المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ما جاء في بشرى هذه الأمة المرحومة - العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم - جـ ٩

[ابن الوزير]

الفصل: ‌ ما جاء في بشرى هذه الأمة المرحومة

ثم إني أشرع الآن بعد تقديم هذه المقدمة في المقصود، وهو باب‌

‌ ما جاء في بُشرى هذه الأمة المرحومة

في كتاب الله تعالى الذي نزله تعالى تبياناً لكلِّ شيءٍ وهدىً ورحمةً وبُشرى للمسلمين، كما قال تعالى، وكما نبَّه في آياته المحكمة، وتفسيره وسنةِ رسوله صلى الله عليه وسلم التي حملت أهلَ السنة على القول بأن مجموعها يفيد تواتُرَ الآحاد، والعلم الضروري بالمراد، وما تكرَّر في كتاب الله تعالى من تخصيص البشرى بالمؤمنين تارةً، وبالمتقين تارةً أخرى، وتخصيص النِّذارة بغيرها، حيث تكون لقطع الأعذار، لا للنجاة، وذلك يبين معنى:{نَذِيرًا لِلْبَشَرِ} [المدثر: 36]، ونحوها من العمومات والآيات الخاصة كثيرة، والمراد عموم المؤمنين، لا كل مؤمن وحده بخصوصه، وقوله:{وبَشِّر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً} [الأحزاب: 45] بعد قوله: {إنا أرسلناك شاهداً ومُبَشِّراً ونذيراً} [الأحزاب: 47]، فبين أنه مبشرٌ للمؤمنين ونذيرٌ لغيرهم، وكذلك قال في سورة مريم [97]:{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} .

ونحوها آية الأعراف [1 - 2]: {المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِين} ، لأنها دالة على أن النِّذارة لغيرهم.

ومنه: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَان} [التوبة: 21].

ومنه: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِم} [يونس: 2].

ومنه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} [يونس: 63 - 64].

وقال تعالى في خطاب موسى: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِين} [يونس: 87].

وقال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِين} [يونس: 103].

ص: 199

وقال تعالى: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الحديد: 21].

ومنه: {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 223].

وأما حيث تقصر النِّذارة على المؤمنين ونحوهم، فالمراد النذارة (1) النافعة المنجية، ولذلك لا تجيء إلَاّ مقصورة عليهم، لأن النذارة التي للكافرين لإقامة الحجة عليهم، وقطع أعذارهم، والأولى لنجاة المؤمنين، كقوله:{إنما أنت مُنْذِرُ من يخشاها} [النازعات: 45].

وقوله: {إنما تُنْذِرُ الذين يخشون ربهم} [فاطر: 18].

ويدل على ذلك آية يس [11]: {إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب} ويدل على ذلك فيها ما قبلها وما بعدها، فالذي قبلها في الكفار:{وسواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} [يس: 10]. والذي بعدها: {فَبَشِّرْهُ بمغفرة وأجرٍ كريمٍ} [يس: 11]، فجعل هذا المنذر الإنذار النافع هو المبشر بنفسه، فهذه نِذارةٌ خاصة تستلزم البشرى، فهي في معنى (2) الذكرى كما مضى في آية الأعراف، وكقوله:{فذكر إن نفعت الذكرى} [الأعلى: 9] وقوله: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَاب} [إبراهيم: 52].

والبشرى للمؤمنين صريحةٌ بلفظها، وغير صريحةٍ في جميع آيات الوعيد (3)، فتأمَّل ذلك.

والذي أذكره في هذا الباب ما هو أخص من ذلك، ولنبدأ بما حضر من آيات كتاب الله تعالى، وما ورد في تفسيرها المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى

(1)" النِّذارة " ساقطة من (ف).

(2)

في (ف): " بمعنى ".

(3)

في (ف): " الوعد ".

ص: 200

أُمناء أصحابه رضي الله عنهم.

الآية الأولى: قوله تعالى في الزمر [32 - 36]: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَه} وفي قراءة {عباده} (1). والبشرى فيها من وجهين:

الوجه الأول: أنه ثبت بها إن الصادق، المصدِّق بقلبه المخلص للتصديق من المتقين، وهذا صحيحٌ في السمع واللغة.

أمَّا السمع: فهذه الآية وغيرها مما يأتي بعدها.

وأما اللغة، فلأنه قد اتقى جميع أنواع الشرك والكفر، وكل من فعل فعلاً وجب في اللغة أن يُشتَقَّ له منه اسمٌ، فيجب أن يشتق له اسم المتقي، كما أنه لو عصى معصيةً واحدةً، وجب أن يُشتَقَّ له اسم العاصي، وقد قال الله في آدم وهو نبيٌّ ذنُبه صغيرٌ:{وعصى آدمُ ربَّه فغوى} [طه: 121]، فنسب إليه المعصية والغِوايَة بصغيرةٍ مكفَّرةٍ في جنب حسناته، فكيف لا يُنسَبُ إلى المسلم تقوى أعظم الذنوب، ويُشتَقُّ له منها اسم المتَّقي بخلاف الاتقاء، فلا يكون إلَاّ لمن ترك الشرك والكبائر؟ وهو الذي يُجَنَّبُ النار، كما قال تعالى:{وسَيُجَنَّبُها الأتقى} [الليل: 17]، وقال:{لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء: 102]، وأما التقي، فيردُها، ثم ينجو برحمة الله، كما قال تعالى:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم: 71 - 72].

والذي يوضِّح هذه المسألة: قوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]. وقد أجمعت الأمة على صحة طاعات أهل الكبائر من

(1) هي قراءة حمزة والكسائي. انظر " حجة القراءات " ص 622.

ص: 201

المسلمين، والخصومُ يُوجبون الثواب والقبول على كل طاعةٍ صحيحةٍ جامعةٍ لشرائط الصحة، ومن الحجة على ذلك: قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [طه: 112]، وقوله تعالى:{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: 120 - 121].

وقوله تعالى في المنافقين: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُون} [التوبة: 54]. وأمثال ذلك.

ومن السنة حديث الذي قال: إنه أصاب حدَّاً، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل صلى العصر؟ قال: نعم، قال: " اذهب، فقد غفر الله لك حدَّك، وما جاء في تكفير الصلوات للذنوب ونزول قوله تعالى في ذلك:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114](1) وفرقهم بين المرتد وغيره وقد أوردت هذا مجوداً في هذه المسألة من هذا الكتاب ولله الحمد والمنة.

وإذا ساغ للوعيدية أن يتأوَّلُوا القبول حيث ورد على شرط كمال التقوى، ساغ لمخالفهم حملُ عدم القبول على شرط حصول الكفر بدليل منفصلٍ، ولذلك أشكل على العلماء ورُودُ الوعيد (2) بعدم القبول في معاصٍ مخصوصةٍ، مثل ما ورد في شارب الخمر أنها لا تقبلُ صلواته أربعين يوماً، وفي روايةٍ " توبته "، وفيه اضطراب، رواه النسائي والحاكم من حديث ابن عمرو بن العاص مرفوعاً.

(1) انظر " صحيح ابن حبان "(1728) - (1730).

(2)

في (ش): " ما ورد من الوعيد ".

ص: 202

قلت: وبالغ الحاكمُ في تصحيحه، فقال: صحيح، قد تداولته الأئمَّةُ، واحتجا بجميع رُواتِه، ولا أعلمُ له علةً، وقيل: من حديث ابن عمر بن الخطاب موقوفاً، ولعلها علَّتُه إن كانت له علَّةٌ، ولم يخرِّجه البخاري ولا مسلمٌ، وخرَّج أبو داود من حديث ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم:" بُخِسَتْ صلاته أربعين يوماً " وهو أشبه، وهو خلاف قول من قال بالإحباط، ويحتمل تأويل عدم القبول بالبخس، كما رواه ابن عباس، والله أعلم (1).

وعن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه قال:" من تعلَّم صرف الكلام لِيسبِيَ به قلوب الرجال، أو الناس، لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً، ولا عدلاً " رواه أبو داود (2)، وهذا كالأول في معناه إن شاء الله تعالى، وقد تكلم الشيخ تقي الدين في " شرح العمدة " على معنى القبول وعدمه، وذكر الاختلاف في ذلك، وجوَّد الكلام فيه، ولي فيه كلامٌ زيادة على كلامه وتكميلٌ، وليس هذا موضع بسطه، وقد تقدم القول بأنه لا مانع قاطع من الإحباط على قواعد أهلِ السنة، ويكون العبدُ معه في مشيئة الله تعالى.

الوجه الثاني: أن الآية تدل على أن المصدِّق بقلبه، الموقن، المخلص (3) من النفاق يُسمَّى مُحسناً، ويستحقُّ ما وعد الله به المحسنين، والآية كافيةٌ في الدلالة على ذلك، فإنه لم يجعل المحسنين من لا ذنب له، لقوله بعد ذلك:{لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} [الزمر: 35].

ويوضحه قوله تعالى: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 85]، فجعلهم من المحسنين بقولهم، وهو ما قدم من قولهم:{وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِين} [المائدة: 84].

ويوضحه قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاة

(1) انظر 8/ 131 - 132.

(2)

برقم (5006)، وسنده منقطع.

(3)

في (ش): " المخلص بقلبه ".

ص: 203

الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]، وصح في تفسير ذلك مرفوعاً أن التثبيت في الآخرة بذلك هو الشهادتان في القبر عند المسألة (1)، وأنه بعد شهادتهما (2) يُبَشَّرُ، ويرى مقعده من الجنة، ولا يُمتَحَنُ بالسؤال عن غيرهما في جميع الأخبار المتفق على صحتها.

ويشهد لمعنى ذلك شواهدُ كثيرةٌ، منها قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهمْ (3)} [الأعراف: 172].

وقوله تعالى: {وألزمهم كلمة التقوى} [الفتح: 26]، ونحو ذلك، وفي " الصحيحين " من حديث خيثمة بن عبد الرحمن (4)، عن عدي بن حاتم، عن النبي صلى الله عليه وسلم:" اتقوا النار ولو بِشِقِّ تمرةٍ، فمن لم يجد فبكلمةٍ طيبة "(5).

ويعضده قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً} الآية [إبراهيم: 26].

ويدل على ذلك حديثُ عمر في تفسير الإحسان، فإنه جعله من قبيلِ الفِتَنِ.

وأصرحُ منه حديث ابن مسعودٍ، وحديث أبي هريرة متفقٌ عليهما.

أمَّا حديث ابن مسعود (6) عنه صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: "من أحسن في الإسلام، لم

(1) أخرجه من حديث البراء البخاري (1369)، ومسلم (2871)، وأبو داود (4750)، والترمذي (3120)، والنسائي 6/ 101، وابن ماجه (4269).

(2)

في (ف): " شهادته بهما ".

(3)

هي قراءة نافع وابن عامر وأبي عمرو، وقرأ أهل مكة والكوفة:(ذرِّيتَهم) على الإفراد. انظر " حجة القراءات " ص 301 - 302.

(4)

في الأصول: " عبد العزيز "، وهو خطأ.

(5)

أخرجه البخاري (1413) و (3595)، ومسلم (1016)، وابن حبان (473). وانظر تمام تخريجه فيه.

(6)

أخرجه عبد الرزاق (19686)، وأحمد 1/ 379 و409، والبخاري (6921)، ومسلم (120)، وابن ماجه (4242)، وابن حبان (396)، وانظر تمام تخريجه فيه.

ص: 204

يؤاخذ بما عَمِلَ في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام، أُخِذَ بالأولِ والآخِرِ"، فدلَّ على أن الإساءة في الإسلام هي النِّفاق، أو الرِّدَّة، للإجماع على أن الإسلام يجُبُّ ما قبله، وأن صحيح الإسلام إذا عمل كبيرةً، لم يُعَاقَبْ بالشركِ الذي تاب منه.

وأما حديثُ أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم، ففيه:" إذا أحسن أحدكم إسلامه، فكل حسنةٍ يعملها تُكتب بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعفٍ، وكل سيئةٍ يعملها تُكتب بمثلِها، حتى يلقى الله "(1) فجعله محسناً في إسلامه في كلا حالتيه، مع عمل الحسنات، ومع عمل السيئات.

وقد ذكر الخطابي (2) هذا المعنى - أعني أن الإحسانَ في الإسلام: إخلاصه من النفاق، والأحاديث المتفق على صحتها تدل عليه، وكذلك الآيات المذكورة وغيرها، والحمد لله رب العالمين.

ومن ذلك حديث تفسير الإحسان، رواه مسلم عن عمر، والبخاري عن أبي هريرة (3)، وفي لفظ البخاري في تفسير الإسلام:" أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً "، وفي تفسير الإحسان:" أن تعبد الله كأنك تراه "، فدل على أن العبادة من الإسلام، لا من الإحسان، ألا ترى أن العبادة تقع من المُنافق كسائر أركانِ الإسلام، والإحسان لا يقع منه، لأنه ضدُّ النِّفاق، فلا يجمعان قطعاً. وقوله:" كأنك تراه لا يقتضي حقيقة المُماثَلَةِ " ألا ترى إلى قول الخليل: {ولكن لِيَطمَئِنَّ قلبي} [البقرة: 260]، وقول الحواريين:{وتَطْمَئِنَّ قلوبنا} [المائدة: 113]، وشكاية الصحابة الوسواس، وقوله صلى الله عليه وسلم:" ذلك محضُ الإيمان "(4).

(1) أخرجه البخاري (42)، ومسلم (129)، وأحمد 2/ 317، وابن حبان (228).

(2)

في " معالم السنن " 4/ 321.

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

أخرجه من حديث أبي هريرة أحمد 2/ 397 و441 و456، ومسلم (132)، وأبو داود (5111)، وابن حبان (146) و (148).

وأخرجه من حديث ابن مسعود مسلم (133)، وابن حبان (149).

ص: 205

وروى البخاري: " نحن أحقُّ بالشك من إبراهيم "(1). والتحقيق أنَّ الإحسانَ أعلى وأدنى، كالإيمان أعلى وأدنى، والإسلام والصِّدق، وخرج البخاريُّ في قوله:{وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِين} [الأعراف: 56]. حديث: " إنما يرحم الله من عباده الرُّحماء "(2).

ويمكن أن يُستخرج نحو هذا من قوله تعالى: {ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر} ، إلى قوله:{سَيُدخِلُهُم الله في رحمته} [التوبة: 99]، ثم ذكر السابقين بالرضا عنهم ومنهم، فدل على أن أهل الرحمة -وهم من المحسنين- دون السابقين، ومنهم أهل العفو، لقوله تعالى:{فاعْفُ عنهم واصْفَحْ إن الله يُحبُّ المحسنين} في المائدة [13] وهي مدنيةٌ، وقوله:{فادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريبٌ من المحسنين} [الأعراف 56] يدل على أن من دعاه خوفاً وطمعاً، فهو منهم، وإلا لم يكن بين الجملتين مناسبةٌ، وكان بمنزلة أن يقول: إن رحمة الله قريبٌ من الملائكة المطهَّرين، أو الأنبياء والمرسلين.

الآية الثانية: في قوله تعالى في سورة الحديد [19]: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} ، والصِّدِّيقُ: فِعِّيل من الصدق، وهو المُبالِغُ في الصدق، قاله ابن الأثير (3)، وقال في " الضياء ": ومنه " قيل ليوسف: الصِّدِّيق، قال: وقيل: هو كثيرُ التصديق، والقول الأول أولى، لأن فِعِّيلاً من فَعَلَ، مثل سِكِّيت، مِنْ سكت ونحوه، وفيه مبالغةٌ بإدخال الألف واللَاّم على الخبر للحصر، كأنه قال: هم الصِّدِّيقون، لا غيرهم، كما يقول العلماء هم الراسخون، أو هم العاملون (4). ونحو ذلك.

الآية الثالثة: قوله تعالى في الأحزاب [8]: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} ، فجعل الكافرين مقابلين للصادقين.

(1) تقدم تخريجه 1/ 212.

(2)

البخاري (7448). وانظر " صحيح ابن حبان "(3158).

(3)

في " النهاية " 3/ 18.

(4)

في (ش): " العالمون ".

ص: 206

الآية الرابعة: قوله: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِم} [الأحزاب: 24]، ففي ذكر المنافقين عقيب الصادقين دِلالةٌ على أنهم الصادقون في الإيمان؛ لأنه واطأ ما في قلوبهم ما نطقوا به، بخلاف المنافقين الذين قالوا ذلك كذباً، قال الله تعالى في أولِ سورة المنافقين [1]:{قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُون} فكما أنهم كذبوا لعدم مطابقة قلوبهم لألسنتهم، فمن حصلت معه المطابقة، وجب أن يكون صادقاً، ولا خلاف في أنه صادقٌ في اللغة، ولا خلاف أن القرآن يفسَّر باللغة العربية. ويوضح ذلك.

الآية الخامسة: وهي قوله تعالى في العنكبوت، وهي مدنية (1):{الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ} ، إلى قوله:{وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [1 - 11]، والحجة منها:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِين} ، فظاهرها يقتضي ما ذكرنا، حيث كان المنافقون قد شاركوا المخلصين في قولهم: آمنَّا، بل في الأقوال والأفعال الظاهرة، أو في كثيرٍ منها، فالفتنة كالمحنة، كما في قوله:

(1) انظر الطبري 20/ 127، و" الإتقان " للسيوطي 1/ 13 و14 و21 و23، وسورة العنكبوت مكية باتفاقهم إلَاّ أن بعضهم استثنى هذه الآية. قال ابن جرير 20/ 129: حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن مطر، عن الشعبي، قال: إنها نزلت، يعني:{الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} الآيتين في أناس كانوا بمكة أقروا بالإسلام، فكتب إليهم أصحاب محمد نبي الله صلى الله عليه وسلم من المدينة: إنه لا يُقبل منكم إقرار بالإسلام حتى تهاجروا فخرجوا عامدين إلى المدينة، فاتبعهم المشركون، فردّوهم، فنزلت فيهم هذه الآية، فكتبوا إليهم: إنه قد نزلت فيكم آية كذا وكذا، فقالوا: نخرج، فإن اتبعنا أحد، قاتلناه، قال: فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم ثم، فمنهم من قتل، ومنهم من نجا، فأنزل الله فيهم:{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 110].

وأورده السيوطي في " الدر المنثور " 6/ 449، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.

ص: 207

{فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10]، كما يأتي.

والذي يوضح هذا -مع ظهوره- لغةٌ قوله تعالى في هذه السورة بعد هذه الآية بقليل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت: 10 - 11]. فأبدل الذين آمنوا من الذين صدقوا، وأبدل المنافقين من الكاذبين.

وكذلك قوله تعالى في سورة براءة [42 - 43]: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} ، وكذا قوله:{فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُون} [التوبة: 77]، وقوله في الثلاثة المخلَّفين:{اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} [التوبة: 119]، كله لم يتأوَّل (1) فيه الصدق والكذب بغير معناهما السابق إلى الفهم.

الآية السادسة: قوله تعالى: {يوم ينفعُ الصادقين صِدْقُهُم} [المائدة: 119]، وحقيقة الصدق في القول، وقد يكون في الفعل على جهة التَّجوُّز، كما أوضحه الزمخشري في " أساس البلاغة "(2)، فقال في حرف الصَّاد مع الدال المهملة: صدقته الحديث [في مَثَلٍ]: وصَدَقني سِنَّ وسِنُّ بَكْرِه (3)، وصادقه ولم يُكاذبه، وتصادقا ولم يتكاذبا، وصدقه فيما قال، وقوله مصدَّقٌ، ورجلٌ صدوقٌ من قومٍ صُدُقٍ، ورجل صِدِّيق، وعنده مصداق ذلك، وهو ما يُصدِّقُه من الدليل. إلى قوله: ومن المجاز رجلٌ صادقُ المحملة، وذو مَصْدَقٍ في القتال،

(1) في (د) و (ف): " يتناول ".

(2)

ص 351.

(3)

انظر " فصل المقال " ص 41، و" مجمع الأمثال " ص 392، و" المستقصى في الأمثال " 2/ 140.

ص: 208

وفرس ذو مصدق في الجري، وعند بني فلان مصادق، وصدقوهم القتال، قال جرير:

أولئك خيرٌ مَصْدَقاً من مُجاشعٍ

إذا الخيل جالَت في القَنَا المتكسِّرِ

وقال زهير:

حتى تجلَّت مصاديقُ الصباح له

وبات منحسرَ المَتنْيَنِ طيَّانا

جمع مصداق. ونجم صادق: لم يُخلف، قال زهير:

في عانَةٍ بَذَلَ العِهاد لها

وسَمِيَّ غَيْثٍ صادِقِ النجم

وصادقته المودة والنصيحة، وهو رجلٌ صِدْقٌ، وهم قومٌ صِدْقٌ، وله قدمُ صِدْقٍ، وكذلك كل ما كان رضاً، وفلان صَدْقٌ، وصدق المعاجم، وفلانة امرأة صدقة. انتهى من نسخة معتمدة في الصحة.

فهذا مع تصدير الآية بالإيمان الذي بمعنى التصديق لقوله: {ومنهم من يقول آمنا بالله} ودلالته بذكره علم ما في الصدور على أن مراده بالصدق في الإيمان مطابقة الضمير للقول.

الآية السابعة: قوله تعالى: {والصادقين والصادقات} [الأحزاب: 35]، وقد تقدم في الآية الثانية أن النص في القرآن أن المؤمنين بالله ورسله صدِّيقون، وما فيه من المبالغة من جهة التركيب، ومن جهة قَصْرِ ذلك عليهم، فكيف لا يتناولهم وعد الصادقين، وسوف يأتي تقريره عند الكلام على أن الخصلة الواحدة من هذه الخِصال نافعةٌ، كآيات الوعيد عند الخصم، فإن الخَصْلة الواحدة فيها ضارَّةٌ عنده.

يوضحه ما تكرَّر في كتاب الله من قِسْمةِ الناس إلى مؤمنين وكافرين ومنافقين، ومقابلة الكافرين والمنافقين بالمؤمنين في غير آية، كقوله بعد ذكر

ص: 209

الأمانة وعرضها على السماوات والأرض والجبال: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمً} [الأحزاب: 73].

وفي سورة الفتح بعد أن قال المسلمون: هنيئاً لك يا رسول الله، هذا لك، فما لنا؟ فنزل قوله تعالى:{لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} [الفتح: 5 - 6](1)، وقوله:{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب: 47 - 48] وغير ذلك.

الآية الثامنة: قوله تعالى في العنكبوت [7]: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُون} ، فهذه الآية مثل آية الزمر [35]:{لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} في الدلالة على أن (2) الجزاء بالعمل كله خيره وشره يخصُّ الكافرين في عشر آياتٍ تطابقت في الدلالة على ذلك وأنا أسوقُها متواليةً بعد هذه الآية إن شاء الله تعالى بل قد تقدم الدليل على أن الله تعالى قد يقدم جزاء الكافرين، وجزاء من لم يعف عنه من المؤمنين ممن أراد التخفيف عنه، وأخذه بالتخويف، كما قال سبحانه وتعالى.

الآية التاسعة: قوله تعالى في الأحقاف [16]: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُون} .

وروى الحاكم في تفسيرها حديثاًً حسناً في كتاب التوبة، عن الغِطريف،

(1) أخرجه من حديث أنس البخاري (4172) و (4834)، ومسلم (1786)، والترمذي (3263).

(2)

" أن " ساقطة من (ش).

ص: 210

عن أبي الشَّعثاء، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أن الله قضى أن يُؤتى بحسنات العبد وسيئاته، ويقص بعضها ببعض، فإن بقيت حسنةٌ، وسَّعَ الله له في الجنة ما شاء، وإن لم يبق له شيءٌ، فأولئك الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا، ويتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يُوعدون ".

ورواه قبل ذا بنحوه من طريق الحكم بن أبان، عن الغِطريف، عن جابر بن زيدٍ، عن ابن عباس، وقال حديثٌ صحيح (1).

ويشهد له من كتاب الله تعالى قوله عز وجل: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُون} [المؤمنون: 103 - 105]، فدل على أن الذين خفَّت موازينهم أهل التكذيب بآيات الله، كما دلَّ على ذلك حديث البطاقة وأمثاله مما تقدم بعضه، ويأتي بعضه الآخر، وآخر الآية أوضح في الدلالة على ما ذكرت، لأن الكفار لما قالوا:{رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون: 107] قال في جوابهم: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} [المؤمنون: 109 - 110]، فتأمل كيف عظم هذا القول، وأهله لمطابقة ما في قلوبهم من الإيمان وجازى أعداءهم الكافرين انتقاماً لهم.

الآية العاشرة: في التوبة -وهي مدنية- وهي من قوله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَاب} ، إلى قوله:{لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: 120 - 121].

الآية الحادية عشرة: في النحل [96] قوله تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون} [النحل: 96].

(1) تقدم تخريجه ص 77 من هذا الجزء.

ص: 211

الآية الثانية عشرة عقيبها قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]. وفيها زيادةُ الوعد بالحياة الطيبة في الدنيا أيضاً.

الآية الثالثة عشرة: قوله تعالى في " النور " -وهي مدنيةٌ-: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ} ، إلى قوله:{لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 36 - 38].

الآية الرابعة عشرة: في الفتح -مدنيةٌ متأخِّرة- قوله: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} [الفتح: 5]، وعن أنسٍ أنها لما نزلت:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1]، قال المسلمون: هنيئاً مريئاً، فما لنا؟ فنزلت: رواه البخاري ومسلمٌ والترمذي، وقال: حسنٌ صحيحٌ (1)، واللفظ للبخاري، وكان ذلك مرجِعَهُم من الحُديبية سنة ستٍّ في ذي القعدة.

الآية الخامسة عشرة: قوله تعالى في الصافات [39 - 42]: {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُون} وهذا من أصرح الآيات وأحنسها، والآية تُقرأُ في السبع (2) بالكسر والفتح (3)، والحجة في القراءة بالكسر، لأن الإخلاص هو تركُ الرياء، كذا نصَّ عليه الجوهري في " صحاحه "(4)، وهو نظير الإحسان من أعمال القلوب، فمن أخلص في توحيد الله وعبادته، فقد دخل في هذه البشرى الصادقة.

(1) تقدم قريباً ص 209.

(2)

في (ش): " بالسبع ".

(3)

انظر " حجة القراءات " ص 358 - 359.

(4)

3/ 1037.

ص: 212

الآية السادسة عشرة: قوله تعالى: {كل نفسٍ بما كَسَبَتْ رهينةٌ إلا أصحاب اليمين} [المدثر: 38] وهي مثل التي قبلها، والقرآن يفسِّرُ بعضه بعضاً، وهذه في المُدَّثِّر، وفي الطور [21]:{كلُّ امرىءٍ بما كسب رَهِينٌ} من غير استثناءٍ، وذلك دليلٌ على ما قدمنا من اعتبار تقديم الخاصِّ على العام في القرآن، لما فيه من الجمع بينهما.

وأما تفسير أصحاب اليمين بأنهم أطفال المسلمين، فضعيف، لأنه من رواية عليِّ بن قادمٍ، عن الثوري، عن الأعمش، عن عمران القطَّان (1)، عن زاذان، عن عليٍّ عليه الكلام موقوفاً. وقد جمع بين الضعف والإعلال، ومخالفة القرآن. ومخالفة الخصوم.

أمَّا الضعف، فلأنَّ علي بن قادمٍ مُضَعَّفٌ تضعيفاً لم يعارضه توثيق، ضعَّفه ابن سعدٍ وابن معين، وتضعيف ابن معين شديدٌ، لأنه نفى للتوثيق كما ثبت عنه في علوم الحديث، فالضعيف عنده لا يكتب حديثه، ولا يعتبر به في الشواهد، ولم يوثق، لكن قال أبو حاتم وحده: محله الصدق، وهي عبارة تضعيف عندهم، يعني أن غلطه من قبل سوء حفظه، لا من قبيل تعمُّد الوضع. تفرد به الحاكم (2)، ولم يذكره أحد من أهل الكتب الستة، ولا من أهل المسانيد،

(1) كذا في الأصول و" المستدرك "، وهو خطأ، صوابه:" عثمان أبي اليقظان ".

(2)

2/ 507، وصححه، ووافقه الذهبي!، ورواه أيضاً ابن أبي شيبة 13/ 285، والطبري في " جامع البيان " 29/ 165 من طريقين عن سفيان الثوري، عن عثمان أبي اليقظان، عن زاذان.

ورواه الطبري من طريق وكيع عن سفيان، عن أبي اليقظان، ولم يذكر الأعمش.

قلت: وأبو اليقظان ضعيف، وكان يغلو في التشيع.

وأورده السيوطي في " الدر المنثور " 8/ 336، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

ص: 213

ولا هو في " مجمع الزوائد "، وهو مما انتُقد على الحاكم رحمه الله.

وأما الإعلالُ، فلأنه روى هذا التفسير الغريب عنهم، عن أئمة مشاهير، علمهم محفوظٌ متداولٌ في أقلَّ من هذا، فمن جاء بالغريب عنهم من الضُّعفاء، لم يُلتَفت إلى ما جاء به.

وأما مخالفته لكتاب الله تعالى، فلأنه قد تكرَّر فيه ذكر أصحاب اليمين، وظهر أن المراد بهم طائفةٌ من المكلَّفين دون المقرَّبين، كما جاء في سورة " الواقعة "، بل في هذه الآية نفسها ما يدل على ذلك، حيث قال:{إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر} [المدثر: 39 - 42]، والأطفال لا يختصون دون المكلفين بمثل ذلك، بل أهل التكليف الذين عادوهم في الدنيا هم أهل الاختصاص بذلك كما قال تعالى في الصافات [51 - 57]:{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} ، إلى قوله:{فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِين} ، وفي قوله:{وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي} ردٌّ واضحٌ على من يقول: إن الجنة لا تُنال بالرحمة والتفضل كما سيأتي بيانه.

وقد سمى الله تعالى أصحاب اليمين بأسماء، حيث قسم أهل الجنة إلى قسمين، وإلى ثلاثة، كقوله تعالى:{فمنهم ظالمٌ لنفسه ومنهم مُقتصدٌ ومنهم سابقٌ بالخيرات} [فاطر: 32]، ولم يجعل الأطفال قسماً من أقسامهم في شيءٍ من الآيات، لأنهم في منزلة الحور العين (1)، ومن تشبيه الله تعالى لفضول الجنة وأهلها في العرف السابق هم أهل الجنة (2).

وأما مخالفته لمذهب الخصوم وكثيرٍ من أهل السنة، فلأنه خصَّ أطفال المسلمين دون أطفال المشركين، وقد خرَّج البخاري في حديث سمرة أن النبي

(1) في (د) و (ف): " بمنزلة حور العين ".

(2)

في (د) و (ف): " أهل التكليف ".

ص: 214

- صلى الله عليه وسلم أُري إبراهيم الخليل في الجنة وعنده أطفال الناس (1)، فقالوا: يا رسول الله وأطفال المشركين؟ قال: " وأطفال المشركين "(2). وسيأتي ذكر مذهب أهلِ السنة في ذلك وبراءتهم مما يرميهم بعض أهل المقالات من القول بأنهم يُعذبون بذنوب آبائهم، تعالى الله عن ذلك علوَّاً كبيراً.

الآية السابعة عشرة: قوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُور} [سبأ: 17]، وقريبٌ منها قوله تعالى:{كذلك نَجْزي كل كفورٍ} [فاطر: 36]، لكن الأولى أصرح في نفي المُجازاة بالذنوب عن غير الكافرين، وهذا يختص بالآخرة، لما ورد من الأحاديث الكثيرة بالجزاء في الدنيا للمؤمنين على سيئاتهم بما يلقَوْنَ من الآلام وأنواع البلاوي، فنسأل الله العافية في الدارين، والإعانة على ترك الذنوب، فإن تركها أيسرُ مشقَّةً من عقوباتها، وهذه الآية هي العاشرة من هذا النوع المقدم ذكره، ومن عُذِّبَ في الآخرة حتى يُشْفَعَ له، فيحتمل أنه ما جُوزِيَ بجميع ما يستحقه، لأنه لو جوزي، لكان خالداً أو معذباً عذاباً أطول من ذلك بمُدَدٍ متطاولةٍ، ويحتمل أن الذين لا يُجْزَوْنَ بسيئاتهم هم الذين لم يكن في نفسهم من التوحيد نقصانٌ، كما أشارت إليه الأحاديث، وقد تقدم في الجمع بين الأخبار المختلفة في أول المسألة.

الآية الثامنة عشرة: في التغابن -مدنية- {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} [التغابن: 9]، وقوله:{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11]، فقوله:{ويعمل صالحاً} لا يعم كقوله: {الصالحات} ، فإنه نَكِرَةٌ مثبتةٌ، كقولك: رأيتُ رجلاً، فإنه لا يفيد العموم، بخلاف النفي، كقولك: ما رأيتُ رجلاً، فإنه يفيد. ويوضحه قوله:{يكفر عنه سيئاته} .

الآية التاسعة عشرة: فيه أيضاً قوله تعالى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن: 17]، وهي من أحسن

(1)" الناس " ساقطة من (ف).

(2)

تقدم تخريجه.

ص: 215

الآيات في الحث على الصدقة، ونظيرها قوله بعد ذكر الصدقة:{الشيطان يعدُكُم الفقر} [البقره: 268]، قال الواحدي: يعني بسبب الصدقة: {ويأمرُكم بالفحشاء} قال الواحدى: يريد البخل، {والله يعِدُكُم} في الصدقة {مغفرةً منه} في الآخرة:{وفضلاً} في الدنيا، {والله واسعٌ عليمٌ} .

وأول هذه الآية يدلُّ على تفسير الواحدي، وآية التغابن في ذلك صريحة، غير محتاجة إلى تفسيرٍ، ولله الحمد.

الآية الموفية عشرين: قوله تعالى في النجم -وهي مكية-: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم: 31 - 32]، وهي من جنس ما تقدم، لأنه وعد الذين أساؤوا بالجزاء بما عملوا من خيرٍ وشرٍّ، وإن كان شرُّهم محبِطاً لخيرهم، وأما الذين أحسنوا (1)، فلم يعدهم أن يجزيهم إلا بالحسنى، لا بكل عملٍ من خيرٍ وشرٍّ، لأن سيئاتهم مكفَّرةٌ، أو مغفورةٌ، ولا يتصور أنه لا سيئة لهم، وآدم يقول:{وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، ونوح يقول:{وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47]، ونحو ذلك مما يطول شرحه.

وأما اللَّمَمُ، فقد ثبت في اللغة أن اللمم: القليل، وقال الزمخشري في " الكشاف " (2) اللمم: ما قلَّ وصَغُرَ، وهو يُخالف مذهبهم في مغفرة الصغائر، وإن كثرت. ثم ذكر الشواهد على ذلك، فلم يأت بشاهدٍ واحدٍ على الصِّغر، وإنما هي كلها في القِلَّةِ، فمنها قول الشاعر:

لقاءُ أخِلَاّءِ الصَّفاء لِمَامُ

وكلُّ وصالِ الغَانياتِ ذِمامُ

ومنها: اللمم: القليل من الجنون، ومن ذلك ألمَّ بالطعام: إذا أخذ منه

(1) في (ف): " آمنوا ".

(2)

4/ 32.

ص: 216

أخذاً قليلاً، لكن في " فقه اللغة " للثعالبي (1)، و" ضياء الحلوم " لمحمد بن نشوان: أنه الصغائر، فإن ثبت على ذلك شاهدٌ لغوي، كان يُطلق على الجنسين: القليل والصغير، وفي " القاموس "، و" أساس البلاغة "(2)، ولا شك أن الصغائر قد خرجت من مفهوم الآية، والظاهر في الاستثناء الاتصال، فهذا (3) ما تقتضيه اللغة.

وأما الآثار، فأصح ما رُوِيَ في ذلك: حديث مجاهدٍ، عن ابن عباس ":" أنه الذي يُلِمُّ بالذنب ثم يدعُه " رواه الحاكم في كتاب الإيمان من " المستدرك "(4) وهو صحيح.

ويقاربه في المعنى ما رواه البزار في " مسنده "(5)، عن ابن عباس (6) أنه قال: هو اللَّمَّةُ من الزِّنى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

إن تغفر اللهم تغفر جمّاً

وأيُّ عبدٍ لك لا ألمَّا

قال الهيثمي (7): رجاله رجال الصحيح.

وفي " الصحيحين " من حديث عائشة في حديث الإفك الطويل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: " وإن كنتِ ألممتِ بذنبٍ فاستغفري الله "(8).

وفي " النهاية "(9) أنه بمعنى قاربت، وليس بشيءٍ لوروده على سبب الإفك العظيم، والعموم نصّ في سببه، لكنه يدلُّ على تسمية قليل الكبائر لَمَمَاً.

(1) ص 23.

(2)

بياض في الأصول.

(3)

" فهذا " ساقطة من (ش).

(4)

1/ 55.

(5)

برقم (2262)، ورواه أيضاً الحاكم 1/ 54 و2/ 469 و4/ 245، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.

(6)

في (ش): " عن عائشة، عن ابن عباس "، وهو خطأ.

(7)

في " المجمع " 7/ 115.

(8)

تقدم تخريجه.

(9)

4/ 272.

ص: 217

ومنه حديث عمر في تسمية الوطء بذلك: " ما بالُ رجالٍ يطؤون ولائدهم ثم يعتزلونهن لا تأتينِّي وليدةٌ يعترف سيِّدُها أنه قد ألمَّ بها، إلَاّ ألحقتُه ولدها ". رواه الشافعي (1) عن مالكٍ، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن عمر.

وإنما سماه إلماماً لما كان قليلاً، إذ كان الأكثر معهم نكاح الحرائر، ولذلك جاءت الأحاديث بأن كثرة السَّراري من أمارات الساعة، حيث قال:" وأن تَلِدَ الأمَةُ رَبَّتَها "(2).

وفي كتب الغريب والآثار غير ما ذكرته مما لم يصح، فتركته هنا اختصاراً، وقد بسطتُ ذلك في غير هذا الموضع.

الآية الحادية والعشرون: قوله تعالى في سورة القتال [2]: {كَفَّرَ عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم} .

الآية الثانية والعشرون: في المائدة، وهي مدنية، ليس فيها منسوخٌ: قوله تعالى: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [المائدة: 12].

الآية الثالثة والعشرون: قوله في المائدة [45]{فمن تَصَدَّقَ به فهو كفارةٌ له} بعد قوله: {والجروح قِصَاصٌ} ، وهي فضيلةٌ عظيمةٌ تحثُّ على العفو.

وقال أحمد في " المسند ": حدثنا يحيى بن سعيدٍ القطان، عن مجالدٍ، عن عامرٍ، عن المحرَّر بن أبي هريرة، عن رجُلٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من أصِيبَ بشيءٍ في جسده، فتركه لله، كان كفارة له "(3).

(1) في " مسنده " 2/ 30 - 31.

(2)

قطعة من حديث جبريل الطويل، وقد تقدم تخريجه.

(3)

تقدم تخريجه 8/ 400، وهو حديث ضعيف.

ص: 218

وعن أبي الدرداء مرفوعاً نحوه، رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، كلاهما في الديات عن أبي السَّفَر عنه (1).

وهذا مناسبٌ لهذه الآية الكريمة، وكفى بها شاهدة على تكفير الحسنات للسيئات، كما قال تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِين} [هود: 114]، ومنه في الكفار {أولئك لهم سوء الحساب} [الرعد: 18]، وهي في " الرعد ".

فهذه قدر ست عشرة آية مع ما في معناها، كالغفور الشكور، ومع ما معها من الأخبار مما يدل على ذلك، والحمد لله رب العالمين.

وأما ما ورد في ذلك من السنة، ففي فضائل الإسلام والأذكار من " جامع الأصول " و" مجمع الزوائد "، وأوائل " سلاح المؤمن "، وهذه أبوابٌ من ذلك، أو في الباب عن أنس (خ م ن)، وأبي سعيد (م د س)، وعبادة (م ت)، وأبي ذر (م هـ)، وابن عمر (ك)، وابن مسعود (ك)، كلها في " سلاح المؤمن "، وفيه عن أم هانىء (ك).

وفي " جامع الأصول "(2) لابن الأثير عن عبادة بن الصامت (خ م ت)، وأنس (ت)، والخدري (ت)، والخدري (د)، وأبي هريرة (م)، ومعاذ (خ م)، والخدري (د)، وأبي ذر (خ م ت)، وابن مسعود (خ م ت)، وعِتبان (3) بن مالك (خ م)، وأبي هريرة (خ).

هذا مع موضع واحد، ويأتي مفرَّقاً، ومن أحبَّ أن يعلم (4) تواتُرَ ذلك مِنْ غير تقليدٍ، تتبَّعه في مسند كل صحابيٍّ في كتب المسانيد. وكنت شرعتُ في جمع ذلك، فوجدته مطولاً جداً ويملُّ ويزيد على التواتر.

(1) رواه أحمد 6/ 448، والترمذي (1393)، وابن ماجه (2693)، وقال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه، ولا أعرف لأبي السفر سماعاً من أبي الدرداء.

(2)

9/ 355 - 369، وهذه الأحاديث تقدمت غير مرة.

(3)

تحرف في (ف) إلى " غسان ".

(4)

في (ف)" يعرف ".

ص: 219