الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[باب موجب الأمر]
لأنه لما ثبت أن المراد بالأمر مختص بصيغة خاصة ثبت أن المراد بهذه الصيغة واحد على الخصوص أيضًا، وهو الوجوب؛ لكي تكون الصيغة مختصة بموجب الأمر، والموجب مخصوصًا بها أيضًا؛ لئلا يكون القصور من الطرفين جميعًا هذا في أصل الوضع.
أما إذا الدليل على الندب أو الإباحة أو التقريع أو غيرها كانت صيغة الأمر محمولة عليه مجازًا، كما هو الحكم في سائر الحقائق، فلم يكن ذلك موجبًا لها.
....................................................
(التقريع): سر زنش كردن، (والتوبيخ): التهديد فإن الله تعالى بقوله: (وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ) يقرعه ويظهر عجزه وعدم تسلطه في حق الجميع إلا في حق من اتبعه لا غير بقوله: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَاّ مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ).
وأما في قوله تعالى: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) تهديد
للكافرين بسياق هذه الآية بقوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} فصار كأنه قال- والله أعلم-: إنا أظهرنا الحجج وكشفنا البينات فيما يكون للمؤمن من المثوبات العلية والدرجات السنية، وما على الكافر من العقوبات المؤلمة المثلات المعدة في الآخرة على وجه لم يبق لمسترشد شبهة، ولا لمعاند ريبة.
قال الله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ} وقال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} ، فبعد ذلك جعلنا الاختيار في يده إن شاء مال إلى الطاعة واستحق ثواب النعيم، وإن شاء مال إلى المعصية واستحق عذاب الجحيم، فسيرى الكافر إلى ما يصير أمرة من وخيم العاقبة:{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} وهذا تهديد كما ترى، وهو ظاهر.
وذكر شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله لنظير التقريع قوله تعالى: {فَاتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} وهو أراد بالتقريع التعجيز، وذكر لنظير التوبيخ
قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} لما أن التوبيخ متضمن للتهديد، والتقريع متضمن للتعجيز:{اسْتَفْزِزْ} أي استخفف.
وقيل: استحمل {بِصَوْتِكَ} أي بوسوستك.
وقيل: هو صوت كل داع إلى المعصية.
وقيل: بالغناء {وَأَجْلِبْ} أي اجمع وصح بهم مستعينا: {بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} أي بكل راكب وماش في المعصية.
(ولا يثبت الاشتراك إلا بعارض) يعني أن وضع الكلمات لإفهام السامع مراد المتكلم بكلامه، والاشتراك يضاد ذلك الغرض من وضع الكلام، فلم يكن الاشتراك أصلًا.
وطريق ثبوت الاشتراك أن تضع قبيلة لفظًا لمعنى، وتضع قبيلة أخرى ذلك اللفظ لمعنى آخر، ولم يعلموا باصطلاح تلك القبيلة، فلما اجتمعت القبيلتان في مرعى وعلم كل واحد منهما ما يستعمله صاحبة وجروا على ذلك الاستعمال أي على استعمال ذلك اللفظ الواحد على معنيين مختلفين، فكان العارض حينئذ جهل كل قبيلة بوضع الأخرى.
وقيل: العارض غفلة من الواضع يعني غفل الواضع عن وضع هذا اللفظ بإزاء معنى، ووضع ذلك اللفظ أيضًا لمعنى آخر يخالف المعنى الأول،
وهذا إنما يستقيم إذا كان الواضع مخلوقًا.
وقيل: العارض أثر الحكمة التي دعت الواضع الحكيم إلي وضع هذا اللفظ لمعنى آخر للابتلاء.
(ثم الاشتراك إنما يثبت بضرب من الدليل المغير) يعني أن موجب الأمر واحد علي الخصوص وهو الوجوب ثم يستعمل الأمر في غير موجبه لضرب من الدليل المغير كاستعمال الأمر للندب علي قول من قال موجبه الوجوب بضرب من الدليل المغير بدليل تفصيلي أنه لا يراد به الوجوب أو استعمال الأمر للإيجاب علي قول من قال: موجبه الندب بضرب من الدليل المغير عما هو موجبه، وهو أن يثبت بالدليل أن المراد به الوجوب لا الندب (كسائر ألفاظ الخصوص) كقولهم: جاءني زيد، فإن موجبه واحد علي الخصوص، وهو مجيء نفس زيد، ويحتمل التغير عن ذلك بدليل مغير بأن يكون المضاف محذوفا أي جاءني خبر زيد أو كتابه أو غلامه، فاستعمالهم لذلك اللفظ لتلك المعاني لضرب من الدليل المغير وهو ثبوت عند مجيئه يقينا، فلذلك الدليل المغير اضطررنا إلي تغييره عنا هو موجبه وهو العارض، وكذلك في استعمال الأسد في حق الرجل الشجاع إنما كان ذلك بدليل مغير عن حقيقته المخصوصة به بأن قال: رأيت أسدا يرمي، وكذلك في غيره كما في قوله: أنت حر،
وأنت طالق ما هو الموضوع له مراد علي الخصوص إلا إذا قرن به دليل مغير غيره عن موضوعه الذي هو ثبوت العتق والطلاق في الحال وهو ذكر الشرط بأن قال: أنت حر إن دخلت الدار، وكذلك في قوله: أنت طالق لو قرن بآخره إن دخلت الدار يتغير الكلام عن موضوعه علي الخصوص.
وقوله: "ثم الاشتراك إنما يثبت بضرب الأمر لمعان مختلفة مع أن صيغة الأمر للوجوب حقيقة لا غير، والمشترك في الاصطلاح إنما يستعمل فيما إذا استعمل لفظ واحد لمعنيين مختلفين فصاعدا بطريق الحقيقة.
علم بهذا أنه لم يرد بهذا الاشتراك ما هو المفهوم من اللفظ المشترك، بل أراد به استعمال لفظ الأمر فيما هو حقيقة فيه وفيما هو مجاز فيه.
قوله: (قالوا: إن ما ثبت أمرًا كان مقتضيًا لموجبه)، إنما قيد بقوله: إن ما ثبت أمرًا؛ احتراز عن التفريغ والتوبيخ والدعاء فإن صيغة الأمر في حق هذه الأشياء لا للأمر بالإجماع؛ لأن حقيقة الأمر طلب الفعل الصادر من الأعلى إلي الأدنى.
(فيثبت أدناه وهو الإباحة) يعني أن أدنى ما يصح أن يثبت الأمر من الوجوب والندب والإباحة والإرشاد إلي الأوثق الإباحة، فثبتت هي بدون القرينة، كما إذا وكل رجل رجلا في ماله يثبت به الحفظ؛ لأنه أدنى ما يراد بهذا اللفظ، فيثبت هو لكونه متيقنا، وهذا لأن الإباحة تثبت من ضرورة الأمر؛ لأن الحكيم لا يأمر بالقبيح، فلذلك يثبت بمطلقه ما هو من ضرورة
هذه الصيغة، وهو التمكين من الإقدام عليه، وهو الإباحة.
قلنا: هذا فاسد؛ لأن الإباحة تثبت بالإذن والإباحة، وهذه الصيغة موضوعة لمعنى خاص وهو طلب الفعل، فلابد أن يثبت بمطلقها فوق ما يثبت بالإذن والإباحة ويعتبر الأمر بالنهي، فكما أن مطلق الأمر يقتضي حسن الأمور به علي وجه يجب الائتمار.
(قالوا: لابد مما يوجب ترجيح جانب الوجود)، وهذا الترجيح قد يكون بالإلزام وقد يكون بالندب، فيثبت أقل الأمرين؛ لأنه المتيقن به حتى يقوم الدليل علي الزيادة.
(إلا أن هذا فاسد). يعني كون موجب الأمر الندب بهذا الدليل فاسد لأن الأمر لما كان لطلب المأمور به اقتضى مطلقه الكامل من الطلب؛ لأنه (لا قصور في الصيغة ولا في ولاية المتكلم)، فإنه مفترض الطاعة يملك الإلزام، فكان الكمال هو الأصل، ولأنه لو كان للندب لا يكون لطلب الفعل من كل وجه؛ لأنه من حيث إنه لا يكون معاقبًا علي تركه لا يأتي به، ومن حيث إنه يثاب علي عله يأتي به فلا يكون مطلوبًا من جميع الوجوه، فينبغي أن يكون
مطلوبًا من جميع الوجوه؛ لأنه لا قصور في ولاية المتكلم ولا في العبارة. أو نقول: إن صيغة الأمر لا تخلو إما أن تكون حقيقة فيهما لا جائز أن تكون حقيقة في الندب مجازًا في الإيجاب؛ لأن ذلك يؤدي إلي تصويب قول من يقول: إن الله تعالى لم يأمر بالإيمان ولا بالصلاة، وهو باطل؛ لأنهما مفروضان لا مندوبان، والمفروض غير المندوب، فكان استعمالها في غير موضوعها مجازًا لا محالة، فبقي الوجهان الآخران، فالحمل علي الإيجاب في كل واحد منهما أولي.
أما إذا كانت الصيغة حقيقة في الإيجاب فلكون الصيغة معمولة في حقيقتها.
وأما إذا كانت حقيقة فيهما جمعا كان الحمل علي الإيجاب أولي أيضًا لتضمن الإيجاب الندب وبل زيادةً بخلاف العكس، وما قالوه من أن الحمل علي أقل الأمرين عمل بالتيقن باطل بلفظ العام، فإنه يتناول الثلاثة فما فوق ذلك ثم عند الطلاق لا يحمل علي المتيقن وهو الأقل، وإنما يجمل علي الجنس لتكثير الفائدة به فكذلك صيغة الأمر، ولو لم يكن في القول بما قالوا إلا ترك الأخذ بالاحتياط لكان ذلك كافيا في وجوب المصير إلي ما قلنا، فإن المندوب يستحق بفعله الثواب ولا يستحق بتركه العقاب، والواجب يستحق بفعله الثواب وبتركه العقاب، فالقول بأن مقتضي مطلق الأمر الإيجاب فيه معني الاحتياط من كل وجه، فكان هو أولى.
وقوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ} يوهم أن المعدوم شيء وليس كذلك، بل إنما سمي شيئًا باعتبار ما يؤول إليه؛ لأن الله تعالى يحول المعدوم شيئًا لا أن يكون شيئًا قبل الوجود؛ لأن إثبات الثابت محال.
(وهذا عندنا) أي عندي وعند أقراني لا أن يراد به ما يقال هذا عند علمائنا الثلاثة- أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله لأن عند عامة المتكلمين وبعض الفقهاء منهم الشيخ أبو منصور والقاضي الإمام أبو زيد- رحمهما الله- أنه مجاز عن سرعة الإيجاد (علي أنه أريد به ذكر الأمر بهذه الكلمة) أي بمدلول هذه الكلمة الذي هو صفة قائمة بذات الله تعالى فكان {كُن} كلاما لله تعالى حقيقة أى مدلول {كُن} .
(من غير تشبيه) أي من غير أن يقال إنه تعالى متكلم بالكاف والنون، حتى يلزم تشبيه كلامنا أي لله تعالى كلام، لكن لا يشبه كلامه كلامنا؛ لأن كلامنا يحدث فينا، والله تعالى يتعالى عن أن يحدث في ذاته شيء وقوله: من غير تشبيه؛ نفي قول الكرامية، فإن عندهم كلام الله حادث في ذاته.
وقوله: (ولا تعطيل) نفي لقول المعتزلة، فإنهم يقولون: الله تعالى ليس بمتكلم في الأزل، وإنما صار متكلما بخلق هذه الحروف والأصوات في محالها فقولهم ذلك يؤدي إلي التعطيل عن صفة الكلام؛ لأن الموصوف بصفة إنما يتصف بصفة قائمة بذاته ولما لم يكن الكلام؛ لأن الموصوف بصفة إنما يتصف بصفة
قائمة بذاته ولما لم يكن الكلام قائمًا بذات الله تعالى لم يكن متكلما به فبطل قولهم؛ لأن الله تعالى متكلم بالإجماع.
(وقد أجري سنته في الإيجاد بعبارة الأمر) وهو خطاب {كُن} .
فإن قلت: هذا الذي ذكره هو عين مذهب الأشعرية، فإنهم يقولون
إن تكون العالم بخطاب {كن} فكان قوله {كن} تكوينا للعالم.
قلت فبقوله: وقد أجري سنته؛ وقع الاحتراز عن قول الأشعرية؛ لأن عن الأشعرية تكون العالم بخطاب {كن} علي طريق الجزم والبتات علي وجه لا يجوز التخلف عنه كالعلل العقلية عن معلولاتها كقيام الحركة للتحرك، والكسر للانكسار، فعند المصنف- رحمه الله أن تكون العالم بخطاب {كن} علي طريق إجراء السنة أي كان علي جواز أن لا يكون كذلك؛ لأن إجراء السنة إنما يستعمل فيما يغلب وجوده علي ذلك المجري يإجراء الله تعالى، وقد تخلف عن ذلك المجري بإرادة الله تعالى خلقه، كما أن الله تعالى أجري سنته علي أن تكون النار محرقة والماء مغرقا ولم يجعلهما علي تلك الصفة في حق الخليل والكليم- عليهما السلام، وقد كان يحتمل أن يوجد شيء بدون الأمر، فإن عند أهل السنة والجماعة التكوين أزلي قائم بذات الله تعالى، وهو تكوين لكل جزء من أجزاء العالم عند وجودة لا أنه يوجد عنده كاف ونون عند عامة المتكلمين من أصحابنا.
وعند فخر الإسلام وشمس الأئمة وغيرهما خطاب مدلول {كن}
موجود على الحقيقة عند إيجاد كل شيء فالحاصل أن عند فخر الإسلام ومن تابعه في إيجاد شيء شيئان: الإيجاد، وخطاب {كن} أي مدلوله.
فإن قيل: فإذا حصل وجود العالم بالتكوين فما الفائدة في خطاب {كن} عند الإيجاد؟
قلنا: وردت الآيات في هذا في كثير من المواضع منها ما ذكر هاهنا، ومنها قوله تعالى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} زمنها قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فقلنا بموجبها ولا نشتغل بطلب الفائدة كما قلنا في الآيات المتشابهة، ولا نشتغل بسوي ذلك علي ما هو المختار عند كثير من السلف مع اعتقاد أن ما يوجب نقيضه غير مراد بالآيات المتشابهة، فكذلك هاهنا نقول بوجود خطاب {كن} عند الإيجاد من غير تشبيه ولا تعطيل؛ ولأن فيه بيان إظهار عظمته وكمال قدرته كما أن الله تعالى يبعث من في القبور، يبعثه ولكن بواسطة نفخ الصور، وكذلك هاهنا خلق الأشياء بواسطة الأمر.
فإن قيل: الخطاب بالأمر المعدوم كيف يصح؟
قلنا: هذا أمر يكون مطالبة الفعل من المخاطب حتى يشترط فيه وجود المخاطب وعلي أمر التكوين يترتب ما هو المقصود منه وهو الوجود، فلما تحقق ما هو المقصود من ذلك الأمر استقام هو كما استقام الأمر للموجود، ولأن كلام الله تعالى أزلي وكذلك التكوين، وكل أزلي يستحيل العدم فيبقي كل منهما إلي وقت وجود المخاطبين، فلم يخل عن العاقبة الحميدة، فكان حكمه بخلاف الكلام المحدث فإنه مستحيل البقاء، فإذا وجد به الخطاب في حال عدم المخاطب لم يبق الخطاب إلي وقت وجود المخاطب، فلا تتعلق به العاقبة الحميدة، فلذلك كان هو سفها، وما نحن فيه حكمة إلي هذا أشار في «تبصير الأدلة» .
(ولو لم يكن الوجود مقصودًا بالأمر لما استقام قرينة للإيجاد) أي مقرونة للإيجاد. فعيله بمعني مفعولة أي لما استقام الأمر قرينة للإيجاد لأنه حينئذ يكون تعليل ما ليس بعلة وذلك لا يجوز خصوصًا من الحكيم الذي لا يسفه. كما لا يجوز أن تقول: سقيته فأشبعته، أو أطعمته فأرويته؛ لأن الفاء في مثل هذا الكلام إنما تدخل في حكم ما سبق، لأن العرب تقول: سقاه فأرواه، وأطعمه فأشبعه أي حكما للسقي والإطعام. ولهذا قال علماؤنا- رحمهم الله في الحديث:[إن رسول الله صلي الله عليه وسلم سها فسجد] يكون وجود السجود حكما للسهو فلا يجب بالعمد فكذلك هاهنا كون الشيء لو لم يصلح أن يكون أثرًا للأمر لا يستقيم القران به، ثم الإيضاح في وجه التمسك بهذه الآية علي أن الأمر للوجوب هو أن الله تعالى جعل أمره لشيء علة لوجود ذلك الشيء، فكان أمره للمكلف بشيء
من العبادات وغيرها يجب أن يكون كذلك. يعني لو أراد وجود المأمور به من المكلف يأمره به فيوجد المأمور به ضرورة، كما في هذه الآية أخبر انه لو أراد وجود شيء من العالم يأمره بوجود فيوجد، وفي حق المكلف أيًا وجد امر الله تعالى بإتيان المأمور به، فكان علي ذلك النسق ينبغي أن يوجد المأمور به من المكلف من غير اختيار من المكلف كما في إيجاد شيء من العالم أنه يوجد ذلك الشيء من غير اختيار منه بمجرد الأمر. إلا أنا لو قلنا ذلك يلزم الجبر علي المكلف ويسقط الاختيار، وللعبد اختيار في إتيان الطاعة والمعصية لتحقيق الابتلاء.
قال الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} وقال تعالى: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} فعدلنا لذلك من الوجود إلي الوجوب لا إلي الندب والإباحة؛ لما ان الوجوب أكثر إفضاء إلي الوجود من الندب والإباحة. أعني لما لم يكن الوجود مرادًا من الأمر الوارد علي المكلف لضرورة نفي الخبر منه اضطررنا إلي أن نحمل ذلك الأمر إلي الشيء الذي هو أقرب للوجود وأكثر إفضاء إليه وهو الوجوب، وكذلك في الآية الثانية، فالمراد من القيام الوجود كما في قولهم: الأعراض قائمة بالأعيان، فقد نسب القيام أي الوجود إلي الأمر، فعلم بهذا أن الأمر علة الوجود، ثم العدول من الوجود إلي الوجوب للمعني الذي ذكرناه آنفًا.
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} الله تعالى حذر المخالفين عن أمر {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} والحذر إنما يجب عند وجوب المأمور به؛ لأنه لو لم يكن واجبا لم يكن الحذر واجبًا؛ لأن حد غير الواجب هو أن لا يكون العقاب علي تقدير الترك.
(وكذلك دلالة الإجماع حجة) يعني أن الإجماع في مثل صورة المتنازع يدل علي ثبوت المدعي هاهنا، وهو أن العقلاء أجمعوا عند إرادة فعل من شخص لم يكن في وسعهم أن يطلبوا إلا بلفظ الأمر وهذا في المخلوقين، فالإجماع علي ذلك هناك دليل علي أن الأمر الصادر من الشارع أيضًا يدل علي الوجوب. بل كان هذا أولي في اقتضاء الوجوب من أمر المخلوقين؛ لأن الله تعالى مفترض الطاعة علي الإطلاق، وهو المراد بالإجماع فيما ادعينا؛ لأن المسألة ليست بمجمع عليها، إلا أن دلالة الإجماع مثل الإجماع؛ لأن الدلالة تعمل عمل الصريح عند عدم الصريح بخلافه، فلذلك أطلق عليه اسم الإجماع فيما سبق.
وكان هذا نظير ما قال علماؤنا- رحمهم الله: إن سؤر الكلب نجس بدلالة الإجماع يعني أن الإجماع منعقد علي وجوب غسل الإناء من سؤره، فدل ذلك علي نجاسة سؤره بالإجماع، فكذلك هاهنا لم يكن في وسعه أن يطلبه إلا بلفظ الأمر.
فإن قبل: بل كان في وسعه أن يقول: أوجبت عليك أن تفعل كذا.
قلنا: إنه أمر معني أيضًا؛ لأن تقديره: أوجبت عليك لأني أمرتك بكذا، فكان قوله ذلك إخبارًا عن الأمر، فيكون الوجوب بالأمر، وهذا لأن قوله: افعل. فعل فعل الضرب في الزمان الماضي، فالمطول والمختصر بمنزلة الاسمين المترادفين.
(كسائر العبارات) أي في الأسامي، مثل: رجل، وجدار، وإبل، وفرس وغير ذلك، ولا يلزم الأسماء المشتركة؛ لأنها علي خلاف الأصل، فصار معني المضي للماضي حقًا لازمًا لا يتغير عما وضع له إلا بدليل كقوله تعالى:{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} وهذا القول منهم في الجنة عبر عنه بعبارة الماضي لتحققه، وكونه كائنًا لا محالة فكأنه قد تحقق ومضى.
وكذلك قوله تعالى: {وسيق الذين كفروا} وقوله: ل {وسيق الذين اتقوا} وغيرها.
وقوله: (ألا تري أن الأمر فعل معتمد) يتصل بقوله: فيكون حقا لازما به؛ يعني أن الأمر متعمد لازمه ائتمر أي الائتمار حكم لفعل الأمر، فيثبت الائتمار عند ثبوت الأمر كأحكام سائر العلل لا يتصور حكم العلة إلا واجبا بالعلة تراخي عنها بمانع أم اتصل بها. كذا في "التقويم".
أو نقول: وكان من حق الأمر أن يوجد المأمور به ضرورة وجود الأمر؛ لأنه فعل متعد ولا يوجد الفعل المتعدي إلا والمفعول موجود كالكسر مع الانكسار، فإن الانكسار بمنزلة المفعول له؛ لأنه أثر ذلك الفعل وهذا في الفعل المتعدي المضاف إلي المفعول ثابت متحقق حيث لا يوجد الفعل غلا والمفعول موجود كما نقول: الله تعالى خالق العالم إذا اتصل أثر الخلق بالعالم، ولا
نقول: الله تعالى خالق العالم في الأزل؛ لأن ذلك يؤدي علي قدم العالم، بل نقول: الله تعالى خالق في الأزل من غير إضافة، الله تعالى خالق في الأل من غير إضافة، وفي الإضافة لابد من وجود العلقة بينهما، فكذا فيما نحن فيه، نقول: الله تعالى في الأزل آمر ناه، ولا نقول: في الأزل آمر يد وناهيه؛ لأنه لم يكن زيد فيه، وإنما نقول: آمر زيدًا إذا اتصل أثر الأمر بزيد، وإذا ثبت هذا فنقول: كلامنا في الأوامر المضاف إلي المأمورين؛ لأنا نتكلم في الأوامر إلا والمأمور به موجود؛ لأنه متعد لازمه ائتمر، لكن لو قلناه علي وفاق ما ذكرناه من الفعل المتعدي ومطاوعه يلزم الجبر ويذهب الاستبعاد والاختيار، فالجبر منتف بالضرورة، والاستبعاد واقع بالعلم القطعي، والاختبار لنا ثابت ضرورة، ولما كان كذلك أقيم الوجوب علينا مقام وجود المأمور به؛ لئلا يلزم الجبر ويتعطل الفعل المتعدي المضاف إلينا، فقضيته الأمر لغة أن يثبت إلا بالامتثال؛ لأن الامتثال وهو الائتمار لازم الأمر كالانكسار لازم الكسر فكما لا وجود للكسر بدون الانكسار فكذلك لا وجود للأمر بدون الائتمار لغة.
فإن قلت: لا نسلم أن الائتمار لازم الأمر خاصة كالانكسار للكسر، بل له لازم آخر وهو العصيان.
ألا تري أنه كما يصح أن يقال: أمرته فائتمر، كذلك يصح أن يقال: أمرته فعصى. علم بهذا أن الائتمار ليس نظير الانكسار لغة في خصوصية اللزوم.
قلت: بل هما أي الانكسار والائتمان نظيران لغة في خصوصية اللزوم لفعليهما المتعديين إلا أنه صح أيضا أمرته فعصي لضرورة بقاء اختيار المكلف.
أعني أن صحة ذلك إنما نشأت من قبل بقاء اختيار المأمور، ولو لم يكن له اختيار لوجد الائتمار ضرورة وجود الأمر كوجود الانكسار ضرورة وجود الكسر، وهذا لأن لازم المشتق منه الائتمار لا العصيان، فكان الائتمار نظير الانكسار لا العصيان، فلذلك كان إلحاق الائتمار بالانكسار أولي من إلحاق العصيان بالانكسار، وهذا واضح بحمد الله تعالى.
(وإن كان ضروريًا) أى وإن كان الاختيار ضروريًا، وهذا ليس بتناقض؛ لأن المراد به أن هذا الوصف اختياري، وهذا ليس بتناقض؛ لأن المراد به أن هذا الوصف اختياري، والعبد في كون هذا الفعل اختياريًا له مضطر؛ لأنه ليس في يده دفع الاختيار عن نفسه فكان مضطرًا فيه إلا أن اختيار أحد الضدين علي الآخر نوع تصرف واختيار منه، فينتفي به الجبر.
(فنقل حكم الوجود) أي حكم الأمر وهو وجود الائتمار لغة علي ما بينا إلي الوجوب لا أن الحكم شيء آخر، والوجود شيء آخر، بل هوهو، كقولنا: علم الطب أى علم هو الطب يعني فنقل حكم وجود الائتمار إلى
الوجوب لا إلى شيء آخر؛ لأن الوجوب يفضي إلي الوجود في الغالب؛ لأن العقل والديانة يحملانه علي ذلك؛ لأن العقل لا يجوز الوقوع في العقوبة بخلاف الندب والإباحة؛ لأنهما لا يفضيان إلي الوجود إفضاء الوجوب ولو وجب التوقف في حكم الأمر لوجب في النهي؛ لأن التوقف في الأمر لكونه مستعملا لمعان مختلفة علي ما ذكر في أول هذا الباب.
وهذا المعني موجود في النهي؛ لأن النهي استعمل أيضًا لمعان مختلفة منها: نهي تحريم، وهو الظاهر كما في قوله تعالى:{وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} ، وقوله:{لا تَاكُلُوا الرِّبَا} .
ونهي تنزيه كما في قوله تعالى: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} نهي كراهة كالنهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة، ونهي شفقة كالنهي عن المشي في
نعل واحد، واتخاذ الدواب كراسي، وكالاستنجاء علي الجدار.
ونهي ندب كالنهي عن الاستنجاء في الحوض الذي يشرب منه، (فيصير حكمهما) وهو التوقف (واحدًا وهو باطل) إذ حكم أحد الضدين حكمهما واحدا؛ هذا غير مسلم لأن المفارقة بين الوقف في الأمر وبين الوقف في النهي ثابتة، فكيف يصير حكمهما واحدا؟ وهذا لأنه لو توقف في النهي حصل به المقصود وهو الانتهاء ولا يحصل المقصود بالتوقف في الأمر.
فعلم بهذا أن المفارقة بين الوقفين ثابتة، فكيف يثبت اتحاد حكمهما مع وجود مثل هذه المفارقة التي هي بين النفي والإثبات؟
قلت: لا يحصل المقصود بالتوقف في الانتهاء أيضًا وهذا لأن المقصود
إنما يحصل إذا توقف علي الوجه الذي نهي عنه لا علي خلافه. بيان ذلك أن أحدا لو لم يأكل الربا لكن اعتقد إباحته صار كافرا وإن امتنع عن أكله لما انه لم ينته علي الوجه الذي نهاه الشارع، فإن هذا النهي يقتضي وجوب الانتهاء فعلا واعتقادًا وهو لم ينته كذلك.
فعلم بهذا أنه لم يحصل المقصود بالتوقف في النهي أيضًا كما لا يحصل بالتوقف في الأمر.
فإن قلت: لو ثبت في الأمر والنهي صيرورة حكمهما واحدا بسبب اتحاد التوقف لوجب أن يكون صيرورة حكمهما واحدا أيضًا بسبب اتحاد الوجوب؛ لأنا أجمعنا واتفقنا علي أن حكم كل واحد منهما الوجوب غير أن في الأمر وجوب الائتمار وفي النهي وجوب الانتهاء، وبهذا لا يقع الفرق؛ لأن مثل هذا أيضًا موجود في التوقف؛ لأن التوقف في الأمر توقف الائتمار وفي النهي توقف الانتهاء؟
قلت: ليس كذلك؛ لأنا نقول في الأمر وجوب الائتمار الذي هو مقتض وجود الفعل، وفي النهي وجوب الانتهاء الذي هو مقتض عدم الفعل، فكيف يكون المقتضي للوجود مع المقتضي للعدم بابا واحدًا وهما علي طرفي نقيض.
وأما التوقف الذي قلت فهو عبارة عن عدم الفعل فهو شامل للتوقف في الائتمار وفي الانتهاء، فكان التوقف فيهما جميعًا شيئًا واحدا، فصح قوله:"فيصير حكمهما واحدا".
(يبطل الحقائق كلها)؛ لأنا لو اعتبرنا ما قاله الواقفية أدي ذلك إلي تعطيل النصوص وأحكام الشرع. بيانه هو أن من النصوص ما يحتمل النسخ والخصوص والمجاز فلو اعتبرنا وصف الاحتمال في حق إيجاب التوقف يؤدي إلي هذا، وهذا مما لا وجه له.
وكان الأستاذ الكبير شمس الدين الكردي- رحمه الله يقول في هذا المقام: أنا الشخص الذي كنت أمس بلا شك وشبهة، وإن كان في قدرة الله تعالى إعدامي وخلقه مثلي بعيني وسني، ومع ذلك لا يشك أحد في كوني أنا ذلك الشخص الموجود في الأمس، وكذلك قولهم: جاء زيد، ورأيت فلانا، وكلمت فلانا يفهم منه ما وضع هذه الألفاظ له، وإن كان يحتمل غير ذلك إلا انه إذا لم ينشأ عن دليل لم يعتبر، وكذلك العقلاء لا يحترزون عن الجلوس تحت المسقف واحتمال السقوط ثابت، إلا أنه إذا لم ينشأ عن دليل لم يعتبر ذلك، وكذلك قوله تعالى:{{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} وغير ذلك من الآيات يعلم يقينا أن رافع القواعد إبراهيم
وإسماعيل عليهما السلام، فلو اعتبر مجرد الاحتمال لوجب التوقف في الكل وذلك باطل بالاتفاق.
ألا تري أنا لا ندعي أن الأمر محكم في موجبه هذا يحتمل غيره، فبقولنا هذا وفينا موجب الاحتمال حيث لم نقل إنه محكم (لأن اسم الحقيقة لا يتردد بين النفي والإثبات) يعني مما ينفي عما وضع له مرة ويثبت أخري، بل يثبت أبدا لما وضع له يعني لا يسقط عن المسمي أبدًا كاسم الأسد لا ينفى عن الهيكل المخصوص أبدًا، وغير متردد بين النفي والإثبات بخلاف الأسد إذا قيل للإنسان الشجاع يثبت مرة بطريق المجاز وينفى عنه بطريق الحقيقة.
[الأمر بعد الحظر]
(استدلالًا بأصله) يعني أن مطلق الأمر للوجوب في الأصل، وكذلك صيغته أيضًا مستعملة في الإيجاب لما ذكرنا أنه لا قصور في الصيغة فيتناول
على ما يحتمله من طلب الفعل وهو الوجوب.
(ومنهم من قال بالندب) فنظير الندب بعد الحظر قوله تعالى: {وَذَرُوا
الْبَيْعَ} ثم قال: {{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} قيل: ابتغاء فضل الله طلب الرزق.
(لكن ذلك عندنا بقوله تعالى: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ}) أي وصيد ما علمتم لا أن الإباحية ثبتت بقولة: {فاصطادوا} ابتداء لوروده بعد الحظر.
ألا تري أن الأمر بقتل المرتد، والأمر بالرجم، والأمر بقتل قاطع الطريق جاءت بعد الحظر وهي للإيجاب.
وفي قوله تعالى: {فاصطادوا} قام الدليل علي أنه ليس للإيجاب وهو الإجماع، ومن حيث العقل أيضًا، وهو أن الاصطياد شرع حقا للعبد، ولو وجب لصار حقا عليه، فيعود الأمر علي موضوعه بالنقض وذلك باطل.
ومن هذا الأصل الاختلاف في الموجب يعني أن لفظ الأمر خاص وله موجب خاص، ثم اختلفوا بعد ذلك أن موجبه علي الخصوص أو على العموم.