الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويمكن أن نوجز هذه العوامل الّتي أدَّت إلى نشأة الدَّرس اللُّغوي والنَّحوي على وجه الخصوص في ثلاثة عوامل، وهي:
1-
ظهور اللحن وانتشاره.
2-
حماية القرآن من اللحن.
3-
فهم القرآن ودرسه.
وفيما يلي تفصيل لهذه العوامل الثلاثة:
أولاً: ظهور اللحن وانتشاره
للحن معان، منها ما اصطلح عليه النُّحاة، وهو مخالفة العرب في سنن كلامهم، أو كما يقول ابن فارس:"إمالة الكلام عن جهته الصَّحيحة في العربية"1. وهو الذي يعنينا من معانيه في هذا البحث.
ويميل كثير من الباحثين إلى أنَّ اللحن بهذا المعنى لم يكن معروفاً في العصر الجاهلي، وإنّما شاع في العصر الإسلامي في المدينة ابتداءً، بسبب اختلاط العرب بغيرهم، ودخول الأعاجم في دين الله أفواجاً، واتّصال العرب بالأمم المجاورة2.
يقول أبو بكر الزُبيديّ: "ولم تزل العرب تنطق على سجيتها في صدر إسلامها وماضي جاهليتها، حتَّى أظهر الله الإسلام على سائر الأديان، فدخل النَّاس فيه أفواجاً، وأقبلوا إليه أرسالاً، واجتمعت فيه الألسنة المتفرقة، والُّلغات المختلفة، ففشا الفساد في اللُّغة العربيَّة، واستبان منه الإعراب الَّذي هو حليها، والموضح لمعانيها، فتفطّن لذلك من نافر بطباعه سوء أفهام النّاطقين من دخلاء الأمم بغير المتعارف من كلام العرب، فعظم الإشفاق من فشوّ ذلك
1 مقاييس اللّغة (لحن) 5/239.
2 ينظر: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 9/15، وتاريخ آداب العرب 1/234، وأثر القرآن في أصول مدرسة البصرة النحوية 124.
وغلبته حتَّى دعاهم الحذر من ذهاب لغتهم وفساد كلامهم إلى أن سبَّبوا الأسباب في تقييدها لمن ضاعت عليه، وتثقيفها لمن زاغت عنه"1.
ومن المؤكّد أن البوادر الأولى للحنِ ظهرت في المدينة على مسمع من النَّبي- صلى الله عليه وسلم فقد روت المصادر أنَّ رجلا لحن بحضرته فقال عليه الصلاة والسلام: "أرشدوا أخاكم فقد ظل"2. أو "أرشدوا أخاكم فإنَّه قد ظلَّ" 3.
وتكاد تنطق عبارة الحديث بأنّ هذا اللحن هو أوَّل لحن سمعه الرًّسول صلى الله عليه وسلم ومن ثم دعا إلى ضرورة التّصدِّي له4، ولو كان اللحن معروفا عند العرب قبل ذلك العهد لجاءت عبارة الحديث على غير هذا الوجه5.
ويبدو أن اللحن أخذ في التفشِّي والانتشار فأصبح أمره معروفاً، فقال النّبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بحين:"أنا من قريش، ونشأت في بني سعد فأنَّى لي اللحن؟ "6.
وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنّه كان يقول: "لأن أقرأ فأسقط أحبّ إليّ من أن أقرأ فألحن"7.
وفي هذا النص - أيضاً - دلالة على أنَّ اللحن كان معروفاً زمن أبي بكر الصِّديق، متفشِّيا بين عامة النّاس، ومنه ما يقع في القرآن، وهو أشنع ما يكون من اللحن.
1 طبقات النحويين واللغويين 11.
2 مراتب النحويين 23.
3 ينظر: الجامع الصغير 1/363، وكنز العمال 1/151، والخصائص 2/8.
4 ينظر: أثر القرآن في أصول مدرسة البصرة 135.
5 ينظر: تاريخ آداب العرب ا /237.
6 مراتب النحويين 23.
7 ينظر: مراتب النحويين 23، والإيضاح في علل النحو 96، والمزهر 2/397.
وازدادت المرويات من اللَّحن في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فمن ذلك أنّه مرَّ بقوم يرمون ويسيئون الرمي، فغضب منهم وقال لهم:"بئس ما رميتم، فقالوا: إنّا قوم متعلمين [أو نحن قوم رامين] فقال: والله لخطؤكم في كلامكم أشد من خطئكم في رميكم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "رحم الله امرأ أصلح من لسانه" 1.
وكتب كاتب لأبي موسى الأشعري إلى عمر: "من أبو موسى" فكتب عمر إلى عامله: "سلام عليك، أما بعد، فاضرب كاتبك سوطاً واحدا، وأخّر عطاءه سنة"2 أو "إذا أتاك كتابي هذا، فاجلده سوطاً واعزله عن عمله"3.
وُيروى أنَّ أعرابيَّاً دخل السُّوق فوجدهم يلحنون فقال: "العجب، يلحنون ويربحون"4.
وقد فشا اللَّحن زمن الأمويين، وانتشر بين العامة والخاصة، ولم يسلم منه الأمراء والوزراء وأهل الرِّياسة، فقد قيل: إنّ الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك كان لُحَنَةً5. رووا أنّه خطب النَّاس يوم عيد، فقرأ في خطبته: " ياليتُها كانت القاضية" بضم التَّاء، فقال عمر بن عبد العزيز: عليك وأراحنا منك6.
وروى الجاحظ أنّ كُتُب الوليد كانت تخرج ملحونة، فسأل إسحاقُ بن قبيصة أحد موالي الوليد:"ما بال كتبكم تأتينا ملحونة، وأنتم أهل الخلافة؟ "7.
1 الإيضاح في علل النحو 96، وينظر: معجم الأدباء1/16، 17
2 مراتب النحويين 23.
3 كنز العمال 5/224.
4 معجم الأدباء1/23.
5 ينظر: البيان والتبيين 2/205.
6 المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 9/24.
7 البيان والتبيين 2/ 205.
وخطب الوليد في أهل المدينة، وقال:"يا أهلُ المدينة" بضم اللام.
وأحصوا اللّحّانين من البلغاء، فعدّوا منهم خالد بن عبد الله القسري، وخالد بن صفوان، وعيسى بن المدور، وكان الحجَّاج بن يوسف يلحن أحياناً1.
وهكذا انتشرت جرثومة اللحن مع مرور الأيام، فأعدت العامةُ الخاصةَ، وقد أثر عن إمام دار الهجرة أنّه كان يقول:"أي مطراً" بدل "أي مطرٌ" وكان شيخه ربيعة بن عبد الرَّحمن فقيه أهل المدينة المشهور بربيعة الرَّأي يلحن في الإِعراب - أيضاً - ويقول: بخيراً2.
وبلغ من أمر اللحن - فيما بعد - أن تسرب إلى ألسنة أكثر العلماء، فتساهلوا في أمره، قال ابن فارس:"فأما الآن فقد تجوَّزوا، حتَّى إنَّ المحدث يحدث فيلحن، والفقيه يؤلف فيلحن، فإذا نُبِّها قالا: ما ندري ما الإعراب، وإنَّما نحن محدّثون وفقهاء"3.
وصار من لا يلحن في زمن الأصمعي خارجاً عن المألوف، قالت الأصمعي:"أربعة لم يلحنوا في جد ولا هزل: الشعبي، وعبد الملك بن مروان، والحجاج بن يوسف، وابن القرية، والحجاج أفصحهم"4.
وقد كان النَّاس في صدر الإِسلام يجتنبون اللحن فيما يقولونه أو يقرأونه أو يكتبونه اجتنابهم بعض الذنوب5، وكان دافعهم لاجتناب اللحن شعورهم بوراثتهم لغتهم معربة، وهي لغة القرآن والدين.
1 ينظر: تاريخ آداب العرب1/240.
2 ينظر: اللغة والنحو 188.
3 الصاحبي 56.
4 المفصل في تاريخ العرب قبل الإِسلام 9/24.
5ينظر: الصاحبي 56.
وكان بعض السَّلف يقول: "ربما دعوت فلحنت فأخاف ألا يستجاب لي "1.
وقد يحدث بعضهم بحديث فيلحن فيه، فيقول:"استغفر الله" يعني أنَّه عدَّ اللحن ذنباً، فيقال له فيه فيقول:"من أخطأ فيها فقد كذب على العرب، ومن كذب فقد عمل سوءاً"2.
وروي عن عمر بن الخطاب أنَّه جعل اللحن من الافتراء.3
وكان عمر بن الخطاب يضرب أولاده على اللحن ولا يضربهم على الخطأ في غير اللغة4.
وأثر مثل هذا عن ابنه عبد الله5 رضي الله عنهما.
وبعد هذا الفيض من الرِّوايات فإنَّه لا سبيل إلى إنكار ظهور اللحن في المدينة منذ الصدر الأول، واستفحال أمره فيما بعد في سائر الأمصار، لاختلاط العرب بغيرهم.
ومن الطبيعي أن يصحب ذلك إحساس بالحاجة إلى ضبط قواعد اللّغة الفصحى، ومن المؤكد أنَّ ذلك الإحساس نشأ منذ الصَّدر الأول في المدينة في عهد الخلفاء الراشدين، وربما كان ذلك منذ عهد النَّبي صلى الله عليه وسلم.
وتدلًّ الرِّوايات الَّتي أوردنا شيئاً منها على إلمام النّبي صلى الله عليه وسلم -وصحابته في المدينة إلماما فطرياً بالتَّراكيب النَّحويَّة، والإعراب بخاصة، وقد كانوا على قدر من الإدراك بأصول الكلمات واشتقاق الألفاظ، هدتهم إليه سلائقهم اللُّغويَّة النَّقيَّة، وسماعُهم ما يخالفها من لحن.
1 الإيضاح في علل النحو 96.
2معجم الأدباء1/17.
3 ينظر: الإيضاح في علل النحو 96.
4 ينظر: معجم الأدباء ا/23.
5 ينظر: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/ 24، وجامع بيان العلم وفضله 465.
روى ابن جني ما حُكي عن النّبي صلى الله عليه وسلم وقد جاءه قومٌ من العرب،. فسألهم عليه السلام، فقال: من أنتم؟ فقالوا: بنو غيَّان، فقال: بل أنتم بنو رشدان، قال ابن جني معقّباً: "أولا تراه صلى الله عليه وسلم كيف تلقّى (غيان) بأنّه من الغيّ، فحكم بزيادة ألفه ونونه، وترك عليه السلام أن يتلقَّاه من باب (الغين) وهو إلباس الغيم من قوله:
كَأنّي بَيْنَ خَافِيتَي عُقَابٍ
…
تُرِيدُ حَمَامَةً فِي يَوْمِ غَيْنِ
يدلُّك على أنَّه صلى الله عليه وسلم تلقَّاه بما ذكرنا أنّه قابله بضده، فقال: بل أنتم بنو رشدان، فقابل الغي بالرُّشد، فصار هذا عياراً على كل ما ورد في معناه1.
وتدلُّ الرِّوايات على إلمام عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه بأساليب اللًّغة ودقائقها التّعبيريَّة، وكان من أشد النَّاس حرصاً على نقائها، وسلامة أساليبها، وكان يحثُّ على تعلُّمها، فقد روي عنه قوله:"تعلموا العربية، فإنَّها تثبت العقل، وتزيد في المروءة"2.
وروي عنه - أيضاً - أنّه كتب إلى أبي موسى الأشعري: "أن مُرْ من قِبَلَكَ بتعلم العربية، فإنَّها تدلُّ على صواب الكلام"3.
والعربية هذه هي عربية المصطلح القديم الَّتي تقابل في مدلولها كلمة النَّحو، لأنَّها تدلُّ - كما يفهم من قول عمر - على صواب الكلام، أي يهتدي بها إلى صواب الكلام.
ومهما يكن من أمر فإنَّ ثمة ما يشبه الإِجماع على أنَّ ظهور اللحن وتفشيه في الكلام وزحفه إلى القرآن والحديث هو الباعث الأول على تدوين اللُّغة.
1 المبهج الأدباء1/22، وينظر: الإِيضاح في علل النحو، ونور القبس 2.
2 معجم الأدباء 1/22، وينظر: الإيضاح في علل النحو 96، ونور القبس 2.
3 إيضاح الوقف والابتداء1/30.