المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌النحو في قراءتهم وتعليقاتهم التفسيرية - أصول علم العربية في المدينة

[عبد الرزاق بن فراج الصاعدي]

الفصل: ‌النحو في قراءتهم وتعليقاتهم التفسيرية

قال: ألقى الصحيفة حتى نعله، يريد: ونعله، كما تقول: أكلت السمكة حتى رأسَها، بنصب رأسها، فعلى هذا الهاءُ عائدة على النعل أو الصحيفة، وألقاها تكرير وتوكيد"1وقد جاز عطف نعله مع أنه ليس واحداً مما ذكر؛ لأن الصحيفة والزاد في معنى ألقى ما يثقله؛ فالنعل بعض ما يُثقل.

وأما الرفع "فعلى الابتداء، وجملة ألقاها هي الخبر؛ فحتى - على هذا وعلى الوجه الأول من وجهي النصب - حرف ابتداء، والجملة بعدها مستأنفه"2.

هذا ما وقفت عليه مما عزي للمدنيين من آراء في النحو وهو من القلة بحيث لا يمكّن الباحث من استخلاص خصائص معينة، وإن كنت أرى - من خلال ما سمحت به المصادر - أن نحوهم يأخذ طابع النحو الكوفيّ الذي يعتدّ بالسماع ولا يحفل كثيراً بالقياس.

ص: 352

‌النحو في قراءتهم وتعليقاتهم التفسيرية

النّحو في قراءاتهم وتعليقاتهم التفسيرية

أسهمت قراءات المدنيين وتعليقاتهم التفسيرية في خصوبة النحو العربيّ على مدى القرون، ويمكن لنا أن نستعرض بعض الملاحظات والآراء أو الأصول النحوية المستنبطة من قراءات بعضهم أو تعليقاتهم، كابن عباس وابن هرمز، من غير استقراء، فإن ما أثر عنهما في هذا الشأن شيء غير قليل، يحتاج إلى مؤلف خاص يلم شتاته، ويكفي في هذا البحوث ذكر بعض الأمثلة مما يمثل بدايات النحو عند المدنيين.

أولا: ابن عباس

أثر عن ابن عباس كثير من الملاحظات اللغوية التي كان يفسر بها القرآن، تدل على حسه اللغويّ العام السليم، وإلمامه بالنحو.

1 الخزانة 3/21.

2 نفسه 3/22.

ص: 352

1-

قدر ابن عباس التقديم والتأخير في قوله عز وجل: {أم لَهُمءَالِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِن دونِنا لا يَسْتطيعُونَ نَصْرَ أنفسهم ولاهُم مِنّا يُصْحَبون} 1.

قال أبو حيان: " قال ابن عباس: في الكلام تقديم وتأخير تقديره: أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم2".

2-

وروي عن ابن عباس في قوله عزّوجل: {وَجَعَلنَا مِنْهُم أئِمَّةً يَهْدُون بأمْرنا لَمَّا صَبَرُوا} 3 أنه يرى أن الباء في {بأمرنا} بمعنى (إلى) أي يهدون الخَلق إلى أمرنا4.

وقد ذكر النحاة - فيما بعد - أن الباء تأتي بمعنى الغاية، ومنه قوله تعالى:{وَقَدْ أحْسَنَ بِي} 5 أي: إلي6.

3-

وروي عنه في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَان للرحمن وَلَدٌ فَأنَا أوَّلُ العَبدِين} 7 أنه يرى أن (إنْ) هنا نافية بمعنى ما، وكان يقول: لم يكن للرحمن ولد8.

4-

وروي عنه في قوله تعالى: {هَلْ أتَى عَلَى الإنْسَان حِينٌ مِنَ الدَّهْر لم يَكُن شَيْئاً مَذكُورا} 9 أنه ذهب إلى أن (هل) هنا بمعنى (قد)10.

1 سورة الأنبياء: الآية 43.

2 البحر المحيط 6/314.

3 سورة السجدة: الآية 24.

4 ينظر: تنوير المقياس 258.

5 سورة يوسف: الآية 100.

6 ينظر: الجنى الداني 45، ومغني اللبيب 143.

7 سورة الزخرف: الآية 81.

8 ينظر: إعراب القرآن للنحاس 4/122.

9 سورة الإنسان: الآية1.

10.

ينظر: البحر المحيط 8/393.

ص: 353

5-

واختلف المفسرون في تفسير قوله عز وجل: {إلَيهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ والعَمَلُ الصالحُ يَرْفعُهُ} 1.

قال أبو حيان: "وعن ابن عباس: "والعمل الصالح يرفعه، عامله ويشرّفه، فجعله على حذف مضاف"2 أي: العمل الصالح يرفع الكلم الطّيب.

6-

واختلفوا في تفسير قوله تعالى: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} 3.

وروي عن ابن عباس - في هذه الآية - أنه قدر حذف الحال، إذ قال:"في الكلام محذوف تقديره: فأصابتكم مصيبة الموت وقد استشهدتموهما على الإيصاء"4 والحال هي جملة: "وقد استشهدتموهما" التي قدرها ابن عباس محذوفة.

7-

وروي عن ابن عباس في تفسيره في قول الله عز وجل: {وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الّتي كُنْتَ عَلَيها إلَاّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنْقَلِبُ عَلَى عَقْبَيْهِ} 5 أنه قال: "القبلة في الآية الكعبة، وكنت أنت، كقوله تعالى {كُنْتُم خَيْرَ أمةٍ} بمعنى: أنتم"6.

قال أبو حيان: "وهذا من ابن عباس - إن صح - تفسير معنى لا تفسير إعراب، لأنه يؤول إلى زيادة كان الرافعة للاسم والناصبة للخبر، وهذا لم يذهب إليه أحد، وإنما تفسير الإِعراب على هذا التقدير ما نقله النحويون أنّ كان تكون بمعنى صار"7.

1 سورة الفاطر: الآية 10.

2 ينظر: البحر المحيط 7/304.

3 سورة المائدة: الآية 106.

4 البحر المحيط 4/43.

5 سورة البقرة: الآية 143.

6 البحر المحيط 1/423، 424.

7 نفسه 1/423، 424.

ص: 354

ومقتضى تفسير ابن عباس أنّ كان هنا زائدة "والذي صار بأبي حيان إلى هذا هو البناء النحوي العام القائم على العامل والمعمول، وهذا ما لم يكن يعرفه ابن عباس، ولا أهل زمانه"1.

ونلاحظ في هذه الأمثلة التي أوردناها بروز الحس اللغوي والنحوي عند ابن عباس في تعليقاته وتفسيره على نحو فطريّ بعيد عن تصنع النحاة وتعليقاتهم، وهو ما يناسب تلك المرحلة التي نشأ فيها النحو في المدينة والحجاز.

ثانيا: ابن هرمز

رأينا في الفصل الثالث أن بعض المؤرخين ذكر أنّ ابن هرمز أول من وضع علم النحو وأظهره في المدينة، وأنه كان أعلم الناس بالنحو وأن أهل المدينة أخذوا النحو عنه2.

وجعله بعضهم أحد مؤسسي النحو الذين وضعوا "للنحو أبوابا، وأصلوا له أصولا، فذكروا عوامل الرفع والنصب والخفض والجزم، ووضعوا باب الفاعل والمفعول والتعجب والمضاف"3.

فأين هذه الأصول والأبواب؟ لقد ضاعت فيما ضاع من تراث العربية المتقدم، ولم يبق لنا من نحو ابن هرمز سوى قراءاته واختياراته الكثيرة التي أسهمت في خصوبة النحو العربي، ودلّت على إلمامه به، ومشاركته فيه، وإدراكه لبعض أصوله، فمن قراءاته واختياراته تلك:

1-

قرأ يحيى بن يعمر: {أفَحكمُ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} 4 برفع (أفحكم) على الابتداء، وبإضمار مفعول في الفعل يبغون، والجملة خبر المبتدأ.

1 ابن عباس مؤسس علم العربية 56.

2 ينظر: إنباه الرواة 1/39.

3 طبقات النحويين واللغويين 11، 12.

4 سورة المائدة: الآية 50.

ص: 355

وقرأ ابن هرمز الآية بنصب (أفحكمَ) وهي قراءة الجمهور1، وقال:"لا أعرف في العربية: أفحكمُ"2 فدل هذا على سعة إطلاعه، وعلمه بتراكيب اللغة وقرائنها اللفظية، وما يصاحبها من ظواهر الإعراب3.

2-

قرأ ابن كثير وغيره: {فَتَلَقّى آدَمَ مِن رَبِّه كَلِمَاتٌ} 4 بنصب (آدم) ورفع (كلمات) .

وقرأها ابن هرمز الأعرج وغيره برفع آدم ونصب (كلمات) وعللها مكيّ بقوله: "وعلة من قرأ برفع (آدم) ونصب (كلمات) أنه جعل (آدم) هو الذي تلقى الكلمات؛ لأنه هو الذي قَبِلها ودعا بها، وعمل بها فتاب الله عليه. فهو الفاعل لقبوله الكلمات فالمعنى عَلى ذلك، وهو الخطاب، وفي تقديم (آدم) على الكلمات تقويه أنه الفاعل.

وقد قال أبو عبيد في معنى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} معناه قَبلها، فإذا كان آدم قابلا فالكلام مقبول، فهو المفعول وآدم الفاعل5".

وقرأ الأعرج وآخرون: {وَيَتُوبَ الله عَلَى مَن يَّشَاءُ} 6وقرأ الجماعة {وَيَتُوبُ الله} بالرفع، وعلى قراءة الأعرج فإنّ التوبة داخلة في جواب الشرط معنى، وعلى قراءة الرفع تكون استئنافاً، وذلك أن قوله:{قَاتِلُوهُم يُعَذّبْهُمُ الله بأَيْدِيكُم ويُخْزِهِم ويَنصُركُمْ عَلَيهِم ويَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِين ويُذْهِبْ غَيْظ قُلُوبِهِم وَيَتُوبُ الله عَلَى من يشَاءُ} 7 فهو كقولك: إن تزرني أحسن إليك

1 البحر المحيط 3/505.

2 المحتسب 1/211.

3 ينظر: المفصل في تاريخ النحو 125.

4 سورة البقرة: الآية 37.

5 الكشف 1/237.

6 سورة التوبة: الآية 15.

7 سورة التوبة: الآية 14،15.

ص: 356

وأعطي زيداً درهما، فتنصبه على إضمار (أنْ) أي: إن تزرني أجمع بين الإحسان إليك والإعطاء لزيد1.

وإن كان ابن هرمز في كثير من قراءاته يتوخى بحسه النحويّ ما وافق العربية وفق الأقيسة النحوية المشهورة، إلا أنه قد يغرب في بعض قراءاته وينحط في بعض اختياراته، فيوافق أوجه ضعيفة في اللغة أو شاذة لا يقبلها أكثر النحاة، فمن ذلك:

1-

قرأ ابن هرمز وغيره: {ولا تَتبعُوا خُطُؤات الشَّيْطَانِ} 2 بضمتين وهمزة، وهي شاذة، أنكرها بعض العلمَاء، قال ابن جني:"وهي مرفوضة وغلط3".

وتحتمل هذه القراءة تأويلين في العربية:

أحدهما: أن خُطُؤات جمع خُطأة، بمعنى الخطأ4، فالهمزة أصلية، وهي لام الكلمة.

والآخر: أنه قلب الواو في خُطُوات همزة؛ لمجاورتها الضمة قبلها، فكأنها عليها؛ لأن حركة الحرف بين يديه على الأرجح لا عليه5.

2-

قرأ ابن هرمز6: {وإِذ أَخَذَ الله مِيْثَاقَ النَّبيّينَ لَمَّا آتَيْنَاكم مِن كِتَاب وحِكْمَة} 7 بفتح اللام وتشديد الميم في (لمّا) وقَد أنكرها بعض العلماء، وهي تحتمل أوجه:

1 ينظر: المحتسب 1/285.

2 سورة البقرة: الآية 68ا.

3 المحتسب 1/117.

4 نفسه 1/233.

5 ينظر: الدر المصون 2/224.

6 ينظر: المحتسب 1/164.

7 سورة آل عمران: الآية 81.

ص: 357

قال أبو الفتح: "في هذه القراءة إعراب، وليست (لما) هاهنا بمعروفة في اللغة، وذلك أنها على أوجه:

تكون حرفاً جازما

وتكون ظرفاً

وتكون بمعنى إلا

وأقرب ما فيه أن يكون أراد: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لَمِن ما آتيناكم، وهو يريد القراءة العامة: لما آتيناكم1 فزاد من

فصارت (لَمِما) فلما التقت ثلاث ميمات فثقلت حذفت الأولى منهن، فبقي لَمَّا مشدداً كما ترى، ولو فكت لصارت: لنما، غير أن النون أدغمت في الميم كما يجب في ذلك، فصارت: لَمّا"2.

3-

وقرأ ابن هرمز وغيره3 {قلْ هَلْ أنبئُكُم بِشَرٍّ مِن ذَلِكَ مَثْوبَةٍ عِند اللهِ} 4 بسكون الثّاء في (مَثْوبة) وفتح الواو على زنة مفعلة، هذا مما خرج عن أصله، وهو شاذ في بابه، وحال نظائره كما يقول ابن جني5، وقياسها (مثوبة) كما قرأها الجمهور.

1 أي في لَمَا خاصة كما لا يخفى.

2 المحتسب 1/164.

3 ينظر: مختصر في شواذ القرآن من كتاب البديع 33

4 سورة المائدة: الآية 60.

5 ينظر: المحتسب 1/213.

ص: 358