المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

9 - الصفة: تقدم في كلامنا عن الضمير الذي يقع بين المبتدأ - أصول علم العربية في المدينة

[عبد الرزاق بن فراج الصاعدي]

الفصل: 9 - الصفة: تقدم في كلامنا عن الضمير الذي يقع بين المبتدأ

9 -

الصفة:

تقدم في كلامنا عن الضمير الذي يقع بين المبتدأ والخبر وما في حكمها أنه يسمى عند البصريين ضمير الفصل.

ويسمى عند الكوفيين: العماد.

ويسميه نحاة المدينة - كما ذكر أبو حيان - صفة، وقد انفردوا بهذه التسمية فيما نعلم.

ص: 366

‌المجالس اللغوية

من مظاهر النشاط اللغوي في المدينة أن العلماء كانوا يعقدون المجالس اللغوية كما عقدوها للتفسير والحديث والفقه، ومن المجالس التي كانت تعقد للغة مجالس ابن عباس، وأبي الزناد، وابن هرمز، ومروان بن سعيد المهلبي وغيرهم.

وكانت العلوم الشرعية واللغوية تتداخل في تلك المجالس، قال عمرو بن دينار:"ما رأيت مجلساً قط أجمع لكل خير من مجلس ابن عباس للحلال، والحرام، وتفسير القرآن، والعربية، والشعر، والطعام"1.

ونقدر أن علم العربية بفروعه المختلفة كغريب اللغة ولهجاتها ومسائل النحو كان يعرض في تلك المجالس.

ولما ارتقت علوم اللغة وقاربت النضج وبخاصة النحو ظهرت بعض المناظرات اللغوية والنحوية في تلك المجالس، أو في مجالس علية القوم كالخلفاء والأمراء2والوزراء وغيرهم، كان ذلك في حواضر الدولة الإِسلامية الفتية كالمدينة والبصرة والكوفة وبغداد.

1 غاية النهاية 1/426.

2 من مجالس الأمراء في المدينة ما كان يقع في القرن الرابع في مجلس أميرها أبي أحمد العلوي العقيقي، ومن ذلك مسألة لغوية دار الحوار فيها في مجلسه سنة 364 هـ وهي مسألة مدّ المقصور في كلمة "الغني" فقال بعضهم يجوز المدّ فيها فيقال. "الغناء" واستدل بقول الشاعر:

سيغنيني الّذي أغناك عني

فلا فقر يدوم ولا غناء

فرد أبو الليل العلوي هذا الشاهد بأن روايته خلاف هذا، وأن الصّواب هو:

سيغنيني الّذي أغناك عنّي

فلا فقري يدوم ولا غناك

تجنبت الذنوب لتصرميني دعى

العلات واتّبعي هواك

ينظر: شذرات الذهب للغزّاوي 143.

ص: 366

وقد ضاع كثير من تلك المناظرات، ولم يبلغنا من أمرها إلا القليل، وأكثر ما بلغنا مما كان يدور في مجالس الخلفاء والأمراء والوزراء في حواضر العراق، وقد جاءت لنا بعض المصادر بنتف يسيرة جدا من مناظرات نحوية وقعت في بعض مجالس العلم كان أحد علماء المدينة طرفا فيها، وهو مروان بن سعيد المهلبي، وكان الطرف الآخر سعيد بن مسعدة الأخفش.

وفيما يلي مجالس المهلبي مما ذكره أبو القاسم الزجاجي وغيره، وهي ثلاثة مجالس، نوردها كما رواها الرواة، تم نقفوها بشيء ٍمن التعليق:

1-

فإن كانتا اثنتين:

قال أبو القاسم الزجاجي. "قال أبو يعلى زكريا بن يحي بن خلاد: حدثني أبو عثمان قال: سأل مروان الأخفش عن قول الله جلّ وعزّ: {فَإِنْ كاَنَتَا اثنَْتَيْن} 1 أليس خبر كان يفيد معنى ليس في اسمها؟ قال نعم. قال: فأخبرني عن {كاَنَتَا اثنَْتَيْن} أليس قد أفاد بقوله (كانتا) معنى ما أراد فلم يحتج إلى الخبر؟ فقال: إنما أراد: فإن كان من ترك اثنتين، ثم أضمر (من) على معناها. قال: فبإضماره (من) على معناها أفاد معنى ما أراد"2.

وأراد مروان بن سعيد المهلبي بسؤاله أن الألف في (كانتا) تفيد التثنية فلأي معنى فسر ضمير المثنى بالاثنتين ونحن نعلم أنه لا يجوز أن يقال: فإن كانتا ثلاثا، ولا أن يقال فإن كانتا خمساً، فأراد الأخفش أن الخبر أفاد العدد المجرد من الصفة، أي: قد كان يجوز أن يقال: فإن كانتا صغيرتين أو

1 سورة النساء: الآية 176.

2 مجالس العلماء61.

ص: 367

صالحتين فلهما كذا، وإن كانتا كبيرتين فلهما كذا، فلما قال: فإن كانتا اثنتين على أية صفة كانتا عليها من كبر أو صغر أو صلاح أو طلاح أو غنى أو فْقر، فقد تحصل من الخبر فائدة لم تحصل من ضمير المثنى1.

وبهذا ظهر ذكاء السائل وبراعة المسؤول.

2-

أزيد عندك أم عمرو؟

قال الزجاجي: "سأل مروان [بن سعيد المهلبي] مرة الأخفش، فقال: إذا قلت: أزيد عندك أم عمرو، أفليس قد علمت أن ثمَّ كونا ثابتا، ولكن لا تدري من أيهما هو؟ قال: بلى. قال: فإذا قلت: قد علمت أزيد عندك أم عمرو، أفليس قد علمت ما جهلت؟ قال: بلى. قال: فلم جئت بالاستفهام؟ قال: جئت به لألبس على المخبر مَن علمت. فقال له مروان: إذا قلت علمتُ من أنت، أردت أن تلبس عليه لأنه لا يعلم نفسه؟ قال: فسكت.

قال أبو عثمان: عندي أنه إذا قلت قد علمت من أنت فهو لا يريد أن يُلبس عليه؛ لأنه لا يعرف نفسه، ولكنه أراد قد علمت من أنت أخير أمرك أم شر، كما تقول: قد علمت أمرك، وكقولك: ما أعرفني بك، أي قد علمت ما تذكر به، أو ما تثلب به"2.

3-

أزيد ضربته أم عمرًا:

قال الزجاجي: "أخبر أبو جعفر أحمد بن محمد الطبري، قال: سأل مروان سعيد بن مسعدة الأخفش: أزيداً ضربته أم عمرا؟ فقال:3 أي شيء تختاره فيه؟ فقال: أختار النصب لمجيء ألف الاستفهام. فقال: ألست إنما تختار في الاسم النصب إذا كان المستفهم عنه الفعل كقولك: أزيداً ضربته،

1 ينظر: نزهة الألباء109، ودرة الغواص 37.

2 مجالس العلماء67.

3 القائل هو: مروان.

ص: 368

أعبد الله مررت به؟ فقال: بلى. فقال له: فأنت إذا قلت: أزيدا ضربته أم عمراً، فالفعل قد استقرّ عندك أنه قد كان، وإنما تستفهم عن غيره، وهو من وقع به الفعل، فالاختيار الرفع؛ لأن المسؤول عنه اسم وليس بفعل. فقال له الأخفش: هذا هو القياس.

قال أبو عثمان: وهو أيضا ًالقياس عندي، ولكنّ النحويين اجتمعوا على اختيار النصب في هذا لما كان معه حرف الاستفهام الذي هو في الأصل للفعل"1.

نعم؛ ويمكن أن نخرج من هذه المناظرات الثلاث بما يلي:

أولا: دقة المهلبي فيما أثاره من قضايا نحوية، وظهوره ندًّا قوياً لعَلَمٍ مشهور من أعلام النحو العربي، وهو الأخفش.

ثانياً: اقتصار المهلبي في مناظراته على الأخفش.

ثالثاً: جهلنا بمكان تلك المناظرات، فقد تكون وقعت في العراق، وقد تكون في المدينة، وشهرة المجالس اللغوية في العراق ترجح أن تكون هذه المناظرات الثلاث مما كان يدور هناك في حواضر العراق، وصلة الأخفش ببعض علماء المدينة كعلي الجمل على النحو الذي وضحناه فيما سبق تجعلنا نميل إلى أنها كانت في المدينة، والذي يرجح هذا الاحتمال أنها لو كانت في العراق لما اقتصر مروان بن سعيد المهلبي على مناظرة الأخفش دون غيره من علماء العراق، وهم كثر.

ومن هنا يمكن القول: إن صلة الأخفش بالمدنيين قد تكون مما يفسر به خروج الأخفش عن منهج جماعته البصريين في كثير من مسائل النحو.

1 مجالس العلماء248، وينظر: الأشباه والنظائر 3/ 92، 93.

ص: 369