الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب المحاربين ذكر التوبة، فما مثله بمؤتمن على التَّفرُّد، ومخالفة غيره في هذا.
وهذا على أن الحديث -على تسليم صحته- مخالفٌ لمذهب الخصوم حيث قَيَّدَ نفيَ الإيمان بحال مُباشَرَةِ العصيان، وصرح الحاكم والترمذي وأبو داود برفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه الترمذي عن محمد بن علي الباقر، وأكثر سادات العترة عليهم السلام كما مضى بيانه، ولو أراد نفي الإيمان مُطلقاً، ولم يقيِّدْهُ، ولا أطلقه كما أطلق الله لعنَهُ على اليهود حيث قال:{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [المائدة: 43].
فصل
في الفرق بين الإيمان والإسلام والإحسان
وبيان أن الإيمانَ سريرةٌ، والإسلام علانيةً، كما رواه أحمد في " مسنده "(1) من حديث أنس مرفوعاً، عن النبي صلى الله عليه وسلم وأن المكلفين كافرٌ ومؤمنٌ، كما قال الله تعالى:{هو الذي خلقكم فمنكم كافرٌ ومنكم مؤمنٌ} [التغابن: 2]، وبيان ما عضد ما قدمنا من القرآن الكريم، وفسَّره وبيَّنه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما بيَّن الصلاة والزكاة والصيام والحج وسائر شرائع الإسلام، فلم تزل السنن النبوية تأتي بزيادة البيان وتخصيص العموم، وتفسير المُجْمَل، وعلى ذلك علماء الإسلام الصحابة، والتابعون، ثم سائر القرون، حتى انبعثت (2) فرقةٌ من فِرَقِ المعتزلة، فمنعت السنن الواردة في هذه المسألة بخصُوصها، وادعت أنها قطعيةٌ لا تقبل فيها الآحادُ، وبلغت الأخبار في مخالفتهم مبلغ التواتر المجمع عليه، وزادت (3)
(1) 3/ 135، وأخرجه أيضاً أبو عبيد في " الإيمان " ص 5، والبزار (20)، وابن عدي في " الكامل " 5/ (1850)، وفي سنده علي بن مسعدة، وهو سيىء الحفظ، وضعفه البخاري، والنسائي، وأبو داود، وقال ابن عدي: أحاديثُه غير محفوظة.
(2)
في (د) و (ف): " نبغت "
(3)
في (ف): " وزاد ".
على ذلك، وهم مصرُّون لجهلهم بالأخبار على تسميتها (1) آحاداً.
وهم صادقون من وجهٍ دون وجهٍ، وذلك أنها آحادٌ بالنظر إليهم وإلى أمثالهم من العامة، فإن العالم المبرِّزَ في الكلام جاهلٌ في غير فنِّه، مثلما أن الإمام المحدث الحافظ جاهلٌ بعلم الكلام.
ثم إن هذه الطائفة من المعتزلة مع منعهم من الاحتجاج في هذه المسألة بالآحاد، احتجُّوا بها، وناقضوا، وتارة منعوا من ذلك بغير حجةٍ صحيحةٍ من عقلٍ ولا سمعٍ ولا لُغةٍ ولا أثارةٍ من علمٍ يدل على ما ادَّعُوهُ من كون العموم يفيد القطع فيما طريقه الخبر، ويفيد الظن فيما طريقه الإنشاء، وهو الأمر والنهي، بل العموم ظنيٌّ في الموضعين كما قدمنا الأدلة عليه، وأنه قابلٌ للتخصيص، كما يوافقون على ذلك حيث تكون الحجة لهم كما تقدم.
فانظر الآن بإنصافٍ إلى بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن يُسمَّى (2) مؤمناً ومن يسمى مسلماً، حتى تعلم أنه قد تناولهم جميع ما وعد الله المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات من الرحمة والمغفرة، وتكفير السيئات بالحسنات، والخلود بفضله في الجنات، بعد أن ينتصف لبعضهم من بعض في المظالمات، ويعذِّبَ من يشاء منهم على ارتكاب المُوبقات، حتى يشفع لهم نبيُّهم صاحب المقام المحمود عليه أفضل الصَّلوات.
فمن ذلك إجماع الأمة المعلوم المقطوع به على أن الإسلام الذي يَجُبُّ ما قبله، ويُوجِبُ الموارثة، ويُحِلُّ المناكحة، ونحو ذلك من الأحكام هو (3) ما ذهب (4) إليه (5) أهلُ السنة.
(1) في (ش): " لتسميتها ".
(2)
في (ش): " سمي ".
(3)
في (ف): "وهو".
(4)
كتب فوقها في (ف): " مذهب ".
(5)
" إليه " ساقطة من (ف).
ومن ذلك: {إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19]، مع قوله:{ومَنْ يَرْتَدْ منكم عن دينه} [البقرة: 217]، وأجمعت الأمة على أن الرِّدَّة لا تصح بمجرد الكبيرة حتى تكون كفراً.
ومن ذلك: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُد
…
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين} [الكافرون]، فدل على أن الدين عبادة الله وحده، كما جاء صريحاً في حديث معاذٍ في حق الله على العباد، وحق العباد على الله (1). ويقيِّدُ الدين والإسلام شروط كمالٍ، من تركها استحق العقاب، ولم يكن مرتداً من الإسلام، ومن ذلك ما ذكره ابن الأثير أبو السعادات في " جامع الأصول والأمهات "(2)، فقال رحمه الله: الفصل الأول في تحقيقهما وأركانهما:
عن عبد الله بن عمر، عن أبيه عمر بن الخطاب: بينما نحن جلوسٌ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ طلع علينا رجلٌ شديدُ بياض الثِّياب شديدُ سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفُهُ منَّا أحدٌ، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه (3)، ووضع كفَّيه على فَخِذَيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام. قال صلى الله عليه وسلم:" الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلَاّ الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحُجَّ البيت إن استطعت إليه سبيلاً ". قال: صدقت، فعَجِبْنا له يسأله ويُصَدِّقُه، قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: " أن تُؤْمِنَ بالله، وملائكته، وكتبه، ورُسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره ". قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: " أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك "
…
الحديث إلى قوله: ثم انطلق، فلبث ملياً (4)، ثمَّ
(1) هو في " المسند " 5/ 242، والبخاري (128) و (2856) و (5967) و (6500) و (6267) و (7373)، ومسلم (30)، والترمذي (2643)، وابن ماجه (4296)، وابن حبان (362).
(2)
1/ 207.
(3)
في (ف): " ركبته إلى ركبته ".
(4)
" ملياً " ساقطة من (ف).
قال: " يا عمرُ، أتدري من السائل؟ " قلت: الله ورسوله أعلم. قال: " فإنه جبريل جاءكم يُعلِّمُكم دينكم ".
قال الحميدي: جمع مسلمٌ فيه الرواة، وذكر ما أوردنا من المتن، وأن في بعض الروايات زيادةً ونقصاناً، وأخرجه الترمذي بنحوه، وتقديم بعضه وتأخيره، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وأخرجه أبو داود بنحوه في رواية: " والاغتسال من الجنابة "(1).
وروى البخاري ومسلمٌ معاً حديثاًً ثانياً نحو هذا من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم (2).
وروى أبو داود والنسائي حديثاًً ثالثاً نحو هذا من حديث أبي ذرٍّ وأبي هريرة معاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ما تقدَّم وأتمَّ منه (3).
وأخرجه الهيثمي في " مجمع الزوائد "(4). وقال: رواه أحمد والبزار بنحوه، وفي إسناد أحمد شهر بن حوشب.
قلت: أكثر الأئمة على الاحتجاج به، ومن تكلَّم فيه، فما تكلَّم بحجَّةٍ كما هو مبيَّنٌ في مواضعه، وهذا يدلُّ على أن إسناد البزَّار من طريقٍ أخرى، يقوي طريق أحمد ويشهدُ لها.
وروى أنسٌ حديثاًً خامساً في هذا المعنى، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه البزار (5)
(1) تقدم تخريجه في الجزء الخامس.
(2)
أخرجه البخاري (50) و (4777)، ومسلم (9) و (10)، وابن ماجه (64)، وابن حبان (159)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(3)
أبو داود (4698)، والنسائي 8/ 101.
(4)
1/ 38 - 39، وهو من حديث ابن عباس. أخرجه أحمد 1/ 319، والبزار (24)، وفي إسناد البزار سلام بن أبي الصهباء أبو المنذر. قال البخاري: منكر الحديث. وأورده الحافظ ابن كثير 3/ 463 من رواية أحمد، وقال: غريب، ولم يخرجوه.
(5)
برقم (22)، وقال: غريب من حديث أنس، لا نعلمه فيه إلَاّ بهذا الإسناد، =
من طريق الضحاك بن نبراس، ذكر الهيثميُّ من حديث أنسٍ وحديث ابن عباسٍ في باب ما ورد في القدر، أو في باب ما ورد في الإسلام والإيمان في كتابه " مجمع الزوائد "(1).
وذكر الحافظ المراكشي أن البخاري إنما لم يخرِّج حديث عمر الأول، لاضطراب الرواة فيه، فإن منهم من جعله عن عمر، ومنهم من جعله عن ابنه عبد الله بن عمر.
قلت: هذا لا يضرُّ، لأنهما كلاهما ثقتان، فهذه ستَّةُ أحاديث في معنى لكل واحدٍ منها (2) أو لأكثرها طرقٌ جمَّةٌ، وفي الباب سواها ما يطول ذكره.
من أشهر ذلك: حديث ابن عباسٍ، وفيه أن وفد عبد القيس أتَوُا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:" من الوفد "؟ قالوا: ربيعة. قال: " مرحباً بالوفد غير خزايا ولا ندامى ". قالوا: إنَّا نأتيك من شُقَّةٍ بعيدةٍ، وإنَّ بيننا وبينك هذا الحيَّ من كفار مضر، وإنَّا لا نستطيع أن نأتيك إلَاّ في الشهر الحرام، فمُرنا بأمرٍ فَصْلٍ نُخْبِرُ به من وراءنا، وندخل به الجنة. قال: فأمرهم بأربعٍ، ونهاهم عن أربع، أمرهم بالإيمان بالله وحده. قال:" هل تدرون ما الإيمان؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: " شهادة أن لا إله إلَاّ الله، وأن محمداً رسول الله ". وعَقَدَ بيده واحدةً. لفظ البخاري ومسلم: ثم ذكر بقية الأربع.
وفي لفظ الترمذي: " الإيمان بالله "، ثم فسَّرها:" شهادة أن لا إله إلَاّ الله، وأنِّي رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تُؤدُّوا خُمْسَ ما غَنِمْتُم " وقال: حديث حسن صحيح، ففرَّق بين الإيمان والعمل، ومراده بالإيمان: اعتقاد ذلك كما هو المفهوم في لغة العرب. رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود
= والضحاك بن نبراس ليس به بأس. وقال الهيثمي: رواه البزار، وفيه الضحاك بن نبراس، قال البزار: ليس به بأس، وضعَّفه الجمهور.
(1)
1/ 39 - 40 في كتاب الإيمان.
(2)
في (ش): " منهما ".
والنسائي (1) بألفاظٍ مختلفةٍ، والمعنى متقارب، وفيه: ونهاهم عن أربعٍ: عن الدُّبَّاء، والمُزَفَّت، والحَنْتَم، والنَّقير. وقال شعبة: ربما قال: والمُقَيَّر، وهي آنية تُسرع بالتخمير، وقد نُسِخَ تحريمها وبقي تحريم المسكر.
ومن أشهر الأحاديث في هذا المعنى حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى رجلاً، وترك رجلاً هو أعجبهم إليَّ، فقلت: يا رسول الله: ما لك عن فلانٍ، فوالله إني لأراه مؤمناً؟! قال: أو مسلماً، فسكت قليلاً، ثم غلبني ما أعلم منه، فقلت: مالك عن فلانٍ، فوالله إنِّي لأراه مؤمناً؟! قال: أو مسلماً، ثم غلبني، فعدتُ لمقالتي، وعاد رسول الله لمقالته، ثم قال:" يا سعد، إني لأُعطي الرجل وغيره أحبُّ إليَّ منه، خشية أن يكُبَّهُ الله في النار ". رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي (2).
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم في مناقبِ الحسن عليه السلام: " إن الله يصلح به بين طائفتين من المسلمين ". خرَّجاه عن أبي بكرة (3)، وروته الشيعة والعِترة وأهل الحديث.
وذكر ابن عبد البر في " الاستيعاب "(4): أن رواته من الصحابة اثنا عشر، فهذا مع موافقة الخصم أنهم لا يُسَمَّوْنَ مؤمنين.
وحديث ابن عباسٍ مرفوعاً: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مُؤمِنٌ " وفيه في رواية: " لا يقتل حين يقتل وهو مؤمنٌ "(5).
(1) أخرجه البخاري (53) و (87)، ومسلم (17)، وأبو داود (3692)، والترمذي (2611)، والنسائي 8/ 120، وأحمد 1/ 228 و333 و334، وابن حبان (157) و (172)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(2)
البخاري (27) و (1478)، ومسلم (150)، وأبو داود (4683) - (4685)، والنسائي (8/ 103 - 104).
(3)
تقدم تخريجه 2/ 169.
(4)
1/ 369.
(5)
تقدم تخريجه ص 82 من هذا الجزء.
وفي " الصحيحين ": " سبابُ المؤمن فسوقٌ، وقتاله كفرٌ "(1)، وهو كفرٌ دون كفرٍ بالإجماع، لوجوب القصاص في أغلظه، وهو العمد العدوان.
فهذه الأحاديث الصحيحة المتظاهرة مبيِّنةٌ لما اجتمعت عليه في معناها من الفرق بين الإسلام والإيمان، كما في كتاب الله تعالى، كقوله تعالى:{إنَّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات}
…
الآية [الأحزاب: 35]، وقوله:{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ} الآية [التحريم: 5]، وقوله:{قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14].
وروى النسائي حديث سعدٍ في تفسيرها على تشيعه (2).
وجاءت هذه الفرقة المتأخرة من وعيدية المعتزلة، فأنكرت الفرق بينهما، استدلالاً بأنهما أسماءُ مدحٍ، فلا يطلقان، ولا أحدهما، إلَاّ على العدل المرضيِّ، وهذه حجةٌ داحِضَةٌ، لأن الموحِّد اسمُ مدحٍ، وكذلك المُصلِّي والصائم والمجاهد وغيرُ (3) ذلك.
ومن المعلوم من إجماع المسلمين، بل العقلاء أجمعين أنه يشتَقُّ لكل فاعلٍ اسم من فعله وإن كان ذلك اسم مدحٍ خصوصاً، وقد تواترت به نصوص الكتاب والسنة.
وقد دَلَّتِ النصوص على أن الإسلام: عمل الجوارح التي تحقِنُ الدَّمَ، وقد يصدُرُ هذا عن المنافق والإيمان: التصديق بالقلب لِمَا ظهر باللِّسان، والإحسان: اليقين المستلزم إخلاص الجميع لله عز وجل، وعدم النفاق في ذلك (4) كما فسَّر الإحسان بذلك الخطابي رحمه الله تعالى.
(1) تقدم تخريجه 8/ 24.
(2)
هو الحديث المتقدم في الصفحة السابقة.
(3)
في (ف): "ونحو".
(4)
في (ف): " وذلك ".
وقال النواوي في " شرح مسلم "(1): إنه قول جماعةٍ من المحقِّقين، وإنه صحيحٌ. ذكره في باب " هل يؤاخذ بأفعال الجاهلية، في أواخر كتاب الإيمان، والحمد لله رب العالمين.
ويزيده بياناً في الإحسان أحاديث، منها حديثان صحيحان متفقٌ عليهما.
أحدهما: حديث عبد الله بن مسعودٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أحسن في الإسلام لم، يؤاخِذْه بما عَمِلَ في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام، أُخِذَ بالأول والآخر " رواه البخاري ومسلم، كلاهما من طرق عن منصور، عن أبي وائل، عن ابن مسعود (2).
فقوله: " ومن أساء أُخِذَ بالأول والآخر " يدلُّ على النفاق، فإن المسلم صاحب الكبيرة لا يُؤاخذُ بما تَقَدَّمَ قبل إسلامه بالإجماع والنُّصُوص المعلومة، لأن الإسلام يجُبُّ ما قبله، فدل على أن الإحسان المقابل للنفاق هو الإخلاص.
الحديث الثاني: حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه:" إذا أحسن (3) أحدُكم إسلامه، فكلُّ حسنةٍ بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعفٍ، وكل سيئةٍ يعملها تكتب بمثلها حتَّى يلقى الله عز وجل ". رواه البخاري ومسلم، كلاهما من طرُقٍ عن عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة (4). والحجة فيه واضحةٌ، فإنه جعل المسلم المُحسِنَ صاحب حسناتٍ وسيئاتٍ، وسماه مُحسناً في حاليه كليهما، حال حسناته وحال سيئاته.
(1) 2/ 136.
(2)
أخرجه البخاري (6921)، ومسلم (120)، وأحمد 1/ 409 و429 و439 و462، وابن حبان (396).
(3)
في (ش): " حسن ".
(4)
أخرجه البخاري (42)، ومسلم (129)، وأحمد 2/ 317، وابن حبان (228).
الحديث الثالث: عن أبي سعيدٍ الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أسلم العبد، فحَسُنَ إسلامه، كتب الله له كل حسنةٍ كان أزلفها، وكان بعد ذلك القصاص كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف، والسيئة بمثلها إلَاّ أن يتجاوز الله عنها " أخرجه النسائي، واختصره البخاري تعليقاً عن مالك، ولم يذكر الحسنة (1). ذكره ابن الأثير في " جامع الأصول "(2) في حرف الفاء في أول الباب التاسع في فضائل أعمال وأقوال في الفصل الأول منه.
الحديث الرابع: عن ابن عباس، قال: جلسَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه جبريل، فقال: حدثني ما الإسلام
…
وساق الحديث إلى أن قال: حدثني ما الإحسانُ، قال:" أن تعمل لله كأنَّك تراهُ، فإن كنتَ لا تراهُ، فإنه يراك ". رواه أحمد وهو (433) من مسنده من " جامع ابن الجوزي " وهو حديث حسن من حديث شهر عن ابن عباس (3).
ويشهد لذلك ما رواه مسلمٌ والنسائي وابن ماجه من أهل الكتب الستة، وأحمد من أهل المسانيد من طرقٍ عن الأعمش، عن زيد بن وهبٍ، عن عبد الرحمن بن عبد ربِّ الكعبة، عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر حديثاً طويلاً فيه تخويفٌ عظيمٌ من الفِتَنِ، وفيه:" فمن أحبَّ منكم أن يُزَحْزَحَ عن النار ويدخل الجنة، فليُدْرِكه موته وهو مؤمنٌ بالله واليوم الآخر، وليأْتِ إلى الناس ما يحبُّ أن يُؤتَى إليه ". رواه مسلم في المغازي، والنسائي في البيعة، وابن ماجة في الفتن، وذكر أبو داود بعضه في الفتن (4).
وهذا أمرٌ صحيحٌ يشهد له كتاب الله كما تقدم في قوله تعالى: {والذي
(1) أخرجه النسائي 8/ 105، وعلقه البخاري (41).
(2)
9/ 358.
(3)
تقدم تخريجه ص 264 من هذا الجزء.
(4)
أخرجه أحمد 2/ 161 و191، ومسلم (1844)، والنسائي 7/ 153، وأبو داود (4248)، وابن ماجه (3956).
{جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِين} [الزمر: 33 - 34]، ولم يقدِّم من أعمالهم إلَاّ الصدق والتصديق، ثم قال عَقِبَ ذلك:{لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُون} [الزمر: 35]، وذلك يقتضي أنهم أحسنوا في طاعاتهم وذنوبهم، أما طاعاتهم، فأخلصوها لله تعالى وحده، واتَّبعُوا رِضوانه، وصدَقوا فيها بوعده، وركنوا فيها إلى صِدْقه وحُسْنِ الظن به، وعظيم الرجاء لفضله العظيم، واعترفوا فيها بأن المِنَّة له بهدايتهم، وتوفيقهم، وعدم خذلانهم، وأنه لم يَكِلْهُم إلى أنفسهم طرفة عينٍ، ولو وَكَلَهُم إليها، لما آمنوا، ولا أخلصُوا ولا أحسنوا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث زيد بن ثابتٍ:" وأشهد أنك إن تَكِلْني إلى نفسي، تكلني إلى ضَيْعَةٍ وعورَةٍ، وذنبٍ وخطيئةٍ ".
رواه أحمد والحاكم (1)، وللحاكم (2) في حديثٍ آخر عن ابن مسعودٍ، عنه صلى الله عليه وسلم:" وإن تَكِلْنِي إلى عملي، تقرِّبني من الشَّرِّ، وتباعدني من الخير ".
وأمَّا إحسانهم في ذنوبهم ففي وجوه:
أحدها: أنهم اعترفُوا بها كما قال تعالى: {وآخرون اعترفوا بذنوبهم} [التوبة: 102]، ولم يقولوا كما قال المشركون:{وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها} [الأعراف: 28]، فنزَّهُوا الله تعالى من قبائحهم وفضائحهم، واعترفوا بأن الحُجَّة قد قامت عليهم، وأن الملامة كلها مصروفةٌ بالحجة البالغة إليهم، وأن الله إن عذَّبهم، مستحقٌّ -في عذابه لهم- بالثناء والحمد على ما أقام فيه مِنَ العدل الواضح، وعلى ما له فيه من الحكمة الخَفِيَّة التي صار فيها عذابهم من جملة الفضل الراجح.
وفي بعض تعاليق علم الكلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من نَزَّهَ الله يوم القيامة
(1) تقدم تخريجه في الجزء السادس.
(2)
كذا الأصول، وليس هو عند الحاكم في " مستدركه "، إنما رواه أحمد 1/ 412. وانظر 6/ 297.
من ذنبه، ونسب الذنب إلى نفسه، غفر الله له. والقرآن يشهد لمعناه في حكم الخالطين كما تقدم.
وثانيها: استغفارُهم له سبحانه امتثالاً لأمره، وطمعاً في عظيم فضله، وواسع بِرِّه، حيث قال:{فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [فصلت: 6]، وقال:{ويَغْفِرُ ما دُونَ ذلك لمن يَشاءُ} [النساء: 48].
وثالثها: علمهم بسَعة قُدرته على كلِّ شيءٍ، واختصاصِ محبَّته للخير، وقد عبَّر عن ذلك سبحانه بقوله:{بِيَدِكَ الخيرُ إنك على كل شيءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26] وأمثالها، ولم يقل في آيةٍ قطُّ: بيده الشَّرُّ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ.
وفي " الصحيحين " عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هُريرة أنَّ رجلاً أذنبَ، فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال الله تعالى: أذنب عبدي (1) ذنباً، فعَلِمَ أن له ربَّاً يغفر الذنب، ويأخذ به، قد غفرتُ لعبدي، فعاد، فأذنب، فقال: اللهم اغفر لي، فقال لذلك، حتَّى قال العبد في الرابعة، فقال الله:" أُشهِدُكم أني قد غفرتُ لعبدي، فليعمل ما شاء ". رواه البخارى في التوحيد، ومسلم في التوبة، والنسائي في " عمل اليوم والليلة "، وأحمد في " المسند "، وهو الحادي والستون من مسند أبي هريرة في " الجامع "، والحاكم، وقال: على شرطهما ولم يخرِّجاه، فوهم في ذلك (2).
وروى الحاكم في التوبة من " المستدرك " أ (3) من حديث ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى يقول: من عَلِمَ منكم أني ذُو قُدْرةٍ على مغفرة الذنوب. غفرتُ له ولا أُبالي، ما لم يُشْرِكْ بي شيئاً. قال الحاكم: حديثٌ صحيحٌ، وهو من حديث الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ.
(1)" عبدي " ساقطة من (ف).
(2)
أخرجه أحمد 2/ 296 و405 و492، والبخاري (7507)، ومسلم (2758)، والنسائي في " عمل اليوم والليلة "(419)، والحاكم 4/ 242، وابن حبان (622) و (625).
(3)
4/ 262، وفيه حفص بن عمر العدني، وهو واهٍ، كما قال الذهبي في " مختصره ".
وخرَّج أيضاً في التوبة حديث أبي طوالة، عن أنسٍ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من أذنبَ ذنباً، فعَلِمَ أن له ربَّاً إن شاء أن يغفر له، غفر له، وإن شاء عذبه، كان حقَّاً على الله أن يغفِرَ له ". ذكره عقيب حديث أبي هريرة المقدم، وقال فيه: حديث صحيح الإسناد، ولم يخرِّجاه (1).
وروى الترمذي (2) من حديث أنسٍ، وسمعتُه صلى الله عليه وسلم يقول:" قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني، غفرتُ لك على ما كان فيك، ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بَلَغَتْ ذنوبُكَ عنان السماء، ثم استغفرتني، غفرتُ لك، ولا أبالي، يا ابن آدم، لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتُك بقُرابها مغفرةً ". وقال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلَاّ من هذا الوجه، قال صاحب " سلاح المؤمن " ورواه أبو عوانة في " مسنده " الصحيح من حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه (3).
وخرَّج مسلمٌ والحاكم حديث أبي إدريس الخَوْلانيِّ عن أبي ذرٍّ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن الله تعالى يقول: يا عبادي إنكم الذين تخطئون بالليل والنهار، وأنا الذي أغفر الذنوب ولا أُبالي، فاستغفروني أغفر لكم "(4).
وخرَّج الحاكم عن أنس أن أبا ذرٍّ بال قائماً، وانتضح من بولِه على ساقيه وقدميه إلى قوله: فتوضأ وغسل ساقيه وقدميه: وقال: هذا دواء هذا، ودواء الذنوب أن تستغفر الله عز وجل (5).
(1)" المستدرك " 4/ 242، وأبو نعيم في " الحلية " 8/ 286 - 287 من طريق جابر بن مرزوق الجُدِّي، عن عبد الله بن عبد العزيز العمري، عن أبي طوالة به، وصححه الحاكم كما قال المصنف، وتعقبه الذهبي بقوله: لا والله، ومن جابر حتى يكون حجة؟! بل هو نكرة، وحديثه منكر. وانظر " الميزان " 1/ 378.
(2)
برقم (3540)، وفيه كثير بن فائد، لم يوثقه غير ابن حبان، لكن يشهد له حديث أبي ذر، وقد تقدم تخريجه في الجزء الخامس.
(3)
تقدم تخريجه في الجزء الخامس.
(4)
انظر التعليق السابق.
(5)
تقدم تخريجه ص 149 من هذا الجزء.
وهذا بابٌ واسعٌ، ليس القصد التعرض إلى تقصِّيه، إنما القصد الترغيب في كثرة الاستغفار، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء:" إني رأيتُكُنَّ أكثرَ أهلِ النار، فتصدَّقن وأكثِرْنَ الاستغفار "(1).
ورابعها: خوفُهم له، لعلمهم بقدرته وعدله، وخفيِّ حكمته في ترجيحِ العقوبة على العفو في بعض الأشخاص وبعض الأوقات، وعدم إيمانه لهم، حيث قال:{إنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غيرُ مأمُونٍ} [المعارج: 28]، وأنه لا حُكم للعبد على الرب، وأن الخواتم والسوابق مجهولةٌ، والخوف من أعظم الحسنات، لقوله تعالى:{ذلك لمن خَشِيَ ربه} [البينة: 8]، وسوف يأتي هذا.
وخامسها: رجاؤهم له، لعلمهم بأن رحمته هي السابقة الغالبة الواسعة لكل شيءٍ، التي نصَّ في كتابه أنه كتبها على نفسه، وسوف يأتي هذا مبسوطاً.
وقد قال يحيى بن معاذٍ (2). إن سيئةَ المؤمن مقرونةٌ بحسنتين: الخوف والرجاء، وكل حسنة بعشرِ أمثالها، فصارت سيئةً مقرونةً في الحقيقة بعشرين حسنةٍ.
وسادسها: اغتمامه بذنبه، وحُزْنُهُ لأجله، وقد ورد في غير حديثٍ:" إن المؤمن من سَرَّته حسنتُه وساءته سيِّئَتُه ". رواه البخاري ومسلم (3) عن عمر بن الخطاب في خُطبته، ورواه الحاكم في كتاب الإيمان، عن أبي موسى، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: صحيح على شرطهما. وقد احتجا برواته عن آخرهم.
قال: وله شاهد بهذا اللفظ، ثم رواه من ثلاثِ طرقٍ عن يحيى بن أبي كثيرٍ،
(1) أخرجه من حديث ابن عمر أحمد 2/ 66 - 67، ومسلم (79)، وابن ماجه (4003)، والبيهقي 10/ 148.
(2)
هو أبو زكريا يحيى بن معاذ الرازي، الواعظ. من كبار المشايخ، له كلام جيد، ومواعظ مشهورة. توفي سنة 258. انظر ترجمته في " السير " 13/ 15.
(3)
هذا وهم من المؤلف رحمه الله، فإنه لم يخرجه البخاري ومسلم ولا أحدهما، لكنه حديث صحيح، وقد تقدم تخريجه.
عن زيد بن سلَاّم، عن جدِّه ممطُورٍ، عن أبي أُمامة مرفوعاً (1)، وفي الباب عن ..... (2).
فإن انتهى ذلك إلى الحد الذي يُسمَّى ندماً، جاز أن يدخل في زمرة التَّائبين، لمَا ورد في أحاديث الندم عن ابن مسعودٍ وغيره عنه صلى الله عليه وسلم وسيأتي.
وسابعها: أن المسلم يهُمُّ بالتوبة، وفي الصحاح:" من هَمَّ بحسنةٍ، فلم يعملها، كُتِبَتْ له حسنةً كاملة ". رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس، وروى مسلمٌ والترمذي من حديث أبي هريرة مثله من طُرُقٍ، وهو في " البخاري "" أراد "، والهمُّ أكثرُ الروايات، وفي لفظٍ للترمذي:" يحدِّثُ نفسه "(3)، وهي كرواية الهَمِّ، وليس هو في المعنى العزم، لأن العزمَ حسنةٌ كاملةٌ، خصوصاً إلى التوبة، وقد قال الله تعالى:{وَلَقَدْ هَمَّتْ به وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: 24]، ولم يكن ذلك عزماً، وسيأتي هذا.
فمن ها هنا لم يكن ما ورد به النصوص من تسميته محسناً مما تنكره العقول، وإحسانُ المؤمن المذنب في هذه الأمور هي (4) مقدِّمات التوبة النَّصُوح، وأسبابٌ لتوفيقه لذلك ورحمته واللُّطف به في الدَّارَيْنِ إن شاء الله تعالى، ولا نكارة في الإحسانِ في الإساءة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" إن الله كتب الإحسان على كل شيءٍ، فإذا قتلتم، فأحسنوا القِتْلَةَ " رواه النواوي في " الأربعين "(5) له، فأمرَ
(1) تقدم تخريجه 8/ 133.
(2)
بياض في الأصول، وانظر 8/ 133، التعليق (4).
(3)
حديث ابن عباس أخرجه أحمد 1/ 310، والبخاري (6491)، ومسلم (131)، وابن منده في " الإيمان "(380).
وحديث أبي هريرة أخرجه أحمد 2/ 234 و242 و315 و411، والبخاري (7501)، ومسلم (128) - (130)، وابن حبان (379) - (384).
(4)
في (ف): " وهي ".
(5)
وهو الحديث السابع عشر منها. وأخرجه مسلم (1955)، وأبو داود (2815)، والترمذي (1409)، والنسائي 7/ 227، وابن حبان (5883) و (5884)، وانظر تمام تخريجه فيه.
المسيء إلى الكافر بالقتل أن يُحسِنَ في إساءته إليه، وهذا أولى، لأن العبد إنما ظلم نفسه، فلا يمتنعُ أن يُحسن (1) في إساءته إلى نفسه، على (2) أن الأظهرَ أو المحتمل أن المراد: أنه يُحسن في إيمانه بالله ورسله، وما جاؤوا به، لأن الاحسان ضدُّ النِّفاقِ، لا في جميع أعماله، فلا يلزم تكلُّفُ بيان إحسانه في ذُنوبه، والله سبحانه أعلم.
نوع منه يتضمَّن ذكر الإيمان وحده، وفيه أحاديث:
الحديث الأول: عن معاوية بن الحكم، قال: أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن جاريةً لي كانت ترعى لي غنماً، فجئتُها، وقد فقدت شاةً من الغنم، فسألتُها عنها، فقالت: أكلَها الذئبُ، فأسِفْتُ عليها، وكنتُ من بني آدم، فلطمتُ وجهَهَا (3)، وعليَّ رقبةٌ، أفأعتقها؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أين الله "؟ فقالت: في السماء، فقال:" من أنا "؟ فقالت: أنت رسول الله، فقال:" أعتقها، فإنها مؤمنةٌ ". رواه مسلم واللفظ له، ورواه أبو داود والنسائي، ومالك في " الموطأ " وألفاظهم مختلفة، والمعنى متقاربٌ، وكلهم رووه عن معاوية بن الحكم إلَاّ مالكاً، فقال: عمر بن الحكم في قول أكثر الرواة عنه، وقيل عنه، وهو معدودٌ في أوهام مالكٍ (4).
الحديث الثاني: ما رواه أحمد في " المسند " عن عبد الرَّزاق، عن معمر، عن الزُّهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود: أن رجلاً من الأنصار جاء بأَمَةٍ سوداءَ، فقال: يا رسول الله، عليَّ عِتْقُ رقبةٍ مؤمنةٍ، فإن كنتَ ترى هذه مؤمنةً اعتقتُها، فقال لها:" أتشهدين أن لا إله إلَاّ الله "؟ قالت: نعم يا رسول الله.
(1) في (ش): " يمتنع ".
(2)
في (ف): " مع ".
(3)
قوله: " فلطمت وجهها " ساقط من (ف).
(4)
أخرجه مالك 2/ 776 - 777، وأحمد 5/ 447 و448، ومسلم (537)، وأبو داود (930) و (3282)، والنسائي 3/ 14، وابن حبان (165)، وانظر تمام تخريجه والتعليق عليه فيه. وانظر أيضاً " التمهيد " 22/ 76، وتلخيص الحبير " 3/ 222.
قال: " أتشهدين أني رسولُ الله "؟ قالت: نعم. قال: " أتؤمنين بالبعث بعد الموت " قالت: نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فأعتقها ". ورواه مالك في " الموطأ "(1).
وهذه الرِّواية تدل على استحباب امتحان الكافر عند إسلامه بالإقرار بالبعث، كما هو قول الشافعي (2)، وفيه تنبيهٌ على تفسير الامتحان للنساء في قوله:{فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10]، وفي " البخاري "(3)، عن عائشة أن امتحان النبي صلى الله عليه وسلم لهن كان بالبيعة على ما أمره أن يبايعَهُنَّ عليه في قوله:{فَبَايِعْهُنَّ} الآية، فمن بايعت، فقد امتُحِنَتْ.
وقد امتحنَ الله الخلق في النشأة الأولى بالإقرار بالتوحيد، والإخلاص فيه لا سوى، كما صح ذلك عند أهل السنة، وقد أوضحته في مسألة الأطفال.
وفي " النبلاء "(4) في ترجمة أم كلثوم بنت عقبة أنها لما نزلت: {فامْتَحِنوهُنَّ} كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "آلله ما أخرَجَكُنَّ إلَاّ حبُّ الله ورسوله
(1) 2/ 777، وأخرجه عبد الرزاق (16814)، وعنه أحمد 3/ 451 - 452، وأخرجه البيهقي 10/ 57 من طريق يونس بن يزيد، عن الزهري، وقال: مرسل.
وقال أبو عمر بن عبد البر في " التمهيد " 9/ 114: هذا الحديث، وإن كان ظاهره الانقطاع في رواية مالك، فإنه محمول على الاتصال للقاء عبيد الله جماعة من الصحابة، ورده الزرقاني في " شرح الموطأ " 4/ 85 بقوله: فيه نظر، إذ لو كان كذلك ما وجد مرسل قط!
إذ المرسل: ما رفعه التابعي -وهو من لقي الصحابي-، ومثل هذا لا يخفى على أبي عمر، فلعله أراد لقاء عبيد الله جماعة من الصحابة الذين رووا هذا الحديث.
وأورده الحافظ ابن كثير في " تفسيره " 1/ 547، وقال: هذا إسناد صحيح، وجهالة الصحابي لا تضره.
(2)
هذا قول الحافظ في " تلخيص الحبير " 3/ 223، وسينبه المصنف على ذلك بعد إيراد الأحاديث.
(3)
(2713) و (2733) و (4182) و (4891) و (5288) و (7214).
(4)
2/ 276 - 277.
والإسلام، ما خرجتُنَّ لِزَوْجٍ ولا مالٍ؟ " فإذا قلن ذلك، لم يرجعهُنَّ إلى الكفار. انتهى.
الحديث الثالث: ما رواه أبو داود (1) من حديث عون بن عبد الله بن عُتبة، عن أبي هريرة أن رجلاً أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بجاريةٍ سوداء، فقال: يا رسول الله، إن عليَّ رقبةً مؤمنةً، فقال لها:" أين الله "؟ فأشارت إلى السماء بأصبعها، فقال لها:" من أنا "؟ فأشارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى السماء تعني: أنت رسول الله، فقال:" أعتِقها، فإنها مؤمنةٌ ".
الحديث الرابع: ما رواه أبو أحمد العسال (2) في كتاب " السنة " له من طريق أُسامة بن زيدٍ، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، قال: جاء حاطبٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجاريةٍ، فقال له: يا رسول الله، إنَّ عليَّ رقبةٌ، فهل تجزىءُ هذه عني؟ فقال:" أين رَبُّكِ "؟ فأشارت إلى السماء، فقال:" أعتِقها، فإنها مؤمنةٌ "(3).
الحديث الخامس: ما رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبَّان في " صحيحه " من حديث الشَّريد بن سُوَيْدٍ، فقال: يا رسول الله، إن أُمِّي أوصت أن أعتق عنها رقبةً، وعندي جاريةٌ سوداءُ
…
الحديث، كذا قال ابن حجر (4) في ذكر شواهد ما تقدم، ولم أعرِفْ لفظ أحمد وابن حبان، ولفظ أبي داود
(1) برقم (3284)، وفيه عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي، وقد اختلط. ورواه أيضاً أحمد 3/ 291، وابن خزيمة في " التوحيد " 1/ 284 - 286.
(2)
هو الحافظ محمد بن أحمد بن إبراهيم بن سلمان بن محمد، أبو أحمد العسال الأصبهاني. كان أحد الأئمة في الحديث حفظاً وإتقاناً. توفي سنة 349. انظر ترجمته وذكر مصنفاته في " السير " 16/ 6 - 15.
(3)
أسامة بن زيد ضعيف، ويحيى بن عبد الرحمن لم يسمع من جده حاطب، ورجَّح المصنف (ص 393) كونه مرسلاً.
(4)
في " تلخيص الحبير " 3/ 223.
والنسائي: وعندي جارية سوداء (1) أفأعتقها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ادعُ بها "، فدعوتها. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:" مَنْ ربُّكِ "؟ قالت: الله. قال: " فمن أنا "؟ قالت: رسول الله. قال: " أعتِقْها، فإنها مؤمنةٌ " رواه أبو داود من أئمة أهلِ السنة، والنسائي من أئمة الشيعة (2).
الحديث السادس: ما رواه الطبراني في " معجمه الأوسط " من طريق ابن أبي ليلى، عَنِ المنهال، والحكم عن سعيدٍ، عن ابن عبَّاس أن رجُلاً أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنَّ عليَّ رقبةً، وعندي جاريةٌ سوداءُ أعجميَّةٌ، فذكر الحديث. ذكره ابن حجر في شواهد ما تقدم (3).
الحديث السابع: ما رواه أحمد (4) من حديث أبي هريرة بنحوه.
الحديث الثامن: ما رواه الحاكم في " المستدرك "(5) من طريق عون بن عبد الله بن عُتبة، قال: حدثني أبي، عن جدِّي، وهو خلافُ الحديث الثالث، لأن ذلك عن أبي هريرة، وهذا عن أبيه، عن جدِّه، أشار إليه ابن حجر في الظِّهار من " التلخيص "، ولم يَسُقْ لفظه.
فهذه ثمانيةُ أحاديث إلى السِّتَّةِ المتقدِّمَة، صارت أربعة عشر، دالَّةً على ما دلَّ عليه ما لا يُحصى من الآيات القرآنية التي قدمنا منها الكثير الطَّيِّبَ في الدلالة على أن التصديق بالله ورسله والتوحيد يسمى إيماناً في اللغة، والشريعة
(1)" سوداء " ساقطة من (ش).
(2)
أخرجه أحمد 4/ 222 و388، وأبو داود (3283)، والنسائي 6/ 252، وابن حبان (189).
(3)
وأخرجه البزار (13). ومحمد بن أبي ليلى سيىء الحفظ. وانظر " مجمع الزوائد " 4/ 244.
(4)
انظر الحديث الثالث المتقدم قريباً.
(5)
3/ 258، وسكت عنه هو والذهبي. وأخرجه الطبراني في " الكبير " 17/ (338)، وذكره الهيثمي في " المجمع " 4/ 245، وقال: فيه من لم أعرفهم.
كما قال به عامة أهل العلم من الموافقين والمخالفين والمُعظمين عند الفريقين من الفقهاء الأربعة أئمة الإسلام، ومن لا يُحصى من الصحابة والتابعين، وحسبك أن أكثر الخصوم وأعرفهم بالعربية العلامة الزمخشري اعترف في " كشافه "(1) أن هذا تفسير الرَّقبة المؤمنة في كفارة القتل، بل عزاه إلى عامة أهل العلم.
ويُشبه هذه الأحاديث من بعض الوجوه حديثُ ابن عباس، قال: جاء رجلان يختصمان في شيءٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال للمدِّعي:" أقم البينةَ "، فلم يُقِمْها، فقال للآخر:" احلف " فحلف بالله بالذي لا إله إلَاّ هو ما له عندي شيءٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" بلى، قد فعلت، ولكن غُفِرَ لك بإخلاص قول: لا إله إلَاّ الله ". وفي رواية للحاكم: " شهادة أن لا إله إلَاّ الله كفارة يمينك " وفي رواية أحمد: " فنزل جبريلُ، فقال: إنه كاذبٌ وكفارةُ يمينه معرفة لا اله إلَاّ الله "(2) ذكر ذلك ابن حجر في كتاب " البيِّنات " من " تلخيصه "(3)، وقد رواه أبو داود والنسائي. قال ابن حجر: وأعلَّه ابن حزم بأبي يحيى الراوي عن ابن عباس.
قلت: ذكر الذهبي في ترجمة عطاء بن السائب من " الميزان "(4) توثيق أبي يحيى هذا عن ابن معين، وأبي داود بغير معارضٍ لتوثيقهما على تقدير أنه زيادٌ المكِّيُّ، وهو الذي صحَّح المِزِّيُّ في " أطرافه "(5).
وقيل: هو مِصْدَع، وهو من رجال مسلم والأربعة، ولكن الراوي عنه عطاء بن السائب، ولا يصح من حديثه إلَاّ القديم.
وممن روى القديم من حديثه: سفيان، وهو أحد رواة هذا الحديث عنه، رواه النسائي من طريقه، قال ابن حجر: وأعله أبو حاتم باضطراب عطاء، فإن
(1) 1/ 553.
(2)
تقدم تخريجه 8/ 417.
(3)
4/ 209.
(4)
3/ 73.
(5)
4/ 389.
شعبة رواه عنه بسند (1) آخر، وهو أقدم سماعاً من غيره، ثم رواه من طريق أنسٍ وابن عمر (2).
قلت: حديث ابن عمر خرَّجه أحمد، وهو الثاني والثمانون بعد المئتين من " جامع ابن الجوزي ".
ولحديث ابن عباس هذا شواهد ذكرها الهيثمي في " مجمع الزوائد " أحدها عن ابن عمر، رواه أحمد وأبو يعلى بنحوه، ورجالهما رجال الصحيح، إلَاّ أن حماد بن سلمة قال: لم يسمع هذا ثابتٌ من ابن عمر، بينهما رجل (3).
ومنها عن أنس، رواه البزار وأبو يعلى، ورجالهما رجال الصحيح (3).
ومنها عن ابن الزبير، وحديثه مختصر، ولفظه: أن رجلاً حلف بالله الذي لا إله إلَاّ هو كاذباً، فغفر له. رواه الطبراني برجال الصحيح؛ ذكر ذلك الهيثمي في " الأذكار " من " مجمعه "(4)، في باب ما جاء في فضل لا إله إلَاّ الله، وفيه من
(1) في (ش): " مسنداً ".
(2)
حديث أنس أخرجه البزار (3068)، وأبو يعلى (3368)، وعبد بن حميد (1376)، والعقيلي في " الضعفاء " 1/ 312، وقال البزار: لا نعلم رواه عن ثابت عن أنس إلا الحارث بن عبيد أبو قدامة، وخالفه حماد بن سلمة، فرواه عن ثابت، عن ابن عمر. وقال العقيلي: يروى بإسناد أصلح من هذا. وذكره الهيثمي في " المجمع " 10/ 83، وقال: رواه البزار وأبو يعلى ورجالهما رجال الصحيح. وقال الحافظ ابن حجر في هامش " المجمع ": قلت: فيه الحارث بن عبيد أبو قدامة، وهو كثير المناكير، وهذا منها، وقد ذكر البزار أنه تفرد به.
وحديث ابن عمر أخرجه أحمد 2/ 68 و118 من طريق حماد بن سلمة عن ثابت، عن ابن عمر، وقال حماد في رواية أحمد الأولى: لم يسمع (يعني ثابتاً) هذا من ابن عمر. وذكره الهيثمي في " المجمع " 10/ 83، وقال: رواه أحمد وأبو يعلى، ورجالهما رجال الصحيح، إلا أن حماد بن سلمة قال: لم يسمع ثابت هذا من ابن عمر. بينهما رجل.
(3)
انظر التعليق السابق.
(4)
10/ 83.
هذا القبيل شيءٌ كثيرٌ، فليُنظر فيه.
نوعٌ آخر من ذلك: عن العباس بن عبد المطلب أنه سمع رسول صلى الله عليه وسلم يقول: " ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ رسولاً ".
أخرجه مسلم والترمذي وقال: " وبمحمد نبياً ". وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ (1).
وعن أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" الإيمان سريرة، والإسلام علانية ". رواه أحمد في " المسند "، وقد مرَّ (2).
وعن أنس بن مالك، قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: " ثلاثٌ من كُنَّ فيه، وجد فيهن طعم الإيمان، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبداً لا يحبه إلَاّ لله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يُلقى في النار ". أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي (3).
وفي " جامع المسانيد " في الحديث الموفي عشرين بعد الثمان مئة حديث: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا جعفر بن سليمان، عن أبي طارقٍ، عن الحسن، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من يأخذ منِّي خمس خصالٍ، فيعمل بهن أو يعلِّمُهُنَّ من يعمل بهن "؟ قلت: أنا. قال: فأخذ بيدي، فعدهن فيها، ثم قال:" اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسِنْ إلى جارك تكن مؤمناً، وأحب للناس ما تحبُّ لنفسك تكن مسلماً، ولا تكثر الضحك، فإن كثرة الضحك تُميت القلب "(4).
(1) مسلم (34)، والترمذي (2623)، وأخرجه أيضاً أحمد 1/ 208، وابن حبان (1694).
(2)
تقدم تخريجه ص 261 من هذا الجزء.
(3)
البخاري (16) و (6041)، ومسلم (43)، والترمذي (2624)، والنسائي 8/ 94 و97، وابن ماجه (4033)، وأحمد 3/ 172 و174 و230 و248 و275، وابن حبان (237) و (238).
(4)
أخرجه أحمد 2/ 310، والترمذي (2305). وإسناده ضعيف. أبو طارق: قال عنه =