المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب موجب الأمر في معنى العموم والتكرار] - الكافي شرح أصول البزدوي - جـ ١

[الحسام السغناقي]

الفصل: ‌[باب موجب الأمر في معنى العموم والتكرار]

[باب موجب الأمر في معنى العموم والتكرار]

والفرق بين العموم والتكرار هو في قوله: طلق امرأتي، فإن العموم في ذلك أن يطلقها ثلاث تطليقات بدفعة واحدة، لأن العموم عبارة عن الشمول، والشمول فيه هو أن يملك ثلاث تطليقات بدفعة واحدة،

التكرار هو أن يطلقها واحدة بعد واحدة.

(قال بعضهم: صيغة الأمر توجب العموم والتكرار).

(وقال بعضهم: لا بل تحتمله) والفرق بين الموجب والمحتمل: أن

ص: 361

الموجب أصل موضوع الكلام حتى

يراد ذلك من غير قرينة والمحتمل لا يراد به غير قرينة، كما في قولهم: جاءني زيد، فموجبه مجئ زيد ومحتمله مجئ خبره أو نائبه أو غلامه، وذلك إنما يثبت عند قرينة دالة عليه وهي أن يقال ذلك عند شهرة مجئ خبره أو نائبه، وكذلك جميع أسماء الحقائق فما وضع له الألفاظ موجب لها وما أريد من المجاز فهو محتمل فيحتاج إلي قرينة دالة عليه إلا إذا صارت الحقيقة مهجورة فحينئذ تصير الحقيقة بمنزلة المجاز،

ص: 362

والمجاز بمنزلة الحقيقة. يعني لا يفهم بذلك اللفظ حقيقته إلا بقرينة.

(وعند الشافعي يحتمل الثلاث والمثني) حتى أن الثلاث والمثنى يقع بالنية ولا يحتاج في وقوع الواحدة موجبة والمثنى والثلاث محتملة.

(أن لفظ الأمر مختصر من طلب الفعل بالمصدر)؛ لأن معنى قوله: طلقي نفسك؛ افعلي فعل التطليق علي نفسك (واسم الفعل) أي المصدر، إطلاق اسم الفعل علي المصدر حائز كما ذكره في "المفصل" بقوله: وربما سماه الفعل أي سمى سيبوبه المصدر الفعل.

(فوجب القول بعمومه كسائر ألفاظ العموم) - يعني- إن إرادة التكرار في الأمر بمنزلة إرادة العموم من اللفظ العام فكما أن موجب العام العموم حتى يقوم الدليل علي الخصوص، فكذلك هاهنا موجب الأمر التكرار حتى يقوم الدليل علي أن المراد به المرة لا المرات، واعتبروا أيضًا الأمر بالنهي فكما أن النهي يوجب إعدام المنهي عنه عاما فكذلك الأمر يوجب إيجاده عاماً حتى

ص: 363

يقوم دليل الخصوص وذلك يوجب التكرار.

(وجه قول الشافعي ما ذكرنا) وهو قوله: إن لفظ الأمر مختصر من طلب الفعل بالمصدر؛ (غير أن المصدر اسم نكرة في موضع الإثبات فأوجب الخصوص علي احتمال العموم)، فالخصوص باعتبار أن المصدر اسم لجنس الفعل، فيصلح أن يكون اسم الجنس متناولا لأنواعه، فوقعه نكرة في موضع الإثبات غير مانع لاحتماله العموم والتكرار.

ألا تري إلي قوله تعالى: {وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} فقد وصف الثبور بالكثرة مع أنه وقع نكرة في موضع الإثبات.

علم أن المصدر محتمل للكثرة والتكرار، وإن كان في موضع الإثبات وهو نكرة باعتبار أنه مصدر.

ألا تري أنك لو قلت: رأيت رجلًا كثيرًا لا يصح، وإنما صح هاهنا باعتبار

ص: 364

أنه مصدر، وهو محتمل للتكرار والعموم، ثم إنما جعلنا الواحد موجبا والزائد عليه محتملا: لأن الأمر لطلب الفعل، وطلب الفعل يفتقر إلي واحد بحيث لا يتحقق ولا يوجد بدونه، فكان الواحد هو المتيقن من كل وجه فلذلك كان هو أولى بكونه موجبًا.

وأما ما زاد عليه فصالح لأن يكون مرادا باعتبار أن المصدر اسم لجنس الفعل، ولكن غير مفتقر إليه في وجود الفعل، فلذلك كان هو أولى لأن يكون محتملا، وحاصلة أن الشافعي يحتج بمثل ما احتج به الأولون ولكن علي وجه يتبين به الفرق بين الأمر والنهي ويثبت به الاحتمال دون الإيجاب، وذلك أن قوله: افعل. يقتضي مصدرا علي سبيل التنكير أي افعل فعلا، وكذلك في طلق أي طلق طلاقا.

أما اقتضاؤه المصدر، فلأن الفعل مركب من الزمان والمصدر، ولأن كل فعل مشتق من مصدره فلابد من إدراج المشتق منه عنه ذكر المشتق.

أما اقتضاؤه التنكير؛ لأن ثبوته بطريق الحاجة إلي تصحيح الكلام وبالمنكر يحصل هذا المقصود، فأثبتناه لكونه متيقنا؛ لأن النكرة في موضع الإثبات تقع علي الواحد كما في قوله تعالى:{فَتَحْرِير رَقَبَة} لكن احتمال العدد والتكرار باق بدليل استقامة قران العدد والتكرار به علي وجه التفسير في قوله: طلقها ثنتين أو ثلاثا، فلو لم يكن اللفظ محتملًا للعدد لما استقام تفسيره بخلاف النهي، فإن صيغة النهي عن الفعل تقتضي أيضًا مصدرًا علي سبيل التنكير أي لا تفعل فعلا، ولكن النكرة في النفي تعم،

ص: 365

فلذلك كان العموم في موضع النفي موجبا وفي الأمر محتملا.

(وجه القول الثالث الاستدلال بالنصوص الواردة في الكتاب والسنة).

أما الكتاب: فما ذكره في الكتاب.

وأما السنة: فمثل قوله عليه السلام: "الوضوء من كل دم سائل" وكذلك قوله- عليه السلام: "إنما الوضوء علي من نام مضطجعًا".

قال الإمام المحقق شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله: والصحيح عندي أن هذا ليس بمذهب علمائنا، فإن من قال لامرأته: إذا دخلت الدار

ص: 366

فأنت طالق لم تطلق بهذا اللفظ غلا مرة وغن تكرر منها الدخول، ولم تطلق إلا واحدة وإن نوى أكثر من ذلك، وهذا لأن المعلق بالشرط كالمنجز عند وجود الشرط، وهذه الصيغة لا تحتمل العدد بالشرط كالمنجز عند وجود الشرط، وهذه الصيغة لا تحتمل العدد والتكرار عند التنجيز، فكذلك عند التعليق بالشرط إذا وجد الشرط، وإنما يحكي هذا الكلام عن الشافعي، فإنه أوجب التيمم لكل صلاة، واستدل بقوله تعالى:

{فَتَيَمَّمُوا} .

وقال: ظاهر هذا الشرط يوجب الطهارة عند القيام إلي كل صلاة. غير أن النبي- عليه السلام لما صلي صلوات بوضوء واحد ترك هذا في الطهارة بالماء لقيام الدليل، وبقي حكم التيمم علي ما اقتضاه أصل الكلام وهذا سهو، فالمراد بقوله تعالى:{إذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} أي وأنتم محدثون. عليه اتفق أهل التفسير، وباعتبار إضمار هذا السبب يستوي حكم الطهارة بالماء والتيمم، وهذا الجواب عما يستدلون به من العبادات والعقوبات فإن تكررها ليس بمطلق صيغة الأمر ولا بتكرار الشرط، بل بتجدد السبب الذي جعله الشرع سببا موجبًا له، ففي قوله تعالى:{أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} أمر

ص: 367

بالأداء، وبيان للسبب الموجب، وهو دلوك الشمس، فقد جعل الشرع ذلك الوقت سببا موجبا للصلاة إظهارا لفضيلة ذلك الوقت بمنزلة قول القائل: أد الثمن للشراء والنفقة لنكاح. يفهم منه الأمر بالأداء والإشارة إلي السبب الموجب لما طولب بأدائه.

فعلم بهذا كله أن تكرر وجوب الصلاة بسبب نكرر سببها لا باعتبار أن الأمر أو التعليق بالشرط يقتضي التكرار.

فلو لم يحتمل اللفظ لما أشكل عليه. يعني لو لم يكن الموجب هو التكرار لما أشكل عليه؛ لأن المفهوم من الألفاظ موجبتها خصوصا عند قيام الدليل علي أن التكرار غير مراد؛ لأن فيه حرجًا عظيمًا، وإنما أشكل عليه لكونه موجبا له فسأل كي يتضح الأمر عليه لاحتمال أن الموجب ليس بمراد، وعن هذا خرج الجواب عما يقال فيه: إن كان اللفظ يوجب التكرار لما أشكل عليه وهو من أهل اللسان؟

قلنا: إنما سأل ليعرف أن الموجب مراد أو أن غير موجبه مراد يعارض؛ لأن فيه حرجًا، فلهذا سأل لا أن يكون موجبه غير هذا.

ص: 368

فإن قيل: ما فائدة إعادة هذا الاحتجاج بحديث الأقرع بن حابس بعد ما أقام الدليل علي مدعي كل واحد من الفرق الثلاث؟

قلنا: هذا احتجاج للفرق الثلاث علينا، فإنا ننكر احتمال التكرار، والفرق كلهم قائلون بالاحتمال، فإن الذي يدعي الوجوب يدعي الاحتمال لا محالة، والذي يدعي الوجوب في المعلق بالشرط يدعي الاحتمال أيضًا، والشافعي قائل بالاحتمال صريحًا، فقام الدليل للكل علي زعمهم علي إبطال مذهبنا وهو أنه غير محتمل وإن لم يكن دليلًا للكل علي إثبات مذهبهم.

فإن قيل: فعلي هذا ينبغي ألا يذكر الاستدلال بحديث الأقرع في وجه قول الشافعي؛ لأن الاستدلال الثاني به عين الاستدلال للأول به؛ لأنه في كلا

ص: 369

الموضعين يستدل به علي أن التكرار محتمل الأمر.

قلنا: لا كذلك، بل الاستدلال الأول غير الاستدلال الثاني، فإن الشافعي ثمة استدل به علي أن الأمر غير موجب للتكرار، فإنه لو كان موجبًا له لما سأل عنه، وفي الثاني احتج كلهم به علي إثبات الاحتمال، فجاز أن يكون الشيء

غير موجب للتكرار وغير محتمل له أيضًا إلي إثبات أنه محتمل للتكرار وإن لم يكن موجبًا له.

(وهما اسمان فردان) أي الطلاق والتطليق، (وبين الفرد والعدد تناف)؛ لأن العدد مركب من فردين أو أفراد، والفرد غير مركب، (فكما لا يحتمل العدد معني الفرد لم يحتمل الفرد معني العدد)؛ لأن أحد الضدين لا يتناول الضد الآخر في الاحتمال.

(فالبعض منه) أي الذي أقله فرد حقيقة وحكمًا، ولما كان هو فردًا حقيقة وحكمًا وقع أمره علي الواحدة بدون النية.

وأما إذا كان فردًا حكما إنما يقع أمره علي الثلاث عند النية لقصوره في وصف الفردية عن الأول من حيث الحقيقة.

ص: 370

(ألا ترى أنك إذا عددت الأجناس) أي من التصرفات الشرعية تقول: النكاح، والطلاق، والعتاق، والوكالة، والمضاربة، وغيرها يقع الطلاق بمجموعة مقابلة تلك الأفراد في عد الأجناس؛ فلذلك كان الطلاق بأجزائه واحدًا.

فأما بين الأقل والكل فعدد محض ليس بفرد حقيقة ولا حكمًا، فلذلك لم تعمل نية الثنتين أصلًا في الأمر بالطلاق؛ لأن الثنتين من الطلاق ليست بفرد حقيقة ولا حكمًا، فلم يكن لذلك من

محتملات الكلام أصلًا فلم تعمل النية.

ص: 371

(وكذلك سائر أسماء الأجناس إذا كانت فردًا صيغة) كالماء والطعام إذا حلف لا يشرب ماءً ولا يأكل طعامًا، (أو دلالة) كما في قوله: والله لا أتزوج النساء (أنه يقع علي الأقل ويحتمل الكل).

فأما قدر من الأقدار المتخللة كمن أو منين من الماء أو الطعام إذا نوى ذلك لم تعمل نيته لخلو المنوي عن صفة الفردية صورة ومعني فلا تعمل النية؛ لأن النية وضعت لتعيين بعض ما احتمله اللفظ، فلما لم يحتمله لفظه ذلك لم تعمل نيته.

وقوله: (وبني آدم) في اقتضاء الجنسية بمنزلة العبيد؛ لأن العبيد محلي بالألف واللام والتي هي للجنس والإضافة هاهنا قائمة مقام الألف واللام؛ لأن معني قولهم: لا أكلم بني آدم، ومعني قولهم: لا أكلم الناس أو الآدميين، واحد، وإنما لم يذكر فيه الألف واللام؛ لأن الألف واللام في الإضافة المعنوية تتعاقبان.

(إن ذلك يقع علي الأقل) حتى إنه يحنث بتزوج امرأة واحدة وبشراء عبد واحد، وفي الطعام يحنث بأكل أدني ما يتناوله اسم الطعام.

ص: 372

(ويحتمل الكل) أي كل النساء في العالم وكل العبيد في العالم، وكل بني آدم وكل الثياب في العالم حتى إذا نوى الكل في يمينه لا يحنث أبدا؛ لأنه لا يتصور تزوج جميع نساء العالم ولا شراء كل العبيد في العالم.

وكذلك لو قال: إن تزوجت النساء، أو اشتريت العبيد، أو كلمت الناس يحنث بالواحد عند الإطلاق، إلا أن يكون المراد الجميع فحينئذ لا يحنث قط ويدين في القضاء؛ لأنه نوى حقيقة كلامه.

كذا ذكره الإمام شمس الأئمة- رحمه الله في "أصول الفقه" في فصل ألفاظ العموم.

فإن قلت: ففي قوله: إن تزوجت النساء، أو إن اشتريت العبيد، أو إن كلمت الناس، أو لا أشرب ماء، أو الماء ينبغي ألا تنعقد يمينه عند إرادته الجميع علي قول أبي حنيفة ومحمد- كما في مسالة الكوز، وهي قوله: إن لم أشرب الماء الذي في هذا الكوز اليوم فامرأته طالق، وليس في الكوز ماء لم يحنث؛ لأن من شرط انعقاد اليمين وبقائها التصور؛ لأن

ص: 373

اليمين إنما تعقد للبر فلابد من تصور البر ليمكن إيجابه، وشرب الماء المعدوم غير متصور فلذلك لم تنعقد اليمين، فكذلك هاهنا تزوج جميع نساء العالم، أو اشتراء جميع عبيد العالم، أو شرب جميع المياه في العالم غير متصور للواحد، فينبغي أن لا تنعقد يمينه، وأن تلغو إرادته الجميع لعدم تصورها، فتبقي يمينه هذه خالية عن النية فعند ذلك يقع الواحد علي ما ذكرت.

قلت: الجواب عنه من وجهين:

أحدهما\ أن نيته هاهنا صادفت حقيقة كلامه، والحقيقة حقيق بأن تراد، فبعد ذلك لم يعتبر التصور وعدم التصور بخلاف مسألة الكوز، فإن يمينه هناك لم تصادف حقيقة كلامه؛ لأنه لا حقيقة لشرب الماء المعدوم كلامه من الأصل.

والثاني- إن لكلامه هنا محملًا متصور البر وهو الحمل علي الأقل، فصح يمينه كذلك لتصوره، فبعد ذلك عند إرادته الجميع لا تلغي يمينه بعد صحتها ولأنه لا يتفاوت الحكم بين أن تصح يمينه أو لا تصح؛ لأن علي تقدير الصحة لا يحنث أيضًا لما أن نيته الجميع صادفت حقيقة كلامه فلا يحنث في يمينه؛ لأنه بر في يمينه حيث لم يتزوج جميع نساء العالم، ولم يشتر جميع العبيد في العالم كما هو نيته.

وأما في مسالة الكوز فليس ليمينه محل آخر متصور الوجود حتى تنعقد يمينه باعتباره، فلذلك لغت يمينه من الأصل ولم ينعقد؛ لأنا إذا بقيناه جمعا لغا حرف العهد أصلا يعني اجتمع هاهنا شيئان متعارضان: صيغة الجمع.

ص: 374

وحرف العهد، فاعتبار صيغة الجمع يلغي حرف العهد؛ لأنه لا معهود في صيغ الجموع؛ لأن الجمع ما وضع لعدد معين بل هو شائع كاسم النكرة، واعتبار الجنس يخالف اعتبار الجمع، والأصل في التعارض الجمع ثم الترجيح ثم التهاتر، وهاهنا لا يمكن القول بالملخص فوجب الجمع بينهما؛ لأن المصير إلي الترجيح يوجب إهدار أحدهما لا محالة فكان الجمع أولي، وفيما قلنا جمع بينهما أي عمل بالدليلين؛ لأنا إذا جعلناه للجنس حصل العمل بحرف العهد؛ لأنه يتناول المعهود من ذلك الجنس بخلاف معني الجمع فإنه لم يوجد جمع معهود من الجموع أولي من غيره، فلذلك جعلناه للجنس؛ لأن كل جنس معهود، وفيه معني الجمع أيضًا؛ لأن في الجنس أفرادا إما تحقيقًا وإما تقديرًا، فاكن المصير إلي الجنس أولي.

فإن قلت: لا نسلم أن جمعا من الجموع لم يوجد أنه أولي من غيره، بل وجد وهو الثلاث بدليل وجوب الصرف إليه عن عراء لفظ الجمع عن حرف العريف، فلما كانت أولوية الثلاث عن غيره كان هو أولي من غيره، فصلح أن يكون هو معهودا في الجموع فيصرف إليه مع الألف واللام أيضًا لكونه معهودا.

قلت: لا كذلك، فإن عند ذلك يلزم إلغاء حرف التعريف لاستواء الحكم مع وجود حرف التعريف وعدمه حينئذ، ولأن تعينه عند عدم حرف التعريف

ص: 375

لا باعتبار أن ذلك الجمع جمع معهود، بل باعتبار أن ذلك الجمع أول الجموع الذي لا يزاحمه غيره، فكان متيقنا فكان الصرف إليه باعتبار أنه متيقن لا باعتبار أنه معهود.

أو نقول: إن معني الجمع مراعي في الجنس من وجه وليس في الجمع معني الجنس أصلًا؛ وذلك لأن الجنس إذا أريد به الكل كان معني الجمع فيه موجودا وهو الثلاث فصاعدًا فيصير معني الجمع مراعي من كل وجه.

وأما إذا أريد به الجمع لا يراعي فيه معني الجنس أصلًا؛ لأن الجنس ما يتناول الواحد ويحتمل الكل، وهذا المعني غير موجود في الجمع؛ لأنه لا يكون الواحد فيه مرادا بطريق الأصالة فلا يكون معني الجنس علي هذا التقدير موجود أصلًا؛ لأن الموصوف لا يبقي موصوفا بدون صفته، وعن هذا خرج الجواب لسؤال من سأل بقولهم: فإن قيل: العمل بالجمع يوجب العمل بالجنس أيضًا من وجه وهو أنه إذا أريد بالجمع الثلاث فصاعدًا كان الجنس الأدنى وهو الواحد مرادًا.

قلنا: إن الواحد لما لم يرد هناك بطريق الأصالة صار كأنه لم يرد أصلًا خصوصًا عل أصل أبي حنيفة- رضي الله عنه وهو المذهب المنصور أن الرجل إذا قال لامرأته: طلقي نفسك واحدة، فطلقت نفسها ثلاثا لم يقع شيء عند أبي حنيفة- رضي الله عنه لهذا المعني؛ لأنها أتت بغير ما فوض إليها.

ص: 376

وقوله: (فكان الجنس أولي) إلي آخره.

فإن قيل: يشكل علي ذلك صرف الأيام إلي عشرة أيام عند أبس حنيفة- رحمه الله وإلي أيام الأسبوع.

عندهما فيمن حلف لا يكلمه الأيام حيث لم يصرف هاهنا إلي الجنس، بل إلي الجموع علي حسب ما اختلفوا فيه

قلت: جواب هذا مذكور في أول " النهاية" مشبعًا فينظر هناك

وقوله: (فصار هذا وسائر أسماء الجنس سواء) أي فصار هذا الجنس وهو صيغة الجمع مع حرف الجنس الذي ليس علي صيغة الجمع مع حرف الجنس كالمرأة سواء.

(وإنما أشكل علي الأقرع؛ لأنه اعتبر ذلك بسائر العبادات) أي اعتبر

ص: 377

الحج بالصوم والصلاة وغيرهما، فأشكل عليه يعني أن سائر العبادات متعلقة بأسباب تتكرر بتكررها، فأشكل عليه أن الحج ملحق بسائر العبادات فيحتمل أنه يتكرر لتعلقه بما يتكرر وهو أشهر الحج، ويحتمل انه لا يتكرر لتعلقه بما لا يتكرر وهو البيت فأشكل عليه لهذا المعني؛ لا أن الصيغة تحتمل التكرار (وعلي هذا يخرج أن كل اسم فاعل دل علي المصدر لغة) أي فيما إذا لم يكن لقبًا لشخص فغن هناك لا يدل اسم الفاعل علي المصدر اسم جنس يتناول الواحد ويحتمل الكل كما في سائر الأجناس والكل هاهنا أي (في قوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} غير مراد بالإجماع فصار الواحد مرادًا)؛ لأن ما بين الواحد والكل عدد محض واللفظ الفرد لا يحتمل العدد المحض لما بينهما من التنافي، فإذن صار المراد السرقة الواحدة بهذة الآية من كل سارق فلا يجوز أن يراد بهذه الآية اليد اليسري بالسرقة الثالثة؛ لأن المراد بالأيدي الأيمان. يؤيده قراءة من قرأ:"فاقطعوا أيمانهما" فورودها علي صيغة الجمع من قبيل قوله تعالى:

ص: 378

{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} فإن قيل: هذا الأصل الذي أصلتموه في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}

منقوض في قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} فإن كل الزاني غير مراد بالإجماع، فكان الواحد مرادا فيجب ألا يكون ما بين الكل والواحد مرادًا لما أن اسم الفاعل يدل علي الصدر وهو اسم جنس فلا يتناول العدد ومع ذلك يجب علي كل واحد منهما حد بعدد ما يوجد.

قلنا: ليس هذا من قبيل اقتضاء الجنس العدد، بل هو من قبيل تكرر الحكم بتكرر السبب عند قبول المحل ذلك التكرر؛ لأنه لما وجد زنا من شخص فجلد، ثم لو زنا تجدد السبب فيجلد أيضًا لتجدد السبب واحتمال المحل ذلك الحكم بخلاف السرقة، فإن المراد من الأيدي الأيمان وليس كل واحد من الأشخاص إلا يمين واحدة فبعد ذلك لم يبق المحل ينبغي أن لا يجب علي السارق في المرة الثانية شيء سوي التعزيز وليس كذلك بل

ص: 379

يقطع رجله اليسرى في المرة الثانية بالإجماع

قلت: ذاك بالإجماع الذي ذكرته وهذا من قضية الدليل الظاهر ألا يقطع في الثانية شيء من السارق، كما قلنا: أنه لا يجب في الثالثة بظاهر اسم الأيدي بقوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} كما هو قول الشافعي؛ لأن في المرة الثانية لا تقطع يده اليسري بالإجماع ومع بقاء المنصوص لا يجوز العدول عنه إلي غيره، فلو كان النص متناولًا لليد اليسرى لما جاز قطع الرجل مع بقاء اليد.

علم بهذا أن المراد من الأيدي الأيمان لا اليد اليمني مع اليسرى.

إلي هذا أشار في "المبسوط".

(وموجب الأمر علي ما فسرنا وهو الوجوب يتنوع نوعين):

أحدهما- في صفة قائمة في الموجب، والثاني- في صفة قائمة في غير الموجب.

ثم الأول يتنوع نوعين: أداء وقضاء، وهذه صفة راجعة إلي نفس الموجب.

وكذلك الثاني يتنوع نوعين أيضًا: وغير مؤقتة.

ص: 380

باب يلقب ببيان صفة حكم الأمر

(فالأداء علي ثلاثة أنواع)، فوجه الانحصار ظاهر؛ لأن الأداء لا يخلو إما أن كان كاملًا أو قاصرًا أو مختلطًا. وقوله:(أداء محض) احتراز عن أداء فيه شائبة القضاء كما في اللاحق، وقوله:(كامل) احتراز عن أداء لمنفرد؛ لأن الأداء الكامل هو الأداء بالجماعة.

(وقد يدخل في الأداء قيم آخر، وهو النفل)، حتى يصح أن يقال: أدى النفل، فكان النفل داخلًا في قسم الأداء، وإنما ذكر هذا لرد صورة نقض ترد علي ما ذكره من حد الأداء، أن (الأداء اسم لتسليم نفس الأمر الواجب بالأمر.

ص: 381

بأن يقال: ينتقض هذا بقولهم: أدي النفل، فإن الأداء يستعمل في النفل، مع أنه ليس بتسليم نفس الواجب بالأمر، بل هو مندوب إليه لا مأمور به؛ لما ذكرنا أن حقيقة الأمر في الإيجاب.

فقال في جوابه: هذا قسم آخر، وذاك قسم آخر، فكان الأداء بعد الأنواع الثلاثة علي قسمين:

أحدهما: تسليم نفس الواجب بالأمر.

والثاني: تسليم عين ما ندب إليه، فلم يكن هذا نقض بل كان هذا قسمًا آخر غير القسم الأول، فأحد القسمين لا يكون نقضًا للقسم الآخر.

(فأما القضاء فلا يحتمل هذا الوصف)، يعني لا يحتمل النفل وصف القضاء، فلا يدخل القضاء في النفل؛ لأن القضاء يعتمد بوجوب الأداء، والنفل ليس بواجب بالإجماع.

فأما ذا شرع في النفل ثم قطع يجب القضاء؛ لأن ذلك مثل ما وجب أداؤه بالشروع.

وقوله: (قال الله تعالى: {إنَّ اللهَ يَامُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَات} هذا يتصل بقوله: "والأداء اسم لتسليم نفس الواجب بالأمر"؛ لبيان أن الذي ذكرته من تفسير الأداء أنه اسم لتسليم نفس الواجب صحيح يؤيده قوله تعالى:

ص: 382

{إنَّ اللهَ يَامُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَات} ؛لأن أداء الأمانة لا يقع لا علي عين الشيء ونفياه لا علي مثله، فلذلك استعمل لفظ الأداء في حق الأمانة.

ولهذا ذكر الأمم شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله هذه الآية متصلًا بما ذكره من تفسير الأداء، وذكر في "التقويم" وأنه في تسليم أعيانها إلي أربابها ولا قضاء الأمانات.

ثم لما أدي الواجب في وقته من الصلاة سمي أداء، فأعطي للواجب الذي في ذمة المكلف حكم العين كما في أداء عين الأمانة؛ إما لأنه ليس في وسع المكلف عند شدة رعايته في تسليم عين الواجب إلا هذا، فلما أداه في وقته كان مراعيًا حقه بأقصى رعايته في تسليم الواجب فكان أداء، أو لما سمي الله تعالى للذي أوجَب علي الآدميين أمانة في قوله تعالى:{إنَّا عَرَضَنْاَ الأَمَاَنَةَ عَلَي السَّمَوَات وًالأَرْضِ وَاَلْجبِالِ فَأَبيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسَانُ} كان تسليمه لشدة الرعاية الذي هو أداؤه في الوقت بمنزلة تسليم عين الأمانة فكان أداء، وإذا قصر في رعاية كمال التسليم حتى فات الوقت كان بمنزلة الخيانة في الأمانة فكان قضاءً؛ لأنه إذا خان في الأمانة يجب الضمان، وأداء الضمان إنما يكون قضاءً حقيقة لا أداء.

ص: 383

(وقد تدخل إحدى العبارتين في قسم العبارة الأخرى).

أما استعمال لفظ القضاء في الأداء مجازًا فلما فيه من إسقاط الواجب، كما في قوله تعالى:{فَإِذَا قَضَيتْمُ مَّنَاسِكَكُمْ} .

وأما استعمال لفظ الأداء في القضاء مجازًا فلما فيه من التسليم كما في قولهم: أدى الدين أي قضي، لأن الديوان تقضي بأمثالها لا بأعيانها، فكان حقيقة القضاء لاء.

لأن القضاء لفظ متسع) -بكسر السين- لأن الاتساع لازم- فراخ شدن- ليس له صيغة اسم المفعول، وإنما قال: إنه يستعمل في معني نفسه وفي معني اسم المفعول، وإنما قال: إنه متسع؛ لأنه يستعمل في معني نفسه وفي معني الأداء استعمالًا غالبًا كما في قوله تعالى: {فَإِذَا قُضيَتُم مَّنَاسِكَكُمْ} أي أديتم، وكذلك في قوله تعالى:{{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا} ، وكذلك في قوله عليه السلام:"وما فاتكم فاقضوا". والمراد

ص: 384

منها الأداء، فعلم بهذا أن لفظ القضاء لفظ متسع يستعمل في الأداء استعمالًا ظاهرًا، وإنما ذكر لفظ الاتساع هاهنا لمقابلة ما لفظ الأداء، فإن استعمال الأداء مكان القضاء تضيق حتى لم يذكر في معني القضاء، فإنه يستعمل في معني الأداء استعمالًا ظاهرًا، وهذا لأن معنى القضاء لغة: الإلزام، والإتمام، والإحكام، والإسقاط، وهذه المعاني موجودة في الأداء، فجاز استعمال القضاء في الأداء حتي يجوز بنية الأداء في الأصح، دل عليه ما ذكره محمد- رحمه الله في رجل اشتبه عليه شهر رمضان فتحرى فوقع تحريه علي شهر أنه رمضان، فصامه ثم تبين بعد مضي ذلك الشهر أنه غير رمضان، قال: إن كان قبل رمضان لا يجوز؛ لأن الأداء قبل السبب لا يجوز، وإن كان بعد رمضان يجوز، وإن كان بعد رمضان يجوز، وهذا قضاء بنية الأداء. كذا في " فتاوي قاضي خان".

(وقد يستعمل الأداء في القضاء مقيدًا) حيث يصرح بالدين، فيقال:

ص: 385

أدى ما عليه من الدين، فإذا قرنه بالدين علم أن المراد منه القضاء، لضرورة أن أداء الدين بحقيقته لا يتصور، لأن الأداء: اسم لتسليم نفس الواجب، والدين وصف في الذمة يظهر أثره عند المطالبة، وما أداه المديون عين وليس بوصف، فلم يكن ما سلمه عين ما هو في ذمته.

فعلم بهذا أن الأداء الذي استعمل فيه لم يكن علي حقيقته، بل كان هو بمعني القضاء الذي هو اسم لتسليم مثل الواجب، علي معني أن المديون لما سلم الدراهم إلي ري الدين وجب في ذمته دين للمديون بسبب أخذه الدراهم من المديون، ثم التقي ما في ذمة المديون، ثم التقي ما في ذمة المديون الأول وما في ذمة المديون الثاني وهو رب الدين قصاصًا لعدم الفائدة في الأخذ ثم التسليم ثانيًا، فكان هو تسليم مثل الواجب بهذا الطريق لا محالة فكان قضاء بحقيقته. إلا إنه استعمل الأداء مجازًا لالتقائهما في معني إسقاط الواجب؛ لأن كلا من القضاء والأداء متضمن إسقاط الواجب من الذمة، وعن هذا قالوا: إن آخر الدينين يكون قضاء عن الأول.

وأما إذا لم يصرح بقران الدين عن استعمال الأداء يحمل الأداء حينئذ علي حقيقته وهي تسليم نفس الواجب، كما لو قيل: أدي ما عليه من وجوب الصلاة والصوم. يراد به أنه أداهما في وقتهما، وكذلك في أداء الأمانات والغصوب يحمل الأداء على حقيقته.

ص: 386

(الذنب يأدو). الأدو والأدي: فريفتن، والغابر يفعل ويفعل، فيقال: أدوات له، وأديت له أي ختلته، والأداء علي فعال مصدر المنشبعة لباب التفعيل وهو وارد فيه ورودًا ظاهرًا كالكلام والسلام والبيان، وهذا مثل يضرب في مقاساة المرء في الشيء، ومعاناته لرجاء نفع يعود إليه في عاقبته، وأصله: الذئب يأدو للغزال- أي يختله- ليأكله"

وقوله: (أيجب بن مقصود)؛ أي بسبب مقصود عرفه النص أنه سبب له

ص: 387

وقد أوفينا تقرير هذه المسألة في " الوافي".

(لأن القربة عرفت قربة بوقتها، فإن فاتت عن وقتها ولا يعرف لها مثل إلا بالنص)؛ لأن العقل لا مدخل له في معرفة كيفيات العبادات وكمياتها والكلام في عبادة مكيفة وهي شرعيتها في هذا الوقت فأداؤها في هذا الوقت أفضل من القضاء في غيره، والضمان يعتمد المماثلة وقد فاتت، فلا يعرف لها مثل إلا بالنص.

(وبيان ذلك)؛ أي وبيان ما ذكرنا من صورة المتنازع فيه. وحاصل ذلك إن الذي ورد فيه القضاء في غيره، والضمان يعتمد المماثلة وقد فاتت، فلا يعرف لها مثل إلا بالنص.

(وبيان ذلك)؛ أي وبيان ما ذكرنا من صورة المتنازع فيه.

وحاصل ذلك أن الذي ورد فيه القضاء من الصوم والصلاة بالنص ورد موافقًا للقياس أم مخالفًا له؟.

فعند العامة: ورد موافقًا له فصح تعليله، وتعدية حكمه إلي ما لا نص فيه من المنذورات المتعينة من الصوم والصلاة بالقياس.

وقال البعض: لا يصح تعليله؛ لأنه ورد النص فيما لا يدرك بالعقل،

ص: 388

فلذلك لم يكن بد من ورود النص مقصودًا بأن هذا جائز له قضاء، فورد النص بتجويز القضاء في الصوم المفروض والصلاة المفروضة، فلا يقاس عليهما غيرهما في جواز القضاء.

(قلنا نحن: وجب القضاء في هذا بالنص

) إلى آخره. يعني أن الأداء كان مستحقًا عليه في الوقت بأمره، ومعلوم أن المستحق لا يسقط عن المستحق عليه إلا بإسقاط من له الحق أو بتسليم المستحق عليه، ولم يوجد واحد منهما، فبقى عليه بعد خروج الوقت؛ لأن خرج الوقت ولم يسلم فقد ترك الامتثال وترك الامتثال لا يجوز أن يكون مسقطًا، بل هو يقرر عليه ما وجب عليه؛ لأنا نعلم يقينًا أن الوقت ليس هو المراد، بل المراد هو العبادة، ومعناها: العمل بخلاف هوى النفس لتعظيم أمر الله تعالى، وذلك لا يختلف باختلاف الأوقات، وإنما يسقط فضل الوقت باعتبار العجز عن تحصيل تلك الفضيلة، وما هو المقصود وهو العبادة مقدور عليه له (لكون النفل مشروعًا له من جنسه)، فيبقى هو مطالبًا بإقامة (ما له مقام ما عليه)، وهذا لأن حقيقة الأداء تسليم حق الغير إليه، وحقيقة القضاء تسليم حقه إلى صاحب الحق، فيوجد هذا في حق النقل؛ لأنه قادر عليه فيطالب بصرف ماله إلى ما عليه.

ص: 389

(فسقط فضل الوقت) بلا ضمان للعجز عنه، ولا يسقط أصل الواجب قضاء للقدرة عليه.

ألا ترى أن الأمر هكذا في حقوق العباد؛ فإن من غضب المثلي يؤدي المثل صورة ومعنى، فإذا عجز عن تسليم الصورة تسقط عنه للعجز بلا ضمان وتجب عليه القيمة، وإن لم تكن مثلًا له من كل وجه؛ لأنه يجب عليه ما له القدرة عليه، فلأن يسقط عنه ما لا يقدر هو عليه لعجزة في حقوق الله تعالى أولى.

ألا ترى أن النسيان يصلح عذرًا في حقوق الله تعالى ولا يصلح عذرًا في حقوق العباد، فلما صلح العجز عن فصل الوصف عذرًا في حقوق العباد أولى أن يصلح عذرًا في حقوق الله تعالى، لأنه أكرم وأرحم.

وقوله: ((وقال عامتهم: يجب بذلك السبب))؛ أي بالسبب الذي يوجب الأداء.

فإن قيل: وجب القضاء في الصوم والصلاة بالنص فكان وجوب القضاء مضافًا إلى النص، ثم كيف يستقيم قولكم: يجب القضاء بالسبب الذي أوجب الأداء؟

قلنا: النص الموجب للقضاء يقرر ما قلنا؛ لأنه يبين أنه لم يسقط ما عليه بسبب خروج الوقت حتى وجب القضاء، فكان النص مثبتًا وجوب المطالبة، فإضافة وجوب المطالبة إلى النص لا تقدح فيما قلنا.

ألا ترى أن يجب على المشتري الثمن في الذمة بالشراء، ويجوز أن يطالب بأداء ما عليه بالسبب السابق وهو الشراء، فكذا هاهنا يجوز أن يجب

ص: 390

القضاء بالسبب السابق وهو السبب الذي يوجب الاداء، ثم يطالب بذلك الأمر الموجب للقضاء.

أو نقول: يضاف وجوب القضاء إلى النص الموجب للقضاء لكونه متيقنًا، وما ذكرنا معقول فيصار إليه عند عدم النص، كما قلنا في المعنى المؤثر للحكم: إن الحكم يضاف إلى النص، وعند عدم النص يضاف إلى المعنى المؤثر.

وقوله: (للعجز) متصل بقوله: ((وسقط)).

(وهذا أقيس وأشبه بمسائل أصحابنا) رحمهم الله فإنهم قالوا: لو أن قومًا فاتتهم صلاة من صلوات الليل فقضوها بالنهار بالجماعة جهر إمامهم بالقراءة بخلاف ما إذا قضى منفردًا، ولو فاتتهم صلاة من صلوات النهار فقضوها بالليل لم يجهر إمامهم بالقراءة، ومن فاتته صلاة في السفر فقضاها بعد الإقامة صلى ركعتين، ولو فاتته حين كان مقيمًا فقضاها في السفر صلى أربعًا. ففي هذه المسائل كلها اعتبر أصحابنا صفة كانت حال بقاء الوقت وبقيت بتلك الصفة، وبقاء ما ثبت لا يفتقر إلى دليل جديد بل يضاف إلى

ص: 391

الموجب السابق.

وقوله: (ولهذا قلنا في صلاة فاتت

) إلى آخره. إيضاح لقوله: ((وسقط فضل الوقت للعجز))، فكذلك سقط لتكبير من الصلوات التي فاتت عن أيام التشريق للعجز عن الإتيان بالتكبير.

فإن قيل: ينبغي ألا يسقط أصل التكبير عنه سرًا لقدرته عليه، ويسقط وصف الجهر لعجزه عنه، كما قلتم بوجوب قضاء الصلوات للقدرة عليها وسقوط التكبير للعجز عنه.

قلنا: لا يصح ذلك أيضًا؛ لأن شرعية التكبير جهرًا في أدبار الصلوات في أيام التشريق مخصوصة بتلك الأيام، مخالفة القياس وهو الفصل بين الفرض والسنة بالتكبير في صلاة الظهر والمغرب والعشاء مع الجهر به، والفصل بين الفرض والسنة غير مشروع، وهو وإن قدر على التكبير سرًا لكن ليس هو بقادر على الفصل بينهما شرعًا، فلذلك سقط التكبير عنه سرًا وجهرًا لعجزه عنه؛ (لأنه لا تكبير عنده) أي عن المفوت بطريق الجهر.

وقال الإمام شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله: لأن الجهر بالتكبير دبر

ص: 392

الصلاة غير مشروع للعبد في غير أيام التكبير، بل هو منهي عنه لكونه بدعة، فبمضي الوقت يتحقق الفوات فيه فسقط، وأصل الصلاة مشروع له بعد أيام التكبير فيبقى الواجب باعتباره.

فإن قلت: فعلى هذا ينبغي ألا تقضى صلاة المغرب إذا فاتت عن وقتها؛ لأنه ليس عند المفوت نفل بثلاث ركعات، والقضاء إنما ينفعل بصرف ما له إلى ما عليه على ما ذكر في سقوط تكبير التشريق إذا فات عن وقته بقوله:((لأنه لا تكبير عنده)).

قلت: القياس يقتضي ذلك، لكن عموم قوله عليه السلام:((من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها)) يتناول صلاة المغرب كما تناول غيرها، ولا مدخل للقياس عند ورود نص يخالفه، ولأن الوتر نفل عندهما وهي مشروعة بثلاث ركعات، وعند أبي حنيفة- رضي الله عنه وإن كانت واجبة فآثار النفلية فيها ظاهرة من وجوب القراءة في الركعات كلها، وعدم استبدادها بوقت على حدة، وعدم الأذان والإقامة فيها، فكان الاحتياط في

ص: 393

القضاء لكون النفل في ملكته في الجملة.

فإن قلت: ما وجه القضاء بالجماعة إذا فاتت صلاة واحدة عن جماعة فقضها بالنهار بالجماعة على ما ذكت، مع أنه غير قادر على أداء النفل بالجماعة في النهار؟ وكذلك سقوط القراءة في الأخريين في قضاء ما فاته من فرائض ذات أربع مع أنه ليس عند المفوت أربع ركعات من نفل لا يقرأ في الأخريين منه، فلم يكن القضاء في هاتين المسألتين صرف ما له إلى ما عليه؟

قلت: كلاهما كان لاعتبار رعاية وصف الأداء في القضاء على ما ذكرنا، فلما كانت الصلاة التي فاتت عن وقتها موصوفة بهاتين الصفتين في حال الأداء بقيت كذلك في حال القضاء؛ لأن القضاء يجب بالسبب الذي يجب به الأداء، ولأن إطلاق قوله عليه السلام:((من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها)) مقتض رعاية هذين الوصفين في القضاء كما في حال الأداء، فإن الضمير في ((فليصلها)) راجع إلى الصلاة التي فوتها بجميع صفاتها، ومن صفاتها الكاملة في حال الأداء الجماعة وترك القراءة في الأخريين، فكذا في حال القضاء.

(ويتفرع من هذا الأصل)، أي: ويتفرع وجه التخريج من هذا الاختلاف.

ص: 394

(والتفويت سبب مطلق عن الوقت)؛ يعني هو سبب عن وجوب القضاء من غير أن يعين وقتًا دون وقت فيجب، عليه قضاء الاعتكاف الصوم مطلقًا عن الوقت، ولو وجب كذلك لا يتأدى في شهر رمضان كما إذا قال: لله علي أن أعتكف شهرًا لا يجوز أن يعتكف في رمضان، وهو معنى قوله:(فصار كالنذر المطلق بالقياس على ما قلنا) أي من أن القضاء يجب بالسبب الذي يجب به الأداء لا يسبب آخر، والذي قلناه قضاء الصلاة والصوم.

(ألا ترى أنه يجب بالفوات مرة) بأن فات عنه الاعتكاف لسب أنه لم يقدر على صوم رمضان بسبب المرض أو السفر.

(وبالتفويت أخرى) بأن لم يعتكف ولم يصم من غير عذر به. هذا استدلال على أن القضاء يجب بما وجب به الأداء حيث وجب القضاء فات أو فوت، إذ لو كان كما قالوا لا يجب القضاء بالفوات؛ لأن الفوات لا يوجب الضمان إذا تعلق وجوب الضمان التفويت، كالعبد الجاني إذا مات لا يجب الضمان على المولى، ولو هلك الخارج من الأرض العشرية لا يجب العشر،

ص: 395

وكذلك مال الزكاة، فعلم به أنه إنما يحب عند الفوات بالسبب الموجب للأداء لا بالتفويت كما قالوا؛ لأنه لو كان سبب الضمان هو التفويت لما وجب بالفوات؛ لأنه لم يوجد فعل منه حينئذ يوجب الضمان، كما إذا فاتت الوديعة بدون تقصير المودع في الحفظ، وقد ساعدونا في وجوب القضاء عند الفوات فكان ذلك حجة عليهم.

وقوله: ((للاعتكاف أثر في إيجابه)) - بدون الواو على تقدير الصفة للنكرة، وهي صومًا- أي يقتضي الاعتكاف الواجب بالنذر صومًا موصوفًا يكون وجوب بسبب الاعتكاف الواجب لا بسبب آخر، هذا هو الأصل، ولكن ترك هذا الأصل فيمن نذر بالاعتكاف في شهر رمضان فصامه واعتكف يجوز عن منذوره، مع أن ذلك الصوم إنما وجب بسبب شهود شهر رمضان لا بسب الاعتكاف الواجب بالنذر.

فأجاب عنه وقال: (وإنما جاء هذا النقصان) أي جواز الاعتكاف بدون صوم واجب بالاعتكاف (بعارض شرف الوقت) يعني أن جواز الاعتكاف بهذه الصفة بعارض شرف الوقت، وهو اتصال الاعتكاف بشهر رمضان وله فضيلة على غيره من الشهور فكان الاعتكاف فيه أقوى من الاعتكاف في

ص: 396

غيره على ما قاله عليه السلام: ((من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه)) فكان الاعتكاف فيه أفضل، فاكتفى بصوم غير واجب به باعتبار هذه الفضيلة؛ يعني أن الاعتكاف لما أدي في رمضان حصل له زيادة شرف، فانجبر بتلك الزيادة ما كان له من النقصان في شرطه وهو عدم وجود الصوم القصدي.

أو نقول: لصوم رمضان فضل وشرف على سائر الصيامات، فقام بذلك الصوم بسبب شرفه مقام الصوم القصدي، فاكتفى الاعتكاف الموجود في شهر رمضان بذلك الصوم لزيادة شرف ذلك الصوم.

فإن قلت: فعلى هذين الوجهين يلزم أن يجوز الاعتكاف الواجب بالنذر مطلقًا في شهر رمضان لقيام شرف ذلك الصوم مقام الصوم القصدي، وهو لا يجوز بالاتفاق.

قلت: لا يلزم؛ لما أن الشرف الحاصل من القصد يزداد أثره على الشرف

ص: 397

الحاصل من المتضمن وإن جل خطره.

ألا ترى أن النفل بتحريمه مبتدأة مقصودة أفضل وأكمل من نفل حصل في ضمن تحريمة الفرض، حتى إن مصلي الظهر إذا قعد في الرابعة ثم قام إلى الخامسة ساهيًا وسجد ثم تذكر ضم إليها ركعة أخرى، ويسجد للسهو لنقصان تمكن في النفل عند أبي يوسف؛ لأنه دخل في النفل لا على الوجه المسنون وهو التحريمة المبتدأة.

فإن قلت: الأصل في الشرط أن يعتبر وجوده لتحقيق المشروط لا وجوده قصدًا، حتى إن من توضأ للتبرد أو للتعليم أو لمعنى من المعاني تجوز به الصلاة، وكذلك لو لبس الثوب لستر عورته عن الناس أو للحر أو للبرد يجوز به صلاته، والصوم شرط جواز الاعتكاف الواجب، فلم اشترط في صوم الاعتكاف وجوده لأجل الاعتكاف قصدًا حتى لم يصح اعتكافه في شهر رمضان عن اعتكاف أوجب على نفسه مطلقًا لعدم صوم مقصود للاعتكاف؟

قلت: ذاك الأصل فيما إذا لم يكن الشرط عبادة مقصودة في وقت من الأوقات كما في تلك النظائر، وعن هذا اشترط الشافعي- رحمه الله النية في الوضوء باعتبار أنه عبادة مقصودة عنده بخلاف سائر شروط الصلاة.

وأما الصوم فإنه ركن من الأركان الخمسة في الدين، فلما كان شرطًا للاعتكاف بالدليل اشترط القد فيه أيضًا؛ ليقع الفرق بينه وبين سائر

ص: 398

الشروط.

(ولم تثبت القدرة) أي: على اكتساب شرف الوقت (فسقط) أي: فسقط وجوب القضاء في الرمضان الثاني للعجز؛ لأن ذلك وقت مديد يستوي فيه الحياة والموت فسقط جوبه على ذلك الوجه لذلك؛ لأن الحياة والموت إذا تعارضا تساقطا، فصارت القدرة كالساقط حقيقة.

فإن قيل: الموت موهوم، والحياة متحققة في الحال، فكانت القدرة ثابتة نظرًا إلى استصحاب الحال.

قلنا: العجز ثابت في الحال، فلا تثبت له القدرة باستصحاب الحال أيضًا، وإذا فات شرف الوقت وتحقق العجز عن إدراكه (بقى الاعتكاف مضمونًا بإطلاقه) فيجب بالصوم القصدي (فكان ذلك أحوط الوجهين)؛ أي الوجه الذي قيل بأن القضاء يجب بالسبب الذي وجب به الأداء أحوط من الوجه الذي قيل بأن القضاء يجب بسبب آخر وهو التفويت؛ لأنه لو أضيف إلى السبب الآخر يقتضي أن لا قضاء عليه عند الفوات، وما قلناه بوجوب القضاء عند الفوات والتفويت، فكان ما قلناه أحوط الوجهين.

لأن ما ثبت بشرف الوقت من الزيادة احتمل السقوط؛ أي الزيادة الثابتة بسبب شرف الوقت، يعني أن صوم رمضان أفضل من سائر الصيامات، والاعتكاف فيه أفضل من سائر الاعتكافات احتمل السقوط، فإنه إذا مضى

ص: 399

شهر رمضان ولم يصم ولم يعتكف فقضى اعتكافه بصوم قضاء رمضان وهو جائز بالإجماع مع أن ذلك الصوم صوم ناقص بالنسبة إلى صوم رمضان أداء، فالنقصان والرخصة الواقعة الرف لأن يتحمل السقوط والعود إلى الكمال أولى؛ يعني أن النذر بالاعتكاف يوجب صومًا قصديًا، وإنما اجز في شهر رمضان مع انعدام الصوم القصدي وهو نقصان ورخصة، فجوازه باعتبار شرف الوقت، فإذا صام ولم يعتكف يجب القضاء بالصوم القصدي ويسقط ذلك النقصان والرخصة ويعود إلى الكمال ان أولى أن يجوز؛ وهذا لأن الموجب لوجوب الصوم القصدي وهو الكمال كان موجودًا ولكن لم يظهر لمانع، فإذا زال المانع يعمل الموجب عمله، وبيان الأولوية أن هذا نقصان يعود إلى الكمال، والأول كمال يعود إلى النقصان، فلما جاز عود العزيمة إلى الرخصة؛ فلأن يجوز عود الرخصة إلى العزيمة بالطريق الأولى.

(وإذا عاد لم يتأد في الرمضان الثاني) أي لما عاد إلى الصوم القصدي بسبب أنه لم يعتكف في شهر رمضان وفات الاعتكاف عن وقته عاد إلى الصوم القصدي، فبعد ذلك لا يعود إلى الصوم الضمني في الرمضان الثاني؛ لانه لما فات عن وقته ثبت في ذمته اعتكاف واجب مطلقًا، والاعتكاف الواجب مطلقًا لا يؤدي في شهر رمضان، فكذا هنا فكان هذا بمنزلة أضحية واجبة في ذمته إذا انتقلت إلى الصدقة بفوت وقتها لا تعود هي إلى إراقة الدم بعود وقتها في القابل، وعن هذا وقع الفرق بين هذا وبين حق العبد؛ فإنه إذا غضب المثلي واستهلكه وجب عليه ضمان مثله صورة ومعنى، ثم إذا انقطع أوانه ينتقل الضمان من الصورة إلى المعنى فتجب القيمة، ثم إنه إذا لم يؤد القيمة حتى جاء أوانه عاد عليه ضمان مثله صورة ومعنى؛ لكون ضمان المثل

ص: 400

صورة ومعنى هو الأصل هناك، فلذلك لما قدر على الأصل بطل حكم الخلف على ما هو الأصل.

وأما هاهنا فالأمر بخلافة، فإن الصوم القصدي هو الأصل، فلما وجب الاعتكاف بالصوم القصدي لم يتحول الحكم إلى الصوم الضمني بتحول الوقت.

(والأداء في العبادات يكون في المؤقتة في الوقت)، قوله:(في المؤقتة في الوقت)؛ خبر المبتدأ؛ أي تحقق الأداء في العبادات المؤقتة إنما يكون في الوقت لا في غير الوقت، كالصلاة والصوم؛ لأنها إذا أديت في غير الوقت يكون قضاء لا أداء.

وأما في غير المؤقتة كان أداء في جميع الوقت كالزكاة والكفارات والحج، فعلى هذا كان قوله:(أبدا) خر المبتدأ، وهو قوله: والأداء (في غير المؤقتة).

(والمحض) منه؛ أي الكامل من الأداء، والدليل على أن المراد من المحض الكامل ذكر القصور في مقابلته.

(ألا ترى أن الجهر عن المنفرد ساقط) فوجه الاستدلال بسقوط وجوب الجهر عن المنفرد على قصور صلاته هو أن الجهر لما وجب على الإمام فيما يجهر كان هو من علامات الأداء الكامل وهو الجماعة، وإذا سقط وجوب الجهر عن المنفرد كانت علامة الكمال منه ساقطًا، فيستدل به على قصوره

ص: 401

لذلك، والدليل على كمال صلاة الجماعة ما روي عن ابن عمر- رضي الله عنهما عن النبي عليه السلام أنه قال:((صلاة الجماعة تفضل على صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة)).

أو نقول: إن الجهر بالقراءة عزيمة؛ لأنه أمر أصلي لم يثبت بعارض عذر منا، فالمصير إلى ترك العزيمة مع كون العزيمة مشروعة كان نقصانًا.

(فهذا مود) أي بالنظر إلى بقاء الوقت (أداء يشبه القضاء)؛ لأنه يقضي ما فاته من صلاته مع الإمام.

ثم قوله: (ألا ترى أنهم قالوا في مسافر

) إلى آخره، إيضاح

ص: 402

جانب القضاء.

قوله: (ولو تكلم صلى أربعًا) إيضاح الأداء.

(أو نوى الإقامة وهو في غير مصره والوقت باق فإنه يصلي ركعتين)، والأصل فيه أن نية اللاحق الإقامة وهو في قضاء ما عليه وقد فرغ الإمام من صلاته ساقطة وإن كان الوقت باقيًا؛ لأنه فيما يتم مقتد بالإمام فنيته في مثل هذه الحالة كنية إمامه، ونية إمامه الإقامة لا تلزمه إتمام هذه الصلاة؛ يعني بعدما فرغ منها وكذلك نيته.

فإن قيل: نية المقتدي معتبرة في حقه مل لم يخرج من حرمة الصلاة، وفي حق الإمام إنما لم تعتبر لخروجه عن حرمة الصلاة.

قلنا: المقتدى تبع فيجعل كالخارج من الصلاة حكمًا لخروج إمامه منها، وكذلك لو دخل مصره فإن دخول موضع الإقامة ونية الإقامة في الحكم سواء، ونية المسبوق في قضاء ما عليه الإقامة أو دخوله مصره تلزمه الإتمام؛ لأن المسبقو فيما يقضي كالمنفرد، ونية المنفرد الإقامة مغيرة فرضه في

ص: 403

الوقت. كذا في ((المبسوط))، وهذا الذي ذكره في اللاحق مذهبنا.

وقال زفر: ((تتغير صلاته بالمغير ما دام الوقت باقيًا؛ لأن اللاحق مقتد)).

قلنا: إن اللاحق مع كونه مقتديًا ليس بمؤد من كل وجه؛ لأنه يستحيل أن يجعل مقتديًا خلف الإمام ولا إمام، بل هو قاض شيئًا فاته مع الإمام، فجعلناه كأنه خلف الإمام تقديرًا لا حقيقة؛ لأن العزيمة فيحقه أن يؤدي مع الإمام؛ لأنه تحرم معه، لكن الشرع جوز الأداء بعد فراغ الإمام إذا أخر الأداء بعذر وجعل أداءه في هذه الحالة كالأداء معه، وهذا تفسير القضاء بأن يؤدي شيئًا بمثل ما وجب عليه قبل القضاء، فصار اللاحق بمنزلة القاضي بهذا الطريق. إلى هذا أشار في ((مبسوط فخر الإسلام)).

(أن هذا مؤد) أي اللاحق، (فإذا لم يتغير الأداء) أي صلاة إمامه بنية الإقامة (لم يتغير القضاء) أي صلاة اللاحق بعد فراغ الإمام بنية الإقامة.

ص: 404

(فقد بطل معنى القضاء)؛ لأنه صار ابتدائيًا فيتغير بالمغير لانعدام شبهة القضاء.

(بخلاف المسبوق أيضًا) يعني أن المسبوق يؤدي أربع ركعات إذا وجدت نية الإقامة أو دخول المصر منه سواء تكلم أو لم يتكلم، وإنما قال: أيضًا؛ لأن اللاحق انقلب ركعتاه إلى الأربع بوجود التكلم عند نية الإقامة أو دخول المصر، كذلك المسبوق أيضًا انقلب ركعتاه إلى الأربع وإن لم يتكلم.

وقوله: (لما بينا) يتصل بقوله: (ولهذا قلنا في اللاحق لا يقرأ). (أنه قاض) أي أن اللاحق قاض.

(وأما القضاء، فنوعان) أي القضاء الحقيقي نوعان.

وأما القضاء الذي هو بمعنى الاداء فليس هو بقضاء حقيقي، فلم يتناوله التقسيم.

(إما بمثل معقول فكما ذكرنا) أي قضاء الصلاة للصلاة، والصوم للصوم، وفي حقوق العباد المال للمال (وإما بمثل غير معقول) أي غير مدرك بالعقل؛ بمعنى لا ندركه بعقولنا لقصور فينا لا أن يكون هو خلاف العقل

ص: 405

في الواقع؛ لأن العقل حجة من الله تعالى على عبده كالسمعيات، ومحال أن تتناقض حججه، إذ هو من أمارات الجهل، لكنا لا نردك المماثلة بين الصوم والفدية؛ إذ الصوم تجويع النفس، والفدية تشبيع الجائع، وكذا بين النفقة فإنها مال عين، وبين أفعال الحج فإنها أعراض وصفات، ونقول: نعتقد بينهما مماثلة يعلمها الشارع، حتى أقام الفدية والنفقة مقام الصوم وأفعال الحج.

(فمثل الفدية في الصوم). قيل: ورد في الحديث إضافة الله تعالى الصوم إلى نفسه حيث قال: ((الصوم لي))، ثم إذا عجز المكلف عن الصوم أوجب عليه الفدية بنصف صاع من بر وكذا وكذا؛ ليتبين أن ما يعطيهم بمقابلة الصوم الذي قيمته نصف صاع من بر من الثواب الجزيل كان بفضله وكرمه؛ لأن الكريم من يستكثر قليل غيره ويستقل كثير نفسه.

ألا ترى أن الله تعالى سمى أفضل الجنان التي أعطاها المؤمنين نزلًا وهو ما يهيأ للضيف عند النزول، وقال:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} . ثم استكثر فعل العباد بقوله: ((الصوم لي)

ص: 406

وبقول النبي عليه السلام: ((التكبيرة الأولى خير من الدنيا وما فيها))، مع أن التكبيرة الاولى ليست من نفس الصلاة وأركانها، فما ظنك فيما هو من أركان الصلاة، ثم جميع الصلاة إذا فاتت يؤمر بنصف صاع لما ذكرنا من المعنى لبيان أنها قليل القيمة في نفسها، ومع ذلك يعطى بمقابلته ما يعطى من الثواب الجزيل، وهو فعل الكريم. كما قال الشاعر:

وقنعت باللقيا وأول نظرة

إن القليل من الحبيب كثير

(وهذا مختصر بالإجماع) أي بإجماع أهل التفسير. كذا في ((مبسوط المصنف))، يعني تقديره: لا يطيقونه. وإنما قلنا: إنه مختصر بهذا الطريق؛

ص: 407

لأن سياق الآية وهو قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} وسياقها وهو قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} لإيجاب الصوم، ثم لو أجرى قوله تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} على الظاهر يلز أن يكون وجوب الفدية على المطيقين على الصوم، ووجوب الصوم غير المطيقين على الصوم، وهذا عكس المعقول ونقص الأصول مع ما فيه من لزوم إرادة العسر الذي لا نهاية في عسره، والله تعالى نفى ذلك عن ذاته في آخر الآية بقوله:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} .

وهذا التقرير فيما إذا لم تحمل الآية على النسخ. أما إذا حملت على النسخ فالنظم على ظاهرة مقرر من غير اختصار.

قال في ((الكشاف)): {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} أي وعلى المطيقين للصيام الذين لا عذر بهم إن أفطروا {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} نصف صاع من بر، ثم قال: وكان ذلك في بدء الإسلام، فرض عليهم الصوم، ولم يتعودوه، فاشتد عليهم، فرخص لهم في الإفطار والفدية، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى:

ص: 408

{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .

(وثبت في الحج الخثعمية) وهي أسماء بنت عميس من المهاجرات، كذا في ((المغرب)). (أفيجزئني) أصله بالهمز. يقال:

ص: 409

أجزأني الشيء: كفاني، وهذا يجزئ عن هذا/ أي يقضي أو ينوب عنه. وحكي عن علي بن عيسى أنه قال: يقال: هذا الامر يجزئ عن هذا، فيهمز ويلين.

ص: 410

وقوله: (أن أحج) على صيغة بناء إخبار النفس من الثلاثي لا من الإحجاج. هكذا وجد مصححًا بتصحيح الثقة، وهو فاعل يجزئني، فكان معناه: الحج الذي أحج بنفسي عن أبي هل يكفيني ذلك عما يهمني بسبب إدراك فريضة الحج على أبي؟ وفي الحديث دليل على أن أباها أمرها بالحج حيث قال رسول الله عليه السلام عقيب قولها: ((نعم، فدين الله أحق)) أي أحق أن يقبل، قاس رسول الله عليه السلام قبول الحج بقبول الدين، وإنما كان كذلك في الدين إذا كان من عليه الدين أمر بقضاء الدين؛ لأن من له الدين إنما يجبر على القبول إذا كان ذلك بأمر من عليه الحق.

وأما إذا كان بغير أمره فمن له الدين الخيار إن شاء قبل وإن شاء لم يقبل، فدل على أن أباها أمرها.

وقوله: ((فدين الله أحق)) لأنه أكرم وأرحم.

وقوله: (ولهذا قلنا: أن ما لا يعقل مثله يسقط) إيضاح لإثبات ثمرة غير المعقول في القضاء من أحكام الشرع، فكان هذا جوابًا لتقدير سؤال سائل

ص: 411

يسأل ويقول: ما فائدة بيان أحكام القضاء الذي هو غير معقول؟

فقال في جوابه: فائدته بيان انحصار الحكم فيما ورد الشرع به ولا تجوز تعدية حكمه إلى غيره؛ لأن من شرط التعدية أن يكون المنصوص عليه معقول المعنى، فإذا ورد حكم النص غير معقول المعنى لم يكن له مثل في موضع آخر حتى تعدى الحكم منه غليه، ولهذا قلنا: إن ما يعقل مثله يسقط؛ لأن الواجب إذا فات عن البعد وليس له مثل لا يمكن تداركه يسقط عنه من غير ضمان؛ لأن الشيء إنما يضمن المثل إما صورة أو معنى، ولما لم يكن للفائت مثل لا صورة ولا معنى يسقط عن العبد إلا بالإثم إن كان عامدًا، وهذا لأنه لما لم يكن له مثل معقول ولم يرد فيه نص بشريعة القضاء يسقط لا محالة.

والدليل على هذا الذي ذكرته ما ذكره شمي الأئمة السرسخي- رحمه الله هذه المسألة بهذا الطريق، فقل: لا مماثلة بين الصوم والفدية صورة ولا معنى، وكذلك لا مماثلة بين دفع المال إلى من ينفق على نفسه في طريق الحج وبين مباشرة أداء الحج، وما يكون بهذه الصفة لا يتأتى تعدية الحكم فيه إلى الفروع فيقتصر على مورد النص، ثم قال: ولهذا قلنا: إن النقصان الذي يتمكن في الصلاة بترك الاعتدال في الأركان لا يضمن بشيء سوى الإثم؛ لأنه ليس لذلك الوصف منفردًا عن الأصل مثل صورة ولا معنى.

وإنما قلنا: إن النقصان الذي يحصل بسبب عدم تعديل الأركان ليس له مثل جابر يجبر ذلك النقصان، فإنه بعد فراغه من الصلاة لو أتى بتعديل

ص: 412

الأركان إما أن يأتي به بدون أن يأتي بسائر الأركان فحينئذ يربو القضاء على الأداء، فغن الفائت عنه تعيل الأركان لا غير، والقضاء إنما يكون بحسب الأداء؛ فلذلك لا تجوز زيادة القضاء على الأداء.

(لأن الجودة لا يستقيم أداؤها بمثلها صورة) يعني لا يمكن تسليم الجودة منفصلة عن العين؛ لأنها عرض يستحيل قيامها بذاتها، فلا يمكن فصل العرض عن العين. (ولا بمثلها قيمة) يعني لا يستقيم أداء الجودة بالقيمة؛ لأن الجودة لا قيمة لها في الأموال الربوية على ما عرف.

(واحتاط محمد- رحمه الله في ذلك الباب) أي في باب الزكاة.

ثم اعلم: أن هذا الاختلاف بينهم فيما إذا أدى خمسة دراهم زيوف مكان خمسة دراهم جياد حيث يصح عندهما خلافًا لمحمد.

أما إذا أدى الدينار مكان خمسة دراهم جياد تعتبر قيمة الجودة بالاتفاق؛ لأن عند اختلاف الجنس تعتبر القيمة، فلابد من أداء الفصل. كذا في نوادر زكاة ((المبسوط)).

ص: 413

(ولهذا قلنا: إن رمي الجمار لا يقضى) يعني أن الحاج إذا لم يرم الجمار في وقتها حتى مضى وقت الرمي فلا يقضى بعد ذلك بل يسقط؛ لأنه ليس له مثل معقول لا صورة ولا معنى، فإنه لم يشرع فربة للعبد في غير ذلك الوقت.

فإن قيل: كيف يستقيم هذا وقد أوجبتم الدم عليه باعتبار ترك الرمي؟

قلنا: إيجاب الدم عليه لا بطريق أنه مثل للرمي قائم مقامه، بل لأنه جبر لنقصان تمكن في نسكه بترك الرمي، وجبر نقصان النسك معلوم بالنص. قال الله تعالى:{فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} كذا ذكره الإمام شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله.

ص: 414

(والصلاة نظير الصوم بل أهم منه)؛ لأن الصلاة حسنة لمعنى في ذاتها، والصوم حسن لمعنى في غيره وهو قهر النفس، فكانت شرعية الصوم لتصير النفس مرتاضة إلى عبادة الله تعالى وتعظيمه، فإذن فيه جهة الوسيلة، وفي الصلاة جهة المقصودية؛ لأنها لتعظيم الله تعالى بلا واسطة، فالمقصود من العبادة أقوى من الوسيلة إليها، ولأن الصوم لا يجب على المرء بمجرد الإيمان، حتى لو آمن رجل في شوال لا يتوجه عليه خطاب الصوم حتى يمضي عليه أحد عشر شهرًا، ولو آمن في أول يوم يتوجه عليه خطاب الصلاة في ذلك اليوم خمس مرات، فكان أمر الصلاة أهم من الصوم؛ لأن لاشتمال أكثر الأوقات في العبادات تأثيرًا في إثبات القوة له، كالإيمان فإنه لما كان أشمل للأقوات من سائر العبادات كان هو أقوى من غيره فكذا هنا، وإذا ثبت هذا فنقول: لما وجبت الفدية في الصوم مع قصوره عن الصلاة فلأن تجب الفدية في حق الصلاة بالطريق الأولى، فتذكر هاهنا ما ذكرناه في ((الوافي)) من السؤال والجواب؛ فإنه يرشدك إلى تفريع فروع كثيرة، وثمرات غزيرة.

ص: 415

فإن قيل: لما كان لسلوك طريق الاحتياط مدخل في حكم نص ثبت بخلاف القياس لم لم نقل لانتقاض الطهارة بالقهقهة خارج الصلاة بطريق الاحتياط؟

قلنا: إن خارج الصلاة دون الصلاة، فلا يكون ذلك نظير ما قلنا من الصلاة والصوم.

ص: 416

فإن قيل: فلما ثبت وجوب الفدية في الصلاة بدلالة وجوب الفدية في الصوم وجب أن يثبت وجوب الفدية في الصلاة كثبوت وجوب الكفارة بالأكل والشرب في الصوم؛ يعني على القطع والبتات لا على رجاء القبول.

قلنا: لا يصح هاهنا مثل ذلك؛ لأن دلالة النص هي أن يعرف حكم دلالة النص من يعرف لسان العرب، كما قلنا في الصوم: إن الأعرابي لما قال: هلكت وأهلكت عرف كل عربي أنه سأل عن الجناية التي وقعت على الصوم، والجناية على الصوم موجودة بالأكل والشرب كما توجد الجناية بالوقاع، ولا كذلك هاهنا؛ لأن الله تعالى لو أوجب علينا الصوم لا يعرف عربي من ذلك أن الصلاة واجبة عليه أيضًا، فإذا لم توجد الدلالة في الأصل فكذلك لا توجد في الخلف، فلهذا لم نقل بوجوب الفدية في الصلاة بطريق الدلالة، حتى تثبت الفدية في الصلاة كثبوتها في الصوم على القطع والبتات.

(ثم لم نحكم بجوازه مثل حكمنا به

) إلى آخره.

ص: 417

فعلم بهذا أن هذا ليس بقياس؛ لأن القياس إثبات مثل حكم المنصوص في حق قطع الحكم بالجواز، وفي هذا رجاء الجواز، فلا يكون قياسًا.

(وروجونا القبول) أي الجواز.

(فقط أوجبتم بعد فوات وقتها التصدق بالعين أو بالقيمة) يعني أن من وجب عليه الأضحية إذا لم يضح حتى مضت أيام النحر إن كان أوجب على نفسه أو كان فقيرًا تصدق بها حية، وإن كان غنيًا تصدق بقيمة شاة اشترى أو لم يشتر؛ لأنها واجبة على الغني، ويجب على الفقير بالشراء بنية التضحية، ثم إنما يجب التصديق بعد مضي وقتها؛ لأنه إذا مضت أيام النحر فقط سقط معنى التقرب بإراقة الدم؛ لأنها لا تكون قربة إلا في مكان مخصوص وهو الحرم، أو في زمان مخصوص وهو أيام النحر، ولكن يلزمه التصدق بقيمة الأضحية إذا كان ممن يجب عليه الأضحية؛ لأن تقربه في أيام النحر كان باعتبار المالية فيبقى بعد مضيها، والتقرب في المال في غير أيام النحر يكون بالتصديق، ولأنه كان يتقرب بشيئين: إراقة الدم، والتصدق باللحم، وقد عجز عن أحدهما وهو قادر على الآخر، فيأتي بما يقدر عليه. كذا في ((المبسوط)) و ((الهداية)).

ص: 418

وحاصل الجواب عن مسألة الأضحية: إنما أوجبنا التصدق باعتبار كونه أصلًا لا باعتبار كونه مثلًا لها.

(وهو نقصان في المالية)، أي فعل التضحية نقصان في المالية، لأنه لم يبق صالحًا للذر والنسل، يعني لابد من مشقة تلحق المكلف في القربة، وتلك المشقة في التضحية نقصان المالية (على ما نبين في مسألة التضحية) أي في ((المبسوط)).

(أيمنع الرجوع في الهبة أم لا؟) فعند محمد- رحمه الله لا يمنع؛ لأن عنده التضحية نقصان في المالية، والنقصان لا يمنع الرجوع في الهبة. وعند أبي يوسف- رحمه الله يمنع؛ لأن الإزالة عن ملكة تمنع الرجوع في الهبة. وكشف هذا مذكور في باب العطية من هبة ((المبسوط))، قال: وإن وهب له شاة فذبحها كان له أن يرجع فيها؛ لأن الذبح نقصان في العين، فإن عمله في إزهاق الروح، فإن ضحى بها أو ذبحها في هدي المتعة لم يكن له أن يرجع فيها في قول أبي يوسف، وقال محمد: يرجع فيها، وتجزئ الأضحية والمتعة للذابح، وقيل: قول أبي حنيفة- رضي الله عنه مثل قول أبي يوسف.

وأما محمد- رحمه الله فيقول: ملك الموهوب له لم يزل عن عينها، والذبح نقصان فيها، فلا يمنع الرجوع فيما بقي كالشاة للقصاب؛ وهذا لأن

ص: 419

معنى القربة في نيته وفعله دون العين، فالموجود في العين قطع الحلقوم والأوداج سواء كان على نية اللحم أو نية القربة، والذي حدث في العين أنه تعلق به حق الشرع من حيث التصديق به، وذلك لا يمنع الرجوع كوجوب الزكاة في المال الموهوب في يد الموهوب له، بل أولى؛ لأن التصديق هاهنا ليس بحتم حتى يكون له أن يأكله ويطعم من شاء من الأغنياء بخلاف الزكاة، وأبو يوسف- رحمه الله يقول في التضحية: جعلها الله تعالى خالصة، وقد تم ذلك فلا يرجع الواهب فيه التضحية: جعلها الله تعالى خالصة، وقد تم ذلك فلا يرجع الواهب فيه بعد ذلك كما لو كان الموهوب أرضًا فجعلها مسجدًا، وبيان قولنا:((تم)) أن التقرب بإراقة الدم وقد حصل ذلك.

ألا ترى أن لو سرق المذبوح أو هلك كان مجزءًا عنه، وإباحة التناول منه بإذن من له الحق بقوله تعالى:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} .

ألا ترى أن لا يجوز أن يتصرف فيها على غير الوجه المأذون وهو بطريق التجارة، ويمنع من ذلك، ولو فعله كان ضامنًا، فعرفنا أنه تم معنى التقرب به، فيكون نظير هذا من الزكاة ما إذا أداه الفقير بنية الزكاة وليس للواهب أن يرجع فيه بعد ذلك، وهذا الفعل في صورة ذبح شاة القصاب، ولكن في المعنى والحكم غيره، ولا تعتبر الصور.

ألا ترى أن الذبح يتحقق من المسلم والمجوسي، والتضحية لا تتحقق إلا من أهل التسمية، فعرفنا أنه في المعنى غير الذبح. ثم عند محمد- رحمه الله رجوع

ص: 420

الواهب لا يبطل التضحية؛ لأن رجوعه في القائم دن ما تلاشى منه، والرجوع ينهي ملك الموهوب له، فإنما انعدم ملكه بغير اختياره، وهو في حقه نظير ما لو هلك بعد الذبح.

وقوله: (فنقل إلى هذا) أي فنقل التصديق إلى نقصان في المالية بإراقة الدم، أو إلى نقصان في المالية بإراقة الدم وإزالة التمويل عن الباقي (تطيبًا للطعام)؛ لأنه إذا ذبح العبد الأضحية بنية القربة تنتقل آثامه إلى الدم لكونه آلة لسقوط ذنوبه فيبقى اللحم طيبًا، والناس أضياف الله تعالى يوم العيد، ولهذا كره الأكل في أول النهار قبل صلاة العيد؛ لأن ذلك إعراض عن ضيافة الله تعالى.

وأما مال الصدقة بالتصديق فتنتقل آثام المتصدق إليه فيصير من أوساخه؛ لكونه آلة لسقوط الذنوب، وإلى هذا المعنى أشار الله تعالى في قوله:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} . والمطهر إذا استعمل فيما هو متدنس بالذنوب

ص: 421

صار خبيثًا، كما في الماء المستعمل. يعني يحتمل أن يكون التصديق بعين الشاة أو قيمتها أصلًا، لكن الانتقال منه إلى إراقة الدم لهذه الحكمة، فيجب أن يعمل بالأصل عند مضي وقت الأضحية.

وقوله: (يحتمل أن تكون التضحية أصلًا) جواب لشبهة ترد على هذا التقرير، وهو أن يقال، لو كان التصديق أصلًا في التضحية لكن لحكمة انتقل الحكم من التصديق إلى إراقة الدم لوجب أن يعتبر الأصل في أيام التضحية أيضًا حتى يخرج عن وجوب الأضحية بالتصديق، وإن كان هو مأمورًا بإراقة الدم لتلك الحكمة، كمن وجب عليه الجمعة لو صلى الظهر في منزله يقع ذلك عن فرض الوقت، وإن كان هو مأمورًا بأداء الجمعة لكون الظهر أصلًا؟

فأجاب عنه بهذا، وقال: يحتمل أن يكون إراقة الدم أصلًا أيضًا، فلذلك لم يعتبر ذلك الموهوم، وهو أصالة التصديق في أيام التضحية؛ لأن خروج العبد عن وجوب التضحية في أيامها متيقن بالنص، وهذا موهوم بالرأي، والموهوم لا يعارض المتيقن، بخلاف صلاة الظهر يوم الجمعة، فإنه قد قام لنا دليل بالنص على أصالة الظهر فكان الظهر، أصلًا وإن كان العبد مأمورًا لإسقاطه بأداء الجمعة.

(والدليل على أنه كان بهذا الطريق لا أنه مثل للأضحية) أي الدليل

ص: 422

على أن التصدق بعين الشاة أو قيمتها بعد مضي أيام التضحية كان بطريق احتمال أن الأصل هو التصدق في وجوب الأضحية، لا أن التصديق مثل للأضحية بطريق القضاء عنها، وإنما لم يجز إراقة الدم في غير أيام التضحية؛ لأنه لم يقدر علي مثله (أنه إذا جاء العام القابل لم ينتقل الحكم إلى الأضحية) وإن قدر على مثل الإراقة، فلو كان جواز نقصان الواجب في القضاء بسبب أنه لم يقدر على الإراقة لوجب ذلك عند قدرته عليها، كما في غضب المثلي إذا انقطع من أيدي الناس فيحول من ضمان المثل إلى القيمة، ثم لو لم ترد القيمة حتى جاء أوانه يجب عليه ضمان المثل صورة ومعنى، لكونه هو الأصل ولم يجب ذلك بالاتفاق هاهنا.

علم بهذا أن الإراقة لم تكن أصلًا في التضحية.

وقوله: (هذا وقت) أي يوم الأضحية في العام القابل الذي أدركه وقت (يقدر فيه على مثل الأصل) أي على مثل الإراقة التي وجبت عليه في العام الماضي (فيجب أن يبطل الخلف) وهو التصديق كما في الفدية، فيجب عليه قضاء الصوم من (الوجه الذي بينا)؛ وهو كون التصدق أصلًا لم ينتقض

ص: 423

بالشك؛ لأنه وجب وتأكد بإيجاب الشارع فلا يسقط بعد ذلك بالقدرة على الفائت، كما في المثلي إذا انقطع عن أيدي الناس وقضى القاضي بالقيمة، أو أدى هو بدون القضاء ثم قدر على مثله لا يعود حقه إليه، فكذلك المثل في حقوق الله تعالى.

بخلاف الفدية في حق الشيخ الفاني حيث يجب الصوم إذا قدر عليه، وإن كان فدى حالة العجز؛ لما أن الفدية عن صوم الشيخ الفاني إنما تكون خلفًا بشرط استمرار العجز إلى الموت، وإذا قدر على الصوم كان قادرًا على الأصل قبل تمام الحكم بالخلف؛ لعدم شرط جواز الخلافة على التأبيد، فلذلك بطل حكم الفدية.

(لأن الركوع يشبه القيام) أي حقيقة وحكمًا.

أما حقيقة فلأن النصف الأسفل من الراكع مستو كما في حالة القيام، وهو ما يقع به الفصل بين القيام والقعود فيبقى شبهة القيام.

ص: 424

وأما حكمًا فلأن من أدرك الإمام في الركوع يصير مدركًا لتلك الركعة.

(وهذا الحكم قد يثبت بالشبهة)؛ أي تكبيرات العيد تثبت بشبهة القيام.

ألا ترى أن تكبير الركوع في صلاة العيد ملحق بتكبيرات العيد، ولهذا يجب بترك تكبير الركوع ساهيًا سجدة السهو، وإن لم يجب بتركه في غير صلاة العيد سجدة السهو، ثم تكبير الركوع مشروع في حالة الانتقال فجاز أن يلحق به نظائره حالة العجز احتياطًا لهذه الشبهة؛ لأن أداء التكبير عبادة فيحتاط في الإتيان بها.

فإن قيل: إن استواء النصف الأعلى أحد شقي القيام، فلما لم يثبت باستواء النصف الأعلى شبهة القيام- كما في حالة القعود- وجب ألا يثبت أيضًا باستواء النصف الأسفل شبهة القيام.

قلنا: القيام مع القعود متضادان، والمفارقة للقائم من القاعد إنما ثبت باستواء النصف الأسفل، فلذلك اعتبر استواء النصف الأسفل لا استواء النصف الأعلى، ولأن شبهة الشيء إنما تكون عند اتصالها به لا عند انقطاعها عنه، والركوع متصل بحقيقة القيام، والقعود منقطع عنها، فثبت لركوع مشاركة القيام في أحد شقيه مع اتصال به، فلذلك ثبت للركوع شبهة القيام لا للقعود.

ص: 425

(لأن موضع القراءة جملة الصلاة) رجوعًا إلى قوله عليه السلام: ((لا صلاة إلى بالقراءة)). حتى إنه إذا استخلف الإمام في الشفع الأخير أميًا فسدت صلاته عند أبي حنيفة ومحمد- رحمهما الله- وإن أدى فرض القراءة.

(إلا أن الشفع الأول تعين بخبر الواحد)، وهو ما روى جابر بن عبد الله وأبو قتادة الأنصاري- رضي الله عنهما: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة، وفي

ص: 426

الأخريين بفاتحة الكتاب)). كذا في ((مبسوط المصنف)). وروي عن علي رضي الله عنه ((القراءة في الأوليين قراءة الأخريين)) أي تنوب عنها.

(وقد بقى للشفع الثاني شبهة كونه محلًا)، لأن محل أداء ركن القراءة القيام الذي هو ركن الصلاة. كذا ذكره شمس الأئمة- رحمه الله.

(وإن كان قضاء في الحقيقة) لفوات محل العمل بحكم خبر الواحد الذي يوجب تعيين الأوليين للقراءة.

(ولهذا لو ترك الفاتحة سقطت). هذا استدلال على أن قراءة السورة في الأخريين باعتبار شبهة الأداء؛ لأنه لما لم يكن القول بقراءة الفاتحة الفائتة عن الأوليين باعتبار شبهة الأداء سقطت.

ص: 427

(إنما شرع احتياطًا) أي واجب احتياطًا (فلم يستقم صرفها إلى ما عليه) يعني أن قراءة الفاتحة في الأخريين واجبة عليه أداء. هذا على رواية الحسن عن أبي حنيفة- رحمه الله-فلم يمكن صرف ما عليه إلى ما عليه. بخلاف قراءة السورة؛ لأنها ليست هي عليه فيصح قضاؤها في محل شبهة الأداء.

وذكر المصنف- رحمه الله في ((شرح الجامع الصغير)) روى الحسن عن أبي حنيفة- رحمه الله أن قراءة فاتحة الكتاب في الأخريين واجبة، حتى أنه لو تركها ساهيًا يلزمه سجود السهو فلم يملك صرفها إلى ما عليه، وإنما يملك صرف ما له إلى ما عليه. وكذلك على ظاهر الرواية لا تقضى الفاتحة أيضًا، فإن قراءة الفاتحة إنما وجبت علينا بخبر الواحد، وما وجبت إلا بصفة ترتيب السورة عليها. ألا ترى أن من نسي الفاتحة فذكرها قبل الركوع أنه يقرؤها ويعيد السورة، فإذا انتقل إلى السجود فقد تم الانتقال وفات المشروع بخبر الواحد، والثابت بخبر الواحد ثابت عملًا، فإذا تعذر عمله على ما شرع سقط العمل. فأما السورة فإنما شرعت مرتبة على الفاتحة، وقد قدر على ذلك؛ لأن المتراخي مرتب لا محالة فلم تسقط عنه.

ص: 428

(ولم يستقم اعتبار معنى الأداء). هذا جواب شبهة ترد على قوله: (فلم يستقم صرفها إلى ما عليه) أي قضاء، بأن يقال: لما تستقم قراءة الفاتحة في الأخريين قضاء عن الأوليين لما ذكر أن فيه صرف ما عليه إلى ما عليه فينبغي ألا تجب عليه قراءة الفاتحة في الأخريين أداء كما في السورة، فإن قراءتها في الأخريين إنما كانت باعتبار شبهة الأداء.

فأجاب عنه، وقال قراءة الفاتحة في الأخريين مشروعة أداء، ثم لو قرأها ثانيًا أيضًا أداء يلزم تكرار الفاتحة في ركعة واحدة فإنه غير مشروع.

فإن قيل: إن لم يصح تكرار الفاتحة أداء فلم يصح تكرارها مع صرف إحداهما إلى القضاء، فلم يكن حينئذ تكرارًا في ركعة واحدة من حيث المعنى لذهاب إحداهما إلى محل الأداء تقديرًا كما صرف بعض العلماء قول محمد- رحمه الله فيما قضى السورة في الأخريين وجهر إلى السورة باعتبار أنها مصروفة إلى محلها فلم يكن جمعًا بين الجهر والمخافتة في ركعة من حيث المعنى.

قلنا: لا يصح ذلك، لما أن رعاية الصورة واجبة أيضًا، وعن هذا كان ظاهر الرواية فيما إذا ترك السورة في قول محمد- رحمه الله وجهر مصروفًا إلى الفاتحة والسورة جميعًا؛ لئلا يلزم الجمه بين الجهر والمخافتة في ركعة واحدة صورة، فوجوب رعاية الصورة ثابت في هذا وفي النحو أيضًا، فإن

ص: 429

اللام التي بمعنى الاسم الموصول في قولهم: الضارب أباه زيد، اختير دخولها في اسم الفاعل لا في عين الفعل، وإن كان الاسم الموصول يدخل الفعل لما أن هذه اللام تشبه لام التعريف صورة، وهي لا تدخل على الفعل فكذا ما يشبهها لا يدخل على الفعل أيضًا رعاية للصورة.

وقوله: (وأداء الدين). مثل: أداء ثمن المبيع وتسليم المسلم فيه، وذكر أداء الدين في قسم الأداء الكامل، وإن كانت الديون تقضى بأمثالها؛ لأنه لا طريق لأداء الدين سوى هذه وهذا في بدل الصرف والمسلم فيه واضح، فإن الاستبدال فيهما حرام كحرمة استبدال العين المعين مثل عين المبيع والوديعة، فجعل المقبوض عين ما استحق بالعقد حكمًا وإن كان غيرا حقيقة؛ لأن الواجب بالعقد دين والمقبوض عين والعين غير الدين.

فإن قيل: على هذا التقرير ينبغي أن يكون أداء يشبه القضاء اعتبارًا للحقيقة والحكم.

قلنا: لا يمكن ذلك خصوصًا في باب الصرف والسلم؛ لأن الاستبدال فيه حرام، فاعتبار شبهه بالقضاء يوجب الحرمة، واعتبار شبهه بالأداء لا يوجب، فكان حرامًا ترجيحًا لجانب الحرمة على ما هو الأصل خصوصًا في باب الربا في الصرف؛ لأن الشبهة فيه ملحقة بالحقيقة وليس هو بحرام بالإجماع.

فعلم أنه من قسم الأداء الكامل، ولم يقل أيضًا: أنه أداء قاصر؛ لأنه أدى ما عليه من الجياد.

وأما الأثمان في سائر البيوع فيجب أن يكون تسليمها قضاء على هذا التقرير؛ لأن الديون تقضى بأمثالها لا بأعيانها، والاستبدال فيها غير حرام، ولكن ذلك أيضًا من قسم الأداء الكامل لوجهين:

ص: 430

أحدهما: أن الأداء تسليم عين ما وجب بالعقد فيكون تسليم ما وجب بالعقد أداء حكمًا، ولو كان مثلًا لكان بدلًا عن الأداء، وفي الاستبدال يشترط التراضي، والمشتري إذا أتى بما وجب يجبر البائع على القبول، فعلم أنه عين ما استحق بالعقد.

والثاني: أن القضاء يبتني على الأداء، فإذا لم يمكن الأداء لم يمكن القضاء؛ لأن القضاء خل الأداء، فإذا لم يكن الأصل ممكنًا لا يكون الخلف ممكنًا؛ لأن شرط صحة الخلف إمكان الأصل فاعتبر هذا بوجوب الكفارة فيمن حلف ليمس السماء وعدم وجوب الكفارة في اليمين الغموس وفي

ص: 431

مسألة الكوز؛ لأن الأصل- وهو البر- ممكن في الأول دون الثاني.

ولما ثبت هذا قلنا: لو جعل أداء الدين قضاء ينبغي أن يكون الأداء ممكنًا حتى يكون هذا القضاء خلفًا عن ذلك الأداء وليس للدين ذلك، بل لقضاء الدين طريق واحد.

فعلم أنه جعل أداء كاملًا حكمًا، ولا يشكل على هذا قضاء الصوم للحائض، فإن الصوم من الحائض لم يكن ممكنًا أداء، ومع ذلك صح القضاء الذي هو خلف عن الأداء؛ لانا نقول: إن الأداء ممكن هناك في الأصل قياسًا؛ لأن الحيض لا يمنع صحة الصوم كالجنابة إلا أنه لم يجز أداؤه مع الحيض بخلاف القياس، فكان الأداء قياسًا، فيبتنى القضاء على الأداء الممكن قياسًا، فيجوز القضاء عنه.

فإن قيل: إذا كان دين بدل الصرف والمسلم فيه أداء كاملًا فما القاصر فيهما؟

قلنا: القاصر فيهما هو أداؤه زيفًا ورديئًا، فالأداء باعتبار أن الزيف من جنس الدراهم، والردئ من الحنطة من جنس الحنطة، والقصور باعتبار فوات

ص: 432

صفة الجودة التي تقع عليها مطلق العقود.

(والقاصر مثل أن يغضب عبدًا فارغًا ثم يرده مشغولًا بالجناية) بان يقتل غيره أو يقطع طرفه أو (بالدين) بأن استهلك مال الغير، أو كان مأذونًا فلحقه دين وكذلك في المبيع، ومعنى القصر فيه أنه أداه لا على الوصف الذي استحق عليه التسليم.

وتقرير هذا أنه أداء؛ لأنه رد عين ما غضب، ورد عين ما باع، لمنه قاصر بسبب ما ذكرنا أنه لم يرده على الوصف الذي استحق عليه، فلوجود أصل الأداء إذا هلك عند المغصوب منه قبل الدفع إلى ولي الجناية تم التسليم ولا يلزم على الغاصب شيء، وإذا دفع إلى ولي الجناية انتقض التسليم حتى وجب عليه القيمة اعتبارًا للمعنيين.

وكذلك البائع إذا سلم المبيع وهو مباح الدم فهو أداء قاصر؛ لأنه سلمه على غير الوصف الذي هو مقتضى العقد، فإن العقد يقتضى سلامة المبيع، فإن هلم في يد المشتري لزمه الثمن لوجود أصل الأداء.

وإن قتل بالسبب الذي صار مباح الدم به، رجع بجميع الثمن عند أبي حنيفة- رضي الله عنه لأن الأداء كان قاصرًا، فإذا تحقق الفوات بسبب مضاف إلى ما به الأداء قاصر جعل كأن الأداء لم يوجد.

وقال أبو يوسف ومحمد- رحمهما الله- الأداء قاصر لعيب في المحل.

ص: 433

فإن حل الدم في المملوك عيب، وقصور الأداء بسبب العيب يعتبر ما بقي المحل قائمًا.

وأما إذا فات بسبب عيب حدث عند المشتري وهو قتل ولي الجناية لم ينتقض به أصل الأداء، وقد تلف هاهنا بقتل أحدثه القاتل عند المشتري باختياره ولكن أبو حنيفة- رحمه الله قال: استحقاق هذا القتل كان بالسبب الذي به صار الأداء قاصرًا، فيحال بالتلف على أصل السبب.

قوله: (وما أشبه ذلك) كالغاصب إذا غصب المغصوب صحيحًا ورده مريضًا أو مشجوجًا أو حاملًا لو كان المغصوب أمة.

(وأداء الزيوف في الدين أداء بأصله)، ولكنه قاصر باعتبار فوات وصف الجودة. وتحقيقه أنه وجب على المديون دراهم جياد لاقتضاء مطلق العقد وصف السلامة عن العيب، فإذا أدى زيوفًا فمن حيث أنه أدى جنس الدراهم كان مؤديًا، ومن حيث إنه لم يؤد الجياد كان الأداء قاصرًا، فإذا كان قائمًا في يد من له الدين كان له أن يفسخ الأداء ويأخذ ما كان عليه من الجياد إحياء

ص: 434

لحقه، وإذا هلك عنده بطل حقه في الجناية؛ لأنه لا يتوصل إلى الجياد إلا بفسخ الأداء، ولا يتمكن من فسخ الأداء لهلاك الدراهم، ولا يتمكن أيضًا من أن يرد إلى المديون مثل ما قبض، للزوم الضمان عليه بمثل ما قبض؛ لأنه لا يضمن المرء لنفسه، فإن ذلك غير معهود في الشرع، فبطل القول به.

فإن قلت: حاصر هذا راجع إلى أن يضمن المرء ملك نفسه، وليس ببعيد أن يكون الشيء ملك الرجل ومع ذلك هو مضمون عليه.

ألا ترى أن كسب المأذون له المديون ملك المولى وهو مع ذلك مضمون عليه، وكذلك المرهون مضمون على الراهن، وإن كان ملكًا باعتبار الفائدة، وفي التضمين ههنا فائدة، وهي إحياء حقه في صفة الجودة.

قلت: ليس ما ذكرته نظير ما قلنا؛ لأن كلامنا فيما إذا كان الضمان له مع أن مضمون عليه، وأما ما ذكرته من المسألتين فالضمان هناك يجب للغرماء فلا منافاة فيه. إلى هذا أشار في ((الفوائد الظهيرية)).

ص: 435

والفرق لأبي يوسف بين هذا وبين ما إذا أدى خمسة زيوفًا عن خمسة جياد في الزكاة: أن الفقير لا يرد مثل المقبوض ليأخذ الجياد؛ لأنه أخذ ذلك بحكم الكفاية على ما قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} فيكون آخذًا من الله تعالى حكمًا، ولهذا لو كانت قائمة لا يتمكن من ردها وأخذ الجياد، ولا كذلك ههنا.

والفرق لمحمد- رحمه الله بين هذا وبين الزكاة أن ههنا لو أوجبنا قيمة الجودة يتحقق الربا، وثم لا يتحقق الربا؛ لأنه في العبادات لا في البياعات، والربا مخصوص بالبياعات، ولأنه لا ربا بين المولى وعبده.

وقوله: (وبطل الوصف) أي وصف الجودة؛ (لأنه لا مثل له صورة)؛ لأنه لا يمكن انفكاك الوصف عن الموصوف، فلا يكون صورة وصف بلا موصوف (ولا معنى)؛ لأن القيمة غير معتبرة في الأموال الربوية.

(وهو أن يتزوج رجل امرأة على أبيها وهو عبد) سواء كان ذلك عبدًا للغير أو للزوج.

ص: 436

(فإن لم يقض بقيمته) أي لم يقض القاضي على الزوج بقيمة الأب للمرأة (لزمه تسليمه إلى المرأة؛ لأنه عين حقها).

فإن قيل: ينبغي أن لا يجب تسليمه على الزوج؛ لأنه ظهر أن العبد ملك غير فلم تكن التسمية صحيحة.

قلنا: كون المسمى الغير لا يمنع صحة التسمية.

ألا ترى أنه لو تزوج امرأة على عبد الغير صحت التسمية، حتى إذا عجز عن تسليمه يصار إلى قيمته ولا يصار إلى مهر المثل، فلو لم تصح التسمية لصير إلى مهر المثل، ما إذا تزوجها ابتداء على قيمته، فثبت أن كون المسمى ملك الغير لا يمنع صحة التسمية.

فإن قلت: ما الفرق بين هذا وبين البيع والمسألة بحالها، وهي: أنه إذا باع عبدًا واستحق في يد المشتري، ثم اشتراه البائع كان له أن يمنع من دفعه ولا يلزمه تسليمه إلى المشتري، وهنا لزم الزوج تسليمه إلى المرأة؟

قلت: الفرق بينهما إنما جاء من قبل عدم انفساخ النطاح ووجود انفساخ البيع، وهذا لان الموجب للدفع البيع، والبيع قد انفسخ بخلاف النكاح، فإنه لم ينفسخ بالاستحقاق، فكان الموجب للدفع- وهو النكاح- باقيًا فيثبت موجبه وهو الدفع. إلى هذا أشار في ((الجامع الكبير)) للصدر الشهيد- رحمه الله.

ص: 437

(لأن تبدل الملك أوجب تبدلًا في العين حكمًا) بدليل قصة بريرة رضي الله عنها ((فكار رسول الله عليه السلام دخل على بريرة، فأتت بريرة بتمر، ووضعت بين يدي رسول الله عليه السلام، والقدر كان تلغي باللحم، فقال صلى الله عليه وسلم لبريرة: ألا تجعلين لنا نصيبًا من اللحم؟ فقالت: هو لحم تصدق به علي يا رسول الله! قال عليه السلام: هي لك صدقة، ولنا هدية)).

فثبت بهذا أن تبدل الملك يوجب تبدل العين حكمًا، وهذا لأن تبدل الملك صفة له، وتتبدل الصفة بتبدل العين شرعًا، وإن كانت العين واحدة في أصلها.

ص: 438

ألا ترى أن الخمر إذا تخللت كيف تحل بعد الحرمة؟

فإن قيل: طيف تحل الصدقة لبريرة وهي كانت مكاتبة عائشة- رضي الله عنها ومولى القرشي بمنزلة القرشي في حرمة الصدقة؟

قلنا: يحتمل أن لتك الصدقة كانت صدقة التطوع، وكونها لحمًا دليل عليه؛ لأن العادة في الزكاة المفروضة أن تكون من النقدين، وصدقة التطوع يجوز صرفها إلى بني هاشم ومواليهم.

أو يحتمل أن يكون ذلك حال كتابتها، ويجوز دفع الزكاة إلى مكاتب الهاشمي لإطلاق قوله تعالى:{وَفِي الرِّقَابِ} .

(ثم ملكه الزوج أن حقها لا يعود إليه). يعني أن القاضي لو قضى لها بالقيمة قبل أن يمتلكه الزوج ثم ملكه فسلمه إليها لم يكن ذلك أداء مستحقًا بالتسمية، ولكن يكون مبادلة بالقيمة التي تقرر حقها فيه، حتى أنها إذا لم

ص: 439

ترض بذلك لا يكون للزوج أن يجبرها على القبول بخلاف ما قبل القضاء لها بالقيمة. كذا ذكره شمس الأئمة السرخسي- رحمه الله.

وذكر المصنف- رحمه الله في ((شرح الجامع الكبير)) فإن استحقه رجل فقضي به له بطل ملكها وبطل عتقه وعلى الزوج قيمته، فإن اشتراه الزوج من المستحق أو ملكه بوجه من الوجوه فأراد أن يدفعه إليها فأبت فإنها تجبر على أخذه، وإن طلبت هي فأبى فإنه يجبر على تسليمه إليها.

ثم هاهنا ثلاث كلمات الإيضاح بقوله: ولهذا قلنا: ((إن الزوج إذا ملكه لا يملك أن يمنعها إياه)) إيضاح دليل الأداء، والأخريات هما قوله:((ولهذا قلنا أنهلا يعتق)) وقوله: ((ولهذا قلنا إذا اعتقه الزوج إلى قوله: ((صح)) إيضاح دليل القضاء.

(ويتصل بهذا الأصل) أي بأصل الأداء (أن من غصب طعامًا فأطعمه المالك) بأن يكون طعامًا يؤكل من غير تغيير بأن كان خبزًا أو لحمًا مطبوخًا، وإنما قيدنا لهذا لأنه لو كان دقيقًا فخبزه ثم أطعمه المالك لا يبرأ عن الضمان بالاتفاق، ثم إنما قيد بقوله:((فأطعمه المالك)) ليظهر موضع الخلاف؛ لأنه إذا جاء المالك إلى بيت الغاصب، فأكل ذلك الطعام المغصوب من غير إطعام الغاصب يبرأ الغاصب عن الضمان بالاتفاق وإنما الخلاف في إطعام الغاصب.

ص: 440

وقال (الشافعي) رحمه الله في أحد قوليه: (لا يبرأ)؛ لأنه ما أتى بالرد المأمور به (فإنه غرور)؛ لأنه أقدم على الأكل بناء على خبره أنه أكرم ضيفه، ولو علم أنه ملكه ربما لم يأكله وحمله إلى عياله (ولو) فأكله معهم، وهكذا الخلاف أيضًا فيمن غصب ثوبًا، ثم كسا الغاصب الثوب رب الثوب، فلبسه حتى تحرق ولم يعرفه، فلا شيء له على الغاصب عندنا خلافًا له. كذا في ((المبسوط)).

(ولو كان قاصرًا لتم بالهلاك) يعني إذا أدى الزيوف مكانا لجياد ولم يعلم القابض فهلك في يده يتم الأداء، (فكيف لا يتم ههنا وهو كامل؟) من حيث إن عين ماله من غير تغيير وصل إليه ثم هلك في يده، ولأن أكثر ما في

ص: 441

الباب ألا يكون فعل الغاصب هو الرد المأمور به، ولكن تناول المغصوب منه العين المغصوبة كاف في إسقاط الضمان عن الغاصب، وقد ذكرنا أن المغصوب منه إذا جاء إلى بيت الغاصب، وأكل ذلك الطعام بعينه وهو يظن أنه ملك الغاصب برء الغاصب من الضمان.

(والجهل لا يبطله) أي لا يبطل الأداء (وكفى بالجهل عارًا! فكيف يكون عذرًا) فإن هذا جهل المالك، ولو تصرف المالك في ملكه ولم يعلم أنه ملكه فإن ذلك لا يمنع صحة تصرفه.

ألا ترى أن من اشترى عبدًا ولم يقبضه فقال البائع للمشتري: اعتق عبدي هذا- وأشار إلى المبيع- فأعتقه المشتري، ولم يعلم أنه عبده صح إعتاقه، ويجعل قبضًا، ولزمه الثمن؛ لأنه أعتق ملكه وجهله بأنه ملكه لا يمنع صحة ما وجد منه، فكذلك هاهنا.

(والعادة المخالفة للديانة الصحيحة) هذا جواب عن قوله: إذ المرء لا يتحامى في العادات عن غير مال غيره؛ وقيد بالصحيحة؛ لأن الموضع موضع الإباحة فلا يكون تناول مال الغير مخالفًا للديانة مطلقًا في موضع الإباحة، بل كان ذلك مخالفًا لعادة من يتقى ويحترز عن الشبهة غاية الاتقاء والتحرز رجوعًا إلى قول صلى الله عليه وسلم:((كل من كد يمينك)) وهذا لأنه لا يعلم يقينًا عدم شبهة

ص: 442

الحرمة في مال غيره ويعلمه فيما اكتسبه بنفسه، فذلك كان من عادة المتقين غاية الاتقاء ألا يكتفوا بظاهر الحل شرعًا، بل يتفحصون غاية التفحص، ويتحرزون مما فيه وهم شبهة الحرمة، وذلك ايحصل في تناول مال الغير بمجرد الإباحة، فلذلك كان تناول مال الغير بمجرد الإباحة مخالفًا للديانة الصحيحة أي للتقوى القوية؛ لأن الديانة القوية تقتضي أن يتحرز عن مال الغير أكثر مما يتحرز من مال نفسه؛ لأنه لا يجوز له أن يفعل بمال الغير ما لا يفعل بمال نفسه، والعادة إنما تعتبر إذا لم تكن مخالفة للديانة، إذا كان كذلك لا يكون مثل هذه العادة مبطلًا للأداء الواجب الذي هو الأداء الكامل؛ (لأن عين) حق صاحب الحق (وصل إلى يده) من غير تغير، وما كان واجبًا في الإيصال يصرف إلى الواجب، وإن أوصله بأي طريق كان.

(وفي باب القروض)، وإنما قال باب القروض؛ لأن قضاء الدين من باب الأداء الكامل على ما مر لأنه لا يمكن فيه سوى القضاء، فقام القضاء مقام الأداء الكامل ضرورة.

وأما في باب القروض فالأداء الكامل ممكن بأن يرد عين ما قبض، وأما

ص: 443

إذا أنفق ثم قضى مثله كان قضاء، وهذا المعنى لا يتصور في الديون فكان أداء.

ولا يقال إن القرض إعارة فكان ما سلمه إلى المقرض عين ما أقرضه حكمًا، ضرورة أن لا يجري الربا في النقد بالنسيئة؛ لأنا نقول: إن ذلك حكم، وما ذكرناه حقيقة، فلذلك ذكر في أنواع القضاء.

فإن قيل: ينبغي أن يكون قضاء القرض يشبه الأداء؛ لأنه قضاء من حيث الحقيقة وأداء من حيث الحكم لسلوك طريق الإعارة فيه حتى لم يجر الربا فيه بالنسيئة بمقابلة النقد فكان عينه من حيث الحكم، فكان بمنزلة رجل أدرك الإمام في العيد راكعًا فإنه قضاء يشبه الأداء بهذا الطريق، وكذلك فيما إذا فاتت السورة عن الأوليين وقرأها في الأخريين.

قلنا: التكبير في الركوع أداء من وجه؛ لان محل الأداء باق من وجه، وكذلك في قضاء السورة في الأخريين، فلهذا قلنا: فيه معنى الأداء، فأما هاهنا ففات محل الأداء من كل وجه فلم يكن له شبه الأداء، فلهذا ذكره في أنواع القضاء بخلاف ما إذا تزوج امرأة على أبيها، فإن ثم أداء حقيقة قضاء حكمًا؛ لانا بينا أن تبدل الملك يوجب تبدل العين حكمًا من غير ضرورة داعية إلى ذلك، فكان أداء من وجه قضاء من وجه.

ص: 444

فأما في باب القرض فهو قضاء حقيقة، وإنما جعل عين ما قبض حكمًا لضرورة قضاء حاجات الناس، وما ثبت بالضرورة يتقدر بقدر الضرورة فلم يظهر في كونه أداء. (فكان سابقًا) أي على أقسامه من القضاء.

(إذا انقطع مثله) كالرطب وفيما لا مثل له نحو الحيوان.

وقوله: (ولهذا قال أبو حنيفة) يتصل بقوله: فكان سابقًا؛ يعني أن المثل الكامل وهو المثل صورة ومعنى مقدم على المثل معنى، ولهذا المعنى قال أبو حنيفة- رحمه الله إلى آخره.

(ألا ترى أن القتل قد يصلح ما حيا أثر القطع) فكان قتله بمنزلة البرء من القطع من حيث إن المحل يفوق به فلا تصور للسرية بعد فوات المحل فيجعل كالبرء من هذا الوجه، حتى إذا كان القاتل غير القاطع كان القصاص في النفس على الثاني خاصة.

ص: 445

وقال في ((مختصر الحاكم)) فلو كان لكل واحد منا لجنايتين جان على حدة، وهما جميعًا عمد أو خطأ، أو أحدهما عمد والآخر خطأ أخذ كل واحد منهما بجنايته، وأثر المحو ثابت في غير هذا أيضًا، فإنه إذا رمى إنسان إلى الصيد يدون التسمية وجرحه ثم أدركه حيًا وذكاه يحل.

فعلم أن الفعل الثاني ماح أثر الفعل الأول ولو لم يمح لما حل بالتذكية، وإليه وقعت الإشارة في قوله تعالى:{وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} فالشارع جعل التذكية ماحية لأكل السبع وجرحه؛ لأنها لو كانت محققه للأول ههنا لحرم أكله (كما يصلح محققًا، فإن القتل بعد القطع يكون إتمامًا للفعل الاول؛ لان قطعه يحتمل أن يسري فيموت مقطوع اليد من قطعه، فكان قتله بعد القطع تحقيقًا لتلك السراية، وهذا لا يحتملان يكون مراد القاطع القتل فكان قتله بعد ذلك محققًا لموجب القطع، فكانت الجنايتان متحدة من هذا الوجه، وعلى تقدير محو أثر القطع كانت الجناية متعددة.

فلذلك (خيرنا) الولي (بين الوجهين) إن شاء مال إلى وجه التعدد فيقطعه ثم يقتله، وإن شاء مال إلى وجه الاتحاد فيقتله ابتداء من غير سابقة القطع.

ص: 446

وقوله: (ولهذا قلنا: لا يضمن المثلي) يتعلق أيضًا بقوله: فكان سابقًا وكذلك قوله: (ولهذا) قلنا (لا تضمن منافع الأعيان) يتعلق به أيضًا؛ لأنه لما لم يكن للمنافع مثل لا صورة ولا معنى لم تضمن في عصبها أو إتلافها عندنا لعدم إمكان الضمان بالمثل، والشارع شرط المثل في باب العدوان بقوله تعالى:{فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} .

اعلم أن للمسألة صورتين: غصب المنافع، وإتلاف المنافع، فغصب المنافع هو: أن يغصب عبدًا ويمسكه أيامًا ولم يستغله ثم رده إلى مولاه.

وأما إتلاف المنافع فهو: أن يستخدمه ويستغله ثم يرده إلى مولاه، فعندنا لا يضمن شيئًا في الصورتين، وعند الشافعي يضمن فيهما، ولكن بينهما تفاوت عنده في موضع آخر، فغنه إذا غصب الحر وأمسكه أيامًا لم يضمن منافعه؛ لأن الحر في يد نفسه، وأما إذا استخدمه فأتلف عليه ضمن، وفي

ص: 447

العبد يضمن في الصورتين.

اعلم أن هذه المسألة مبنية على أصلين مختلف فيهما بيننا وبينه.

أحدهما: أن المنافع زوائد تحدث في العيد شيئًا فشيئًا، وفد بينا أن زوائد المغصوب لا تكون مضمونة على الغاصب عندنا وتكون مضمونة عند الشافعي.

والثاني: أن الغصب الموجب للضمان عنده يحصل بإثبات اليد، واليد على المنفعة تثبت كما تثبت على العين، وعندنا لا يتحقق إلا بيد مفوته ليد المالك، وذلك لا يتحقق في المنافع؛ لأنها لا تبقى وقتين فلا يتصور كونها في يد المالك ثم انتقالها إلى يد الغاصب حتى تكون يد الغاصب مفوته يد المالك، فلذلك لا تضمن المنافع بالغصب عندنا. كذا في ((المبسوط)) وغيره، فتذكر ههنا ما ذكر في ((النهاية)) من شبهات الخصم وجوابها فإنه الكبريت الأحمر والجربل الأوفر.

وفي هذا نسخ مختلفة، ولكن بعضها تقارب البعض في المعنى، وقالوا

ص: 448

في إتلاف المنافع: إن المنافع لا تضمن بالأعيان كما لا تضمن الأعيان بالمنافع، فلو كانت الأعيان مثلًا للمنافع لكانت المنافع مثلًا للأعيان وهي ليست بمثل للأعيان بالإجماع، فكذا في عكسها.

وقوله: (وأما جواز العقد فبناء على قيام العين مقام المنفعة) هذا جواب إشكال مقدر وهو أن يقال: كيف يجوز العقد والمنافع معدومة غير متقومة على ما قلتم؟

والجواب: لا نسلم أن المعقود عليه هو المنافع حتى أنه إذا أضاف العقد إلى المنافع بأن يقول: أجرتك منافع هذا الدار شهرًا بكذا تفسد الإجارة، بل

ص: 449

الدار خلف عن المنافع في حق صحة العقد فكان المعقود عليه موجودًا وقت العقد، ولهذا إذا وجدت المنفعة انتقلت الإضافة إليها كالانتقال من الخلف إلى الأصل، ولا يلزم أنها تقومت في باب العقود وليس إلى التقوم حاجة إذ الاستبدال صحيح من غير التقوم. يعني لو قال الخصم: إن المنافع متقومة قبل ورود العقد عليها لا أنها لم تكن متقومة فتقومت في باب العقود بطريق الحاجة والضرورة؛ لأنه لا ضرورة في جعلها متقومة لتصحيح الاستبدال منها؛ لأن الاستبدال صحيح من غير التقوم كبدل الخلع وكبدل العين التي أعماها وغير ذلك، وحيث تقومت في باب العقود بالإجماع علم أنها متقومة من غير ورود العقد عليها؛ لأن ما ليس بمال لا يصير مالًا بورود العقد عليه كالخمر والخنزير والميتة والدم.

فالجواب عنه: أنها صارت متقومة في باب العقود لا في غيره؛ لان تقوم الأشياء إنما يكون بالإحراز بعد الوجود، والإحراز يفتقر إلى البقاء، ولا بقاء للمنافع فلا يثبت التقوم، وإنما ثبت التقوم لها في باب العقود بخلاف القياس عند التراضي، وليس في الغصب تراض فلا يثبت التقوم، ولا يلزم علينا الاستبدال في الخلع مع عدم التقوم؛ لأن ذلك ثابت بالنص بخلاف القياس أيضًا عند التراضي بخلاف الغصب، وكذلك لا يلزم علينا أروش الأطراف وديات النفوس؛ لأن الآدمي مكرم مصون في نفسه وأطرافه، فكان ذلك

ص: 450

من ضرورة وجوب الصيانة لا من باب التقوم، ولأن وجوب البدل هنالك بمقابلة العين لا بمقابلة المنافع فلا يرد علينا نقضًا.

وقوله: وليس إلى التقوم حاجة؛ ليس كذلك بل إلى التقوم حاجة فتقومت في باب الإجارة من غير معنى يعقل. والدليل على هذا أن الله تعالى شرع ابتغاء الأبضاع بالمال فقال: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} فالإحلال موصوف بهذه الصفة، فتكون هذه الصفة شرطًا، والمشروط لا وجود له بدون الشرط. كما لو قيل: أعط هذا الدرهم لرجل طويل لا يتمكن من دفعه إلى رجل غير طويل، والشرع جوز ابتغاء

ص: 451

البضع بالمنافع كما إذا تزوج امرأة برعي غنمها سنة جاز وصار ذلك مرهًا. قال تعالى: {عَلَى أَنْ تَاجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} .

فعلم أنها تقومت في باب العقود، ولو لم يتقوم لما جاز رعي الغنم مهرًا. إذ شرعيته بالمال المتقوم؛ لأن للرضا أثرًا في باب الأصول أي المبيع، والفصول أي الثمن، وكل قياس لا يقوم إلا بوصف تقع به المفارقة بين الفرع والأصل باطل، وههنا الوصف الذي تقع به المفارقة التراضي يعني أن التراضي موجود في باب العقود، فلذلك تقومت المنافع هناك ولم يوجد التراضي في باب الغصب فلا تتقوم لذلك. وهذا مثل قول لعض أصحاب الشافعي في مس الذكر إنه حدث؛ لأنه مس الفرج فكان حدثًا كما إذا مسه وهو يبول.

وكذلك قولهم: هذا مكاتب فلا يصح التكفير بإعتاقه كما إذا أدى بعض بدل الكتابة وهذا ليس بتعليل لا طردًا ولا تأثيرًا على ما يجيء بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.

ص: 452

(ولهذا قلنا: إن المال غير مشروع مثلًا) إيضاح لقوله: إن ضمان غير المال المتقوم بالمال المتقوم قضاء بمثل غير معقول؛ وقيد بقوله: مثلًا؛ احترازًا عن شرعيته صلحًا، فإن ولي القصاص يأخذه صلحًا؛ لأن (القصاص مثل للأول صورة) وهي حز الرقية (ومعنى) وهي إزهاق الروح (وهو) أي القصاص (إلى الإحياء الذي هو المقصود) أي بالنص لقوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ومعنى الإحياء في القصاص من حيث الشرعية ومن حيث الاستيفاء.

وقد ذكر المصنف- رحمه الله وجه الإحياء في القصاص في باب القياس من هذا الكتاب.

(فلك يجز أن يزاحمه) أي أن يزاحم القصاص (ما ليس بمثل صورة) ولا معنى وهو المال. فيه نفي لقول الشافعي، فإن في القتل العمد يجب القصاص عينًا عندنا إلا أن للولي أن يصالح القاتل على المال، وللشافعي قولان:

في قول: موجب القتل العمد أحد الشيئين: إما المال، وإما القصاص،

ص: 453

ويتعين أحدهما باختيار الولي.

وفي القول الآخر: موجبه القصاص إلا أن للولي أن يختار أخذ الدية من غير رضا القاتل، وعندنا لا يجوز للولي أخذ شيء من الدية إلا برضا القاتل، ولما كان المال عنده أحد موجبي القتل العمد لم يصح عفوًا المريض مرض الموت في حق المال؛ لأن العند عنده يوجب المال ولا وصية للقاتل، وأما في حق القصاص فصحيح. كذا في ((المبسوط)). (وإنما شرع) أي المال (عند عدم المثل) وهو فيما إذا قتل خطأ.

قوله: (ولهذا قلنا نحن خلافًا للشافعي) إيضاح لقوله: إن تضمين غير المال المتقوم بالمال المتقوم غير معقول (إن القصاص لا يضمن لوليه بالشهادة الباطلة على العفو). يعني إذا قتل رجل رجلًا عمدًا فادعى القاتل أن ولي المقتول قد عفا عنه، وشهد الشهود بذلك، وقضى القاضي بذلك حتى بطل القصاص، ثم رجع الشهود فقالوا: كذبنا في شهادتنا فإنهم لا يضمنون

ص: 454

عندنا وعنده يضمنون.

(أو بقتل القاتل) وهو إضافة المصدر إلى المفعول يعني لو قتل رجل أجنبي من عليه القصاص لا يضمن لمن له القصاص وهو ولي القتيل الأول.

(وإنما شرعت الدية) أي في القتل الخطأ، وإنما أعاد هذا لإعادة قوله: فلم يكن له مثل صورة ومعنى؛ لتعليل مسألة أخرى ذكرها.

وقوله: (والعفو عن القصاص مندوب إليه) جواب شبهة ترد على ما ذكر قبله، وهي أن يقال: لما صين الدم عن الهدر ينبغي ألا يصح العفو؛ لأن في العفو هدرًا، فأجاب عنه بهذا.

(ولهذا قلنا: إن ملك النكاح) يتصل هذا أيضًا بمثله لإيضاح قوله: أن تضمين غير المال المتقوم بالمال المتقوم غير معقل (لا يضمن بالشهادة بالطلاق بعد الدخول) يعني ثم الرجوع يعني إذا شهد الشهود على رجل أنه طلق امرأته ثلاث تطليقات أو طلاقًا بائنًا بعد الدخول، وقضى القاضي به، ثم رجعوا لا يضمنون للزج شيئًا، وكذلك إذا قتل رجل منكوحة رجل لا

ص: 455

يضمن للزوج شيئًا بسبب إبطال النكاح، وكذلك إذا ارتدت المرأة حتى بطل النكاح لا تضمن للزوج شيئًا.

(لأنه ليس بمال متقوم) أي لأن ملك النكاح ليس بمال متقوم؛ لأن الملك عبارة: عن القدرة، والشد، والربط، والاختصاص بالمطلق الحاجز، وكيف ما كان الملك صفة قائمة بالمالك فلا يكون مالًا، فلذلك لا يضمن بالمال؛ لأن المال ليس بمثل له لا صورة ولا معنى، ومثل هذا لا يضمن بالمال على ما ذكرنا في غصب المنافع (وإنما يقوم بالمال بضع المرأة تعظيمًا لخطره) أي لعظمته يعني كان ينبغي ألا يجب المال المتقوم عند النكاح أيضًا؛ لأن الآدمي وجميع أجزائه ليس بمال متقوم، فإيجاب المال الذي هو ليس بمثل له لا صورة ولا معنى غير معقول على ما ذكر قبله، ولكن إنما وجب المال عند النكاح إظهارًا لعظمة البضع الذي هو جزء الحرة صار مملوكًا للزوج، فكانت الصيانة للبضع

ص: 456

جبرًا لنقصانه لكونه مملوكًا لا للملك الوارد عليه وهو حل الاستمتاع؛ لأن الملك لم ينتقض بشيء فلا يحتاج إلى الانجبار بالمال، وما كان كذلك لم يجب الضمان على من أبطل ذلك الملك الذي هو غير متقوم بالمال المتقوم.

(حتى صح إبطاله بغير شهود) فإن إبطال ذلك الملك بالطلاق غير محتاج إلى الشهود هذا لبيان أن الملك الوارد على البضع لا خطر له، (ولهذا لم يجعل له) أي للبضع (حكم التقوم عند الزوال) أي لا يجب المال عند الطلاق. هذا لبيان أن المال الذي وجب على الزوج عند النكاح إنما كان لجبر نقصان حل بالبضع بكونه مملوكًا، فلذلك لم يجب عند زوال الملك عنه؛ لأنه لم ينتقض بذلك بوجه بل هو إطلاق له فلا يحتاج إلى الجابر.

(ولا يلزم الشهادة بالطلاق قبل الدخول فغنها عند الرجوع توجب ضمان نصف المهر) هذه المسألة ترد إشكالًا على أصلنا وأصل الشافعي. أما على أصلنا فظاهر، وهو: أن البضع لما لم يكن له قيمة عند الزوال، حتى إن الشهود لا يضمنون بالشهادة الباطلة بشهادتهم على الزوال بعد الدخول وجب ألا يضمنوا أيضًا.

ص: 457

بالشهادة الباطلة بشهادتهم على الزوال قبل الدخول.

وأما على أصل الشافعي- رحمه الله فإن ملكا لنكاح ملك متقوم عنده ينبغي أن يلزم تمام المهر على الشهود بشهادتهم الباطلة.

(لم يجب مهر المثل تامًا كما قال الشافعي)، فإنه يقول: لا يجب مهر المثل تامًا على الشهود كما هو قولنا إلا أن نقول: إن وجو نصف المهر على الشهود لم يكن باعتبار قيمة البضع بل باعتبار إتلافهم نصف المهر على الزوج، وأما الانفصال للشافعي عما ورد الإشكال على أصله حيث لم يقل هنا بوجوب قيمة البضع تامًا على الشهود مع أنهم أبطلوا ملك النكاح وهو متقوم عنده، فيقول: إن المهر بتمامه سلم للزوج ههنا؛ لأن بالشهادة بالطلاق قبل الدخول سلم له براءة نصف المهر بالنص، ويرجع أيضًا على الشهود بالنصف الذي ضمن فيسلم الكل.

وقوله: ألا ترى أنه لم يجب مهر المثل تامًا؛ إيضاح لقوله: إن ضمان نصف المهر على الشهود لم يكن لقيمة البضع بل لإتلافهم ذلك على الزوج؛ على ما ذكرنا. لما أن جبر النقصان يعتمد القيمة لا الثمن.

ص: 458

فإن من غصب عبدًا مثلًا فقمته ألف درهم وكان استراه مولاه بمئة درهم، فعلى الغاصب عند الهلاك يجب الألف لا المائة باعتبار أنه يجب عليه قيمة العبد لا المسمى، وههنا أيضًا كذلك لو كان ما وجب على الشهود باعتبار قيمة البضع لوجب عليهم مهر المثل تامًا؛ لأن قيمة البضع.

(لكن المسمى الواجب بالعقد لا يستحق تسليمه) أي تسليم المسمى الواجب بالعقد يعني أن المعقود عليه إذا فات قبل القبض لا يجب شيء، كالمبيع إذا هلك قبل القبض لا يجب على المشتري شيء بل ينتقض البيع، وكذلك في باب النكاح إذا فات المعقود عليه وهو حل بضع المرأة بسبب ليس هو من قبل الزوج لا يجب على الزوج شيء أيضًا، كما إذا مكنت ابن زوجها أو ارتدت- والعياذ بالله- وههنا فات المعقود عليه عن الزوج قبل التسليم إليه بسبب ليس هو من قبل الزوج، ينبغي ألا يجب عليه شيء، لكن وجب عليه نصف المهر بشهادة الشاهدين؛ لأنهما أثبتا على الزوج شببًا مفوتًا جاء من قبله

ص: 459

بالنكاح فهمًا بالإضافة إليه صار كالملزمين عليه نصف الصداق حكمًا، أكأنهما فوتا على لزوج يده في ذلك النصف بعد فوات تسليم البضع، فيكونان بمنزلة الغاصبين في حقه، فيجب عليهما ضمانه، وهذا لأنهما لما رجعا عن شهادتهما زعما أنهما قصرا يده عن هذا المقدار من المال، فيجب عليهما ضمانه، وقيمة الشيء قضاء له لا محالة؛ لأنها مثله في المالية ويخرج بها عن عهدة ضمانه، والقضاء إسقاط الواجب بمثل من عنده.

(وصح تسليمه) أي تسليم العبد باعتبار أنه معلوم من وجه بالصرف إلى الوسط في جنس العبيد، (فصارت القيمة مزاحة للمسمى) أي كان للقيمة جهة الإصالة أيضًا (من هذا الوجه) كالمسمى يعني كما كان المسمى أصلًا كانت القيمة أيضًا أصلًا، فلذلك تجبر المرأة على القبول إذا أتى الزوج بأيهما كان، ولكن لما كانت قيمة الشيء مثله كان في تسليمها جهة القضاء أيضًا، لوجود حد القضاء فيه، فلما كان حد القضاء فيه موجودًا من هذا الوجه كان جانب حقيقة القضاء فيه راجحًا، فلذلك كان قضاء في حكم الأداء لا أداء في حكم القضاء. بخلاف العبد العين أو المكيل أو الموزون إذا كان موصوفًا أو

ص: 460

معينًا؛ لأن المسمى معلوم بعينة وصفته، فتكون القيمة بمقابلته قضاء ليس في معنى الأداء، فلا تجبر على القبول إذا أتاها به إلا عند تحقق العجز عن تسليم ما هو المستحق كما في ضمان الغصب. كذا ذكره الغمام شمس الأئمة- رحمه الله.

(ومن قضية الشرع) أي ومن مقتضى حكمة الأمر (في هذا الباب) أي باب الأمر (أن حكم الأمر موصوف بالحسن عرف ذلك بكونه مأمورًا به) أي لم يعرف كون المأمور به حسنًا، لا من حيث اللغة، فإن صفة الأمر كما يجيء من أمن يؤمن كذلك يجيء من كفر يكفر، ولا من حيث (العقل)، فإن العقل غير موجب لحسن الشيء ولا لقبحه عندنا خلافًا للمعتزلة، بل هو معرف على ما يجيء بل عرف حين المأمور به من قضية حكمة الآمر في الشرع؛ لأن الشارع حكيم، والحكيم لا يأمر بالقبيح، وهذا الذي ذكر إنما ذكره لمناسبة الباب.

ص: 461

باب بيان صفة الحُسن للمأمور به

(ضرب لا يحتمل سقوط هذا الوصف) أي وصف الحسن لان حسنه لذاته فلا يسقط عنه هذا الوصف لعدم سقوط المأمور وهو يدر مع المأمور به كالتصديق بالقلب في الإيمان بالله تعالى.

ص: 462

(وضرب يقبله) أي يقبل السقوط. يعني يسقط عن المكلف التكليف به لا أن حسنة يسقط عنه؛ لأن حسنه لذاته، فلا يتصور الانفكاك عنه، لكنه يحتمل سقوط التكليف به بعارض الجنون والإغماء وهو الصلاة.

(وضرب منه ملحق بهذا القسم) كالزكاة والصوم والحج، وقوله: بهذا القسم؛ أي بالذي حسن لمعنى في نفسه.

(وما حسن لغيره وذلك الغير قائم بنفسه مقصودًا) وهو الصلاة بعد الوضوء قائمة بنفسها مقصودة (لا تتأدى بالذي قبله بحال) أي لا تتأدى

ص: 463

الصلاة بفعل المأمور به الذي قبلها وهو الوضوء في كل حال، وهذا احتراز عن الضرب الذي بعده وهو الجهاد وصلاة الجنازة، فإنهما صارا حسنين بسبب قهر الكفرة وقضاء حق المسلمين، فغنهما يتأديان بفعل نفس المأمور به وهو الجهاد وصلاة الجنازة.

(وضرب منه حسن لحسن في شرطه بعد أن كان حسنًا لمعنى في نفسه أو غيره) يعني يكون المأمور به حسنًا باعتبار أنه مأمور به صدر من حكيم، ويكون ذلك المأمور به حسنًا أيضًا باعتبار شيء آخر غيره، وهو كون القدرة الممكنة شرطًا له، ويجوز أن يكون الشيء حسنًا لمعنى في نفسه وحسنًا أيضًا لمعنى في غيره كما إذا قال: والله لأصلين ظهر هذا اليوم. كان الظهر حسنًا باعتبار أنه مأمور به، وحسنًا أيضًا باعتبار معنى في غيره وهو البر في يمينه تعظيمًا لاسم الله تعالى.

ولهذا أيضًا نظير في الحسيات كامرأة حسناء في نفسها خلقة ثم إذا لبست أثوابًا فاخرة رائقة وزينت نفسها مع ذلك بأنواع من الزين كانت هي حسنة في نفسها حسنة لمعنى في غيرها.

(وهذا القسم يسمى جامعًا)؛ لأنه يجمع النوعين مع ضروبهما، ثم إنما أورد هذا القسم في النوع الثاني مع أنه جامع للنوعين لحصل الزائد من الغير

ص: 464

فكان مناسبًا للنوع الثاني؛ إلا أن هذا الغير لا يختص بالنوع الثاني، بل يشمل النوعين فسمي جامعًا. (وهو ركن لا يحتمل السقوط) أي سقط وصف الحسن.

(حتى إذا تبدل بضده بعذر الإكراه لم يعد كفرًا) يعني إذا كان قلبه مطمئنًا بالإيمان (لأن اللسان ليس معدن التصديق)؛ لأنه لو كان اللسان معدنًا للتصديق يلزم أن يكون إقرار المنافق إيمانًا؛ لأنهم {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} قال الله تعالى في مقابلة شهادتهم {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} .

فعلم أن اللسان ليس معدن التصديق (فكان ركنًا دون الأول) أي كانت ركنية الإقرار أحط رتبة من ركنية التصديق في ماهية الإيمان؛ لسقوط وصف الحسن عن الإقرار في وقت من الأوقات، وهو وقت الإكراه وعدم سقوط وصف الحسن عن التصديق في كل الأوقات، ولكن مع ذلك فوات الإقرار من غير عذر يدل على فوات الإيمان، فكان الإقرار أدنى درجة من التصديق وأعلى درجة من سائر العبادات، فكان التصديق والإقرار ركنين في ماهية

ص: 465

الإيمان إلا أن التصديق أعلى الركنين والإقرار أدناهما، فصار كالقيام مع القراءة في حق الصلاة، فكان الإقرار مع ذلك ركن الإيمان وجودًا وعدمًا، فإن وجوده يدل على وجود الإيمان، فواته في حالة الاختيار- أي تبديله بغيره- يدل على فوات الإيمان.

وقوله: (فمن صدق بقلبه وترك البيان من غير عذر لم يكن مؤمنًا) هذا الذي ذكره هو مذهب المحققين من الفقهاء، وأما عند أهل الكلام فهو مؤمن عند الله تعالى.

وقال في ((الكفاية)) وقال المحققون من أصحابنا: إن الإيمان هو التصديق بالقلب، والإقرار باللسان شرط إجراء الاحكام في الدنيا، حتى إن من صدق بقلبه ولم يقر بلسانه فهو مؤمن عند الله تعالى لوجود التصديق غير مؤمن في أحكام الدنيا لعدم الإقرار.

ص: 466

(من لم يصادف وقتًا يتمكن فيه من البيان) بان كان معتقل اللسان (فكان مختارًا في التصديق) أي قبل ظهور البأس وقبل أن يرى ملائكة العذاب (كان مؤمنًا إن تحقق ذلك) وإنما ذكر تحققه بحرف الشرط لندرة ذلك التحقق.

وقوله: (وكالصلاة) وهو نظير القسم الثاني من النوع الاول بدليل إعادة كلمة التشبيه كما في قوله: فنحو الإيمان؛ وأما الإقرار فهو أحد نوعي القسم الأول من النوع الأول، فكان التصديق والإقرار معًا نظير القسم الأول من النوع الأول (حتى سقطت بأعذار كثيرة) كالجنون والإغماء والحيض والنفاس.

(إلا أنها ليست بركن في الإيمان) أي عندنا حتى أن فوتها وتفويتها مع الاختيار لا يدل على فوات الإيمان، إذا كان الاعتقاد مع فرضيتها موجودًا بخلاف الإقرار، فإن ذلك دليل التصديق وجودًا وعدمًا.

وأما الصلاة فلا تكون دليل التصديق وجودًا وعدمًا، وقد تدل على ذلك إذا أتى بها على هيئة مخصوصة، ولهذا قلنا إذا صلى الكافر بجماعة المسلمين يحكم بإسلامه.

ص: 467

(فإن الصوم صار حسنًا لمعنى قهر النفس، والزكاة لمعنى حاجة الفقير) - إلى أن قال- (إلا أن هذه الوسائط غير مستحقة لأنفسها)؛ لانها كانت بخلق الله تعالى إياها على هذه الصفة، فلذلط كانت الزكاة والصوم والحج في المعنى من النوع الذي هو حسن لمعنى في عينه لكون هذه الوسائط مما لا اختيار له.

فإن قلت: لم جعلت هذه الوسائط وسائط حتى جعلت هذه المأمور بها وهي الزكاة والصوم والحج من القسم الثالث، ولم جعل الصلاة من جملتها مع أن واسطة القبلة موجودة فيها أيضًا، وتلك الواسطة مما لا اختيار لها كما في هذه الوسائط أيضًا، ومع ذلك جعلت الصلاة نظير القسم الثاني من النوع الأول على ما ذكرت؟

قلت: جواب هذا مع ما يتلاحق به موفى في ((الوافي)).

ص: 468

(فصار هذا كالقسم الثاني) أي صار القسم الثالث وهو الزكاة ونحوها كالقسم الثاني وهو الصلاة حتى (شرطنا لها أهلية كاملة) من العقل والبلوغ؛ لأن ما لم يكن عبادة خالصة يجوز أن يجب على الصبي والمجنون وما كان عبادة خالقة كالصلاة والزكاة لا يجب عليهما فشرطت الأهلية الكاملة في العبادات الخالصة ابتلاء بخلاف حقوق الناس حيث يجب عليهما عند وجود سببها؛ لأن وجوب ذلك لم يكن ابتلاء بل لإحياء حققهم وجبر ما نقص من حاجاتهم.

(وقط لا يتأدى به الجمعة) أي لا تتأدى الجمعة بالسعي نفسه بل بفعل مقصود بعده وهو إقامة الجمعة، بخلاف الجهاد حيث يتأدى المقصود الذي هو المحسن وهو إعلاء كلمة الله تعالى بالجهاد نفسه.

ص: 469

وقوله: (وكذلك الوضوء عندنا) أي ليس هو بفرض مقصود، وبين ذلك بقوله:(ليست بعبادة مقصودة).

(ولا يتأدى به الصلاة بحال) أي لا يسقط فرض بمجرد الوضوء.

(وتستغني عن صفة القربة في الوضوء) أي وتستغني الصلاة عن وجود النية في الوضوء.

(أن الصلاة تستغني عن هذا الوصف) أي عن وصف النية في الوضوء بان يكون الوضوء منويًا.

(لكنه خلاف الخبر) وهو قوله عليه السلام: ((الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتى الدجال)) كذا في ((المصابيح)).

ص: 470

(ولما كان المقصود يتأدى بالمأمور به بعينه كان شبيها بالقسم الأول)

أي لما كان المقصود وهو إعدام الكفر وقضاء حق الميت يتأدى بنفس الجهاد ونفس الصلاة على الميت كان نفس الجهاد ونفس الصلاة على الميت شبيهًا بالذي هو حسن لمعنى في نفسه كالإيمان والصلاة. بخلاف الوضوء مع الصلاة، ف'ن الصلاةً لا تتأدى بنفس الوضوء.

(وأما الضرب الثالث فمختص بالأداء) أي الضرب الذي هو حسن لحسن في شرطه وهو الضرب الجامع للنوعين. يشترط وجود ذلك الشرط في حق الأداء (دون قضاء) أي يبقى القضاء واجبًا في ذمة المكلف بدون ذلك الشرط الذي هو (عبارة عن قدرة يتمكن بها العبد من أداء ما لزمه وذلك شرط الأداء) أي شرط لتحقق الأداء، وذلك لأن القدرة مقارنة للفعل؛ لأن الفعل لا يتصور بدون تلك القدرة فيتوقف الفعل على تلك القدرة.

ص: 471

فأما كون الفعل مأمورًا به وكونه واجبًا عليه فلا يتوقف على تلك القدرة بل يتوقف ذلك على سلامة الآلات وصحة الأسباب، فتكون القدرة الحقيقية شرطًا لوجود الفعل لا لكون الفعل مأمورًا به، فإن المأمور به يؤمر به قبل أن توجد تلك القدرة.

ومعنى قوله: (وذلك شرط الأداء دون الوجوب) أي شرط تحقق الأداء لا شرط نفس الوجوب بالدليل وجوب الصلاة على النائم والمغمى عليه فيما إذا أغمي دون يوم وليلة.

وقال الإمام شمس الأئمة السرخسي -رحمة الله- فإن الواجب أداء ما هو عبادة، وذلك عبارة عن فعل يكتسبه العبد عن اختيار ليكون معظمًا فيه ربه فينال الثواب، وذلك لا يتحقق بدون هذه القدرة. غير أنه لا يشترط وجودها وقت الأمر لصحة الأمر؛ لأنه لا يتأدى المأمور به بالقدرة الموجودة وقت الأمر بحال، وإنما يتأدى بالموجود منها عند الأداء وذلك غير موجود سابقًا على الأداء، فإن الاستطاعة لا تسبق الفعل وانعدامها عند الأمر لا يمنع صحة الأمر، ولا يحرجه من أن يكون حسنًا بمنزلة انعدام المأمور، فإن النبي عليه السلام كان رسولًا إلى الناس افة. قال الله تعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ)؛ وقال: (نَذِيرًا لِلْبَشَرِ) ولا شك أنه أمر جميع من أمرسل إليهم بالشرائع، ثم صح الأمر في

ص: 472

حق الذين وجدوا بعده، ويلزمهم الأداء الأداء بشرط أن يبلغهم فيتمكنوا من الأداء. قال الله تعالى:(لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) فكما يحسن الأمر قبل وجود المأمور يحسن قبل وجود القدرة التي يتمكن بها من الأداء، ولن يشترط التمكن عند الأداء.

ألا ترى أن التصريح بهذا الشرط لا يعدم صفة الحسن في الأمر، فإن المريض ي} مر بقتال المشركين إذا برأ، فيكون ذلك حسنًا. قال الله تعالى:(فَإِذَا اطْمَانَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) أي إذا آمنتم من الخوف فصلوا بلا إيماء ولا مشي.

(وهو نوعان) أي الضرب الثالث الذي هو عبارة عن القدرة نوعان:

(مطلق وكامل) المراد من المطلق: القدرة الممكنة وهي أدنى ما يتمن به المأمور من أداء ما لزمه.

ومن الكامل: القدرة الميسرة وهي زائدة على الأولى بدرجة، (وهذا فضل ومنة من الله تعالى عندنا).

فإن قلت: إن نفس الأداء لا يتحقق بدون هذه القدرة. إذا الأمر بدون هذه

ص: 473

القدرة كان تكليف ما ليس في الوسع، وقد تبرأ الله تعالى عنه بقوله:(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) فاشترط هذه القدرة حينئذ كان عدلًا لا فضلًا فكيف سماه فضلًا؟

قلت: إنما قال هذا فضل من الله تعالى؛ لأن الله تعالى يعطي ما يعطي لعباده لا عن وجوب عليه، فكيف فضلًا من هذا الوجه، ولا تنافي بين العدل والفضل عند اختلاف الجهة، فكان ما أعطى العبد من القدرة فضلًا منه من حيث إنه لا يجب عليه شيْ لما أن الأصلح على الله تعالى ليس بواجب وعدلًا وحكمة من

ص: 474

حيث إنه لا يتأتى هذا الفعل من العبد بدونه كما ذكره في (التقويم).

ولكن ما ذكره المصنف رحمه الله أحسن في العبارة ليكون إشارة إلى مذهبنا بأن الله تعالى متفضل بكل ما أعطى العبد من النعم، ولأن العدل إنما يستعمل في عقوبة الجاني بقدر جنايته لا زائد عليها، ولما كان ذر الفضل ذكرا يختص بمذهبنا خلافًا للمعتزلة لما عرف في مسألة الأصلح.

قال عندنا، (حتى أجمعوا أن الطهارة بالماء لا تجب على العاجز عنها ببدنه) وتأويله إذا لم يجد من يعينه فإن وجد من يعينه إن كان ذلك حرا يجوز التيمم عند أبي حنيفة رضي الله عنه لأنه عاجز عن الطهارة بالماء ببدنه ولا يجب على الحر إعانته، وعندهما لا يجوز التيمم؛ لأنه قادر على التوضيء

ص: 475

أصله الأعمى إذا وجد قائدًا هل يجب عليه الجمعة، فإن وجد مملوكًا بعينه؟ فعندهما لا يجوز التيمم بالطريق الأولى، وعند أبي حنيفة - رحمة الله - يجوز له التيمم في رواية ولا يجوز له في أخرى؛ لأن مملوكه بمنزلة يديه.

(إلا بنقصان يحل) به بأن اشتد مرضه (أو بماله في الزيادة) بأن يكون على ضعف قيمته بأن كان في موضع، ثمن ماء يتوضأ به درهم وهو لا يجد إلا بدرهمين فإنه يتيمم، ولو وجده بدرهم ونصف فإنه يشتريه. كذا ذره في (المبسوط).

وقوله (وفي مرض) معطوف على قوله: في الزيادة؛ أي لا تجب الطهارة بالماء من عجز عن استعمال الماء إلا بنقصان يحل بماله في حق الزيادة على ثمن مثله أو بنقصان يحل ببدنه في حق مرض (يزداد به) أي بسبب استعمال الماء، وحاصله أن الله تعالى كما نفى تكليف ما ليس في الوسع بقوله:(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) كذلك نفي الحرج بقوله تعالى (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) فما يوجب الحرج في نفسه أو ماله كان منفيًا.

ص: 476

(لا يجب أداؤها إلا بهذه القدرة) وهي القدرة الممكنة.

وحاصل هذا أن من كان مأمورًا بفعل في زمان كالإيمان بالله تعالى في دار الدنيا، زكالأضحية في أيام العيد، أو في مكان كذبح الهدايا في الحرم وغيرها لا بد أن يكون المأمور قادرًا على تحصيل المأمور به على الحقيقة؛ لأن تكليف ما ليس في الوسع ليس بحكمة؛ لأن التكليف ابتلاء وإنما يحصل الابتلاء بقدرة المكلف. إن أتى بالمأمور به يثاب وإن تركه يعاقب.

ألا ترى أنه لا يجوز أن يؤمر المقعد بالمشي والأعمى بالإبصار بالعين، والآدمي بالطيران؛ لأن كلًا منهم ليس بقادر على تحصيل ما أمر به.

إذا عرف هذا فنقول: من كان مأمورًا بالإيمان لم يكن له بد من القدرة على اكتساب الإيمان، وتلك القدرة تعتمد سلامة الآلات وصحة الأسباب، فكان التكليف دائرًا بتلك القدرة لا بالقدرة الحقيقية التي تقارن الفعل إذ لو كان كذلك ينبغي ألا يكون أحد مأمورًا بالفعل قبل وجود الفعل؛ لأن تقديم المشروط على الشرط محال وهذا لا يجوز؛ لأنه مأمور بالإيمان قبل حصول تلك القدرة بالإجماع، وكذلك من كان مأمورًا بالطهارة بالماء لا بد له من القدرة على تحصيل الطهارة بالماء وذلك بسلامة الآلات والأسباب، وذلك من كان مأمورا بأداء ركعتين أو أزيد منه في الوقت لم يكن بد من القدرة على تحصيل ما أمر به وذلك بسلامة الآلات والأسباب وكذلك في غيرها.

وقال زفر رحمه الله لما كان هذا الأصل مستقرًا إذا أسلم الكافر في آخر الوقت أو بلغ الصبي أو أفاق المجنون، ولم يبق من الوقت إلا مقدار تسع فيه

ص: 477

التحريمة فقط لا قضاء عليهم؛ لأنهم لم يقدروا على تحصيل ما أمروا به في الوقت، والقضاء خلف الأداء، فإذا لم يكن الأداء مقدورًا لهم لم يثبت القضاء كما وجد هذه الأشياء بعد انقضاء الوقت.

لكن أصحابنا قالوا: القياس ما ذكرت إلا أنا استحسنا وجوب القضاء عليهم؛ لأن القدرة الحقيقية التي هي المقارنة للفعل ليست بشرط لوجوب القضاء عليهم بالاتفاق فبعد ذلك نقول: لما لم تكن القدرة المقارنة شرطًا لوجوب القضاء وقد وجد هنا سبب أصل الوجوب وهو جزء من الوقت وأصل الوجوب لا يفتقر لإلى القدرة ووجوب الأداء مفتقر إلى القدرة لكون الأداء مطلوبًا منه، وما ذكرت من القدرة شرط لتكليف الأداء في الوقت، وهؤلاء لم يخاطبوا بالأداء في الوقت لعدم القدرة على ذلك، ولكن توهم القدرة كاف لوجوب الأداء ليظهر أثره في حق وجوب القضاء، والقدرة على هذا التفسير متوهمة؛ لأن الله تعالى قادر على أن يوقف الشمس فيمتد الوقت فيؤدي هو في الوقت إلا أنه لما كان المأمور عاجزًا عن الأداء في الوقت في الحال لم يخاطب بالأداء في الوقت، وتعتبر هذه القدرة في حق وجوب القضاء؛ لأن القضاء خلف وشرط الخلف عدم الأصل في الحال مع إمكان الأصل في الجملة وقد وجد هنا، وهذا أصل واضح لعلمائنا فإنهم قالوا: إذا حلف ليمس السماء أو ليقبلن هذا الحجر ذهبًا انعقدت اليمين للبر وهو الأصل، لكنه لما كان عاجزًا في الحال وجب القول بوجوب الخلف وهو الكفارة؛ لأن الأصل ممكن.

ص: 478

ألا ترى أن الأصل إذا لم يكن ممكنًا وهو البر لم يثبت الخلف وهو الكفارة كما في اليمين الغموس، فصارت القدرة على هذا التقرير نوعين:

قدرة ثبتت للمكلف على تحصيل ما كلف به وهي عند سلامة الآلات وصحة الأسباب وهذه القدرة ثبت أثرها في لزوم الأداء في الوقت فإذا فات يجب القضاء.

وقدرة متوهمة غير مقدوره للعبد على ما هو العادة فتعتبر هذه القدرة في حق وجوب الأداء ليثبت ذلك الوجوب في حق الخلف، والشيء قد يثبت تقديرًا وإن لم يثبت تحقيقًا.

ألا ترى أن القادر على استعمال الماء حقيقة يقدر عاجزًا تقديرًا كما في الماء المعد لدفع العطش، وكالنائم يعد قادرًا على الأداء تقديرا حتى يظهر أثر ذلك في حق وجوب القضاء، بخلاف ما إذا انقضى الوقت ثم وجد ما ذكرنا من الإسلام وغيره؛ لأن القدرة في الحال في الزمان الماضي من المستحيلات فلم يمكن أن يعد قادرا، ثم ما ذكرنا من نوعي القدرة ليس بشرط في وجوب القضاء.

ألا ترى أنه في النفس الأخير من العمر يلزمه تدارك ما فاته وليس هو بقادر على تحصيل ما أمر به في القضاء ولهذا يبقى عليه بعد الموت، وليس ذلك كالجزء الأخير من الوقت في حق الأداء؛ لأنا اعتبرنا تلك القدرة ليظهر أثرها في حق الخلف ولا خلف للخلف، فلم تعتبر وقد بقيت الفوائت عليه.

ص: 479

فعلم أن القدرة مختصة بالأداء.

قوله: (لأن تمكن السفر المخصوص به) أي بالحج (لا يحصل بدون) الزاد والراحلة (في الغالب) فلذلك كانت القدرة الممكنة في الحج القدرة على الزاد والراحلة، ولا يقال بل دون هذه القدرة قدرة أدنى منها قد يتمكن المرء من أداء الحج وهي صحة البدن التي يقدر بها على تحصيل الزاد في الطريق بالاكتساب ويقدر أيضا على المشي حتى صح النذر به، وقد نرى وجود الحج بهذه الطريقة، والقدرة الممكنة هي أدنى ما يتمكن بها العبد من أداء ما لزمه فينبغي أن يجب الحج على الصحيح البدن المكتسب؛ لأنا نقول: لا يجب الحج على من لا يملك الزاد والراحلة. إذ لو قلنا بوجوبه على من هذا صفته يقع الناس في غاية الحرج، والله تعالى نفى ذلك بنص كتابه بقوله تعالى:(وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) والذي اعتبرناه في الصلاة من توهم القدرة وإن كان لا يتحقق الأداء من مثل ذلك القادر غالبا ليظهر أثره في خلفه وهو القضاء لا لعين الأداء، فإن عين الأداء منه غير مطلوب.

وأما في صورة الحج فلا يمكن مثل هذا القول؛ لأنه لا خلف هناك ينتفي الحرج عند مباشرة ذلك الخلف.

(حتى إذا هلك النصاب بعد الحول قبل التمكن سقط الواجب بالإجماع)

ص: 480

هذا إيضاح ما ذكره بقوله: فأدنى ما يتمكن به المأمور من أداء ما لزمه بدنيا ان أو ماليا (وهذا في المالي؛ لأنه لما لم يتمكن من أداء ما لزمه وهلك المال قبل التمكن لم يحصل له من القدرة أدنى ما يتمكن به المأمور من أداء ما لزمه، فلذلك سقط الواجب، أي لم يجب عليه ما له عرضية الوجوب، وإنما قلنا هذا؛ لأن عندنا لا يجب عليه الواجب إلا عند وجود القدرة الممكنة وهي لم تحصل له، وكذلك عند الشافعي فإن عنده لا تجب الزكاة إلا بثلاث شرائط: كمال النصاب، وحولان الحول، والتمكن من الأداء كذا ذكره في (المبسوط).

وصورة ذلك في ابن السبيل إذا كان له نصاب في بيته وحال الحول عليه فوجب عليه أداء الزكاة إذا بلغه، وإذا هلك النصاب قبل البلوغ إليه سقط الواجب بالإجماع.

(ولهذا قال زفر في المرأة تطهر من حيضها أو نفاسها) إلى آخرة هذا إيضاح أيضا لما ذكر أن أدنى ما يتمكن به المأمور من أداء ما لزمه من القدرة شرط خطاب الأداء، وهؤلاء لما لم يدركوا وقتا صالحا للأداء غالبا لم يخاطبوا به فلذلك لم يلزمهم قضاؤه لانعدام الشرط وهو التمكن من الأداء غالبا لا نادرا ولكن علماؤنا قالوا: يلزمهم أداء الصلاة استحسانا؛ لأن السبب

ص: 481

الموجب جزء من الوقت وشرط وجوب الأداء كون القدرة على الأداء متوهم الوجود لا كونها متحقق الوجود.

وقوله: (بعد تمام الحيض) أي بعد العشرة أي تشترط حقيقة الطهر في جزء من الوقت بأن يكون أيامها عشرة (أو دلالة انقطاعه) بأن يون أيامها دون العشرة، فينقطع الدم، والباقي من الوقت مقدار ما يمكنها أن تغتسل فيه وتتحرم للصلاة.

وذر المصنف رحمه الله في كتاب حيض له مفرد: إن مدة الاغتسال من الحيض إذا كانت أيامها دون العشرة، ويتفرع عن هذا الأصل مسائل: أن الزوج إذا راجعها في تلك المدة في الحيضة الأخيرة من العدة تصح، ولا يجوز للزوج قربانها في تلك المدة، وإذا كانت أيامها عشرة ليس كذلك، حتى يجوز للزوج قربانها في تلك المدة ولا تصح الرجعة.

وقوله: (قبل تمامه) أي تمام الحيض وتمامه بالعشرة، وهذا لأن في أوامر العباد صفة الحسن ولزوم الأداء يثبت بهذا القدر من القدرة، فإن من قال لعبده: اسقني ماء غدا يون أمرا صحيحا موجبا للأداء فلا يتعين للحال بأنه

ص: 482

يقدر على ذلك في غد لجواز أن يموت قبله أو يظهر عارض يحول بينه وبين التمكن من الأداء، فكذلك في أوامر الشرع وجوب الأداء يثبت بهذا القدر.

(وكذلك في سائر الفصول) أي في فصل الصبي، وفصل الكافر، وفصل المسافر بأن بلغ وأسلم وأقام.

وقوله: (لكن توهم القدرة) أي القدرة الممكنة (يكفي لوجوب الأصل) أي لوجوب الأداء.

(والأمر المطلق في اقتضاء صفة الحسن يتناول الضرب الأول من القسم الأول) أي يحمل على أن المأمور به حسن لعينه، ولا يحمل على أنه

ص: 483

حسن لغيره، ولكن يحتمل أن يكون حسنا لغيره على ما ذكر.

فإن قلت: في أي موضع صورة هذه المسألة؟

إن قلت: في العبادات، فقد ذكر قبيل هذا بطريق التفصيل أن هذا من قبيل الحسن لمعنى في عينه كالإيمان، وأن هذا من قبيل الحسن لمعنى في غيره كالسعي إلى الجمعة وغيره.

وإن قلت: في غير العبادات فتعليله في الكتاب بقوله: وكذلك كونه عبادة يقتضي هذا المعنى يرد ذلك.

قلت: الكلام مجرى على إطلاقه فيدخل تحته العبادات وغيرها، وما ذكره أولا بطريق التفصيل كان جزئيا وهذا كلي والكلي غير الجزئي خصوصا عند احتمال غير ذلك.

ألا ترى أن مثل هذا مذكور في حق الوجوب فإن صور الواجبات في العبادات مذكورة بطريق التفصيل أن هذا العبادات واجبة أي فريضة كالصلوات الخمس وواجبة عملا لا علما كالعمرة والأضحية وهذه العبادات غير واجبة كالنوافل، ثم ذكر أن مطلق الأمر يحمل على الوجوب باعتبار هذا المعنى أن هذا كلي وذاك جزئي والكلي غير الجزئي، والعلم بالجزئي لا يون علما بالكلي وكذا في عكسه، فإن النادبين والمبيحين والواقفين في الأمر المطلق يعرفون وجوب الصلوات الخمس والزكاة والصوم وهي جزئية، ولا

ص: 484

يعرفون وجوب الأمر المطلق وهو كلي، وكذا في عكسه أن كل أحد كان يعرف وجوب شكر المنعم وحظر الكفران، وكان لا يعرف بطريق التفصيل قبل ورود الشرع أن الصلاة والزكاة وغيرهما من قبيل شر المنعم أم لا؟ ونكاح المحارم وسائر المحرمات من النساء من حظر الكفران أم لا؟

وكذلك كل أحد يعرف بطريق الإجمال أن جواب الفتوى إما أن يكون نعم أم لا، ولكن لا يعلم بطريق التفصيل أن جواب هذه الفتوى المعينة نعم أم لا؟ إلا بعد زيادة المجاهدة في التحصيل، وترك أمر الدنيا في التعطيل، ولأن المرء قد يحتاج في التمسك في مسألة من المسائل بمطلق الأمر إلى معرفة أن هذا حسن لمعنى في عينه؛ لأن هذا ثابت بمطلق الأمر، ومطلق الأمر يقتضي ذلك كما نقول مثل ذلك في التمسك بالوجوب.

وقوله: (لأن كمال الأمر) والأمر إنما يكمل بحسب كمال ولاية الآمر، ولا آمر أمل ولاية من الشارع، فكان أمره أكمل الأوامر يقتضي كمال صفة المأمور به، وصفة المأمور به إنما تكمل إذا كان حسنه لمعنى في عينه، وإن شيءت معرفته فتأمل في كمال صفة الإيمان مع غيره من المأمور بها كيف ترجح الإيمان على غيره من العبادات، وما ذاك إلا باعتبار أن حسنه ذاتي بحيث لا ينفك عنه أصلا، وكذلك كونه عبادة يقتضي هذا المعنى وهو معنى كون المأمور به حسنا لعينه، وهذا لأن العبادة عبارة عن نوع فعل ابتلي الآدمي بفعله تعظيما لله تعالى مختارا لطاعته على خلاف هوى نفسه. كذا ذكره في (التقوي).

ص: 485

لو تعظيم من هو مستحق التعظيم لمعنى في عينه.

وقال الإمام شمس الأئمة رحمه الله والأصح عندي أن بمطلق الأمر يثبت حسن المأمور به لعينه شرعا فإن الأمر لطلب الإيجاد وبمطلقه يثبت أقوى أنواع الطلب وهو الإيجاب، فيثبت أيضا أعلى صفات الحسن لأنه استعباد فإن قوله تعالى:(أَقِيمُوا الصَّلَاةَ) وقوله: (اعْبُدُونِي) هما في المعنى سواء، والعبادة لله تعالى حسنة لعينها.

(ويحتمل الضرب الثاني) وهو كون المأمور به حسنا لمعنى في غيره كما في أمر الوضوء، وهذا لأن ثبوت هذه الصفة بطريق الاقتضاء؛ لأن حسنه إنما ثبت لضرورة أن الآمر حكيم، والثابت بطريق الاقتضاء إنما يثبت ما هو الأدنى في ذلك الباب، والأدنى هو الحسن لمعنى في غيره.

(وعلى هذا قال الشافعي وهو قول زفر) أي وعلى كون الأمر المطلق مقتضيا صفة الحسن لمعنى في عينه.

(دل على صفة حسنه) أي على صفة حسن الجمعة لعينها، ومن ضرورته لم يكن الظهر مشروعا في وقتها لمن وجبت عليه الجمعة.

ص: 486

(حتى قالا: لا يصح أداء الظهر من المقيم مالم تفت الجمعة) إلا أنهما اختلفا في تحقق فوات الجمعى، فعند زفر يتحقق فوتها بفراغ الإمام من صلاة الجمعة، وعند الشافعي بخروج الوقت، واختلافهما هذا بناء على أصل وهو أن السلطان شرط عند زفر رحمه الله لإقامة الجمعة، وعند الشافعي ليس بشرط، فكان فوات الأصل وهو الجمعة بخروج الوقت.

(صار الظهر حسنا) أي صار حسنا لمعنى في عينه على وجه ينفي حسن غيره؛ لأن حسن الشيء لعينه يقتضي الكمال والكمال في أن يكون هو متعينا لا يزاحمه غيره إذ عند المزاحمة لا يبقى الكمال.

فلذلك إذا أدوا صلاة الظهر ثم أدوا صلاة الجمعة لا تنقض ظهرهم بأداء الجمعة فكان المريض والعبد والمسافر بمنزلة من صلى الظهر في بيته، ثم أدرك الجماعة كان فرضه ما أدى في بيته فكذلك ههنا؛ لأن هذا اليوم في حقهم كسائر الأيام، ولو اكتفوا أيضا بأداء الجمعة لا يخرجون عن عهدة فرض الوقت، ولكنا نقول: الجمعة أقوى من الظهر، ولا يظهر الضعيف بمقابلة القوي، وإنما فارق المريض الصحيح في الترخص بترك السعي إلى الجمعة،

ص: 487

فإذا شهدها فهو والصحيح سوا، فيكون فرضه الجمعة كما في الصحيح. كذا في (المبسوط).

(قلنا نحن: لا خلاف في هذا الأصل) وهو أن المقيم الصحيح مأمور بعد الزوال يوم الجمعة بأداء الجمعة. (لن الشأن في معرفة كيفية الأمر بالجمعة) يعني على طريق نسخ حسن الظهر كما هو مذهب الزفر والشافعي - رحمهما الله - أو على تقرير حسن الظهر كما هو مذهبنا.

(فصار ذلك مقررا لا ناسخا) أي صار الأمر بأداء الجمعة مقررا للظهر لا ناسخا له.

(وأمر بنقضه بالجمعة كما أمر بإسقاطه بالجمعة) أي الصحيح المقيم أمر بنقض الظهر عنه بأداء الجمعة كما أمر بإسقاط الظهر عنه بأداء الجمعة قبل أدائه.

ص: 488

(وأمر بنقضه بالجمعة كما أمر بإسقاطه بالجمعة) أي الصحيح المقيم أمر بنقض الظهر عنه بأداء الجمعة كما أمر بإسقاط الظهر عنه بأداء الجمعة قبل أدائه.

(وإنما وضع عن المعذور). هذا جواب عن قولهما بأن المريض والعبد والمسافر لم يخاطبوا بالجمعة على وجه المنع. لا نسلم أنهم لم يخاطبوا بالجمعة بل خوطبوا بها؛ لأن قوله تعالى: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) عام متناول للجميع، ولكن سقط عنهم وجوبها رخصة وترفيها في حقهم، فإذا أدوا الجمعة عملوا بالعزيمة فيصح.

وقوله: (فلا يبطل به العزيمة) أي فلا يبطل بأداء الظهر وهو الرخصة، العزيمة التي هي الجمعة.

(وإنما قلنا إن الضرب الثالث من هذا القسم) أي من الذي حسن لمعنى في شرطه.

(حكما لتقصيره) أي زجرا لتقصيره.

(فضلا من الله تعالى) كيلا يكون تكليف العاجز (فلم يشترط لبقاء الواجب)

ص: 489

كالشهود في باب النكاح فإنه شرط لصحة انعقاد النكاح لا لبقائه، وهذا لأن القدرة الممكنة شرط وجوب الأداء لئلا يكون بدونها التكليف ما ليس في الوسع، فلما وجب الأداء عند وجود هذه القدرة التي هي أدنى ما يتمكن به المرء من أدائه بقي ذلك الواجب قضاء في ذمة المكلف وإن لم يبق تلك القدرة؟ لما أن القضاء يجب بالسبب الذي وجب به الأداء، فكان الواجب في القضاء عين ذلك الواجب الذي كان في الأداء فلا يتكرر الشرط في مشروط واحد، فلما كان كذلك كان وجوب الصلاة بالقدرة الممكنة في أصله، فلم يشترط في حال القضاء ما شرط في حال الأداء حتى أنه إذا ترك الصلاة في عنفوان شبابه ثم كبر وانحنى وبم يقدر على قضائها قائما فصلى القضاء قاعدا أو بإيماء يجزيه، لأن الأداء ما وجب في أصله بقدرة ميسرة بل بقدرة ممكنه من الفعل قيبقى كذلك فيخرج عن عهدة القضاء إذا قضاها بالقدرة الناقصة.

أو نقول: فلم تشترط القدرة لبقاء الواجب؛ لأن بقاء الشيء غيره بدليل صحة إثباته مع نفي بقائه بأن يقال وجد ولم يبق، فلو كان بقاء الشيء عين ذلك الشيء لما صح ذلك، كما لا يصح قولك وجد ولم يوجد ولما كان بقاء الشيء غير ذلك الشيء فكان اشتراط القدرة التي شرط الوجوب ابتداء لم يكن شرطا لبقاء ذلك الوجوب؛ لأن الشيء إذا كان شرطاً لشيء لا

ص: 490

يلزم أن يكون شرطا لغيره، ولا يقال يلزم حينئذ تكليف ما ليس في الوسع في حق حال البقاء؛ لأنا نقول: لم نقل بالتكليف ابتداء، بل نقول التكليف الذي وجب ابتداء بشرطه وإنما بقي على عهدته ذلك الواجب بسبب تقصيره وإن لم تبق له قدرة وعدم بقاء القدرة لو كان مسقطا للواجب ينبغي أن تسقط الواجبات عن ذمته بالموت؛ لأنه لا عجز أقوى من الموت، وقد بقيت الواجبات في ذمته بعد الموت في حق الإثم بالإجماع.

علم أن العجز غير مسقط للواجب وإن لم تبقى القدرة.

(لا تسقط بهلاك المال كما ذكرنا) وهو قوله: لأن هذه القدرة كانت شرطا لوجوب الأداء إلى آخره.

(وأما الكامل من هذا القسم) أي من الذي حسن لمعنى في شرطه (وهي زائدة على الأولى) أي في اليسر (بدرجة) وهي درجة التغيير والتيسير، فإن الواجب بالقدرة الميسرة أينما وجب، وجب متغيرا عن أصل القدرة إلى قدرة اليسر فيبقى كذلك على صفة اليسر؛ لأن التغير باليسر صفة له لا شرط، فلا يبقى الموصوف بدون الصفة؛ لأنه حينئذ لا يكون موصوفا بها فيشترط دوامها ليكون موصوفا بها بخلاف القدرة الممكنة فإنها شرط وجوب الأداء لئلا يكون التكليف بدونها تكليف ما ليس في الوسع، وقد وجد الوجوب حال وجود

ص: 491

الممكنة، ثم بعد ذلك لا يشترط بقاء الشرط كما في شهود النكاح إذا ماتوا يبقى النكاح صحيحا وإن لم يبق الشهود لما ذكرنا أن الشرط لا يتكرر في واجب واحد؛ لأن الوجوب في القضاء لم يتكرر فكذا لا يتكرر شرطه هذا هو الفرق الواضح بينهما.

(وفرق ما بين الأمرين) أي بين القدرة الممكنة وبين القدرة الميسرة (وهذه لما كانت ميسرة غيرت صفة الواجب).

فإن قيل: لم يكن ذلك الواجب واجبا قبل وجود القدرة الميسرة فكيف يصح قوله: غيرت صفة الواجب؟

قلنا: كان لذلك الشيء صلاحية أن يكون واجبا قبل وجود القدرة الميسرة كما في الواجبات بالقدرة الممكنة فسمى لتلك الصلاحية صفة الواجب، أو معنى قوله: غيرت صفة الواجب (الوجوب الذي ثبت بها ابتداء بطريق اليسر والسهولة فسمى لوجوبه بطريق السهولة ابتداء اسم التغيير، (فجعلته سمحا سهلا لينا) وهذا لأن الواجب عند القدرة الممكنة لم يكن بطريق اليسر بل بطريق أنه لا وجود لهذا الفعل إلا عند وجود هذه القدرة، وفيما نحن فيه الله تعالى لطف بعباده وتفضل عليهم حيث لم يوجب عليهم بالقدرة الممكنة مع صلاحية الوجوب بها كما في الواجبات بالقدرة الممكنة بل لم يجب فيما نحن فيه بتلك القدرة، فكان ذلك الواجب في نفسه متغيرا من العسر إلى اليسر

ص: 492

للتسهيل والتليين. ولا يلزم أن النصاب شرط لابتداء الوجوب. وجه الورود هو أنه جعل وجوب الزكاة بالقدرة الميسرة فكان بقاء القدرة شرطا لبقاء الواجب حتى إذا لم تبق تلك القدرة لم يبق الواجب أيضا.

فقال: (ولهذا قلنا: الزكاة تسقط بهلاك النصاب) إلى آخره، فورد عليه بقاء وجوب الزكاة بقدرة عند نقصان النصاب، فلو كان وجوب الزكاة بالقدرة الميسرة لما بقي وجوبها عند نقصان النصاب. كما لا يجب ابتداء بنقصان النصاب.

فأجاب عنه بهذا، وقال: إن اشتراط النصاب في ابتداء الوجوب كان من القدرة الممكنة؛ لأن هذه القدرة وهي قدرة ملك النصاب لا تغير صفة الواجب من العسر إلى اليسر، فلم تكن تلك القدرة ميسرة بل ممكنة فلذلك بقي الواجب بقدر ما يبقى من النصاب.

فإذا قلت: النصاب سبب وجوب الزكاة وهو معروف فكيف قال هاهنا: النصاب شرط لابتداء الوجوب؟

ص: 493

قلت: لا نسلم أن النصاب سبب، بل السبب هو المال مطلقا عند وجود شرطه وهو كون المال مقدرا بمقدار النصاب وناميا وغير ذلك على ما عرف، وذلك لأن السببية إنما تعرف بالإضافة، والإضافة إنما توجد في حق المال مطلقا من غير تغرض لوصف فيقال: زكاة المال، ولا يقال: زكاة النصاب.

فعلم بهذا أن معنى قوله: (النصاب شرط لابتداء الوجوب) أي المال المقدر بمقدار النصاب وكون المال مقدرا بمقدار النصاب شرط لوجوب الزكاة لا سبب ككونه ناميا، وهو شرط بالاتفاق فكذا هنا.

(فصار ذلك شرطا للوجوب) يعني أن شرط النصاب بمنزلة القدرة الممكنة في حق الصلاة؛ لأن المعنى من القدرة الممكنة أن يثبت للمكلف أصل المكنة وبدونها لا يتمكن من الفعل وهاهنا كذلك؛ لأن النصاب قدرة ممكنة إذ الإغناء لا يتصور من غير الغني فكان الغنى شرطا للإغناء، والغنى إنما يكون بكثرة المال، وليس للكثرة حد تعرف به، فقدر الشرع بحد واحد وهو النصاب، فلم يحصل الغنى بما دون النصاب ولم يحصل الإغناء شرعا أيضا ممن لا يملك

ص: 494

النصاب. إذًا الإغناء من غير الغني لا يتصور كالتعليم من غير العالم، فكان قدر النصاب للإغناء قدرة على هذا الوجه إذ لم يتصور الإغناء ممن يملك شرعا لما لم يتصور وجوب أداء الصلاة بدون القدرة الممكنة، فلذلك لم يشترط دوام النصاب لدوام وجوب الزكاة (لما كان أمرا زائدا على الأهلية الأصلية)، فالأهلية الأصلية لوجوب العبادات: الإسلام والبلوغ عن عقل وزيد على ذلك في الزكاة الغنى، فصار الغنى لوجوب الزكاة شرطا أيضا كالإسلام والبلوغ والعقل لما أن المزيد إنما يكون من جنس المزيد عليه، فلما كان المزيد عليه شرطا للوجوب كان المزيد أيضا شرطا له، أو نقول:: إن الغنى الذي الذي يحصل بملك النصاب لما كان من قبيل القدرة الممكنة في الزكاة كان ذلك بمنزلة القدرة الممكنة في الصلاة، وتلك القدرة في الصلاة شرط وجود الصلاة على العبد، فكذا هذه القدرة كانت شرط وجوب الزكاة على العبد؛ لأن كلا منهما زائد على الأهلية الأصلية التي تحصل بالإسلام والبلوغ عن عقل، وقد ذكرنا أن الذي وجب بشرط شيء ابتداء يبقى واجبا بدون ذلك الشرط كما في القدرة الممكنة في الصلاة، فلذلك بقي وجوب الزكاة وإن لم يبق النصاب كاملا.

فإن قيل: هذا الذي ذكرته يقتضي أن يبقى وجوب الزكاة بعد هلاك النصاب أيضا كما هو الحكم في القدرة الممكنة كذلك، والحكم بخلافه هاهنا.

قلنا: إنما يلزم هذا الإشكال علينا أن لو شرطنا بقاءه باعتبار القدرة الممكنة، وإنما شرطنا بقاءه باعتبار قيام صفة النماء وهي القدرة الميسرة،

ص: 495

فشرطنا بقاءه للقدرة الميسرة وهي النماء لا القدرة الممكنة وهي النصاب، والدليل عليه أنه إذا هلك بعض النصاب يبقى بعض الواجب ببقاء ذلك البعض ولا يبقى كل الواجب.

(وشرط الوجوب) أي وشرط وجوب الأداء وهو الغنى بالنصاب، (حقا لصاحب الحق) وهو الفقير.

(فعد) أي فعد المال (قائما)، واستهلا النصاب هو: أن ينفقه في حوائج نفسه أو يتلفه مجانة لأن هذا النصاب كله حق لصاحب الحق في حق الواجب فصار بالاستهلاك متعديا على صاحب الحق فصار ضامنا كمولى العبد الجاني فإنه يخاطب بالدفع أو بالفداء، فإذا هلك العبد من غير منع عن المولى لا يجب على المولى شيء، فصار هلاك النصاب هنا بمنزلة العبد الجاني إذا هلك، وإذا أعتقه المولى أو باعه أو فعل فعلا آخر يتعذر الدفع به يطالب المولى بالفداء؛ لأنه صار جانيا على حق صاحب الحق فصار كأن العبد باق وهو يختار الفداء، فكذلك هاهنا جعل النصاب قائما عند الاستهلاك، فيطالب بأداء الزكاة كما لو كان النصاب قائماً حقيقة.

ص: 496

(والتخيير تيسير)؛ لأن التخيير يثبت الاختيار للمكلف، وإنما يثبت الاختيار شرعا ليترفق بما هو الأرفق له، ويختار ما هو الأهون والأيسر عليه؛ لأنه إذا لم يكن مخيرا ووجب عليه شيء واحد عينا ربما يشق عليه ذلك، ولا يجد شيئا آخر شرعا يقوم مقامه فيعجز، فيبقى في عهدة التكليف ولا يخرج عن عهدة الواجب إلا بمشقة وليس في التخيير بين الشيئين أو الأشياء كذلك وهو ظاهر، ولا يرد على هذا التخيير في صدقة الفطر مع أن ذلك من القدرة الممكنة لا من الميسرة؛ لأنا نقول: إن ذلك تخيير صدقة الفطر صورة لا معنى، فإن قيمة نصف صاع من بر وقيمة صاع من تمر عندهم واحدة فصار كأنه لا تخيير. بخلاف التخيير في كفارة اليمين بين الأشياء الثلاثة، فإن كل واحد منها يخالف الآخر صورة ومعنى، فأوجب التخيير التيسير لا محالة.

(ولم يعتبر ما يعتبر في عدم سائر الأفعال)؛ لان ما كان متعلقا بعدم فعل وهو غير مؤقت يتعلق بالعدم.

ألا ترى أن من قال إن لم آت البصرة فامرأته كذا، أو لم أكلم فلاناً

ص: 497

يتعلق الجزاء بالعدم في جميع العمر حتى لا يحنث، وإن لم يأت البصرة يتعلق الجزاء بالعدم في جميع العمر حتى لا يحنث، وإن لم يأت البصرة سنين كثيرة، وكذل عدم القدرة على الصوم على الصوم في حق الشيخ الفاني مستدام.

(وتقديره بالعمر يبطل أداء الصوم)؛ لأنه حينئذ يلزم أن يصوم بعد الموت، وكان شيخي رحمه الله يقول ناقلا عن الأستاذ العلام' رحمه الله هذا اللفظ اكر عجز مستدام را اعتبار كنيم روزه در كور أفتد.

(وكذلك في طعام الظهار) أي المعتبر هو العجز الحالي.

فإن قيل قوله: ولم يعتبر ما يعتبر في عدم سائر الأفعال وهو العدم في العمر ليس بمجري على عمومه، فكم من عدم في الشرع هو غير مستغرق للعمر.

ألا ترى إلى قوله عليه السلام: (فإن لم تستطع فقاعداً) أو استغراق

ص: 498

عدم الاستطاعة العمر ليس بشرط.

قلنا: عدم الاستغراق هناك إنما علم بمحل الكلام؛ لأن النبي عليه السلام ذكر تفاوت أحكام الشرع على وجه التيسير بحسب أحوال المريض في مرضه، فمرض المريض غير مستغرق لعمره غالبا بل يتفاوت حالا فحالا، فكذلك الأحكام المترتبة على حسب تلك الأحوال، فلذلك لم يوجب الاستغراق.

وأما عدم الأفعال في نفسه إذا لم يكن مقيدا بشيء فموجب للاستغراق في العمر كما لو قال: لا أكلم فلانا أو لا أفعل كذا.

والدليل على جواز التكفير بالصوم عند عدم المال من غير انتظار إلى وجوده فيما يستقبل من الزمان جواز التكفير بالصوم ممن له مال غائب وليس عنده مال فحنث في يمينه؛ لأنه قال في (المبسوط).

وإن كان للرجل الحانث في يمينه مال عنه غائب أو دين وهو لا يجد ما يطعم ولا يكسو ولا ما يعتق أجزأه أن يصوم؛ لأن المانع قدرته على التكفير بالمال وذلك لا يحصل بالملك دون اليد. إلا أن يكون في ماله الغائب عبد فحينئذ لا يجزيه التكفير بالصوم؛ لأنه متمكن من التكفير بالعتق، فإن نفوذ العتق باعتبار الملك دون اليد فلما جاز الصوم هنا مع وجود الملك حقيقة من

ص: 499

غير انتظار إلى أن يصل إلى ماله فلأن يجوز الصوم في حق من ليس له المال أصلا من غير انتظار إلى أن يحصل له المال بالطريق الأولى، (ولهذا ساوى الاستهلاك الهلاك) أي في جواز الصوم بأيهما كان، حتى إن من وجب عليه التكفير بالمال إذا أتلف المال يجوز له التكفير بالصوم كما لو هلك المال؛

(لأن الحق لما كان مطلقا عن الوقت) يعني أن الكفارات لما كانت غير مؤقتة بوقت ولم يكن المال متعينا للكفارة.

(لم يصر الاستهلاك تعديا) لعدم تعلق الحق بالمال، ولو كان مؤقتا يحتمل أن يضمن بالتفويت عن الوقت وإن لم يكن المال متعينا.

(وصارت هذه القدرة على هذا التقدير نظير استطاعة الفعل التي لا تسبق الفعل) يعني كما أن القدرة الحقيقية مقارنة للفعل ولا تسبقه فكذلك القدرة على التكفير لا تسبق حالة الأداء بل يعتبر فيه حال الأداء. يعني إذا كان وقت التكفير معسرا يجب التكفير بالصوم، وإن كان موسرا يجب بالمال، ولا تعتبر حالة الحنث كما في الزكاة بعد ما حال الحول على النصاب يعتبر وقت الأداء، فإن كان النصاب وقت الأداء ناقصا وجب ناقصا، وإن كان هالكا لا تجب عليه الزكاة فكذا هنا.

فعلم بهذا أن التكفير من قبيل الزكاة من حيث إن كلا منهما متعلق بالقدرة الميسرة.

ص: 500

وقوله: (ولهذا بطل وجوب الزكاة بالدين) إيضاح لقوله: وأما قيام المال بصفة النماء إلى قوله: فشرطنا دوامه في أن وجوب الزكاة متعلق بالقدرة الميسرة على وجه المقارنة فلو بقى اليسر بقى الجواب وإلا فلا.

وقوله: (لأنه قال في كتاب الإيمان) هذا جواب عما ورد شبه بطريق المنع، فوجه ورود الشبهة هو أنه لما أثبت أن وجوب الكفارة من قبيل القدرة الميسرة كالزكاة يجب أن يراعى في التكفير اليسر كما في الزكاة، ولا يراعى في التكفير اليسر.

ألا ترى أن الدين لا يمنع وجوب الكفارة بالمال، يعني تجب الكفارة بالمال على المديون بل جواب هذه المسألة غير مذكور في كتاب الأيمان نصًا فيحتمل أن

ص: 501

يجب عليه الكفارة بالصوم لا بالمال فحينئذ لا تَرِد الشبهة لأنها حينئذ كانت الكفارةُ بمنزلة الزكاة من كل وجه، فكما لا يجتمع وجوب الزكاة مع الدين كذلك لا يجتمع وجوب التكفير بالمال مع الدين كما هو قول بعض المشايخ على ما ذكر في الكتاب.

وجعلَ هذا القولَ أصحَ في ((المبسوط)) فقال: والأصحُّ أنه يجزيه التكفير بالصوم. كما أشار إليه في الكتاب في قوله: ألا ترى أن الصدقة تحل لهذا، وفي هذا التعليل لا فرق بين ما كان قبل قضاء الدين وبعده، وهذا لأن المال الذي في يده مستحق بدينه فيُجعل كالمعدوم في حق التكفير بالصوم. كالمسافر إذا كان معه ماء وهو يخاف العَطَشَ يجوز له التيمم؛ لأن الماءَ مستحقِ لعَطَشِهِ فيُجعل كالمعدوم في حق التيمم. إلى هذا لفظ ((المبسوط)) من غير تغيير.

وبعضهم فرَّق بين الزكاة وبين التكفير بالمال، فجَعل الدين مانعًا من وجوب الزكاة ولك يجعله مانعًا من وجوب التكفير بالمال، فقال: لأن المعتبر ها هنا الوجودُ دون الغنى ولمّا لم يقض دينه بماله فهو واجد للمال فلا يجوز عنه التكفير بالصوم بل يجب التكفير بالمال بخلاف الزكاة، فإن وجوبها بالغنى

ص: 502

والدين ينافي الغنى فلا يجب، فكان هذا جوابًا للشبهة على طريق التسليم والفرق.

(أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم) وإن كان هذا النص ورد في صدقة الفطرِ لكن المعنى فيه سَدَّ خَلةُ الفقير وهذا المعنى بعينه موجود في الزكاة فكان الإغناء واجبًا، فيكون معنى الإغناء في الزكاة ثابتًا بدلالة النص بل الزكاة أقوى في استدعاء الغنى من صدقة الفطر؛ لأن وجوب صدقة الفطر بالقدرة الممكنة ووجوبَ الزكاة بالقدرة الميسرة.

(فشرط الكمال في سببه) أي في سبب وجوب الشكر وهو المال (والدين يسقط الكمال) أي كمال ملك المال للمديون باعتبار أن ربَّ الدين لو ظَفِر بجنس حقه له أن يأخذه من غير مرضاه المديون فصار كأن المديون فصار كأن المديون غير

ص: 503

ملك له، فلما أسقط الكمال لم تجب الزكاة. (ولا يُعدم أصله) أي أصل ملك المال للمديون؛ لأن محل الدين الذمة سعة، فكان المال خاليًا عن أن يكون مشغولًا بالدين من هذا الوجه.

وقوله: (ولهذا حلَّت له الصدقة) إيضاح قوله: ((والدين يسقط الكمال)) فلما أسقط كمال ملك المال للمديون كان نافيًا لصفة الغنى عن المديون.

(ولهذا لا تتأدى الزكاة غلا بعين متقومة) هذا إيضاح لقوله: (إن الزكاة وجبت لمعنى الإغناء) بخلاف الكفارة فإنها تتأدى بالصوم والصومُ ليس بعين متقوم، وإنما شُرط في الزكاة أداؤها بعين متقومة؛ لأنها شرعت للإغناء، وذلك إنما يحصل بالعين المتقومة لا بالعين غير المتقومة.

ألا ترى أنه إذا أسكن الفقيرَ بيته سنة بنية الزكاة لا يجوز؛ لأن المنفعة ليس بعين متقومة ولا تتأدى الزكاة بالإباحة؛ لأنه لا يحصل به الغنى؛ لأن المباحَ له يأكل مال الغير وبمال الغير لا يحصل الغنى.

(ألا ترى أنها شُرعت ساترة أو زاجرة) أي لا للإغناء وهو إيضاح أنها لم تشرع للإغناء، فإن الستر والزجر غيرُ محتاجَين إلى الإغناء بالمال كما في الحدود.

ص: 504

وقوله ((ساترة)) أي للذنب بعد الحنث؛ لأن الإنسان إذا حنث في يمينه بقى عُريان؛ لأنه بحنثه كان خارقًا لباس تقواه فيحتاجُ إلى ساترٍ يسترهُ فيستر نفسه بالكفارة، أو زاجرة عن الذّنب؛ أي قبل الحنث.

وقيل: ساترةٌ في حق المكفِّر، وزاجرةٌ في حق غيره، وإنما رَدَّد بينهما السَتْر؛ لأن الستر لا يقع إلا بعد وجوب الكفارة وربما لا تجب على رجلٍ كفارة أصلًا لا يحتاج إلا الستر.

(لا أمرًا أصليًا) أي لم تُشرع الكفارةُ بطريق الأصالة للإغناء بل الأصل فيها الستر ُأو الزجرُ.

(وما يقعُ به كفايةَ الفقير) كأنه جواب إشكال يرد على قوله: ((إلا أنها لم تشرعَ للإغناء)) بأن يقال قوله: ((إلا أنها لم تشرع للإغناء)) منقوض بالكفارة بالإطعام فإن فيه إغناءٌ للفقير عن الطعام.

فأجاب عنه، وقال: شرعيةُ الإطعام لا باعتبار الإغناء بل باعتبار أن الإطعامَ يصلحُ سببًا للثواب كالصوم فيصلح أن يكون سببًا لما هو المقصود من شرعية الكفارة، وهو: الستر أو الزجر، ثم قُدِّم الساترة على الزاجرة؛ لأن دلالةَ الكفارة على الستر أوضحُ وأظهرُ من دلالتها على الزجر. إذا الكَفْرُ هو

ص: 505

الستر لغة.

(لم تشترط صفة الغنى في المخاطب بها) أي بالكفارة، وحاصلة:

أن الكفارة أوجبت ساترةً أو زاجرةً، وما أوجبت شكرا للنعمة، فلا تشبه الزكاة من هذا الوجه، فإنها أوجبت شكر للنعمة والغنى، ولهذا يُشترط لإيجابها أتمُّ وجوه الغنى وذلك بالمال النامي، وحاجته إلى قضاء الدين بالمال تُعدم تمام الغنى بملكه ولا تُعدم معنى حصول الثواب له إذا تصدّق به ليكون ذلك ساترًا لإثم لحقه بارتكاب محظور اليمين وهو المقصود بالكفارة. قال الله تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} كذا ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله.

(لأن القدرة على أداء العشر تستغني عن قيام تسعة الأعشار) يعني أن

ص: 506

القدرة على أداء جزء واحد لا تفتقر إلى وجود أجزاء أخرى في الابتداء؛ لأنه لو أوجب الخارج كله لكان المخاطبُ متمكنًا من أدائه ولم يوجب على ذلك الوجه، بل أوجب الجزء الواحد من الأجزاء العشرة، فكان الإيجاب بهذا الطريق كان بالقدرة الميسرة لا بالمكنة.

فإن قيل: العُشر لا يتحقق بدون قيام تسعة الأعشار، فكيف قال: إن أداءَ العشر يستغنى عن قيام تسعة الأعشار؟

قلنا: المراد منه أن القدرة على أداء القليل تستغني عن قيام الكثير إلا أن الكثير قُدِّر بتسعة الأعشار؛ لأن الواجبَ عليه إعطاءّ بعض الخارج، ثم ذلك البعض قُدِّر بالعُشر.

(فشرط قيامه) أي قيام الخارج وهو وجودُه، فإن العشر إنما يجيب إذا وُجد الخارج من الأرض حقيقة.

(وكذلك الخراج) أي هو واجب أيضًا بالقدرة الميسرة كالعشر.

ألا ترى أن الخارجَ إذا لم يُسَلَّم لصاحب الأرض لا يجب الخراج كالعشر مع وجود السبب فيهما وهو الأرض. غيرَ أن الخارجَ تارة يكون بطريق التحقيق وهذا لا يشكل، وتارة يكون بطريق التقدير إذا كان متمكنًا من الزراعة، ولم يَزرع يُجعل الخارجُ سالّما لربِّ الأرضِ تقديرًا حكمًا لتقصيره، ولا يمكن هذا التقدير في العشر لكون الواجب من جزء الخارج فإذا لم يكن

ص: 507

الخارج تحقيقًا لا يُتصوَّر الجزء منه.

وقد أمكن الخارج ولا يمكن هذا التقدير في العُشر لكون الخراج من غير جنس الخارج بدليل وجوب الدراهم في الأراضي الخراجية فإنه يجب في جريب الكرم عشرة دراهمَ وفي جريب الرطبة خمسة دراهم، فجُعلت القدرة الميسرة موجودةٌ تقديرًا، وهذا بخلاف ما إذا زرع ثم أصابت الزرعَ آفةٌ حيث يسقُط الخراج؛ لأن وجوبه بالقدرة الميسرة فيُشترط دوامها تحقيقًا للواجب بالقدرة الميسرة.

(ألا ترى أنه لا يجب إلا بسلامة الخارج) يعني لا يجب الخراج؛ لأنه لو كان أقل من الخراج لا يُسلَّم له الخارجُ.

وقوله: (بدليل أن الخارج) معطوف على قوله: ((ألا ترى)) من حيث المعنى كأنه قال: بدليل أنه لا يجب إلا بسلامة الخارج، وبدليل أن الخارج إذا

ص: 508

(قلَّ) يعني أن الخراجَ كلُّه إنما يجب إذا لم يكن أكثر من نصف الخارج فإذا كان أكثر من نصفَ الخارج فإذا كان أكثر من نصف الخارج يجب نصفَ الخارج ولا يجب الخراج أي كاملًا حتى إذا كان الخراج مَثَلًا دينارين والخارج من الأرض يساوي دينارًا يجب نصف الخارج وهو نصف دينار.

(ألا ترى أنها وجبت بسبب رأس الحر) من أولاده الصغار (ولا يقع به الغنى)؛ لأن رأس الحر ليس بمال بخلاف الزكاة، فإن الزكاة إنما تجب في مالٍ يقعُ به الغني، وصدقه الفطر تجب بمال آخر يحققه أن في باب الزكاة ما هو سبب لوجوب الزكاة يقع به الغني، وما هو سبب لوجوب صدقة الفطر وهو رأس يمونه ويلي عليه، وقد لا يقعُ به الغني إذا كان ذلك الرأس حرا. دلّنا ذلك على أن الزكاة وجبت بصفة اليسر حيث لم تجب بالغني بشيء آخر، وصدقة الفطر تجب بالغنى بشيء آخر لأجل شيء آخر فلم يكن يُسرا.

فإن قيل: لماذا يشترط الغني بالنصاب لأهلية الإغناء؟

قلنا: لما ذكرنا أن الإغناء يقتضي كونُه غنيًا والغنى بكثرة المال شرعًا وعرفًا؛ لأنه إذا كان مالكًا مقدار ما يتمكن به من إغناء الفقير عن المسألة فهو غني عن المسألة بهذا المقدار إلا أنه لا يعتبر هذا فيما نحن فيه إذا لو اعتبر عاد

ص: 509

الأمر على موضوعه بالنقض؛ لأنه وجب الإغناء عن المسألة، فلو وجب الدفع إلى الفقير لصار هو محتاجًا إلى المسألة وهذا لا يجوز؛ لأن الدفعَ إلى نفسه أولى من الدفع إلى غيره لما عرف.

ألا ترى أنه إذا كان مالكًا لمقدار من الطعام وهو محتاج إليه وغيره أيضًا محتاج إليه فلو دفع إلى غيره يموت لا يجوز الدفع إلى غيره، وكذلك هذا في الماء وغيره.

فعلم أن الغني المعتبر هو الغنى الشرعي؛ لأن النبي عليه السلام بعث لبيان الأحكام لا لبيان الحقائق، ورأيت بخط شيخي رحمه الله ولا يقال:

إن النبي عليه السلام قال: ((أُغنوهم عن المسألة)) فغني الفقير بالاستغناء عن المسألة، فكذلك غنى المعطي ينبغي ألا يشترط فيه النصاب؛ لأنا نقول:

إن النبي عليه السلام قَيَّدَ جانب الفقير بالغني عن المسألة فيبقى الغني في جانب المؤِّدي مطلقًا فيتصرف إلى ما عرف شرعًا وهو من يملك النصاب.

(ووجد الغني بثياب البذلة) أي بثياب الابتذال والامتهان التي تُلبس يوم إذا كانت زائدة عن الحاجة الأصلية، وفي ((المحيط)) البذلة من الثياب ما

ص: 510

يلبس فلا يصان.

(ولا يلزم أنها لا تجب عند قيام الدَين) هذا وارد على قوله؛ ((لأنها لم تجب بصفة اليسر)) أي لا يقال لو كان وجوبُ صدقة الفطر بالقدرة الممكنة لا بالميسرة ينبغي أن لا يكون الدَينُ مانعا وجوبُ صدقة الفطرِ بالقدرة الممكنة لا بالميسرة ينبغي أن لا يكون الدَينُ مانعًا وجو صدقة الفطر؛ لأنه أمكن أداؤها مع الدين.

قلنا: الدين وإن كان لا يعدم أصل القدرة لكن يعدم شرط الوجوب وهو الغنى؛ لأن وجوبَ صدقةُ الفطر لا يُتصور بدون الغني فيصير الغنى بمنزلة القدرة المطلقة فلا يجب إلا به، والدّين يعدمه بدليل حل الصدقة له.

(بخلاف الدَين على العبد) بأن أتلف مالَ الغير. وجه الورود أن الدّينَ لمَّا كان معدمًا للغني كان ينبغي ألا يجب صدقةَ الفطرِ بسبب العبد المديون كما لا تجب الزكاةَ بسببه إذا كان عليه دينِ لما أن الغني فيهما شرط.

ص: 511

فأجاب عنه على وجع الفرق بينهما بقوله: (فإنه لا يمنع) أي فإن دين العبد لا يمنع وجوبَ صدقة الفطر عن ذلك العبد.

وقال الإمام شمس الأئمة _رحمه الله- فإن كان الدَينُ على العبد الذي هو عبدٌ للخدمة فعلى المولى أن يؤدي عنه صدقةَ الفطر؛ لأنه صفةَ الغنى ثابتة له بما يملك من النصاب سوى هذا العبد، وأصل المالية غير معتبر فيمن يجب الأداء عنه، ولهذا تجب عن ولده الحرّ.

وكذلك الغني به غير معتبر فإنه يجب الأداء عن المدبَّر وأم الولد وإن لم يكن هو غنيّا فيهما، فكذلك إذا كان مشغولًا بالدين؛ لأن ذلك الدَينَ على العبد يوجب استحقاق ماليته فيخرج المولى من أن يكون غنيًا به، فلو كان هذا العبدُ المديونُ للتجارة لم يجب على المولى أن يؤدي عنه زكاة التجارة؛ لأن الغني بالمال الذي يجب أداء الزكاة عنه شرط ليكون الأداء بصفة اليسر وذلك ينعدم بقيام الدّين على العبد.

وحاصلة أن في صدقة الشرطُ هو أن يوجد وصف الغنى بأيّ مال كان فلما وُجد غني صاحب العبد المديون بمال آخر تجب عليه صدقة فطرة لوجود السبب والشرط.

وأما في الزكاة فيُتعين النصابُ ويُشرط غناهُ بذلك المصاب بعينه في حق

ص: 512

زكاة ذلك النصاب حتى لو كان له نصابُ غنمٍ ونصابُ ذهبٍ وانتقص نصاب الذهب وفي الغنم فضل على نصابه لا ينجبر بذلك الفضل ما انتقصَ من نصاب الذهب فلا تجب زكاة نصابهما بل تجب زكاة النصاب الكامل وهو الغنم، ولا تجب زكاة النصاب الناقص وهو الذهب، فكذلك ها هنا لم تجب زكاة العبد المديون وإذا كان هو للتجارة لنقصان ذلك النصاب بسبب دين فيه (هذا الذي ذكرنا هو في تقسيم صفة حكم الأمر) وهو الأداء والقضاء؛ لأن حكم الأمرِ الوجوبُ وبالأمر يجب الأداء.

إذ بالسبب يجب أصل الصلاة وبالأمر الأداء، وقد قلنا قبل هذا إن القضاء يجب بالسبب الذي به وجب الأداء فكان الأداء والقضاء صفتي حكم الأمر، وقد انقسم صفة الحكم إلى أداء وقضاء ثم انقسم بعد ذلك إلى صفة المأمور به من الحسن لعينه ولغيره، ثم انقسم كل واحد منهما إلى أنواع ثلاثة على ما مر.

فلآن ينسقم حكم الأمر إلى صفةٍ قائمةٍ بغيره وهو الوقت؛ لأن كونَ العبادة مؤقتة صفة للمأمور به أيضًا لكن راجع إلى الوقت؛ لأن فعل المكلف لا يوجد بدون الوقت، فيكون الوقت داخلًا في حكم الأمر.

ص: 513

(فلابد من ترتيب هذا الباب على الدرجة الأولى) وهي الأداء؛ لأن هذا الباب لبيان الوقت، وهو المختص بوقت على وجه يفوت الأداء بمضي الوقت، أو أريد بالدرجة الأولى والقضاء؛ لأن القضاء مؤقت أيضًا لقوله عليه السلام:((فإن ذلك وقتها)) وإنما قال: فلابد من ترتيبه على الدرجة الأولى يعني أن الدرجة الأولى في صفة حكم الأمر وهي الأداء والقضاء، وهذا الباب أيضًا في صفة حكم الأمر وهي المؤقتةُ وغير المؤقتة، فكان البابان متناسبين من حيث اتحادهما في صفة حكم الأمر بخلاف الباب الثاني فإن ذلك في صفة المأمور به والمأمورُ به غيرُ الحكم، فلذلك كان ترتيب هذا الباب بحسب ترتيب الباب الأول أولى من ترتيبه على حسب ترتيب الباب الثاني.

والدليل على تناسب ذينك البابين أم الإمام شمس الأئمة السرخسي -رحمه لله- أورد هذا الباب قبيل الباب الأول الذي هو بيان الأداء والقضاء ووصل ذلك الباب بهذا الباب لهذه المناسبة، والله أعلم.

ص: 514