الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة التحقيق
الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه المبين:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} ، والصلاة والسلام على رسوله القائل:"من يُردِ الله به خيرًا يُفقِّهه في الدين"، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد، فبين أيدينا مجموعة الرسائل الفقهية للعلّامة المحقق الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني رحمه الله، الذي عرفه الناس بتحقيقاته ومؤلفاته المطبوعة في الدفاع عن الحديث وأهله مثل "التنكيل" و"الأنوار الكاشفة"، وجلُّ آثارِه التي ألَّفها بقيت مخطوطة في حياته، وكان تلاميذه والمحبون له يحثُّونه على نشرها، فيقول: إن كان فيها فائدة فسيأتي فيما بعدُ مَن يقوم بطبعها. وقد آن الأوان لنشرها في هذا المشروع العلمي المبارك إن شاء الله، الذي يجمع جميع آثاره وكتاباته في المسوَّدات والدفاتر، ويُخرِج كثيرًا منها إلى النور لأول مرة.
ورسائل هذه المجموعة كتبها الشيخ في فتراتٍ مختلفة من حياته التي تقلَّب فيها في بلدان مختلفة، فقد كتب بعضها في اليمن ناقش فيها أحد فضلاء الزيدية في مسألة اشتراط الصوم في الاعتكاف، وهذا قبل أن يرتحل إلى جازان سنة 1336، وهو في ريعان شبابه في الثالثة والعشرين من عمره، وقد كان الشريف محمد بن علي الإدريسي حاكمًا لعسير والمخلاف
السليماني آنذاك، فولّاه رئاسة القضاء هناك، ولما ظهر له ورعه وعلمه وزهده وعدله لقَّبه بشيخ الإسلام، وكان إلى جانب القضاء يشتغل بالتدريس والمذاكرة مع الإدريسي والتأليف في بعض المسائل. ومنها "مسألة منع بيع الأحرار" التي كتب فيها مرارًا، وعرضها على الإدريسي لينظر فيها.
ولما توفي الإدريسي سنة 1341 وتغيرت الأحوال ارتحل الشيخ إلى عدن، وبقي فيها سنةً مشتغلًا بالتدريس والوعظ، ومما ألَّفه هناك رسالة في "حقيقة الوتر ومسماه في الشرع"، فقد ألَّفها في رمضان سنة 1342. وفي أواخر هذه السنة سافر الشيخ إلى إندونيسيا، وبقي فيها إلى سنة 1344، ثم انتقل إلى الهند، واستقر فيها بحيدر آباد إلى سنة 1371، اشتغل فيها مصححًا لأمهات الكتب في الحديث والرجال والتراجم وغيرها من الفنون بدائرة المعارف العثمانية، وهو إلى جانب ذلك يكتب في بعض المسائل الفقهية التي يرى الحاجة إلى تحرير القول فيها، منها "جواب الاستفتاء عن حقيقة الربا" الذي ردَّ فيه على بعض علماء الهند، ومنها "رسالة في المواريث" التي ردَّ فيها على كتاب "الوراثة في الإسلام" (المطبوع بالهند سنة 1341) الذي أثار ضجة في الأوساط العلمية. وهناك كتبٌ ورسائل في علوم أخرى غير الفقه ألَّفها الشيخ في الهند، دخلت ضمن هذه الموسوعة.
انتقل الشيخ في أواخر سنة 1371 إلى مكة المكرمة، وعُيِّن أمينًا لمكتبة الحرم المكي في شهر ربيع الأول سنة 1372 وبقي على هذا المنصب إلى وفاته سنة 1386. وكان يشتغل في هذه الفترة بفهرسة المخطوطات، وتصحيح الكتب وتحقيقها لتطبع في دائرة المعارف العثمانية بحيدراباد،
وتأليف أغلب الرسائل والكتب في الفقه وغيره، ولم ينشر منها في حياته إلّا القليل، مثل "مقام إبراهيم" و"الأنوار الكاشفة" و"طليعة التنكيل". وتوفي الشيخ وترك وراءه مجموعة من المسوَّدات في أوراق ودفاتر بأحجام مختلفة، استُخْرِج منها ما يُنشر في هذه السلسلة.
وقد أُسنِدَ إليَّ تحقيق الرسائل الفقهية منها، وهي 38 رسالة متفاوتة في الحجم، بعضها تامَّة حرَّرها المؤلف، وأخرى ناقصة لم يُكمِلها، أو ضاعت بعض أوراقها، فلم نجدها في الدفاتر. ثم بعضها مبيَّضة، وأخرى مسوَّدة كثُر فيها الشطب أو الزيادة بين الأسطر وفي الهوامش، أو الإلحاق في أوراق مستقلة وجزازات. وبعد كلِّ هذا وذاك فبعضها مضطربة الأوراق، تحتاج إلى إعادة الترتيب بعد التأمل فيها ومعرفة سياق الكلام، وسيأتي في منهج التحقيق ذِكر ما بذلنا في تحقيقها وإخراجها من جُهد.
ويهمنا هنا بيان منهج الشيخ في تناوله لهذه المسائل الفقهية، والسمات البارزة لكتاباته. وأوّل ما نذكره بهذا الصدد أنه كتب في النوازل المهمة التي وقعت في عهده، مثل بيع الأحرار الذي شاع في زمنه، وحول أجور العقار بمكة المكرمة، وتوسعة المسعى، ونقل مقام إبراهيم، وتوكيل الولي غير المجبر بتزويج موليته، ومسألة الطلاق الثلاث المجموع، وغيرها من القضايا والنوازل التي كانت بحاجة إلى تفصيل القول وبيان ما هو الحق والصواب أو الراجح فيها، ودفع الشُّبَه الواردة عليها. وقد كان لكتاباته أثرٌ ملموسٌ في الأوساط العلمية، فأيَّده العلماء، وكان سندًا قويًّا للحكّام فيما نفَّذوا من إصلاحات. ومع أن الشيخ كان يشتغل بتحقيق المخطوطات وتصحيح الكتب والعمل في المكتبة، إلّا أنه لم ينقطع عما يجري في
المجتمع من أمور تحتاج إلى تحرير القول فيها من الناحية الشرعية، فقام بها أحسن قيام، ووقف موقفَ الفقيه الذي ينظر إلى مقاصد الشرع ويتأمل في النصوص ويستنبط منها ما فيه صلاح العباد والبلاد.
والأمر الثاني الذي نلاحظه في هذه الرسائل أنه يردُّ على من يثير الشغب في المسائل المجمع عليها، مثل ما فعل الجيراجي في كتابه "الوراثة في الإسلام" الذي أراد أن يهدم به نظام المواريث، فانبرى له الشيخ، وألَّف في الردّ عليه، وأطال في مناقشته، وفسَّر آيات المواريث تفسيرًا صحيحًا يجلو كلَّ غبار، وينسف ما بناه الجيراجي في كتابه المذكور. وهذا يدل على غيرته وحميته للدين، ودفاعه عن القرآن والسنة وإجماع الأمة.
وهكذا ردّ في رسالته عن الربا على من يُجوِّز بعض أنواعه، مثل فائدة البنوك والبيع المسمَّى ببيع الوفاء أو بيع العهدة، وأطال المناقشة والحوار معه، وذكر مفاسدها من وجوه.
أما المسائل الخلافية مثل سنة الجمعة القبلية، وعدد الركعات في قيام رمضان، والوتر، وإعادة الصلاة، وإدراك الركعة بإدراك الركوع وغيرها، فقد تأنّى فيها الشيخ، ونظر في الأدلة الواردة في هذه المسائل، وتكلم على الأحاديث تصحيحًا وتضعيفًا، ثم تطرَّق إلى دلالتها وبيان اختلاف العلماء فيها، ورجَّح ما رآه راجحًا دون القدح في المذاهب أو الأئمة. يقول في آخر رسالته في الوتر:"هذا ما اقتضاه قول الحق الذي أوجبه الله على كلِّ مسلم على مَبْلغِ علمه ومقدار فَهْمِه. وليس فيما قلنا غضاضة على أئمة مذهبنا، فإنهم حَفَظَة الدين وأئمة اليقين، وهم جبال العلم وبحاره، وشموس الحق وأقماره، وإنما معنا آثار فوائدهم وأسْقاطُ موائدهم".
ويقول في آخر رسالته في عدم إدراك الركعة بإدراك الركوع: "لا يُنكَر أن للقول بالإدراك قوَّةً مَّا لذهاب الجمهور إليه، فلا لومَ على مَن قوِي عنده جدًّا فقال به. فأما أنا فلا أرى له تلك القوة، والأصل بقاء النصوص على عمومها".
ويقول في قيام رمضان: "أما الحدّ المحتَّم فلا، وأما الأفضل فالاقتصار على الإحدى عشرة، وفي بعض الليالي ثلاث عشرة، إلا إذا شقَّ عليهم إطالتها حتى يستغرق الوقتَ الأفضل، فلهم أن يزيدوا في العدد، على حسب ما يخفُّ عليهم، وعلى هذا جرى عمل السلف".
وبمثل هذه الآراء النيِّرة يُنهي كتاباته في المسائل الخلافية، فهو مع ترجيحه لرأي معيَّن يجعل الأمر واسعًا، فلا يتعصب لمذهب ولا يتشدد في الدفاع عنه. وقد كانت نشأة الشيخ على المذهب الشافعي، وله اطلاع واسع على نصوص الإمام الشافعي في كتاب "الأم"، وأقوال الشافعية في كتب الفقه، إلّا أن ذلك لم يمنعه من مناقشة الإمام وأصحابه في بعض المسائل، مثل سنة الجمعة القبلية، حيث خالف المذهب وناقش الأصحاب، وردّ على جميع ما استدلوا به. وقال في آخره: "مَن كان منكم يحبُّ ثبوتها انتصارًا لمن أثبتها من العلماء فهذا غرض آخر، ليس من الدين في شيء. والعلماء مأجورون على كل حال، وليس في المخالفة لهم تبعًا للدليل غضاضةٌ عليهم، إذ ليس منهم من يُبرِّئ نفسَه عن الخطأ ويدَّعي لنفسه العصمة. ومَن كان منكم يحبُّ ثبوتها لكونه من المقلدين للمذهب القائل بثبوتها، فهذا لا ينبغي له أن يُعوِّل على ثبوتها من حيث الدليل وعدمه، لأنه مقلِّد لا يَسأل عن حجة، ولا يُسأل عن حجة، فهو ملتزم لقول من قلَّده. فإن تاقت نفسُه إلى
الاحتجاج فليوطِّن نفسه على قبول الحجة، ولو على خلافِ قولِ إمامه، وإلَّا وقع في الخطر من تقديم هواه على ما جاء به الرسول، وجَعْلِ كلامِ مقلَّدِه أصلًا يُرَدُّ إليه ما خالفه من كلام الله ورسوله. والله يهدي من يشاء إلى سراطٍ مستقيم".
كان الشيخ عالمًا بالحديث والرجال والعلل، وتغلب عليه هذه النزعة عندما يذكر الأحاديث، فيتكلم عليها تصحيحًا وتضعيفًا، ويأتي بالطرق والشواهد، ويترجم لرجال الأسانيد، ويشير إلى بعض العلل الخفية، ويُعقِّب أحيانًا على الحافظ ابن حجر والنووي وغيرهما من النقّاد. والأمثلة على ذلك كثيرة في هذه الرسائل، ويكفي مراجعة رسالته "سنة الجمعة القبلية"، و"هل يُدرِك المأموم الركعة بإدراكه الركوع مع الإمام"، و"القبلة وقضاء الحاجة"، وبحث في حديث قيس بن عمرو في صلاة ركعتي الفجر بعد الفرض، ومسألة إعادة الصلاة، وبحث في حديث معاذ بن جبل في صلاته بقومه، وبحث في وقت تشريع ونزول آية صلاة الخوف، وغيرها، فقد أطال الشيخ فيها الكلام على نقد الأحاديث الواردة في الباب، وناقش بعض العلماء في القديم والحديث من الذين تكلموا عليها وعلى فقهها، ووفَّق بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض. وقلَّما تخلو رسالة من هذه الرسائل الفقهية من فائدة حديثية، أو تنبيه على إشكال وحلّه، أو تعقيب على وهم، أو كلام على الرجال والعلل، يكون من بنات فكره ودقائق استنباطه.
وإلى جانب تمكُّنه من علوم الحديث والرجال كان واسعَ الاطلاع على كتب التراث في فنون مختلفة، وقد استفاد منها وأحال إليها كثيرًا في هذه الرسائل، ولو قرأنا مثلًا رسالته "مقام إبراهيم" و"توسعة المسعى" و"سير
النبي صلى الله عليه وسلم في الحج" و"مسألة منع بيع الأحرار" نعرف سعة اطلاعه على كتب التاريخ والتفسير واللغة والفقه وغيرها، وقد مكَّنه الاشتغال بتحقيق الكتب والعمل في المكتبة من الاطلاع على أغلب ما وصل إلينا من كتب التراث، يأخذ منها ما يشاء ويدع ما يشاء مع التنبيه على ما فيها من أوهام وأخطاء.
ويميل الشيخ كثيرًا إلى أسلوب الحوار والمناقشة، لتوضيح بعض المسائل والردّ على بعض الشبه والإشكالات، وقد ألَّف بعض رسائله بصورة أسئلة وأجوبة، ومنها في هذه المجموعة أسئلة وأجوبة في المعاملات، بسّط فيها مسائل البيوع وسهَّلها، وهي من أكثر الأبواب الفقهية تعقيدًا وصعوبةً.
وكان للشيخ خبرةٌ في القضاء عدة سنوات، فاستطاع بذلك أن ينقد بعض الأحكام التي صدرت من أحد القضاة، ويبيِّن ما فيها من خللٍ من الناحية القضائية، ومخالفةٍ لحكم الشريعة، كما في الرسالتين (24، 33) ضمن هذه المجموعة. وكذلك في مسألة منع بيع الأحرار انتقد صنيع القضاة في الحكم بالرق على شخص دون النظر في ذلك من جميع الجوانب، وردَّ على أولئك الذين توهَّموا من بعض النصوص في كتب الفقه تأييدًا لمطلبهم، وعكَف على هذه الكتب واستخرج منها نصوصًا كثيرة من أبواب مختلفة تُؤيّد ما ذهب إليه، وبيَّن بعض أحكام الرقّ في الشريعة بتفصيل.
وقد ظهر لي في أثناء تحقيق هذه الرسائل أن الشيخ لا يُصرِّح غالبًا باسم الشخص المردود عليه من المعاصرين، فينقل كلامه ويناقشه دون أن يجرح شخصه أو يفضحه، وإذا ذكر اسمه ذكره بكل ثناء وتبجيل دون تشهير وتجهيل، وهذه عادة مطّردة للشيخ في سائر مؤلفاته مع جميع المعاصرين له
حتى مع أشدّ المخالفين لأهل الحديث، كما هو معروف.
ويبدو جليًّا من قراءة هذه المجموعة وغيرها من مؤلفاته أن الشيخ كان يستحضر نصوص كتاب "الأم" للشافعي، وتحقيقات الحافظ ابن حجر في "الفتح"، وتراجم الرجال في "الميزان" و"اللسان" و"التهذيب"، وآثار الصحابة والتابعين في "تفسير" الطبري، فهو كثير الاعتماد عليها والإحالة إليها في بحوثه، ويعقّب عليها أحيانًا ويستدرك. كما أنه كثير التتبع لـ "مسند" الإمام أحمد و"السنن الكبرى" للبيهقي لمعرفة طرق الحديث وألفاظه، أما الصحيحان والسنن الأربع فقد كانت منه على طرف الثمام، يعتمد عليها بالدرجة الأولى، ويستنبط منها ما يفيد في المسألة المبحوث عنها.
هذه بعض الملامح العامة لهذه الرسائل الفقهية، وهناك استطرادات وفوائد كثيرة منثورة في أثنائها، فلا يغتر القارئ بعناوين الرسائل التي لا تُبيِّن له كلَّ ما بداخلها، وعليه أن يقرأها بعناية، ويجني ثمارها بنفسه، ويستفيد من أسلوب الشيخ وطريقته، ويستمتع بمناقشته واستنباطه، ويطّلع على آرائه ونظراته، ويقتبس من دراساته وتحقيقاته.