الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مذ توفي أهل النهى أرخوه
…
مات قطب من الرجاء ممجد
محمد بن محمد الحلبي
محمد بن محمد بن صدقة، الشيخ الفاضل البارع الأوحد شمس الدين المقرىء، الحلبي إمام جامع النصر بحلب، وأحد أئمة جامعها الكبير، وشيخ ورد ابن داود بعد العلامة السرميني، المشهور بابن الجردون. ذكره ابن الحنبلي، وقال: كان شيخاً معمراً، قليل الكلام، سليم اللسان. كتب صحيح البخاري بخطه، وقرأ منه شيئاً على البدر السيوفي سنة أربع وعشرين، وأجاز له، وتوفي سنة تسع بتقديم التاء وستين وتسعمائة رحمه الله تعالى.
محمد أبو الفتح المالكي
محمد بن محمد بن عبد السلام بن أحمد الشيخ الإمام العلامة، المفنن المدقق الفهامة، القاضي أبو الفتح الربعي التونسي الخروبي لإقامته بإقليم الخروب بدمشق المالكي، نزل دمشق قرأت بخط شيخ الإسلام والدي أن الشيخ أبا الفتح أخبره أن مولده كما وجد بخط أبيه مراراً، وقرأه مراراً ليلة الإثنين غرة شهر ربيع الأول سنة إحدى وتسعمائة، وذكر الشيخ إبراهيم بن كسبائي صاحبنا في بعض إجازاته لبعض من قرأ عليه أن مولد الشيخ أبي الفتح سنة سبع وتسعين وثمانمائة، وهو خطأ بلا شك، ولعله قربه تقريباً، والصواب ما تقدم. دخل دمشق قديماً وهو شاب، وكان يتردد كثيراً إلى ضريح الشيخ محيي الدين بن العربي، وبلغني عن شيخ الإسلام شهاب الدين الطيبي إنه لما دخل دمشق دخل في صورة متصوف متدين، ثم تغيرت أحواله، وصدق عليه قول القائل:
أطعت الهوى عكس القضية ليتني
…
خلقت كبيراً وانقلبت إلى الصغر
وذكره شيخ الإسلام الوالد في فهرست طلبته، وقال: قرأ علي في منهاج البيضاوي وشرح الألفية لابن عقيل، ثم تلون، وتقلب، وظهرت منه أشياء منكرة. قال: وغلب عليه الحمق، والسخف، وقلة العقل، ولكن ثم من طيشه على غير طائل من علم، أودين قال: وامتدحني بقصيدة طويلة انتهى.
قلت: وحقيقة الشيخ أبي الفتح كما تلقينا ممن لقيناه، واشتهر عنه أنه كان فقيهاً أصولياً يفتي الناس على مذهبه، وفتاويه مقبولة، وله حرمة باسطة، ووجاهة ظاهرة، وكان علامة في النحو والصرف، والمعاني، والبيان، والبديع والعروض، والمنطق، وأكثر العلوم العقليه والنقلية، وكان له الباع الطويل في الأدب، ونقد الشعر وشعره في غاية الحسن إلا أنه كان
متكيفاً يأكل البرش والأفيون كثيراً لا يكاد يصحو منه، وربما قرأ الناس عليه في علوم شتى، وهو يشرد، فإذا فرغ القارىء من قراءته المقالة فتح عينيه، وقرر العبارة أحسن تقرير، وكان على مذهب الشعراء من التظاهر بمحبة الأشكال، والصور الحسنة حتى رمي، واتهم، وكان لا يتحاشى عن مخالطة المراد الحسان، وكان هجاء تتفق له النكات في هجائه، وفي شعره، ولو على نفسه، وكان مغالياً في نصرة القهوة المتخذة من البن غير منكر له وله فيها مقاطيع مشهورة، ولطائف غير منكورة، وربما كان يراجع الطلقات الثلاث، وكان يقع في حق العلماء، والأكابر، وإذا وصل إليه نوال من أحدهم مدحه، أو أثنى عليه، وكانوا يخافون من لسانه، ولي نيابة القضاء بالمحكمة الكبرى زماناً طويلاً مع الوظائف الدينية، وحمل عنه الناس العلم وانتفعوا به وأنبل من تخرج به في الشعر، والعربية العلامة درويش بن طالوا مفتي الحنفية بدمشق ومدرس السليمانية بها، وسلك طريقته فيما هو فيه، وكان الشيخ أبو الفتح المالكي حجته في كل ما يأتيه، وذكره ابن الحنبلي في تاريخه، وقال: قدم حلب سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة، واتفقت بيننا، وبينه جمعية بجامعها، وشهدنا له محاضرة جيدة في فنون شتى قال وكان قد سألني يومئذ سؤالاً نحوياً رمزت إلى جوابه في المجلس، ثم أوضحته في هذه الأبيات وبعثت بها إليه:
أيا من له التحقيق في كل ما فن
…
ومن شأنه الإتحاف من غير ما من
جوابك لي قد مر رمز جوابه
…
لديك، وقد شوهدت متقد الذهن
سألت عن التنوين في جمع حاجة
…
أليس لتمكين على القطع لا الظن
وهل منع حاجات عن الصرف واقع
…
ليمنع تمكيناً به صاحب الفن
وقد مر في المغني لنا غير مرة
…
جوابك منقولاً وناهيك بالمغني
ومحصوله أنا وجدناه ثانياً
…
وقد صير اسماً ذلك الجمع ياخدني
ولكنني مولاي مستشكل له
…
وما لي صريح من جواب ولا مكني
أفقدك للتنوين من بعد موجب
…
لمنعكه من قبل يا من له نعني
وهل مانع من أن يكون مقابلاً
…
وتنوين تمكين معاً عند ذي ذهن
وهل مثبت التنكير في رجل له
…
محيد عن التمكين كالسبب الحزن
كما أنه لا منع من جمع ذاكذا
…
فلا منع فيما نحن فيه فقس وابن
وجد لي بشعر من قريضك ألقه
…
عزيز عزيز المثل يا مقتدي معن
قلت: أنا أستحيي عن ابن الحنبلي في مقابلة الشيخ أبي الفتح المالكي، بمثل هذا الشعر وأبو الفتح يومئذ حائز قصبات السبق في الشعر الذي بلغ ببلاغته فيه النهايات، وزاحم فيه مثل، أبي تمام، والبحتري، والمتنبي، وأبي العلاء، وابن قلاقس، وأبن نباتة وغيرهم طبقة بعد طبقة، كيف؟ وقد أورد له ابن الحنبلي الأبيات الآتية، فسبحان من قسم الأذواق كما قسم الأرزاق. قال ابن الحنبلي: ثم قدم حلب سنة إحدى وستين، والمقام الشريف السلطاني بها، فتولى تدريس دار الحديث الأشرفية بدمشق، وعيب عليه ذلك لكونها شرط الواقف للشافعية قال: وهكذا عيب عليه ما انطوى عليه من شرب الخمر فما دونه، وتسليط الحشيشة على عقله والاختلاط بمنهي الغلمان جهراً من غير مبالاة بذلك نسأل الله تعالى العافية، وأورد له في مليح اسمه محمد بن حسام:
كم باسم والده على عشاقه
…
يسطو فيا حزناه من أحداقه
ظبي ظبى ألحاظه قد جردت
…
للفتك بالشاكين حول وطاقه
رشأ كحيل الطرف معسول اللما
…
عذب المراشف آخذ بعناقه
يفتر. عن نظم الثريا ثغره
…
وينوء بالجوزاء تحت نطاقه
إلى أن قال:
قسماً بصبح جبينه لو زار في
…
جنح الدجى وسعى إلى مشتاقه
لفرشت خذي في الطريق مقبلاً
…
بفم الجفون مواطن استطراقه
ووهبت ما ملكت يدي لمبشري
…
بلقاء حضرة منعم بوفاقه
وللشيخ أبي الفتح مؤرخاً عمارة الحمام الذي بناه مصطفى باشا تحت قلعة دمشق:
لما كملت عمارة الحمام
…
وأزداد به حسن دمشق الشام
قالت طرباً وأرخت منشدة
…
حمامك أصل راحة الأجسام
وله موالياً موجهاً بأسماء الكواكب السبعة: لك صدغ عقرب على مريخ خدك دب وقوس حاجبك دايم مشتريه الصب وكم أسد شمس حسنك يا قمر قد حب والعاذل الثور في زهرة جمالك سب
وقال حاكياً للسان حال الجامع الأموي:
يقول على ما قيل جامع جلق
…
ألم يك قاضي الشام عني مسؤولاً
تسلم للأعجام وقفي لأكله
…
ويروى لهم عني كتاب ابن مأكولا
أبعد فتى السبكي أعطى لسيبك
…
وبعد الأمام الزنكلو لزنكولا
أقاموه لي قرداً بشباك مشهد
…
وضموا له قرداً على الرفض مجبولا
يثمل كل أكل مالي بأسره
…
فلا بلغ الله الأعاجم مأمولا
وقال في جامع يلبغا وكان ملازماً للتردد إليه للتنزه:
كم نزهة في يلبغا تبتغي
…
ومدرج لم يخل من دارج
يا حسنه من جامع جامع
…
فاق على الزوراء من عالج
يموج في بركته ماؤها
…
تحت منار ليس بالمايج
مأذنه قامت على بابه
…
تشهد للداخل والخارج
وقال فيه:
إلى يلبغا فارق أعلى الدرج
…
بشرقيه تلق باب الفرج
وخذ يمنة منه نحو الشمال
…
تصادف هنالك باب الفرج
ومل مسرعاً نحو غربيه
…
تجد باب عرف نسيم الأرج
ومن حوله عصبة لم تزل
…
لها تحت سرحته مفترج
تقضي نفائس أوقاتها
…
بأخبار من قد مضى أو درج
فإن كنت عن حالهم سائلاً
…
فليس على مثلهم من حرج
ولما وقف الشيخ أبو الفتح على قول القائل:
هذه القهوة هذي
…
هذه المنهي عنها
كيف تدعى بحرام
…
وأنا أشرب منها
فقال:
أقول لقوم قهوة البن حرموا
…
مقالة معلوم المقام فقيه
فلو وصفت شرعاً بأدنى كراهة
…
لما شربت في مجلس أنا فيه
ومن لطائفه أنه سئل عن قائل هذا البيت:
لا ضر أحبابي ولا روعوا
…
غبنا فما زاروا ولا ودعوا
فأخبر بقائله ثم أنشد على الوزن والقافية ارتجالاً:
يا من لصب بين أطلالهم
…
يهيم لا يرقى له مدمع
ترحلوا فالدار من بعدهم
…
لبعدهم أطلالالها بلقع
لا واخذ الرحمن من ضيعوا
…
عهدي وإن خانوا وإن ضيعوا
نذرت أن عادوا لهم مهجتي
…
هيهات ما في عودهم مطمع
وقال:
ألا لعن الله الخصاصة والفقرا
…
فإن سواد الوجه بينهما يطرا
وما الذل إلا فيهما وعليهما
…
وما العز إلا بالغنى وهو بي أحرى
ومن يك في الدنيا فقيراً ومعدما
…
يجد من بينها المقت والصد والهجرا
فلا تك عن كسب الحطام بغافل
…
لتبلغ في الدنيا السعادة والفخرا
وقال سائلاً:
يا أيها الفاضل أوضح لنا
…
قضية صحت بلا مين
في رجل فاه بقذف امرىء
…
فرتب الحد على اثنين
فأجاب عنه بقوله:
هذا فتى أغرى سدي عبده
…
بقذف شخص طاهر العين
فالحد للسيد والعبد في
…
قول صحيح عند عدلين
وقال وقرأت بخط العلامة درويش بن طالوا أنه قال في مرض موته:
مرحباً بالحمام ساعة يطرا
…
ولو ابتز من مدى العمر شطرا
حبذا الارتحال من دار سوء
…
نحن فيها في قبضة القهر أسرى
وإذا ما ارتحلت يا صاح عنها
…
لا سقى الله بعدي الأرض قطرا
مات رحمه الله تعالى في سنة خمس وسبعين وتسعمائة ودفن في الفراديس وقال ماماي مؤرخاً وفاته:
مذ عالم الدنيا قضى نحبه
…
منتقلاً نحو جوار الإله
قد أغلق الفضل به بابه
…
مؤرخاً مات أبو الفتح آه