الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإسلام شمس الدين الكفرسوسي، الشافعي، الواعظ. توفي يوم الجمعة خامس عشرة جمادى الآخرة سنة ثلاث وثمانين وتسعمائة، ودفن عنده والده رحمه الله تعالى.
أحمد بن محمد الغزي
أحمد بن محمد بن محمد بن محمد بن أحمد، الشيخ الإمام العلامة المحقق شيخ الإسلام شهاب الدين الغزي الشافعي. ولد في شوال سنة إحدى وثلاثين وتسعمائة، وقرأ القرآن العظيم على شيخنا الشيخ يحيى العمادي المغربي، وتلاه للسبعة على والده، وعلى شيخنا المقرىء المجيد، الشيخ حسن الصلتي، واشتغل في العلم على والده، ولازمه في الأصول، والفقه، والنحو، والمعاني، والبيان، والتفسير، والقراءات، وقرأ بمصر على شيخ الإسلام بدر الدين ابن الطباخ المصري، وحمل عنه مصنفاته على الشيخ العلامة السيد الشريف قطب الدين عيسى الإيجي، وحمل عنه شرح الكافية تصنيفه، وقرأه عليه وكتبه بخطه، وعلى شيخ الإسلام شهاب الدين الرملي، وغيرهم حين دخل مصر في صحبة والده سنة اثنتين وخمسين وتسعمائة، ولقي العارف بالله أحمد الجاني المقدسي، وأخذ عنه الطريق، وأجاز له شيخ الإسلام السيد عبد الرحيم العباسي الإسلام بولي بمصنفاته كشرح البخاري، وشرح شواهد التلخيص، ومروياته. وبرع وأفتى ودرس، في اليوم الذي قبل وفاته، وكان متضعفاً. لازم والده، وكان أبر الناس بأبيه، وقال: أريد أن أتودع من الشيخ، وكان الشيخ يمتحن صحبته بتوجيه الفتاوي إليه، وكان يوم جمعة، فكتب ذلك اليوم على بضع وعشرين رقعة كلما كتب على رقعة يأخذها والده ويتأملها، ويحمد الله، وكان أود أهل زمانه لهم، وأرأفهم عليهم يفيدهم العلم وينشره، ويضوع كل مجلس جلس فيه ويعطره جمالاً محضاً، وبهاء صرفاً، خاشعاً بكاء من خشية الله تعالى لطيف المحاضرة، حسن المجاورة، حلو المذاكرة، لطيف الذات والصفات، حسن الأخلاق، حليماً، حكيماً، جواداً كريماً، يؤثر إخوانه، ويوقر أقرانه، ويتودد إلى من يعاديه، كما يتودد إلى من يواليه، تنجذب إليه القلوب، وترتاح إليه الأرواح، وتنشرح لجمال طلعته الصدور، وأجمع الناس على محبته واعتقاده، وتقديمه واعتياده، ورجاء بركته وطلب الدعاء، لا يرى جنازة غريب أو فقير إلا مشى فيها، ولا يسمع بمسجد خراب إلا ذهب إليه، وتردد إليه، يعمره بالصلاة والذكر والتدريس كما قلت:
إمام له في العلم باع وساعد
…
وفي الحلم أخلاق طراف وتالد
وفي الفضل والمجد الأثيل مصاعد
…
وفي الملأ الأعلى الكريم مقاعد
تعشق كل الكون معنى جماله
…
فأضحى لأحوال الغرام يكابد
كأن له ذات الوجود بأسرها
…
بمعناه من فرط الهيام تواجد
وكان رحمه الله تعالى لا يمر بسوق ولا شارع ولا محلة إلا والناس يقبلون عليه ويقبلون يديه، ويلتمسون بركته، ويتبسم في وجه كل واحد منهم، ويلاطفهم، وكان له نظر خارق في رؤية الآثار، وسماع الأطيار، وملاحظة القدرة في الثمار والأزهار، وكانت مقاصده حسنة، ومشاهدة جميلة، وألف منظومة رائية في أسماء الكواكب الثابتة، ومنظومة أخرى لامية جمع فيها قراءة أبي جعفر سبط أبي الأصبهاني، واختصر المنهج في كتاب سماه النهج ولم يتم، ولم أقف عليه، ولم يكثر من التصنيف لاشتغاله بقراءة كتب والده، وكتابتها، ومقابلتها، ومساعدته في تحرير كثير منها حتى كان الشيخ يرجع إلى قوله في بعضها، وكان مشتغلاً أيضاً بالنفع والإفادة والإقراء، ودرس بالقيمرية البرانية وبالشامية الجوانية، وولي إمامة الشافعية الأولى بالجامع الأموي، وانتفع به أكثر الفضلاء كالشيخ تقي الدين بن الحكيم، والعلامة درويش بن طالوا، والشيخ حسن البوريني، والشيخ محمد الصالحي، والشيخ محيي الدين البكري، والشيخ تاج الدين القرعوني، والشيخ شمس الدين الميداني، والشيخ علاء الدين الدهيناتي والشيخ العلامة فخر الدين السيوفي، والشيخ بركات بن الجمل إمام المغيربية والشيخ موسى السيوري وآخرين، وصحب جماعة من العلماء الصالحين منهم الشيخ مسعود المغربي، والشيخ احمد بن سليمان، والشيخ عبد القادر بن سوار، وكان الناس لا ينكرون ولايته، بل كانوا جازمين بأنه من كمل العارفين. وحدثني الشيخ يوسف النوري، وكان من جماعته قال: كنا بين يدي الشيخ شهاب الدين في الجامع الأموي في بعض الليالي، فتذاكرنا في مناقب أولياء الله تعالى فقال: إن لله تعالى عباداً قطع الشوق أكبادهم، وملأ الحب فؤادهم وبكى وانتحب قال: فلما قام الجماعة، وخلوت بالشيخ قلت له: يا سيدي بالله الذي لا إله غيره أنت من هؤلاء الذين ذكرتهم، فقال: أي والله يا يوسف، وحدثني المذكور قال: كان سيدي الشيخ شهاب الدين كثيراً ما ينشد:
ياخليلي عدّيا
…
عن حديث المكارم
منك فى الناس شره
…
فهو في جود حاتم
وكان له كرامات كثيرات، وخوارق عادات، وحدثني الشيخ محيي الدين البكري وكان ثقة فاضلاً. قال: كنا في مجلس الشيخ شهاب الدين، وهو يتكلم في الأخلاص، وعدم ملاحظة الخلق من كتاب الإحياء للغزالي، فمر على مجلسه قاضي قضاة الشام إذ ذاك، فسلم فرد عليه السلام، ولم يقم من مجلسه، ثم لما فرغ قال: أراد الله تعالى أن يمتحنا في هذه الساعة بمرور هذا الرجل علينا، فثبتنا بفضل الله تعالى، ولم نزده على رد السلام الواجب، وكان رحمه الله تعالى يقرأ في إحياء علوم الدين في آخر النهار في كثير من الأيام، وكان لا
ينقطع عن مجلس الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم المسمى بالمحيا، وقال في ذلك:
إماتة نفسي في مطالعة الأحيا
…
وأحياء روحي في مشاهدة المحيا
فيا رب هذا دأب عبدك دائماً
…
وديدنه ما دام في هذه الدنيا
وكان كذلك إلى أن توفي رحمه الله تعالى ومن محاسنه قوله:
فطور التمر سنه
…
رسول الله سنه
ينال الأجر شخص
…
يحلي منه سنه
وقال رحمه الله تعالى:
وروض جمال محبوب كريم
…
نزلت به وما منه معارض
وما منع العذار به نزولاً
…
ولكن ما سلمت من العوارض
وقال رحمه الله تعالى:
من سم هذا البرد أشكو الأذى
…
فابعد عن الشر ولا تقرب
فقارس البرد غما قارصاً
…
من حر قرص الشمس في العقرب
وقال مخمساً لبيتين مرويين عن سيدي إبراهيم بن أدهم في قصة مشهورة:
عن جناياتك نعفو
…
ومن التكدير نصفو
هات قل لي: كيف تجفو؟
كل شيء لك مغف
…
ور سوى الإعراض عنا
قد مضى العمر تلافاً
…
هب فؤادي لك صافا
وبما يرضيك وافا
قد غفرنا لك ما
…
فات بقي ما فات منا
ولما وقف رضي الله تعالى عنه على قصة الشيخ العلامة إسماعيل بن المغربي اليمني صاحب الترجمة مع ولده لما قطعه ما كان يعتاده منه من البر والصلة لكونه يتعاطى ما لا يليق، فكتب إليه ولده:
لا تقطعن عادة بر ولا
…
تجعل عقاب المرء في رزقه
فإن أمر الإفك من مسطح
…
يحط قدر النجم من أفقه
وقد جرى منه الذي قد جرى
…
وعوقب الصديق في حقه
فأجاب والده بقوله:
قد يمنع المضطر من ميتة
…
إذا عصى بالسير في طرقه
لقدرة منه على توبة
…
توجب إيصالاً إلى رزقه
لو لم يتب مسطح من ذنبه
…
ما عوقب الصديق في حقه
فلما وقف الأخ رحمه الله تعالى على ذلك قال كالمجيب عن ولد الشيخ إسماعيل لولده:
تبنا إلى الرحمن لا للدنا
…
وليس توب المرء من حذقه
وإنما الله تعالى إذا
…
أسعد ذا التوفيق من خلقه
تاب إليه وهدى قلبه
…
وأسند الفعل إلى صدقه
وقال الأخ رحمه الله تعالى موالياً:
شر الفتى الحر لا يكذب ولا يغتاب
…
ولا يطل على جاره ولو من باب
ولا يذم صديقه إن حضر أو غاب
…
ولا يدمدم، وإن ضاقت به الأسباب
وقال رحمه الله تعالى ذو بيت:
يا مالك رقي رق مالي راقي
…
أنعم عجلاً علي بالدرياق
إن متّ جوىً على غرام راقي
…
إني لكم من جملة العشاق
وقال أيضاً:
إن كان على البعاد من نهواه
…
لا يذكرنا فنحن لا ننساه
قد طال تشوقي إلى لقياه
…
كم أصبر لا إله إلا الله
وقال موالياً أيضاً:
عوّذت حبي بطه والزمر مع قاف
…
وهود والأنبياء والنمل والأحقاف
والفجر والحجر مع حم عسق
…
والطور والنور والأنعام والأعراف
وقال رضي الله تعالى عنه: إذا ما أراد الله تقريب مبعد وساعده سعد، وسابقه الحسنى
تكلم توفيقاً بخير لسانه
…
يصيب به من حيث يخطىء في المعنى
ومن لطائفه أنه كان يتردد إلى مسجد معمر على عادته، فرآه خراباً فقال لمتوليه: عمّره، وتكرر منه هذا القول، والمتولي يقول له: يا سيدي خنزرت الحائط فقال:
ومانع مسجد ذكرا
…
عليه الفعل أنكرت
إذا ما قلت: عمرت
…
يقول الكلب: خنزرت
وقال في والده:
وقالوا: سما البدر فوق السماء
…
سمواً وساماه في تمه
أعين المسمى هو أو غيره
…
فقلت: هو البدر عند اسمه
وقال في الأمير عبد اللطيف بن منجك، وكان تلميذ الأخ وصديقه:
الاسم عين المسمى
…
دليل قول لمن شك
لطف وظرف حواه
…
عبد اللطيف بن منجك
وهو مأخوذ من قول شيخ الإسلام أبي الفضل ابن حجر العسقلاني فيمن اسمه صالح، وهو بديع:
الاسم عين المسمى
…
والحق أبلج واضح
وإن ترد صدق قولي
…
فانظر لسيرة صالح
وكتب مامامي الرومي إلى أستاذه الأخ رضي الله تعالى عنه سؤالاً وهو:
ما قولكم سادتي في أهيف خطراً
…
غصبته قبلة مذ صرت في خطر؟
فرام قتلي بلحظ للورى سحراً
…
وصرت منه أراعي النجم في السحر
هل جائز قتلتي أفتوا لمن حضرا
…
ببابكم يا رئيس البدو والحضر؟
فأجابه رحمه الله تعالى بقوله:
لم يفت بالقتل من بالشرع قد شعرا
…
من أجل تقبيل خالي الخد من شعر
أو من غدا بعذار قد غدا خضراً
…
كان خضرته من لمسة الخضر
يرد سائله من وصله نهراً
…
ودمعه سائل يجري كما النهار
وله موشح لطيف في الحبوش مشهور أنشدنيه شيخ الاسلام الزين عمر بن سلطان الحنفي عنه:
لي من الحبش غزال
…
لفؤادي قد سلب
وانثنى عني قليلاً
…
ولقتلي قد طلب
ورمى نحوي بسهم
…
من لحاظو ونشب
قلت: لو يا حب صلني
…
فاصطباري قد ذهب
يا حبوش أنتم حلاوه
…
يا قناديل الذهب
قال لي: ة بالله دعني
…
ما وصالي لك مباح
من يرم غالي وصالي
…
ويريد عين الصلاح
لا يعير سمعه لواش
…
ولعذال ولاح
قلت له: يا نور عيني
…
في سواك ما لي أرب
يا حبوش أنتم حلاوه
…
يا قناديل الذهب
قال: صف إن كنت تهوى
…
مبسمي راعي الوشام
قلت فيه: عقد جوهر
…
يسبي من غالي وسام
ما سلب عقلي ولبي
…
غيركم يا ولاد حام
ما لهم يأبوا وصالي
…
يا ترى ماذا السبب؟
يا حبوش أنتم حلاوه
…
يا قناديل الذهب
ذا الغزيّل في شبيكه
…
صادني شعرو الجعيد
ذو ثغيّر من أقاح
…
فيه من صافي البريد
راعي الجسم المنعم
…
إن سلواني بعيد
أنعم أنعم لي بوصلي
…
أو مدامه من شنب
يا حبوش أنتم حلاوة
…
يا قناديل الذهب
ما يرى في الغيد مثله
…
إن تبدي أو خطر
في الأزيرق حين يخطر
…
قد تركني في خطر
شرطه يجرح فؤادي
…
والحشا مني أسر
قلت حسبي حبيبي
يا حبوش أنتم حلاوة
…
يا قناديل الذهب
بعد ذا أنعم حبيبي
…
وسمح لي بالوصال
بعدما أكثر صدودي
…
وأخذ قلبي وصال
يا ليالي الوصل عودي
…
يا هنا تلك الليال
أنتم غاية مرادي
…
ونهايات الأرب
يا حبوش أنتم حلاوة
…
يا قناديل الذهب
كان الأخ رضي الله تعالى عنه أبر ولد بوالده، وأشبه بأبيه في طريف الفضل وتالده، وكان يحترم والده بحق بنوته النسبية والعلمية، وكان يقبل أخمصيه، كلما دخل عليه، وكان كلما حضر مجلس ذكر أو علم أو خبر، وتوقع فيه الإجابة قرأ الفاتحة، ثم قال للحاضرين: قولوا آمين، فإذا قالوا: آمين قال: اللهم إجعل يومي قبل يوم أبي حدثنا بذلك جماعة منهم شيخنا الشيخ يحيى العمادي، ودخل على والده يوم الجمعة مستهل ذي الحجة الحرام سنة ثلاث وثمانين وتسعمائة، وكان متمرضاً، فأمر أن يفترش له فراش تجاه والده، وقال: أتودع منه، ولازم والده ذلك اليوم بطوله، وصلى معه في خلوته بالجامع الأموي الجمعة، ثم عاد إلى مجلسه والفتاوى ترد على شيخ الإسلام الوالد، فيقول كلما جاء رقعة: اكتب يا شهاب الدين فيكتب، ثم يأخذ الرقعة ويتأمل كتابته، ويدعو له حتى كتب له على بضع وعشرين رقعة، ثم أراد مفارقة أبيه آخر النهار، وقال له: يا سيدي أخرج لي رجليك، فقبلهما على عادته، وتبرك بهما، وبكى، وطلب الرضى من أبيه، وشيخ الإسلام يبكي، ويدعو له بالرضوان وغيره، ثم خرج من عنده إلى بيته، فقعد معظم ليلة يقرأ في صحيح بخاري وغيره على من عنده من الأهل، ثم أغفا إغفاءة، وقام على عادته قبل الأذان، فخرج إلى الحمام، وكان يحب دخول الحمام لأجل الطهارة، فإنه كان عنده تحرّز ووسوسة الظاهر، فلما دخل الحمام المعروف بحمام السلسلة بالقرب من داره حلّق له الحلاق رأسه، ثم نزل إلى المغطس، فأغمي عليه، فأخرج إلى مصاطب الحمام، فإذا هو قد مات، فأعلم أهله، فجاؤوا به وحملوه ميتاً إلى دار أبيه وأبوه رحمه الله تعالى في الخلوة لم يدر، ثم دخل عليه بعض أصدقائه، فأفهمه موته الإشارة، ثم أمر والده بتجهيزه، فجهز وصلى عليه إماماً بالجامع الأموي، وحملت جنازته على الرؤوس، ولم تحفل بدمشق جنازة فيما عهده أهل عصره أعظم مما حفلت جنازته إلا جنازة أبيه من بعده. ودفن بمقبرة الشيخ رسلان بالقرب من ضريح جده شيخ الإسلام رضي الدين، ثم دفن والده بعده في السنة الثانية للسنة المذكورة رجلاه عند رأس ولده المذكور كأنه يقفو أثره إلا أنه اتفق أن قبر الشيخ شهاب الدين كان متأخراً عن محاذاة قبر أبيه حتى كأنه أمامه، وكان ذلك موافقاً لحالة المرحومين في دار الدنيا، ثم اتفق دفن ولدنا الفاضل الصالح بدر الدين قدام عمه المذكور رأسه عند رجلي جده، وفي محاذاته بوصية منه في الوقت الذي ذهبت لحفر قبره فيه بعد أن استخرت الله تعالى له في الحفر، فاتفق في وضع المذكور، وعدت فرأيته قد أوصى جدته، ومن عنده أن يحفر له في بقعة خالية عند رجلي جده.
وكانت وفاة الولد المذكور في شعبان سنة سبع عشرة بعد الألف، ووراء قبر الشيخ