المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[4 - اقتضاء النص] - الكافي شرح أصول البزدوي - جـ ١

[الحسام السغناقي]

الفصل: ‌[4 - اقتضاء النص]

وحاصل ذلك أنا لما أثبتنا فيه وجه دلالة النص وبينا المساواة بين وجوب الكفارة بالجماع وبين وجوب الكفارة بالأكل العمد والشرب العمد بحيث لم يبق لمنصف شبهة. بعد ذلك لم يضرنا خلاف من يخالفنا فيه، وإن كان هو من أهل الاجتهاد، فكان التقصير من قبله لا في حق ثبوت دلالة النص.

[4 - اقتضاء النص]

(وأما الثابت باقتضاء النص) أي الحكم الثابت باقتضاء النص (فما لم يعمل إلا بشرط تقدم عليه) أي فما لم يعمل النص وهو المقتضي إلا بشرط وهو المقتضي تقدم عليه أي تقدم اشرط على النص، وهو المقتضي.

قوله: (وأما الثابت باقتضاء النص فما لم يعمل إلا بشرط تقدم عليه) أي وأما الحكم الثابت باقتضاء النص فهو الحكم الذي لم يعمل النص فيه إلا بشرط تقدم على ذلك النص، وحذف الضمير الراجع إلى الحكم الموصوف

ص: 270

كان نظير حذف الضمير الراجع إلى الموصوف في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ} أي لا تجزي فيه نفس؛ لأن المقتضى هو الذي ثبت زيادة على النص شرطًا لصحة المقتضى، فكان المقتضى ثابتًا ضرورة صحة النص؛ إذ لا صحة للنص بدونه، فتثبت المقتضى شرطًا لصحة لمقتضى بمنزلة الشروط، والمقتضى بمنزلة الشرط؛ إذ لا صحة للمشروط بدون الشرط، فكان المقتضى تبعًا للمقتضي كالشرط تبع للمشروط، فيبثث بقدر ما يصبح النص، ولهذا قلنا: إن المقتضى لا عموم له؛ لأن ثبوته بطريق الضرورة، ولا ضرورة في الزائد على الخصوص، فلا يثبت العموم جريًا على الأصل؛ لأن الأصل أن ما لا يكون مذكورا لا يكون مذكورًا، وهو معنى قول المشايخ: ما ثبت بالضرورة يتقدر بقدر الضرورة، فإذا ثبت أن ثبوت المقتضى لصحة المقتضي يثبت بما هو يصلح تبعًا لا أصلًا.

ولهذا قال علماؤنا- رحمهم الله:- إن الكفار لا يخاطبون بالشرائع؛ إذ لو كان الكافر مخاطبًا بالشرائع يكون الإيمان ثابتًا بطريق الاقتضاء، والإيمان لا يصلح أن يكون تبعًا لما هو تبعه؛ لأن جميع الأحكام الشرعية من العبادات تبع للإيمان، الشيء لا يصلح أن يكون تبعًا لما هو تبعه.

ولهذا قلنا: إن المولى إذ دفع رقبة إلى عبده وقال: كفر عن كفارة يمينك بإعتاق هذا العبد. لم يثبت عتق العبد المخاطب بهذا الكلام، وإن كان هذا

ص: 271

الكلام مقتضيًا عتقه ضرورة؛ لما أن العبد لا يصير مالكًا للتكفير بالإعتاق إلا بعد عتقه أولًا، فلا يثبت العتق بمقتضي قوله: كفر عن كفارة يمينك بإعتاق هذا العبد؛ لأن الأهلية للإعتاق إنما تثبت بعد حرية نفسه أولا وهي أصل، فلا يجوز أن تثبت تبعًا لما هو تبعه وهو التكفير بالإعتاق، وإذا ثبت أن المقتضى تبع للمقتضى كان المنظور إليه الأصل وهو المقتضى لا المقتضى، فلذلك يثبت المقتضى بوصف المقتضى لا بوصف نفسه حتى لا يشترط في التمليك الثابت بطريق الاقتضاء ما يشترط في التمليك ألقصدي من الإيجاب والقبول، وكذلك لو كان الأمر بالإعتاق منه في قوله: أعتق عبدك عني على ألف درهم. ممن لا يملك الإعتاق كالصبي لم يثبت البيع بهذا الكلام، فكان الاعتبار للمتبوع وهو المقتضي لا للتبع وهو المقتضي، فإذا ثبت هذا لا يفترق الحال بين أن يكون التبع مقدورًا أو مصروحًا كان الاعتبار للمتبوع لا للتبع.

ألا ترى أن الحيوانات وغيرها مما يقع به القوام خلقت للآدمي، فكان الآدمي أصلًا وغيره تبعًا، فلذلك كان العبرة له لا لها.

(فصار هذا) أي فصار حكم المقتضي (مضافًا إلى النص بواسطة المقتضي)، فلذلك كان كالثابت بالنص؛ لأنه صار المقتضي حكمه حكمًا للنص، فكان كالعتق الثابت للقريب بالشراء، فإن العتق هناك حكم حكم الشراء؛ لأن حكم الشراء الملك، وحكم الملك في القريب العتق، فالملك بحكمه مضاف إلى الشراء، فلذلك قيل: شراء القريب إعتاق بهذا الطريق لا أن يكون الشراء موضوعًا للإعتاق؛ لأن الشراء موضوع لإثبات الملك لا

ص: 272

لإزالته، فيستحيل أن يكون ما هو موضوع للإثبات موضوعًا للإزالة.

وأما المحذوف: فما ثبت حذفه من الكلام بطريق الاختصار، وهو ثابت لغة؛ لأن الكلام يتنوع إلى مختصر ومطول، والمختصر مثل المطول في إفادة المراد.

ألا ترى أنه لا فرق بين قولهم: اضرب. وبين قولهم: افعل فعل الضرب، وكذلك لا فرق بين قولهم: لفلان علي تسعمائة. وبين قولهم: لفلان علي ألف إلا مائة. فثبت أن المحذوف من باب اللغة، ولهذا يكون عامًا بلا خاف حتى إنه لو قال لامرأته: طلقي نفسك. ونوى به الثلاث يصح؛ لأن ذلك مختصر قوله: افعلي فعل الطلاق، وذلك يصلح للعموم فكذا هنا، وتقرير هذا في قوله تعالى:{وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ} إن الأهل محذوف ولا مقتضى؛ إذ لو كان مقتضى لكان المسئول هو القرية لا الأهل لما ذكرنا أن المقتضى هو الأصل، والحكم مضاف إلى الأثل، والمسئول هو الأهل هنا دون القرية، فلما لم تصلح القرية أن تكون مسئولة لم يفترق الحال بين أن يكون الأهل محذوفًا أو مصارحا في أن السؤال يتحقق من الأهل لا من القرية، إلا

ص: 273

أنه إذا كان محذوفًا أضيف السؤال إلى القرية بطريق حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وكذلك في قوله- عليه السلام:"رفع الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".

ص: 274

وفي قوله- عليه السلام: "الأعمال بالنيات". الحكم محذوف فيهما لا مقتضى؛ إذ لو كان مقتضى لكان المرفوع هو الخطأ والنسيان لما عرف أن المثبت هو المقتضى، وذلك غير مستقيم؛ إذ الخطأ والنسيان واقعان، فكان الحكم محذوفا لا مقتضى، والمحذوف هو الأصل في باب الحذف، والمقتضى تبع في باب الاقتضاء، فكانا على طرفي نقيض، فكان ثبوت المقتضى تبع في باب الاقتضاء، فكانا على طرفي نقيض، فكان ثبوت المقتضى لصحة المذكور وصلاحه لما أريد به، فيكون الصالح لما أريد به من الحكم المقتضي المذكور لا المقتضى المقدر، والمحذوف هو الصالح لما أريد به من الحكم لا المذكور، كالأهل في قوله:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} فإن الصالح لما أريد به من الحكم وهو الاستعلام والاستخبار هو الأهل لا القرية، وكذلك الصالح لما أريد به من الحديث الحكم لا الخطأ والنسيان، وهو معنى ما قال في الكتاب.

(وعلامته) أي وعلامة المقتضى المقدر (أن يصح به المذكور ولا يلغى عند ظهوره، ويصلح لما أريد به)، يعني أن المقتضى إذا صرح يكون المقتضي.

ص: 275

المذكور صحيحًا كما كان قبل تصريح المقتضى، وهو صالح لما أريد به مع تصريح المقتضى، والمحذوف إذا صرح ينقطع ما أضيف إلى المذكور على ما ذكرنا.

فإن قيل: لما جمع المصنف- زحمة الله- هذه الألفاظ، وهي قوله: أن يصح به المذكور ولا يلغى عند ظهوره، ويصلح لما أريد به، وهذه قضيات متلازمة؛ إذ يستفاد من واحدة منها ما يستفاد من الأخريين؟

قلنا: لا نسلم؛ لأن لكل واحدة منها فائدة غير الفائدة التي من الأخرى، والتي استفيدت من إحداها لا تستفاد من الأخرى. بيان ذلك هو أن الشيء إذا كان صحيحًا في نفسه لا يلزم أن يكون صالحا لما أريد به لا محالة، بل قد لا يصلح لما أريد به وإن كان صحيحا في نفسه، وكذلك عكسه غير لازم أيضًا، أعني يجوز أن يكون الشيء صاللحًا لما أريد به، وهو غير صحيح في نفسه.

ألا ترى أن من صلى مراءاة للناس عند استجماع شرائط جواز الصلاة كانت صلاته صحيحة مع أنها غير صالحة لما أريد منها من الحكم، وهو ابتغاء مرضاة الله تعالى وثواب الخير في الآخرة، وكذلك في عكسه الملازمة غير ثابتة أيضًا، فإن من توضأ بماء نجس وهو لا يعلم بنجاسته مع أنه لم يقصر في الطلب وصلى كانت صلاته صالحة؛ لما أريد بها من ثواب الخير في الآخرة وصلاته غير صحيحة.

علم بهذا أن الصحة مع الصلاحية لما أريد به من الحكم غير متلازمين، ولأنه أراد بقوله: ويصلح لما أريد به. الملك؛ فإنه صالح للإعتاق بخلاف ما

ص: 276

قدر فيه غير الملك، كالنكاح والطلاق مثلا لا يكون هو صالحا للإعتاق.

وأما قوله: "ولا يلغى عند ظهوره" فهو غير مذكور في بعض النسخ، فلا يلزم السؤال حينئذ، ولئن ثبت فالمراد به القصد إلى الفرق بينه وبين المحذوف بطريق التصريح، والفرق بطريق التصريح، والفرق بطريق التصريح أقوى في البيان، ومقام الفرق بين المتساويين مقام اختيار أقوى البيانين لإزالة الالتباس بينهما بآكد الوجوه.

أو نقول: على تقدير التسليم بأن هذه قضيات متلازمة إن ذكر هذه القضيات المتلازمة لبيان خاصية المقتضى لا لبيان تنويع المقتضى بأنه نوعان أو أنواع كما في قوله تعالى: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} هذا لبيان خاصية الإشراك بالله أن لا يقوم على صحته حجة لا لبيان أنه نوعان، وكما في قوله تعالى:{وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} هذا بيان خاصية الطائر لا أن الطائر نوعان، فكذا ها هنا كان معناه أن خاصية المقتضى أن يصح به المذكور ولا يلغى عند ظهور ويصلح لما أريد به لا بيان أنه نوعان.

(لم يتحقق في القرية ما أضيف إليها) وهو السؤال؛ لأن الأهل إذا صرح به ينتقل السؤال المضاف إلى القرية إلى الأهل الذي صرح به، فلما لم يبق الكلام على حاله بعد التصريح، علم أنه كان من باب الحذف والإضمار

ص: 277

لا من باب اقتضاء.

(الأمر بالتحرير للتكفير مقتض للملك ولم يذكر) أي الملك لم يذكر ولو ذكره بقوله: فتحرير رقبة مملوكة بقى قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} كما كان أي كان صالحا لما أريد به. فكذا إذا قدر مذكورا بقى قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} صالحًا لما أريد به وهو التفكير.

ثم اعلم أن ما أثبت الحكم بصيغة النص مع سوق الكلام له فهو عبارة النص، والحكم الثابت به ثابت بعبارة النص، فقوله تعالى:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} عبارة عفي إيجاب النفقة، ووجوب النفقة حكم ثابت بعبارة النص، وكذلك في غيره على هذا النسق.

(والفصل الرابع في بيان أحكامها) أي الرابع من تقسيم قوله: هذا لبيان معرفة هذه الأصول لغة، وتفسير معانيها، وبيان ترتيبها، فيكون بيان الأحكام من هذه الفصول الفصل الرابع، وقوله:(وبيان ترتيبها)، فيكون بيان الأحكام من هذه الفصول الفصل الرابع، وقوله:(وبيان ترتيبها)، أي أيها راجح، وأيها مرجوح، وأيها يقدم على البعض، وقوله: في أحكامها؛ أي في الآثار الثابتة بها شرعًا، والله أعلم.

ص: 278

[باب في معرفة أحكام الخصوص]

(اللفظ الخاص يتناول المخصوص قطعًا) أي المراد بالخاص قطعًا. أي بحيث يقطع الشبهة ويقينًا أي بحيث يستقر اعتقاد القلب عليه، فكان قوله:(بلا شبهة) مؤكدًا لقوله: يقينًا؛ بذكر لازمه كقوله تعالى: {نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} (لما أريد به من الحكم) أي اللفظ الخاص بتناول المخصوص لأجل ما أريد بالمخصوص من الحكم بيان ذلك أن (قوله تعالى: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}) خاص يتناول مخصوصه وهو الأفراد الثلاثة لما أريد به من انقضاء العدة، وكذلك (قوله تعالى:{ارْكَعُوا} يتناول الميلان لما أريد به من جواز الصلاة.

(لا يخلو الخاص عن هذا) أي عن تناول المخصوص قطعًا، (وإن

ص: 279

احتمل التغير عن أصل وضعه).

فإن قيل: يجب ألا يثبت الحكم به قطعًا؛ لأنه محتمل لغير ما وضع له على ما قال في الكتاب.

قلنا: بلى محتمل، لكن الاحتمال إذا لم ينشأ عن دليل فهو غير معتبر؛ لأنه مجرد احتمال إرادة الخصوص من المتكلم وذلك غيب عنا، ولا يكلف درك الغيوب فلا تبقى له عبرة أصلًا فألحق بما ليس محتملًا في نفسه، فلذلك يثبت الحكم به قطعًا. يقرره أن الله تعالى تعبدنا بأوامره ونواهيه، فالعبادة واجبة علينا قطعًا، وإن كان احتمال غير الوجوب ثابتًا.

ألا ترى أن العقلاء بأسرهم لم يتحرزوا عن احتمال لم ينشأ عن دليل، حتى أنهم دخلوا في المسقف مع أن احتمال السقوط ثابت جزمًا، لكنه لما لم ينشأ عن دليل فلم يعتبروه.

(لكن لا يحتمل التصرف فيه بطريق البيان، لكونه بينًا لما وضع له) فكان في القول بالتصرف فيه بطريق البيان لزوم بيان المبين، وهو إثبات الثابت أو نفي المنفي وهو نفي الخفاء مع أن الخفاء منتف وهو مستحيل.

(لأنا إذا حملنا على الأطهار انتقص العدد عن الثلاث)؛ لأنه إذا طلقها في لآخر طهرها تحتسب هذه البقية عنده من العدة، فتكون العدة طهرين وبعض الثالث، فلا يكون عدد الثلاث كاملًا.

ص: 280

فإن قيل: قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} والمراد به شهران وبعض الثالث وهو عشر ذي الحجة، فجاز أن يكون ها هنا هكذا أيضًا.

قلنا: لفظة الثلاثة غير منصوصة هناك، بل فيه ذكر الأشهر وهو ليس باسم لعدد معلوم بل هو اسم عام، فيجوز أن يذكر العالم ويراد به البعض، ولا يجوز في العدد ذلك وهو أن يذكر عدد معلوم ويراد به بعضه؛ رأيت رجالا، وهو قد رأى رجلين، ولا يجوز أن يقال: رأيت ثلاثة رجال، وهو رأى رجلين.

فإن قيل: مسمى ثلاثة أطهار موجود في القرأين وبعض الثالث.

قلنا: ليس المراد من قوله: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} مسمى الطهر، بل المراد منه كمال الطهر وهو ما كان بين الدمين؛ لأنه لو كان المراد منه مسمى ثلاثة أطهار يلزم أن تنقضي العدة في ظهر واحد، بل في ثلاثة أيام، بل في ثلاثة ساعات؛ لما أن في كل يوم وفي كل ساعة مسمى الطهر موجود بدليل جواز إطلاق الطهر عليه، وحيث لم تنقض به بالاتفاق علم أن المراد به الطهر الكامل على قول من جعله أطهارًا، وبعض الطهر لا يكون طهرًا كاملًا.

ص: 281

(كالفرد لا يحتمل العدد) خلا أن الفرد قد يكون اعتباريا كاسم الجنس فإنه فرد باعتبار أنه جنس واحد بالنسبة إلى سائر الأجناس، كاسم الماء وغيره، فإنه يتناول جميع المياه باعتبار اتحاد الجنسية، حتى لو حلف لا يشرب الماء ونوى جميع المياه صدق فلا يحنث أبدًا، فإن اسم الماء اسم فرد من حيث اتحاد الجنس، وقد يكون الفرد حقيقيًا وهو القطرة من الماء، حتى أنه يحنث فيما إذا حلف لا يشرب الماء بشرب قطرة منه إذا لم يكن له نية الجميع ولا يحتمل عددا من القطرات، ولهذا لو نوى قطرتين أو أكثر منهما من القطرات لا يصدق؛ لأن ذلك اسم فرد، وما نواه عدد، والفرد لا يحتمل العدد، ثم قوله:(كالفرد لا يحتمل العدد، أعلم من قوله: (والواحد لا يحتمل المثنى)؛ لأنه لم يتعرض لعدد من

ص: 282

الأعداد، فكان متناولًا لجميع الأعداد بخلاف المثنى، (فكان هذا بمعنى الرد والإبطال) أي فكان حمل الشافعي قوله تعالى:{ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} على الأطهار بمعنى رد خاص الكتاب وإبطاله.

(فلا يكون إلحاق التعديل به) أي بالركوع.

وقوله: (بيانًا صحيحًا) متصل بقوله: (فلا يكون) على انه خبره، (بل يكون رفعا لحكم الكتاب) وهو جواز الصلاة بمجرد الركوع الذي هو عبارة عن الميلان بما يقطع اسم الاستواء من غير إلحاق التعديل به.

فإن قيل: لم لا يجعل ورود ذلك للبيان الشرعي حتى يتوقف تمام الركوع إلى الإتيان بالتعديل شرعًا؟

قلنا: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} . وقوله {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فكان ما ورد من البيان بيانًا شرعيًا؛ لأنه لا يمكن العمل به إلا بذلك البيان بخلاف ما نحن فيه، فإنه يمكن العمل به بمجرد اسم الركوع، ونحن مأمورون بامتثال ما علمنا من البيان من القرآن. قال الله

ص: 283

تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وقوله: "بخبر الواحد" أراد به قوله- عليه السلام: "قم فصل فإنك لم تصل" قال لأعرابي أخف الصلاة (لكنه يلحق به) أي يلحق التعديل بالركوع.

(فلا يصح بخبر الواحد) أي لا يصح النسخ بخبر الواحد، وهو قوله- عليه السلام:"الطواف صلاة، إلا أن الله تعالى أباح فيه المنطق".

على الوصف الذي ذكرنا أي إلحاق الفرع بالأصل.

ص: 284

فإن قيل: يشكل بالتيمم، فإنه لفظ خاص لمعنى خاص ويزاد عليه النية.

قلنا: لا يزاد بل شرط النية في التيمم مستفاد من لفظة التيمم؛ لأن الأم القصد والقصد هو النية.

فإن قلت: زيادة النية في الوضوء أيضًا مستفادة من نظم القرآن؛ لما أن قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} خرج جزاء للشرط المذكور قبله، وهو قوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} فكان تقديره حينئذ: فاغسلوا وجوهكم للقيام إلى الصلاة، ولا يعني بالنية سوى أن يكون غسل هذه الأعضاء للقيام إلى الصلاة، ولا يعني بالنية سوى أن يكون غسل هذه الأعضاء للقيام إلى الصلاة، فكانت النية موافقة للنظم.

ألا ترى أن قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطًَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} اشتراط النية عند تحرير رقبة مؤمنة للقتل الخطأ لم يكن زيادة على النص لهذا فكذا هنا.

قلت: نعم كذلك لكن اشتراط النية في جزاء الشرط فيما إذا كان ذلك الجزاء للشرط المذكور كما في آية الكفارة.

وأما إذا كان ذلك الجزاء جزًاء للشرط المذكور وشرطًا لمشروط آخر كما في

ص: 285

آية الوضوء لا تشترط النية في أن يكون هذا الشرط شرطًا لمشروطه؛ لما أن الشرط يراعي وجوده لتحقق المشروط لا وجوده قصدًا كما في اشتراط اللباس واستقبال القبلة للصلاة لا تشترط النية فكذا هنا.

قوله: "بل نسخًا محضًا"؛ لأن الكتاب اقتضى جواز الطواف بالحدث؛ لما أن الطواف ليس إلا الدوران حول البيت، فلو قلنا بأنه تفترض الطهارة يلزم نسخ الكتاب كما أن العالم الذي يتناول أفرادًا إذا جاء الناسخ لبعض الأفراد كان ذلك نسخًا محضًا. كذلك ها هنا بل أولى؛ لأن هاهنا لا يبقى الطواف أصلًا إذا وقف جواز الطواف إلى وجود الطهارة عن الحدث إذا طاف بالحدث، ولا يلزم فصل الجنابة؛ لأنا أوجبنا الإعادة باعتبار النقصان لا باعتبار الجواز، ولهذا لو رجع يحتسب به، ويجب البدنة باعتبار النقصان، كسجدة السهو في الصلاة، ووجوب الإعادة لا يدل على عدم الجواز كالصلاة إذا أديت مع الكراهة ولو لم يكن جائزًا لما سمي الثاني إعادة بل يسمى ابتداء الصلاة والطواف.

وقوله: (ليثبت الحكم بقدر دليله) لما أن الحكم نتيجة السبب فمهما كان السبب أقوى كان الحكم أقوى، ومهما كان السبب أضعف كان الحكم أضعف.

ص: 286

(وبطل شرط الولاء والترتيب والتسمية) وتفسير الولاء هو: أن يجمع بين هذه الأعضاء في الغسل في موضع واحد ولا يشغل في وسط الوضوء بعمل آخر. كذا في "المغني". واشتراط الولاء مذهب مالك،

ص: 287

والترتيب مذهب الشافعي، والتسمية مذهب أصحاب الظواهر تمسكًا بقوله عليه السلام:(لا وضوء لمن لم يسم).

فإن قيل: ينبغي أن يكون الولاء والترتيب والتسمية واجبة كما قلتم في التعديل مع الركوع والسجود.

قلنا: هذا لا يمكن؛ لأنا لو قلنا بوجوبها يلزم مساواة فرع التبع فرع الأصل، يعني لو أوجبنا الولاء والترتيب والتسمية في الوضوء كما أوجبنا التعديل في أركان الصلاة يلزم الاستواء في التبعَين مع التفرقة في الأصلين،

ص: 288

وهو أن الوضوء فرض غير مقصود؛ لأنه شرط، والركوع فرض ركن وركن الشيء أقوى من شرطه، فلذلك جعل تبع الركوع وهو التعديل واجبًا، وتبع الوضوء وهو النية وأختاها سنة؛ كيلا يلزم مساواة التبعين مع عدم مساواة الأصلين، وهو غير مستقيم، فإن غلام الوزير لابد أن يكون أدنى حالًا من غلام الملك، ولا يجوز أن يقال: ينبغي أن يكون الوضوء واجبًا لا فرضًا إظهارًا للتفاوت بين الأصل والفرع؛ لأنا نقول: عملنا بموجب هذا مرة حيث جعلناه شرطًا، وشرط الشيء تبعه، ثم لا يجوز أن يكون الواجب شرطًا لفرض؛ لأن شرط الشيء ما يتوقف عليه ذلك الشيء أي لا يكون ذلك الشيء معتبرًا بدون ذلك الشرط، فلذلك لم يصلح أن يكون واجبًا؛ لأن للفرض وجودًا بدون الواجب.

أو نقول: إن الأحاديث التي اقتضت وجوب الولاء والترتيب والتسمية لم تبلغ درجة الحديث الذي اقتضى وجوب التعديل والفاتحة في الصحة؛ فلذلك لم تقل بوجوب هذه الأشياء، وقلنا بوجوب التعديل والفاتحة.

ص: 289

(فصار مذهب المخالف غلطًا من وجهين)؛ لأن الكتاب يجب أن يكون فوق خبر الواحد، فلما سواهما (حط منزلة الخاص من الكتاب عن رتبته) وخبر الواحد يجب أن يكون دون الكتاب فلما سواهما في الرتبة (رفع خبر الواحد فوق منزلته) وهو باطل كما أن منزلة العالم فوق منزلة الجاهل، ومن سواهما في الرتبة كان ذلك منه غلطًا من وجهين.

فإن قلت: بل هذا الذي ذكره غلط من وجه واحد لا من وجهين؛ لأن حط منزلة الخاص من الكتاب عن رتبته بمقابلة خبر الواحد مستلزم رفع حكم خبر الواحد فوق منزلته، وكذلك رفع حكم خبر الواحد فوق منزلته حط لمنزلة الخاص من الكتاب عن رتبته، فلماذا قال: صار غلطًا من وجهين؟

قلت: نعم ذلك، إلا أن من أخذ أي طرف منهما كان المنظور إليه ذلك لا الذي يلزم منه، فإنه إذا حط منزلة الخاص من الكتاب عن رتبته كان المنظور إليه والملتفت له ذلك لا رفع حكم خبر الواحد، وكذلك إذا رفع حكم خبر الواحد فوق منزلته كان المنظور إليه ذلك لا حط منزلة الخاص من الكتاب عن رتبته، وبهذا الطريقة كان ذلك غلطًا من وجهين.

ص: 290

(لم يكن ذلك عملًا بهذه الكلمة)؛ لأن الغاية لا أثر لها في إحداث الحل الجديد، بل لها أثر في انتهاء المغيا عنده لا غير، كما إذا حلف لا يكلم فلانًا اليوم، وبعد مضي اليوم حل التكلم ليس بمضاف إلى اليوم، بل لما انتهى اليوم عمل الحل السابق عمله، فكذلك هاهنا انتهت الحرمة بتزوج الزوج الثاني وإصابته، وكونها محللة له بالنكاح مضاف إلى السبب السابق وهو كونها أنثى من بني آدم ليست من المحرمات.

ص: 291

(لأنها ظاهرة فيما وضعت له) وهو كون كلمة "حتى" موضوعة للغاية فحسب، (والغاية بمنزلة البعض لما وصف بها) من حيث إنه هو، كما لا وجود لبعض الشيء بدون كله، كذلك لا وجود للغاية بدون المغيا؛ ولأن الغاية صفة للمغيا.

ألا ترى أنه يقال: حرمة مغياة بغاية، وحرمة مؤبدة، والصفة لا تنفك عن الموصوف، (وبعض الشيء لا ينفصل عن كله)، إذ لو انفصل لا يكون بعضه؛ إذ لا وجود للبعض بدون الكل، ولا للكل بدون البعض، فإن وجود بعض الشيء يقتضي وجود كله، كالواحد من العشرة لما كان بعضًا للعشرة لم يتصور وجود الواحد من العشرة بدون العشرة، ولو تصور واحد بدون العشرة لا يكون هذا واحدًا من العشرة؛ لما أن وجود بعض الشيء ولا شيء محال، وإذا كان كذلك كان وجود الزوج الثاني وإصابته قبل وجود المغيا وعدمهما بمنزلة. لما أن الغاية لا عبرة لها قبل المغيا على ما يجيء في مسألة الاستشارة.

قوله: (لكنها تكون غاية)؛ للابتداء لا للاستدراك. (فتلغو قبل وجود الأصل) أي تلغو الغاية، وهي نكاح الزوج الثاني قبل وجود المغيا، وهو الطلقات الثلاث، فصار نكاح الزوج الثاني وعدمه في مسألة الهدم

ص: 292

سواء، وهذا كمن حلف لا يكلم فلانًا في رجب حتى يستشير أباه، فاستشار أباه قبل دخول رجب، ثم كلم فلانًا في رجب قبل أن يستشير أباه فيه يحنث؛ لأن استشارته أباه غاية لانتهاء اليمين، فكان استشارته أباه وعدمها قبل دخول رجب سواء، فكذلك هاهنا كان تزوج الزوج الثاني وإصابته بها قبل وجود المغيا وعدم تزوجها سواء، ولو تزوجها قبل تزوج الزوج الثاني أو قبل إصابة الزوج الثاني كانت عنده بما بقي من التطليقات فكذلك هنا.

ثم حقيقة الغاية أن ينتهي بها المغيا من غير أن تكون للغاية أثر في إثبات ما بعد الغاية من الحكم على ما ذكرنا. كما إذا حلف لا يكلم فلانًا حتى تطلع الشمس، فطلعت الشمس انتهت اليمين وبقي الكلام غير ممنوع بالإباحة الأصلية؛ لأن الغاية تبيح الكلام، فكذلك ههنا إن الحرمة الغليظة إذا انتهت بنكاح الزوج ثبت الحل الأصلي بالسبب السابق على ما ذكرنا. لا أن يكون الزوج الثاني أثبت فيها حلًا جديدًا.

(الجواب أن النكاح يذكر ويراد به الوطء وهو أصله) إلى آخره.

فإن قلت: كان الواجب على أبي حنيفة- رحمه الله وأبي يوسف إثبات أن الزوج الثاني مثبت للحل فلماذا ابتدأ مطلع نكتتيهما هذه بأن النكاح يذكر ويراد به الوطء حيث لا مناسبة لدعواهما بهذا المطلع؟

ص: 293

قلت: بل فيه مناسبة قوية، وهي أنهما يثبتان بهذا أن شرط الدخول في الزوج الثاني لإثبات الحل للأول لم يثبت أصلا بالكتاب لا أصله ولا صفته، وإنما المذكور في الكتاب النكاح لا غير، والمراد به العقد هاهنا لا الوطء، فكان الكتاب غير متعرض للوطء أصلًا، وشرط الوطء إنما ثبت بالسنن والأحاديث، ثم أينما ثبت شرط الدخول في السنة ثبت بوصف التحليل، وهم (أي محمد والشافعي ومن تابعهما) تركوا العمل بذلك الوصف الذي أثبتته السنة المشهورة، ونحن عملنا بذلك مع جعل الزوج الثاني غاية، فإن من الغايات قد تكون غاية للمغيا مع أنها تثبت حكمًا آخر، كما في قوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَاّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) فالاغتسال هاهنا منه للجنابة ومثبت لحل القربان إلى الصلاة، فكذلك هاهنا أن الزوج الثاني إذا وطئ كان منهيًا للحرمة الغليظة ومثبتًا للحل الجديد في حق الزوج الأول، ولما ثبت كونه مثبتًا للحل الجديد يثبت علمه أينما وجد شرعًا، فلذلك أثبت الحل الجديد فيما جون الثلاث أيضًا؛ لأن وطء الزوج الثاني موصوف بهذه الصفة، والصفة لا تفارق الموصوف، فأينما ثبت الموصوف ثبتت صفته.

والدليل على هذا الذي ذكرته بما ذكر المصنف من مطلع النكتة هذا بيان أن شرط الدخول لم يثبت بالكتاب أصلًا ما ذكره شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله في "أصول الفقه" بقوله: ولا خلاف بين العلماء أن الوطء من

ص: 294

الزوج الثاني شرط لحل العودة إلى الأول بهذه الآثار، فنحن عملنا بما هو موجب أصل هذا الدليل بصفته، فجعلناه موجبًا للحل، وهم أسقطوا اعتبار هذا الوصف من هذا الدليل استدلالًا بنص ليس فيه بيان أصل هذا الشرط يعني الدخول، ولا صفته. يعنى التحليل، فيكون هذا ترك العمل بالدليل الواجب له لا عملًا بكل خاص فيما هو موضوع له لغة.

وذكر في "المبسوط" في تعليل أبي حنيفة وأبي يوسف- رحمهما الله- قالا: إن إصابة الزوج الثاني بنكاح صحيح تلحق المطلقة بالأجنبية بالحكم المختص بالطلاق كما بعد التطليقات الثلاث.

وبيان هذا أن بالتطليقات الثلاث تصير محرمة ومطلقة، ثم بإصابة الزوج الثاني يرتفع الوصفان جميعًا، وتلحق بالأجنبية التي لم يتزوجها قط، فبالتطليقة الواحدة تصير موصوفة بأنها مطلقة، فيرتفع ذلك بإصابة الزوج الثاني.

(وأما فعل الوطء فلا يضاف إليها مباشرته أبدًا) أي بطريقة الحقيقة؛ (لأنه لا تحتمل ذلك).

فإن قيل: يحتمل أن فعل النكاح بمعنى الوطء أضيف إليها مجازًا لوجود

ص: 295

التمكين إليه كما أضيف الزنا غليها كذلك.

قلنا: لو ترك الحقيقة في موضوع باعتبار عدم إمكان الحمل على الحقيقة لا يلزم أن تترك الحقيقة عند إمكان الحمل عليها، ففي قوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} لم يمكن العمل بحقيقته فحمل على مجازه، وأما هاهنا فالعمل بحقيقة النكاح الذي هو الوطء بأن أضيف فعل النكاح الذي هو الوطء إلى الزوج، وأضيف مجاز النكاح الذي هو العقد- لأنه سببه- إلى المرأة ممكن؛ فلذلك أضفنا حقيقة النكاح إلى الزوج.

(ثم نكحت بعبد الرحمن بن الزبير) - بفتح الزاي- فعيل من الزبر وهو: الزجر، والمنع. كذا في المغرب. وبخط الإمام تاج الدين الزربوخي- رحمه الله: الزبير- بفتح الزاي- من يهود قريظة.

ص: 296

وأسلم ابنه عبد الرحمن بن الزبير، روى عنه ابنه الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير، فاسم ابنه بالضم، واسم أبيه بالفتح.

("لا حتى تذوقي من عسيلته") العُسيلة: تصغير العَسلة، وهي القطعة من العسل، وقد ضرب ذوقها مثلًا لإصابة حلاوة الجماع ولذته، وإنما صغرت إشارة إلى القدر الذي تحل يعنى تلك الحلاوة، وإن قلت تثبت الحل. ذكره في "المغرب".

(وفي ذكر العود دون الانتهاء) أي وفي ذكر رسول الله- عليه الصلاة السلام- لفظ العود وتركه لفظ الانتهاء الذي هو مدلول الكتاب بقوله: {حَتَّى تَنكِحَ} إشارة إلى ذوق العسيلة يعني لم يقل النبي- عليه السلام: تريدين أن تنتهي تلك الحرمة التي تثبت في الكتاب مغياة إلى إصابة الزوج الثاني؟ لما

ص: 297

أنه لو ذكره كذلك لما علم كون الزوج الثاني مثبتًا حلًا جديدًا. بل علم انتهاء تلك الحرمة بدخول الزوج الثاني لا غيرن ولما ذكر العود وغيا عدمه إلى غاية الذوق علم أن الزوج الثاني محلل؛ لأنه غيا عدم العود إلى ذوق العسيلة فينتهي عدم العود بالذوق ويجيء العود لا محالة، والعود هو الرجوع إلى الحالة الأولى، والعود الآن ثبت فيكون ثابتًا به أي بذوق العسيلة بخلاف أصل الحل؛ لأنه كان ثابتًا قبل الحرمة الغليظة، وسبب ذلك كونها من بنات آدم- عليه السلام ليست من المحرمات إلا أن حكمه تخلف باعتراض الحرمة الغليظة، فإذا انتهت الحرمة الغليظة أمكن أن يقال: يثبت الحل بالسبب السابق، وهو كونها من بنات آدم ليست من المحرمات.

فأما العود فلم يكن ثابتًا قبل ذلك وثبت الآن، فيكون حادثًا به أي بذوق العسيلة.

(لعن الله المحلل والمحلل له) سمي الزوج الثاني محللًا، والمحلل من

ص: 298

يثبت الحل كالمحرم من يثبت الحرمة، والمبيض من يثبت البياض، فأينما وجد الزوج الثاني ثبت له هذه الصفة وهي التحليل.

فإن قيل: الحل ثابت للزوج فيما دون الثلاث، فكيف يثبت الزوج الثاني الحل إذ في إثباته الحل إثبات الثابت وهو ممتنع كنفي المنفي؟

قلنا: لا كذلك؛ لأن في هذا يثبت شيئًا لم يكن هو ثابتًا قبل هذا، وهو أن الزوج الأول يملك الطلقات الثلاث بهذا التحليلن وكان يملك قبل هذا التطليقتين، فعلم بهذا أن هذا الحل غير الحل الذي كان قبل التحليل.

وذكر في "الأسرار": التطليقة الواحدة إن لم توجب حرمة فهي بغرض أن توجب، ولأنهما يقولان: إن الوطء لما رفع الحرمة الثابتة بالحرمة الغليظة منع ثبوتها إذا قارن سبب ثبوت الحرمة بالطريق الأولى؛ لأن المنع أسهل من الرفع.

أو نقول: إن إثبات الثابت إنما لم يعتبر إذا لم يفد شيئًا، أما إذا أفاد كان معتبرًا.

ألا ترى أن شراء الإنسان ماله بماله لا يصح؛ لأن فيه إثبات الثابت وهو غير مفيد، ثم إذا اشترى ماله من المضارب يصح وإن كان فيه شراء ماله بماله؛ لأنه بالشراء هذا يحصل ملك التصرف لنفسه في ذلك المال، وكذلك إذا ضم عبده مع عبد غيره واشتراهما، فإنه يصح البيع والشراء حتى انقسم

ص: 299

الثمن عليهما لما أنه مفيد في جواز العقد في الآخر، فكذلك هاهنا إثبات الثابت في هذه الصورة مفيد؛ لأن الحل قبل هذا كان يزول بالطلقة أو بالطلقتين، وبعد الزوج الثاني هاهنا لا يزول الحل إلا بالثلاث، فكان مفيدًا فيصح.

وقال الإمام بدر الدين الكردري- رحمه الله في جواب هذه الشبهة: إن الحل وإن كان ثابتًا فهو ناقص بدليل أنه لا يمكن أن يورد عليها العقد الثلاث وكانت فيما قبل محلًا للعقد الثلاث، دل أن الحل انتقص فكان كحل الأمة، فإنها لما لم تكن محلًا لإيراد العقد الثلاث عليها قلنا: إن حلها ناقص عن حل الحرة، وإذا كان كذلك فالزوج الثاني يتم هذا الحل الناقص، فثبت أن الزوج الثاني لا يثبت الثابت، بل يثبت ما ليس بثابت.

فإن قيل: فعلى هذا ينبغي أن يرد عليها خمس تطليقات؛ لأن التطليقتين كانتا ثابتتين، وتثبت ثلاث تطليقات بالحل الجديد.

قلنا: نعم كذلك، لكن التطليقتين عملتا عمل أربع تطليقات، وبقيت تطليقة واحدة كالمعتدة إذا تزوجت بزوج آخر ودخل بها الزوج الثاني ثم فارقها بعد ما مضى حيضة من العدة الأولى تجب عليها ثلاث حيض أخر، وبقيت حيضتان من العدة الأولى، فكانت خمس حيض. إلا أنها إذا حاضت حيضتين انقضت العدة الأولى واحتسبت من العدة الثانية أيضًا فبقى عليها حيضة أخرى لإتمام العدة الثانية.

ص: 300

وقوله: (ومن صفته التحليل) أي ومن صفة الدخول (وأنتم أبطلتم هذا الوصف).

بيان هذا أن الكتاب يقتضي انتهاء الحرمة الغليظة، ولا يتعرض أن هذه الغاية- وهي ذوق العسيلة- هل هي مثبته للحل أم لا؟ فنعمل بموجب الغاية وهو انتهاء الحرمة الغليظة، ونثبت للغاية صفة الإثبات على وجه لا يتعرض الكتاب، وجاز أن تكون الغاية منهية ومثبتة- كما في قوله تعالى:{وَلا جُنُبًا إِلَاّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} فيكون الاغتسال منهيًا الجنابة ومثبتًا الطهر. دل عليه قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} فكذلك هاهنا ذوق العسيلة منه ومثبت للحل بدليل آخر لا يمكن رده، فإذا عملنا بما عملتهم وأثبتنا شيئًا آخر وهو إثبات الحل الجديد الذي سكت عنه الكتاب فلم يكن ما ذكرنا معارضًا للكتاب، وما ذكرتم ترك لما ذكرنا من الدليل وهو نص الخاص فإذن التارك للخاص أنتم لا نحن، وهذا لأن الدخول ثبت زيادة على كتاب الله تعالى بالإجماع بالحديث المشهور ومن صفته التحليل، فكان ما قاله محمد والشافعي إبطالًا لحكم الحديث؛ لأن الحديث يقتضي أن يكون الزوج الثاني محللًا، وهما أبطلا هذا الحكم عملًا بما هو ساكت عنه نص الكتاب، وأبطلا وصف التحليل عن دليله الذي هو الدخول؛ لأن الحديث المشهور اقتضى أن يكون وصف التحليل ثابتًا بدخول الزوج الثاني أينما وجد، وهما

ص: 301

ذلك.

وقوله: (ووصفته جميعًا) أي التحليل.

ومن ذلك قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} أي ومن العمل بالخاص على قولنا: وترك العمل به على قول الشافعي حكم هذه الآية، وهو: أن الخلع عندنا طلاق، وعند الشافعي فسخ لا طلاق، فمثمرة الفسخ هي ثبوت الفرقة بين الزوجين من غير نقصان العدد في الطلاق بخلاف الطلاق، وقوله

ص: 302

تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} أي التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة، فكان قوله:{مَرَّتَانِ} أي دفعتان مرة بعد أخرى، فإن من أعطى إلى آخر درهمين بمرة واحدة لم يجز أن يقال: إعطاه مرتين حتى يعطيه دفعتين.

وقيل: قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} وإن كان ظاهره الخبر فمعناه الأمر كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} ؛ لأنه لو حمل على الخبر يؤدي إلى الخلف في خبر الله تعالى؛ لأن الطلاق قد يوجد على وجه الجمع، فدل أن المراد منه الأمر كأنه قال: طلقوا مرتين متى أردتم الطلاق والآية حجة لنا على الشافعي في كراهة الجمع؛ لأن الله تعالى أمرنا بالتفريق. كذا في "شرح التأويلات".

وقال في "مهذب الترجمان": {الطَّلاقُ} أي الطلاق الذي يملك فيه الرجعة {مَرَّتَانِ} في الجملة.

وقوله: (ذكر الطلاق مرة ومرتين) أي مرة قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} ومرتين بهذه الآية ليس المراد أنه ذكر مرة في الآية الأولى، ثم ذكر المرتين في الآية الثانية؛ لأنه حينئذ يلزم أن تكون ثلاث تطليقات، وبعد التطليقات لا تصح الرجعة، والرجعة مذكورة هاهنا. بل المراد ذكر الطلاق مرتين في الجملة.

يقال بالفارسية: يكبار كفتمت، ودوبار كفتمت يعني مجموع وي

ص: 303

دوبارست فمعنى قوله: الطلاق مرة مرتين؛ وأعقبهما بذكر الرجعة هو: أن الله ذكر الطلاق مرة بقوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنفُسِهِنَّ} .

وذكر عقيبه الرجعة بقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} ثم ذكر الطلاق ثانيًا بقوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} وذكر أيضًا عقيبه الرجعة بقوله: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} وإنما ذكر هكذا ليعلم أن الرجعة كما تكون بعد الطلاق الواحد كذلك تصح بعد الطلاقين.

(ثم أعقب ذلك الطلاق بالخلع بقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} بدأ بذكر فعل الزوج) في أول الآية (وهو الطلاق)؛ إذ الطلاق اسم فعله وزاد في آخر الآية فعل المرأة بقوله: {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وتجب إفراد المرأة بالافتداء بالمال تخصيصها بالمال وهذا لأنها هي التي تشتري بضعها من الزوج، فكان الثمن على المشتري.

وقوله: (وتقرير فعل الزوج على ما سبق) أي على الوصف الذي سبق وهو الطلاق؛ لما أن الخلع يوجد منهما؛ لأن المرأة لا تستبد به، وقد ذكر فعل

ص: 304

المرأة وسكت عن فعل الزوج، فكان تقريرًا على ما سبق من فعل الزوج على الطلاق.

فإن قيل: قال الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} ثم قال في حق الخلع {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ثم قال بعد ذلك: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ} ولو جعلنا الخلع طلاقًا صارت التطليقات أربعًا، ولا يكون الطلاق أكثر من ثلاث؛ فلذلك حمل الشافعي الخلع على الفسخ دون الطلاق، ولأن النكاح عقد محتمل للفسخ حتى يفسخ بخيار عدم الكفاءة وخيار العتق وخيار البلوغ، فيحتمل الفسخ بالتراضي في الخلع أيضًا.

قلنا: أما الجواب عن الأول؛ فإن الله تعالى ذكر التطليقة الثالثة بعوض وبغير عوض، فبهذا لا يصير الطلاق أربعًا. كذا في "المبسوط" فكان الخلع هو الطلقة الثالثة، فكان طلاقًا بالمال، أو الطلقة الثالثة مكان الخلع وهو الطلقة بلا مال، فعلى هذا لا يصير الطلاق أربعًا.

ص: 305

أو نقول: على تقرير هذا الكتاب هو أن الله تعالى ذكر الافتداء بالمال ولم يذكر فعل الزوج، فلابد من تقرير فعل الزوج؛ لأن الخلع يوجد منهما وفعل الزوج قد سبق في صدر الآية، فصار الطلاق نوعين: طلاقًا بمال وطلاقًا بغير مال، فوصل الطلقة الثالثة بالطلاق بالمال، فكانت التطليقات ثلاثًا لا أربعًا.

أو نقول: المراد بقوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} بيان شرعية الرجعة بعد الطلاقين لا وقوعهما، يعني لو وقع الطلاقان ثبتت الرجعة كما لو وقع طلاق واحد، فكان هذا إخبارًا عن شرعيته لا إخبارًا عن وقوعه، وكذلك من ذكر الخلع بيان شرعية الخلع وكونه طلاقًا، وكذلك من قوله تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَه} بيان الحرمة الغليظة بعد الطلقات.

والدليل عليه أنه ذكر حكم الطلاق في مواضع أخر، فلو كان المراد منه الوقوع كان زائدًا على الثلاث لا محالة.

وأما الجواب عن الثاني فنقول: النكاح لا يحتمل الفسخ بعد تمامه.

ألا ترى أنه لا ينفسخ بالهلاك قبل التسليم، وأن الملك الثابت به ضروري لا يظهر إلى في حق الاستيفاء، وأما الفسخ بسبب عدم الكفاءة فسخ قبل التمام فكان في معنى الامتناع عن الإتمام، وكذلك في خيار العتق والبلوغ.

وأما الخلع فيكون بعد تمام العقد والنكاح لا يحتمل الفسخ بعد تمامه، ولكن يحتمل القطع في الحال، فيجعل لفظ الخلع عبارة عن رفع العقد في الحال مجازًا، وذلك إنما يكون بالطلاق، وفائدة هذا الاختلاف أنه لو خالعها بعد

ص: 306

التطليقتين عندنا لا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره، وعنده له أن يتزوجها.

يقوله: (لا يكون عملًا به) أي بخاص الكتاب وهو الطلاق المذكور في الآية.

(فأوجب صحته بعد الخلع) أي صحة الطلاق بعد الخلع. أنما قيد بقوله: بعد الخلع؛ لأن عنده يصح الطلاق بعد الطلاق على مال، فمن (وصله بالرجعى) أي ومن وصل قوله تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ} بقوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} لا بقوله: {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} لا يكون هو عاملًا بموجب الفاء التي في قوله تعالى: {فَإن طلقَهاَ} وهي للتعقيب مع الوصل.

ص: 307

فإن قلت: يشكل على هذا قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} بعد قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} وبعد الحرمة الغليظة ليس للزوجين أن يتراجعا، فلابد أن يكون هذا متصلًا بما قبله، وهو قوله تعالى:{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} فكان في هذا ترك العمل بالخاص الذي هو موجب الفاء حيث ترك وصله بما يليه.

قلت: لا كذلك، بل هذه الآية متصلة بما يليها، وهو قوله تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ} فإن المراد من قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} الزوج الثاني أي فإن طلق الزوج الثاني بعد الدخول بها {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} أي فلا إثم على الزوج الأول والمرأة. كذا في "التيسير".

علم بهذا أن الفاء معمولة هاهنا أيضًا بحقيقتها وهي الوصل بما يليها.

ص: 308

{أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} ذكر عقيب المحرمات بقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} أي ابتغاؤكم بالمال، والباء للإلصاق، فأينما وجد الطلب يكون المال ملصقًا به.

وقال الإمام شمس الأئمة السرخسي- حمه الله- فالابتغاء موضوع لمعنى معلوم وهو الطلب بالعقد، والباء للإلصاق فيثبت به اشتراط كون المال ملصقًا بالابتغاء تسمية أو وجوبًا، والقول بتراخيه عن الابتغاء ألى وجود حقيقة المطلوب- وهي الوطء كما قاله الخصم- في المفوضة إنه لا يجب المهر لها إلا بالوطء يكون ترك العمل بالخاص فيكون في معنى الفسخ له، ولا يجوز المصير إليه بالرأي.

(عن الطلب الصحيح) أي عن النكاح الصحيح، وهو احتراز عن الطلب الفاسد، وهو النكاح الفاسد؛ لأنه لا يجب فيه بنفس العقد بالإجماع، بل إذا وجد الدخول في مسألة المفوضة- بكسر الواو- وهي اختيار صاحب "المغرب" وهي: التي فوضت بضعها إلى زوجها أي زوجته نفسها بلا مهر. فإنه لا يجب المهر عند الشافعي إذا ماتت قبل الوطء مع وجود العقد

ص: 309

الصحيح وهو خلاف النص.

وقوله: (وأن تقدير العبد امتثال به) أي بإيجاب الله تعالى وتقديره، فيحتمل أن يكون هذا جواب شبهة ترد على قوله تعالى:{وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} بان يقال: الله تعالى أسند الفرض- وهو التقدير- إلى العباد، وأنتم تقولون: تقدير المهر مفوض إلى الله تعالى، ولا يجوز تقديره للعبد، فكان هذا مخالفة للنص.

ص: 310

فأجاب عنه وقال: ذلك التقدير الذي يقدره العبد امتثال منه لتقدير الله تعالى وإيجابه. يعني إن مهور النساء مقدرة معلومة عند الله تعالى وباصطلاح الزوجين على مقدر يظهر ما كان مقدرًا معلومًا عند الله تعالى لأن العباد يقدرون ما ليس بمقدر، وعلى هذا قيم الأشياء، فإن قيم الأشياء معلومة مقدرة عند الله تعالى يظهر ذلك لنا بتقويم المقومين للأشياء على مقدر، وهذا نظير كفارة اليمين، فإن ما يأتي به العبد بأحد الأشياء الثلاثة كان امتثالًا لما كان واجبًا عليه ثابتًا عند الله تعالى.

(فمن جعل إلى العبد اختيار الإيجاب) يعني من فوض إثبات المهر وتركه والتقدير فيه على أن يقدر كيف شاء وأي قدر شاء كان مبطلًا للنص الخاص، ويتفرع عن هذا أن من تزوج امرأة بخمسة دراهم كان ذلك مهرًا عند الخصم، وعندنا تجب عشرة دراهم؛ لأن المهر مقدر عندنا بتقدير الله تعالى، وأدناه عشرة دراهم؛- لقوله عليه السلام:(لا مهر أقل من عشرة دراهم).

ص: 311

فإن قلت: على هذا التقرير وقعتهم في الذي أبيتم، وهو: أنكم تأبون الزيادة بخبر الواحد على مطلق الكتاب فتقولون: الزيادة على الكتاب نسخ كما قلتم ذلك في الزيادة على قوله تعالى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} بقوله- عليه السلام: (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) لما أن القرآن يطلق على القليل والكثير فلا تصح زيادة تعيين الفاتحة عليه بخبر الواحد، فيجب أن يكون هاهنا كذلك؛ لأن اسم المال في قوله تعالى:{أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} يقع على القليل والكثير، فلا تصح الزيادة عليه بخبر الواحد؛ لأنه نسخ وذلك لا يجوز بخبر الواحد.

قلت: لا كذلكن فإن الله تعالى أشار في موضع آخر إلى أن ذلك المال مقدر. وأشار أيضًا إلى أن ذلك التقدير شرعي بقوله {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ} فيعلم التقدير بالفرض وكونه شرعيًا بضمير (نا) في {فَرَضْنَا} ، ولكن ذلك التقدير مجمل فوقع هذا الخبر وهو قوله- عليه

ص: 312

السلام-: (لا مهر أقل من عشر دراهم) بيانًا لمجمل الكتاب، فيصح أن يقع خبر الواحد بيانًا لمجمل الكتاب بخلاف قوله تعالى:{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} فإنه لا إجمال فيه، فكانت الزيادة هناك مستلزمة للنسخ، وأما هاهنا فلان ولأن البضع من وجه في حكم النفوس حتى لا يسقط حكم الفعل فيه بالبذل، فبذل النفس لا يحصل بمجرد المال بل بمال له خطر فكذا فيما هو في حكمة؛ ولأن اشتراط الفرض فيه شرعًا لإظهار حظر البضع، وهذا المقصود لا يحصل بأصل المال؛ لأن اسم المال يتناول الحقير والخطير، وإظهار الحظر إنما يحصل بمال له خطرن وهو عشرة دراهم كما في نصاب السرقة فقدر بها.

ومن ذلك قوله تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} أي ومن العمل بالخاص قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} حكي عن الأصمعي أنه قال:

ص: 313

كنت أمشي في البادية، فاستقبلني أعرابي له هيبة، فخفت منه سلب مالي، فقال ليك من أنت؟ قلت: فقيه. فقال: أتحفظ شيئًا من القرآن؟ قلت: نعم. فتذكرت قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فقرأت هذه الآية كي يخاف لو كان قاصدًا لمالي، وقرأت في آخر هذه الآية:(والله غفور رحيم).

فقال الأعرابي: القرآن ما هكذا، فتأملت، فتذكرت، فقرأت:{وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فقال: القرآن هكذا، وخلى سبيلي.

قال الأستاذ الكبير مولانا شمس الدين الكردري- رحمه الله: بدأ هاهنا بقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ} وبدأ في آية الزنا بقوله: {الزانية} والحكمة فيه- والله أعلم-: أن الأصل في السرقة الرجال، وفي الزنا النساء.

(الجزاء المطلق اسم لما يجب لله تعالى على مقابلة فعل العبد)؛ لأن الله تعالى هو المطاع في أوامره ونواهيه لذاته؛ لأنه هو المخترع لجميع الأشياء، فترك الأمر والنهي على الإطلاق واقع على حقه فيجب الجزاء له على العبد.

ص: 314

فأما غير الله تعالى فليس بمطاع على الإطلاق، بل هو مطاع لغيره وهو أن الله تعالى أمرنا بإطاعته، ولهذا لو أمر غير الله إنسانًا بشيء فيه معصية الله فلا إطاعة لأحد فيه، وإذا كان كذلك فلم يفهم من ذكر الجزاء مطلقًا ما يجب للعبد على العبد، بل يفهم منه ما يجب لله تعالى على العبد، فدل ذلك على كون الجناية واقعة على حق الله تعالى على الخصوص، ومن ضرورته ألا يبقى معصومًا حقًا للعبد؛ لأنه لو بقي معصومًا حقًا للعبد لا يجب القطع؛ لأنه حينئذ يكون حرامًا لغيره، وذلك لا يوجب القطع، كما لو غصب مال إنسان لا يجب القطع لبقائه معصومًا حقًا للعبد، ولا يقال: يجوز أن يبقى الشيء معصومًا حقًا للعبد، ومع ذلك هو معصوم حقًا لله تعالى حتى يجب القطع لكونه معصومًا حقًا لله تعالى، والضمان لكونه معصومًا حقًا للعبد

ص: 315

كما لو قتل محرم صيدًا مملوكًا لآخر يجب الجزاء؛ لكونه جناية على الإحرام وهو حق الله تعالى، والقيمة باعتبار كونه حقًا للعبد؛ لأنا نقول: لا وجه إلى ذلك؛ لأن كونه معصومًا حقًا لله تعالى يقتضي كونه حرامًا لعينه، وكونه معصومًا للعبد يقتضي كونه حرامًا لغيرهن فلو كان كذلك لا يجب القطع؛ لأنه يصير شبهة، والحدود تندرئ بالشبهات بخلاف قتل المحرم صيدًا مملوكًا؛ لأن الجزاء لا يتعلق بكون الصيد معصومًا.

ألا ترى أنه لو قتل صيدًا غير مملوك يجب الجزاء أيضًا، وإن لم يكن معصومًا ولا مملوكًا، فيجب الضمان لكونه مملوكًا لغيره، ويجب الجزاء لكونه مملوكًا لغيره، ويجب الجزاء لكونه جناية على إحرامه.

ألا ترى أنه يجب الجزاء أيضًا لو قتل صيد نفسه لهذا المعنى فاختلف الموجب أما هاهنا فإنما يجب الجزاء وهو القطع لكن المسروق معصومًا مملوكًا فلابد من تحول العصمة لما بينّا.

والدليل أيضًا على انتقال العصمة إلى الله تعالى أن الله تعالى أوجب هو الجزاء بمقابلة سرقة عشرة دراهم، ولو كان لحق العبد ما كان قطع اليد التي قيمتها خمسمائة دينار بمقابلة عشرة دراهم؛ لما أن ضمان العدوان مقيد بمصل. كما في الغضب بقوله تعالى: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى

ص: 316

عَلَيْكُمْ} فإن قيل: لو انتقلت العصمة لكان المال المسروق بمنزلة الخمر، ولو أنه سرق الخمر لا يجب القطع. قلنا: إنما لا يجب القطع هناك لكون الخمر غير معصوم حقًا للعبد.

فإن قيل: لو كانت الجناية واقعة على حق الله لما اشترطت خصومة العبد كما في الزنا وشرب الخمر؟ قلنا: خصومة العبد إنما اشترطت لتظهر السرقة لا لكون الجناية واقعة على حقه، ولهذا يقطع بخصومة المكاتب ومتولي الوقف باعتبار ظهور السرقة لا باعتبار كون الجناية عليهما؛ لأنه ليس لهما ملكن والعصمة في حق العبد باعتبار الملك، وعلى هذا يخرج شرب المسلم خمر الذمي؛ لأن وجوب الحد لا يتعلق بكونه معصومًا ومملوكًا لغيره.

ألا ترى أنه لو شرب خمره يجب الحد أيضًا، بل في وقع جنايته في معصوم الله تعالى الذي هو موجب للحد على المباشر، والضمان إنما وجب لأن دياتهم صارت دافعة عدم التقوم بحكمة عقد الذمة.

(ومن ضرورته تحويل العصمة) أي ومن ضرورة وقوع الجناية على حق الله تعالى تحويل العصمة.

فإن قيل: متى تحولت العصمة إلى الله تعالى؟ إن قلتم: قبل السرقة، ففيه سبق الحكم على السبب؛ لأن السبب للانتقال، والتحول ليس على السرقة.

وإن قلتم: بعد السرقة، فهذا غير مفيد؛ لأن السبب صادف محلًا محترمًا للمالك.

ص: 317

وإن قلتم: مع السرقة، فهو باطل أيضًا؛ لأن السرقة وقت الوجود ليست بموجودة، فكيف تثبت الحكم وقت الوجود؟

قلنا: تحولت العصمة إلى الله تعالى قبيل السرقة متصلًا بالسرقة لتنعقد السرقة موجبة للقطع، ويجوز سبق الحكم على السبب إذا كان ذلك الحكم شرط صحة ذلك السبب، كما في المقتضى أي في قوله: أعتق عبدك عني على ألف. فقال: أعتقت. يثبت الملك مقتضى العتق قبيل قوله: "أعتقت ضرورة صحة العتق، وكذلك في مسألة استيلاد الأب جارية الابن ينتقل الملك من الابن إلى الأب قبيل الوطء لضرورة صحة الاستيلاد، فكذا هنا. إلى هذا أشار في "كشف الأسرار"، وقد أوردناه في "النهاية"

ص: 318

ونظائره، وحاصله أن الجزاء لما كان واجبًا لله تعالى لزم أن تكون الجناية واقعة على حقه؛ لأن الجزاء إنما يجب لمن وقعت عليه الجناية، فإذا كانت الجناية واقعة على حق الله تعالى لزم أن يكون محل الجناية وهو العصمة منتقلة إليه، وإذا انتقلت إليه صار المسروق كالخمر، ولو أتلف خمر مسلم أو غصب فاستهلكها أو هلكت لا يجب ضمانها لما أنها معصومة لله تعالى لا للعبد، ولو كانت باقية لزم الرد؛ لأنه ماله فكذا هاهنا.

(ولأن الجزاء يدل على كمال المشروع لما شرع له) أي لأجل ما شرع له يعني يدل على أن ما هو الجزاء وهو القطع مشروع من جميع الوجوه (مأخوذ من جزي أي قضى) والقضاء: الإتمام والإحكام.

قال الشاعر: وعليهما مسرودتان قضاهما

ص: 319

(وجزاء- بالهمزة- أي كفى)، فالإتمام والكفاية يقتضيان أن يكون الجزاء مشروعًا من جميع الوجوه وكاملًا في شرعيته، وإذا كان الجزاء كاملًا في نفسه وجب أن تكون الجناية كاملة وجناية من جميع الوجوه، وإنما تكون الجناية جناية من جميع الوجوه أن لو كانت الجناية واقعة على حق الله تعالى لما أن الله تعالى واجب التعظيم لذاته، فكانت الجناية في حقه جناية من كل الوجوه.

وأما الجناية على حق العبد فلم تكن جناية من كل وجه لما أن مال العبد بالنظر إلى ذاته مباح.

قال الله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} فلا يكون أخذ ماله بالنظر إلى ذاته جناية، وإنما يكون جناية باعتبار حق المالك، فحينئذ لم تكن الجناية كاملة فلا يقع الجزاء الكامل بمقابلتها، فمن ضرورة هذا تحويل العصمة إلى الله تعالى، وإنما يظهر ذلك بالقطع يعني عند القطع يتبين أن الجناية وقعت

ص: 320

على حق الله تعالى حيث وقع القطع جزاء له، ومن هذا يظهر انتقال العصمة قبيل السرقة على ما ذكرناه حتى تكون الجناية واقعة على حقه؛ لأنه يكون حرامًا لمعنى في غيره وهو حق العبد، فتكون الحرمة حينئذ ناقصة فلا تكمل الجناية، فلا يجب الجزاء المطلق الكامل في نفسه بمقابلته.

(ولا عصمة إلا بكونه مملوكًا)؛ لأن شرط وجوب القطع أن يكون المسروق مملوكًا معصومًا حقًا للعبد، وإنما ينتقل من العبد إلى الله تعالى ضرورة وجوب القطع لما بينا من ذكر الجزاء المطلق إلى آخره، ولا يلزم من بطلان العصمة في حق العبد بطلان الملك؛ لأن الموجب لانتقال العصمة قد وجد، ولم يوجد ما هو موجب لبطلان الملك؛ لأنه يمكن أن يكون مملوكًا للعبد وإن لم يكن معصومًا له ويجب الحد مع ذلك، كما أن شرب الخمر مملوكًا لإنسان يجب الحد' ولا يصير كونه مملوكًا شبهة في درء الحد كما إذا شرب خمره فلا ضرورة في بطلان الملك، ثم قوله:"ولا عصمة إلا بكونه مملوكًا"؛ يتراءى أنه ينتقض بما إذا سرق مالًا موقوفًا يجب فيه القطع، وقد ثبت كونه معصومًا مع أنه غير مملوك.

علم بهذا أن قوله: "ولا عصمة إلا بكونه مملوكًا" مما لا يصح.

قلنا: لا ينتقض؛ لأن الموقوف مملوكًا عند بعض العلماء للموقوف عليه.

أو نقول: إنه يبقى على ملك الواقف حكما، ولهذا يرجع الثواب به.

ص: 321

وقيل: إن علة الوقف إن كانت للذي هو أهل للملك تصير مملوكة له، وإن كانت للذي لم تكن أهلًا كالمسجد وغيره يبقى على ملك الواقف تبعًا لأصلها.

(حتى إذا وجد الخصم بلا ملك) أي بلا ملك المدعي وهو الحافظ، وقوله: ونحوهما كسدنة الكعبة، وكالعبد المستغرق بالدين.

(فلذلك تحولت العصمة دون الملك) أي دون المملوكية.

وقوله: (ألا ترى أن الجناية تقع على المال) بيان انه لم يلزم من انتقال العصمة انتقال الملك لما أن الجناية إنما تقع على مال معصوم مملوك.

(وأما الملك الذي هو صفة للمالك) غير قابل للجناية لما أن المالك من قام به الملك، وهو غير قابل للجناية ولو تصور وقوع الجناية عليه كيف ينتقل وأنه غير مشروع لما أن الانتقال إنما يتحقق أن لو لم يكن له الملك وجميع العالم مملوك له، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا

ص: 322

وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}.

والدليل على هذا أنه لا يقال هذا مملوك للعبد لا لله لما أن العبد وما في يده لمولاه، فلم يتصور نقل الملك، وأما نقل العصمة فمشروع كالخمر، فإنه قبل أن يصير خمرًا كان عصيرًا معصومًا للعبد فإذا تخمر كان معصومًا لله تعالى، وكيف ينتقل وهو غير مشروع؟ لأنا عهدنا في الشرع انتقال العصمة عند وجود الدليل.

فأما انتقال الملك عنه وهو حي إلى غيره بدون صنع منه فلم يعهد في الشرع، فلذلك بطل القول بانتقال الملك كما قلنا في العصير المملوك: تنتقل العصمة بالتخمر مع بقاء كونه مملوكًا لله تعالى.

فأما يجوز أن يكون الشيء معصومًا حقًا للعبد لا لله تعالى، ولا يمكن القول بانتقال الله تعالى عقلا؛ لأن كل الأشياء مملوكة لله تعالى، ويجوز أن يكون معصومًا حقًا لله تعالى لا للعبد، فأمكن القول بتحول العصمة دون الملك.

وذكر في "المبسوط" في هذا الموضع: ولا يدخل على هذا الملك، فإنه يبقى للمسروق منه حتى يرد عليه؛ لأن وجوب القطع باعتبار المالية والتقوم في المحل.

ص: 323

فأما الملك بصفة المالك والفعل يكون محرم العين مع بقاء الملك.

ألا ترى أن فعله في شرب خمر نفسه يكون محرم العين مع بقاء ملكه وليس من ضرورة انعدام المالية والتقوم في حقه انعدام الملك كالشاة إذا ماتت بقي ملك صاحبها في جلدها، وإن لم تبق المالية والتقوم وإذا ثبت أن المالية والتقوم صار حقًا لله تعالى خالصًا فلو وجب الضمان إنما يجب لله تعالى، وقد وجب القطع لله تعالى ولا يجمع بين الحقين لمستحق واحد كالقصاص مع الدية.

قوله: (ومن هذا الأصل) أي ومن الخاص.

ص: 324