الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وروي أنَّ عليَّا سمع أعرابيَّاً يقرأ: {لا يَأْكُلُهُ إلا الْخَاطِئِينَ} فوضع النَّحو1.
وربما لحن في القرآن من هم في المقام الرَّفيع من اللُّغة، كالحجَّاج؛فقد روي أنّه قال ليحي بن يعمر:"أتسمعني ألحن على المنبر؟ قال: الأمير أفصح من ذلك. فألحَّ عليه، فقال: حرفاً، قال: أيّا؟ قال: في القرآن. قال الحجَّاج: ذلك أشنع له، فما هو؟ قال: تقول: {قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكْمْ} إلى قوله عز وجل: {أَحَبَّ} فتقرؤها {أَحَبُّ} بالرَّفع، والوجه أن تقرأ بالنَّصب، قال: لا جرم، لا تسمع لي لحنا أبداً، فألحقه بخراسان "2.
وبهذا يمكن القول: إنَّ الخطوة الأولى في وضع النَّحو العربي كانت بمثابة ردّ فعل مباشر لتسرُّب اللحن إلى العربيَّة بعامة وإلى القرآن بخاصة، وقد كان الوسط العام في المدينة مفعماً بمقاومة اللحن في القرآن، وكانت صدور خاصة مهيئة لظهور علم جديد يتصدى لزحف اللحن إلى النَّص القرآني، ولابدَّ أن يكون قد صاحب ذلك جهود تمثلت في تأمل اللّغة، والنّظر في مفرداتها وتراكيبها، فكانت تلك التأمُّلات وما نتج عنها من ملحوظات لغوية في الصَّدر الأول من الإسلام هي النواة الأولى للنَّحو العربي، وممَّا يؤكد ذلك أنُّ جُلَّ النُّحاة القدماء كانوا من القراء أو ممَّن اشتغل بالدِّراسات القرآنيَّة.
ثالثاً: فْهم القرآن ودرسه
استأثر القرآن الكريم منذ نزوله بانتباه المسلمين وعنايتهم، فنشأ إلى جانب الرغبة في تلاوته، وفهم نصوصه الحرص على إدراك أسراره، والوقوف على أغراضه ومراميه، وفجّر بذلك الطَّاقات الكامنة في عقولهم، وأزال عنها
1 ينظر: نزهة الألباء 19.
2 طبقات النحويين واللغويين 28.
الكثير من الغبش؛ الذي كان يحجبها عن الرؤية الصَّحيحة للكون والحياة والُّلغة - أيضا.
وقد شيَّد المسلمون بنيانهم العلمي الأصيل على القرآن، فنشأت في كنفه علوم شتَّى1، كالتَّفسير والقراءات والرِّواية والفقه، وظهر العلماء في هذه العلوم، وبرز كثير منهم في المدينة، فاختص علي بن أبي طالب بالقضاء والتّفسير، وزيد بالفرائض ومعاذ بالفقه وأُبيّ بالقراءة2.
ومن العلوم الَّتي نشأت في كنف القرآن العربيَّةُ ومن فروعها الأصوات والنَّحو والدّلالة والمعجم، وكان النَّحو العربي في نشأته من أشد العلوم التصاقا بالقرآن.
وقد أدرك الباحثون المعاصرون الارتباط الوثيق بين القرآن الكريم والعلوم في نشأتها بعامة، والنّحو بخاصة، وفي هذا يقول الدكتور مهدي المخزومي: "وراحت كل طائفة منهم تتَّجه اتِّجاهاً خاصاً في دراسته، فنشأت:
طائفة اتَجه نشاطُها إلى تصحيح متن القرآن عن طريق الرِّواية، وهي طائفة القُرَّاء.
وطائفة راحت تدرس القرآن لتفهم الأحكام الّتي تتضمنها، ممَّا هو لازم لبناء المجتمع، وهي طائفة الفقهاء.
وطائفة اتَّجهت اتّجاهاً لغويًّا، فأخذت تعني بإعراب نصوص القرآن مستعينة برواية اللُّغة، ثم توسَّعت في ذلك، فتناولت بالدِّراسة علل التأليف، أو علل الإعراب، وهي طائفة النُّحاة.
فالنَحو - إذن - وليد التَّفكير في قراءة القرآن"3.
1ينظر: البرهان في علوم القرآن 1/8، والإتقان 1/3.
2ينظر: البرهان في علوم القرآن 1/8.
3مدرسة الكوفة 20.
ويقول الدُّكتور محمد خير الحلواني: "والحق أنَّ نشأة النّحو ترتبط بجذور الحياة الإسلاميَّة في ذلك الزَّمن، وترتدّ إلى ما ترتدّ إليه نشأة العلوم الأخرى من لغوية ودينية وفلسفية، وكان القرآن الكريم محور هذه الجذور، وهو الركيزة الأساسية فيها.
إذن فإن نشأة العربية - بمعناها الاصطلاحي - انطلقت من قراءة القرآن؛ لأنّ القراءة القرآنية هي التي دعت إلى ظهور علم الأصوات الذي نضج عند العرب، فالمقرئ كان مضطراً إلى إخراج الحروف مخرجاً فصيحا وكان مضطراً - أيضاً - إلى معرفة المدّ وقوانينه؛وإلى أحكام الهمز ومعرفة لهجات العرب فيه، كما كان عليه أن يعرف ضوابط الإدغام والإظهار والإقلاب والغنّة.
وإلى جانب هذا كلّه كان القرآن الكريم سبب ظهور علم الغريب، وما جرّ إليه من جمع الشعر والنوادر والرحلات العلمية إلى البوادي
…
لأن في كلمات القرآن ما في كلمات الشعر من غرابة أحياناً، تحتاج إلى شرح وتوضيح باعتماد العرف اللغوي السائد يومئذٍ"1.
ثم يقول: "ومن الطبيعي أن يكون القرآن - أيضاً - سبب ظهور علم النحو، لأن النحو دراسة للتركيب اللغوي، ورصد للظواهر الإعرابية الناجمة عن القرائن اللفظية، التي سميت فيما بعد بالعوامل النحوية، وقراءة القرآن تعتمد اعتمادا بارزاً على تغير أواخر الكلمات؛ أي: الإعراب"2.
وإلى مثل هذا يذهب كثير من الباحثين المعاصرين3.
نعم؛ لقد بدأت العلاقة بين العربية بمفهومها العام والقرآن مبكرة في المدينة على يد الرسول صلى الله عليه وسلم في تفسيره بعض الآيات المشكلة، والألفاظ
1المفصل في تاريخ النحو العربي 17.
2نفسه 18.
3ينظر: اللغة والنحو 201، وفي أصول النحو 101، وأثر القرآن في أصول مدرسة البصرة 43، ونحو القراء الكوفيين 67،66، وفي التفكير النحوي عند العرب 13.
الغريبة، وفي حثه على تدبر ألفاظ القرآن ومعانيه والتماس غرائبه.
روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه "1.
والمراد بالإعراب - هنا - معرفة معاني ألفاظه، وليس المراد به الإِعراب المصطلح عليه عند النحاة، وهو ما يقابل اللحن2.
وقد تزايدت الحاجة إلى تفسير غريبي القرآن والحديث مع مرور الأيام، وأكثر الصَّحابة ثم التَّابعون من الاحتجاج لغريب القرآن ومشكله بالشِّعر كابن عباس3، الَّذي يُعد صنيعه نواة للمعجم العربي، كما سيأتي بيانه.
واقتضى ذلك من الصَّحابة التَّزوُّد باللّغة، وتأمل دقائقها، والإلمام بلغات القبائل، ليتمكَّنوا من تفسير غريب القرآن، وكان بعضهم يتحرَّج من الخوض في تفسير غرائب القرآن وَرَعاً، أو لعدم التَمكُّن في اللُّغة، وكان عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه يأمر بألا يقرئ القرآن إلا عالم باللُّغة - كما تقدم.
وإذا كان أمر القراءة يقتضي العلم باللُّغة فإنَّ أمر تفسير الغريب وكشف المشكل أدعى إلى ذلك، ولهذا أثر عن مجاهد قوله:"لا يحلّ لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلَّم في كتاب الله إذا لم يكن عالماً بلغات العرب"4.
وهكذا أصبحت العربية من الدِّين، وغدا تعلمها لفهم مقاصد الكتاب والسنة قربة من أجلّ القربات إلى الله، ونظر بعض العلماء إلى تعلمها على أنَّه فرض واجب5.
1 إيضاح الوقف والابتداء1/15، والإتقان 1/149.
2 ينظر: الإتقان 1/149.
3 ينظر: الإتقان 1/149.
4 البرهان في علوم القرآن 1/292.
5 اقتضاء الصراط المستقيم 207.
وفي هذه البيئة العلمية نمت المعارف في المدينة واهتدى القراء إلى ملحوظات متناثرة في الأصوات والغريب والنَّحو، وكانت ملحوظاتهم في النَّحو نواة العمل النَّحوي فيما بعد.
وعلى هذا يمكن القول: إنَّ النَّحو العربي الَّذي اكتمل بنيانه في البصرة والكوفة فيما بعد هو ثمرة من ثمار الدِّراسة القرآنية الَّتي نبتت وترعرعت في المدينة.
وثمة أسباب ودوافع أخرى أسرعت بعلم النَّحو إلى الظُّهور، ثم النَّضج؛ذكرها بعض الباحثين المعاصرين1، وهي لا تكاد تخرج عمَّا ذكرناه في هذا البحث، فيطيب لبعضهم أن يذكروا إلى جانب الدَّافع الديني دوافع بعضها قوميّ عربي، وبعضها الآخر اجتماعي.
فأمَّا الدَّافع القومي2 فيرجع إلى اعتزاز العرب بلغتهم وخشيتهم عليها من الفساد أو الفناء أو الذوبان في اللّغات الأعجمية.
ويتمثل الدَّافع الاجتماعي3 في بعد العرب عن البادية، مهد لغتهم الأوَّل، وفساد سلائقهم، بعد اختلاطهم بالأعاجم، في الأمصار، والبيوت، والأسواق، والجيوش، وسائر المرافق العامة والخاصة، إضافة إلى انتشار التَّسرِّي بالأعجميات أو التَّزوُّج بهنَّ، فنتج عن ذلك أمور منها نشوء أجيال من العرب من أمهات غير عربيات، وتأثرهم بهنَّ ففشا اللحن على ألسنتهم وانتشر نتيجة لذلك.
وهذا الَّذي ذكروه يعود في جملته إلى ما ذكرناه - فيما تقدَّم - كاللحن في اللُّغة، وزحفه إلى القرآن، والرَّغبة في درس نصه المقدس، والكشف عن أسراره.
1 ينظر: المفصل في تاريخ النحو العربي 18 وما بعدها، وتجديد النحو العربي 59-69، وفي التفكير النحوي عند العرب 37.
2ينظر: تجديد النحو 58، والمدارس النحوية 12.
3ينطر: المفصل في تاريخ النحو العربي 27، وتجديد النحو 59.