الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
في سدّ الذرائع
لما كانت المقاصد لا يُتوصَّل إليها إلا بأسباب وطرق تُفضِي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها، فوسائل المحرّمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها، ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غاياتها؛ فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود، لكنه مقصود قصدَ الغايات، وهي مقصودة قصدَ الوسائل؛ فإذا حرَّم الرب تبارك وتعالى شيئًا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرِّمها ويمنع منها، تحقيقًا لتحريمه، وتثبيتًا له، ومنعًا أن يقرب حِماه. ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضًا للتحريم، وإغراء للنفوس [46/أ] به، وحكمتُه تعالى وعلمه يأبى ذلك كلَّ الإباء، بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك؛ فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه لعُدَّ متناقضًا، ويحصل من جنده ورعيته
(1)
ضدُّ مقصوده. وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسْمَ الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه، وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه. فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال؟
ومن تأمَّل مصادرها ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله سدَّ الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرَّمها ونهى عنها، والذريعة: ما كان وسيلةً
(1)
ز: «رعيته وجنده» .
وطريقًا إلى الشيء، ولا بدَّ من تحرير هذا الموضع قبل تقريره ليزول الالتباس فيه، فنقول:
الفعل أو القول المفضي إلى المفسدة قسمان:
أحدهما: أن يكون وضعه للإفضاء إليها كشرب المسكر المفضي إلى مفسدة السكر، وكالقذف المفضي إلى مفسدة الفرية، والزنا المفضي إلى اختلاط المياه وفساد الفرش، ونحو ذلك؛ فهذه أفعال وأقوال
(1)
وُضِعت مفضيةً لهذه المفاسد ليس لها ظاهر غيرها.
والثاني: أن تكون موضوعة للإفضاء إلى أمر جائز أو مستحب، فيتخذها وسيلة إلى المحرم إما بقصده أو بغير قصدٍ منه؛ فالأول كمن يعقد النكاح قاصدًا به التحليل، أو يعقد البيع قاصدًا به الربا، أو يخالع قاصدًا به الحنث، ونحو ذلك. والثاني كمن يصلّي تطوعًا بغير سبب في أوقات النهي، أو يسبُّ أرباب المشركين بين أظهرهم، أو يصلِّي بين يدي القبر
(2)
لله، ونحو ذلك.
ثم هذا القسم من الذرائع نوعان:
أحدهما: أن تكون مصلحة الفعل أرجح من مفسدته.
والثاني: أن تكون مفسدته راجحة على مصلحته؛ فهاهنا أربعة أقسام:
وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة.
(1)
د: «أقوال وأفعال» .
(2)
ز: «الفقير» ، تحريف.
الثاني: وسيلة موضوعة للمباح قُصِد
(1)
بها التوصُّل إلى المفسدة.
الثالث: وسيلة موضوعة للمباح لم يقصد بها التوصُّل إلى المفسدة، مفضية إليها غالبًا، ومفسدتها أرجح من مصلحتها.
الرابع: وسيلة موضوعة للمباح وقد تفضي إلى المفسدة، ومصلحتها أرجح من مفسدتها.
فمثال القسم الأول والثاني قد تقدم، ومثال الثالث الصلاة في أوقات النهي، ومسبَّة آلهة المشركين بين ظهرانيهم، وتزيُّن المتوفى عنها في زمن عدتها، وأمثال ذلك. ومثال الرابع النظر إلى المخطوبة والمُسْتامَة
(2)
والمشهود عليها ومن يطؤها ويعاملها، وفعلُ ذوات الأسباب في أوقات النهي، وكلمة الحق عند ذي سلطان جائر، ونحو ذلك. فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم أو استحبابه أو إيجابه بحسب درجاته في المصلحة، وجاءت بالمنع من القسم الأول كراهةً أو تحريمًا بحسب درجاته في المفسدة. بقي النظر في القسمين الوسط: هل هما مما جاءت الشريعة بإباحتهما أو المنع منهما؟ فنقول:
الدلالة على المنع من وجوه:
الوجه الأول: قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ [46/ب]
…
عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، فحرَّم الله سبحانه سبَّ آلهة
(3)
(1)
ز: «لم يقصد» .
(2)
أي الأَمة التي يُطلَب شراؤها. اسم مفعول من الفعل «استامَ» .
(3)
«آلهة» ليست في ز.
المشركين ــ مع كون السبّ
(1)
غيظًا
(2)
وحميةً لله وإهانةً لآلهتهم ــ لكونه ذريعةً إلى سبِّهم الله سبحانه، وكانت مصلحة ترك مسبَّته سبحانه أرجح من مصلحة سبِّنا لآلهتهم، وهذا كالتنبيه بل كالتصريح على المنع من الجائز لئلا يكون سببًا في فعل ما لا يجوز.
الوجه الثاني: قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31]، فمنعهن من الضرب بالأرجل وإن كان جائزًا في نفسه لئلا يكون سببًا إلى سمع الرجال صوتَ الخلخال، فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن.
الوجه الثالث: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} الآية
(3)
[النور: 58]، أمر سبحانه مماليك المؤمنين ومن لم يبلغ منهم أن يستأذنوا عليهم في هذه الأوقات الثلاثة، لئلا يكون دخولهم هَجْمًا بغير استئذان فيها ذريعةً إلى اطلاعهم على عوراتهم وقت إلقاء ثيابهم عند القائلة والنوم واليقظة، ولم يأمرهم بالاستئذان في غيرها وإن أمكن في تركه هذه المفسدة، لندورها وقلة الإفضاء إليها، فجعلت كالمقدمة.
الوجه الرابع: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا
(1)
في النسختين: «السبب» .
(2)
في النسختين: «غيضًا» ، خطأ.
(3)
د: «لأنه» .
وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104]، نهاهم سبحانه أن يقولوا هذه الكلمة مع قصدهم بها الخير، لئلا يكون قوله ذريعة إلى التشبُّه باليهود في أقوالهم وخطابهم؛ فإنهم كانوا يخاطبون بها النبي صلى الله عليه وسلم ويقصدون بها السبَّ، ويقصدون فاعلًا من الرعونة، فنُهي المسلمون عن قولها سدًّا لذريعة المشابهة، ولئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يقولها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم تشبُّهًا بالمسلمين يقصدون بها غير ما يقصده المسلمون.
الوجه الخامس: قوله تعالى لكليمه موسى وأخيه هارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43، 44]، فأمر سبحانه أن يُلِينا القول لأعظم أعدائه وأشدِّهم كفرًا وأعتاهم عليه؛ لئلا يكون إغلاظ القول له مع أنه حقيق به ذريعةً إلى تنفيره وعدم صبره لقيام الحجة، فنهاهما عن الجائز لئلا يترتَّب عليه ما هو أكره إليه سبحانه.
الوجه السادس: أنه سبحانه نهى المؤمنين في مكة عن الانتصار باليد، وأمرهم بالعفو والصفح؛ لئلا يكون انتصارهم ذريعةً إلى وقوع ما هو أعظم مفسدة من مفسدة الإغضاء واحتمال الضَّيم، فمصلحةُ حفظ نفوسهم ودينهم وذريتهم راجحة على مصلحة الانتصار والمقابلة.
الوجه السابع: أنه سبحانه نهى عن البيع وقت نداء الجمعة لئلا يتخذ ذريعة إلى التشاغل بالتجارة عن حضورها.
الوجه الثامن: ما رواه حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من الكبائر شَتْم الرجل والديه» ، قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: «نعم، يسبُّ أبا الرجل فيسبُّ أباه، ويسبُّ أمه
فيسبُّ أمه». متفق عليه
(1)
. ولفظ البخاري: «إن من أكبر الكبائر أن [47/أ] يلعن الرجل والديه» ، قيل: يا رسول الله كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: «يسبُّ أبا الرجل فيسبُّ أباه، ويسبّ أمه فيسبّ أمه» . فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الرجلَ سابًّا لاعنًا لأبويه بتسبُّبِه إلى ذلك وتوسُّله إليه وإن لم يقصده.
الوجه التاسع: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكفُّ عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة، لئلا يكون ذريعةً إلى تنفير الناس عنه وقولِهم: إن محمدًا يقتل أصحابه
(2)
، فإن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه وممن لم يدخل، ومفسدة التنفير أكبر من مفسدة ترك قتلهم، ومصلحة التأليف أعظم من مصلحة القتل.
الوجه العاشر: أن الله سبحانه حرَّم الخمر لما فيها من المفاسد الكثيرة المترتبة على زوال العقل، وهذا ليس مما نحن فيه، لكن حرَّم القطرة الواحدة منها
(3)
، وحرَّم إمساكها للتخليل ونجَّسها
(4)
(5)
، لئلا تتخذ القطرة ذريعة إلى الحَسْوة، ويتخذ إمساكها للتخليل ذريعة إلى إمساكها للشرب، ثم بالغ في سدّ الذريعة فنهى عن الخليطَينِ
(6)
، وعن شرب العصير بعد
(1)
البخاري (5973) ومسلم (90).
(2)
رواه البخاري (4905) ومسلم (2584) من حديث جابر رضي الله عنه.
(3)
رواه أحمد (14703) وأبو داود (3681) والترمذي (1865) وابن ماجه (3393)، من حديث جابر. وحسَّنه الترمذي وصححه ابن حبان (5382).
(4)
ز: «تجنبها» .
(5)
رواه مسلم (1983) من حديث أنس رضي الله عنه.
(6)
رواه البخاري (5601) ومسلم (1986) من حديث جابر رضي الله عنه.
ثلاث
(1)
، وعن الانتباذ في الأوعية التي قد يتخمَّر النبيذ فيها ولا يعلم به، حسمًا لمادة قربان المسكر، وقد صرَّح صلى الله عليه وسلم بالعلة في تحريم القليل فقال:«لو رخَّصتُ لكم في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه»
(2)
.
الوجه الحادي عشر: أنه صلى الله عليه وسلم حرَّم الخلوة بالأجنبية ولو في إقراء القرآن، والسفر بها
(3)
ولو في الحج وزيارة الوالدين، سدًّا لذريعة ما يحاذر من الفتنة وغلبات الطباع.
الوجه الثاني عشر: أن الله سبحانه أمر بغضّ البصر ــ وإن كان إنما يقع على محاسن الخلقة والتفكُّر في صنع الله ــ سدًّا لذريعة الإرادة والشهوة المفضية إلى المحذور.
الوجه الثالث عشر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بناء المساجد على القبور، ولعن من فعل ذلك، ونهى عن تجصيص القبور، وتشريفها، واتخاذها مساجد، وعن الصلاة إليها وعندها
(4)
، وعن إيقاد المصابيح عليها، وأمر
(1)
رواه مسلم (2004) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
الحديث رواه البخاري (53) ومسلم (17) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وأما بيان علة النهي فرواه النسائي (5646) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وصححه ابن حبان (5401).
(3)
رواه البخاري (3006) ومسلم (1341) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(4)
أما تجصيص القبور وتشريفها فرواه البخاري (435) ومسلم (531) من حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهم. وأما اتخاذها مساجد والصلاة إليها فرواه مسلم (972) من حديث أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه. وأما الصلاة عندها فرواه أبو داود (492) والترمذي (317) وابن ماجه (745) من حديث أبي سعيد الخدري، وصححه ابن حبان (1699). وفي الباب عن علي وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم. انظر:«التلخيص الحبير» (1/ 500).
بتسويتها، ونهى عن اتخاذها عيدًا، وعن شدّ الرحال إليها
(1)
، لئلا يكون ذلك ذريعةً إلى اتخاذها أوثانًا والإشراك بها، وحرّم ذلك على من قصده ومن لم يقصده بل قصد خلافه سدًّا للذريعة.
الوجه الرابع عشر: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها
(2)
، وكان من حكمة ذلك أنهما وقت سجود المشركين للشمس، وكان النهي عن الصلاة لله في ذلك الوقت سدًّا لذريعة المشابهة الظاهرة، التي هي ذريعة إلى المشابهة في القصد مع بُعدِ هذه الذريعة، فكيف بالذرائع القريبة؟
الوجه الخامس عشر: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن التشبُّه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة، كقوله:«إن اليهود والنصارى لا يَصْبُغون فخالفوهم»
(3)
، وقوله:«إن اليهود؛ لا يصلُّون في نعالهم فخالفوهم»
(4)
، وقوله في عاشوراء: «خالفوا
(1)
أما إيقاد المصابيح فسيأتي تخريجه. وأما الأمر بتسوية القبور فرواه مسلم (969) عن علي رضي الله عنه. وأما النهي عن اتخاذها عيدًا فرواه أحمد (8804) وأبو داود (2042) من حديث أبي هريرة، وصححه النووي في «الأذكار» (ص 115)، وحسنه ابن تيمية في «الاقتضاء» (2/ 170) والمصنف في «إغاثة اللهفان» (1/ 191). وأما شدُّ الرحال فرواه البخاري (1189) ومسلم (1397) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (583) ومسلم (828) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(3)
رواه البخاري (3462) ومسلم (2103) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
رواه أبو داود (652) من حديث شداد بن أوس، وصححه ابن حبان (2186) والحاكم (1/ 260)، وحسنه العراقي كما نقله عنه المناوي في «فيض القدير» (3/ 431).
اليهود صوموا يومًا قبله ويومًا بعده»
(1)
، وقال:«لا تَشبَّهوا بالأعاجم»
(2)
، وروى الترمذي
(3)
عنه: «ليس منّا من تشبَّه [47/ب] بغيرنا» ، وروى الإمام أحمد
(4)
عنه: «من تشبَّه بقوم فهو منهم» . وسرُّ ذلك أن المشابهة في الهدي الظاهر ذريعة إلى الموافقة في القصد والعمل.
الوجه السادس عشر: أنه صلى الله عليه وسلم حرَّم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها
(5)
، وقال:«إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم»
(6)
، حتى لو
(1)
رواه أحمد (2154) وابن خزيمة (2095) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى متكلم فيه، والحديث جاء موقوفًا عن ابن عباس رضي الله عنهما عند عبد الرزاق (7839).
(2)
رواه البزار (2979) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وفي إسناده رشدين بن كُرَيب متكلم فيه. انظر:«ميزان الاعتدال» (2/ 51).
(3)
برقم (2695) والطبراني في «الأوسط» (7380) من حديث عبد الله بن عمرو، قال ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (25/ 331):«حديث جيد» . وانظر: «السلسلة الصحيحة» (2194).
(4)
في «المسند» (5115) وأبو داود (4031) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وجوَّد إسناده ابن تيمية في «الاقتضاء» (1/ 269)، وصححه العراقي في «تخريج الإحياء» (ص 318)، وحسّنه ابن حجر في «الفتح» (10/ 271).
(5)
رواه البخاري (5109) ومسلم (1408/ 33) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6)
رواه الطبراني (11931) والضياء المقدسي في «الأحاديث المختارة» (144)، وفي إسناده أبو حريز عبد الله بن الحسين مختلف فيه، والفضيل بن ميسرة في روايته عن أبي حَريز نظر. وانظر:«السلسلة الضعيفة» (6528).
رضيت المرأة بذلك لم يجز؛ لأن ذلك ذريعة إلى القطيعة المحرمة كما علَّل به النبي صلى الله عليه وسلم.
الوجه السابع عشر: أنه حرّم نكاح أكثر من أربع
(1)
لأن ذلك ذريعة إلى الجور، وقيل: العلة فيه أنه ذريعة إلى كثرة المُؤْنة المفضية إلى أكل الحرام، وعلى التقديرين فهو من باب سدّ الذرائع. وأباح الأربع ــ وإن كان لا يُؤمَن الجور في اجتماعهن ــ لأن حاجته قد لا تندفع بما دونهن؛ فكانت مصلحة الإباحة أرجحَ من مفسدة الجور المتوقعة.
الوجه الثامن عشر: أن الله سبحانه حرَّم خِطبة المعتدَّة صريحًا، حتى حرم ذلك في عدة الوفاة وإن كان المرجع في انقضائها ليس إلى المرأة؛ فإن إباحة الخطبة قد تكون ذريعةً إلى استعجال المرأة بالإجابة والكذب في انقضاء عدتها.
الوجه التاسع عشر: أن الله سبحانه حرَّم عقد النكاح في حال العدة وفي الإحرام، وإن تأخَّر الوطء إلى وقت الحلّ لئلا يتخذ العقد ذريعة إلى الوطء، ولا ينتقض هذا بالصيام؛ فإن زمنه قريب جدًّا، فليس عليه كلفةٌ في صبره بعضَ يومٍ إلى الليل.
الوجه العشرون: أن الشارع حرَّم الطيب على المُحرِم
(2)
لكونه من أسباب دواعي الوطء، فتحريمه من باب سدّ الذرائع.
الوجه الحادي والعشرون: أن الشارع اشترط للنكاح شروطًا زائدة على
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه.
العقد تقطع عنه شبه السِّفاح، كالإعلان
(1)
، والولي
(2)
، ومنع المرأة أن تليه بنفسها، وندب إلى إظهاره حتى استحب فيه الدف والصوت والوليمة
(3)
؛ لأن في الإخلال بذلك ذريعةً إلى وقوع السفاح بصورة النكاح، وزوال بعض مقاصد النكاح من جحد الفراش، ثم أكَّد ذلك بأن جعل للنكاح حريمًا من العدة تزيد على مقدار الاستبراء، وأثبت له أحكامًا من المصاهرة وحرمتها ومن الموارثة زائدة على مجرد الاستمتاع؛ فعُلِم أن الشارع جعله
(4)
سببًا ووُصلةً بين الناس بمنزلة الرحم، كما جمع بينهما في قوله:{فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54]. وهذه المقاصد تمنع شَبَهه بالسِّفاح، وتبيِّن أن نكاح المحلِّل بالسفاح أشبه منه بالنكاح.
الوجه الثاني والعشرون: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يجمع الرجل بين سَلَفٍ وبيع
(5)
. ومعلوم أنه لو أفرد أحدهما عن الآخر صح، وإنما ذاك لأن اقتران أحدهما بالآخر ذريعةٌ إلى أن يُقرِضه ألفًا ويبيعه سلعةً تساوي ثمانمائة بألف أخرى؛ فيكون قد أعطاه ألفًا وسلعةً بثمانمائة ليأخذ منه ألفين، وهذا هو معنى
(1)
رواه أحمد (15451) والترمذي (1088) والنسائي (3369) وابن ماجه (1896) من حديث محمد بن حاطب. وحسَّنه الترمذي، وصححه الحاكم (2/ 184).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
انظر التخريج قبل السابق.
(4)
ز: «جعل» .
(5)
رواه أحمد (6671) وأبو داود (3504) والترمذي (1234) والنسائي (4631) وابن ماجه (2188) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وصححه الترمذي والحاكم (2/ 17).
الربا، فانظر إلى حمايته الذريعةَ إلى ذلك بكل طريق. وقد احتج بعض المانعين لمسألة [48/أ] مُدّ عَجْوة
(1)
بأن قال: إن من جوَّزها يجوِّز أن يبيع الرجل ألفَ دينارٍ في منديل بألف وخمسمائة مفردة، قال: وهذه
(2)
ذريعة إلى الربا، ثم قال: يجوز أن يُقرِضه ألفًا ويبيعه المنديل بخمسمائة. وهذا هو بعينه الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من أقرب الذرائع إلى الربا، ويلزم من لم يسدَّ الذرائع أن يخالف النصوص ويجيز ذلك، فكيف يترك أمرًا ويرتكب نظيره من كل وجه؟
الوجه الثالث والعشرون: أن الآثار المتظاهرة في تحريم العِينة
(3)
عن النبي صلى الله عليه وسلم
(4)
وعن الصحابة
(5)
تدل على المنع من عود السلعة إلى البائع وإن لم يتواطآ على الربا، وما ذاك إلا سدًّا للذريعة.
الوجه الرابع والعشرون: أن النبي صلى الله عليه وسلم منع المُقرِض من قبول الهدية
(6)
،
(1)
مسألة مشهورة في الفقه، وهي بيع مالٍ ربوي بربوي آخر من جنسه مع ربوي من غير جنسه (أي غير جنس الربوي المبيع)، ومثلوا لذلك بمدّ عجوة ودرهم.
(2)
ز: «وهذا» .
(3)
هي أن يبيع سلعةً لرجلٍ إلى أجلٍ ثم يبتاعها منه بأقل من ذلك.
(4)
رواه أبو داود (3462) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. والحديث جوّد إسناده ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (29/ 30)، وصححه الألباني في «الصحيحة» (11).
(5)
كابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم. انظر: «مصنف ابن أبي شيبة» (20527، 20523).
(6)
رواه ابن ماجه (2432) والبيهقي (5/ 350) من حديث أنس رضي الله عنه. وفي إسناده عتبة بن حميد الضَبّي متكلم فيه، وإسماعيل بن عياش ضعيف في غير الشاميين، وكذلك جهالة يحيى الهُنَائي، والحديث ضعفه الألباني في «الإرواء» (5/ 236) و «الضعيفة» (1162).
وكذلك الصحابة
(1)
، حتى يحسبها من دينه، وما ذاك إلا لئلا يتخذ ذريعةً إلى تأخير الدَّين لأجل الهدية فيكون ربًا؛ فإنه يعود إليه ماله، وأخذ الفضل الذي استفاده بسبب القرض.
الوجه الخامس والعشرون: أن الوالي والقاضي والشافع ممنوع من قبول الهدية، وهو أصل فساد العالم، وإسناد الأمر إلى غير أهله، وتولية الخَوَنة والضعفاء
(2)
والعاجزين، وقد دخل بذلك من الفساد ما لا يحصيه إلا الله، وما ذاك إلا لأن قبول هدية مَن لم تجرِ عادته بمهاداته ذريعة إلى قضاء حاجته، وحبُّك الشيء يُعمي ويُصِمّ، فيقوم عنده شهوة لقضاء حاجته مكافأة له مقرونة بسرّية
(3)
وإغماض عن كونه لا يصلح.
الوجه السادس والعشرون: أن السنة مضت بأنه ليس للقاتل من الميراث شيء
(4)
، إما عمدًا كما قال مالك، وإما مباشرةً كما قال أبو حنيفة، وإما قتلًا مضمونًا بقصاص أو دية أو كفارة، وإما قتلًا بغير حق، وإما قتلًا مطلقًا كما هي أقوال في مذهب الشافعي وأحمد، وسواء قصد القاتل أن يتعجَّل الميراث أو لم يقصده فإن رعاية هذا القصد غير معتبرة في المنع وفاقًا، وما ذاك إلا لأن توريث القاتل ذريعة إلى وقوع هذا الفعل؛ فسدَّ الشارع الذريعةَ بالمنع.
(1)
ز: «أصحابه» .
(2)
ز: «للضعفاء» .
(3)
كذا في النسختين. وفي المطبوع: «بشره» .
(4)
تقدم تخريجه.
الوجه السابع والعشرون: أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ورَّثوا المطلقة المبتوتة في مرض الموت حيث يتَّهم بقصد حرمانها الميراثَ بلا تردد وإن لم يقصد الحرمان، لأن الطلاق ذريعة، وأما إذا لم يُتَّهم ففيه خلاف معروف مأخذه أن المرض أوجب تعلُّق حقها بماله؛ فلا يمكن من قطعه أو سدًّا للذريعة بالكلية، وإن كان في أصل المسألة خلاف متأخر عن إجماع السابقين.
الوجه الثامن والعشرون: أن الصحابة وعامة الفقهاء اتفقوا على قتل الجميع بالواحد وإن كان أصل القصاص يمنع ذلك؛ لئلا يكون عدم القصاص ذريعةً إلى التعاون على سفك الدماء.
الوجه التاسع والعشرون: أن النبي صلى الله عليه وسلم[48/ب] نهى أن تُقطع الأيدي في الغزو لئلا يكون ذريعة إلى إلحاق المحدود بالكفار، ولهذا لا تقام الحدود في الغزو كما تقدم
(1)
.
الوجه الثلاثون: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تقدُّم رمضان بصوم يوم أو يومين
(2)
، إلا أن تكون له عادة توافق ذلك اليوم، ونهى عن صوم يوم الشك
(3)
، وما ذاك إلا لئلا يتخذ ذريعةً إلى أن يُلحَق بالفرض ما ليس منه.
(1)
(3/ 432).
(2)
رواه البخاري (1914) ومسلم (1082) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
علَّقه البخاري بصيغة الجزم (4/ 120 - مع الفتح)، ووصله أبو داود (2334) والترمذي (686) والنسائي (2188) وابن ماجه (1645) من حديث عمار، وصححه الترمذي وابن خزيمة (1914) وابن حبان (3595) والبيهقي في «معرفة السنن والآثار» (6/ 238).
وكذلك حرَّم صوم يوم
(1)
العيد
(2)
تمييزًا لوقت العبادة من غيره، لئلا يكون ذريعة إلى الزيادة في الواجب كما فعلت النصارى، ثم أكّد هذا الغرض باستحباب تعجيل الفطر وتأخير السحور
(3)
، واستحباب تعجيل الفطر يومَ العيد قبل الصلاة
(4)
، وكذلك ندب إلى تمييز فرض الصلاة عن نفلها؛ فكره للإمام أن يتطوع في مكانه
(5)
، وأن يستديم جلوسه مستقبل القبلة
(6)
، كل هذا سدًّا للباب المفضي إلى أن يزاد في الفرض ما ليس منه.
الوجه الحادي والثلاثون: أنه صلى الله عليه وسلم كره الصلاة إلى ما قد عُبِد من دون الله تعالى
(7)
، وأحبَّ لمن صلَّى إلى عود أو عمود أو شجرة أو نحوه أن يجعله على أحد حاجبَيْه، ولا يصمُد له صمْدًا
(8)
، قطعًا لذريعة التشبُّه بالسجود إلى غير الله تعالى.
(1)
«يوم» ليست في ز.
(2)
رواه البخاري (1993) ومسلم (1138) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
رواه مسلم (1098) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما. ورواه أيضًا البخاري (1957) ولم يذكر تأخير السحور.
(4)
رواه البخاري (953) من حديث أنس رضي الله عنه.
(5)
رواه أبو داود (616) وابن ماجه (1428) من حديث المغيرة رضي الله عنه. قال أبو داود: عطاء الخراساني لم يدرك المغيرة. وللحديث شواهد يتقوى بها. انظر: «صحيح أبي داود» - الأم (3/ 177).
(6)
رواه البخاري (852) ومسلم (707) من حديث ابن مسعود - رضى الله عنه -.
(7)
رواه البخاري (431) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(8)
رواه أحمد (23820) وأبو داود (693) من حديث المقداد رضي الله عنه. وفيه الوليد بن كامل متكلم فيه، وجهالة المهلب بن حجر، واضطراب في إسناده ومتنه. انظر:«ضعيف أبي داود» - الأم (1/ 250).
الوجه الثاني والثلاثون: أنه شرع الشفعة وسلّط الشريك على انتزاع الشِّقص من يد المشتري سدًّا لذريعة المفسدة المتعلقة بالشركة والقسمة.
الوجه الثالث والثلاثون: أن الحاكم منهيٌّ عن رفع أحد الخصمين على الآخر وعن الإقبال عليه دونه، وعن مشاورته والقيام له دون خصمه
(1)
، لئلا يكون ذريعةً إلى انكسار قلب الآخر وضعفِه عن قيامه بحجته وثقلِ لسانه بها.
الوجه الرابع والثلاثون: أنه ممنوع من الحكم بعلمه؛ لئلا يكون ذلك ذريعةً إلى حكمه بالباطل ويقول: حكمتُ بعلمي.
الوجه الخامس والثلاثون: أن الشريعة منعت من قبول شهادة العدو على عدوه لئلا يتخذ ذلك ذريعةً إلى بلوغ غرضه من عدوِّه بالشهادة الباطلة.
الوجه السادس والثلاثون: أن الله سبحانه منع رسوله حيث كان بمكة من الجهر بالقرآن حيث كان المشركون يسمعونه فيسبُّون القرآن ومن أَنزله ومن جاء به ومن أُنزِل عليه.
الوجه السابع والثلاثون: أن الله سبحانه أوجب الحدود على مرتكبي الجرائم التي تتقاضاها الطباع وليس عليها وازع طبعي، والحدود عقوبات لأرباب الجرائم في الدنيا كما جُعلت عقوبتهم في الآخرة بالنار إذا لم يتوبوا، ثم إنه سبحانه جعل التائب من الذنب كمن لا ذنبَ له؛ فمن لقيه تائبًا
(1)
رواه أبو يعلى (5867) من حديث أم سلمة رضي الله عنهما. وفي إسناده عباد بن كثير متكلم فيه، والحديث ضعفه الألباني في «الضعيفة» (2195).
توبةً نصوحًا لم يعذِّبه مما تاب منه، وهكذا في أحكام الدنيا إذا تاب توبة نصوحًا قبل رفعه إلى الإمام سقط عنه الحدُّ في أصح قولي العلماء، فإذا رُفع إلى الإمام لم تُسقِط توبتُه عنه الحدَّ لئلا يتخذ ذلك ذريعةً إلى تعطيل حدود الله؛ إذ لا يعجز كل من وجب عليه حدٌّ لله تعالى
(1)
أن يظهر التوبة ليتخلَّص من العقوبة وإن تاب توبة نصوحًا سدًّا لذريعة [49/أ] السقوط بالكلية.
الوجه الثامن والثلاثون: أن الشارع أمر بالاجتماع على إمام واحد في الإمامة الكبرى، وفي الجمعة وفي
(2)
العيدين والاستسقاء وصلاة الخوف
(3)
، مع كون صلاة الخوف بإمامين أقربَ إلى حصول صلاة
(4)
الأمن، وذلك سدًّا لذريعة التفرق والاختلاف والتنازع، وطلبًا لاجتماع القلوب وتألُّف الكلمة، وهذا من أعظم مقاصد الشرع، وقد سدَّ الذريعة إلى
(1)
ز: «وجب عليه الحد» .
(2)
«في» ليست في ز.
(3)
أما حديث الاجتماع في الإمامة الكبرى فعند مسلم (1853) من حديث أبي سعيد رضي الله عنهما.
وأما حديث الاجتماع في الجمعة فرواه البخاري (906) من حديث أنس رضي الله عنه.
وأما حديث صلاة العيدين فرواه البخاري (964) ومسلم (884) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
وأما حديث صلاة الاستسقاء فرواه البخاري (1012) ومسلم (894) من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنهما.
وأما حديث صلاة الخوف فرواه مسلم (840) من حديث جابر رضي الله عنه.
(4)
«صلاة» ليست في ز.
ما يناقضه بكل طريق، حتى في تسوية الصف في الصلاة
(1)
؛ لئلا تختلف القلوب. وشواهد ذلك أكثر من أن تُذكر.
الوجه التاسع والثلاثون: أن السنة مضت بكراهة إفراد رجب بالصوم
(2)
، وكراهة إفراد يوم الجمعة بالصوم وليلتها بالقيام
(3)
، سدًّا لذريعة
(4)
اتخاذ شرعٍ لم يأذن به الله من تخصيص زمان أو مكان بما لم يخصَّه به؛ ففي ذلك وقوع فيما وقع فيه أهل الكتاب.
الوجه الأربعون: أن الشروط المضروبة على أهل الذمة تضمَّنت تمييزَهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمراكب وغيرها لئلا تفضي مشابهتهم إلى أن يُعامَلَ الكافر معاملة المسلم، فسدَّت هذه الذريعة بإلزامهم التميُّز عن المسلمين.
الوجه الحادي والأربعون: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ناجية بن كعب الأسلمي ــ وقد أرسل معه هدْيَه ــ إذا عَطِبَ منه شيء دون المحلِّ أن ينحره، ويَصبُغ نعلَه التي قلَّده بها في دمه، ويخلّي بينه وبين الناس، ونهاه أن يأكل منه هو أو أحد
(1)
رواه البخاري (717) ومسلم (436) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
(2)
رواه ابن ماجه (1743) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وفي إسناده داود بن عطاء متكلم فيه. والحديث ضعّفه الألباني في «الضعيفة» (4728). والنهي عن إفراد رجب ثبت عند ابن أبي شيبة (9851) عن خَرَشَة بن الحرّ قال: رأيت عمر يضرب أكف الناس في رجب، حتى يضعوها في الجفان ويقول: كلوا فإنما هو شهر كان يعظمه أهل الجاهلية. وانظر: «الإرواء» (4/ 114).
(3)
رواه البخاري (1985) ومسلم (1144/ 147) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
ز: «لسد» .
من أهل رفقته
(1)
. قالوا: وما ذاك إلا لأنه لو جاز أن يأكل منه أو يطعم أهل رفقته قبل بلوغ المحلِّ فربما دعاه ذلك إلى أن يقصِّر في عَلْفِها وحفظها، لحصول غرضه من عَطَبها دون المحلّ كحصوله بعد بلوغ المحلّ من أكله هو ورفقته وإهدائهم إلى أصحابهم، فإذا أيِسَ من حصول غرضه في عطبها كان ذلك أدعى إلى حفظها حتى تبلغ محلَّها وأحسمَ لمادة هذا الفساد، وهذا من ألطف أنواع سدِّ الذرائع.
الوجه الثاني والأربعون: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الملتقط
(2)
أن يشهد على اللقطة
(3)
، وقد علم أنه أمين، وما ذاك إلا سدًّا لذريعة الطمع والكتمان، فإذا بادر وأشهد كان أحسمَ لمادة الطمع والكتمان، وهذا أيضًا من ألطف أنواعها.
الوجه الثالث والأربعون: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد»
(4)
، وذم الخطيب الذي قال:«من يُطعِ الله ورسولَه فقد رشد، ومن عصاهما فقد غوى»
(5)
، سدًّا لذريعة التشريك في المعنى بالتشريك في اللفظ، وحسمًا لمادة الشرك حتى في اللفظ، ولهذا قال للذي قال له «ما شاء
(1)
رواه مسلم (1325) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
د: «اللقيط» ، وفي هامشها:«لعله الملتقط» .
(3)
رواه أحمد (17481) وأبو داود (1709) وابن ماجه (2505) من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (4894).
(4)
رواه أحمد (23265) أبو داود (4980) من حديث حذيفة رضي الله عنه، وصححه العراقي في «تخريج أحاديث الإحياء» (ص 1055) والألباني في «الصحيحة» (137).
(5)
رواه مسلم (870) من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه.
الله وشئتَ»: «أجعلتَني لله نِدًّا»
(1)
؟ فحسمَ مادة الشرك وسدَّ الذريعة إليه في اللفظ كما سدَّها في الفعل والقصد، فصلوات الله وسلامه عليه أكمل صلاة وأزكاها وأتمَّها.
الوجه الرابع والأربعون: أنه صلى الله عليه وسلم أمر المأمومين أن يصلُّوا قعودًا إذا صلَّى إمامهم
(2)
قاعدًا
(3)
، وقد تواتر عنه ذلك، ولم يجئ عنه ما ينسخه، وما ذاك إلا سدًّا لذريعة مشابهة الكفار [49/ب] حيث يقومون على ملوكهم وهم قعود، كما علَّل به صلوات الله وسلامه عليه، وهذا التعليل منه يُبطِل قول من قال: إنه منسوخ، مع أن ذلك دعوى لا دليل عليها.
الوجه الخامس والأربعون: أنه صلى الله عليه وسلم أمر المصلِّي بالليل إذا نَعَسَ أن يذهب فليرقُد، وقال:«لعله يذهبُ يستغفرُ فيسبُّ نفسَه»
(4)
، فأمره بالنوم لئلا تكون صلاته في تلك الحال ذريعةً إلى سبِّه لنفسه، وهو لا يشعر لغلبة النوم.
الوجه السادس والأربعون: أن الشارع صلوات الله عليه نهى أن يخطب الرجل على خِطبة أخيه
(5)
، أو يستام على سَوْمِ أخيه أو يبيع على بيع
(1)
رواه البخاري في «الأدب المفرد» (783) والطبراني (13005) بلفظ: «جعلت لله ندًا» ؛ ورواه النسائي في «الكبرى» (10759) والبيهقي في «الأسماء والصفات» (293) بلفظ: «أجعلتني لله عدلًا» ، كلهم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. والحديث حسَّنه العراقي في «تخريج الإحياء» (ص 1056) والألباني في «الصحيحة» (139).
(2)
د: «الإمام» .
(3)
رواه البخاري (688، 689، 722) ومسلم (412، 411، 414) من حديث عائشة وأنس وأبي هريرة رضي الله عنهم. وانفرد مسلم (413) بروايته من حديث جابر رضي الله عنه.
(4)
رواه البخاري (212) ومسلم (786) من حديث عائشة - رضى الله عنها -.
(5)
رواه البخاري (5142) ومسلم (1412/ 50) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
أخيه
(1)
، وما ذاك إلا أنه ذريعة إلى التباغض والتعادي؛ فقياس هذا أنه لا يستأجر على إجارته ولا يخطب ولاية أو منصبًا على خطبته، وما ذاك إلا لأنه ذريعة إلى وقوع العداوة والبغضاء بينه وبين أخيه.
الوجه السابع والأربعون: أنه نهى عن البول في الجُحْر
(2)
، وما ذاك إلا لأنه قد يكون ذريعةً إلى خروج حيوان يؤذيه، وقد يكون من مساكن الجن فيؤذيهم بالبول، فربما آذَوه.
الوجه الثامن والأربعون: أنه نهى عن البَرَاز في قارعة الطريق والظلّ والموارد؛ لأنه ذريعة إلى استجلاب اللعن كما علل به صلى الله عليه وسلم بقوله: «اتقوا الملاعن الثلاث»
(3)
، وفي لفظ:«اتَّقوا اللاعنينِ» ، قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: «الذي يتخلَّى في طريق الناس وظلِّهم»
(4)
.
الوجه التاسع والأربعون: أنه نهاهم إذا أقيمت الصلاة أن يقوموا حتى يَروه قد خرج
(5)
؛ لئلا يكون ذلك ذريعةً إلى قيامهم لغير الله، وإن كانوا
(6)
(1)
رواه البخاري (2727) ومسلم (1413/ 51) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
رواه أحمد (20775) وأبو داود (29) والنسائي (34) من حديث عبد الله بن سَرجِس، وفي إسناده قتادة عنعنه، وقد وصفه النسائي بالتدليس. وانظر:«ضعيف أبي داود» - الأم (1/ 19).
(3)
رواه أبو داود (26) وابن ماجه (328) والحاكم (1/ 167) من حديث أبي سعيد الحميري عن معاذ رضي الله عنه، وأبو سعيد لم يسمع منه. وللحديث شواهد يرتقي بها إلى الحسن. انظر:«الإرواء» (1/ 100).
(4)
رواه مسلم (269) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
رواه البخاري (637) ومسلم (604) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.
(6)
ز: «كان» .
إنما يقصدون القيام للصلاة، لكن قيامهم قبل خروج الإمام ذريعة، ولا مصلحة فيها، فنُهوا عنه.
الوجه الخمسون: أنه نهى أن تُوصَل صلاة بصلاة الجمعة حتى يتكلم أو يخرج لئلا يتخذ ذريعةً إلى تغيير الفرض، وأن يزاد فيه ما ليس منه. قال السائب بن يزيد: صليتُ الجمعة في المقصورة، فلما سلَّم الإمام قمتُ في مقامي فصليتُ، فلما دخل معاوية أرسل إليَّ، فقال: لا تعُدْ لما فعلتَ، إذا صليتَ الجمعة فلا تَصِلْها بصلاة حتى تتكلم أو تخرج؛ فإن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر بذلك أن لا تُوصَل الصلاة حتى يتكلّم أو يخرج
(1)
.
الوجه الحادي والخمسون: أنه أمر من صلَّى في رَحْلِه ثم جاء إلى المسجد أن يصلِّي مع الإمام
(2)
، وتكون له نافلة؛ لئلا يتخذ قعوده والناس يصلّون ذريعةً إلى إساءة الظن به، وأنه ليس من المصلّين.
الوجه الثاني والخمسون: أنه نهى أن يسمر بعد العشاء الآخرة إلا لمصلٍّ أو مسافرٍ
(3)
، وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها
(4)
، وما ذاك إلا لأن النوم
(1)
رواه مسلم (883).
(2)
رواه أحمد (17474) أبو داود (575) والترمذي (219) والنسائي (858) من حديث يزيد بن الأسود، وصححه الترمذي وابن خزيمة (1279) وابن حبان (1564).
(3)
رواه أحمد (3917) من حديث خيثمة عن ابن مسعود، وإسناده منقطع، خيثمة لم يسمع من ابن مسعود، وللحديث شواهد يُحسَّن بها. انظر:«السلسلة الصحيحة» (2435).
(4)
رواه البخاري (547) ومسلم (647) من حديث أبي بَرْزَة الأسلمي رضي الله عنه.
قبلها ذريعة إلى تفويتها، والسمر بعدها ذريعة إلى تفويت قيام الليل، فإن عارضه مصلحة راجحة كالسمر في العلم ومصالح المسلمين لم يكره.
الوجه الثالث والخمسون: أنه نهى النساء إذا صلَّين مع الرجال أن يرفعن رؤوسهن قبل الرجال
(1)
؛ لئلا يكون ذلك ذريعة منهن إلى رؤية عورات الرجال من وراء الأُزُر، كما جاء التعليل بذلك في الحديث.
الوجه الرابع والخمسون: أنه نهى الرجل أن يتخطّى المسجد الذي يليه إلى غيره، [50/أ] كما رواه بقية عن المُجَاشِع بن عمرو عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم:«ليصلِّ أحدكم في المسجد الذي يليه، ولا يتخطَّاه إلى غيره»
(2)
. وما ذاك إلا لأنه
(3)
ذريعة إلى هجرِ المسجد الذي يليه وإيحاشِ صدر الإمام، فإن كان الإمام لا يُتِمُّ الصلاة أو يُرمى ببدعة أو يُعلن بفجور فلا بأس بتخطِّيه إلى غيره.
الوجه الخامس والخمسون: أنه يُنهى الرجل بعد الأذان أن يخرج من المسجد حتى يصلّي؛ لئلا يكون خروجه ذريعة إلى اشتغاله عن الصلاة جماعة، كما قال عمار لرجل رآه قد خرج بعد الأذان:«أما هذا فقد عصى أبا القاسم»
(4)
.
(1)
رواه البخاري (362) ومسلم (441) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما.
(2)
رواه ابن عدي في «الكامل» (8/ 218) وتمّام في «فوائده» (1416). ومجاشع بن عمرو متكلم فيه.
(3)
ز: «أنه» .
(4)
رواه مسلم (655) عن أبي هريرة لا عن عمار رضي الله عنهما. وقول عمار في صوم يوم الشك علَّقه البخاري (4/ 119).
الوجه السادس والخمسون: أنه نهى عن الاحتباء يوم الجمعة، كما رواه أحمد
(1)
في «مسنده»
(2)
من حديث سهل بن معاذ عن أبيه: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاحتباء يوم الجمعة» ، وما ذاك إلا أنه ذريعة إلى النوم.
الوجه السابع والخمسون: أنه نهى المرأة إذا خرجت إلى المسجد أن تتطيب أو تصيب بخورًا
(3)
، وذلك لأنه ذريعة إلى ميل الرجال وتشوُّفهم إليها، فإن رائحتها وزينتها وصوتها وإبداء محاسنها تدعو إليها؛ فأمرها أن تخرج تَفِلةً، وأن لا تتطيب
(4)
، وأن تقف خلف الرجال
(5)
، وأن لا تسبِّح في الصلاة إذا نابها شيء، بل تصفِّق ببطن كفِّها على ظهر الأخرى
(6)
، كل ذلك سدًّا للذريعة وحمايةً عن المفسدة.
الوجه الثامن والخمسون: أنه نهى أن تَنعت المرأةُ المرأةَ لزوجها حتى كأنه ينظر إليها
(7)
. ولا يخفى أن ذلك سدُّ الذريعة وحماية عن مفسدة
(8)
(1)
ز: «الإمام أحمد» .
(2)
رقم (15630)، ورواه أبو داود (1110) والترمذي (514) وحسنه، وصححه ابن خزيمة (1815) والحاكم (1/ 289). ولفظهم:«الحبوة» .
(3)
رواه مسلم (443) من حديث زينب الثقفية رضي الله عنها.
(4)
رواه أحمد (9645) أبو داود (565) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (1679) وابن حبان (2213).
(5)
رواه البخاري (380) ومسلم (658) من حديث أنس رضي الله عنه.
(6)
رواه البخاري (1203) ومسلم (422) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(7)
رواه البخاري (5240) من حديث ابن مسعود - رضى الله عنه -.
(8)
«وحماية عن مفسدة» ساقطة من ز.
وقوعها في قلبه وميله إليها بحضور صورتها في نفسه، وكم ممن أحبّ غيره بالوصف قبل الرؤية.
الوجه التاسع والخمسون: أنه نهى عن الجلوس بالطرقات، وما ذاك إلا لأنه ذريعة إلى النظر المحرَّم، فلما أخبروه أنه لا بدَّ لهم من ذلك قال:«أعطُوا الطريقَ حقَّه» ، قالوا: وما حقه؟ قال: «غضُّ البصر، وكفُّ الأذى، وردُّ السلام»
(1)
.
الوجه الستون: أنه نهى أن يبيت الرجل عند امرأة إلا أن يكون ناكحًا أو ذا مَحرمٍ
(2)
، وما ذاك إلا لأن
(3)
المبيت عند الأجنبية ذريعة إلى المحرَّم.
الوجه الحادي والستون: أنه نهى أن تباع السِّلَع حيث تباع حتى تُنقل عن مكانها
(4)
، وما ذاك إلا أنه ذريعة إلى جحد البائع البيعَ وعدمِ إتمامه إذا رأى المشتري قد ربح فيها، فيغُرُّه الطمع، وتشحُّ نفسه بالتسليم كما هو الواقع. وأكّد هذا المعنى بالنهي عن ربح ما لم يُضمَن
(5)
، وهذا من محاسن الشريعة وألطفِ بابِ سدّ الذرائع.
(1)
رواه البخاري (2465) ومسلم (2121) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
(2)
رواه مسلم (2171) من حديث جابر رضي الله عنه.
(3)
ز: «أن» .
(4)
رواه البخاري (2123) ومسلم (1527) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(5)
رواه أحمد (6671) وأبو داود (3504) والترمذي (1234) والنسائي (4631) وابن ماجه (2188) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وصححه الترمذي والحاكم (2/ 17).
الوجه الثاني والستون: أنه نهى عن بيعتين في بيعة
(1)
، وهو الشرطان في البيع في الحديث الآخر
(2)
، وهو الذي لعاقدِه أوكسُ البيعتين أو الربا في الحديث الثالث، وذلك سدًّا لذريعة الربا؛ فإنه إذا باعه السلعة بمائة مؤجلة ثم اشتراها منه بمائتين حالَّةٍ
(3)
فقد باع بيعتين في بيعة، فإن أخذ بالثمن الزائد أخذ الربا، وإن أخذ بالناقص أخذ بأوكسِهما، وهذا من أعظم الذرائع إلى [50/ب] الربا. وأبعدَ كلَّ البعد من حمل الحديث على البيع بمائة مؤجَّلة أو خمسين حالَّة، وليس هاهنا ربًا ولا جهالة ولا غرر ولا قمار ولا شيء من المفاسد؛ فإنه خيَّره بين أيّ الثمنين شاء، وليس هذا بأبعد من تخييره بعد البيع بين الأخذ والإمضاء ثلاثة أيام. وأيضًا فإنه قرنَ بين عقدين كل منهما ذريعة ظاهرة جدًّا إلى الربا، وهما: السلف والبيع، والشرطان في البيع. وهذان العقدان بينهما من النسب والإخاء والتوسل بهما إلى أكل الربا ما يقتضي الجمع بينهما في التحريم، فصلوات الله وسلامه على من كلامه الشفاء والعصمة والهدى والنور.
الوجه الثالث والستون: أنه أمر أن يفرق بين الأولاد في المضاجع، وأن
(1)
رواه أحمد (9584) والترمذي (1231) والنسائي (4632) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الترمذي وابن حبان (4973) والبغوي (2111).
(2)
ولفظه: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع» . رواه أبو داود (3504) والترمذي (1234) والنسائي (4611، 4630) وابن ماجه (2188) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(3)
في هامش د: لعل العبارة فيها تقديم وتأخير، وأن الكلام:«إذا باعه بمائة حالة ثم اشتراها بمائتين مؤجلة» .
لا يترك الذكر ينام مع الأنثى في فراش واحد
(1)
؛ لأن ذلك قد يكون ذريعة إلى نسج الشيطان بينهما المواصلةَ المحرَّمة بواسطة اتحاد الفراش ولا سيما مع الطول، والرجل قد يعبث في نومه بالمرأة في نومها
(2)
إلى جانبه وهو لا يشعر. وهذا أيضًا من ألطف سدّ الذرائع.
الوجه الرابع والستون: أنه نهى أن يقول الرجل: خبثَتْ نفسي، ولكن ليقل: لَقِسَتْ نفسي
(3)
، سدًّا لذريعةِ
(4)
اعتياد اللسان للكلام الفاحش، وسدًّا لذريعة اتصاف النفس بمعنى هذا اللفظ؛ فإن الألفاظ تتقاضى معانيها وتطلبها بالمشاكلة والمناسبة التي بين اللفظ والمعنى، ولهذا قلَّ من تجده يعتاد لفظًا إلا ومعناه غالب عليه، فسدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذريعة الخبث لفظًا ومعنى. وهذا أيضًا من ألطف الباب.
الوجه الخامس والستون: أنه نهى أن يقول الرجل
(5)
لغلامه وجاريته: عبدي وأمتي، ولكن يقول: فتايَ وفتاتي، ونهى أن يقول لغلامه: وضِّئْ ربك، أطعِمْ ربك
(6)
، سدًّا لذريعة الشرك في اللفظ والمعنى، وإن كان الرب هاهنا هو المالك كرب الدار ورب الإبل؛ فعدل عن لفظ العبد والأمة إلى لفظ
(1)
رواه أحمد (6756) وأبو داود (495) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وصححه الحاكم (1/ 197)، وحسنه النووي في «خلاصة الأحكام» (1/ 252).
(2)
«في نومها» ليست في ز.
(3)
رواه البخاري (6179) ومسلم (2250) من حديث عائشة - رضى الله عنها -.
(4)
ز: «للذريعة» .
(5)
ز: «الرجل أن يقول» .
(6)
رواه البخاري (2552) ومسلم (2249/ 13) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الفتى والفتاة، ومنع من إطلاق لفظ الرب على السيّد، حمايةً لجانب التوحيد وسدًّا لذريعة الشرك.
الوجه السادس والستون: أنه نهى المرأة أن تسافر بغير مَحرم
(1)
، وما ذاك إلا لأن سفرها بغير محرم قد يكون ذريعةً إلى الطمع فيها والفجور بها.
الوجه السابع والستون: أنه نهى عن تصديق أهل الكتاب وتكذيبهم فيما يحدّثونا به
(2)
؛ لأن تصديقهم قد يكون ذريعةً إلى التصديق بالباطل، وتكذيبهم قد يكون ذريعة إلى التكذيب بالحق، كما علّل به في نفس الحديث
(3)
.
الوجه الثامن والستون: أنه نهى أن يسمِّي عبده بأفلح ونافع ورَباح ويسار
(4)
، لأن ذلك قد يكون ذريعة إلى ما يُكره من الطِّيرة، بأن يقال: ليس هاهنا يسار ولا رباح ولا أفلح، وإن كان إنما قصد اسم الغلام، ولكن سدَّ ذريعةَ اللفظ المكروه الذي يستوحش منه السامع.
الوجه التاسع والستون: أنه نهى الرجال عن الدخول على النساء
(5)
، لأنه ذريعة [51/أ] ظاهرة.
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
رواه البخاري (4485) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
يشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: «فإن كان حقًّا لم تكذِّبوهم، وإن كان باطلًا لم تصدِّقوهم» . رواه أحمد (17225) وأبو داود (3644) والطبراني (877) من حديث أبي نملة، وصححه ابن حبان (6257) والألباني في «الصحيحة» (2800).
(4)
رواه مسلم (2136) من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه.
(5)
رواه البخاري (5232) ومسلم (2172) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.
الوجه السبعون: أنه نهى أن يسمى باسم برَّة
(1)
؛ لأنه ذريعة إلى تزكية النفس بهذا الاسم، وإن كان إنما قصد العَلَمية.
الوجه الحادي والسبعون: أنه نهى عن التداوي بالخمر
(2)
وإن كانت مصلحة التداوي راجحة على مفسدة ملابستها، سدًّا لذريعة قربانها واقتنائها ومحبة النفوس لها، فحسَمَ عليها المادة حتى في تناولها على وجه الدواء، وهذا من أبلغ سدّ الذرائع.
الوجه الثاني والسبعون: أنه نهى أن يتناجى اثنان دون الثالث
(3)
؛ لأن ذلك ذريعة إلى حزنه وكسر قلبه وظنّه السوء.
الوجه الثالث والسبعون: أن الله سبحانه حرَّم نكاح الأمة على القادر على نكاح الحرَّة إذا لم يخشَ العنَتَ؛ لأن ذلك ذريعة إلى إرقاق ولده، حتى لو كانت الأمة من الآيسات من الحبل والولادة لم تحلَّ له سدًّا للذريعة. ومن هذا منع الإمام أحمد الأسير والتاجر أن يتزوّج في دار الحرب خشية تعريض ولده للرقّ، وعلَّله هو بعلة أخرى، وهي أنه قد لا يمكنه منعُ العدو من مشاركته في زوجته.
الوجه الرابع والسبعون: أنه نهى أن يُورَد مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ
(4)
: لأن ذلك قد يكون ذريعةً إما إلى إعدائه وإما إلى تأذّيه بالتوهم والخوف، وذلك
(1)
رواه البخاري (6192) ومسلم (2141) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
رواه مسلم (1984) من حديث سويد بن طارق رضي الله عنه.
(3)
رواه البخاري (6288) ومسلم (2183) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(4)
رواه البخاري (5771) ومسلم (2221) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
سبب إلى إصابة المكروه له.
الوجه الخامس والسبعون: أنه نهى أصحابه عن دخول ديار ثمود إلا باكين، خشيةَ أن يصيبهم ما أصابهم
(1)
، فجعل الدخول من غير بكاء ذريعة إلى إصابة المكروه.
الوجه السادس والسبعون: أنه نهى الرجل أن ينظر إلى من فُضِّلَ عليه بالمال
(2)
واللباس
(3)
؛ فإنه ذريعة إلى ازدرائه نعمة الله عليه واحتقارِه بها، وذلك سبب الهلاك.
الوجه السابع والسبعون: أنه نهى عن إنزاء الحُمُر على الخيل
(4)
؛ وذلك لأنه ذريعة إلى قطع نسل الخيل أو تقليلها، ومن هذا نهيه عن أكل لحومها ــ إن صح الحديث فيه
(5)
ــ إنما كان لأنه ذريعة إلى تقليلها، كما نهاهم في بعض الغزوات عن نحر ظهورهم
(6)
لما كان ذريعة إلى لحوق الضرر بهم
(1)
رواه البخاري (433) ومسلم (2980) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
ز: «في المال» .
(3)
رواه البخاري (6490) ومسلم (2963) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
رواه أبو داود (2565) والنسائي (3580) من حديث علي رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (4682) والألباني في «صحيح أبي داود» - الأم (7/ 318)
(5)
رواه أبو داود (3790) والنسائي (4331) وابن ماجه (3198) والدارقطني (4770) من حديث خالد بن الوليد وضعَّفه. وفي إسناده بقية بن الوليد وقد عنعنه، وهو مشهور بتدليس التسوية، وصالح بن يحيى متكلم فيه، وأبوه لم يوثقه إلا ابن حبان. وفي الباب عن جابر رضي الله عنه ولا يصح. انظر:«نصب الراية» (4/ 196 - 197).
(6)
رواه البخاري (4361) ومسلم (1935/ 19) من حديث جابر رضي الله عنه.
بفقد الظهر
(1)
.
الوجه الثامن والسبعون: أنه نهى من رأى رؤيا يكرهها أن يتحدّث بها
(2)
؛ فإنه ذريعة إلى انتقالها من مرتبة
(3)
الوجود اللفظي إلى الوجود الخارجي، كما انتقلت من الوجود الذهني إلى اللفظي، وهكذا عامة الأمور تكون في الذهن أولًا ثم تنتقل إلى الذكر ثم تنتقل إلى الحسّ. وهذا من ألطف سدِّ الذرائع وأنفعها، ومن تأمَّلَ عامة الشر رآه متنقلًا في درجات الظهور طبقًا بعد طبقٍ من الذهن إلى اللفظ إلى الخارج.
الوجه التاسع والسبعون: أنه سئل عن الخمر تُتخذ خلًّا، فقال: لا، مع إذنه في خلِّ الخمر الذي حصل بغير التخليل
(4)
، وما ذاك إلا سدًّا لذريعة إمساكها بكل طريق، إذ لو أذن في تخليلها لحبسها أصحابها لذلك وكان ذريعة إلى المحذور.
الوجه الثمانون: [51/ب] أنه نهى أن يتعاطى السيف مسلولًا
(5)
، وما ذاك إلا لأنه ذريعة إلى الإصابة بمكروه، ولعل الشيطان يُعِينه ويَنزِع في يده، فيقع المحذور ويقرب منه.
الوجه الحادي والثمانون: أنه أمر المارّ في المسجد بنِبالٍ أن يُمسك
(1)
انظر: «زاد المعاد» (3/ 343 - 345).
(2)
رواه البخاري (3292) ومسلم (2261) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.
(3)
د: «نية» .
(4)
رواه مسلم (1983) من حديث أنس رضي الله عنه.
(5)
رواه أحمد (14885) أبو داود (2588) والترمذي (2163) من حديث جابر رضي الله عنه، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان (5946) والحاكم (4/ 290).
على نِصالها بيده
(1)
، لئلا يكون ذريعةً إلى تأذِّي رجل مسلم بالنِّصال.
الوجه الثاني والثمانون: أنه حرَّم الشِّياع، وهو المفاخرة بالجماع
(2)
؛ لأنه ذريعة إلى تحريك النفوس والتشبُّه، وقد لا يكون عند الرجل من يُغنيه من الحلال فيتخطَّى إلى الحرام، ومن هذا كان المجاهرون خارجين من عافية الله، وهم المتحدِّثون بما فعلوه من المعاصي؛ فإن السامع تتحرّك نفسه إلى التشبُّه، وفي ذلك من الفساد المنتشر ما لا يعلمه إلا الله.
الوجه الثالث والثمانون: أنه نهى عن البول في الماء الدائم
(3)
، وما ذاك إلا لأن تواتر البول فيه ذريعة إلى تنجيسه، وعلى هذا فلا فرق بين القليل والكثير
(4)
وبول الواحد والعدد، وهذا أولى من تقييده بما دون القلتين أو بما يمكن نَزْحُه؛ فإن الشارع الحكيم لا يأذن للناس أن يبولوا في المياه الدائمة إذا جاوزت القلتين أو لم يمكن نزحُها، فإن في ذلك من إفساد مياه الناس ومواردهم ما لا تأتي به شريعة، فحكمة شريعته اقتضت المنع من البول فيه قلَّ أو كثر سدًّا لذريعة إفساده.
الوجه الرابع والثمانون: أنه نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو
(5)
؛
(1)
رواه البخاري (452) ومسلم (2615) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
(2)
رواه أحمد (11235) وأبو يعلى (1396) والبيهقي (7/ 194) عن أبي سعيد الخدري، وفي إسناده درّاج وروايته عن أبي الهيثم فيها كلام. انظر:«تهذيب الكمال» (8/ 477).
(3)
رواه البخاري (239) ومسلم (282) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
ز: «الكثير والقليل» .
(5)
رواه البخاري (2990) ومسلم (1869) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
فإنه ذريعة إلى أن تناله أيديهم، كما عُلِّل به في نفس الحديث
(1)
.
الوجه الخامس والثمانون: أنه نهى عن الاحتكار، وقال:«لا يَحتكرُ إلا خاطئ»
(2)
، فإنه ذريعة إلى أن يضيّق على الناس أقواتهم، ولهذا لا يمنع من احتكار ما لا يُضِرُّ بالناس.
الوجه السادس والثمانون: أنه نهى عن منع فضل الماء
(3)
؛ لئلا يكون ذريعة إلى منع فضل الكلأ كما علِّل به في نفس الحديث، فجعله بمنعه الماءَ مانعًا من الكلأ؛ لأن صاحب المواشي إذا لم يمكنه الشرب من ذلك الماء لم يتمكَّن من المرعى الذي حوله.
الوجه السابع والثمانون: أنه نهى عن إقامة حد الزنا على الحامل حتى تضع
(4)
، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى قتل ما في بطنها، كما قال في الحديث الآخر:«لولا ما في البيوت من النساء والذرية لأمرتُ فتياني أن يحملوا معهم حُزَمًا من حَطبٍ، فأخالف إلى قوم لا يشهدون الصلاة في الجماعة فأحرِّق عليهم بيوتَهم بالنار»
(5)
. فمنعه من تحريق بيوتهم التي عصوا الله فيها بتخلُّفهم عن الجماعة كونُ ذلك ذريعةً إلى عقوبة من لم يجب عليه حضور الجماعة من النساء والأطفال.
(1)
والعلة جاءت عند مسلم دون البخاري.
(2)
رواه مسلم (1605/ 130) من حديث معمر بن عبد الله العدوي رضي الله عنه.
(3)
رواه البخاري (2353) ومسلم (1566) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
رواه مسلم (1695) من حديث بريدة رضي الله عنه في قصة الغامدية.
(5)
رواه البخاري (2420) ومسلم (651) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه دون ذكر السبب، وهو عند أحمد (8796).
الوجه الثامن والثمانون
(1)
: أنه نهى عن إدامة النظر إلى المجذَّمين
(2)
، وهذا ــ والله أعلم ــ لأنه ذريعة إلى أن يصابوا بإيذائهم، وهي من ألطف الذرائع، وأهلُ الطبيعة يعترفون به، وهو جارٍ على قاعدة الأسباب. وأخبرني رجل من علمائهم أنه أجلسَ قرابةً له يُكحِّل الناسَ فرمِدَ ثم برئ، فجلس يُكحِّلهم فرمِدَ مرارًا، قال: فعلمتُ أن الطبيعة [52/أ] تنقل، وأنه من كثرة ما يفتح عينيه في أعين الرُّمْدِ نقلت الطبيعة الرمَدَ إلى عينيه، وهذا لا بدَّ معه من نوع استعداد، وقد جُبِلت الطبيعة والنفس على التشبُّه والمحاكاة
(3)
.
الوجه التاسع والثمانون: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الرجل أن ينحني لرجلٍ إذا لقيه
(4)
، كما يفعله كثير من المنتسبين إلى العلم ممن لا علمَ له بالسنة، بل يبالغون إلى أقصى حدِّ الانحناء مبالغةً في خلاف السنة جهلًا، حتى يصير أحدهم بصورة الراكع لأخيه ثم يرفع رأسه من الركوع، كما يفعل إخوانهم من السجود بين يدي شيوخهم الأحياء والأموات؛ فهؤلاء أخذوا من الصلاة سجودها، وأولئك ركوعها، وطائفة ثالثة قيامَها، يقوم
(5)
عليهم الناس وهم
(1)
د: «الوجه التسعون» ، وهكذا استمر الترقيم إلى آخر الأوجه في د، وأكتفي بالتنبيه عليه هنا.
(2)
رواه أحمد (2075) وابن ماجه (3543) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه الألباني في «الصحيحة» (1064).
(3)
ز: «المحكاة» .
(4)
رواه أحمد (13044) والترمذي (2728) من حديث أنس رضي الله عنه، وفي إسناده حنظلة بن عبد الله السدوسي متكلم فيه، وللحديث متابعات تقويه. انظر:«السلسلة الصحيحة» (160).
(5)
د: «يقومون» .
قعود كما يقومون في الصلاة، فتقاسمت الفرق الثلاثة أجزاء الصلاة. والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن انحناء الرجل لأخيه سدًّا لذريعة الشرك، كما نهى عن السجود لغير الله
(1)
، وكما نهاهم أن يقوموا في الصلاة على رأس الإمام وهو جالس
(2)
، مع أن قيامهم عبادة لله تعالى، فما الظن إذا كان القيام تعظيمًا للمخلوق وعبوديةً له؟ فالله المستعان.
الوجه التسعون: أنه حرّم التفرُّق في الصرف وبيع الربوي بمثله قبل القبض
(3)
؛ لئلا يُتخذ ذريعةً إلى التأجيل الذي هو أصل باب الربا، فحماهم من قربانه باشتراط التقابض في الحال، ثم أوجب عليهم فيه التماثل، وأن لا يزيد أحد العوضين على الآخر إذا كانا من جنس واحد حتى لا يباع مُدٌّ جيد بمدَّينِ رديئين وإن كانا يساويانه، سدًّا لذريعة ربا النَّساء الذي هو حقيقة الربا، وأنه إذا منعهم من الزيادة مع الحلول حيث تكون الزيادة في مقابلة جودة أو صفة أو سكّة أو نحوها، فمنعهم منها حيث لا مقابلَ لها إلا مجردُ الأجل أولى. فهذه هي حكمة تحريم ربا الفضل التي خفيت على كثير من الناس، حتى قال بعض المتأخرين: لا يتبين لي حكمة تحريم ربا الفضل، وقد ذكر الشارع هذه الحكمة بعينها، وأنه حرَّمه سدًّا لذريعة ربا النَّساء، فقال في
(1)
رواه الترمذي (1159) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وحسَّنه، وصححه ابن حبان (4162) والحاكم (4/ 171). وفي الباب عن أنس ابن مالك ، وعبد الله بن أبى أوفى، ومعاذ بن جبل، وقيس بن سعد ، وعائشة بنت أبي بكر الصديق. انظر:«الإرواء» (7/ 54).
(2)
رواه البخاري (689) ومسلم (411) من حديث أنس رضي الله عنه.
(3)
رواه البخاري (2134) ومسلم (1586) من حديث عمر رضي الله عنه.
حديث تحريم ربا الفضل: «فإني أخاف عليكم الرَّمَاءَ»
(1)
، والرَّمَاء هو الربا، فتحريم الربا نوعان: نوع حُرِّم لما فيه من المفسدة وهو ربا النسيئة، ونوع حرِّم تحريمَ الوسائل وسدًّا لذرائع؛ فظهرت حكمة الشارع الحكيم وكمال شريعته الباهرة في تحريم النوعين. ويلزم من لم يعتبر الذرائع ولم يأمر بسدِّها أن يجعل تحريم ربا الفضل تعبدًا محضًا لا يُعقل معناه كما صرح بذلك كثير منهم.
الوجه الحادي والتسعون: أنه أبطل أنواعًا من النكاح الذي يتراضى به الزوجان سدًّا لذريعة الزنا؛ فمنها النكاح بلا ولي
(2)
؛ فإنه أبطله سدًّا لذريعة الزنا؛ فإن الزاني لا يَعجِز أن يقول للمرأة: «أَنكِحيني نفسَكِ بعشرة» ويُشهِد عليها رجلين من أصحابه أو غيرهم، فمنعهما من ذلك سدًّا لذريعة الزنا. ومن هذا تحريم نكاح التحليل
(3)
الذي لا رغبةَ للنفس فيه في إمساك المرأة واتخاذها زوجة، بل له وَطَرُ ما يقضيه بمنزلة الزاني في الحقيقة وإن اختلفت الصورة. [52/ب] ومن ذلك تحريم نكاح المتعة
(4)
الذي يعقد المتمتع فيه على المرأة مدة يقضي وطره منها فيها؛ فحرّم هذه الأنواع كلها سدًّا لذريعة السِّفاح، ولم يُبِح إلا عقدًا مؤبَّدًا يقصد فيه كل من الزوجين
(1)
رواه أحمد (5885) من حديث ابن عمر مرفوعًا، وفي إسناده أبو جناب يحيى بن أبي حية الكلبي متكلم فيه. وقد ورد موقوفًا عن ابن عمر عند أحمد (11006) وعن عمر عند مالك (2/ 634، 635) وابن أبي شيبة (22940).
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
رواه البخاري (4216) ومسلم (1407) من حديث علي رضي الله عنه.
المقام مع صاحبه ويكون بإذن الولي وحضور الشاهدين أو ما
(1)
يقوم مقامهما من الإعلان؛ فإذا تدبرتَ حكمة الشريعة وتأمَّلتَها حقَّ التأمُّل رأيتَ تحريم هذه الأنواع من باب سدِّ الذرائع، وهي من محاسن الشريعة وكمالها.
الوجه الثاني والتسعون: أنه منع المتصدّق من شراء صدقته ولو وجدها تُباع في السوق
(2)
، سدًّا لذريعة العود فيما خرج عنه لله ولو بعوضه؛ فإن المتصدّق إذا مُنِع من تملُّكِ صدقته بعوضها فتملُّكه إياها بغير عوض أشدُّ منعًا وأفطمُ للنفوس عن تعلقها بما خرجت عنه لله، والصواب ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم من المنع من شرائها مطلقًا، ولا ريب أن في تجويز ذلك ذريعةً إلى التحيُّل على الفقير بأن يدفع إليه صدقة ماله ثم يشتريها منه بأقل من قيمتها، ويرى المسكين أنه قد حصل له شيء ــ مع حاجته ــ فتسمح نفسه بالبيع، والله عالم بالأستار
(3)
، فمن محاسن هذه الشريعة الكاملة سدُّ الذريعة ومنع المتصدِّق من شراء صدقته، وبالله التوفيق.
الوجه الثالث والتسعون: أنه نهى عن بيع الثمار قبل بدوِّ صلاحها
(4)
، لئلا يكون ذريعةً إلى أكل مال المشتري بغير حق إذا كانت معرَّضةً للتلف، وقد يمنعها الله، وأكَّد هذا الغرض بأن حكم للمشتري بالجائحة إذا تَلِفتْ بعد الشراء الجائز، كل هذا لئلا يُظلم المشتري ويؤكل ماله بغير حق.
الوجه الرابع والتسعون: أنه نهى الرجل بعد إصابة ما قُدِّر له أن يقول: لو
(1)
ز: «وما» .
(2)
رواه البخاري (1489) ومسلم (1621) من حديث عمر رضي الله عنه.
(3)
ز: «بالاسعار» . وفي المطبوع: «بالأسرار» .
(4)
رواه البخاري (2194) ومسلم (1534) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
أني فعلتُ لكان كذا وكذا، وأخبر أن ذلك ذريعة إلى عمل الشيطان
(1)
، فإنه لا يُجدِي عليه إلا الحزن والندم وضيقة الصدر والتسخُّط على المقدور واعتقاد أنه كان يمكنه دفع المقدور لو فعل ذلك، وذلك يُضعِف رضاه وتسليمه وتفويضه وتصديقه بالمقدور وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وإذا أعرض القلب عن هذا انفتح له عمل الشيطان، وما ذاك لمجرد لفظ «لو» ، بل لِما قارنها من الأمور القائمة بقلبه المنافية لكمال الإيمان الفاتحة لعمل الشيطان، بل أرشد العبد في هذه الحال إلى ما هو أنفع له، وهو الإيمان بالقدر والتفويض والتسليم للمشيئة الإلهية وأنه ما شاء الله كان ولا بدّ؛ فمن رضي فله الرضى ومن سخِطَ فله السخط، فصلوات الله وسلامه على مَن كلامه شفاء للصدور ونور للبصائر وحياة للقلوب وغذاء للأرواح، فلقد أنعم به على عباده أتمَّ نعمة، ومنَّ عليهم به أعظم منَّة؛ فللّه النعمة وله المنّة والفضل وله الثناء الحسن.
الوجه الخامس والتسعون: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن طعام المتباريينِ
(2)
، وهما الرجلان يقصد كل منهما مباراة الآخر ومباهاته، إما في التبرعات كالرجلين [53/أ] يصنع كل منهما دعوة يفتخر بها على الآخر ويباريه بها، وإما في المعاوضات كالمتبايعين يُرخِص كلٌّ منهما سِلعته لمنع الناس من الشراء من
(1)
رواه مسلم (2664) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
رواه أبو داود (3754) والطبراني (11942) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه الحاكم (4/ 128). وقد اختلف في وصله وإرساله عن عكرمة، فذكر أبو داود عن الأكثرين الإرسال، واختاره البغوي في «شرح السنة» (9/ 144) والذهبي في «الميزان» ترجمة بقية بن الوليد (1/ 334). وانظر:«السلسلة الصحيحة» (626).
صاحبه. ونصَّ الإمام أحمد على كراهية الشراء من هؤلاء، وهذا النهي يتضمن سدَّ الذريعة من وجهين؛ أحدهما: أن تسليط النفوس على الشراء منهما وأكل طعامهما تفريح لهما وتقوية لقلوبهما وإغراء لهما على فعل ما كرهه الله ورسوله. والثاني: أن ترك الأكل من طعامهما ذريعة إلى امتناعهما وكفِّهما عن ذلك.
الوجه السادس والتسعون: أنه سبحانه عاقب الذين حفروا الحفائر يوم الجمعة فوقع فيها السمك يوم السبت فأخذوه يوم الأحد، ومسخهم قردةً وخنازير، وقيل: إنهم نصبوا الشِّباك يوم الجمعة وأخذوا الصيد يوم الأحد. وصورة الفعل الذي فعلوه مخالف لما نُهوا عنه، ولكنهم لما جعلوا الشِّباك والحفائر ذريعة إلى أخذ ما يقع فيها من الصيد يوم السبت نُزِّلوا منزلةَ من اصطاد
(1)
فيه؛ إذ صورة الفعل لا اعتبار بها، بل بحقيقته وقصد فاعله، ويلزم من لم يَسُدَّ الذرائع أن لا يحرِّم مثل هذا كما صرّحوا به في نظيره سواء، وهو لو نصب قبل الإحرام شبكةً فوقع فيها صيد وهو محرم جاز له أخذه بعد الحلّ، وهذا جارٍ على قواعد من لم يعتبر المقاصد ولم يسدَّ الذرائع.
الوجه السابع والتسعون: قال الإمام أحمد: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع السلاح في الفتنة
(2)
، ولا ريبَ أن هذا سدٌّ لذريعة الإعانة على المعصية،
(1)
د: «اصّاد» ، وكلاهما صواب.
(2)
رواه البزار (3589) والطبراني (286) والبيهقي (5/ 527) من حديث عمران مرفوعًا، وفي إسناده بحْر السَّقَّاء متكلم فيه، وبه أعله البيهقي، وقد اختلف في وقفه ورفعه، والوقف هو الأصح. انظر:«نصب الراية» (3/ 391) و «التلخيص الحبير» (3/ 42) و «الإرواء» (5/ 135).
ويلزم من لم يسدَّ الذرائع أن يجوِّز هذا البيع كما صرّحوا به، ومن المعلوم أن هذا البيع يتضمن الإعانة على الإثم والعدوان، وفي معنى هذا كل بيع أو إجارة أو معاوضة تُعِين على معصية الله تعالى، كبيع السلاح للكفار والبغاة وقُطَّاع الطريق، وبيع الرقيق لمن يفسق به أو يؤاجره لذلك، وإجارة داره أو حانوته أو خانِه لمن يقيم فيها سوق المعصية، وبيع الشمع أو إجارته لمن يعصي الله عليه، ونحو ذلك مما هو إعانة على ما يُبغضه الله ويُسخطه. ومن هذا عَصْر العنب لمن يتخذه خمرًا وقد لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو والمعتصر معًا، ويلزم مَن لم يسدَّ الذرائع أن لا يلعن العاصر، وأن يجوِّز له أن يعصر العنب لكل أحد، ويقول: القصد غير معتبر في العقد، والذرائع غير معتبرة، ونحن مطالبون بالظواهر، والله يتولَّى السرائر، وقد صرَّحوا بهذا. ولا ريبَ في التنافي بين هذا وبين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثامن والتسعون
(1)
: نهيه عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة ــ وإن ظلموا أو جاروا ــ ما أقاموا الصلاة
(2)
، سدًّا لذريعة الفساد العظيم والشر الكثير بقتالهم كما هو الواقع؛ فإنه حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم أضعافُ أضعافِ ما هم عليه، والأمة في بقايا تلك الشرور إلى الآن. وقال:«إذا بُويع لخليفتين فاقتلوا الآخِرَ منهما»
(3)
سدًّا لذريعة الفتنة.
(1)
هذا الوجه والوجه التالي ليسا في المخطوطات المعتمدة، وقد أثبتناهما من النسخ المطبوعة، ولعلهما مما أضافه المؤلف فيما بعد. ويدل على كونهما من الكتاب تصريح المؤلف الآتي بأن عدد هذه الوجوه تسعة وتسعون مثل عدد أسماء الله الحسنى.
(2)
رواه مسلم (1854) من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
(3)
رواه مسلم (1853) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
الوجه التاسع والتسعون: جمْعُ عثمان المصحف على حرف واحد من الأحرف السبعة
(1)
، لئلا يكون ذريعةً إلى اختلافهم في القرآن، ووافقه على ذلك الصحابة رضي الله عنهم.
ولنقتصر على هذا العدد من الأمثلة الموافق لأسماء الله الحسنى التي من أحصاها دخل الجنة، تفاؤلًا بأن من أحصى هذه الوجوه وعلم أنها من الدين وعمل بها دخل الجنة؛ إذ يكون قد اجتمع له معرفة أسماء الرب عز وجل ومعرفة أحكامه، ولله وراء ذلك أسماء وأحكام.
وباب سدّ الذرائع أحد أرباع التكليف؛ فإنه أمر ونهي، والأمر نوعان؛ أحدهما: مقصود لنفسه، [53/ب] والثاني: وسيلة إلى المقصود، والنهي نوعان؛ أحدهما: ما يكون المنهيُّ عنه مفسدةً في نفسه، والثاني: ما يكون وسيلة إلى المفسدة؛ فصار سدُّ الذرائع المفضية إلى المحرَّم أحد أرباع الدين.
* * * *
(1)
رواه البخاري (4984) من حديث أنس رضي الله عنه.