الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذّائقة اللُّغويَّة الرَّفيعة من الصَّحابة والتَّابعين وغيرهم، الذين اشتركوا بدرجات متفاوتة في العناية باللغة، وأسهموا في إرساء الأسس النَّحويَّة الأولى، وتطوير العديد من المفاهيم اللُّغويَّة، ونقلها إلى مرحلة علمية جديدة.
وبرز من هؤلاء جماعة كان لهم النَّصيب الأوفر في نشأة علم النَّحو قياساً بمعاصريهم، وعلى تفاوت بينهم، وهم: عليّ بن أبي طالب وأبو الأسود الدُّؤلي في النصف الأول من القرن الأول، ونصر ابن عاصم وعبد الرَّحمن بن هرمز في النَّصف الثاني من القرن الأول.
ولبروز هؤلاء في هذا العلم وتفوقهم على غيرهم من معاصريهم نسب ابتداع علم النّحو في العربيَّة إليهم، واثنان من هؤلاء الأربعة كانوا في المدينة وهما: علي رضي الله عنه وعبد الرَّحمن بن هرمز الأعرج.
ويلحق بهؤلاء الأربعة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الّذي برع في اللُّغة وتفسير الغريب، وأسهم في ظهور علم الدِّلالة والمعجم، وقيل: إنّه أمر بوضع النحو كما سيأتي.
ولا بأس في أن أذكر فيما يلي شيئاً ممَّا أثر عن هؤلاء من غير بسط ولا استقصاء لشهرته وكثرة ما كتب فيه؛ولأن بعضه يحقق ما ذهبتُ إليه، وهو أنَّ نشأة الدَّرس اللُّغوي، بعامة والنَّحوي بخاصّة كانت في المدينة.
أولا: عليّ بن أبي طالب
(ت 40هـ)
تذكر كثير من الرِّوايات القديمة أنَّ أوَّل من وضع علم العربيَّة وأسَّس قواعده، وحدَّ حدوده أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وأخذ عنه أبو الأسود الدُّؤلي1، وأخذ عن أبي الأسود نصر بن عاصم وعبد الرَّحمن بن هرمز، فقد ذكر أبو بكر الأنباريّ أنَّ أبا الأسود أخذ النَّحو عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه "2.
1 الفهرست 45، ونزهة الألباء17.
2 إيضاح الوقف والابتداء1/43.
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنّى وغيره: "أخذ أبو الأسود الدُّؤلي النَّحو عن علي بن أبي طالب "1.
وروى أبو الطَّيب اللُغوي بسنده أنَّ "أول من رسم النَّحو أبو الأسود الدؤلي
…
وكان أبو الأسود أخذ ذلك عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام لأنَّه سمع لحناً، فقال لأبي الأسود: اجعل للنَّاس حروفاً - وأشار إلى الرَّفع والنصب والجرّ - فكان أبو الأسود ضنيناً بما أخذه من ذلك عن أمير المؤمنين عليه السلام"2.
وروى أبو بكر الزُّبيدي عن المبرّد قوله: "سُئل أبو الأسود عمَّن فتح له الطريق إلى الوضع في النَّحو، وأرشده إليه، فقال: تلقيته من علي بن أبي طالب"3.
وقال في رواية أخرى عن المبرد: "ألقى إليّ عليّ أصولا احتذيت عليها"4.
وذكر أبو حيان التوحيدي أنَّ "علىّ بن أبي طالب - رضوان الله عليه - سمع قارئاً يقرأ على غير وجه الصواب فساءه ذلك، فتقدَّم إلى أبي الأسود الدّؤلي حتّى وضع للنَّاس أصلا ومثالا وباباً وقياساً، بعد أن فتق له حاشيته، ومهّد له مهاده، وضرب له قواعده"5.
ومن الرِّوايات الّتي تعزو نشأة النَّحو إلى الإِمام عليّ بن أبي طالب ما نقله القفطي في قوله: "وروي – أيضاً - عن أبي الأسود قال: دخلت على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام فأخرج لي رقعة فيها: الكلام كله اسم وفعل وحرف جاء لمعنى"6.
1 نزهة الألباء20.
2 مراتب النحويين 24.
3 طبقات النحويين واللغويين 21.
4 نفسه 21.
5 البصائر والذخائر 1/83.
6 إنباه الرواة 1/40.
ثم يقول القفطي: "وأهل مصر قاطبة يرون بعد النَّقل والتَّصحيح أنَّ أوَّل من وضع النَّحو عليّ بن أبى طالب - كرَّم الله وجهه - وأخذ عنه أبو الأسود الدُؤلي"1.
وساق الأنباري جملة من الرِّوايات، وفيها ما يعزو النَّحو إلى أبي الأسود أو عبد الرًّحمنِ بن هرمز أو نصر بن عاصم، ثم ختمها برأيه الخاص، فقال:"والصَّحيح أنَ أوّل من وضع النَّحو عليّ بن أبى طالب رضي الله عنه لأنَّ الرِّوايات كلها2 تسند إلى أبي الأسود، وأبو الأسود يسنده إلى عليّ"3.
وتفصّل بعض الروايات في طبيعة النحو الذي وضعه الإمام عليّ، وتذكر الأبواب التي وضعها، ولا يخفى ما في ذلك من أثر التزيد والمبالغات، وإن كان له دلالته - أيضا - وهو شبه الإجماع على أن لعليّ رضي الله عنه نصيباً في ظهور النَّحو.
يقول السيوطي فيما رواه عن أبي الأسود أنّه قال: "دخلت على أمير المؤمنين علىّ بن أبي طالب رضي الله عنه رأيته مطرقاً متفكراً، فقلت: فبم تفكّر يا أمير المؤمنين؟ قال: إنّي سمعت ببلدكم هذا لحناً، فأردت أن أصنع كتاباً في أصول العربيَّة. فقلت: إن فعلت هذا أحييتنا وبقَّيت فينا هذه الُّلغة، ثم أتيته بعد ثلاث، فألقى إليّ صحيفة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم. الكلام كله: اسم وفعل وحرف. فالاسم: ما أنبأ عن المسمَّى، والفعل: ما أنبأ عن حركة المسمَّى، والحرف: ما أنبأ عن معنىً ليس باسم ولا فعل، ثم قال لي: تتبعه، وزد فيه ما وقع لك، واعلم يا أبا الأسود أن الأسماء ثلاثة: ظاهر، ومضمر، وشيء ليس بظاهر ولا مضمر، وإنما تتفاضل العلماء في معرفة ما ليس بظاهر ولا مضمر.
1 إنباه الرواة 1/41.
2 يريد الروايات التي يُطمأن إليها.
3 نزهة الألباء22،21.
قال أبو الأسود: "فجمعت منه أشياء، وعرضتها عليه فكان من ذلك حروف النَّصب فذكرت منها: إنَّ، وأنَّ، وليت، ولعلّ، وكأنَّ، ولم أذكر لكنَّ، فقال لي: لِمَ تركتها؟ فقلت: لم أحسبها منها. فقال: بل هي منها، فزدها فيها"1.
ولا يخفى ما في هذه الرِّواية من آثار التَّزيُّد والمبالغات، ممّا يجعل النَّفس ترتاب منها لورود مثل تلك المصطلحات والتَّفصيلات التي يبعد أن تكون عرفت في زمن عليّ رضي الله عنه.
وعلى الرَّغم من كثرة الرِّوايات الّتي تسند هذا العلم إلى الإمام عليّ، وتلميذه أبي الأسود من بعده، وتسليم أكثر القدماء بمضمونها ردّها بعض المعاصرين، وجعلوها من الأساطير2، أو الخرافات3، أو عبث الرّواة الوضَّاعين4.
وأنكر بِعضهم أن يكون للخليفة عليّ بن أبي طالب أي دور في نشأة علم النَّحو، لأنَّ "وضع النَّحو أمر خطير يتقاضى من القائم به عناية مبذولة إليه خاصة، وصدوفاً عن مشاغل الحياة عامة، ووقتاً طويلا، يُستنزف في التَّقصي للكلام العربي، وإعمال الفكر واستخراج القواعد في حياة كلها هدوء واستقرار، يرفرف عليها جناح الأمن والسَّلام، وحياة الإِمام عليّ - كرم الله وجهه - تقضَّت في النّضال العنيف والشجار المستحرّ، ملأتها الحوادث المروعة، واكتنفتها أمواج الاضطرابات الشاملة، فبعيد أنَّ الإمام عليّ يواتيه الوقت الكافي للنهوض بأعباء هذا العمل الجلل"5.
1 الأخبار المروية 35،34.
2 ينظر: تاريخ الأدب العربي لبروكلمان 2/123.
3 ينظر: ضحى الإسلام 2/285.
4 ينظر: المدارس النحوية 14.
5 نشأة النحو 19، وينظر: المدارس النحوية 14.
ونحن نقول لهؤلاء المنكرين: إنَّنا لا نتصوَّر أن يتواطأ جمع من علمائنا القدامى على الكذب، ولا نستكثر على الإِمام عليّ رضي الله عنه أن يكون له دور بارز في نشأة هذا العلم، كإرشاد أبي الأسود وتلقينه بعض المبادئ الُّلغوية.
وأية غرابة في أنَّ تدور بين عليّ وصديقه أبي الأسود أحاديث تتّصل باللغة، وهما بها عالمان، وعلى سلامتها حريصان، في زمن استشرت فيه العجمة، وشاع فيه اللحن، وأخذ يتهدد القرآن؟.
وليس ما صنعاه نحواً بالمعنى الَّذي نعرفه اليوم، إنما هي إشارات، وتنبيهات، وملحوظات؛ كانت تدور تحت سماء المدينة وغيرها، منذ عهد الخليفة عمر بن الخطَّاب، فأضاف علي وصاحبه إضافات مهمة، جعلت النَّاس ينسون ما كان قبلهما، ويعزون هذا العلم لهما، أو لأحدهما.
ولو أخذنا بحجَّة انشغال الخليفة علي بتصريف أمور الدَّولة، لأنكرنا كثيراً ممَّا أثر عنه من فنون القول والحكمة، ممّا فاضت به كتب التَّراجم والطَّبقات، وجُمع بعضه في كتاب نهج البلاغة، وذلك أو أكثره يحتاج في صياغته إلى التَّأمُّل والوقت.
وكيف نستكثر على عليّ أن يضيع شيئاً من مبادئ النَّحو أو يرشد إليها، وهو من أكثر الصَّحابة علماً وأشدّهم ذكاء، فقد روي عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قوله:"أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن أراد العلم فليأته من بابه "1.
فعليّ رجل القضاء والفقه والرِّواية والخطابة، وما روي عن ريادته في النَّحو ليس تأليفا مكتملا يستغرق الوقت، ولكنَّه لفتة من بداهة السليقة2.
1 الاستيعاب 2/11.
2 ينظر: ملاعبة الصيد 157.
ثانياً: أبو الأسود الدُّؤليّ (ت 69هـ)
ذهب بعض الرُّواة إلى أنَّ أبا الأسود هو أوَّل من استنبط النَّحو، وأخرجه من العدم إلى الوجود.
قال ابن سلام: "وكان أول من أسَّس العربيَّة، وفتح بابها، وأنهج سبيلها، ووضع قياسها: أبو الأسود الدُّؤلي
…
فوضع باب الفاعل والمفعول به، والمضاف، وحروف الرَّفع والنَّصب والجرّ والجزم"1.
وقال ابن قتيبة: "إنَّ أبا الأسود هو: "أول من عمل في النَّحو كتاباً"2.
وُيقوي ما ذهب إليه ابن قتيبة في أنَّ لأبي الأسود كتاباً في النَّحو ما حكاه ابن النَّديم في قصَّة الأوراق العتيقة الَّتي وقف عليها، فهي تدلّ على أنَّ واضع النَّحو هو أبو الأسود الدؤلي، قال ابن النَّديم: "كان بمدينة الحديثة رجل يقال له محمد بن الحسين، ويعرف بابن أبي بَعْرَة، جمَّاعة للكتب، له خزانة لم أر لأحد مثلها كثرة، تحتوي على قطعة من الكتب الغريبة في النَّحو واللغة والأدب والكتب القديمة، فلقيت هذا الرجل دفعات فأنس بي، وكان نفوراً ضنيناً بما عنده وخائفاً من بني حمدان، فأخرج إليّ قِمطراً فيه ثلاث مئة رطل جلود فلجان، وصِكاك، وقرطاس مصر، وورق صيني، وورق تهامي، جلود آدم، وورق خرساني، فيها تعليقات لغة عن العرب، وقصائد مفردات من أشعارهم، وشيء من النَّحو والحكايات والأخبار والأسمار والأنساب، وغير ذلك من علوم العرب، وغيرهم. وذكَر أنَّ رجلاً من أهل الكوفة - ذهب عني اسمه - كان مستهتَراً بجمع الخطوط القديمة، وأنّه لما حضرته الوفاة خصَّه بذلك لصداقة كانت بينهما، وأفضال من محمد بن الحسين عليه، ومجانسة بالمذهب، فإنَّه كان شيعيَّاً، فرأيتها وقلَّبتها فرأيت عجباً، إلا أنَّ الزَّمان قد أخلقها، وعمل فيها
1 طبقات فحول الشعراء 1/12.
2 الشعر والشعراء 2/729.
عملاً أدرسها وأحرفها، وكان على كل جزء أو ورقة أو مدرج توقيع بخطوط العلماء واحداً إثر واحد، يذكر فيه خط من هو، وتحت كلِّ توقيع آخر وخمسة أو ستة من شهادات العلماء على خطوط بعضِ لبعض، ورأيت في جملتها مصحفاً بخط خالد بن أبي الهياج صاحب عليّ عليه السلام، ثم وصل هذا المصحف إلى أبي عبد الله بن حاني رحمه الله ورأيت فيها بخطوط الأئمَّة من الحسن وإلى الحسين عليهم السلام، ورأيت عدَّة أمانات وعهود بخط أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، وبخط غيره من كتاب النّبي عليه السلام، ومن خطوط العلماء في النَّحو والّلغة، مثل أبي عمرو بن العلاء، وأبي عمرو الشَّيبانيّ، والأصمعيِّ، وابن الأعرابيّ، وسيبويه، والفراء، والكسائي، ومن خطوط أصحاب الحديث مثل سفيان بن عُيينة، وسفيان الثوريّ، والأوزاعيّ وغيرهم، ورأيت ما يدلُّ على أنَّ النَّحو عن أبي الأسود ما هذه حكَايته، وهي أَربع أوراق أحسبها من ورق الصيني، ترجمتها: هذه فيها كلام في الفاعل والمفعول من أبي الأسود - رحمة الله عليه - بخط يحي بن يعمر. وتحت هذا الخط بخط عتيق: هذا خط علاّن النَّحويّ، وتحته: هذا خط النَّضر بن شميل"1.
وتؤكد رواية ابن النَّديم هذه اشتغال أبي الأسود بالنَّحو، ووضعه شيئاً من حدوده، مع أنَّها لا تنفي أن يكون قد تلقى ذلك أو بعضه عن عليّ بن أبي طالب.
ومن الصَّعب الشك في صحَّة هذه الرِّواية لأنَّ ما أورده ابن النَّديم من مقوّيات الخبر يؤكد صدقه؛ ولأنَّ الرجل ثقة عرف بدقته في النَّقل والرِّواية، فهو إذا رأى بنفسه قال: رأيت، وإذا سمع قال سمعت، وإذا لم يطمئنّ إلى شيء، قال: لم أر، أو ذكر ما يدل على شكّه. على أنَّ اختفاء هذه الأوراق ثلاثة قرون
1 الفهرست 46.
وظهورها في القرن الرابع على يد ابن النَّديم المتوفى سنة 380هـ وسكوت العلماء عنها قد يثير الشَّكّ والارتياب في أمرها، وإن كان ذلك لا يكفي لردها؛ لأنَّ كثيرا من مؤلفات القدامى من القرن الثاني والثالث قد ضاعت، ثم وجد بعضها بعد عدة قرون.
والذي عليه أكثر العلماء1 أنَّ النَحو أخذ عن أبي الأسود وأنَّ أبا الأسود أخذ ذلك عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب2 - كما تقدَّم -، وأنَّه كان مدفوعاً برغبته الجامحة لصدّ ما سمعه من الَّلحن، قال المبرد: إنّ "ابنة أبي الأسود قالت: ما أشدُّ الحرِّ، فقال لها: الحصباء بالرمضاء، قالت: إنَّما تعجّبت من شدّته، قال: أو قد لحن النّاس؟ فأخبر بذلك علياً - رحمة الله عليه - فأعطاه أصولا بنى منها، وعمل بعده عليها3.
أو أنَّه سمع لحناً في القرآن فقال: "لا أظن يسعني إلا أن أضع شيئاً أصلح به نحو هذا، أو كلام هذا معناه، فوضع النَّحو"4.
قال أبو الطيب الُّلغويّ: "وكان أول من رسمه، فوضع منه شيئاً جليلاً، حتَّى تعمق النَّظر بعد ذلك، وطوَّلوا الأبواب"5.
وقيل بل كان وضعه ليتعلمه بنو زياد؛ لأنَّهم كانوا يلحنون، فكلَّمه زياد في ذلك، وكان أعلم الناس بكلام العرب6.
وذهب بعض الرواة إلى أنَّ أبا الأسود وضع النَّحو بأمر من عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه.
1 ينظر: الفهرست 45،ونزهة الألباء1/17، وإنباه الرواة 1/39، والأخبار المروية 31.
2 ينظر: مراتب النحويين 24.
3 الفاضل 95.
4 مراتب النحويين 26.
5 نفسه 26.
6 نفسه 27.
ذكر أبو البركات الأنباري أنَّ عمر بن الخطَّاب سمع لحناً في القرآن الكريم فأمر "أن لا يقرئ القرآن إلا عالم باللّغة، وأمر أبا الأسود الدًّؤليّ أن يضع النّحو"1.
وأخرجه الحافظ بن عساكر2 والسُّيوطيّ3.
وحدَّث أبو الحسن المدائنيّ عن عبّاد بن مسلم عن الشَّعبي، قال:"كتب عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه إلى أبي موسى: أما بعد، فتفقَّهوا في الدِّين؛ وتعلَّموا السُّنّة، وتفهَّموا العربيَّة، وتعلَّموا طعن الدَّرية4، وأحسنوا عبارة الرُّؤيا، وليعلّم أبو الأسود أهل البصرة الإِعراب"5.
وأنكر بعض الباحثين المعاصرين أن يكون عمر بن الخطَّاب هو الَّذي أمر أبا الأسود بوضع النَّحو، لتقدم عصر عمر وانشغاله بأمر الدَّولة وبعده عن أبي الأسود الذي كان يسكن البصرة6، ولتعارض ذلك مع ما روي، وهو أنَّ الآمر بذلك هو عليّ بن أبي طالب.
ويمكن الجمع بين الرِّوايات الَّتي عزت ذلك إلى عمر بن الخطَّاب، والَّتي عزته إلى عليّ، بأنّ عمر أشار إلى شيء من ذلك، ولكنَّ أبا الأسود تأخَّر في الاستجابة، وتردّد، ثم جدّد الخليفة عليّ الطَّلب، فأمر أبا الأسود فاستجاب بعد أن رأى شيوع اللحن في زمن عليّ.
ومن الثَّابت اهتمام عمر بن الخطاب بسلامة اللغة، ودعوته إلى مرعاة الصَّواب في النُّطق بالمفردات والتَّراكيب.
1 نزهة الألباء1/20.
2 ينظر: مختصر تاريخ دمشق 7/113.
3 ينظر: الأخبار المروية 30، 31.
4 الدّريّة: ما يُتعلم عليه الطعن. ينظر: القاموس (درى)1655.
5 إنباه الرواة 1/51.
6 ينظر: تجديد النحو العربي 101.
وتذكر بعض الرِّوايات أنَّ أبا الأسود تلقى الأمر بوضع النَّحو من زياد بن أبيه، لحوادث من الَّلحن ذكروها1.
ومن الثَّابت أن أبا الأسود صنع النَّقط الإعرابيّ في المصحف ضمّاً ورفعاً وكسراً وغُنَّة؛ لرعاية النَّصّ القرآني من اللَّحن، وقد روت المصادر أنَّ زياداً بعث إلى أبي الأسود، فقال له: "يا أبا الأسود؛ إنَّ هذه الحمراء قد كثرت، وأفسدت من ألسن العرب، فلو وضعت شيئاً يَصْلُحُ به النَّاس، ويعْرب به كتاب الله
…
فقال: يا هذا قد أجبتك إلى ما سألت، ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن، فابعث إليَّ ثلاثين رجلا.
فأحضره زياد، فاختار منهم أبو الأسود عشرة، ثم مازال يختارهم، حتَّى اختار منهم رجلاً من عبد القيس، فقال له: خذ المصحف وصبغاً يخالف لون المداد، فإذا فتحت شفتي فانقط واحدة فوق الحرف، وإذا ضممتها فاجعل النقطة إلى جانب الحرف، وإذا كسرتها فاجعل النُّقطة في أسفله، فإن اتبعت شيئاً من الحركات غنَّة فانقط نقطتين.
فابتدأ بالمصحف حتَّى أتى على آخره، ثم وضع المختصر المنسوب إليه بعد ذلك"2.
ويُعدُّ النَّقط الإعرابي الَّذي وضعه أبو الأسود، ثم طُوِّر فيما بعد واستقرَّ على صورة الحركات الَّتي نعرفها اليوم من أعظم الخطوات في علم العربية بعامة والنَّحو بخاصة.
ولا جدال في أنَّ ما قام به أبو الأسود في هذا الشَّأن يُعدُّ عملاً منطقيَّاً، تتطلبه الحوادث، وتقتضيه الحاجات في ظروف ومناسبات خاصة، ولا يقدم
1 ينظر: إنباه الرواة 1/50، 51.
2 نزهة الألباء20، وينظر: الفهرست 45، ومجالس ثعلب 1/66، وأمالي القالي 1/5، وإيضاح الوقف والابتداء 1/41.