائد "(1) باب مفرد في ذلك في أوائل كتاب التوبة فيه نحوُ ذلك عن عبد الله بن مُغَفَّل رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح، وكذلك أحد إسنادي الطبراني (2).
وعن عمار بن ياسر رواه الطبراني بإسناد جيد (3).
وعن ابن عباسٍ حديثان في ذلك، رواهما الطبراني، أحدهما من طريق عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله العرزمي (4)، والثاني من طريق محمد بن خليد الحنفي (5).
وفي " البخاري "(6) عن أبي هريرة نحوه، وفي " الترمذي " عن أنسٍ أصرح منهما.
(1) 10/ 191 - 192.
(2)
هو في " المسند " 4/ 87 عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن يونس، عن الحسن بن عبد الله بن مغفل، ورواه أبو نعيم في " الحلية " 3/ 25 عن الطبراني، عن محمد بن العباس المؤدب، عن عفان بهذا الإسناد.
(3)
" مجمع الزوائد " 10/ 192.
(4)
وقال الهيثمي: وهو ضعيف، وفي " الميزان ": ضعفه الدارقطني، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، والحديث في " معجم الطبراني الكبير "(11842).
(5)
ذكره ابن حبان في " المجروحين " 2/ 302، وقال: كان يقلب الأخبار، ويسند الموقوف، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد. وضعفه الدارقطني، وابن منده، والهيثمي، والحديث في " معجم الطبراني الكبير "(12735).
(6)
يغلب على ظني أنه الحديث (5645)، فقد رواه البخاري من حديث أبي هريرة بلفظ:" من يرد الله به خيراً يُصب منه ".
فهذا تواترٌ في النقل، ويشهد لذلك إنظار الله عز وجل للشيطان إلى الآخرة.
ومنها أحاديث تكفير المصائب، والآلام لذنوب المسلم في الدنيا حتى يلقى الله وما عليه خطيئةٌ، وعكس ذلك الكافر، وهي كثيرةٌ. قال ابن عبد البر في " التمهيد ": إنه مُجمَعٌ عليها، منها تكفير ذنوبهم بالحدود، ومنها العفو عمن عفا عنه في الدنيا، ومنها: حديث " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر "(1)، وجاء ذلك في تفسير:{من يعمل سوءاً يُجْزَ به} [النساء: 123]، {ومن يعمل مثقال ذرةٍ شرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 8]، ومنه قوله تعالى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، وقد تقدم من هذا طرفٌ صالحٌ.
الثالث: أنه مصادمٌ لما فهمه الصحابة من هاتين الآيتين الكريمتين، منهم علي، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، ورواه ابن عمر، عن الصحابة كما تقدم في الرد على الزمخشري. وقد أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على تفسير القرآن بآثار الصحابة، واحتجوا بها، لأنهم أصحُّ فهماً، وقول الشاعر الآحادي حجةٌ في العربية، كيف قول الصَّحابي المسند الصحيح.
الرابع: أنه لا يتم له تأويله إلَاّ بعد أن يقيد إطلاق القرآن الكريم، وهذه زيادةٌ في كلام الله، ولو ساغ هذا له، لم يَعْجِزْ خصمه عن مثله في آيات الوعيد، بل لم يعجز الملاحدة عن مثله في مذاهبهم، وبمثل هذا يكتفي طالب الحق في الرد على من تمنَّى على الله الأمانيَّ في تحريف التأويلات والمعاني، مثل أن يقول في مثل هذه الآية: إن أولها في عذاب الآخرة، وآخرها في عذاب الدنيا كما يأتي بطلانه، فافهم هذه الطريقة في الرد على المبتدعة والملاحدة تكفك المُؤْنَة في كثيرٍ من المواضع.
(1) أخرجه من حديث أبي هريرة أحمد 2/ 323 و485، ومسلم (2956)، والترمذي (2324)، وابن حبان (687) و (688). وانظر تمام تخريجه فيه.