الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر القراء والعلماء: "وأظن الأخفش سعيد بن مسعدة وضع كتابه في النحو من كتاب الجمل"1.
وما قاله السجستاني يدل على أن الكتاب له مكانة رفيعة، وأنه أثار انتباه العلماء، وأن أثره امتدّ إلى خارج المدينة، لما كان يحويه من أصول النحو ومسائله، وإحسان أبي حاتم الظن بهذا الكتاب شهادة عالية القيمة من عالم مشهور لعالم مغمور.
والكتاب الآخر في اللغة، أشار إليه أبو الطّيّب اللغويِّ - أيضاً - في ترجمته لأبي عبيد القاسم بن سلام (224 هـ) قال:"وأما كتَابه المترجم بالغريب المصنف فإنه اعتمد فيه على كتاب عمله رجل من بني هاشم جمعه بنفسه"2.
والراجح أن هذا الرجل كان من أهل المدينة أو مكة مقر سكنى بني هاشم كما يقول الدكتور هادي عطية3.
وإن ثبت هذا فإنه يدل على اهتمام أهل الحجاز بالتأليف في غريب اللغة، ذلك العلم الذي فتح بابه لهم ابن عباس.
من المسائل النِّحويّة
ضاع الكثير من نحو المدنيين، ولم يصل إلينا منه إلا الشيء اليسير جداً، ومنه ما أشارت إليه بعض المصادر النحوية ك "الكتاب" لسيبويه، و"معاني القرآن" للفراء، و"الارتشاف" لأبي حيان، فمما يسّر الله جمعه:
1-
تابع المنادى:
يُعطى تابع المنادي ما يستحق من الإعراب إذا كان منادى مستقلا، أي
1 طبقات النحويين واللغويين 73، ومراتب النحويين 58 ا، وإنباه الرواة 2/38، 172.
2 مراتب النحويين 148.
3 نشأة الدراسات النحوية واللغوية في اليمن 26.
البناء أو النصب، وذلك في التوكيد والبدل وعطف البيان وعطف النسق المجرد من أل، لأن البدل في نية تكرار العامل، والعطف كالنائب عن العامل، تقول في التوكيد: يا بكر نفسَه، ويا تميمُ كلَّهم، ويا خالدُ أبا الوليد، بنصب التابع؛ لأنه مضاف.
وتقول: يا زيد بشرُ، بالضم للبناء، ويا صالحُ وعليُّ بالضم أيضا1.
وإذا وصف المضاف المنادى بمضاف مثله أو بمفرد فالوجه النصب، قال ابن السراج:"اعلم أن المضاف إذا وصفته بمفرد ومضاف مثله لم يكن نعته إلا نصباً؛ لأنك إن حملته على اللفظ فهو نصب والموضع موضع نصب، فلا يزال ما كان على أصله إلى غيره، وذلك نحو قولك: يا عبدَ الله العاقلَ، ويا غلامنا الطويلَ، والبدل يقوم مقام المبدل منه، تقول: يا أخانا زيد أقبل، فإن لم ترد البدل وأردت البيان، قلت: يا أخانا زيداً أقبل، لأن البيان يجري مجرى النعت"2.
والرفع في قولك: يا أخانا زيدٌ هو قول أهل المدينة فيما حكاه سيبويه عن الخليل في قوله: "قلتَ: أرأيت قول العرب: يا أخانا زيدا أقبل، قال: عطفوه على هذا المنصوب فصار نصباً مثله، وهو الأصل؛ لأنه منصوب في موضع نصب، وقال قوم: يا أخانا زيدٌ.
وقد زعم يونس أن أبا عمرو كان يقوله، وهو قول أهل المدينة، قال: هذا بمنزلة قولنا يا زيد، كما كان قوله يا زيد أخانا بمنزلة يا أخانا، فيحمل وصف المضاف إذا كان مفرداً بمنزلته إذا كان منادى"3.
وما عزاه سيبويه للمدنيين مثال نحوي، وليس قراءة قرآنية حتى يظن أن سيبويه كان يشير إلى قراءةٍ لنافع أو غيره من قراء المدينة.
1 ينظر: الكتاب 3/184، 185، 205، والأصول 1/ 342، 343.
2 الأصول 1/343.
3 الكتاب 2/ 185.
2-
الفصل بين المضاف والمضاف إليه:
لا يجوز الفصل بين المتضايفين عند كثير من النحويين إلا في الشعر، وأجاز بعضهم الفصل بينهما في مواضع منها أن يكون المضاف مصدراً والمضاف إليه فاعله والفاصل مفعول به أو ظرف.
فالأول كقراءة ابن عامر: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} 1.
والثاني كقولك: تَرْكُ يوماً نفسِك وهواها، سعي لها في رداها.
وللمدنيين رأي في هذه المسألة أورده شيخ نحاة الكوفة الفراء في قوله: "وليس قول من قال {مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} 2 ولا {زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} بشيءٍ، وقد فُسّر ذلك.
ونحويوا أهل المدينة ينشدون قوله:
فَزَجَجْتُهَا مُتَمَكِّنا
…
زَجَّ القَلُوصَ أَبي مَزادَة3
قال الفراء: باطل، والصواب:
زَجَّ القَلُوصِ أَبُو مَزادَة "4
وقال الفراء في موضع آخر في توجيه قراءة ابن عامر: "وليس قول من قال: إنما أرادوا مثل قول الشاعر:
فَزَجَجْتُهَا مُتَمَكِّنا
…
زَجَّ القَلُوصَ أَبي مَزادَة
بشيء، وهذا مما كان يقوله نحويوا أهل الحجاز، ولم نجد مثله في العربية"5.
1 سورة الأنعام: الآية 137.
2 سورة إبراهيم: الآية 47.
3 معاني القرآن 2/81.
4 البيت من مجزوء الكامل، وهو بلا نسبة في مجالس ثعلب 125، والخصائص 2/406، والإنصاف 2/427، وشرح المفصل لابن يعيش 3/189، والمقرب 1/54، والخزانة 4/415.
5 معاني القرآن 1/358.
وتدل عبارة الفرّاء "وهذا مما كان يقوله نحويوا أهل الحجاز" على أمور، منها: قِدَم هؤلاء النحاة، وأنهم جماعة، وأنهم يتفقون في المذهب النحويّ.
وذكر ابن يعيش1 أن الأخفش أنشد هذا الشاهد، وقيل: إنه زاده في حواشي الكتاب لسيبويه فأدخله الناسخ في بعض النسخ حتى شرحه الأعلم2، فهل أخذه الأخفش من كتاب أحد هؤلاء المدنيين، وهو عليّ الجمل، كما أخذ عنه: الزيت رطلان بدرهم؟ إن صح ذلك.
وذكر ابن يعيش - أيضاً - أن "ابن كيسان قد نقل عن بعض النحويين أنه يجوز أن نفرق بين المضاف والمضاف إليه إذا جاز أن يسكت عن الأول منهما"3 فمن هؤلاء النحاة، هل هم المدنيون أم الكوفيون؟ ليس في المصادر التي بين أيدينا ما يعين على الإِجابة عن هذا السؤال.
وقد احتج بعض الكوفيين - فيما بعد - بهذا البيت وجعلوه من شواهدهم في جواز الفصل بين المضاف والمضاف إليه، فيما أورده أبو البركات الأنباريّ في مسائل الخلاف4 على الرغم من اعتراض الفراء على هذا الشاهد.
ويبدو أن البغدادي أراد أن ينتصر للبصريين بالطعن في قائل هذا البيت فعزاه "لبعض المدنيين المولدين، فلا يكون فيه حجة"5.
وبالعودة إلى عبارتي الفراء التي قال فيها: "ونحويوا أهل المدينة ينشدون
…
"، و"وهذا مما كان يقوله نحويوا أهل الحجاز" يتبين - كما أسلفنا - قدم هؤلاء النحاة، وإجماعهم على هذا الشاهد، وشهرته عندهم، ويمكن أن يستنبط من عبارة الفراء "وهذا مما كان يقوله.." التي قالها في أواخر القرن
1 ينظر: شرح المفصل 3/22.
2 ينظر: تحصيل عين الذهب 145، والخزانة 4/416.
3 شرح المفصل 3/23.
4 ينظر: الإِنصاف 2/427.
5 الخزانة 4/415.
الثاني - كما نعلم - أن هؤلاء النحاة كانوا يقولون ذلك منذ زمن مضى نقدره بنحو خمسين سنة أو يزيد، وهو ما يوافق زمن الفصاحة الذي حدد بمنتصف القرن الثاني في الحواضر ونهاية القرن الرابع في البوادي، فهل يجوز للبغدادي أن يطعن في حُجِّيّة البيت؟.
ويقوي مذهب المدنيين قراءة ابن عامر في آية المائدة المتقدمة، وهي قراءة سبعية متواترة، لا يجوز الطعن فيها، وقد قرأ بعض السلف {مُخْلِفَ وَعْدَه رُسُلِه} 1، بالإِضافة إلى جملة من الشواهد الشعرية2.
ولورود ذلك في القرآن اقترح الدكتور مكي الأنصاريّ أن تعدل القاعدة التي ذكرها البصريون، فقال: يجوز الفصل بين المتضايفين في النثر بالمفعول به3.
وهذا دليل على سلامة ما ذهب إليه نحاة المدينة في هذه المسألة.
3-
ضمير الفصل:
قد يقع الضمير المنفصل المرفوع بين المبتدأ والخبر أو ما في حكمهما من النواسخ إذا كانا معرفتين أو مقاربين للمعرفة4، وذلك في نحو {إنْ كَانَ هَذا هُوَ الحَقَّ} 5 و {كُنّا نَحْنُ الوَارِثِين} 6.
ويسمى هذا الضمير عند البصريين ضمير الفصل، ويسميه الكوفيون عمادا.
1 سورة إبراهيم: الآية 47، وينظر: الكشاف 2/384، والمحرر الوجيز 8/266، والبحر المحيط 5/244، والدر المصون 7/129.
2 ينظر: الإنصاف 2/ 427- 431.
3 ينظر: نظرية النحو القرآني 78.
4 ينظر: شرح جمل الزجاجي لابن عصفور 2/65.
5 سورة الأنفال: الآية 32.
6 سورة المائدة: الآية 120.
وللمدنيين مذهب فيه وفي تسميته، قال أبو حيان: "والفصل هو صيغة ضمير منفصل، ويسميه الفراء وأكثر الكوفيين عماداً، وبعض الكوفيين يسميه دعامة، ويسميه المدنيون صفة.
وأكثر النحاة يذهب إلى أنه حرف، وصححه ابن عصفور. وذهب الخليل إلى أنه ضمير باق على اسميته، ومحل هذا الفصل المبتدأ والخبر ونواسخه، واختلفوا في وقوعه بين الحال وصاحبها، فمنعه الجمهور، وحكى الأخفش في الأوسط مجيء ذلك عن العرب، ومن قرأ {هَؤلاءِ بَنَاتي هُن أَطْهَرَ لَكُمْ} 1 بنصب أطهر لاحِنٌ عند أبي عمرو.
وقال الخليل: والله إنه لعظيم جعل أهل المدينة هذا فصلاً، وشرط الفصل أن يتقدمه معرفة2.
وبهذا ندرك انفراد نحاة المدينة في هذه المسألة بأمرين:
أحدهما: تسميتهم هذا الضمير: صفة.
والآخر: أنهم أجازوا وقوعه بين الحال وصاحبها كما في القراءة السابقة، وندرك - أيضاً - أن الأخفش أجاز ذلك، فهل هو متأثر بما وقع له من مصنفات أهل المدينة في النحو، ككتاب عليّ الجمل؟.
لا يستبعد ذلك.
وأجاز المدنيون وقوع ضمير الفصل بين النكرة والمعرفة، قال سيبويه في باب "هذا باب لا تكون هو وأخواتها فيه فصلا" بعد أن مثل له بقوله: ما أظن أحداً هو خير منك، قال:"وأما أهل المدينة فينزلون هو هاهنا بمنزلته بين المعرفة، ويجعلونها فصلاً في هذا الموضع"3.
1سورة هود: الآية 78.
2 الارتشاف 1/489.
3 الكتاب 2/395، 396.
وأضاف سيبويه قائلا: "فزعم يونس أن أبا عمرو رآه لحنا وقال احتبى ابن مروان1 في ذِه في اللحن. يقول: لحن، وهو رجل من أهل المدينة، كما تقول اشتمل بالخطأ، وذلك أنه قرأ:{هَؤلاءِ بَنَاتي هُنَّ أَطْهَرَ لَكُمْ} فنصب.
وكان الخليل يقول: "والله إنه لعظيم جعلهم [أي المدنيين] هو فصلا في المعرفة وتصيرهم إياها بمنزلة (ما) إذا كانت ما لغوا؛ لأن هو بمنزلة أبُوهُ، ولكنهم جعلوها في ذلك الموضع لغواً كما جعلوا ما في بعض المواضع بمنزلة ليس، وإنما قياسها أن تكون بمنزلة كأنما وإنما"2.
واعترض السيرافيّ على سيبويه في بعض ما جاء في هذه المسألة، ووجه مذهب المدنيين، فقال:"لم يجز الفصل إذا كان الاسم قبله نكرة، لأن الفصل يجري مجرى صفة المضمر، وهو، وأخواتها معارف، فلا يجوز أن يكون فصلا للنكرة، كما لا يجوز أن تكون المعارف صفات للنكرة، فإن هذا الكلام إذا حمل على ظاهره فهو غلط وسهو؛ لأن أهل المدينة لم يحك عنهم إنزال هو في النكرة منزلتها في المعرفة، والذي يحكى عنهم: هؤلاء بناتي هنّ أطهر لكم، لأنه من باب هو خيراً منكم، والذي أنكره سيبويه أن يجعل ما أظن أحدا هو خيراً منك بمنزلة ما أظن زيداً هو خيراً منك، فليس هذا مما حُكِيَ عن أهلِ المدينة في شيء، وقد شهد بما ذكرته ما ذكره يونس أن أبا عمرو رآه لحنا"3.
وفي كتاب سيبويه إشارات أخرى متفرقة إلى نحويين يفهم من سياق كلامه أنهم قدماء4، فهل هم أو بعضهم من نحاة المدينة؟.
1 هو محمد بن مروان المدني المقرئ، كما تقدم في ترجمته في الفصل الثالث.
2 الكتاب 2/396، 397.
3 شرح كتاب سيبويه للسيرافي، الجزء الثاني، اللوحة 166 ب (عارف حكمت) .
4 ينظر: الكتاب 1/334، 2/185.
4-
إعراب حتّى وما بعدها:
ثمة شاهد نحويّ مشهور يتناقله النحاة منذ عهد سيبويه، ويروونه عن بعض نحاة المدينة، وهو مروان بن سعيد المهلبيّ، وهو قوله:
أَلْقَى الصَّحِيفَةَ كَي يُخَفِّفَ رَحْلَهُ
…
والزَّاد َحَتَّى نَعْلَهُ أَلْقَاهَا1
وفيه روايات، وهي "حتى نعلِه" و"حتى نعلَه" و"حتى نعلُه"2 ولا ندري كيف أنشده مروان بن سعيد المهلبيّ، ولا نعرف رأيه في توجيهه، كما لا نعرف رأي معاصريه من نحاة المدينة في توجيه هذا البيت، الذي نقدّر أنه استأثر بعنايتهم، فهو من شواهدهم، كما استأثر بعناية النحاة في البصرة والكوفة وغيرها من الأمصار.
والشاهد فيه "حتى نعله" إذ يجوز في حتى وما بعدها ثلاثة أوجه، وقد أنشده سيبويه3 على أن حتى فيه حرف جر بمعنى إلى، وأن مجرورها غاية لما قبلها، كأنه قال ألقى الصحيفة والزاد وما معه من المتاع حتى انتهى الإِلقاء إلى النعل، ويكون "ألقاها" توكيد4، وهي بمنزلة قوله عز وجل {سَلامٌ هِي حَتى مَطْلَع الفَجْر} 5.
أما النصب فمن وجهين:
أحدهما: نصبه بإضمار فعل يفسره (ألقاها) كأنه قال: حتى ألقى نعله ألقاها، كما يقال في الواو وغيرها من حروف العطف.
ثانيها: أن يكون نصبه بالعطف على الصحيفة، وحتى بمعنى الواو، كأنه
1 ينظر: الكتاب 1/97، وأسرار العربية 269، وشرح المفصل لابن يعيش 8/19، ورصف المباني 258، وشرح الأشموني 2/214، والهمع 2/24، والخزانة 3/21.
2 ينظر: أسرار العربية 269.
3 ينظر: الكتاب 1/97.
4 ينظر: التصريح 2/141.
5 سورة القدر: الآية 5.