الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
وأما الحيل التي هي من الكبائر: فمثل قتل امرأته إذا قتل حماته وله من امرأته ولد، والصواب أن هذه الحيلة لا تُسقِط عنه القَوَد، وقولهم:«إنه ورث ابنه بعضَ دم أبيه فسقط عنه القَوَد» ممنوع؛ فإن القود وجب عليه
(1)
أولًا بقتل أم المرأة، وكان لها أن تستوفيه ولها أن تُسقطه، فلما قتلها قام وليها في هذه الحال مقامها بالنسبة إليها وبالنسبة إلى أمها، ولو كان ابنَ القاتل؛ فإنه لم يدل كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا ميزان عادل على أن الولد لا يستوفي القصاص من والده لغيره. وغاية ما دلَّ عليه الحديث أنه لا يُقاد الوالد بولده
(2)
، على ما فيه من الضعف وفي حكمه من النزاع، ولم يدلَّ على أنه لا يقاد بالأجنبي إذا كان الولد هو مستحق القود، والفرق بينهما ظاهر؛ فإنه في مسألة المنع قد أُقِيد بابنه، وفي هذه الصورة إنما أُقِيد بالأجنبي، وكيف تأتي شريعة أو سياسة عادلة بوجوب القود على من قتل نفسًا بغير حق فإن عاد فقتل نفسًا أخرى بغير حق وتضاعفَ إثمه وجرمه سقط عنه القود؟ بل لو قيل بتحتُّمِ قتله ولا بدَّ إذا قصد هذا كان أقرب إلى العقول والقياس.
و
من الحيل المحرَّمة التي يكفر من أفتى بها
تمكين
(3)
المرأة ابنَ زوجها من نفسها لينفسخ نكاحها حيث صارت موطوءةَ ابنِه، وكذا بالعكس، أو وَطْأَه حماته لينفسخ نكاح امرأته، مع أن هذه الحيلة لا تتمشى إلا على قول من يرى أن حرمة المصاهرة تثبت بالزنا كما تثبت بالنكاح، كما يقوله أبو حنيفة وأحمد
(1)
«عليه» ليست في د.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
في النسختين: «تمكن» . والمثبت من النسخ المطبوعة.
في المشهور من مذهبه. والقول الراجح أن ذلك لا يحرم كما هو قول الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد ومالك؛ فإن التحريم بذلك موقوف على الدليل، ولا دليلَ من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح، وقياسُ السِّفاح على النكاح في ذلك لا يصح لما بينهما من الفروق. والله سبحانه جعل الصِّهر قسيم النسب، وجعل ذلك من نعمه التي امتنَّ بها على عباده، فكلاهما من نعمه وإحسانه؛ فلا يكون الصهر من آثار الحرام وموجباته كما لا يكون النسب من آثاره، بل إذا كان النسب الذي هو أصل لا يحصل بوطء [82/أ] الحرام فالصهر الذي هو فرع عليه ومُشبَّه به أولى أن لا يحصل بوطء الحرام.
وأيضًا فإنه لو ثبت تحريم المصاهرة لا تثبت المَحْرَمية التي هي من أحكامه، فإذا لم تثبت المَحْرَمية لم تثبت الحرمة.
وأيضًا فإن الله سبحانه إنما قال: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ} [النساء: 23]، ومن زنى بها الابن لا تسمَّى حليلةً لغةً ولا شرعًا ولا عرفًا. وكذلك قوله:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] إنما المراد به النكاح الذي هو ضد السِّفاح، ولم يأتِ في القرآن النكاح المراد به الزنا قطُّ، ولا الوطء المجرد عن عقد.
وقد تناظر الشافعي هو وبعض العراقيين في هذه المسألة، ونحن نذكر مناظرته بلفظها.
قال الشافعي
(1)
: الزنا لا يحرِّم الحلال، وقال به ابن عباس
(2)
.
(1)
انظر: «الأم» (8/ 70، 6/ 398 وما بعدها) بنحوه.
(2)
رواه عبد الرزاق (12769) وسعيد بن منصور (1/ 440) وابن أبي شيبة (16606) والبيهقي (7/ 273) من طرق عن ابن عباس.
قال الشافعي: لأن الحرام ضد الحلال، ولا يقاس شيء على ضده. فقال لي قائل: نقول لو قبَّلَتْ امرأةُ الرجلِ ابنَه لشهوة حرمت على زوجها أبدًا، فقلتُ: لِمَ قلتَ ذا والله عز وجل إنما حرَّم أمهاتِ نسائكم ونحو هذا بالنكاح، فلم يجز أن يقاس الحرام بالحلال؟ فقال: أجد جماعًا وجماعًا. قلت: جماعًا حُمِدتْ به وحُصِّنت وجماعًا رُجِمتْ به، أحدهما نقمة والآخر نعمة، وجعله الله سبحانه نسبًا وصِهْرًا وأوجب به حقوقًا، وجعلك مَحْرَمًا لامرأتك وابنتها تسافر بهما، وجعل على الزنا نقمة في الدنيا بالحد وفي الآخرة بالنار، إلا أن يعفو الله، فتقيس الحرام الذي هو نقمة على الحلال الذي هو نعمة؟ وقلت له
(1)
: فلو قال لك وجدتُ المطلقة ثلاثًا تَحِلُّ بجماع زوج وإصابةٍ
(2)
، فأُحِلُّها بالزنا لأنه جماع كجماع، قال: إذًا أُخطِئ؛ لأن الله تعالى أحلها بنكاح زوج وإصابةٍ
(3)
. قلت: وكذلك ما حرَّم الله في كتابه بنكاح زوج وإصابة زوج. قال: أفيكون شيء يحرِّمه الحلال ولا يحرِّمه الحرام أقول به؟ قلت: نعم، ينكح أربعًا فيحرم عليه أن ينكح من النساء خامسة، أفيحرم عليه إذا زنى بأربعٍ شيءٌ من النساء؟ قال: لا يمنعه الحرام مما يمنعه الحلال، قال: فقد ترتدُّ فتحرم على زوجها، قلت: نعم، وعلى جميع الخلق، وأقتلُها وأجعل مالها فيئًا، قال: فقد نجد الحرام يحرم الحلال، قلت: أما في مثل ما اختلفنا فيه من أمر النساء فلا. انتهى.
(1)
«له» ليست في د.
(2)
«وإصابة» ليست في ز.
(3)
«وإصابة» ليست في د.
ومما يدل على صحة هذا القول أن أحكام النكاح التي رتبها الله سبحانه عليه من العدّة والإحداد والميراث، والحلّ والحرمة، ولحوق النسب، ووجوب النفقة والمهر، وصحة الخلع والطلاق والظهار والإيلاء، والقصر على أربع، ووجوب القَسْم والعدل بين الزوجات، وملك الرجعة، وثبوت الإحصان والإحلال للزوج الأول، وغير ذلك من الأحكام
(1)
= لا يتعلق شيء منها بالزنا، وإن اختلف في العدة والمهر.
والصواب أنه لا مهرَ لبغيٍّ كما دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
، وكما فطر الله سبحانه عقول الناس على استقباحه، فكيف يثبت تحريم المصاهرة من بين هذه الأحكام؟ والمقصود أن هذه الحيلة باطلة شرعًا كما هي محرَّمة في الدين.
وكذلك الحيلة على إسقاط حدّ السرقة بقول السارق: هذا مِلْكي، وهذه داري، وصاحبها عبدي، من الحيل التي هي إلى المَضْحكة [82/ب] والسخرية والاستهزاء بها أقرب منها إلى الشرع، ونحن نقول: معاذَ الله أن يجعل في فِطَر الناس وعقولهم قبولَ مثل هذا الهذيان البارد المناقض للعقول والمصالح، فضلًا عن أن يَشرع لهم قبوله، وكيف يُظنّ بالله وشرعِه ظن السوء أنه شرع ردّ الحق بالباطل الذي يقطع كل أحد ببطلانه، وبالبهتان الذي يجزم كل حاضر ببهتانه. ومتى كان البهتان والوقاحة والمجاهرة بالزور والكذب مقبولًا في دين من الأديان أو شريعة من الشرائع أو سياسة
(1)
ز: «أحكام» .
(2)
كما في حديث أبي مسعود الأنصاري الذي أخرجه البخاري (2282) ومسلم (1567).
أحد من الناس؟ ومن له مُسْكةٌ من عقلٍ وإن بُلِي بالسرقة فإنه لا يرضى لنفسه بدعوى هذا البهت والزور، ويا لله وللعقول! أيعجِزُ سارق قطُّ عن التكلم بهذا البهتان ويتخلّص من قطع اليد؟ فما معنى شَرْعِ قطع يد السارق ثم إسقاطه بهذا الزور والبهتان؟
وكذلك إذا غصَبَه
(1)
شيئًا فادّعاه المغصوبُ منه، فأنكر، فطلب تحليفه، قالوا: فالحيلة في إسقاط اليمين عنه أن يُقِرَّ به لولده الصغير فتسقط عنه اليمين ويفوز بالمغصوب. وهذه حيلة باطلة في الشرع كما هي محرمة في الدين، بل المُقَرُّ له إن كان كبيرًا صار هو الخصم في ذلك، وتوجهتْ عليه اليمين، وإن كان صغيرًا توجهت اليمين على المدعى عليه، فإن نكلَ قُضِي به للمدعي، وغُرم قيمته لمن أقرَّ له به؛ لأنه بنكوله قد فوَّته عليه.
وكذلك إذا جرح رجلًا، فخشي أن يموت من الجرح، فدفع إليه دواء مسمومًا فقتله، قال أرباب الحيل: يسقط عنه القصاص. وهذا خطأ عظيم، بل يجب عليه القصاص بقتله بالسُّم، كما يجب عليه بقتله بالسيف، ولو أسقط الشارع القتلَ عمن قتل بالسم لما عَجزَ قاتلٌ عن قتل من يريد قتله به آمنًا؛ إذ قد علم أنه لا يجب عليه القَوَد، وفي هذا من فساد العالم ما لا تأتي به شريعة.
وكذلك إذا أراد إخراج زوجته من الميراث في مرضه، وخاف أن الحاكم يُورِّث المبتوتةَ، قالوا: فالحيلة أن يُقِرَّ أنه كان طلَّقها ثلاثًا. وهذه حيلة محرمة باطلة لا يحل تعليمها، ويفسق من علَّمها المريضَ، ويستحق
(1)
كذا في النسختين، وهو صواب. يقال: غَصَبَه مالَه وغَصبَ منه مالَه. وفي المطبوع: «غصب» .
عقوبة الله، ومع ذلك فلا تنفذ، فإنه كما هو متَّهم بطلاقها فهو متَّهم بالإقرار بتقدم الطلاق على المرض، وإذا كان الطلاق لا يمنع الميراث بالتهمة فالإقرار لا يمنعه للتهمة، ولا فرقَ بينهما؛ فالحيلة باطلة محرمة.
وكذلك إذا كان في يده نصاب فباعه أو وهَبَه قبل الحول، ثم استردَّه، قال أرباب الحيل: تسقط عنه الزكاة، بل لو ادعى ذلك لم يأخذ العامل زكاته. وهذه حيلة محرمة باطلة، ولا يُسقِط ذلك عنه فرضَ الله الذي فرضه وأوعد بالعقوبة الشديدة من ضيَّعه وأهملَه، فلو جاز إبطاله بالحيلة التي هي مكر وخداع لم يكن في إيجابه والوعيد على تركه فائدة. وقد استقرت سنة الله في خلقه شرعًا وقدرًا على معاقبة العبد بنقيض قصده، كما حَرَمَ القاتلَ الميراثَ، وورَّثَ المطلقةَ في مرض الموت، وكذلك الفارّ من الزكاة لا يُسقِطها عنه فراره، ولا [83/أ] يُعان على قصده الباطل فيتمّ مقصوده ويسقط مقصود الرب سبحانه، وكذلك عامة الحيل إنما يساعد فيها المتحيل على بلوغ غرضه ويبطل غرض الشارع.
وكذلك المجامع في نهار رمضان إذا تغدَّى أو شرب الخمر أولًا ثم جامع، قالوا: لا تجب عليه الكفارة. وهذا ليس بصحيح؛ فإن إضمامه إلى إثم الجماع إثمَ الأكل والشرب لا يناسب التخفيف عنه، بل يناسب تغليظ الكفارة عليه، ولو كان هذا يُسقط الكفارة لم تجب الكفارة
(1)
على واطئ اهتدى لجرعة
(2)
ماء أو ابتلاع لُبابةٍ أو أكل زبيبة. فسبحان الله! هل أوجب الشارع الكفارة لكون الوطء لم يتقدمه مفطر قبله أو للجناية على زمن الصوم
(1)
ز: «كفارة» .
(2)
ز: «بجرعة» .
الذي لم يجعله الله محلًّا للوطء؟ أفترى بالأكل والشرب قبله صار الزمان محلًّا للوطء وانقلبت كراهة الشارع له
(1)
محبةً ومنعُه إذنًا؟ هذا من المحال.
وأفسدُ من هذا قولهم: إن الحيلة في إسقاط الكفارة أن ينوي قبل الجماع قطع الصوم، فإذا أتى بهذه النية فليجامع آمنًا من وجوب الكفارة. ولازمُ هذا القول الباطل أنه لا تجب كفارة على مجامعٍ أبدًا، وإبطال هذه الشريعة رأسًا؛ فإن المجامع لا بدَّ أن يعزِمَ على الجماع قبل فعله، وإذا عزم على الجماع فقد تضمَّنت نيته قطعَ الصوم، فأفطر قبل الفعل بالنية الجازمة للإفطار، فصادفه الجماع وهو مفطر بنية الإفطار السابقة على الفعل، فلم يفطر به، فلا تجب الكفارة، فتأملْ كيف تتضمن الحيل المحرمة مناقضةَ الدين وإبطال الشرائع؟
وكذلك قالوا: لو أن مُحرِمًا خاف الفوت وخشي القضاء من قابلٍ فالحيلة في إسقاط القضاء أن يكفُر بالله ورسوله في حال إحرامه فيبطل إحرامه، فإذا عاد إلى الإسلام لم يلزمه القضاء من قابلٍ، بناء على أن المرتد كالكافر الأصلي، فقد أسلم إسلامًا مستأنفًا لا يجب عليه فيه قضاء ما مضى. ومن له مُسْكةٌ من علم ودين يعلم أن هذه الحيلة مناقضة لدين الإسلام أشدَّ مناقضة، فهو في شِقٍّ والإسلام في شِقٍّ.
وكذلك لو وكَّل رجلًا في استيفاء حقه فرفعه إلى الحاكم فأراد أن يحلِّفه بالطلاق أنه لا حقَّ لوكيله قِبَله، فالحيلة في حلفه صادقًا أن يُحضِر
(1)
«له» ليست في د.
الموكّل إلى منزله ويدفع إليه حقه ثم يغلق عليه الباب ويمضي مع الوكيل، فإذا حلف أنه لا حقَّ لوكيله قِبَله حلف صادقًا، فإذا رجع إلى البيت فشأنه وشأن صاحب الحق.
وهذه شرٌّ من حيلة اليهود أصحاب الحيتان، وهذه وأمثالها إنما هي من حيل اللصوص وقُطَّاع الطريق، فما لدين الله ورسوله وإدخالها فيه؟ ولا يُجدِي عليه هذا الفعل في برِّه في اليمين شيئًا، بل هو حانثٌ كلَّ الحنث؛ إذ لم يتمكَّن صاحب الحق من الظفر بحقه، فهو في ذمة الحالف كما هو، وإنما يبرأ منه إذا تمكَّن صاحبه من قبضه وعدَّ نفسَه مستوفيًا لحقه.
وكذلك لو كان له عُروضٌ
(1)
للتجارة فأراد أن يُسقِط زكاتها، قالوا: فالحيلة أن ينوي بها القُنيةَ
(2)
في آخر الحول يومًا أو أقلَّ، ثم ينقض هذه النية ويُعيدها
(3)
للتجارة، فيستأنف [83/ب] بها حولًا، ثم يفعل هكذا في آخر كل حولٍ، فلا تجب عليه زكاتها أبدًا.
فيا لله العجب! أيروج هذا الخداع والمكر والتلبيس على أحكم الحاكمين الذي يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور؟ ثم إن هذه الحيلة كما هي مخادعة لله، ومكرٌ بدين الإسلام، فهي باطلة في نفسها، فإنها إنما تصير للقُنية إذا لم يكن من نيته إعادتها للتجارة، فأما وهو يعلم أنه لا يقتنيها البتةَ ولا له حاجة باقتنائها، وإنما أعدَّها للتجارة، فكيف تُتصوَّر منه النية الجازمة للقُنية وهو يعلم قطعًا أنه لا يقتنيها ولا يريد اقتناءها، وإنما هو مجرد
(1)
ز: «عرض» .
(2)
أي اتخاذها لنفسه لا للتجارة.
(3)
ز: «يعتدها» .
حديث نفسٍ وخاطرٍ أجراه على قلبه، بمنزلة أن يقول بلسانه:«أعددتُها للقنية» وليس ذلك في قلبه؟ أفلا يستحيي من الله من يُسقِط فرائضه بهذا الهوس وحديث النفس؟
وأعجب من هذا أنه لو كان عنده عينٌ من الذهب والفضة فأراد إسقاط زكاتها في جميع عمره، فالحيلة أن يدفعها إلى محتالٍ مثله أو غيره في آخر الحول ويأخذ منه نظيرها فيستأنف له الحول، ثم في آخره يعود فيستبدل بها مثلها، فإذا هو فعل ذلك لم تجب عليه زكاته ما عاش. وأعظم من هذه البلية إضافة هذا المكر والخداع إلى الرسول، وأن هذا من الدين الذي جاء به.
ومثل هذا وأمثاله منع كثيرًا من أهل الكتاب من الدخول في الإسلام، وقالوا: كيف يأتي رسول بمثل هذه الحيل؟ وأساؤوا ظنَّهم به وبدينه، وتواصَوا بالتمسك بما هم عليه، وظنوا أن هذا هو الشرع الذي جاء به، وقالوا: كيف تأتي بهذا شريعة أو تقوم به مصلحة أو يكون من عند الله؟ ولو أن ملِكًا من الملوك ساس رعيته بهذه السياسة لقدح ذلك في ملكه. قالوا: وكيف يشرع الحكيم الشيء لما في شرعه من المصلحة ويحرِّمه لما في فعله من المفسدة ثم يبيح إبطال ذلك بأدنى حيلة تكون؟ وترى الواحد منهم إذا ناظره المسلم في صحة دين الإسلام إنما يحتج عليه بهذه الحيل، كما هو في كتبهم وكما نسمعه من لفظهم عند المناظرة، فالله المستعان.
وكذلك قالوا: لو كان له نصاب من السائمة فأراد إسقاط زكاتها، فالحيلة في ذلك أن يَعلِفها يومًا واحدًا ثم يعود إلى السَّوم، وكذلك يفعل في كل حولٍ. وهذه الحيلة باطلة لا تُسقِط عنه وجوبَ الزكاة، بل وكذلك كل حيلة يتحيل بها على إسقاط فرض من فرائض الله أو حق من حقوق عباده لا
يزيد ذلك الفرض إلا تأكيدًا وذلك الحق إلا إثباتًا
(1)
.
وكذلك قالوا: إذا علم أن شاهدين يشهدان عليه فأراد أن يبطل شهادتهما، فليخاصمهما قبل الرفع إلى الحاكم. وهذه الحيلة حسنة إذا كانا يشهدان عليه بالباطل، فإذا علم أنهما يشهدان بحق لم تحلَّ له مخاصمتهما، ولا تُسقط هذه المخاصمة شهادتَهما.
وكذلك قالوا: لا يجوز ضمان البساتين، والحيلة على ذلك أن يُؤجِره الأرضَ ويساقيه على الثمر من كل ألف جزء على جزء. وهذه [84/أ] الحيلة لا تتمُّ إذا كان البستان وقفًا وهو ناظره أو كان ليتيم، فإن هذه المحاباة في المساقاة تقدح في نظره ووصيته. وإن قيل: إنها تُغتفر لأجل العقد الآخر وما فيه من محاباة
(2)
المستأجر له، فهذا لا يجوِّز له أن يحابي في المساقاة، لما حصل للوقف واليتيم من محاباة أخرى. وهو نظير أن يبيع له سلعة بربح ثم يشتري له سلعة بخسارة توازن ذلك الربح، هذا إذا لم يُبْنَ
(3)
أحد العقدين على الآخر، فإن بُني عليه كانا عقدين في عقد، وكانا بمنزلة سَلَفٍ وبيع، وشرطين في بيع، وإن شرط أحد العقدين في الآخر فسدَا، مع أن هذه الحيلة لا تتم إلا
(4)
على أصل من لم ير جواز المساقاة أو من خصَّها بالتحيل وحده.
ثم فيها مفسدة أخرى، وهي أن المساقاة عقد جائز، فمتى أراد أحدهما
(1)
ز: «ثباتًا» .
(2)
في النسختين: «المحاباة» . والمثبت يقتضيه السياق.
(3)
في النسختين: «لم يبنى» .
(4)
«إلّا» ليست في د.
فسْخَها فسَخَها وتضرر الآخر، ومفسدة ثانية وهو أنه يجب عليه تسليم هذا الجزء من ألف جزء من جميع ثمرة البستان من كل نوع من أنواعه، وقد يتعذّر عليه ذلك أو يتعسّر، إما بأن يأكل الثمرة أو يُهديها كلَّها أو يبيعها على أصولها، فلا يمكنه تسليم ذلك الجزء، وهكذا يقع سواء. ثم قد يكون ذلك الجزء من الألف
(1)
يسيرًا جدًّا، فلا يطالب به عادة، فيبقى في ذمته لليتيم ولجهة الوقف. إلى غير ذلك من المفاسد التي في هذه الحيلة.
وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أفقهَ من ذلك، وأعمق علمًا، وأقلَّ تكلفًا، وأبرَّ قلوبًا، فكانوا يرون ضمان الحدائق بدون هذه الحيلة، كما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه بحديقة أُسَيد بن حُضَير
(2)
، ووافقه عليه جميع الصحابة، فلم ينكره منهم رجل واحد. وضمان البساتين كما هو إجماع الصحابة فهو مقتضى القياس الصحيح، كما تضمن الأرض لمُغَلّ الزرع فكذلك تضمن الشجر لمُغَلّ الثمر، ولا فرقَ بينهما البتةَ؛ إذ الأصل هنا كالأرض هناك، والمُغَلّ يحصل بخدمة المستأجر والقيام على الشجر كما يحصل بخدمته والقيام على الأرض. ولو استأجر أرضًا ليحرُثَها ويسقيها ويستغلَّ ما يُنبته الله سبحانه فيها من غير بذر منه كان بمنزلة استئجار الشجر من كل وجه، لا فرقَ بينهما البتةَ، فهذا أفقه من هذه الحيلة، وأبعد عن الفساد، وأصلح للناس، وأوفق للقياس، وهو اختيار أبي الوفاء ابن عقيل وشيخ الإسلام ابن تيمية
(3)
رضي الله عنهما، وهو الصواب.
(1)
ز: «ألف» .
(2)
رواه ابن أبي شيبة (23723).
(3)
انظر: «مجموع الفتاوى» (30/ 151، 283).
فصل
(1)
ومن هذا الباب الحيلة السُّريجية
(2)
التي حدثت في الإسلام بعد المائة الثالثة، وهي تمنع الرجل من القدرة على الطلاق البتة، بل تسدُّ عليه باب الطلاق بكل وجه، فلا يبقى له سبيل إلى التخلُّص منها، ولا يمكنه مخالعتُها عند من يجعل الخلع طلاقًا، وهي نظير سدِّ الإنسان على نفسه بابَ النكاح بقوله: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، فهذا لو صح تعليقه لم يمكنه في الإسلام أن يتزوج امرأةً ما عاش، وذلك لو صح شرعه لم يمكنه أن يطلق امرأة أبدًا.
وصورة هذه الحيلة أن يقول: كلّما طلقتُك ــ أو كلما وقع عليك طلاقي ــ فأنتِ طالق قبله ثلاثًا، قالوا:[84/ب] فلا يتصور وقوع الطلاق بعد ذلك؛ إذ
(3)
لو وقع لزم وقوع ما عُلِّق به وهو الثلاث، وإذا وقعت الثلاث امتنع وقوع هذا المنجَّز، فوقوعه يفضي إلى عدم وقوعه، وما أفضى وجوده إلى عدم وجوده لم يوجد. هذا اختيار أبي العباس ابن سُرَيج، ووافقه عليه جماعة من أصحاب الشافعي، وأبى ذلك جمهور الفقهاء من المالكية والحنفية والحنبلية وكثير من الشافعية. ثم اختلفوا في وجه إبطال هذا التعليق:
فقال الأكثرون: هذا التعليق لغو وباطل من القول؛ فإنه يتضمن المحال، وهو وقوع طلقة مسبوقة بثلاث، وهذا محال، فما
(4)
تضمَّنه فهو باطل من
(1)
من هنا بداية نسخة ك.
(2)
ك: «الشرعية» ، تحريف.
(3)
ك: «إذا» ، خطأ.
(4)
ك: «فيما» ، خطأ.
القول، فهو بمنزلة قوله: إذا وقع
(1)
عليك طلاقي لم يقع، وإذا طلَّقتك لم يقع عليك طلاقي، ونحو هذا من الكلام الباطل، بل قوله:«إذا وقع عليك طلاقي فأنتِ طالق قبله ثلاثًا» أدخَلُ في الإحالة والتناقض؛ فإنه في الكلام الأول جعل وقوع الطلاق مانعًا من وقوعه مع قيام الطلاق، وهنا جعل وقوعه مانعًا من وقوعه مع زيادة محالٍ عقلًا وعادةً، فالمتكلم به يتكلم بالمحال قاصدًا
(2)
للمحال، فوجود هذا التعليق وعدمه سواء، فإذا طلَّقها بعد ذلك نفذ طلاقه ولم يمنع منه مانع. وهذا اختيار أبي الوفاء
(3)
ابن عقيل وغيره من أصحاب أحمد وأبي العباس ابن القاصّ من أصحاب الشافعي.
وقالت فرقة أخرى: بل المحال إنما جاء من تعليق الثلاث على المنجَّز، وهذا محال أن يقع المنجَّز ويقع جميع ما عُلِّق به؛ فالصواب أن يقع المنجَّز وتمام الثلاث من المعلّق، وهذا اختيار القاضي وأبي بكر وبعض الشافعية ومذهب أبي حنيفة. والذين منعوا وقوع الطلاق جملةً قالوا: هو ظاهر كلام الشافعي، فهذا تلخيص الأقوال في هذا التعليق.
قال المصححون للتعليق: صدر من هذا الزوج طلاقان منجَّز ومعلَّق، والمحلُّ قابل، وهو ممن يملك التنجيز والتعليق
(4)
، والجمع بينهما ممتنع، ولا مزيةَ لأحدهما على الآخر، فتمانعا وتساقطا، وبقيت الزوجية بحالها، وصار كما لو تزوج أختين في عقد واحد فإنه يبطل نكاحهما لهذا الدليل بعينه.
(1)
«إذا وقع» ساقطة من ك.
(2)
ز: «قاصد» .
(3)
«أبي الوفاء» ساقطة من ك.
(4)
«والتعليق» ساقطة من ك.
وكذلك إذا أعتق أمته في مرض موته، وزوجُها عبد، ولم يدخل بها، وقيمتها مائة، ومهرها مائة، وباقي التركة مائة= لم يثبت لها الخيار؛ لأن إثبات الخيار يقتضي سقوط المهر، وسقوط المهر يقتضي نفي الخيار، والجمع بينهما لا يمكن، وليس أحدهما أولى من الآخر، لأن طريق ثبوتهما الشرع، فأبقينا النكاح ورفضنا الخيار ولم يسقط المهر، وكل ما أفضى
(1)
وقوعه إلى عدم وقوعه فهذه سبيله.
ومثاله في الحس إذا تشاحَّ اثنان في دخول دار، وهما سواء في القوة، وليس لأحدهما على الآخر مزيةٌ توجب تقديمه؛ فإنهما يتمانعان فلا يدخل واحد منهما. وهذا مشتقٌّ من دليل التمانع على التوحيد، وهو أنه يستحيل أن يكون للعالم فاعلان مستقلان بالفعل؛ فإن استقلال كل منهما ينفي استقلال الآخر، فاستقلالهما يمنع استقلالهما، ووِزانُه في هذه المسألة أن [85/أ] وقوعهما يمنع وقوعهما.
قالوا: وغاية ما في الباب استلزام
(2)
هذا التعليق لدور حكمي يمنع وقوع المعلَّق والمنجَّز، ونحن نريكم من مسائل
(3)
الدور التي يُفضي وقوعها إلى عدم وقوعها كثيرًا: منها
(4)
ما ذكرناه.
ومنها: ما لو وُجِد من أحدهما ريحٌ، وشكَّ كل واحد منهما هل هي منه أو من صاحبه= لم يجز اقتداء أحدهما بالآخر؛ لأن اقتداءه به يُبطل اقتداءه.
(1)
ك: «اقتضى» ، خطأ.
(2)
ك: «استلزم» .
(3)
ك: «المسائل» .
(4)
ك: «فمنها» .
وكذلك لو كان معهما إناآن أحدهما نجس، فأدَّى اجتهاد كل منهما إلى إناء= لم تجز القدوة بينهما؛ لأنها تُفضي إلى إبطال القدوة. وكذلك إذا اجتهدا في الثوبين والمكانين.
ومنها: لو زوَّج عبدَه حرة وضمِن السيد مهرها ثم باعَها زوجَها قبل الدخول فمَهَرها
(1)
= فالبيع باطل؛ لأن صحته تؤدّي إلى فساده، إذ لو صح لبطل النكاح؛ لأنها إذا ملكت زوجَها بطل نكاحها، وإذا بطل سقط مهرها؛ لأن الفرقة من جهتها، وإذا سقط مهرها ــ وهو الثمن ــ بطل البيع والعتق البتةَ، بل إما أن يصح البيع ولا يقع العتق إذ لو وقع العتق لبطل البيع، وإذا بطل بطل العتق؛ فوقوعه يؤدِّي إلى عدم وقوعه، وهذا قول المزني. وقال ابن سُريج: لا يصح بيعه؛ لأنه لو صح لوقع العتق قبله، ووقوع العتق قبله يمنع صحة البيع، فصحة البيع تمنع صحته.
وكذلك لو قال له: «إذا رهنتُك فأنت حرٌّ قبله بساعة» .
وكذلك لو قال لعبيده ولا مال له سواهم وقد أفلس: «إن حجَرَ الحاكم عليَّ فأنتم أحرار قبل الحجرِ بيوم» لم يصح الحجر؛ لأن صحته تمنع صحته.
ومثله لو قال لعبده: «متى صالحتُ عليك فأنت حرٌّ قبل الصلح» ، ومثله لو قال لامرأته:«إن صالحتُ فلانًا وأنتِ امرأتي فأنتِ طالق قبله بساعة» لم يصح الصلح؛ لأن صحته تمنع صحته.
(1)
كذا في النسختين ز، د، وهو صواب، والمعنى: باع السيدُ الزوجَ (العبد) للحرة قبل الدخول وأعطاها مهرَها. وفي هامش د: «بمهرها» . وفي المطبوع: «بها» .
ومثله لو قال لعبده: «متى ضمِنتُ عنك صداقَ امرأتك فأنت حرٌّ قبله إن كنت في حال الضمان مملوكي» ثم ضمِنَ عنه الصداق= لم يصح؛ لأنه لو صح لعتق
(1)
قبله، وإذا عتق قبله لم يصادف الضمان شرطه، وهو كونه مملوكه وقت الضمان. وكذلك لا يقع العتق؛ لأن وقوعه يؤدِّي إلى أن لا يصح الضمان عنه، وإذا لم يصح الضمان عنه
(2)
لم يصح العتق، فكلٌّ من الضمان والعتق تؤدّي صحته إلى بطلانه؛ فلا يصح واحد منهما.
ومثله ما لو قال: «إن شاركني في هذا العبد شريكٌ فهو حرٌّ قبلَه بساعة» لم تصح الشركة فيه بعد ذلك؛ لأنها لو صحت لعتق العبد وبطلت الشركة، فصحتها تُفضي إلى بطلانها.
ومثله لو قال: «إن وكَّلتُ إنسانًا ببيع هذا العبد أو رَهْنه أو هبته وكالة صحيحة فهو قبلها بساعةٍ حرٌّ» لم تصح الوكالة؛ لأن صحتها تؤدي إلى بطلانها.
ومثله لو قال لامرأته: «إن وكَّلتُ وكيلًا في طلاقك فأنتِ طالق قبله أو معه
(3)
ثلاثًا» لم يصح توكيله في طلاقها؛ إذ لو صحت الوكالة لطلِّقت في حال الوكالة أو قبلها، فتبطل الوكالة، فصحتها تؤدّي إلى بطلانها.
وكذلك لو خلَّف الميت ابنًا، فأقرّ بابنٍ آخر للميت، فقال المُقَرُّ به:«أنا ابنه، وأما أنت فلستَ بابنه» لم يُقبل إنكار المقر به؛ لأن قبول قوله يبطل قوله،
(1)
ك: «العتق» ، خطأ.
(2)
«عنه» ساقطة من ك.
(3)
ك: «ومعه» .
ومن هاهنا قال الشافعي: لو ترك أخًا لأب وأم فأقر [85/ب] الأخ بابنٍ للميت ثبت نسبه ولم يرث؛ لأنه لو ورث لخرج المقرُّ عن أن يكون وارثًا، وإذا لم يكن وارثًا لم يُقبل إقراره بوارث آخر، فتوريث الابن يُفضي إلى عدم توريثه.
ونازعه الجمهور في ذلك، وقالوا: إذا ثبت نسبه ترتّب عليه أحكام النسب، ومنها الميراث، ولا يُفضي توريثه إلى عدم توريثه؛ لأنه بمجرد الإقرار ثبت النسب وترتَّب عليه الميراث، والأخ كان وارثًا في الظاهر، فحين أقرَّ كان هو كل الورثة، وإنما خرج عن الميراث بعد الإقرار وثبوت النسب؛ فلم يكن توريث الابن مُبطِلًا
(1)
لكون المقرّ وارثًا حين الإقرار، وإن بطل كونه وارثًا بعد الإقرار وثبوت النسب. وأيضًا فالميراث تابع لثبوت النسب، والتابع أضعف من المتبوع، فإذا ثبت المتبوع الأقوى فالتابع أولى. ألا ترى أن النساء تُقبل شهادتهن منفرداتٍ في الولادة ثم في النسب، ونظائر ذلك كثيرة.
ومن المسائل التي يُفضي ثبوتُها إلى إبطالها: لو أعتقت المرأة في مرضها عبدًا فتزوجها، وقيمته تخرج من الثلث، صحَّ النكاح ولا ميراث له؛ إذ لو ورثها لبطل تبرُّعها له بالعتق؛ لأنه يكون تبرعًا لوارث، وإذا بطل العتق بطل النكاح، وإذا بطل بطل الميراث، وكان توريثه يؤدّي إلى إبطال توريثه. وهذا على
(2)
أصل الشافعي.
وأما على قول الجمهور فلا يبطل ميراثه ولا عتقه ولا نكاحه؛ لأنه حينَ العتق لم يكن وارثًا، فالتبرع نزل في غير وارث، والعتق المنجَّز يتنجَّز من
(1)
ك: «مبطلة» .
(2)
ك: «وعلى هذا» .
حينه، ثم صار وارثًا بعد ثبوت عتقه، وذلك لا يضره شيئًا.
ومن ذلك لو أوصى له بابنه، فمات قبل قبول الوصية، وخلَّف إخوة لأبيه
(1)
، فقبلوا الوصية، عَتَقَ على الموصى له ولم يصح ميراثه منه؛ إذ لو ورث لأسقط ميراث الإخوة، وإذا سقط ميراثهم بطل قبولهم للوصية، فيبطل عتقه، لأنه مرتّب على القبول، وكان توريثه مُفضِيًا إلى عدم توريثه.
والصواب قول الجمهور أنه يرث، ولا دورَ؛ لأن العتق حصل حال القبول وهم ورثة، ثم ترتَّب على العتق تابِعُه وهو الميراث، وذلك بعد القبول، فلم يكن الميراث مع القبول ليلزم الدور، وإنما ترتَّب على القبول العتق وعلى العتق الميراث؛ فهو مترتّب عليه بدرجتين.
ومن المسائل التي يُفضي ثبوتها إلى بطلانها: لو زوَّج عبدَه امرأةً وجعل رقبته صداقها لم يصح؛ إذ لو صح لملكَتْه وانفسخ النكاح.
ومنها: لو قال لأمته: «متى أكرهتُكِ فأنتِ حرَّة حالَ النكاح
(2)
أو قبله» فأكرهها على النكاح لم يصح؛ إذ لو صح النكاح عتقت، ولو عتقت بطل إكراهها، فيبطل نكاحها.
ومنها: لو قال لامرأته قبل الدخول: «متى استقرَّ مهرك عليَّ فأنتِ طالق قبله ثلاثًا» ثم وطئها لم يستقرَّ مهرها بالوطء؛ لأنه لو استقر لبطل النكاح قبله، ولو بطل النكاح قبله لكان المستقرُّ نصف المهر لا جميعه؛ فاستقراره يؤدّي إلى بطلان استقراره. هذا على قول ابن سُرَيج، وأما على قول المزني
فإنه يستقر المهر بالوطء، ولا يقع الطلاق؛ لأنه معلَّق على صفة تقتضي [86/أ] حكمًا مستحيلًا.
فصل
ومن المسائل التي يؤدِّي ثبوتها إلى نفيها: لو
(1)
قال لامرأته: «إن لم أطلِّقك اليوم فأنتِ طالق اليوم» ومضى اليوم ولم يطلِّقها لم تطلَّق؛ إذ لو طلِّقت بمضيِّ اليوم لكان طلاقها مستندًا إلى وجود الصفة وهي عدم طلاقها اليوم، وإذا مضى اليوم ولم يطلِّقها لم يقع الطلاق المعلَّق باليوم.
ومنها: لو
(2)
تزوج أمة ثم قال لها: «إن مات مولاكِ وورثتكِ فأنتِ طالق» أو قال: «إن ملكتكِ فأنتِ طالق» ثم ورثها أو ملكها بغير إرث لا يقع الطلاق؛ إذ لو وقع لم تكن الزوجة في حال وقوعه مِلكًا له؛ لاستحالة وقوع الطلاق في ملكه، فكان وقوعه مفضيًا إلى عدم وقوعه.
ومنها: لو كان العبد بين موسرين فقال كل منهما لصاحبه: «متى أعتقتَ نصيبك فنصيبي حرٌّ قبل ذلك» فأعتق أحدهما نصيبه= لم ينفذ عتقه؛ لأنه لو نفذ لوجب عتق نصيب صاحبه قبله، وذلك يوجب السراية إلى نصيبه، فلا يصادف
(3)
إعتاقه محلًّا، فنفوذ عتقه يؤدِّي إلى عدم نفوذه.
والصواب في هذه المسألة بطلان هذا التعليق لتضمُّنه المحالَ، وأيهما عَتَقَ نصيبه صحَّ وسرى إلى نصيب شريكه.
(1)
«لو» ساقطة من ك.
(2)
ك: «ما لو» .
(3)
ك: «يصادق» ، تحريف.
ومنها: لو قال لعبده: «إن دبَّرتُك فأنت حرٌّ قبله» ثم دبَّره صح التدبير ولم يقع العتق؛ لأن وقوعه يمنع صحة التدبير، وعدم صحته يمنع وقوع العتق، وكانت صحته تفضي إلى بطلانه. هذا على قول المزني، وعلى قول ابن سُريج لا يصح التدبير؛ لأنه لو صح لوقع العتق قبله، وذلك يمنع التدبير، وكان وقوعه يمنع وقوعه.
ونظيره أن يقول لمدبَّره: «متى أبطلتَ تدبيرك فأنت حرٌّ قبله» ثم أبطله بطل ولم يقع
(1)
العتق على قول المزني؛ إذ لو وقع لم يصادف
(2)
إبطالُ التدبير محلًّا. وعلى قول ابن سُريج لا يصح إبطال التدبير
(3)
؛ لأنه لو صح إبطاله لوقع
(4)
العتق، ولو وقع العتق لم يصح إبطال التدبير.
ومثله لو قال لمدبَّره: «إن بعتك فأنت حرٌّ قبله» . ومثله لو قال لعبده: «إن كاتبتك غدًا فأنت اليوم حرٌّ» ثم كاتَبَه من الغد. ومثله لو قال لمكاتَبه: «إن عجَّزتُك عن كتابتك فأنت حرٌّ قبله» .
ومثله لو قال: «متى زنيتَ أو سرقتَ أو وجب عليك حدٌّ وأنت مملوك فأنت حرٌّ قبله» ثم وجد الوصف= وجب الحد ولم يقع العتق المعلَّق به؛ إذ لو وقع لم توجد الصفة، فلم يصح، وكان مستلزمًا لعدم وقوعه.
ومثله أن يقول له: «متى جنيتَ جناية وأنت مملوكي فأنت حرٌّ قبله» ثم جَنَى لم يعتق.
(1)
ك: «لم يمنع» .
(2)
ك: «لم يصادق» .
(3)
ك: «للتدبير» .
(4)
ك: «وقع» .
ومثله لو قال: «متى بعتك وتمَّ البيع فأنت حرٌّ قبله»
(1)
ثم باعه، فعلى قول المزني يصح البيع ولا يقع العتق؛ لأن وقوعه مستلزمٌ عدم وقوعه، وعلى قول ابن سُريج لا يصح البيع؛ لأنه
(2)
يعتق قبله، وعتقه يمنع صحة بيعه.
ومثله لو قال لأمته: «إن صلَّيتِ ركعتين مكشوفة الرأس فأنتِ حرَّة قبل ذلك» فصلَّت مكشوفة الرأس، فعلى
(3)
قول المزني تصح الصلاة دون العتق، وعلى قول ابن سُريج لا تصح الصلاة لأنها لو صحت عتقت [86/ب] قبل ذلك، وإذا عتقت بطلت صلاتها، وكانت صحة صلاتها مستلزمةً لبطلانها.
ومنها: لو زوَّج أمته بحرٍّ، وادعى عليه مهرها قبل الدخول، وادعى الزوج الإعسار، وادعى سيد الأَمة يساره قبل نكاح الأمة بميراث أو غيره= لم تُسمع دعواه؛ إذ لو ثبتت دعواه لبطل النكاح؛ لأنه لا يصح نكاح الأمة مع وجود الطَّول، وإذا بطل النكاح بطل دعوى المهر.
وكذلك لو تزوج بأمة فادَّعت أن الزوج عنِّين لم تُسمع دعواها؛ إذ لو ثبتت دعواها لزال
(4)
خوف العَنَت الذي هو شرط في نكاح الأمة، وذلك يبطل النكاح، وبطلانه يوجب بطلان الدعوى منها، فلما كانت صحة دعواها تؤدِّي إلى إفسادها أفسدناها.
(1)
«ثم جنى
…
قبله» ساقطة من ك.
(2)
«لأنه» ليست في ك.
(3)
ك: «نعلم» ، تحريف.
(4)
ز: «لزوال» خطأ.
وكذلك المرأة إذا ادَّعت على سيد زوجها أنه باعه إياها بمهرها قبل الدخول لم تصح دعواها؛ لأنها لو صحت لسقط نصف
(1)
المهر وبطل البيع في العبد.
وكذلك لو شهد شاهدان على عتق عبد فحكم بعتقه، ثم ادعى العبد بعد الحكم بحريته على أحد الشاهدين أنه مملوكه= لم تُسمع دعواه؛ لأن تحقيقها يؤدّي إلى بطلان الشهادة على العتق، فتبطل دعوى ملكه للشاهد.
وكذلك لو سُبِي مراهقٌ من أهل الحرب ولم يعلم بلوغه، فأنكر البلوغ= لم يُستحلف؛ لأن إحلافه يؤدّي إلى إبطال استحلافه، فإنا لو حلّفناه لحكمنا بصغره، والحكم بالصغر يمنع الاستحلاف.
ونظيره: لو ادعى على امرئ
(2)
مراهق ما يوجب القصاص أو قذفًا يوجب الحد أو مالًا من مبايعة أو ضمان أو غير ذلك
(3)
، وادعى أنه بالغ، وأنه يلزمه الحكم بذلك فأنكر الغلام ذلك= فالقول قوله، ولا يمينَ عليه؛ إذ لو حلَّفناه لحكمنا بصغره، والحكم بالصغر يُسقط اليمين عنه، وإذا لم يكن هنا يمينٌ لم يكن ردُّ يمين؛ لأن ردَّ اليمين إنما يكون عند نكول من هو من أهلها.
وكذلك لو أعتق المريض جارية له قيمتها مائة، وتزوَّج بها في مرض موته،
(1)
«نصف» ليست في ك.
(2)
في النسختين ز، د:«امر» . وفي ك: «ام» . ولعل الصواب ما أثبته. وحُذفت الكلمة من المطبوع.
(3)
ز: «غيره» .
ومهرها مائة، وترك مائتي درهم= فالنكاح صحيح، ولا مهرَ لها، ولا ميراثَ. أما الميراث فلأنها لو ورثت
(1)
لبطلت الوصية بعتقها؛ لأن العتق في المرض وصية، وفي بطلان الوصية بطلان الحرية، وفيه بطلان الميراث. وأما سقوط المهر فلأنه لو ثبت لركب السيدَ دينٌ، ولم تخرج قيمتها من الثلث، فيبطل عتقها كلها، فلم يكن للزوج أن ينكحها وبعضها رقيق، فيبطل المهر، فكان ثبوت المهر مؤدّيًا إلى بطلانه. فالحكم بإبطالها مستفاد من قوله تعالى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النحل: 92]، فعيَّر سبحانه من نقض شيئًا بعد أن أثبته؛ فدلَّ على أن
(2)
كل ما كان إثباته مؤديًا إلى نفيه وإبطاله كان باطلًا. فهذا ما احتج به المسرِّجون
(3)
.
قال الآخرون
(4)
: لقد أطلتم الخَطْب في هذه المسألة، ولم تأتوا بطائل، وقلتم ولكن
(5)
تركتم مقالًا لقائل، وتأبى قواعد اللغة والشرع
(6)
والعقل لهذه المسائل تصحيحًا، والميزان العادل لها عند الوزن ترجيحًا، وهيهات أن تكون شريعتنا في هذه المسألة مشابهة لشريعة
(7)
أهل الكتاب؛ إذ
(1)
ك: «لورثت» .
(2)
ز، ك:«أنه» .
(3)
كذا في النسختين، وهو صواب، والمعنى: أتباع ابن سُرَيج. وفي المطبوع: «السُّريجيون» .
(4)
أي المانعون للتعليق.
(5)
ك: «ولكنكم» .
(6)
ك: «الشرع واللغة» .
(7)
ز، ك:«لشرع» .
يستحيل وقوع الطلاق وسُدَّ دونه الأبواب. [87/أ] وهل هذا إلا تغييرٌ لما عُلِم
(1)
بالضرورة من الشريعة، وإلزامٌ لها بالأقوال الشنيعة؟ وهذا أشنعُ مِن سدِّ باب
(2)
النكاح بتصحيح تعليق الطلاق لكل من تزوَّجها في مدة عمره؛ فإنه وإن كان نظيرَ سدِّ باب الطلاق، لكن قد ذهب إليه بعض السلف، وأما هذه المسألة فمما
(3)
حدث في الإسلام بعد انقراض الأعصار المفضَّلة.
ونحن نبيِّن مناقضة هذه المسألة للشرع واللغة والعقل، ثم نجيب عن شُبَهِكم شبهة شبهة.
أما مناقضتها للشرع فإن الله سبحانه شرع للأزواج - إذا أرادوا استبدال زوجٍ مكانَ زوج والتخلُّص
(4)
من المرأة - الطلاقَ، وجعله بحكمته ثلاثًا توسعةً على الزوج
(5)
؛ إذ لعله يبدو له ويندم
(6)
فيراجعها، وهذا من تمام حكمته ورأفته ورحمته بهذه الأمة، ولم يجعل أنكحتهم كأنكحة النصارى تكون المرأة غُلًّا في عنق الزوج إلى الموت. ولا يخفى ما بين الشريعتين من التفاوت، وأن هذه المسألة منافية لإحداهما منافاةً ظاهرة، ومشتقة من الأخرى اشتقاقًا ظاهرًا، ويكفي هذا الوجه وحده في إبطالها.
وأما مناقضتها للغة فإنها تضمَّنت كلامًا ينقض بعضه بعضًا، ومضمونه:
(1)
في النسخ الثلاث: «علم الله» .
(2)
ك: «باب سد» .
(3)
ك: «فيما» .
(4)
د، ك:«أو التخلص» .
(5)
د: «للزوج» .
(6)
«ديندم» ساقطة من ك.
إذا وُجِد الشيء لم يوجد، وإذا وُجِد الشيء اليوم فهو موجود قبل اليوم، أو إذا
(1)
فعلتُ الشيء اليوم فقد وقع مني قبل اليوم، ونحو هذا من الكلام المتناقض في نفسه الذي هو إلى المحال أقرب منه إلى الصحيح من المقال.
وأما مناقضتها لقضايا العقول فلأن الشرط يستحيل أن يتأخَّر وجوده عن وجود المشروط، ويتقدم المشروط عليه في الوجود، هذا مما لا يُعقل عند أحد من العقلاء؛ فإن رتبة الشرط التقدُّم أو المقارنة، والفقهاء وسائر العقلاء معهم مجمعون على ذلك؛ فلو صح تعليق المشروط بشرط متأخر بعده لكان ذلك إخراجًا له عن كونه شرطًا أو جزءَ شرطٍ أو علةً أو سببًا؛ فإن الحكم لا يسبق شرطَه ولا سببَه ولا علّته؛ إذ في ذلك إخراج الشروط والأسباب والعلل عن حقائقها وأحكامها. ولو جاز تقديم الحكم على شرطه لجاز تقديم وقوع الطلاق على إيقاعه؛ فإن الإيقاع سبب، والأسباب تتقدم مسبَّباتِها، كما أن الشروط رتبتُها التقدّم؛ فإذا جاز إخراج هذا عن رتبته جاز إخراج الآخر عن رتبته، فجوَّزوا حينئذٍ تقدُّمَ الطلاق على التطليق، والعتق على الإعتاق، والمِلك على البيع، وحِلّ المنكوحة على عقد النكاح. وهل هذا في الشرعيات إلا بمنزلة تقدُّم الانكسار على الكسر، والسيل على المطر، والشِّبع على الأكل، والولد على الوطء، وأمثال ذلك؟ ولا سيما على أصلِ من يجعل هذه العلل والأسباب علاماتٍ محضة لا تأثيرَ لها، بل هي معرِّفات، والمعرِّف يجوز تأخُّره عن المعرَّف.
وبهذا يخرج الجواب عن قولكم: «إن الشروط الشرعية معرِّفات
(1)
ك: «وإذا» .
وأمارات وعلامات، والعلامة يجوز تأخُّرها»؛ فإن هذا وهم وإيهام من وجهين:
أحدهما: أن الفقهاء [87/ب] مجمعون على أن الشرائط الشرعية لا يجوز تأخُّرها عن المشروط، ولو تأخَّرت لم تكن شروطًا
(1)
.
الثاني: أن هذا شرط لغوي، كقوله:«إن كلَّمتُ زيدًا فأنتِ طالق» ونحو ذلك
(2)
، و «إن خرجتِ بغير إذني فأنتِ طالق» ونحو ذلك، والشروط اللغوية أسباب وعلل مقتضية لأحكامها اقتضاءَ المسبَّبات لأسبابها. ألا ترى أن قوله:«إن دخلتِ الدار فأنتِ طالق» سبب ومسبَّب ومؤثِّر وأثر، ولهذا يقع جوابًا عن العلة، فإذا قال: «لِمَ طلقها؟
(3)
» قال: لوجود الشرط الذي علَّقتُ عليه الطلاق، فلولا أن وجوده مؤثّر في الإيقاع لما صح هذا الجواب. ولهذا يصح أن يخرجه بصيغة القسم فيقول:«الطلاق يلزمني لا تدخلين الدار» ؛ فيجعل إلزامه للطلاق في المستقبل مسببًا عن دخولها الدارَ بالقسم والشرط.
وقد غلِطَ في هذا طائفة من الناس حيث قسموا الشرطَ إلى شرعي ولغوي
(4)
وعقلي، ثم حكموا عليه بحكم شامل فقالوا: الشرط يجب تقديمه على المشروط، ولا يلزم من وجوده وجود المشروط، ويلزم من انتفائه انتفاء المشروط، كالطهارة للصلاة والحياة للعلم. ثم أوردوا على
نفوسهم الشرط اللغوي؛ فإنه يلزم من وجوده وجود المشروط، ولا يلزم من انتفائه انتفاؤه؛ لجواز وقوعه بسبب آخر، ولم يُجيبوا
(1)
عن هذا الإيراد بطائل.
والتحقيق أن الشروط اللغوية أسباب عقلية، والسبب إذا تمَّ لزم من وجوده وجود مسبَّبِه، وإذا انتفى لم يلزم نفي السبب
(2)
مطلقًا؛ لجواز خلف
(3)
سببٍ آخر، بل يلزم انتفاء السبب المعيَّن عن هذا المسبَّب
(4)
.
وأما قولكم: «إنه صدر من هذا الزوج طلاقانِ منجَّز ومعلَّق، والمحلُّ قابل لهما» ، فجوابه بالمنع، فإن المحلّ ليس بقابل للمعلَّق؛ فإنه يتضمن المحال، والمحلّ لا يقبل المُحال، نعم هو قابل للمنجَّز وحده، فلا مانع من وقوعه. وكيف تصح دعواكم أن المحلَّ قابل للمعلَّق، ومُنازعكم إنما نازعكم فيه، وقال: ليس المحلُّ بقابلٍ للمعلَّق؟ فجعلتم نفس الدعوى مقدمةً في الدليل.
وقولكم: «إن الزوج ممن يملك التنجيز والتعليق» ، جوابه أنه إنما ملكَ
(5)
التعليق الممكن، فأما التعليق المستحيل فلم يملكه شرعًا ولا عرفًا ولا عادةً.
(1)
ك: «ولم يخرجوا» .
(2)
كذا في النسختين، والمعنى: إذا انتفى وجودُ المسبَّب لم يلزم نفي السَّبب مطلقًا. وفي المطبوع: «المسبب» .
(3)
«خلف» ساقطة من ك.
(4)
ك: «السبب» .
(5)
ز: «يملك» . والمثبت من د، ك.
وقولكم: «لا مزيةَ لأحدهما على الآخر» باطل، بل المزية كل المزية لأحدهما على الآخر
(1)
؛ فإن المنجَّز له مزية الإمكان في نفسه، والمعلَّق له مزية الاستحالة والامتناع، فلم يتمانعا ولم يتساقطا، فلم يمنع من وقوع المنجَّز مانعٌ.
وقولكم: «إنه نظيرُ ما لو تزوَّج أختين
(2)
في عقد»، جوابه أنه تنظير باطل؛ فإنه ليس نكاح إحداهما شرطًا في نكاح الأخرى، بخلاف مسألتنا، فإن المنجَّز شرط في وقوع المعلَّق، وذلك عين المحال.
وقولكم: «إنه لا مزيةَ لأحد الطلاقين على الآخر» باطل، بل للمنجَّز مزية من عدة أوجه:
أحدها: قوة التنجيز على التعليق.
الثاني: أن التنجيز لا خلافَ في وقوع الطلاق به، وأما التعليق ففيه نزاع مشهور بين الفقهاء. والموقعون لم يقيموا على المانعين حجةً توجب المصير [89/أ] إليها، مع تناقضهم فيما يقبل التعليق وما لا يقبله، فمنازعوهم يقولون: الطلاق لا يقبل التعليق كما قلتم أنتم في الإسقاط والوقف والنكاح والبيع، ولم يفرِّق هؤلاء بفرق صحيح، وليس الغرض ذكر تناقضهم، بل الغرض أن للمنجَّز مزية على المعلَّق.
الثالث: أن المشروط هو المقصود لذاته، والشرط تابع ووسيلة.
الرابع: أن المنجَّز لا مانع من وقوعه لأهلية الفاعل وقبول المحلّ،
(1)
«باطل
…
الآخر» ساقطة من ك بسبب انتقال النظر.
(2)
«أختين» ساقطة من ك.
والتعليق المحال لا يصلح أن يكون مانعًا من اقتضاء السبب الصحيح أثره.
الخامس: أن صحة التعليق فرع على مِلك التنجيز، فإذا انتفى ملكه للمنجَّز في هذه المسألة انتفى صحة التعليق، فصحة التعليق تمنع من صحته، وهذه معارضة صحيحة في أصل المسألة فتأمّلْها.
السادس: أنه لو قال في مرضه: «إذا أعتقتُ سالمًا فغانمٌ حرٌّ» ثم أعتق سالمًا ولا يخرجان من الثلث، قدِّم عتق المنجَّز على المعلَّق لقوته.
يوضحه الوجه السابع
(1)
: أنه لو قال لغيره: «ادخلِ الدار فإذا دخلتَ أخرجتُك» وهو نظيره في القوة؛ فإذا دخل لم يمكنه إخراجه. وهذا المثال وِزَانُ مسألتنا، فإن المعلَّق هو الإخراج والمنجَّز هو الدخول.
الثامن: أن المنجَّز في حيِّز
(2)
الإمكان، والمعلَّق قد قارنه ما جعله مستحيلًا.
التاسع: أن
(3)
وقوع المنجَّز يتوقف على أمر واحد وهو التكلم باللفظ اختيارًا، ووقوع المعلَّق يتوقَّف على التكلمُّ باللفظ ووجودِ الشرط، وما توقف على شيء واحد أقربُ وجودًا مما توقَّف على أمرين.
العاشر: أن وقوع المنجَّز
(4)
موافق لتصرف الشارع وملك المالك، ووقوع المعلَّق بخلافه؛ لأن الزوج لم يُملِّكه الشارع ذلك.
(1)
«السابع» ليست في ك.
(2)
ك: «حين» .
(3)
«أن» ليست في ك.
(4)
«مما توقف
…
المنجز» ساقطة من ك.
فهذه عشرة أوجه تدلُّ على مزية المنجَّز وتُبطِل قولكم إنه لا مزيةَ له، والله أعلم.
فصل
وأما سائر الصور التي ذكرتموها من صور الدور التي يُفضِي ثبوتها إلى إبطالها، فمنها ما هو ممنوع الحكم لا يسلِّمه لكم منازعكم، وإنما هي مسائل مذهبية يُحتجُّ لها لا يُحتجُّ بها، وهم يفكُّون الدور تارة بوقوع الحكمين معًا وعدم إبطال أحدهما للآخر ويجعلونهما معلولَي علةٍ واحدة ولا دورَ، وتارة يسبق أحد الحكمين للآخر سبْقَ السبب لمسبَّبه ثم يرتَّب
(1)
الآخر عليه.
ومنها ما هو مسلَّم الحكم، وثبوت الشيء فيه يقتضي إبطاله، ولكن هذا حجة لهم في إبطال هذا التعليق؛ فإنه لو صح لأفضى ثبوته إلى بطلانه، فإنه لو صح لزم منه وقوع طلقة مسبوقة بثلاث، وسبقُها بثلاث يمنع وقوعها، فبطل التعليق من أصله للزوم المحال؛ فهذه الصور التي استشهدتم بها من أقوى حججهم عليكم
(2)
على بطلان التعليق.
وأدلتكم في هذه المسألة نوعان: أدلة صحيحة وهي إنما تقتضي بطلان التعليق.
وأما الأدلة التي تقتضي بطلان المنجَّز فليس منها دليل صحيح؛ فإنه طلاق صدَرَ من أهله في محلِّه؛ فوجب الحكم بوقوعه؛ أما أهلية المطلِّق
(1)
ك: «ترتب» .
(2)
«عليكم» ليست في د.
فلأنه زوج مكلَّف مختار، وأما محلية المطلقة فلأنها زوجة والنكاح صحيح، فيدخل في قوله تعالى:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وفي سائر نصوص الطلاق؛ [89/ب] إذ لو لم يلحقها طلاق لزم واحد من ثلاثة، وكلها منتفية: إما عدم أهلية المطلِّق، وإما عدم قبول المحلّ، وإما قيام مانعٍ يمنع من نفوذ الطلاق، والمانع مفقود؛ إذ ليس مع مدعي قيامه إلا التعليق المحال الباطل شرعًا وعقلًا، وذلك لا يصلح أن يكون مانعًا.
يوضحه أن المانع من اقتضاء السبب لمسبَّبه إنما هو وصف ثابت يعارض سببيتَه فيوقفها
(1)
عن اقتضائها
(2)
، فأما المستحيل فلا يصح أن يكون مانعًا معارضًا للوصف الثابت، وهذا في غاية الوضوح، ولله الحمد.
فصل
قال المسرّجون: لقد ارتقيتم مُرتقًى صعبًا، وأسأتم الظنّ بمن قال بهذه المسألة وهم أئمة علماء لا يُشَقُّ غبارهم، ولا تُغمَز قناتُهم، كيف وقد أخذوها من نصّ الشافعي رحمه الله، وبنوها على أصوله، ونظَّروا لها النظائر، وأتوا لها بالشواهد؟ فنص الشافعي
(3)
على أنه إذا قال: «أنتِ طالق قبل موتي بشهر» ثم مات لأكثر من شهر بعد هذا التعليق؛ وقع الطلاق قبل موته بشهر. وهذا إيقاع طلاق في زمن ماضٍ سابقٍ لوجود الشرط وهو موته، فإذا وُجد الشرط تبينَّا وقوعَ الطلاق قبله. وإيضاح ذلك بإخراج الكلام مُخرَجَ
(1)
ك: «فيوقعها» ، تحريف.
(2)
ك: «امضائها» .
(3)
انظر: «الأم» (6/ 647).
الشرط، كقوله:«إن متُّ ــ أو إذا متُّ ــ فأنتِ طالق قبل موتي بشهر» ، ونحن نُلزِمكم بهذه المسألة على هذا الأصل، فإنكم موافقون عليه، وكذا قوله قبل دخوله:«أنتِ طالق طلقةً قبلها طلقة» فإنه يقع بها طلقتان، وإحداهما وقعت في زمن ماضٍ سابق على التطليق.
وبهذا خرج الجواب عن قوله: «إن الوقوع كما لم يسبق الإيقاع فلا يسبق الطلاق التطليق، فكذا لا يسبق شرطه، فإن الحكم لا يتقدم عليه، ويجوز تقدُّمه
(1)
على شرطه وأحدِ سبَبَيْه أو أسبابِه»، فإن الشرط معرِّف محض، ولا يمتنع تقديم المعرَّف عليه. وأما تقديمه على أحد سببيه فكتقديم الكفارة على الحنث بعد اليمين، وتقديمِ الزكاة على الحول بعد ملك النصاب، وتقديم الكفارة على الجرح قبل الزهوق، ونظائره.
وأما قولكم: «إن الشرط يجب تقدُّمه على المشروط» فممنوع، بل مقتضى الشرط توقُّفُ المشروط على وجوده، وأنه لا يوجد بدونه، وليس مقتضاه تأخُّر المشروط عنه، وهذا يتعلق باللغة والشرع والعقل، ولا سبيلَ لكم إلى نص عن أهل اللغة في ذلك ولا إلى دليل شرعي ولا عقلي، فدعواه غير مسموعة. ونحن لا ننكر أن من الشروط ما يتقدم مشروطه، ولكن دعوى أن ذلك حقيقة الشرط وأنه إن لم يتقدم خرج عن أن يكون شرطًا دعوى لا دليلَ عليها، وحتى لو جاء عن أهل اللغة ذلك لم يلزم مثلُه في الأحكام الشرعية؛ لأن الشروط في كلامهم تتعلق بالأفعال، كقوله:«إن زرتَني أكرمتُك» و «إذا طلعت الشمسُ جئتُك» ، فيقتضي الشرط ارتباطًا بين الأول والثاني، فلا يتقدّم المتأخر ولا يتأخّر المتقدم. وأما الأحكام فتقبل التقدُّم
(1)
ز، ك:«تقديمه» .
والتأخُّر والانتقال، كما لو قال:«إذا متُّ فأنتِ طالق قبل موتي بشهر» ، ومعلوم أنه لو قال مثل هذا [90/أ] في الحسيات كان محالًا، فلو قال:«إذا زرتَني أكرمتُك قبل أن تزورني بشهر» كان محالًا، إلا أن يحمل كلامه على معنى صحيح، وهو إذا أردتَ أو عزمتَ على زيارتي أكرمتُك قبلها.
وسرُّ المسألة أن نقل الحقائق عن مواضعها ممتنع، والأحكام قابلة للنقل والتحويل والتقديم والتأخير، ولهذا لو قال:«أعتِقْ عبدَك عنّي» ففعل؛ وقع
(1)
العتق عن القائل، وجعل الملك متقدمًا على العتق حكمًا، وإن لم يتقدم عليه حقيقة.
وقولكم: «يلزمنا تجويز تقديم الطلاق على التطليق» فذلك غير لازم؛ فإنه إنما يقع بإيقاعه؛ فلا يسبِقُ إيقاعَه، بخلاف الشرط، فإنه لا يوجب وجودَ المشروط، وإنما يرتبط به، والارتباط أعمُّ من السابق والمقارن
(2)
والمتأخر، والأعم لا يستلزم الأخصَّ.
ونكتة الفرق أن الإيقاع موجب للوقوع؛ فلا يجوز أن يسبقه أثره وموجبه، والشرط علامة على المشروط؛ فيجوز أن يكون قبله وبعده، فوِزانُ الشرط وِزانُ الدليل، ووِزانُ الإيقاع وِزانُ العلة، فافترقا.
وأما قولكم: «إن هذا التعليق يتضمَّن المحال إلى آخره» ، فجوابه أن هذا التعليق تضمَّن شرطًا ومشروطًا، وقد تُعقد القضية الشرطية في ذلك للوقوع، وقد تُعقد للإبطال؛ فلا يوجد فيها الشرط ولا الجزاء، بل تعليق
(3)
ممتنع
(1)
ك: «فقد وقع» .
(2)
ك: «المقارب» .
(3)
ك: «تعلق» .
بممتنع، فتصدق الشرطية وإن انتفى كل من
(1)
جزأيها، كما نقول:«لو كان مع الله إله آخر لفسد العالم» ، وكما في قوله:{إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: 116]، ومعلوم أنه لم يقله ولم يعلمه الله، وهكذا قوله:«إن وقع عليكِ طلاقي فأنتِ طالق قبله ثلاثًا» قضية عُقدت لامتناع وقوع طرفيها، وهما المنجّز والمعلّق.
ثم نذكر في ذلك قياسًا حرَّره الشيخ أبو إسحاق
(2)
رحمه الله تعالى، فقال: طلاقان متعارضان يسبق أحدهما الآخر؛ فوجب أن ينفي السابق منهما المتأخر. نظيره أن يقول لامرأته: إن قدم زيد فأنتِ طالق ثلاثًا، وإن قدم عمرو فأنت طالق طلقة، فقدم زيد بكرةً، وعمرو عشيةً. ونكتة المسألة أنا لو أوقعنا الطلاق المباشر لزمنا أن نوقع قبله ثلاثًا، ولو أوقعنا قبله ثلاثًا لامتنع وقوعه في نفسه؛ فقد أدى الحكم بوقوعه إلى الحكم بعدم وقوعه، فلا يقع.
وقولكم: «إن هذه اليمين تُفضي إلى سدّ باب
(3)
الطلاق، وذلك تغيير للشرع، فإن الله ملَّك الزوجَ الطلاقَ رحمةً به
…
إلى آخره»، جوابه أن هذا ليس فيه تغيير للشرع، وإنما هو إتيان بالسبب الذي ضيّق به على نفسه ما وسَّعه الله عليه، وهو هذه اليمين، وهذا ليس تغييرًا للشرع.
ألا ترى أن الله سبحانه وسَّع عليه أمر الطلاق فجعله واحدة بعد واحدة ثلاث مرات لئلا يندم، فإذا ضيَّق على نفسه وأوقعها بفم واحد حصرَ نفسه
(1)
«من» ليست في ك.
(2)
الشيرازي في كتابه «المهذب» ().
(3)
ك: «باب سد» .
وضيَّق عليها، ومنعها ما كان حلالًا لها، وربما لم يبقَ له سبيل إلى عودها إليه. وكذلك جعل الله سبحانه الطلاق إلى الرجال، ولم يجعل للنساء فيه حظًّا؛ لنقصان عقولهن وأديانهن، [90/ب] فلو جعله إليهن لكان فيه فساد كبير
(1)
تأباه حكمة الرب تعالى ورحمته بعباده
(2)
، فكانت المرأة لا تشاء أن تستبدل بالزوج إلا استبدلت به، بخلاف الرجال؛ فإنهم أكمل عقولًا وأثبتُ، فلا يستبدل بالزوجة إلا إذا عِيلَ صبرُه. ثم إن الزوج قد يجعل طلاق امرأته بيدها، بأن يملِّكها ذلك أو يحلف عليها أن لا تفعل كذا، فتختار طلاقه متى شاءت، ويبقى الطلاق بيدها، وليس في هذا تغيير للشرع؛ لأنه هو الذي ألزم نفسه هذا الحرج بيمينه وتمليكه.
ونظير هذا ما قاله فقهاء الكوفة قديمًا وحديثًا: أنه لو قال: «كل امرأة أتزوجها فهي طالق» لم يمكنه أن يتزوج بعد ذلك امرأة، حتى قيل: إن أهل الكوفة أطبقوا على هذا القول، ولم يكن في ذلك تغيير للشريعة؛ فإنه هو الذي ضيَّق على نفسه ما وسَّع الله عليه.
ونظير هذا لو قال: «كل عبد أو أمة أملكهما فهما حران» لم يكن له سبيل بعد هذا إلى ملك رقيقٍ أصلًا، وليس في هذا تغيير للشرع، بل هو المضيِّق على نفسه، والضيق والحرج الذي يُدخِله المكلَّف على نفسه لا يلزم أن يكون الشارع
(3)
قد شرعه له، وإن ألزمه به بعد أن ألزم نفسه. ألا ترى أن من كان معه ألف دينار فاشترى بها جارية فأولدها ثم ساءت
العشرة بينهما لم يبقَ له طريق إلى الاستبدال بها، وعليه ضرر في إعتاقها أو تزويجها
(1)
أو إمساكها، ولا بدَّ له من أحدها.
ثم نقول في معارضة ما ذكرتم: قد يكون في هذه اليمين مصلحة له وغرض صحيح، بأن يكون محبًّا لزوجته شديد الإلف لها، وهو مشفق من أن ينزغ الشيطان بينهما فيقع منه طلاقها من غضبة أو موجدة، أو يحلف يمينًا بالطلاق أو يُبلى بمن يستحلفه بالطلاق ويُضطرّ
(2)
إلى الحنث، أو يُبلى بظالم يُكرهه على الطلاق ويرفعه إلى حاكم ينفذه، أو يُبلى بشاهدَيْ زور يشهدان عليه بالطلاق، وفي ذلك ضرر عظيم
(3)
به، وكان من محاسن الشريعة أن يُجعل له طريقٌ إلى الأمن من ذلك كله، ولا طريقَ أحسن من هذه؛ فما يُنكر من محاسن هذه الشريعة الكاملة أن تأتي بمثل ذلك، ونحن لا ننكر أن في ذلك نوع ضرر عليه، لكن رأى احتماله لدفع ضرر الفراق الذي هو أعظم من ضرر البقاء، وما يُنكَر في الشريعة من دفع أعلى الضررين باحتمال أدناهما؟
فصل
قال الموقعون: لقد دعوتم الشُّبَه الجَفَلَى
(4)
إلى وليمة هذه المسألة، فلم تَدَعوا منها داعيًا ولا مجيبًا، واجتهدتم في تقريرها ظانّين إصابة
(1)
ك: «تزوجها» .
(2)
ك: «واضطر» .
(3)
«عظيم» ليست في ز، ك.
(4)
الجفلى: الدعوة العامة للناس دون تخصيص أحد، شَبَّه بها مجموعة الشبهات دون تمييز.
الاجتهاد، وليس كل مجتهد مصيبًا، ونثرتم عليها ما لا يصلح مثله للنِّثار
(1)
، وزيَّنتموها بأنواع الحُلِيّ، ولكنه حلي مستعار؛ فإذا استُرِدَّت العارة
(2)
زال الالتباس والاشتباه، وهناك تَسمع بالمُعَيدي خيرٌ من أن تراه
(3)
.
فأما قولكم: «إنا ارتقينا مُرتقًى صعبًا، وأسأنا الظنَّ بمن قال بهذه
(4)
المسألة»، فإن أردتم بإساءة الظن بهم تأثيمًا أو تبديعًا فمعاذَ الله، بل أنتم أسأتم بنا
(5)
الظن. وإن أردتم بإساءة الظن أنا لم نصوِّبهم في هذه المسألة، ورأينا الصواب [91/أ] في خلافهم فيها؛ فهذا قدر مشترك بيننا وبينكم في كل ما تنازعنا فيه، بل سائر المتنازعين بهذه المثابة، وقد صرح الأئمة الأربعة بأن الحق في واحد من الأقوال المختلفة، وليست كلها صوابًا.
وأما قولكم: «إن هذه المسألة مأخوذة من نص الشافعي» ، فجوابه من وجهين:
أحدهما: أنها لو كانت منصوصة له فقوله بمنزلة قول غيره من الأئمة يُحتَجُّ له ولا يُحتجُّ به، وقد نازعه الجمهور فيها، والحجة تَفصِل بين المتنازعين.
الثاني: أن الشافعي رضي الله عنه لم ينصَّ عليها ولا على ما يستلزمها. وغاية ما ذكرتم نصه على صحة قوله: «أنتِ طالق قبل موتي بشهر» ، فإذا مات
(1)
ما يُنثَر في حفلات السرور من حلوى أو نقود.
(2)
أي العارية.
(3)
يضرب مثلًا للذي رؤيته دون السماع به.
(4)
ك: «هذه» .
(5)
«بنا» ليست في ك.
لأكثر من شهر من وقت هذا التعليق تبينَّا وقوع الطلاق.
وهذا قد
(1)
وافقه عليه من يُبطِل هذه المسألة، وليس فيه
(2)
ما يدل على صحة هذه المسألة ولا هو نظيرها، وليس فيه سبق الطلاق لشرطه، ولا هو متضمن للمحال؛ إذ
(3)
حقيقته إذا بقي من حياتي شهر فأنت طالق. وهذا الكلام معقول غير متناقض ليس فيه تقديم الطلاق على زمن التطليق ولا على شرط وقوعه.
وإنما نظير المسألة المتنازع فيها أن يقول: «إذا متُّ فأنتِ طالق قبل موتي بشهر» ، وهذا المحال بعينه، وهو نظير قوله:«إذا وقع عليك طلاقي فأنتِ طالق قبله ثلاثًا» أو يقول: «أنتِ طالق عام الأول» ، فمسألة الشافعي شيء ومسألة ابن سُريج شيء. ويدل عليه أن الشافعي إنما أوقع عليه الطلاق إذا مات لأكثر من شهر من حين التعليق؛ فلو مات عقيبَ اليمين لم تطلَّق، وكانت
(4)
بمنزلة قوله: «أنت طالق في الشهر الماضي» وبمنزلة قوله: «أنتِ طالق قبل أن أنكحك» ، فإن كلا الوقتين ليس بقابلٍ للطلاق؛ لأنها في أحدهما لم تكن محلًّا، وفي الثاني لم تكن فيه طالقًا قطعًا. فقوله:«أنتِ طالق في وقت قد مضى» ولم تكن فيه طالقًا إما إخبار كاذب أو إنشاء
(5)
باطل. وقد قيل: يقع عليه الطلاق ويلغو قوله: «أمسِ» ، لأنه أتى بلفظ الطلاق
(1)
«قد» ليست في د.
(2)
ك: «فيها» .
(3)
ك: «إن» تحريف.
(4)
ك: «وكان» .
(5)
ك: «وإنشاء» .
ثم وصل به ما يمنع وقوعه أو يرفعه، فلا يصلح ويقع لغوًا.
وكذلك قوله: «أنتِ طالق طلقةً قبلها طلقة» ليس فيه إيقاع الطلقة
(1)
الموصوفة بالقبلية في الزمن الماضي ولا تقدُّمها على الإيقاع، وإنما فيه إيقاع طلقتين إحداهما قبل الأخرى؛ فمن ضرورة قوله:«قبلها طلقة» إيقاعُ هذه السابقة أولًا ثم إيقاع الثانية بعدها؛ فالطلقتان إنما وقعتا بقوله: «أنت طالق» ، لم تتقدم إحداهما على زمن الإيقاع، وإن تقدمت على الأخرى تقديرًا، فأين هذا من التعليق المستحيل؟
فإن أبيتم وقلتم: قد وصف الطلقة المنجَّزة بتقدُّمِ مثلها عليها، والسبب هو قوله أنت طالق؛ فقد تقدم وقوع الطلقة المعلَّقة بالقبلية على المنجَّزة، ولما كان هذا نكاح
(2)
صحّ. وهكذا قوله: «إذا وقع عليك طلاقي فأنتِ طالق قبله ثلاثا» أكثر ما فيه تقدم الطلاق السابق على المنجَّز، ولكن المحلّ لا يحتملهما
(3)
؛ فتدافعا وبقيت الزوجة [91/ب] بحالها، ولهذا لو قال:«إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله واحدةً» صحّ لاحتمال المحلّ لهما.
فالجواب أنه أوقع
(4)
طلقتين واحدة قبل واحدة، ولم تسبق إحداهما إيقاعَه، ولم يتقدم شرطُ الإيقاع؛ فلا محذورَ، وهو كما لو قال:«بعدها طلقةً» أو «معها طلقة» وكأنه قال: «أنت طالق طلقتين معًا، أو واحدة بعد واحدة» ويلزم من تأخُّر واحدة عن الأخرى سبقُ إحداهما للأخرى، فلا
(1)
ك: «للطلقة» .
(2)
كذا في النسخ الثلاث مرفوعًا.
(3)
ز، ك:«لا يحتملها» .
(4)
ك: «وقع» .
إحالة. أما وقوع طلقة مسبوقة بثلاث فهو محال، وقصده باطل، والتعبير عنه إن كان خبرًا فهو كذب، وإن كان إنشاءً فهو منكر؛ فالتكلم به منكر من القول وزور في إخباره، منكر في إنشائه.
وأما كون المعلق تمامَ الثلاث فهاهنا لمنازعيكم قولان تقدم حكايتهما، وهما وجهان في مذهب أحمد والشافعي رضي الله عنهما:
أحدهما: يصح هذا التعليق ويقع المنجّز والمعلّق، وتصير المسألة على وِزان ما نصَّ عليه الشافعي
(1)
من قوله: «إذا مات زيد فأنتِ طالق قبله بشهر» فمات بعد شهر
(2)
، فهكذا إذا قال:«إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله واحدة» ، ثم مضى زمن تمكن
(3)
فيه القبلية ثم طلقها، تبينَّا وقوعَ المعلَّق في ذلك الزمان، وهو متأخر عن الإيقاع؛ فكأنه قال:«أنت طالق في الوقت السابق على تنجيز الطلاق أو وقوعه معلَّقًا» فهو تطليق في زمن متأخر.
والقول الثاني: أن هذا محال أيضًا، ولا يقع المعلَّق؛ إذ حقيقته: أنتِ طالق في الزمن السابق على تطليقك تنجيزًا أو تعليقًا، فيعود إلى سَبْقِ الطلاق للتطليق وسَبْقِ الوقوع للإيقاع، وهو حكم بتقديم المعلول على علته.
يوضحه أن قوله: «إذا وقع عليك طلاقي فأنتِ طالق قبله
(4)
» إما أن
(5)
(1)
د: «الشافعي عليه» .
(2)
ك: «بشهر» .
(3)
ك: «يمكن» .
(4)
بعدها في ك: «ثلاثًا» .
(5)
«أن» ليست في ك.
يريد: طالقٌ قبله بهذا الإيقاع أو بإيقاع متقدم. والثاني ممتنع؛ لأنه لم يسبق هذا الكلامَ منه شيءٌ. والثاني
(1)
كذلك؛ لأنه يتضمن: «أنت طالق قبل أن أطلقك» ، وهذا عين المحال.
فهذا كشف حجاب هذه المسألة وسرُّ مأخذها، وقد تبيَّن أن مسألة الشافعي لون وهي لون آخر.
وأما قولكم: «إن الحكم لا يجوز تقدُّمه على علته، ويجوز تقدُّمه على شرطه كما يجوز تقدُّمه على أحد سببيه
…
إلى آخره»، فجوابه أن الشرط إما أن يوجد جزءًا من المقتضي أو يوجد خارجًا عنه، وهما قولان للنظَّار، والنزاع لفظي؛ فإن أريد بالمقتضي التام فالشرط جزء منه، وإن أريد به المقتضي الذي يتوقف اقتضاؤه على وجود شرطه وعدمِ مانعه فالشرط ليس
(2)
جزءًا منه، ولكن اقتضاؤه يتوقف عليه. والطريقة الثانية طريقة القائلين بتخصيص العلة، والأولى
(3)
طريقة المانعين من التخصيص، وعلى التقديرين فيمتنع تأخُّر الشرط عن وقوع المشروط؛ لأنه يستلزم وقوع الحكم بدون سببه التام؛ فإن الشرط إن كان جزءًا من المقتضي فظاهر، وإن كان شرطًا لاقتضائه فالمعلَّق على الشرط لا
(4)
يوجد عند عدمه، وإلا لم يكن شرطًا؛ فإنه لو كان يوجد بدونه لم يكن شرطًا، فلو
(5)
ثبت الحكم قبله
(1)
أي الأمر الثاني، وهو المذكور أولًا، أي: طالق قبله بهذا الإيقاع.
(2)
«ليس» ساقطة من ك.
(3)
ك: «والأول» .
(4)
«لا» ساقطة من د، ك
(5)
ك: «فلم» .
لثبت [92/أ] بدون سببه التام، فإن سببه لا يتم إلا بالشرط، فعاد الأمر إلى سَبْق الأثر لمؤثِّره والمعلول لعلته، وهذا محال.
ولهذا لما لم يكن لكم حيلة في دفعه وعلمتم لزومه فررتم إلى ما لا يُجدِي عليكم شيئًا، وهو جَعْل الشرط مجرد علامة ودليل ومعرِّف، وهذا إخراج للشرط عن كونه شرطًا وإبطالٌ لحقيقته؛ فإن العلامة والدليل المعرِّف ليست شروطًا في المدلول المعرَّف، ولا يلزم من نفيها نفيه، فإن الشيء يثبت بدون علامة ومعرِّف له، والمشروط ينتفي لانتفاء شرطه وإن لم يوجد لوجوده.
وكل العقلاء متفقون على الفرق بين الشرط والأمارة المحضة، وأن حقيقة أحدهما وحكمه دون حقيقة الآخر وحكمه، وإن كان قد يقال: إن العلامة شرط في العلم بالمعلم
(1)
والدليل شرط في العلم بالمدلول، فذاك أمر وراء الشرط في الوجود الخارجي، فهذا شيء وذلك شيء آخر، وهذا حق، ولهذا ينتفي العلم بالمدلول عند انتفاء دليله، ولكن هل يقول أحد: إن المدلول ينتفي لانتفاء دليله؟
فإن قيل: نعم، قد قاله غير واحد، وهو انتفاء الحكم الشرعي لانتفاء دليله.
قيل: نعم، فإن الحكم الشرعي لا يثبت بدون دليله، فدليله موجِب لثبوته، فإذا انتفى الموجِب انتفى الموجَب، ولهذا يقال: لا موجِب فلا موجَب
(2)
.
(1)
ك: «بالعلم» .
(2)
«انتفى
…
موجب» ساقطة من ك.
أما شرط اقتضاء السبب لحكمه فلا يجوز اقتضاؤه بدون شرطه، ولو تأخّر الشرط عنه لكان مقتضيًا بدون شرطه، وذلك يستلزم إخراج الشرط عن حقيقته، وهو محال.
وأما تقديم الحكم على أحد سببيه في الصورة التي ذكرتموها على إحدى
(1)
الطريقتين، أو تقديمه على شرط بعد وجود سببه على الطريقة الأخرى؛ فالتنظير به مَغْلَطة؛ فإن الحكم لم يتقدم على سببه ولا شرطه، وهذا محال، وإن وقع تسامح في عبارة الفقهاء، فإن انقضاء الحول مثلًا والحنث والموت بعد الجرح شرط
(2)
للوجوب، ونحن لم نقدِّم الوجوب على شرطه ولا سببه، وإنما قدمنا فعل الواجب. والفرق بين تقدُّم الحكم بالوجوب
(3)
، وبين تقدُّم أداء الواجب، فظهر أن هذا وهم وإيهام.
وقد ظهر أن تقديم
(4)
شرط علة الحكم وموجِبه على الحكم أمر ثابت عقلًا وشرعًا، ونحن لم نأخذ ذلك عن نص أهل اللغة حتى تطالبونا بنقله، بل ذلك أمر ثابت لذات الشرط وحكمٌ من أحكامه، وليس ذلك متلقًّى من اللغة، بل هو ثابت في نفس الأمر لا يختلف بتقدُّم لفظ ولا تأخُّره، حتى لو قال:«أنتِ طالق إن دخلت الدار» أو قال: «يبعثكِ الله إذا متِّ» و «تجب عليك الصلاة إذا دخل وقتها» ونحو ذلك، فالشرط متقدم عقلًا وطبعًا وشرعًا وإن تأخر لفظًا.
(1)
ك: «احد» .
(2)
ك: «لشرط» .
(3)
«بالوجوب» ساقطة من ك.
(4)
ك: «تقدم» .
وأما قولكم: «إن الأحكام تقبل النقل عن مواضعها فتتقدم وتتأخر» فتطويلٌ بلا تحصيل، وتهويلٌ بلا تفضيل، فهل تقبل النقل عن ترتُّبها على
(1)
أسبابها وموجباتها بحيث [92/ب] يثبت الحكم بدون سببه ومقتضيه؟ نعم قد يتقدم ويتأخر وينتقل لقيام سبب آخر يقتضي ذلك، فيكون مرتَّبًا على سببه الثاني بعد انتقاله، كما كان مترتِّبًا
(2)
على الأول قبل انتقاله، وفي كل من الموضعين هو مترتِّب على سببه، هذا في حكمه وذاك في محله.
وأما تنظيركم بنقل الأحكام وتقدُّمها على أسبابها بقوله: «أنتِ طالق قبل موتي بشهر» وقولكم
(3)
: إن نظيره في الحسّيات أن تقول: «إن زرتَني أكرمتُك قبل زيارتِك بشهر» = فوهمٌ أيضًا وإيهامٌ، فإن قوله:«أنتِ طالق قبل موتي بشهر» إنما تطلَّق إذا مضى شهر بعد هذه اليمين حتى يتبين وقوع الطلاق بعد إيقاعه، فلو مات قبل مضي شهر لم تَطْلُق على الصحيح؛ لأنه يصير بمنزلة أنتِ طالق عامَ الأول. وليس كذلك قوله:«إن زرتَني أكرمتك قبله بشهر» ، فإن الطلاق حكم يمكن تقدير وقوعه قبل الموت، والإكرام فعل حسِّي لا يكون إكرامًا بالتقدير، وإنما يكون إكرامًا بالوقوع.
وأما استشهادكم بقوله: «أعتِقْ عبدك» فهو حجة عليكم؛ فإنه يستلزم تقدُّم المِلك التقديري على العتق الذي هو أثره وموجبه، والمِلك شرطه، ولو جاز تأخُّر الشرط لقدر الملك له
(4)
بعد العتق، وهذا محال؛ فعلم أن
(1)
ك: «عن» .
(2)
ك: «مرتبا» .
(3)
في النسخ: «وقوله» ، والسياق يقتضي «وقولكم» . وهي كذلك في المطبوع.
(4)
«له» ليست في ز.
الأسباب والشروط يجب تقدمها، سواء كانت محقّقة أو مقدّرة.
وقولكم: «إن هذا التعليق تضمَّن شرطًا ومشروطًا، والقضية الشرطية قد تُعقد للوقوع وقد تُعقد لنفي الشرط والجزاء
…
إلى آخره»، فجوابه أن هذا أيضًا
(1)
من الوهم والإيهام؛ فإن القضية الشرطية هي التي يصح الارتباط بين جزأيها، سواء كانا ممكنينِ أو ممتنعينِ، ولا يلزم من صدقها شرطيةً صدقُ جزأيها حَمْليَّتينِ
(2)
؛ فالاعتبار إنما هو بصدقها في نفسها؛ ولهذا كان قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] من أصدق الكلام وجُزءَا الشرطيةِ ممتنعان، لكن أحدهما ملزوم للآخر، فقامت القضية الشرطية
(3)
من التلازم الذي بينهما؛ فإن تعدد الآلهة مستلزم لفساد السموات والأرض، فوجود آلهة مع الله ملزوم لفساد السموات والأرض، والفساد لازم، فإذا انتفى اللازم انتفى ملزومه، فصدقت الشرطية دون مفردَيْها. وأما الشرطية في مسألتنا فهي كاذبة في نفسها؛ لأنها عُقِدت للتلازم بين وقوع الطلاق المنجَّز وسَبْق الطلاق الثلاث عليه، وهذا كذبٌ في الإخبار باطل في الإنشاء؛ فالشرطية نفسها باطلة لا تصح بوجه؛ فظهر أن تنظيرها بالشرطية الصادقة الممتنعة الجزأينِ وهمٌ وإيهامٌ ظاهر لا خفاء به.
(1)
(2)
في ك والمطبوع: «جملتين» ، تحريف. والقضية الحملية في المنطق هي التي لا تحتوي على الشرط والجزاء، بل تقتصر على الموضوع والمحمول أو المسند إليه والمسند، وهي الجملة الخبرية في اصطلاح النحو.
(3)
«ممتنعان
…
الشرطية» ساقطة من ك.
وأما قياسكم المحرر ــ وهو قولكم: «طلاقان متعارضان يسبق أحدهما الآخر، فوجب أن ينفي السابق منهما المتأخر، كقوله: إن قدم زيدٌ
…
إلى آخره» ــ فجوابه: أنه لما
(1)
قدم زيد طَلُقتْ ثلاثًا، فقدم عمرو بعده وهي أجنبية، فلم يصادف
(2)
الطلاق الثاني محلًّا، فهذا معقول شرعًا ولغةً وعرفًا، فأين هذا من تعليقٍ مستحيل شرعًا وعرفًا؟ ولقد وَهَنَتْ كلَّ الوهن مسألةٌ [93/أ] إلى مثل هذا القياس استنادُها، وعليه اعتمادها.
وأما قولكم: «نكتة المسألة أنا لو أوقعنا المنجَّز لزِمَنا أن نوقع قبله ثلاثًا
…
إلى آخره»، فجوابه أن يقال: هذا كلام باطل في نفسه، فلا يلزم من إيقاع المنجَّز إيقاعُ الثلاث
(3)
قبله، لا لغةً ولا عقلًا ولا شرعًا ولا عرفًا. فإن قلتم: لأنه شرط للمعلّق، قِيلَ
(4)
: فقد تبين فساد المعلّق بما فيه كفاية.
ثم نَقلِب عليكم هذه النكتة قلبًا أصحَّ منها شرعًا وعقلًا ولغةً، فنقول: إذا أوقعنا المنجَّز لم يُمكِنَّا أن نوقع قبله ثلاثًا قطعًا، وقد وجد سبب وقوع المنجَّز وهو الإيقاع، فيستلزم موجَبه وهو الوقوع، وإذا وقع موجَبه استحال وقوع الثلاث. وهذه النكتة أصح وأقرب إلى الشرع والعقل واللغة، وبالله التوفيق.
قولكم: «إن المكلَّف أتى بالسبب الذي ضيَّق به على نفسه فألزمناه
(1)
«لما» ساقطة من ك.
(2)
ك: «يصادق» ، تحريف.
(3)
ك: «ثلاث» .
(4)
في المطبوع: «قبله» .
حكمه
…
إلى آخره»، جوابه أن هذا إنما يصح فيما يملكه من الأسباب شرعًا، فلا بدّ أن يكون السبب مقدورًا مشروعًا، وهذا السبب الذي أتى به غير مقدور ولا مشروع؛ فإن الله سبحانه لم يُملِّكه طلاقًا ينجِّزه تَسبقه ثلاثٌ قبله، ولا ذلك مقدور له؛ فالسبب لا مقدور ولا مأمور، بل هو كلام متناقض فاسد؛ فلا يرتَّب
(1)
عليه تغيير
(2)
أحكام الشرع. وبهذا خرج الجواب عما نظَّرتم به من المسائل:
أما المسألة الأولى ــ وهي إذا طلَّق امرأته ثلاثًا جملةً ــ فهذه مما يُحتجُّ لها لا يُحتجُّ بها، وللناس فيها أربعة أقوال:
أحدها: الإلزام بها
(3)
.
والثاني: إلغاؤها جملةً، وإن كان هذا إنما يعرف عن فقهاء الشيعة.
والثالث: أنها واحدة، وهذا قول أبي بكر الصديق وجميعِ الصحابة في زمانه، وإحدى الروايتين عن ابن عباس
(4)
، واختيار أعلم الناس بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن إسحاق
(5)
والحارث العُكْلي وغيره، وهو أحد
(1)
ك: «ترتب» .
(2)
ك: «بغير» ، تحريف.
(3)
«بها» ليست في ك.
(4)
رواها أبو داود عقب الحديث رقم (2197). وانظر: «مصنف عبد الرزاق» (6/ 335) و «السنن الكبرى» للبيهقي (7/ 339).
(5)
ذكره عنه الجصاص في «أحكام القرآن» (2/ 85) وابن عبد البر في «الاستذكار» (6/ 8) وابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (33/ 8) و «جامع المسائل» (1/ 307، 311) وابن حجر في «الفتح» (9/ 362).
القولين في مذهب مالك حكاه التِّلِمْساني في «شرح تفريع ابن الجلّاب» ، وأحد القولين في مذهب أحمد اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية.
والرابع: أنها واحدة في حقّ التي لم يدخل بها، ثلاث في حقّ المدخول بها، وهذا مذهب إمام أهل خراسان في وقته إسحاق بن راهويه نظير الإمام أحمد والشافعي، ومذهب جماعة من السلف.
وفيها مذهب خامس، وهو أنها إن كانت منجَّزة وقعتْ، وإن كانت معلَّقة لم تقع، وهو مذهب حافظ الغرب وإمام أهل الظاهر في وقته [أبي] محمد بن حزم.
ولو طولبتم بإبطال هذه الأقوال وتصحيح قولكم بالدليل الذي يَركن إليه العالم لم يُمكِنْكم ذلك. والمقصود أنكم تستدلُّون بما يحتاج إلى إقامة الدليل عليه، والذين يسلِّمون لكم وقوع
(1)
الثلاث جملة واحدة فريقان: فريق يقول بجواز إيقاع الثلاث، فقد أتى المكلَّف عنده بالسبب المشروع المقدور فترتَّب عليه مسبَّبه. وفريق يقول: تقع وإن كان إيقاعها محرّمًا، كما يقع الطلاق في الحيض والطهر الذي أصابها فيه وإن كان محرّمًا، لأنه ممكن، بخلاف وقوع طلقة مسبوقة بثلاث فإنه محال، فأين أحدهما [93/ب] من الآخر؟
فصل
وأما نقضكم الثاني بتمليك الرجل امرأتَه الطلاقَ وتضييقه على نفسه بما
(1)
ك: «بوقوع» .
وسَّع
(1)
الله عليه من جعله بيده، فجوابه من وجوه:
أحدها: أنه بالتمليك لم يخرج الطلاق عن يده، بل هو في يده كما هو، هذا إن قيل إنه تمليك، وإن قيل إنه توكيل فله عزلُها متى شاء.
الثاني: أن هذه المسألة فيها نزاع معروف بين السلف والخلف؛ فمنهم من قال: لا يصح تمليك المرأة الطلاق ولا توكيلها فيه، ولا يقع الطلاق إلا ممن أخذ بالساق. وهذا مذهب أهل الظاهر، وهو مأثور عن بعض السلف؛ فالنقض بهذه الصورة
(2)
يستلزم إقامة الدليل عليها، والأوهن
(3)
لا يكون دليلًا.
ومن هنا قال بعض أصحاب مالك: إنه إذا علّق اليمين بفعل الزوجة لم تَطلُق إذا حنِث. قال: لأن الله سبحانه ملَّك الزوجَ الطلاق، وجعله بيده رحمةً منه، ولم يجعله إلى المرأة؛ فلو وقع الطلاق بفعلها لكان إليها إن شاءت أن
(4)
تفارقه وإن شاءت أن تقيم معه، وهذا خلاف شرع الله.
وهذا أحد الأقوال في مسألة تعليق الطلاق بالشرط كما تقدم.
والثاني: أنه لغو وباطل، وهذا اختيار أبي عبد الرحمن ابن بنت الشافعي ومذهب أهل الظاهر.
(1)
ك: «أوسع» .
(2)
«وهو مأثور
…
الصورة» ساقطة من ك.
(3)
ك: «والأدنى» .
(4)
«أن» ليست في ك.
والثالث: أنه موجب لوقوع الطلاق عند وجود الصفة
(1)
، سواء كان يمينًا أو تعليقًا محضًا، وهذا المشهور عند الأئمة الأربعة وأتباعهم.
والرابع: أنه إن كان بصيغة
(2)
التعليق لزِم، وإن كان بصيغة القسم والالتزام لم يلزم إلا أن ينويه، وهذا اختيار أبي المحاسن الروياني وغيره.
والخامس: أنه إن كان بصيغة التعليق وقع، وإن كان بصيغة القسم والالتزام لم يقع وإن نواه، وهذا اختيار القفّال في «فتاويه» .
والسادس: أنه إن كان الشرط والجزاء مقصودينِ وقع، وإن كانا
(3)
غير مقصودين ــ وإنما
(4)
حلف به قاصدًا منع الشرط والجزاء ــ لم يقع، ولا كفارةَ فيه، وهذا اختيار بعض أصحاب أحمد.
والسابع: كذلك، إلا أن فيه الكفارة إذا خرج مخرجَ اليمين، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه، والذي قبله اختيار أخيه.
وقد تقدم حكاية قول من حكى إجماع الصحابة أنه إذا حنِثَ فيه لم يلزمه الطلاق، وحكينا لفظه. والمقصود الجواب عن النقض بتمليك المرأة الطلاق أو توكيلها فيه.
وأما قولكم في النقض الثالث: «إن فقهاء الكوفة صحَّحوا تعليق الطلاق بالنكاح، وهو يسدُّ باب النكاح» ، فهذا القول مما أنكره عليهم سائر الفقهاء،
وقالوا: هو سدٌّ لباب
(1)
النكاح، حتى الشافعي
(2)
نفسه أنكره عليهم بذلك وبغيره من الأدلة.
ومن العجب أنكم قلتم في الرد عليهم: لا يصح هذا التعليق؛ لأنه لم يصادف محلًّا، وهو لا يملك الطلاق المنجَّز فلا يملك المعلَّق؛ إذ كلاهما مستدعٍ لقيام محلّه، ولا محلَّ، فهلَّا قبلتم منهم احتجاجَهم عليكم في المسألة السُّريجية بمثل هذه الحجة؟ وهي أن المحلَّ غير قابل لطلقةٍ مسبوقة بثلاث، وكان هذا الكلام لغوًا [94/أ] وباطلًا فلا
(3)
ينعقد، كما قلتم أنتم في تعليق النكاح بالطلاق: إنه لغو وباطل فلا ينعقد.
فصل
وأما النقض الرابع بقوله: «كل عبد أو أمة أملكه فهو حرٌّ» ، فهذا للفقهاء فيه قولان، وهما روايتان عن الإمام أحمد:
إحداهما: أنه
(4)
لا يصح كتعليق الطلاق.
والثاني: أنه يصح.
والفرق بينه وبين تعليق الطلاق أن مِلك العبد قد شُرِع طريقًا إلى زوال ملكه عنه بالعتق، إما بنفس الملك كمن ملك ذا رَحِمٍ مَحرم، وإما باختيار الإعتاق كمن اشترى عبدًا ليعتقه عن كفارته أو ليتقرب به إلى الله. ولم يشرع
(1)
ك: «سد الباب» .
(2)
ز: «قال الشافعي» .
(3)
«فلا» ليست في ك.
(4)
«أنه» ليست في ز.
الله النكاح طريقًا إلى زوال ملك البضع ووقوع الطلاق، بل هذا يترتب عليه ضدُّ مقصوده
(1)
شرعًا وعقلًا وعرفًا، والعتق المترتب على الشراء ترتيبٌ لمقصوده عليه شرعًا وعرفًا، فأين أحدهما من الآخر؟ وكونه قد
(2)
سدَّ على نفسه باب ملك الرقيق فلا يخلو إما أن يعلّق ذلك تعليقًا مقصودًا أو تعليقًا قسميًّا؛ فإن كان مقصودًا فهو قد قصد التقرب إلى الله بذلك، فهو كما لو
(3)
التزم صوم الدهر وسدَّ على نفسه باب الفطر. وإن كان تعليقًا قسميًّا فله سعةٌ بما وسَّع الله عليه من الكفارة، كما أفتى به الصحابة رضي الله عنهم وقد تقدم.
فصل
وأما النقض الخامس بمن معه ألف دينار فاشترى بها جارية وأولدها، فهذا أيضًا نقضٌ فاسد؛ فإنه بمنزلة من أنفقها في شهواته وملاذِّه، وقعد ملومًا محسورًا، أو تزوج بها امرأة وقضى وطَرَه منها ونحو ذلك. فأين هذا من سدِّ باب الطلاق وبقاء المرأة كالغُلِّ في عنقه إلى أن يموت أحدهما؟
فصل
قولكم: «قد يكون له في هذه اليمين مصلحةٌ وغرض صحيح، بأن يكون محبًّا لزوجته، ويخشى وقوع الطلاق بالحلف أو غيره، فيسرِّحها» ، جوابه أن الشرائع العامة لم تُبْنَ على الصور النادرة، ولو كان لعموم المطلِّقين في هذا مصلحةٌ لكانت حكمةُ أحكم الحاكمين تمنع الرجل من الطلاق بالكلية،
(1)
ك: «لمقصوده» .
(2)
«قد» ليست في د.
(3)
«لو» ليست في ك.
وتجعل الرجل في ذلك بمنزلة المرأة لا تتمكن من فراق زوجها، ولكن حكمته سبحانه أولى وأليق من مراعاة هذه المصلحة الجزئية التي في مراعاتها تعطيل مصلحة أكبر منها وأهم. وقاعدة الشرع والقدر تحصيل أعلى المصلحتين وإن فات أدناهما، ودفعُ أعلى المفسدتين وإن وقع أدناهما. وهكذا ما نحن فيه سواء؛ فإن مصلحة تمليك الرجال الطلاقَ أعلى وأكبر من مصلحة سدِّه عليهم، ومفسدةُ سدِّه عليهم أكثر من مفسدة فتحه لهم المُفضِية إلى ما ذكرتم. وشرائع الرب تعالى كلها حِكَم ومصالح وعدل ورحمة، وإنما العبث والجور والشدة في خلافها، وبالله التوفيق.
وإنما أطلنا الكلام في هذه المسألة لأنها من أمهات الحيل وقواعدها، والمقصود بيان بطلان الحيل، وأنها لا تتمشَّى على قواعد الشريعة ولا أصول الأئمة، وكثير منها ــ بل أكثرها ــ من توليدات المنتسبين إلى
(1)
الأئمة وتفريعهم، الأئمة
(2)
بُرآء منها.
فصل
ومن الحيل الباطلة: الحيلة على [94/ب] التخلّص من الحنث بالخلع، ثم يفعل المحلوف عليه في حال البينونة، ثم يعود إلى النكاح. وهذه الحيلة باطلة شرعًا
(3)
، وباطلة على أصول أئمة الأمصار. أما بطلانها شرعًا فإن هذا خلع لم يشرعه الله ولا رسوله، وهو سبحانه لم يمكِّن الزوجَ من فسخ النكاح متى شاء؛ فإنه لازم، وإنما مكَّنه من الطلاق، ولم يجعل له فسخه إلا عند
(1)
«إلى» ليست في ك.
(2)
ك: «والأئمة» .
(3)
ز: «على شرعنا» .
التشاحن والتباغض إذا خافا أن لا يقيما حدود الله، فشرع لهما التخلُّص بالافتداء؛ وبذلك جاءت السنة. ولم يقع في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا زمن أصحابه
(1)
قطُّ خلع حيلة، ولا في زمن التابعين ولا تابعيهم، ولا نصَّ عليه أحد من الأئمة الأربعة وجعله طريقًا للتخلُّص من الحنث، وهذا من كمال فقههم رضي الله عنهم، فإن الخلع إنما جعله الشارع مقتضيًا للبينونة ليحصل مقصود المرأة من الافتداء من زوجها، وإنما يكون ذلك مقصودها إذا قصدت أن تفارقه على وجه لا يكون له عليها سبيل، فإذا حصل هذا ثم فعل المحلوف عليه وقع وليست زوجته فلا يحنث، وهذا إنما حصل تبعًا للبينونة التابعة لقصدها، فإذا خالعها ليفعل المحلوف عليه لم يكن قصدهما البينونة، بل حلّ اليمين، وحلُّ اليمين إنما يحصل
(2)
تبعًا للبينونة لا أنه المقصود بالخلع الذي شرعه الله
(3)
، وأما خلع
(4)
الحيلة فجاءت البينونة فيه لأجل حلّ اليمين، وحلُّ اليمين جاء لأجل البينونة؛ فليس عقد الخلع بمقصود في نفسه للرجل ولا للمرأة، والله تعالى لا يشرع عقدًا لا يقصد
(5)
واحد من المتعاقدين حقيقته، وإنما يقصدان به ضدَّ ما شرع له؛ فإنه شرع لتخلُّص المرأة من الزوج، والمتحيِّل يفعله لبقاء النكاح؛ فالشارع شرعه لقطع النكاح، والمتحيل يفعله لدوام النكاح.
(1)
ك: «الصحابة» .
(2)
ك: «حصل» .
(3)
في ز زيادة: «ورسوله» .
(4)
«خلع» ساقطة من ز.
(5)
ك: «إلا بقصد» .
فصل
(1)
والمتأخرون أحدثوا حيلًا لم يصح القول بها عن أحد من الأئمة، ونسبوها إلى الأئمة، وهم مخطئون في نسبتها إليهم، ولهم مع الأئمة موقف بين يدي الله. ومن عرف سيرة الشافعي وفضله ومكانه من الإسلام علم أنه لم يكن معروفًا بفعل الحيل، ولا بالدلالة عليها، ولا كان يشير على مسلمٍ بها.
وأكثر الحيل التي ذكرها المتأخرون المنتسبون إلى مذهبه من تصرفاتهم، تلقَّوها عن المشرقيين، وأدخلوها في مذهبه، وإن كان رحمه الله تعالى يُجري العقود على ظاهرها، ولا ينظر إلى قصد العاقد ونيته، كما تقدم حكاية كلامه. فحاشاه ثم حاشاه أن يأمر الناس بالكذب والخداع والمكر والاحتيال وما لا حقيقة له، بل ما يتيقن أن باطنه خلاف ظاهره، ولا يُظَنّ بمن دون الشافعي من أهل العلم والدين أنه يأمر أو يبيح ذلك؛ فالفرق بين أن لا يَعتبر القصدَ في العقد ويُجريه
(2)
على ظاهره وبين أن يسوِّغ عقدًا قد عُلم بناؤه على المكر والخداع وقد علم أن باطنه خلاف ظاهره.
فوالله ما سوَّغ الشافعي ولا إمام من الأئمة هذا العقد قطُّ، ومن نسب
(3)
ذلك إليه فهم خصماؤه عند الله؛ فالذي سوَّغه
(4)
الأئمة بمنزلة الحاكم
(1)
هذا الفصل منقول عن «بيان الدليل» (ص 161 - 164).
(2)
ك: «يحرمه» .
(3)
ك: «تسبب» .
(4)
ك: «يسوغه» .
يُجرِي الأحكام على [95/أ] ظاهر عدالة الشهود وإن كانوا في الباطن شهود زور، والذي سوَّغه أصحاب الحيل بمنزلة الحاكم يعلم أنهم في الباطن شهود زور كَذَبة وأن ما شهدوا به لا حقيقة له ثم يحكم بظاهر عدالتهم.
وهكذا في مسألة العِينة: إنما جوَّز الشافعي أن
(1)
يبيع السلعة ممن اشتراها منه، جريًا على ظاهر عقود المسلمين وسلامتها من المكر والخداع، ولو قيل للشافعي:«إن المتعاقدين قد تواطآ على ألف بألف ومائتين، وتراوضا على ذلك، وجعلا السِّلعة محللًا للربا» لم يجوِّز ذلك، ولأنكره غاية الإنكار.
ولقد كان الأئمة من أصحاب الشافعي ينكرون على من يَحكي عنه الإفتاء بالحيل، قال الإمام أبو عبد الله ابن بطَّة
(2)
: سألت أبا بكر الآجرِّي وأنا وهو في منزله بمكة عن هذا الخلع الذي يفتي به الناس، وهو أن يحلف رجل أن لا يفعل شيئًا، ولا بدَّ له من فعله، فيقال له: اخلع زوجتك وافعلْ ما حلفتَ عليه ثم راجِعْها، واليمين بالطلاق ثلاثًا، وقلت له: إن قومًا يفتون الرجل الذي يحلف بأيمان البيعة ويحنث أن لا شيء عليه، ويذكرون أن الشافعي لم يَرَ على من حلف بأيمان البيعة شيئًا. فجعل أبو بكر يَعجب من سؤالي عن هاتين المسألتين في وقت واحد، ثم قال لي
(3)
: منذ كتبتُ العلم وجلست للكلام فيه وللفتوى
(4)
ما أفتيتُ في هاتين المسألتين بحرف، ولقد
(1)
ك: «لمن» .
(2)
في «إبطال الحيل» (ص 133 - 134).
(3)
«لي» ليست في ك.
(4)
ك: «وللتقوى» ، تحريف.
سألت أبا عبد الله الزبيري عن هاتين المسألتين كما سألتني على
(1)
التعجب ممن يُقدِم على الفتوى فيهما، فأجابني فيهما بجواب كتبته عنه. ثم قام فأخرج لي كتاب «أحكام الرجعة والنشوز» من كتاب الشافعي، وإذا مكتوب على ظهره بخط أبي بكر: سألتُ أبا عبد الله الزبيري، فقلت له: الرجل يحلف بالطلاق ثلاثًا أن لا يفعل شيئًا، ثم يريد أن يفعله، وقلت له: إن أصحاب الشافعي يفتون فيها بالخلع، يخالع ثم يفعل، فقال الزبيري: ما أعرف هذا من قول الشافعي، ولا بلغني أن له في هذا قولًا معروفًا، ولا أرى من يذكر هذا عنه إلا مُحِيلًا.
والزبيري أحد الأئمة الكبار من الشافعية، فإذا كان هذا قوله وتنزيهه للشافعي عن خلع اليمين فكيف بحيل الربا الصريح وحيل التحليل وحيل إسقاط الزكاة والحقوق وغيرها من الحيل المحرمة؟
فصل
(2)
ولا بدَّ من أمرين:
أحدهما أعظم من الآخر، وهو النصيحة لله ورسوله وكتابه ودينه، وتنزيهه عن الأقوال الباطلة المناقضة لما بعث الله به رسوله من الهدى والبينات، التي هي خلاف الحكمة والمصلحة والرحمة والعدل، وبيان نفيها عن الدين وإخراجها منه، وإن أدخلها فيه من أدخلها بنوع تأويل.
والثاني: معرفة فضل أئمة الإسلام ومقاديرهم وحقوقهم ومراتبهم، وأن
(1)
ك: «عن» .
(2)
اعتمد المؤلف في هذا الفصل على «بيان الدليل» (ص 153 - 160).
فضلهم وعلمهم ونصحهم لله ورسوله لا يوجب قبولَ كل ما قالوه، وما وقع في فتاويهم من المسائل التي خفي عليهم فيها ما جاء به الرسول فقالوا بمبلغ علمهم والحقُّ في خلافها لا يوجب [95/ب] اطِّراحَ أقوالهم جملةً وتنقُّصَهم والوقيعةَ فيهم؛ فهذان طرفان جائران عن القصد، وقصدُ السبيل بينهما، فلا يُؤثَّم
(1)
ولا يُعصَم، فلا يُسْلَك بهم مسلك الرافضة في علي ولا مسلكهم في الشيخين، بل يُسلك مسلكهم أنفسهم فيمن قبلهم من الصحابة، فإنهم لا يؤثِّمونهم ولا يعصمونهم
(2)
، ولا يقبلون كل أقوالهم ولا يَهدُرونها. فكيف ينكرون علينا في الأئمة الأربعة مسلكًا يسلكونه هم في الخلفاء الأربعة وسائر الصحابة؟
ولا منافاةَ بين هذين الأمرين لمن شرح الله صدره للإسلام، وإنما يتنافيان عند أحد رجلين: جاهل بمقدار الأئمة وفضلهم، أو جاهل بحقيقة الشريعة التي بعث الله بها رسوله، ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعًا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان، قد تكون منه الهفوة والزلّة هو فيها معذور بل مأجور لاجتهاده؛ فلا يجوز أن يُتَّبع فيها، ولا يجوز أن تُهدَر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين.
قال عبد الله بن المبارك
(3)
: كنت بالكوفة فناظروني في النبيذ المختلَف فيه، فقلت لهم: تعالوا فلْيحتجَّ المحتجُّ منكم عمن شاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
ك: «نأثم» .
(2)
«ولا يعصمونهم» ليست في د.
(3)
نقل المؤلف هذه المناظرة عن «بيان الدليل» (ص 154).
بالرخصة، فإن لم يُبيَّن الردّ عليه عن ذلك الرجل بشدةٍ صحَّت عنه، فاحتجوا فما جاءوا عن أحد برخصة إلا جئناهم بشدة، فلما لم يبقَ في يد أحد منهم إلا عبد الله بن مسعود، وليس احتجاجهم عنه في شدة النبيذ بشيء يصح عنه، إنما يصح عنه أنه لم يُنتبذ له في الجرِّ الأخضر
(1)
.
قال ابن المبارك: فقلت للمحتج عنه في الرخصة: يا أحمق، عُدَّ أنَّ ابن مسعود لو
(2)
كان هاهنا جالسًا فقال: هو لك حلال، وما وصفنا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الشدة كان ينبغي لك أن تحذر أو تخشى. فقال قائلهم: يا أبا عبد الرحمن، فالنخعي والشعبي ــ وسمَّى عدة معهما ــ كانوا يشربون الحرام
(3)
، فقلت لهم: دعوا عند المناظرة تسمية الرجال، فربَّ رجل في الإسلام مناقبه كذا وكذا، وعسى أن تكون منه زلَّة، أفيجوز لأحدٍ أن يحتج بها؟ فإن أبيتم فما قولكم في عطاء وطاوس وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة؟ قالوا: كانوا خيارًا، قلت: فما قولكم في الدرهم بالدرهمين يدًا بيدٍ؟ قالوا: حرام، فقلت: إن هؤلاء رأوه حلالًا، أفماتوا
(4)
وهم يأكلون الحرام؟ فبُهِتوا وانقطعت حجتهم.
قال ابن المبارك: ولقد أخبرني المعتمر بن سليمان قال: رآني أبي
(5)
(1)
رواه عبد الرزاق (16951) وابن أبي شيبة (24383) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (4/ 220).
(2)
«لو» ليست في ك.
(3)
رواه ابن أبي شيبة (24392).
(4)
همزة الاستفهام ليست في ك.
(5)
«أبي» ليست في ك.
وأنا أُنشِد الشعر، فقال: يا بنيَّ لا تنشد الشعر، فقلت: يا أبَه، كان الحسن يُنشد، وكان ابن سيرين يُنشد، فقال: أي بنيَّ إن أخذتَ بشرِّ ما في الحسن وبشرِّ ما في ابن سيرين اجتمع فيك الشر كله.
قال شيخ الإسلام
(1)
: وهذا الذي ذكره ابن المبارك متفق عليه بين العلماء، فإنه ما من أحد من أعيان الأئمة من السابقين الأولين ومن بعدهم إلا وله أقوال وأفعال خفي عليهم فيها السنة.
قلت: وقد قال أبو عمر بن عبد البر في أول «استذكاره»
(2)
.
[96/أ] قال شيخ الإسلام
(3)
: وهذا باب واسع لا يُحصى، مع أن ذلك لا يغُضُّ من أقدارهم، ولا يسوغ اتّباعهم فيها، قال سبحانه:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]. قال مجاهد
(4)
والحكم بن عُتَيبة
(5)
ومالك
(6)
وغيرهم: ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي
(1)
في «بيان الدليل» (ص 155).
(2)
بعدها بياض في النسختين ز، د. وكأن المؤلف أراد أن ينقل عنه، فلم يجد الوقت لمراجعته، فبيَّض له. وانظر هذا المعنى في «الاستذكار» (1/ 188).
(3)
في «بيان الدليل» (ص 155).
(4)
رواه البيهقي في «المدخل» (1/ 107) والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 441) وابن حزم في «الإحكام» (6/ 145) وابن عبد البر في «الجامع» (1762 - 1765).
(5)
رواه ابن عبد البر في «الجامع» (1761) ومن طريقه ابن حزم في «الإحكام» (6/ 317).
(6)
لم أجده مسندًا مع شهرته، وقال الألباني في «أصل صفة الصلاة» (1/ 27):«نسبة هذا إلى مالك هو المشهور عند المتأخرين، وصححه عنه ابن عبد الهادي [ابن المبرد] في «إرشاد السالك» (227/أ)». وقد طبع الكتاب، وهو في (ص 402).
- صلى الله عليه وسلم. وقال سليمان التيمي
(1)
: إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله.
قال ابن عبد البر
(2)
: هذا إجماع لا أعلم فيه خلافًا.
وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في هذا المعنى ما ينبغي تأمله
(3)
:
فروى كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
(4)
: «إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمالٍ ثلاثة» ، قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: «إني
(5)
أخاف عليهم من زَلَّة العالم، ومن حكم الجائر، ومن هوى مُتَّبَع»
(6)
.
وقال زياد بن حُدَير: قال عمر: ثلاث يَهدِمْنَ الدين: زلّة عالم
(7)
،
(1)
رواه أبو نعيم في «الحلية» (3/ 32) وابن عبد البر في «الجامع» (1767).
(2)
في «الجامع» (2/ 927).
(3)
نقل المؤلف هذه الآثار من «بيان الدليل» (ص 155 - 157). وتقدم تخريجها.
(4)
«يقول» ليست في ز.
(5)
«إني» ليست في ك.
(6)
رواه البزار (3384) والطبراني (17/ 17) والبيهقي في «المدخل» (830) وابن عبد البر في «الجامع» (1865) كلهم بهذا الطريق. وكثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف متروك، والحديث ضعَّفه ابن عدي في «الكامل» (7/ 189) وابن مفلح في «الآداب الشرعية» (2/ 50) والهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/ 187).
(7)
ك: «العالم» .
وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مُضِلّون
(1)
.
وقال الحسن: قال أبو الدرداء: إن مما أخشى عليكم زلَّة العالم وجدالَ المنافق بالقرآن، والقرآن حق، وعلى القرآن مَنارٌ كأعلام الطريق
(2)
.
وكان معاذ بن جبل يقول في خطبته كل يوم، قلَّما يُخطِئه أن يقول ذلك: الله حَكَم قِسْطٌ، هلك المرتابون، إن وراءكم فِتنًا يكثر فيها المال، ويُفتح فيها القرآن، حتى يقرأه المؤمن والمنافق والمرأة والصبي والأسود والأحمر، فيوشك أحدهم أن يقول: قد قرأتُ القرآن فما أظنُّ أن يتبعوني حتى أبتدعَ لهم غيرَه. فإياكم وما ابُتدِع، فإن كل بدعة ضلالة، وإياكم وزَيْغةَ الحكيم، فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة، وإن المنافق قد يقول كلمة الحق، فتلقَّوا الحقَّ عمن جاء به، فإنّ على الحق نورًا. قالوا: كيف زَيْغة الحكيم؟ قال: هي كلمة تَرُوعكم وتنكرونها وتقولون ما هذه، فاحذروا زَيغته، ولا تصدَّنكم عنه، فإنه يوشك أن يفيء ويراجع
(3)
الحقَّ،
(1)
رواه الدارمي (675) وأبو نعيم في «الحلية» (4/ 194) والبيهقي في «المدخل» (1/ 443) وابن عبد البر في «الجامع» (1867،1869، 1870) من طرق عن زياد بن حدير به. قال ابن كثير في «مسند الفاروق» (2/ 662): هذه طرق يشدّ القوي منها الضعيف، فهي صحيحة من قول عمر. وصححه الألباني في «هداية الرواة» (1/ 172).
(2)
رواه أحمد في «الزهد» (1/ 143) وأبو نعيم «الحلية» (1/ 219) وابن عبد البر في «الجامع» (186) من طريق الحسن به، وهو منقطع بين الحسن وأبي الدرداء. ينظر:«المراسيل» لابن أبي حاتم (ص 44).
(3)
ك: «وأن يراجع» .
وإن العلم والإيمان مكانَهما إلى يوم القيامة، فمن ابتغاهما وجدهما
(1)
.
وقال سلمان الفارسي: كيف أنتم عند ثلاثٍ: زلَّة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تَقْطع أعناقكم؟ فأما زلّة العالم فإن اهتدى فلا تقلِّدوه دينَكم وتقولون نصنع مثل ما يصنع فلان، وإن أخطأ فلا تقطعوا إياسَكم منه فتُعِينوا عليه الشيطانَ. وأما مجادلة منافق بالقرآن فإن للقرآن منارًا كمنار الطريق، فما عرفتم منه فخذوا، وما لم تعرفوا
(2)
فكِلُوه إلى الله سبحانه. وأما دنيا تقطع أعناقكم فانظروا إلى من هو دونكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم
(3)
.
وعن ابن عباس: ويلٌ للأتباع من عَثَرات العالم، قيل: كيف ذلك؟ قال: يقول العالم شيئًا برأيه ثم يجد من هو أعلم منه برسول الله صلى الله عليه وسلم فيترك قوله ثم يمضي الأتباع
(4)
. ذكر أبو عمر
(5)
هذه [96/ب] الآثار كلها وغيره.
فإن
(6)
كنا قد حُذِّرنا زلَّة العالم وقيل لنا: إنها من أخوف ما يُخاف علينا، وأُمِرنا مع ذلك أن لا نرجع عنه، فالواجب على من شرح الله صدره للإسلام إذا بلغته مقالة ضعيفة عن بعض الأئمة أن لا يحكيها لمن يتقلَّدها، بل
(1)
رواه عبد الرزاق (20750) والدارمي (205) وأبو داود (4611)، وإسناده صحيح.
(2)
ز: «تعرفوه» .
(3)
رواه ابن عبد البر في «الجامع» (1873)، وإسناده ضعيف. والأثر صحيح من قول معاذ، صححه أبو نعيم في «الحلية» (5/ 97).
(4)
رواه البيهقي في «المدخل» (1/ 445) وابن عبد البر في «الجامع» (1877) والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 347).
(5)
أي ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» ، وقد سبقت الإحالات إليه.
(6)
ك: «فإذا» .
يسكت عن ذكرها إن تيقَّن صحتها، وإلا توقَّف في قبولها؛ فكثيرًا ما يُحكَى عن الأئمة ما لا حقيقة له، وكثير من المسائل يُخرِجها بعض الأتباع على قاعدة متبوعه مع أن ذلك الإمام لو رأى أنها تُفضِي إلى ذلك لما التزمها.
وأيضًا فلازم المذهب ليس بمذهب، وإن كان لازم النص حقًّا
(1)
؛ لأن الشارع لا يجوز عليه التناقض، فلازم قوله حق، وأما من عداه فلا يمتنع عليه أن يقول الشيء ويَخفى عليه لازمُه، ولو علم أن هذا لازمه لما قاله؛ فلا يجوز أن يقال: هذا مذهبه، ويقول ما لم يقله، وكلُّ من له علم بالشريعة وقدرها وبفضل الأئمة ومقاديرهم وعلمهم وورعهم ونصيحتهم للدين تيقَّن أنهم لو شاهدوا أمر هذه الحيل وما أفضَتْ إليه من التلاعب بالدين لقطعوا بتحريمها.
ومما يوضح ذلك أن الذين أفتَوا من العلماء ببعض مسائل الحيل وأخذوا ذلك من بعض قواعدهم لو بلغهم ما جاء في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لرجعوا عن ذلك يقينًا، فإنهم كانوا في غاية الإنصاف، وكان أحدهم يرجع عن رأيه بدون ذلك، وقد صرَّح بذلك غير واحد منهم وإن كانوا كلهم مجمعين على ذلك. قال الشافعي
(2)
: إذا صحَّ الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضربوا بقولي الحائط، وهذا وإن كان لسان الشافعي فإنه لسان الجماعة كلهم، ومن الأصول التي اتفق عليها الأئمة أن أقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المنتشرة لا تُترك إلا بمثلها.
يوضِّح ذلك أن القول بتحريم الحيل قطعي ليس من مسالك الاجتهاد؛
(1)
ك: «حق» .
(2)
سبق توثيقه.
إذ لو كان من مسالك الاجتهاد لم يتكلم الصحابة والتابعون والأئمة في أرباب الحيل بذلك الكلام الغليظ الذي ذكرنا منه اليسير من الكثير. وقد اتفق السلف على أنها بدعة محدثة؛ فلا يجوز تقليد من يفتي بها، ويجب نقضُ حكمه، ولا يجوز الدلالة للمقلِّد على من يفتي بها، وقد نصَّ الإمام أحمد على ذلك كله، ولا خلاف في ذلك بين الأئمة، كما أن المكيين والكوفيين لا يجوز تقليدهم في مسألة المتعة والصرف والنبيذ، ولا يجوز تقليد بعض المدنيين في مسألة الحشوش و [هي] إتيانِ النساء في أدبارهن، بل عند فقهاء الحديث
(1)
أن من شرب النبيذ المختلَف فيه حُدَّ، وهذا فوق الإنكار باللسان، بل عند فقهاء أهل المدينة يُفسَّق، ولا تُقبل شهادته.
وهذا يردُّ قول من قال: لا إنكارَ في المسائل المختلف فيها، وهذا خلاف
(2)
إجماع الأئمة، ولا يُعلم إمام من أئمة الإسلام قال ذلك. وقد نصَّ الإمام أحمد على أن من تزوَّج ابنته من الزنا يُقتَل، والشافعي وأحمد ومالك لا يرون خلاف أبي حنيفة في مَن تزوَّج أمه وابنته أنه يُدرأ عنه [97/أ] الحدُّ بشبهةٍ دارئةٍ للحد، بل عند الإمام أحمد رضي الله عنه يُقتل، وعند الشافعي ومالك يُحدُّ حدَّ الزنا في هذا
(3)
، مع أن القائلين بالمتعة والصرف معهم سنة وإن كانت منسوخة، وأرباب الحيل ليس معهم سنة، ولا أثرٌ عن صاحب، ولا قياس صحيح.
وقولهم: «إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها» ليس بصحيح؛ فإن الإنكار
إما أن يتوجه إلى القول والفتوى أو العمل، أما الأول فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعا سابقًا
(1)
وجب إنكاره اتفاقًا، وإن لم يكن كذلك فإن بيان ضعفه ومخالفته للدليل إنكار مثله. وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره بحسب درجات الإنكار، وكيف يقول فقيه: لا إنكار في المسائل المختلف فيها والفقهاء من سائر الطوائف قد صرَّحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالف كتابًا أو سنة وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء؟ وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغٌ لم يُنكَر على من عمل بها مجتهدًا أو مقلّدًا
(2)
.
وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس ممن ليس لهم تحقيق في العلم.
والصواب ما عليه الأئمة
(3)
أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوبًا ظاهرًا، مثل حديث صحيح لا معارضَ له من جنسه فيَسُوغُ ــ إذا عُدِم فيها الدليل الظاهر الذي يجب العمل به ــ الاجتهادُ، لتعارض الأدلة أو لخفاء الأدلة فيها. وليس في قول العالم:«إن هذه المسألة قطعية أو يقينية، أو لا يَسُوغ فيها الاجتهاد» طعنٌ على من خالفها، ولا نسبةٌ له إلى تعمُّدِ خلاف الصواب.
والمسائل التي اختلف فيها السلف والخلف وقد تيقّنا صحةَ أحد
(1)
د: «شائعًا» .
(2)
ك: «ومقلدا» .
(3)
ك: «الأمة» .
القولين فيها كثير، مثل كون الحامل تعتدُّ بوضع الحمل، وأن إصابة الزوج الثاني شرط في حلِّها للأول، وأن الغسل يجب بمجرد الإيلاج وإن لم يُنزِل، وأن ربا الفضل حرام، وأن المتعة حرام، وأن النبيذ المسكر حرام، وأن المسلم لا يُقتَل بالكافر، وأن المسح على الخفين جائز حضرًا وسفرًا، وأن السنة في الركوع وضع اليدين على الركبتين دون التطبيق، وأن رفع اليدين عند الركوع والرفع منه سنة، وأن الشفعة ثابتة في الأرض والعقار، وأن الوقف صحيح لازم، وأن دية الأصابع سواء، وأن يد السارق تُقطَع في ثلاثة دراهم، وأن الخاتم من
(1)
الحديد يجوز أن يكون صداقًا، وأن التيمم إلى الكُوعَين بضربة واحدة جائز، وأن صيام الولي عن الميت يُجزِئ عنه، وأن الحاج يلبِّي حتى يرمي جمرة العقبة، وأن المُحرِم له استدامة الطيب دون ابتدائه، وأن السنة أن يسلِّم في الصلاة عن يمينه وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله
(2)
. وأن خيار المجلس ثابت في البيع، وأن المصرَّاة يُردُّ معها عوض [96/ب] اللبن صاعًا من تمر، وأن صلاة الكسوف بركوعين في كل ركعة، وأن القضاء جائز بشاهد ويمين، إلى أضعاف أضعاف ذلك من المسائل. ولهذا صرَّح
(3)
الأئمة بنقض حكم من حكم بخلاف كثير من هذه المسائل، من غير طعن منهم على من قال بها.
(1)
«من» ليست في ك.
(2)
رواه أحمد (3699) وأبو داود (996) والترمذي (295) والنسائي (1142) وابن ماجه (914)، وصححه الطحاوي في «معاني الآثار» (1/ 267) وابن خزيمة (728) وابن حبان (1990) والبيهقي (2/ 177) وغيرهم.
(3)
د، ك:«يصرح» .
وعلى كل حال فلا عذرَ عند الله يوم لقائه لمن بلغه ما في المسألة من هذا الباب وغيره من الأحاديث والآثار التي لا معارضَ لها إذا نبذها وراء ظهره، وقلَّد من نهاه عن تقليده، وقال له: لا يحلُّ لك أن تقول بقولي إذا خالف السنة، وإذا صح الحديث فلا تعبأْ بقولي. وحتى لو لم يقل له ذلك لكان هذا هو الواجب عليه وجوبًا لا فُسحةَ له فيه، وحتى لو قال له خلاف ذلك لم يسَعْه إلا اتباع الحجة، ولو لم يكن في هذا الباب شيء من الأحاديث والآثار البتةَ، فإن المؤمن يعلم بالاضطرار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلِّم أصحابه هذه
(1)
الحيل، ولا يدلُّهم عليها، ولو بلغه عن أحد فعلُ شيء منها لأنكر عليه، ولم يكن أحد من أصحابه يفتي بها ولا يعلِّمها، وذلك مما يقطع به كل من له أدنى اطلاع على أحوال القوم وسيرتهم وفتاويهم. وهذا القدر لا يحتاج إلى دليل أكثر من معرفة حقيقة الدين الذي بعث الله به رسوله.
فصل
فلنرجع إلى المقصود، وهو بيان بطلان هذه الحيل على التفصيل، وأنها لا تتمشَّى لا على قواعد الشرع ومصالحه وحكِمَه ولا على أصول الأئمة.
قال شيخنا
(2)
: ومن الحيل الجديدة التي لا أعلم بين فقهاء الطوائف خلافًا في تحريمها: أن يريد الرجل أن يقف على نفسه وبعد موته على جهات متصلة، فيقول له أرباب الحيل: أَقِرَّ أن هذا المكان الذي بيدك وقفٌ
(1)
ك: «هذا» .
(2)
في «بيان الدليل» (ص 149 - 150).
عليك من غيرك، ويعلّمونه الشروط التي يريد إنشاءها، فيجعلها إقرارًا؛ فيعلّمونه الكذب في الإقرار، ويشهدون على الكذب وهم يعلمون، ويحكمون بصحته. ولا يستريب مسلم في أن هذا حرام؛ فإن الإقرار شهادة من الإنسان على نفسه، فكيف يلقّن شهادة الزور
(1)
ويشهد عليه بصحتها؟ ثم إن كان وقف الإنسان على نفسه باطلًا في دين الله فقد علَّمتموه حقيقة الباطل؛ فإن الله سبحانه قد علم أن هذا لم يكن وقفًا قبل الإقرار، ولا صار وقفًا بالإقرار الكاذب، فيصير المال حرامًا على من يتناوله إلى يوم القيامة، وإن كان وقف الإنسان على نفسه صحيحًا فقد أغنى الله سبحانه عن تكلُّف الكذب.
قلت: وإن قيل: إنه
(2)
مسألة خلاف يسوغ فيها الاجتهاد، فإذا وقَفَه على نفسه كان لصحته مساغٌ، لما فيه من الاختلاف السائغ، وأما الإقرار بوقفه من غير إنشاء متقدم فكذب بحتٌ، ولا يجعله ذلك وقفًا اتفاقًا إذا
(3)
أخذ الإقرار على حقيقته، ومعلوم قطعًا أن تقليد الإنسان لمن يفتي بهذا القول ويذهب إليه أقربُ إلى الشرع والعقل من توصُّله إليه بالكذب والزور والإقرار الباطل؛ فتقليد عالم من علماء المسلمين أعذرُ عند الله من تلقين الكذب والشهادة عليه.
فصل
ولهم حيلة أخرى، وهي أن الذي يريد الوقف يملِّكه لبعض من [98/أ]
(1)
ك: «زور» .
(2)
ك: «إنها» .
(3)
ز: «فإذا» .
يثق به، ثم يقِفُه ذلك المملَّك
(1)
عليه بحسب اقتراحه. وهذا لا شك في قبحه وبطلانه؛ فإن التمليك المشروع المعقول أن يرضى المملِّك بنقل المِلك إلى المملَّك بحيث يتصرف فيه بما يجب من وجوه التصرفات، وهنا قد علم الله سبحانه والحفظة الموكَّلون بالعبد ومن يشاهدهم من بني آدم من هذا المملّك أنه لم يرضَ بنقل الملك إلى هذا، ولا خطر له على بالٍ، ولو سأله درهمًا واحدًا فلعله كان لم
(2)
يسمح عليه به، ولم يرضَ بتصرُّفه فيه إلا بوقفه على المملَّك
(3)
خاصة، بل قد ملَّكه إياه بشرط أن يتبرَّع عليه به وقفًا، إما شرط مذكور وإما شرط معهود متواطأ عليه، وهذا تمليك فاسد قطعًا، وليس بهبة ولا صدقة ولا هدية ولا وصية
(4)
ولا إباحة، وليس هذا بمنزلة العمرى والرُّقبى المشروط فيها العود إلى المُعمِر، فإنه هناك ملَّكه التصرُّفَ فيه وشرطَ العودَ، وهنا لم يملِّكه شيئًا، وإنما تكلَّم بلفظ التمليك غير قاصد معناه، والموهوب له يصدِّقه أنهما لم يقصدا حقيقة الملك، بل هو استهزاء بآيات الله وتلاعبٌ بحدوده، وسنذكر إن شاء الله في الفصل الذي بعد هذا الطريقَ الشرعية المُغنِية عن هذه الحيلة الباطلة.
فصل
ومن الحيل الباطلة: تحيُّلُهم على إيجار الوقف مائة سنة مثلًا، وقد شرط الواقف أن لا يُؤجِر أكثر من سنتين أو ثلاثًا؛ فيُؤجِره المدةَ الطويلة في
(1)
ك: «المملوك» .
(2)
«لم» ليست في النسخ، وقد زيدت في هامش د.
(3)
ك: «الملك» .
(4)
«وهذا تمليك
…
ولا وصية» ساقطة من ز.
عقود متفرقة في مجلس واحد.
وهذه الحيلة باطلة قطعًا، فإنه إنما قصد بذلك دفع المفاسد المترتبة على طول مدة الإجارة، فإنها مفاسد كثيرة جدًّا، وكم قد ملك من الوقوف بهذه الطريق وخرج عن الوقفية بطول المدة واستيلاء المستأجر فيها على الوقف هو وذريته وورثته سنين
(1)
بعد سنين، وكم فات البطون اللواحق من منفعة الوقف بالإيجار الطويل، وكم أُوجِر الوقفُ بدون إجارة مثله لطول
(2)
المدة وقبض الأجرة، وكم زادت أجرة الأرض أو العقار أضعافَ ما كانت ولم يتمكَّن الموقوف عليه من استيفائها. وبالجملة فمفاسد هذه الإجارة تفوت العدَّ، والواقف إنما قصد دفعها، وخشي منها بالإجارة الطويلة، فصرَّح بأنه لا يُؤجِر أكثر من تلك المدة التي شرطها، فإيجاره أكثر منها سواء كان في عقدٍ أو عقودٍ مخالَفةٌ صريحة لشرطه، مع ما فيها من المفسدة بل المفاسد العظيمة.
ويا لله العجب! هل تزول هذه المفاسد بتعدد العقود في مجلس واحد؟ وأي غرض للعاقل أن يمنع الإجارة لأكثر من تلك المدة ثم يجوِّزها في ساعة واحدة، في عقود متفرقة؟ وإذا آجرَه في عقود متفرقة أكثر من ثلاث سنين، أيصح أن يقال: وفَى بشرط
(3)
الواقف ولم يخالفه؟ هذا من أبطل الباطل وأقبح الحيل، وهو مخالف لشرط الواقف ومصلحة الموقوف عليه، وتعريضٌ لإبطال هذه الصدقة، وأن لا يستمر نفعها، ولا يصل إلى من بعد
(1)
في جميع النسخ: «سنينا» .
(2)
ك: «ولطول» .
(3)
ك: «شرط» .
الطبقة الأولى وما قاربها
(1)
، فلا يحلُّ لمفتٍ أن يفتي بذلك، ولا لحاكم أن يحكم به، ومتى حكم به نُقِض حكمه، اللهم إلا أن يكون فيه مصلحة الوقف، بأن يخرب ويتعطّل نفعه [98/ب] فتدعو الحاجة إلى إيجاره مدة طويلة يعمر فيها بتلك الأجرة، فهنا يتعيَّن مخالفة شرط الواقف تصحيحًا لوقفه واستمرارًا لصدقته، وقد يكون هذا خيرًا من بيعه والاستبدال به، وقد يكون البيع والاستبدال خيرًا من الأجرة
(2)
، والله يعلم المُفسِد من المصلح.
والذي يُقضَى منه العجب: التحيلُ على مخالفة شرط الواقف وقصده الذي يقطع بأنه قصده مع ظهور المفسدة، والوقوف مع ظاهر شرطه ولفظه المخالف لقصده وللكتاب
(3)
والسنة ومصلحة الموقوف عليه، بحيث يكون مرضاة الله ورسوله ومصلحة الواقف وزيادة أجره ومصلحة الموقوف عليه وحصول الرفق به مع كون العمل أحبَّ إلى الله ورسوله= لا يغيِّر شرطَ الواقف، ويجري مع ظاهر لفظه، وإن ظهر قصده بخلافه.
وهل هذا إلا من قلة الفقه؟ بل من عدمه
(4)
، فإذا تحيَّلتم على إبطال مقصود الواقف حيث يتضمن المفاسد العظيمة فهلَّا تحيلتم على مقصوده ومقصود الشارع حيث يتضمن المصالح الراجحة بتخصيص لفظه أو تقييده أو تقديم شرط الله عليه؟ فإن شرط الله أحقُّ وأوثقُ، بل يقولون هاهنا: نصوص الواقف كنصوص الشارع، وهذه جملة من أبطل الكلام، وليس
لنصوص الشارع نظير من كلام غيره أبدًا، بل نصوص الواقف يتطرَّق إليها التناقض والاختلاف، ويجب إبطالها إذا خالفت نصوص الشارع وإلغاؤها، ولا حرمةَ لها حينئذٍ البتةَ، ويجوز بل يترجح مخالفتها إلى ما هو أحبُّ إلى الله ورسوله منها وأنفع للواقف والموقوف عليه، ويجوز اعتبارها والعدول
(1)
عنها مع تساوي الأمرين، ولا يتعيَّن الوقوف معها. وسنذكر إن شاء الله فيما بعدُ ونبيِّن ما يحلُّ الإفتاء به
(2)
وما لا يحلُّ من شروط الواقفين؛ إذ
(3)
القصد بيان بطلان هذه الحيلة شرعًا وعرفًا ولغةً.
فصل
ومن الحيل الباطلة: ما لو حلف أن لا يفعل شيئًا، ومثله لا يفعله بنفسه أصلًا، كما لو حلف السلطان أن لا يبيع كذا، ولا يحرث هذه الأرض ولا يزرعها، ولا يُخرِج هذا من بلده، ونحو ذلك، فالحيلة أن يأمر غيره أن يفعل ذلك، ويَبَرُّ
(4)
في يمينه إذا لم يفعله بنفسه.
وهذا من أبرد الحيل وأسمجِها وأقبحها، وفعل ذلك هو الحنث الذي حلف عليه بعينه، ولا يشكُّ
(5)
في أنه حانث، ولا أحد من العقلاء، وقد علم الله ورسوله والحَفَظَة ــ بل والحالف نفسه ــ أنه إنما حلف على نفي الأمر
(1)
ك: «والعدل» .
(2)
«به» ليست في ك.
(3)
ك: «إذا» .
(4)
ك: «ويبين» ، تحريف.
(5)
ك: «ولا شك» .
والتمكين من ذلك، لا على مباشرته. والحيل إذا أفضَتْ إلى مثل هذا سَمُجَت غاية السماجة، ويلزم أرباب الحيل ــ والظاهر أنهم يقولون ــ أنه
(1)
إذا حلف أن لا يكتب لفلان توقيعًا ولا عهدًا ثم أمر كتَّابه أن يكتبوه له، فإنه لا يحنث، سواء كان أميًّا أو كاتبًا، وكذلك إذا حلف أن لا يحفر هذا البئر، ولا يُكرِي هذا النهر، فأمر غيره بحفْره وإكرائه أنه لا يحنث.
فصل
ومن الحيل الباطلة: لو حلف لا يأكل هذا الرغيف، أو لا يسكن في الدار هذه السنة، أو لا يأكل هذا الطعام، فليأكل الرغيف [99/أ] ويَدَعْ منه لقمة واحدة، ويسكن السنة كلها إلا يومًا واحدًا، ويأكل الطعام كله إلا القدر اليسير منه ولو أنه لقمة.
وهذه حيلة باردة باطلة، ومتى فعل ذلك فقد أتى بحقيقة الحنث، وفعل نفس ما حلف عليه، وهذه الحيلة لا تتأتى على قول من يقول: يحنث بفعل بعض المحلوف عليه، ولا على قول من يقول: لا يحنث، لأنه لم يرد مثل هذه الصورة قطعًا، وإنما أراد به إذا أكل لقمة مثلًا من الطعام الذي حلف أنه لا يأكله أو حبَّةً من القِطْف
(2)
الذي حلف على تركه، ولم يُرِد أنه يأكل القطف إلا حبة واحدة منه، وعالم لا يقول هذا.
ثم يَلزم هذا المتحيلَ أن يجوِّز للمكلَّف فعلَ كل ما نهى الشارع عن جملته فيفعله إلا القدر اليسير منه، فإن البرّ والحِنث في الأيمان نظيرُ الطاعة
(1)
«أنه» ليست في ك.
(2)
العنقود ساعةَ يُقطَف.
والمعصية في الأمر والنهي، ولذلك لا يبرُّ إلا بفعل المحلوف عليه جميعه، لا بفعلِ بعضه، كما لا يكون مطيعًا إلا بفعله جميعه، ويحنث بفعل بعضه كما يعصي بفعل بعضه، فيلزم هذا القائلَ أن يجوِّز للمُحرِم في الإحرام حلقَ تسعة أعشار رأسه، بل وتسعة أعشار العُشر الباقي؛ لأن الله سبحانه إنما نهاه عن حلق رأسه كله لا عن بعضه، كما يفتي لمن حلف لا يحلق رأسه أن يحلقه إلا القدر اليسير منه.
وتأملْ لو فعل المريض هذا فيما نهاه الطبيب عن تناوله، هل يُعدُّ قابلًا منه؟ أو لو فعل مملوك الرجل أو زوجته أو ولده ذلك فيما نهاهم عنه، هل يكونون مطيعين له أم مخالفين؟ وإذا تحيل أحدهم على نقض غرض الآمر
(1)
وإبطاله
(2)
بأدنى الحيل، هل كان يقبل ذلك منه ويحمده عليه أو يعذره؟ وهل يعذر أحدًا
(3)
من الناس يعامله بهذه الحيل؟ فكيف يُعامل هو مَن لا تخفى عليه خافية؟
فصل
ومن الحيل الباطلة المحرمة: ما لو أراد الأب إسقاط حضانة الأم أن يسافر إلى غير بلدها، فيتبعه الولد.
وهذه الحيلة مناقضة لما قصده الشارع؛ فإنه جعل الأم أحقَّ بالولد من الأب، مع قرب الدار وإمكان اللقاء كل وقت لو قضى به للأب، وقضى أن لا
(1)
ز: «للآمر» .
(2)
ز: «رابطًا له» ، تحريف.
(3)
د: «أحد» .
تُولَّه والدةٌ على ولدها
(1)
، وأخبر أن من فرَّق بين والدةٍ وولدِها فرَّق الله بينه وبين أحبَّته يوم القيامة
(2)
، ومنع أن تُباع
(3)
الأم دون ولدها والولد دونها، وإن كانا في بلد واحد
(4)
، فكيف يجوز مع هذا التحيلُ على التفريق بينها وبين ولدها تفريقًا تعِزُّ معه رؤيته ولقاؤه ويعِزُّ عليها الصبر عنه وفقده؟ هذا من أمحل المحال، بل قضاء الله ورسوله أحقُّ أن الولد للأم؛ سافر الأب أو أقام، والنبي صلى الله عليه وسلم قال للأم:«أنتِ أحقُّ به ما لم تَنْكحِي»
(5)
، فكيف يقال: أنتِ أحقُّ به ما لم تسافري مع الأب؟ وأين هذا في كتاب الله أو سنة رسوله أو فتاوى أصحابه أو القياس الصحيح؟ فلا نص ولا قياس ولا مصلحة.
فصل
ومن الحيل الباطلة المحرمة: إذا أراد حرمانَ امرأته الميراثَ، أو كانت
(1)
رواه البيهقي (8/ 5) عن أبي بكر مرفوعًا. وفي إسناده ابن لهيعة، ضعيف.
(2)
رواه أحمد (23498) والترمذي (1283، 1566) والدارقطني (3/ 67) والحاكم (2/ 55) عن أبي أيوب الأنصاري. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. والحديث حسن بمجموع طرقه وشواهده. انظر تعليق المحققين على «المسند» .
(3)
ز: «تنازع» . ك: «ابتاع» .
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
رواه أبو داود (2276) والحاكم (2/ 208) والبيهقي (8/ 4 - 5) من طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن عمرو بن شعيب به، وهذا الإسناد صحيح. وله طرق أخرى عن عمرو. والحديث صححه ابن الملقن في «البدر المنير» (8/ 317) وابن كثير في «إرشاد الفقيه» (2/ 250) وأحمد شاكر في تحقيق «المسند» (10/ 177)، وحسَّنه الألباني في «الإرواء» (2187).
تركته كلها عبيدًا وإماءً فأراد [99/ب] جعل تدبيرهم من رأس المال، أن يقول في الصورة الأولى: إذا متُّ من مرضي هذا فأنت
(1)
طالق قبل مرضي بساعة ثلاثًا، ويقول في الصورة الثانية: إذا متُّ في مرضي هذا فأنتم عُتقاء قبلَه بساعة، وحينئذٍ فيقع الطلاق والعتق في الصحة.
وهذه حيلة باطلة؛ فإن التعليق إنما وقع منه في حال مرض موته، ولم يقارِنْه أثره، وهو في هذه الحال لو نجَّز العتق والطلاق لكان العتق من الثلث والطلاق غير مانع للميراث، مع مقارنة أثره له، وقوةِ المنجَّز وضعفِ المعلَّق. وأيضًا فالشرط هو موته في
(2)
مرضه، والجزاء المعلَّق عليه هو العتق والطلاق، والجزاء يستحيل أن يسبق شرطه؛ إذ في ذلك إخراج الشرط عن حقيقته وحكمه، وقد تقدَّم تقرير ذلك في الحيلة السُّريجية.
فصل
ومن الحيل الباطلة المحرمة: إذا كان مع أحدهما دينار رديء ومع الآخر نصف دينار جيد، فأرادا بيع أحدهما بالآخر، قال أرباب الحيل: الحيلة أن يبيعه دينارًا بدينار في الذمة، ثم يأخذ البائع الدينار الذي يريد شراءه
(3)
بالنصف، فيريد الآخر دينارًا عوضه، فيدفع إليه نصف الدينار وفاء، ثم يستقرضه منه، فيبقى له في ذمته نصف دينار، ثم يعيده إليه وفاء عن قرضه، فيبرأ منه، ويفوز كلٌّ منهما بما كان مع الآخر.
(1)
ز: «فأنتي» .
(2)
ك: «من» .
(3)
ك: «اشتراه» .
ومثل هذه الحيلة لو أراد أن يجعل بعض رأس مال السَّلَم دَينًا
(1)
يوفيه إياه في وقت آخر، بأن يكون معه نصف دينار ويريد أن يُسلِم إليه دينارًا في كُرِّ
(2)
حنطةٍ، فالحيلة أن يُسلِم إليه دينارًا غير معين، ثم يوفيه نصف الدينار، ثم يعود فيستقرضه منه، ثم يوفيه إياه عما له عليه من الدين، فيتفرقان وقد بقي له في ذمته نصف دينار.
وهذه الحيلة من أقبح الحيل؛ فإنهما لا يخرجان بها عن بيع دينار بنصف دينار، ولا عن تأخير رأس مال السَّلَم عن مجلس العقد، ولكن توصَّلا إلى ذلك بالقرض الذي جعلا صورته مبيحة لصريح الربا، ولتأخير قبض رأس مال السَّلَم، وهذا غير القرض الذي جاءت به الشريعة، وهو قرض لم يشرعه الله، وإنما اتخذه المتعاقدان تلاعبًا بحدود الله وأحكامه، واتخاذًا لآياته هُزوًا. وإذا كان القرض الذي يجرُّ النفع ربًا عند صاحب الشرع، فكيف بالقرض الذي يجرُّ صريح الربا وتأخير قبض رأس مال السَّلَم؟
فصل
ومن الحيل الباطلة المحرمة: التحيلُ على إسقاط ما جعله الله سبحانه حقًّا للشريك على شريكه من استحقاق الشفعة دفعًا للضرر، والتحيل لإبطالها مناقض لهذا الغرض، وإبطالٌ لهذا الحكم بطريق التحيل. وقد ذكروا وجوهًا من الحيل.
(1)
ك: «دينارا» ، تحريف.
(2)
الكُر: مكيال لأهل العراق، ستون قفيزًا أو أربعون إردبًّا.
منها: أن يتفقا على مقدار الثمن، ثم عند العقد يَصْبِره صُبْرةً
(1)
غير موزونة، فلا يعرف الشفيع ما يدفع، فإذا فعلا ذلك فللشفيع أن يستحلف المشتري أنه لا يعرف قدر الثمن، فإن نكَلَ قضى عليه بنكوله، وإن حلف فللشفيع أخذ الشِّقْص بقيمته.
ومنها: أن يهب الشِّقصَ [100/أ] للمشتري، ثم يهبه المشتري ما يرضيه.
وهذا لا يُسقِط
(2)
الشفعة، وهذا بيع وإن لم يتلفَّظا به، فله أن يأخذ الشِّقص بنظير الموهوب.
ومنها: أن يشتري الشِّقص
(3)
، ويضمَّ إليه سكّينًا أو منديلًا بألف درهم، فيصير حصة الشِّقص من الثمن مجهولة.
وهذا لا يُسقط الشفعة، بل يأخذ الشفيع الشِّقص بقيمته، كما لو استحق أحد العوضين وأراد المشتري أخذ الآخر، فإنه يأخذه بحصته من الثمن إن انقسم
(4)
الثمن عليهما بالأجزاء، وإلا فبقيمته. وهذا الشِّقص مستحقٌّ شرعًا؛ فإن الشارع جعل الشفيع أحق به من المشتري بثمنه، فلا يسقط حقُّه منه بالحيلة والمكر والخداع.
ومنها: أن يشتري الشِّقص بألف دينار، ثم يصارفه عن كل دينار
(1)
أي يجعله كُومةً.
(2)
ك: «سقط» .
(3)
«بنظير
…
الشقص» ساقطة من ك.
(4)
ز: «ان يقسم» .
بدرهمين، فإذا أراد أخْذَه أخَذَه بالثمن الذي وقع عليه العقد.
وهذه الحيلة لا تُسقِط الشفعة، وإذا أراد أخْذه أخَذه بالثمن الذي استقر عليه العقد وتواطأ عليه البائع والمشتري؛ فإنه هو الذي انعقد به العقد، ولا عبرةَ بما أظهراه من الكذب والزور والبهتان الذي لا حقيقة له. ولهذا لو استحقّ المبيع فإن المشتري لا يرجع على البائع بألف دينار، وإنما يرجع عليه بالثمن الذي تواطآ عليه واستقرَّ عليه العقد؛ فالذي يرجع به عند الاستحقاق هو الذي يدفعه الشفيع عند الأخذ. هذا محض العدل الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتابه، ولا تحتمل الشريعة سواه.
ومنها: أن يشتري بائع الشِّقص من المشتري عبدًا قيمته مائة درهم بألف درهم في ذمته، ثم يبيعه الشِّقصَ بالألف.
وهذه الحيلة لا تُبطل الشفعة، ويأخذ الشفيع الشقص
(1)
بالثمن الذي يرجع به المشتري على البائع إذا استحق المبيع، وهو قيمة العبد.
ومنها: أن يشتري الشقص بألفٍ وهو يساوي مائة، ثم يُبرِئه البائع من تسع مائة.
وهذا لا يُسقط الشفعة، ويأخذه الشفيع بما بقي
(2)
من الثمن بعد الإسقاط، وهو الذي يرجع به إذا استحق المبيع.
ومنها: أن يشتري جزءًا من الشِّقص بالثمن كله، ثم يهب له بقية الشِّقص.
(1)
«من المشتري
…
الشقص» ساقطة من ك.
(2)
ك: «تفي» .
وهذا لا يُسقطها، ويأخذ الشفيع الشِّقص كله بالثمن؛ فإن هذه الهبة لا حقيقة لها، والموهوب هو المبيع بعينه، ولا تُغيَّر حقائق العقود وأحكامها التي شُرِعت فيها بتغيُّر العبارة. وليس للمكلَّف أن يغيِّر حكم العقد بتغيير عبارته فقط مع قيام حقيقته، وهذا لو أراد من البائع أن يهبه جزءًا من ألف جزء من الشِّقص بغير عوض لما سمحت نفسه بذلك البتةَ، فكيف يهبه ما يساوي مائة ألف بلا عوض؟ وكيف يشتري
(1)
منه الآخر مائة درهم بمائة ألف؟ وهل هذا إلا سَفَهٌ يقدح في صحة العقد؟
قال الإمام أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد، وقد سأله عن الحيلة في إبطال الشفعة، فقال: لا يجوز شيء من الحيل في ذلك، [100/ب] ولا في إبطال حقِّ مسلم.
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في هذه الحيل وأشباهها: من يَخْدع الله يَخْدَعْه، والحيلة خديعة
(2)
.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تَحِلُّ الخديعة لمسلم»
(3)
. والله تعالى ذمَّ
(1)
«يشتري» ساقطة من ز.
(2)
رواه عبد الرزاق (10779) وسعيد بن منصور (1065) والطحاوي في «معاني الآثار» (3/ 57) والبيهقي (7/ 337)، كلهم عن ابن عباس، ولم أجده من أثر ابن عمر، ولعله تصحيف من ابن عباس. وقد ذكره ابن تيمية في «بيان الدليل» (ص 31) منسوبًا إلى ابن عباس.
(3)
رواه أحمد (4125) وابن ماجه (2241) عن ابن مسعود مرفوعًا، وفيه جابر الجعفي، وهوضعيف جدًّا. ورواه عبد الرزاق (14865) وابن أبي شيبة (21207) والبيهقي (5/ 317) موقوفًا على ابن مسعود، وصححه البيهقي (5/ 317). وقد ضعف الرفعَ الحافظُ في «الفتح» (4/ 367) والبوصيري في «الإتحاف» (2/ 19) من أجل جابر ورجّحا الوقفَ. ولكن كل ذلك بلفظ:«لا تحل الخلابة» .
المخادعين، والمتحيل مخادع. ولأن الشفعة شُرعت لدفع الضرر، فلو شُرع التحيل لإبطالها لكان عودًا على مقصود الشريعة بالإبطال، ولَلَحِقَ الضرر الذي قصد إبطاله.
فصل
ومن الحيل الباطلة: التحيلُ على إبطال القسمة في الأرض القابلة لها، بأن يقف الشريك منها سهمًا من مائة ألف سهم مثلًا على من يريد، فيصير الشريك شريكًا في الوقف، والقسمة
(1)
بيع؛ فتبطل.
وهذه حيلة فاسدة باردة لا تُبطِل حقَّ الشريك من القسمة، وتجوز القسمة ولو وقف حصته كلها؛ فإن القسمة إفراز حق وإن تضمَّنت معاوضة، وهي غير البيع حقيقة واسمًا وحكمًا وعرفًا، ولا يسمَّى القاسم بائعًا لا لغةً ولا شرعًا ولا عرفًا، ولا يقال للشريكين إذا تقاسما تبايعا، ولا يقال لواحد منهما إنه قد باع مِلكه، ولا يدخل المتقاسمان تحت نص واحد من النصوص المتناولة للبيع، ولا يقال لناظر الوقف إذا أفرز الوقف وقسمه من غيره إنه قد باع الوقف، وللآخر إنه قد اشترى الوقف، وكيف ينعقد البيع بلفظ القسمة ولو كانت بيعًا لوجبت فيها الشفعة؟ ولو كانت بيعًا لما أجبر الشريك عليها إذا طلبها شريكه؛ فإن أحدًا لا يُجبَر على بيع ماله، ويلزم إخراج القرعة، بخلاف البيع، ويتقدر أحد النصيبين فيها بقدر النصيب الآخر إذا تساويا، وبالجملة فهي منفردة عن البيع باسمها وحقيقتها وحكمها.
(1)
«وتجوز
…
فإن القسمة» ساقطة من ك.
فصل
ومن الحيل الباطلة: التحيلُ على تصحيح المزارعة لمن يعتقد فسادها، بأن يدفع الأرض إلى المزارع ويُؤجِره نصفها مشاعًا مدة معلومة يزرعها ببذره على أن يزرع للمؤجر النصف الآخر ببذره تلك المدة، ويحفظه ويسقيه ويحصده ويُذريه، فإذا فعلا ذلك أخرجا البذر منهما نصفين نصفًا من المالك ونصفًا من المزارع، ثم خلطاه، فتكون الغلّة بينهما نصفين. فإن أراد صاحب الأرض أن يعود إليه ثلثا
(1)
الغلة آجره ثلثَ الأرض مدة معلومة على أن يزرع له مدة الإجارة ثلثي الأرض ويخرجان البذر منهما أثلاثًا ويخلطانه
(2)
، وإن أراد المزارع أن يكون له ثلثا البذر استأجر ثلثي الأرض بزرع الثلث الآخر كما تقدم.
فتأملْ هذه الحيلة الطويلة الباردة المتعبة، وترك الطريق المشروعة التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كأنها رأي عينٍ، واتفق عليها الصحابة، وصح فعلها عن الخلفاء الراشدين صحة لا يشك
(3)
فيها، كما حكاه البخاري في «صحيحه»
(4)
. فما مثل العدول عن طريقة القوم إلى هذه الحيلة الطويلة السمجة إلا بمنزلة من أراد الحج من المدينة على الطريق التي حج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقيل له: هذه الطريق
(5)
مسدودة، وإذا أردتَ أن
(1)
«ثلثا» ساقطة من ك.
(2)
ك: «ويخلطاه» .
(3)
ك: «لا شك» .
(4)
انظر: (5/ 10 - مع الفتح).
(5)
ك: «طريق» .
تحج فاذهبْ إلى الشام ثم منها إلى العراق، ثم حجّ على دَرْب العراق وقد وصلت.
فيا لله العجب! كيف تُسَدُّ عليه الطريق القريبة السهلة [101/أ] القليلة الخطر التي سلكها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويُدَلُّ على الطريق الطويلة الصعبة المشقة الخطرة التي لم يسلكها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه؟
فلله العظيم عظيمُ حمدٍ
…
كما أهدى لنا نِعمًا غِزارَا
وهذا شأن جميع الحيل إذ كانت صحيحة جائزة، وأما إذا كانت باطلة
(1)
محرمة فتلك لها شأن آخر، وهي طريق إلى مقصد
(2)
آخر غير الكعبة البيت الحرام، وبالله التوفيق.
فصل
ومن الحيل الباطلة التي لا تُسقط الحق: إذا أراد الابن منعَ الأب الرجوع فيما وهبه إياه أن يبيعه لغيره، ثم يستقيله إيّاه، وكذلك المرأة إذا أرادت منع الزوج من الرجوع في نصف الصداق باعتْه ثم استقالته.
وهذا لا يمنع الرجوع، فإن المحذور إبطال حق الغير من العين، وهذا لا يُبطل للغير حقًّا، والزائل العائد كالذي لم يزل، ولا سيما إذا كان زواله إنما جعل ذريعة وصورة إلى إبطال حق الغير؛ فإنه لا يبطل بذلك
(3)
.
يوضحه أن الحق كان متعلقًا بالعين تعلُّقًا قدَّم الشارع مستحقَّه على
(1)
«باطلة» ليست في د.
(2)
د: «مقصود» .
(3)
«بذلك» ليست في ز.
المالك لقوته، ولا يكون صورة إخراجه عن يد المالك إخراجًا لا حقيقة له أقوى من الاستحقاق الذي أثبت الشارع به انتزاعه من يد المالك، بل لو كان الإخراج حقيقة ثم عاد لَعاد حقُّ الأول من الأخذ لوجود مقتضيه وزوال مانعه، والحكم إذا كان له مقتضي
(1)
فمنع مانع من إعماله ثم زال المانع اقتضى المقتضي عمله.
فصل
ومن الحيل الباطلة المحرمة: إذا أراد أن يخصَّ بعضَ ورثته ببعض الميراث، وقد علم أن الوصية لا تجوز، وأن عطيته في مرضه وصية؛ فالحيلة أن يقول: كنت وهبتُ له كذا وكذا في صحتي، أو يُقِرَّ له بدين، فيتقدم به.
وهذا باطل، والإقرار للوارث في مرض الموت لا يصح للتهمة عند الجمهور، بل مالك
(2)
يردُّه للأجنبي إذا ظهرت
(3)
التهمة، وقوله هو الصحيح، وأما إقراره أنه كان وهبه إياه في صحته فلا يُقبل أيضًا كما لا يقبل إقراره له بالدين، ولا فرقَ بين إقراره له بالدين أو بالعين.
وأيضًا فهذا المريض لا يملك إنشاء عقد التبرع المذكور؛ فلا يملك الإقرار
(4)
به، لاتحاد المعنى الموجب لبطلان الإنشاء، فإنه بعينه قائم في الإقرار، وبهذا يزول النقض بالصور التي يملك فيها الإقرار دون الإنشاء،
فإن المعنى الذي منع من الإنشاء هناك لم يوجد في الإقرار، فتأمَّل هذا الفرق.
فصل
ومن الحيل الباطلة المحرمة: إذا أراد أن يحابي وارثَه في مرضه أن يبيع أجنبيًّا ــ شفيعُه وارثُه
(1)
ــ شِقصًا بدون ثمنه، ليأخذه
(2)
وارثه بالشفعة.
فمتى قصد ذلك حرمت المحاباة المذكورة، وكان للورثة إبطالها إذا كانت حيلة على محاباة الوارث، وهذا كما يبطل الإقرار له؛ لأنه يتخذ حيلة لتخصيصه.
وقال أصحابنا: له الأخذ بالشفعة، وهذا لا [101/ب] يستقيم على أصول المذهب، إلا إذا لم يكن حيلة، فأما إذا كان
(3)
حيلة فأصول المذهب تقتضي ما ذكرناه، ومن اعتبر سدَّ الذرائع فأصله يقتضي عدم الأخذ بها وإن لم يقصد الحيلة، فإن قصد التحيُّل امتنع الأخذ لذلك، وإن لم يقصده امتنع سدًّا للذريعة.
فصل
ومن الحيل الباطلة المحرمة: إذا أوضحَ رأسَه في موضعين وجب عليه عشرة من الإبل، فإذا أراد جعْلَها خمسة فليوضِحْه ثالثةً تخرِق ما بينهما.
وهذه الحيلة مع أنها محرمة فإنها لا تُسقط ما وجب عليه، فإن العشر
(1)
ك: «ووارثه» .
(2)
ك: «يأخذه» .
(3)
ك: «كانت» .
لا تجب عليه إلا بالاندمال، فإذا فعل ذلك بعد الاندمال فهي موضحة ثالثة، وعليه ديتها، فإن كان قبل الاندمال لم يستقر أَرْشُ الموضحتين الأُولَيين
(1)
حتى صار الكل
(2)
واحدة من جانٍ
(3)
واحد، فهو كما لو سَرَتِ الجناية حتى خرقتْ ما بينهما فإنها تصير واحدة.
وهكذا لو قطع إصبعًا بعد إصبعٍ من امرأة حتى قطع أربعًا؛ فإنه يجب عشرون، ولو اقتصر على الثلاث وجب ثلاثون. وهذا بخلاف ما لو قطع الرابعة بعد الاندمال؛ فإنه يجب فيها عشرٌ، كما لو تعدد الجاني فإنه يجب على كل واحدٍ أرشُ جنايته قبل الاندمال وبعده، وكذلك لو قطع أطراف رجل وجب عليه ديات، فإن اندملت ثم قتله بعد ذلك فعليه مع تلك الديات دية النفس، ولو قتله قبل الاندمال فدية واحدة، كما لو قطعه عضوًا عضوًا حتى مات.
فصل
ومن الحيل الباطلة الحيل التي فَتَقَتْ
(4)
للسُّرَّاق واللصوص التي لو صحت لم تُقطع يد سارقٍ أبدًا، ولعمَّ الفساد، وتتابع السرّاق في السرقة.
فمنها: أن ينقُب أحدهما ولا يدخل، ثم يدخل عبده أو شريكه فيخرج المتاع.
(1)
ك: «الأولتين» .
(2)
ك: «لكل» .
(3)
ك: «جانب» .
(4)
أي شقَّت الطريق لهم. وفي المطبوع: «فتحت» .
ومنها: أن ينزل أحدهما من السطح، فيفتح
(1)
الباب من داخلٍ، ويدخل الآخر فيخرج المتاع.
ومنها: أن يدَّعي أنه مِلكه، وأن رب البيت عبده، فبمجرد ما يدّعي ذلك يسقط عنه القطع، ولو كان ربُّ البيت معروف النسب، والناس تعرف أن المال ماله. وأبلغ من هذا أنه لو ادعى العبد السارق أن
(2)
المسروق لسيده وكذَّبه السيد، قالوا: فلا
(3)
قطع عليه، بل يسقط عنه بهذه الدعوى.
ومنها: أن يبلَع الجوهرة أو الدنانير ويخرج بها.
ومنها: أن يغيِّر هيئة
(4)
المسروق بالحِرْز ثم يخرج به
(5)
.
ومنها: أن يدّعي أن رب الدار أدخله داره، وفتح له باب داره، فيسقط عنه القطع وإن كذّبه، إلى أمثال ذلك من الأقوال التي حقيقتها أنه لا يجب القطع على سارقٍ البتةَ.
وكل هذه حيل باطلة لا تُسقِط القطع، ولا تُثير أدنى شبهة، ومحال أن تأتي شريعة بإسقاط عقوبة هذه الجريمة بها، بل ولا سياسة عادلة؛ فإن الشرائع مبنية على مصالح العباد، وفي هذه الحيل أعظم الفساد، ولو أن ملكًا من الملوك وضع عقوبة على جريمة من الجرائم لمصلحة رعيته، ثم أسقطها بأمثال هذه الحيل عُدَّ متلاعبًا.
(1)
ك: «ففتح» .
(2)
«أن» ليست في ك.
(3)
ك: «لا» .
(4)
في النسختين: «قيمة» . وأُصلحت بهامش د.
(5)
ز: «يده» .
فصل
ومن الحيل [102/أ] الباطلة: الحيلة التي تتضمن إسقاط حدّ الزنا بالكلية، وترفع هذه الشريعةَ من الأرض، بأن يستأجر المرأة لتَطوِيَ له ثيابه، أو تُحوِّل له متاعًا من جانب الدار إلى جانب آخر، أو استأجرها لنفس الزنا، ثم يزني بها؛ فلا يجب عليه الحد.
وأعظم من هذا كله أنه إذا أراد أن يزني بأمه وأخته أو ابنته أو خالته وعمته ولا يجب عليه الحد فليعقِدْ عليها عقدَ النكاح بشهادة فاسقين، ثم يطؤها ولا حدَّ عليه.
وأعظم من ذلك أن الرجل المحصن إذا أراد أن يزني ولا يُحدّ فليرتدَّ ثم يسلم، فإنه إذا زنى بعد ذلك فلا حدَّ عليه أبدًا حتى يستأنف نكاحًا أو وطأً جديدًا.
وأعظم من هذا كله أنه إذا زنى بأمه وخاف من إقامة الحد عليه فليقتلها، فإذا فعل ذلك سقط عنه الحد، وإذا شهد عليه الشهود بالزنا ولم يمكِنْه القدْحُ فيهم فليصدِّقهم، فإذا صدَّقهم سقط عنه الحد.
ولا يخفى أمر هذه الحيل ونسبتها إلى دين الإسلام، هل هي نسبة موافقةٍ أو هي نسبة مناقضةٍ؟
فصل
ومن الحيل الباطلة: أنه إذا حلف لا يأكل من هذا القمح، فالحيلة أن يطحنَه ويعجِنَه ويأكله خبزًا.
وطردُ هذه الحيلة الباردة أنه إذا حلف لا يأكل هذه الشاة فليذبحها
وليطبخها ثم يأكلها، وإذا حلف لا يأكل هذه النخلة فليجُذَّ ثمرها ثم يأكله، فإن طردوا ذلك فمن الفضائح الشنيعة، وإن فرَّقوا تناقضوا. فإن قالوا:«الحنطة يمكن أكلها صحاحًا بخلاف الشاة والنخلة، فإنه لا يمكن فيها ذلك» ، قيل: والعادة أن الحنطة لا يأكلها صحاحًا
(1)
إلا الدوابُّ والطير، وإنما تُؤكل خبزًا، فكلاهما سواء عند الحالف وكل عاقل.
فصل
ومن الحيل الباطلة المحرمة المضاهية
(2)
: ما لو حلف أنه لا يأكل هذا الشحم فالحيلة أن يُذِيبه ثم يأكله.
وهذا كله تصديق لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتتبعُنَّ سَنَنَ من كان قبلكم حذْوَ القُذَّة بالقُذَّة» ، قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟»
(3)
. وتصديق قوله: «لتأخذَنَّ أمتي ما أخذ الأمم قبلها شِبرًا بشبرٍ وذراعًا بذراعٍ، حتى لو كان فيهم من أتى أمَّه علانيةً لكان فيهم من يفعله»
(4)
.
(1)
«صحاحًا» ليست في ك.
(2)
كذا في النسخ. وفي المطبوع بعدها زيادة: «للحيلة اليهودية» .
(3)
رواه البخاري (3456، 7320) ومسلم (2669) من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع» .
(4)
رواه الترمذي (2641) والطبراني (13/ 30) والحاكم (1/ 218) من طريق عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو، وعبد الرحمن بن زياد ضعيف. وضعّفه ابن العربي في «عارضة الأحوذي» (5/ 316) وعبد الحق في «الأحكام الكبرى» (1/ 306). وقال الترمذي: غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه. وصححه الألباني بالشواهد في «الصحيحة» (1348).
وهذه الحيلة في الشحوم هي الحيلة اليهودية بعينها، بل أبلغ منها، فإن أولئك لم يأكلوا الشحم بعد إذابته وإنما أكلوا ثمنه.
فصل
ومن الحيل الباطلة المحرمة لمن أراد أن يتزوَّج بأَمَةٍ وهو قادر على نكاح حرّة: أن يُملِّك ماله لولده ثم يعقد على الأمة ثم يستردّ المال منه.
وهذه الحيلة لا ترفع المفسدة التي حرَّم الله لأجلها نكاح الأَمَة، ولا تخفِّفها، ولا تجعله عادمًا للطَّول؛ فلا تدخل في قوله:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} [النساء: 25]، وهذه الحيلة حيلة على استباحة نفس ما حرَّم الله.
فصل
ومنها: لو علَّى
(1)
الكافر بناءه على مسلم مُنع من ذلك، فالحيلة على جوازه أن يُعلِّيها مسلم ما شاء ثم يشتريها الكافر منه فيسكنها.
وهذه الحيلة وإن ذكرها بعض الأصحاب فهي مما
(2)
أُدخِلت في المذهب غلطًا محضًا، ولا توافق أصوله ولا فروعه؛ [102/ب] فالصواب المقطوع به عدم تمكينه
(3)
مِن سُكناها؛ فإن المفسدة لم تكن في نفس البناء، وإنما كانت في ترفُّعه على المسلمين. ومعلوم قطعًا أن هذه المفسدة في الموضعين واحدة
(4)
.
(1)
أي رفعه وجعله عاليًا.
(2)
د. «ما» .
(3)
ك: «تمكنه» .
(4)
ك: «واحد» .
فصل
ومن الحيل الباطلة: إذا غصَبَه
(1)
طعامًا ثم أراد أن يبرأ منه ولا يُعلِمه به، فليدْعُه إلى داره، ثم يقدِّم له ذلك الطعام، فإذا أكله برئ الغاصب.
وهذه الحيلة باطلة، فإنه لم يملِّكه إياه، ولا مكَّنه من التصرف فيه، فلم يكن بذلك رادًّا لعينِ ماله إليه.
فإن قيل: ما تقولون لو أهداه إليه فقبله وتصرف فيه وهو لا يعلم أنه ماله؟
قيل: إن خاف من إعلامه به ضررًا يلحقه منه برئ بذلك، وإن لم يخَفْ ضررًا وإنما أراد المنة عليه ونحو ذلك لم يبرأ، ولا سيما إن كافأه على الهدية فقبل، فهذا لا يبرأ قطعًا.
فصل
ومن الحيل الباطلة بلا شك: الحيل التي يُفتَى بها مَن حلف لا يفعل الشيء ثم حلف ليفعلنَّه، فيتحيل له حتى يفعله بلا حنث، وذكروا لها صورًا:
أحدها: أن يحلف لا يأكل هذا الطعام، ثم يحلف هو أو غيره ليأكلنَّه، فالحيلة أن يأكله إلا لقمة منه، فلا يحنث.
ومنها: لو حلف أن لا يأكل هذا الجبن، ثم حلف ليأكلنَّه، قالوا: فالحيلة أن يأكله بالخبز، ويبرّ ولا يحنث.
(1)
د: «اغصبه» .
ومنها: لو حلف لا يلبس هذا الثوب، ثم حلف هو أو غيره ليلبسنَّه، فالحيلة أن يقطع منه شيئًا يسيرًا ثم يلبسه، فلا يحنث.
وطردُ قولهم أن يَنْسِل
(1)
منه خيطًا ثم يلبسه. ولا يخفى أمر هذه الحيلة وبطلانها
(2)
، وأنها من أقبح الخداع وأسمجه، ولا يتمشَّى على قواعد الفقه ولا فروعه ولا أصول الأئمة؛ فإنه إن كان بتَرْك البعض لا يُعدُّ آكلًا ولا لابسًا فإنه لا يَبرُّ بالحلف ليفعلنّ، فإنه إن عُدَّ فاعلًا وجب أن يحنث في جانب النفي، وإن لم يُعدَّ فاعلًا وجب أن يحنث في جانب الثبوت، فأما أن يُعدَّ فاعلًا بالنسبة إلى الثبوت وغير فاعل بالنسبة إلى النفي فتلاعبٌ.
فصل
ومنها: الحيل التي تُبطل الظهار والإيلاء والطلاق والعتق بالكلية، وهي مشتقة من الحيلة السُّرَيجية، كقوله: إن تظاهرتُ منكِ أو آليتُ منكِ فأنتِ طالق قبله ثلاثًا، فلا يمكنه بعد ذلك ظهار ولا إيلاء. وكذلك يقول: إن عَتَقْتُك فأنت حر قبل الإعتاق. وكذلك لو قال: إن بعتُك فأنت حر قبل البيع. وقد تقدم بطلان هذه الحيل كلها.
فصل
ومن الحيل الباطلة: أن يكون له على رجل مالٌ، وقد أفلس غريمه وأيِسَ مِن أخذه منه، وأراد أن يحسبه من الزكاة، فالحيلة أن يعطيه من الزكاة بقدر ما عليه، فيصير مالكًا للوفاء، فيطالبه حينئذٍ بالوفاء، فإذا وفّاه برئ
(1)
أي يَفصِل.
(2)
ز، ك:«بطلانه» .
وسقطت الزكاة عن الدافع.
وهذه حيلة باطلة، سواء شرط عليه الوفاء أو منعه من التصرف فيما دفعه إليه أو ملَّكه إياه بنية أن يستوفيه من دَينه، فكل هذا لا يُسقط عنه الزكاة، ولا يُعدُّ مخرجًا لها لا شرعًا ولا عرفًا، كما لو [103/أ] أسقط دينه وحسبه من الزكاة.
قال مهنَّا
(1)
: سألت أبا عبد الله عن رجل له على رجل دينٌ برهنٍ، وليس عنده قضاؤه، ولهذا الرجل زكاة مالٍ، قال
(2)
: يفرِّقه على المساكين، فيدفع إليه رهنه، ويقول له: الدين الذي لي عليك هو لك، ويحسبه من زكاة ماله، قال
(3)
: لا يجزئه ذلك. فقلت له
(4)
: فيدفع إليه زكاته، فإن ردَّه
(5)
إليه قضاءً مما له أخذه؟ قال: نعم.
وقال
(6)
في موضع آخر ــ وقيل له: فإن أعطاه ثم ردَّه إليه؟ ــ قال: إذا كان بحيلة فلا يُعجبني، قيل له: فإن استقرض الذي عليه الدين دراهمَ فقضاه إياها، ثم ردَّها عليه وحسَبَها من الزكاة؟ قال: إذا أراد بهذا إحياء ماله فلا يجوز.
(1)
كما في «المغني» (4/ 106).
(2)
«قال» ليست في ك.
(3)
أي الإمام أحمد (أبو عبد الله).
(4)
«له» ليست في ز.
(5)
ك: «رد» .
(6)
«المغني» (4/ 106).
ومطلق كلامه ينصرف إلى هذا المقيد؛ فيحصل من مذهبه أن دفع
(1)
الزكاة إلى الغريم جائز، سواء دفعها ابتداء أو استوفى حقَّه ثم دفع ما استوفاه إليه، إلا أنه متى قصد بالدفع إحياء ماله واستيفاء دينه لم يجز؛ لأن الزكاة حق لله
(2)
وللمستحق، فلا يجوز صرفها إلى الدافع، ويفوز بنفعها العاجل.
ومما يوضح ذلك أن الشارع منعه من أخذها من المستحق بعوضها، فقال:«لا تشترِها ولا تعُدْ في صدقتك»
(3)
، فجعله بشرائها منه بثمنها عائدًا فيها، فكيف إذا دفعها إليه بنيةِ أخْذِها منه؟ قال جابر بن عبد الله: إذا جاء المصَّدق فادفع إليه صدقتك، ولا تشترِها، فإنهم كانوا يقولون:«ابتَعْها» فأقول: إنما هي لله
(4)
. وقال ابن عمر: لا تشترِ طَهورَ مالك
(5)
.
وللمنع من شرائه علتان:
إحداهما: أنه يتخذ ذريعة وحيلة إلى استرجاع شيء منها؛ لأن الفقير يستحيي منه فلا يماكسه في ثمنها، وربما أرخصها ليطمع
(6)
أن يدفع إليه
(1)
ك: «يدفع» .
(2)
ز: «الله» .
(3)
رواه البخاري (1489) ومسلم (1621) من حديث ابن عمر عن أبيه عمر.
(4)
رواه عبد الرزاق (6896) وابن أبي شيبة (10601)، كلاهما من طريق ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر، وإسناد صحيح.
(5)
رواه عبد الرزاق (6897) وابن أبي شيبة (10600)، كلاهما من طريق مسلم بن جبير عن ابن عمر بلفظ «طهرة مالك» . ومسلم بن جبير ترجمه أحمد في «العلل» (2/ 512) والبخاري في «التاريخ الكبير» (4/ 258) وابن أبي حاتم (4/ 181) ولم يذكروا فيه جرحًا ولا تعديلًا، وذكره ابن حبان في «الثقات» (5/ 393).
(6)
ز: «ليطمعا» .
صدقة أخرى، وربما علم أو توهَّم أنه إن لم يبِعْه إياها استرجعها منه، فيقول: ظفري بهذا الثمن خير من الحرمان.
العلة الثانية: قطع طمع نفسه عن العود في شيء أخرجه لله بكل طريق، فإن النفس متى طمعت في عوده بوجه ما فآمالُها بعدُ متعلقة به، فلم تطِبْ به نفسًا لله وهي متعلقة به، فقطع عليها طمعها
(1)
في العود، ولو بالثمن، ليتمحَّص الإخراج لله، وهذا شأن النفوس الشريفة
(2)
ذوات الأقدار والهمم، أنها إذا أعطت عطاء لم تسمح بالعود فيه بوجه لا بشراء ولا غيره، وتعدُّ ذلك دناءة، ولهذا مثَّل النبي صلى الله عليه وسلم العائد في هبته بالكلب
(3)
يعود في قيئه
(4)
، لخِسَّته ودناءة نفسه وشُحِّه بما قاءه أن يفوته
(5)
.
فمن محاسن الشريعة منع المتصدق من شراء
(6)
صدقته، ولهذا منع مِن سكنى بلاده التي هاجر منها لله وإن صارت بعد ذلك دارَ إسلام، كما منع النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين بعد الفتح من الإقامة بمكة فوق ثلاثة أيام
(7)
، لأنهم خرجوا عن ديارهم لله؛ فلا ينبغي أن يعودوا في شيء تركوه لله، وإن زال
(1)
ك: «طمعا» .
(2)
«الشريفة» ليست في د.
(3)
ز: «كالكلب» .
(4)
رواه مسلم (1622) من حديث ابن عباس.
(5)
ز: «يعود به» .
(6)
ك: «شرى» .
(7)
كما في حديث العلاء بن الحضرمي الذي أخرجه البخاري (3933) ومسلم (1352).
المعنى الذي تركوها لأجله.
فإن قيل: فأنتم تجوِّزون له أن يقضي بها دين المدين، إذا كان المستحق له غيره، فما الفرق بين أن يكون الدين له أو لغيره؟ ويحصل للغريم براءة ذمته [103/ب] وراحةٌ من ثِقلِ الدَّين في الدنيا ومن حملِه في الآخرة؟ فمنفعته ببراءة ذمته خير له من منفعة الأكل والشرب واللباس، فقد انتفع هو بخلاصه من رِقّ الدين، وانتفع رب المال بتوصُّله إلى أخذ حقه، وصار هذا كما لو أقرضه مالًا ليعمل فيه ويوفِّيه دينه من كسبه.
قيل: هذه المسألة فيها روايتان منصوصتان عن الإمام أحمد رضي الله عنه:
إحداهما: أنه لا يجوز له أن يقضي دينه من زكاته، بل يدفع إليه الزكاة ويؤدِّيها هو عن نفسه.
والثانية: يجوز له أن يقضي دينه
(1)
من الزكاة. قال أبو الحارث
(2)
: قلت للإمام أحمد
(3)
: رجل عليه ألف، وكان على رجل زكاة ماله ألف، فأداها عن هذا الذي عليه الدين، يجوز هذا من زكاته؟ قال: نعم، ما أرى بذلك بأسًا.
وعلى هذا فالفرق
(4)
ظاهر؛ لأن الدافع لم ينتفع هاهنا بما دفعه إلى الغريم، ولم يرجع إليه، بخلاف ما إذا دفعه إليه ليستوفيه منه؛ فإنه قد أحيا ماله بماله. ووجه القول بالمنع أنه قد يتخذ ذريعة إلى انتفاعه بالقضاء، مثل
(1)
ز، ك:«له دينه» .
(2)
كما في «المغني» (9/ 325).
(3)
د، ك:«لأحمد» .
(4)
ك: «الفرق» .
أن يكون الدين لولده أو لامرأته أو لمن يلزمه نفقته فيستغني عن الإنفاق عليه؛ فلهذا قال الإمام أحمد
(1)
: أحبُّ إليَّ أن يدفعه إليه حتى
(2)
يقضي هو عن نفسه، قيل: هو محتاج يخاف أن يدفع إليه فيأكله ولا يقضي دينه، قال: فقلْ له يوكِّله حتى يقضيه.
والمقصود أنه متى فعل ذلك حيلةً لم تسقط عنه الزكاة؛ فإنه لا يحل له مطالبة المُعْسِر، وقد أسقط الله عنه المطالبة، فإذا توصَّل إلى وجوبها بما يدفعه إليه فقد دفع إليه شيئًا ثم أخذه، فلم يخرج منه شيء، فإنه لو أراد الآخذ التصرُّفَ في المأخوذ وسدَّ خَلَّته منه لما مكَّنه، فهذا هو الذي لا يسقط عنه الزكاة، فأما لو أعطاه عطاء قطع طمعه من عوده إليه وملكه ظاهرًا وباطنًا ثم دفع إليه الآخذ دينه من الزكاة فهذا جائز، كما لو أخذ الزكاة من غيره ثم دفعها إليه، والله أعلم.
فصل
ومن الحيل الباطلة: التحيلُ على نفس ما نهى عنه الشارع من بيع الثمرة قبل بُدوِّ صلاحها والحَبّ قبل اشتداده، بأن يبيعه ولا يذكر تبقيته ثم يخلِّيه إلى وقت كماله، فيصح البيع ويأخذه وقتَ إدراكه، وهذا هو نفس ما نهى عنه الشارع إن لم يكن فعله بأدنى الحيل. ووجه هذه الحيلة أن موجب
(3)
العقد القطع، فيصح وينصرف إلى موجبه، كما لو باعها بشرط القطع، ثم القطع
(1)
كما في «المغني» (9/ 325).
(2)
«حتى» ليست في ك.
(3)
ز: «يوجب» ، تحريف.
حق لهما لا يعدوهما
(1)
، فإذا اتفقا على تركه جاز.
ووجه بطلان هذه الحيلة أن هذا هو الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينه للمفسدة التي يفضي إليها من التشاحن والتشاجر، فإن الثمار تصيبها العاهات كثيرًا، فيفضي بيعها قبل إكمالها إلى أكل مال المشتري بالباطل، كما علَّل به صاحب الشرع، ومن المعلوم قطعًا أن هذه الحيلة لا ترفع المفسدة، ولا تزيل بعضها.
وأيضًا فإن الله وملائكته والناس قد علموا أن من اشترى الثمار وهي شِيْصٌ
(2)
لم يمكن أحدًا أن يأكل منها، فإنه لا يشتريها للقطع، [104/أ] ولو اشتراها لهذا الغرض لكان سفهًا وبيعه مردود، وكذلك الجوز والخوخ والإجَّاص وما أشبهها من الثمار التي لا يُنتفع بها قبل إدراكها، لا يشتريها أحد إلا بشرط التبقية، وإن سكت عن ذكر الشرط بلسانه فهو قائم في قلبه
(3)
وقلب البائع، وفي هذا تعطيل للنص وللحكمة التي نهى الشارع لأجلها؛ أما تعطيل الحكمة فظاهر، وأما تعطيل النص فإنه إنما يحمله على ما إذا باعها بشرط التبقية لفظًا، فلو سكت عن التلفظ بذلك وهو مراده ومراد البائع جاز
(4)
، وهذا تعطيل لما دلَّ عليه النص وإسقاطٌ لحكمته
(5)
.
(1)
«لا يعدوهما» ليست في ز، ك.
(2)
ثمر لم يتم نضجه لسوء تأبيره أو لفساد آخر.
(3)
ز، ك:«بقلبه» .
(4)
ز: «جائز» .
(5)
ك: «الحكمة» .
فصل
ومن الحيل الباطلة أنه إذا حلف لا يبيعه هذه الجاريةَ، ثم أراد أن يبيعها منه، فليبعه منها تسعمائة وتسعة وتسعين سهمًا، ثم يهبه السهم الباقي. وقد تقدم نظير هذه الحيلة الباطلة. وكذلك لو حلف لا يبيعه إياها ولا يهبه إياها ففعل ذلك لم يحنث.
ولو وقعت هذه الحيلة في جارية قد وطئها الحالف اليوم فأراد المالك أن يطأها بلا استبراء، فله حيلتان على إسقاط الاستبراء:
إحداهما: أن يعتقها ثم يتزوجها.
والثانية: أن يُملِّكها لرجل ثم يزوِّجه إياها، فإذا قضى وطره منها ثم أراد بيعها أو وطْأَها بملك اليمين فليشترِها من المُملك فينفسخ نكاحه، فإن
(1)
شاء باعها وإن شاء أقام على وطئها.
وتقدم أن نظير هذه الحيلة لو حلف أن لا يلبس هذا الثوب فلينسِلْ منه خيطًا ثم يلبسه، أو لا يأكل هذا الرغيف فليُخرِج منه لُبابَه ثم يأكله.
قال غير واحد من السلف
(2)
: لو فعل المحلوف عليه على وجهه لكان أخفَّ وأسهلَ من هذا الخداع، ولو قابل العبد أمر الله ونهيه بهذه المقابلة لعُدَّ عاصيًا مخادعًا، بل لو قابل أحد الرعية أمر الملك ونهيه أو العبد أمرَ سيده ونهيه أو المريض أمر الطبيب ونهيه بهذه المقابلة لما عذره
(3)
أحد
(1)
ك: «وإن» .
(2)
انظر: «بيان الدليل» (ص 44).
(3)
ك: «أعذره» .
قطُّ، ولعدَّه كل أحدٍ
(1)
عاصيًا، وإذا تدبَّر العالم في الشريعة أمرَ هذه الحيل لم يخْفَ عليه نسبتُها إليها ومحلُّها منها، والله المستعان.
فصل
ومن الحيل الباطلة: لو حلف لا يبيع هذه السلعة بمائة دينار أو ازداد
(2)
عليها؛ فلم يجد من يشتريها بذلك فليبعها بتسعة وتسعين دينارًا، أو مائة جزء من دينار، أو أقل من ذلك، أو يبِعْها
(3)
بدراهم تساوي ذلك، أو يبِعْها بتسعين دينارًا ومنديلًا أو ثوبًا ونحو ذلك.
وكل هذه حيل باطلة، فإنها تتضمن نفس مخالفته لما نواه وقصده وعقَدَ قلبه عليه، وإذا كانت يمين الحالف على ما يصدِّقه عليه صاحبه ــ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم
(4)
ــ، فيمينه على ما يعلمه الله من قلبه كائنًا من كان؛ فليقل ما شاء، وليتحيل ما شاء، فليست يمينه إلا على ما علمه الله من قلبه. قال الله تعالى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] فأخبر سبحانه أنه
(5)
إنما يعتبر في الأيمان قصد القلب وكسبه، لا مجرد اللفظ الذي لم يقصده أو لم يقصد معناه؛ على التفسيرين في اللغو، فكيف إذا كان قاصدًا [104/ب] لضدِّ ما تحيَّل عليه؟
(1)
ك: «واحد» .
(2)
ك: «زاد» .
(3)
ك: «يبيعها» .
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
«أنه» ليست في ك.
فصل
ومن الحيل الباطلة على أن يطأ أمته وإذا حَبِلَتْ منه لم تصر أم ولد، فله
(1)
بيعها: أن يملِّكها لولده الصغير، ثم يتزوجها ويطأها، فإذا ولدت منه عتق الأولاد على الولد؛ لأنهم إخوته، ومن ملك أخاه عتق عليه.
قالوا: فإن خاف أن لا تتمشى هذه الحيلة على قول الجمهور الذين لا يجوِّزون للرجل أن يتزوج بجارية ابنه ــ وهو قول أحمد ومالك والشافعي ــ فالحيلة أن يملِّكها لذي رحم مَحرم منه، ثم يزوجه إياها، فإذا ولدت عتق الولد على ملك ذي الرحم؛ فإذا أراد بيع الجارية فليهَبْها له، فينفسخ النكاح، فإن لم يكن له ذو رحم محرم فليملِّكها أجنبيًّا، ثم يزوِّجه بها، فإن خاف من رِقّ الولد فليعلِّق الأجنبي عتقهم بشرط الولادة، فيقول: كل ولدٍ تَلِدينَه فهو حر، فيكون الأولاد كلهم أحرارًا؛ فإذا أراد بيعها بعد ذلك فليتَّهِبْها من الأجنبي ثم يبِعْها
(2)
.
وهذه الحيلة أيضًا باطلة؛ فإن حقيقة التمليك لم توجد، إذ حقيقته نقل المِلك إلى المملَّك يتصرف فيه كما أحب. هذا هو المِلك المشروع المعقول المتعارف، فأما تمليك لا يتمكَّن فيه المملَّك من التصرف إلا بالتزويج وحده؛ فهو تلبيس لا تمليك؛ فإن المملَّك
(3)
لو أراد وطأها أو الخلوة بها أو النظر إليها لشهوة
(4)
أو التصرف فيها كما يتصرف المالك في
(1)
«فله» ليست في ك.
(2)
ك: «يبيعها» .
(3)
ك: «الملك» .
(4)
ك: «بشهوة» .
مملوكه لما أمكنه ذلك؛ فإن هذا تمليكُ تلبيسٍ وخداع ومكر، لا تمليك حقيقةٍ، بل قد علم الله والمملِّك والمملَّك
(1)
أن الجارية لسيدها ظاهرًا وباطنًا
(2)
، وأنه لم يطِبْ قلبه بإخراجها عن ملكه بوجه من الوجوه. وهذا التمليك بمنزلة تمليك الأجنبي مالَه كله ليسقط عنه زكاته
(3)
ثم يسترِدّه منه، ومعلوم قطعًا أنه لا حقيقة لهذا التمليك عرفًا ولا شرعًا، ولا يُعدُّ المملَّك
(4)
له على هذا الوجه غنيًّا به، ولا يجب عليه به الحج والزكاة والنفقة وأداء الديون، ولا يكون به واجدًا للطَّول معدودًا في جملة الأغنياء؛ فهذا هو الحقيقة، لا التمليك الباطل الذي هو مكر وخداع وتلبيس.
فصل
ومن الحيل الباطلة: التحيلُ على ردِّ امرأته بعد أن بانت منه وهي لا تشعر بذلك، وقد ذكر أرباب الحيل وجوهًا كلها باطلة:
فمنها أن يقول لها: حلفتُ يمينًا واستفتيتُ فقيل لي جدِّد نكاحك؛ فإن كان الطلاق قد وقع وإلا لم يضرَّك، فإذا أجابته قال: اجعلي الأمر إليَّ في تزويجك. ثم يحضر الولي والشهود ويتزوجها، فتصير امرأته بعد البينونة وهي لا تشعر.
فإن لم يتمكن من هذا الوجه فلينتقل إلى وجه ثان، وهو أن يُظهِر أنه
(1)
«والمملك» ساقطة من ك.
(2)
د: «باطنًا وظاهرًا» .
(3)
ك: «زكاة» .
(4)
ك: «الملك» .
يريد سفرًا ويقول: لا آمنُ الموت وأنا أريد أن أكتب لك هذه الدار أو أجعل لك
(1)
هذا المتاع صداقًا بحيث لا يمكن إبطاله وأريد أن أشهد على ذلك، فاجعلي أمركِ إليَّ حتى أجعله صداقًا؛ فإذا فعلتْ عقد نكاحها على ذلك وتم الأمر.
فإن لم يُرِد السفر فليظهر أنه مريض، ثم يقول لها: أريد أن أجعل لك ذلك، وأخاف أن أُقِرَّ لك به فلا يُقبل؛ فاجعلي أمركِ إليَّ حتى أجعله [105/أ] صداقًا، فإذا فعلتْ أحضرَ وليَّها وتزوَّجها.
فإن حذِرَت المرأة من ذلك كله ولم يتمكَّن منه لم يبقَ له إلا حيلة واحدة، وهي أن يحلف بطلاقها، أو يقول: قد حلفتُ بطلاقك أني أتزوج عليك في هذا اليوم أو هذا الأسبوع أو أسافر بك، وأنا أريد أن أتمسك بك ولا أُدخل عليك ضرَّةً ولا تسافرين، فاجعلي أمركِ إليَّ حتى أخالعكِ وأردّكِ بعد انقضاء اليوم وتتخلَّصي من الضرة والسفر، فإذا فعلتْ أحضرَ الوليَّ والشهود
(2)
ثم ردَّها.
وهذه الحيلة باطلة؛ فإن المرأة إذا بانت صارت أجنبية منه؛ فلا يجوز نكاحها إلا بإذنها ورضاها، وهي لم تأذن في هذا النكاح الثاني، ولا رضيت به، ولو علمت أنها قد ملكتْ نفسَها وبانت فلعلها لا ترغب في نكاحه، فليس له أن يخدعها على نفسها ويجعلها زوجة له
(3)
بغير رضاها.
(1)
ك: «كل» .
(2)
ز، ك:«الشهود والولي» .
(3)
ز: «له زوجة» .
فإن قيل: فالنبي
(1)
صلى الله عليه وسلم قد جعل جِدَّ النكاح كهزله
(2)
، وغاية هذا أنه هازل.
قيل: هذا ليس بصحيح، وليس هذا كالهازل؛ فإن الهازل لم يُظهر أمرًا يريد خلافه، بل تكلم باللفظ قاصدًا أن لا يلزمه مُوجَبُه، وذلك ليس إليه، بل إلى الشارع، وأما هذا فماكر مخادع للمرأة على نفسها، مظهرًا
(3)
أنها زوجته وأن الزوجية بينهما باقية وهي أجنبية محضة؛ فهو
(4)
يمكُر بها ويخادعها بإظهار أنها زوجته وهي في الباطن أجنبية؛ فهو كمن يمكُر برجل يخادعه على أخذ ماله بإظهار أنه يحفظه له ويصونه ممن يذهب به، بل هذا أفحش؛ لأن حرمة البُضْع أعظم من حرمة المال، والمخادعة عليه
(5)
أعظم من المخادعة على المال، والله أعلم.
فصل
ومن الحيل الباطلة الحيلة على وطء مكاتبته بعد عقد الكتابة، قال أرباب الحيل: الحيلة في ذلك أن يهبها لولده الصغير، ثم يتزوجها وهي على مِلك ابنه، ثم يكاتبها لابنه، ثم يطأها بحكم النكاح، فإن أتت بولد كانوا أحرارًا؛ إذ ولده قد ملَكَهم، فإن عجزت عن الكتابة عادت قِنًّا
(6)
لولده
(1)
ز: «النبي» . ك: «فإن النبي» .
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
كذا في النسخ منصوبًا على أنه حال.
(4)
«فهو» ساقطة من ك.
(5)
«عليه» ساقطة من ك.
(6)
القِنّ: العبد الذي كان أبوه مملوكًا لمواليه، ومثله الأمة.
والنكاح بحاله.
وهذه الحيلة باطلة على قول الجمهور، وهي باطلة في نفسها؛ لأنه لم يملِّكها لولده تمليكًا حقيقيًّا، ولا كاتبها له حقيقة، بل خداعًا ومكرًا، وهو يعلم أنها أمته ومكاتَبتُه في الباطن وحقيقة الأمر، وإنما أظهر خلاف ذلك توصلًا إلى وطء الفرج الذي حرم عليه بعقد الكتابة، فأظهر تمليكًا لا حقيقة له، وكتابةً عن غيره، وفي الحقيقة إنما هي عن
(1)
نفسه، والله يعلم ما تُخفي الصدور.
فصل
ومن الحيل المحرَّمة الباطلة: الحيل
(2)
التي تُسمَّى حيلة العقارب، ولها صور:
منها: أن يوقف داره أو أرضه ويُشهد على وقفها ويكتمه ثم يبيعها، فإذا علم أن المشتري قد سكنها أو استغلَّها بمقدار ثمنها أظهر كتاب الوقف وادعى على المشتري بأجرة المنفعة، فإذا قال له المشتري: أنا وزنتُ الثمن، قال: وانتفعتَ بالدار والأرض
(3)
، فلا تذهب المنفعة مجَّانًا.
ومنها: أن يملِّكها لولده أو امرأته، ويكتم ذلك، ثم يبيعها، ثم يدَّعي بعد ذلك مَن ملَّكها على المشتري، ويعامله تلك المعاملة، وضمَّنه المنافع تضمينَ الغاصب.
(1)
«الكتابة
…
هي عن» ساقطة من ك.
(2)
ك: «الحيلة» .
(3)
ك: «أو الأرض» .
ومنها: أن يُؤجِرها لولده أو امرأته، ثم يؤجرها من شخص آخر، فإن ارتفع الكِرَى [105/ب] أخرج الإجارة الأولى وفسخ إجارة الثاني، وإن نقص الكِرَى أو استمرَّ أبقاها.
ومنها: أن يَرهَن داره أو أرضه، ثم يبيعها ويأخذ الثمن فينتفع به مدة، فمتى أراد فسخَ البيع واسترجاعَ المبيع أظهر كتاب الرهن.
وأمثال هذه العقارب التي يأكل بها أشباهُ العقارب أموالَ الناس بالباطل، ويمشِّيها لهم مَن رقَّ علمُه ودينه ولم يراقب الله ولم يخَفْ مقامه، تقليدًا لمن قلَّد قوله في تضمين المقبوض بالعقد الفاسد تضمينَ الغاصب؛ فيجعل قوله إعانة لهذا الظالم المعتدي على الإثم والعدوان، ولا يجعل القول الذي قاله غيره إعانة للمظلوم على البر والتقوى، وكأنه أخذ بشق الحديث وهو:«انصُرْ أخاك ظالمًا أو مظلومًا»
(1)
، واكتفى بهذه الكلمة دون ما بعدها، وقد أعاذ الله أحدًا من الأئمة من تجويز الإعانة على الإثم والعدوان، ونصر الظالم، وإضاعة حق المظلوم جهارًا.
وذلك الإمام وإن قال: «إن المقبوض بالعقد الفاسد يُضمَن ضمانَ المغصوب» فإنه لم يقل: إن المقبوض به على هذا الوجه ــ الذي هو حيلة ومكر وخداع وظلم محض للمشتري وغرور له ــ يوجب تضمينه وضياعَ حقه وأخْذَ ماله كله وإيداعَه في الحبس على ما بقي وإخراجَ الملك من يده، فإن الرجل قد يشتري الأرض أو العقار وتبقى في يده مدة طويلة تزيد أجرتها على ثمنه أضعافًا مضاعفة، فيؤخذ منه العقار، ويُحسب عليه ثمنه من
(1)
رواه البخاري (2444، 6952) من حديث أنس بن مالك، ومسلم (2584) من حديث جابر بن عبد الله.
الأجرة، ويبقي الباقي بقدر الثمن مرارًا، فربما أخذ ما فوقه وما تحته وفَضلتْ عليه فضلةٌ، فيجتاح الظالم الماكر ماله ويدَعَه على الأرض. فحاشا
(1)
إمامًا واحدًا من أئمة الإسلام أن يكون عونًا لهذا العقرب الخبيث على هذا الظلم والعدوان.
والواجب عقوبة مثل هذا العقوبة التي تردعُه عن لَدْغ
(2)
الناس والتحيل على استهلاك أموال الناس، وأن لا يُمكَّن من طلبِ عوض المنفعة. أما على أصل من لا يضمِّن منافع الغصب ــ وهم الجمهور كأبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه وهي أصحهما دليلًا ــ فظاهر، وأما من يضمِّن الغاصب كالشافعي وأحمد في الرواية الثانية فلا يتأتَّى تضمينُ هذا على قاعدته؛ فإنه ليس بغاصب، وإنما استوفى المنفعة بحكم العقد، فإذا تبيَّن أن العقد باطل وأن البائع غرَّه لم يجب عليه ضمان، فإنه إنما دخل على أن ينتفع بلا عوض، وأن يضمن المبيع بثمنه لا بقيمته؛ فإذا تلِفَ المبيع بعد القبض تلِفَ من ضمانه بثمنه، فإذا انتفع به انتفع به
(3)
بلا عوض؛ لأنه على ذلك دخل، ولو قُدِّر وجوب الضمان فإن الغارَّ هو الذي يضمن؛ لأنه تسبَّب إلى إتلاف مال الغير بغروره، وكل من أتلف مال غيره بمباشرة أو سبب فإنه يضمنه.
ولا يقال: المشتري هو الذي باشر الإتلاف، وقد وجد متسبب ومباشر، فيحال الحكم على المباشر؛ فإن هذا غلط محض هاهنا؛ فإن المضمون هو
(1)
ك: «فحاش» .
(2)
ك: «لذع» .
(3)
«به» ليست في ز.
مال المشتري الذي تلف عليه بالتضمين، وإنما تلف بتسبب الغارّ، وليس هاهنا مباشر يحال عليه الضمان
(1)
.
فإن قيل: فهذا إنما يدل على أنا إذا ضمَّنّا المغرور رجع على الغارّ، لا يدلُّ على تضمين الغار أبدًا
(2)
.
قيل: هذا فيه قولان للسلف والخلف، وقد نصَّ الإمام أحمد رضي الله عنه على أن [106/أ] من اشترى أرضًا فبنى فيها أو غرسَ ثم استحقت فللمستحق
(3)
قلْعُ ذلك، ثم يرجع المشتري على البائع بما نقص. ونصَّ في موضع آخر أنه ليس للمستحق قلْعُه إلا أن يضمن نقصه ثم يرجع به على البائع. وهذا أفقهُ النصَّين وأقربهما إلى العدل؛ فإن المشتري غرس وبنى غِراسًا وبناءً مأذونًا فيه، وليس ظالمًا به، فالعِرق ليس بظالم، فلا يجوز للمستحق قلعه حتى يضمن له نقصه، والبائع هو الذي ظلم المستحق ببيعه ماله وغرَّ المشتري ببنائه وغراسه؛ فإذا أراد المستحق الرجوع في عين ماله ضمن للمغرور ما نقص بقلعه ثم رجع به على الظالم، وكان تضمينه له أولى من تضمين المغرور ثم تمكينه من الرجوع على الغارّ.
ونظير هذه المسألة: لو قبض مغصوبًا من غاصبِه ببيع أو عارية أو إيهابٍ
(4)
أو إجارة وهو يظن أنه مالك
(5)
لذلك أو مأذونٌ له فيه، ففيه قولان:
(1)
«وإنما تلف
…
الضمان» ساقطة من ز.
(2)
ز: «ابتداء» .
(3)
ك: «للمستحق» .
(4)
كذا في النسختين، وهو مصدر الفعل الرباعي «أوهبَ». وفي المطبوع:«اتهاب» .
(5)
ك: «ملك» .
أحدهما: أن المالك مخيَّر بين تضمين أيهما شاء، وهذا المشهور عند أصحاب الشافعي وأحمد، ثم قال أصحاب الشافعي: إن ضمن المشتري وكان عالمًا بالغصب لم يرجع بما ضمن على الغاصب، وإن لم يعلم نظرت فيما ضمن، فإن التزم ضمانه بالعقد كبدل العين وما نقص منها لم يرجع به على الغاصب؛ لأن الغاصب لم يغرَّه، بل دخل معه على أن يضمنه.
وهذا التعليل يوجب أنه يرجع بما زاد على ثمن المبيع إذا ضمنه؛ لأنه إنما التزم ضمانه بالثمن لا بالقيمة، فإذا ضمنه إياه بقيمته رجع بما بينهما من التفاوت.
قالوا: وإن لم يلتزم ضمانه نظرت؛ فإن لم يحصل له في مقابلته منفعة كقيمة الولد ونقصان الجارية بالولادة رجع به على الغاصب، لأنه غرَّه ودخل معه على أنه لا يضمنه، وإن حصلت له به في مقابلته منفعة كالأجرة والمهر وأَرْش البكارة ففيه
(1)
قولان:
أحدهما: يرجع به؛ لأنه غرَّه ولم يدخل معه على أن يضمنه.
والثاني: لا يرجع؛ لأنه حصل له في مقابلته منفعة.
وهذا التعليل أيضًا يوجب على هذا القول أن يرجع بالتفاوت الذي بين المسمَّى ومهر المثل وأجرة المثل اللذين ضمنهما؛ فإنه إنما دخل على الضمان بالمسمَّى لا بعوض المثل، والمنفعة التي حصلت له إنما هي بما التزمه من المسمَّى. ومذهب الإمام أحمد وأصحابه نحو ذلك.
(1)
ك: «فعنه» .
وعقْدُ الباب عندهم أنه يرجع إذا غُرم على الغاصب بما لم يلتزم ضمانه خاصة، فإذا غُرم وهو مُودعٌ أو متَّهبٌ قيمة العين والمنفعة رجع بهما؛ لأنه لم يلتزم ضمانًا، وإن ضمن وهو مستأجر قيمة العين والمنفعة رجع بقيمة العين والقدر الزائد على ما بذله من عوض المنفعة.
وقال أصحابنا: لا يرجع بما ضمنه من عوض المنفعة؛ لأنه دخل على ضمانه، فيقال لهم: نعم دخل على ضمانه بالمسمَّى لا بعوض المثل، وإن كان مشتريًا وضُمن قيمةَ العين والمنفعة؟ فقالوا: يرجع بقيمة المنفعة دون قيمة العين؛ لأنه التزم ضمان العين ودخل على استيفاء المنفعة بلا عوض.
والصحيح أنه يرجع بما زاد من قيمة العين على الثمن الذي بذله، وإن كان مستعيرًا وضمن قيمة العين والمنفعة رجع بما غرمه من ضمان المنفعة؛ لأنه دخل على استيفائها مجانًا، ولم يرجع [106/ب] بما ضمنه من قيمة العين؛ لأنه
(1)
دخل على ضمانها بقيمتها.
وعن الإمام أحمد رواية أخرى أن ما حصل له منفعة تقابل
(2)
ما غرم كالمهر والأجرة في المبيع وفي الهبة وفي العارية، وكقيمة الطعام إذا قدم له أو وهب منه فأكله فإنه لا يرجع به؛ لأنه استوفى العوض، فإذا غرم عوضه لم يرجع به.
والصحيح القول الأول؛ لأنه
(3)
لم يدخل على استيفائه بعوض، ولو
(1)
ك: «لا» .
(2)
ك: «فقابل» .
(3)
ك: «أنه» .
علم أنه يستوفيه بعوضه لم يدخل على ذلك، ولو علم الضيف أن صاحب البيت أو غيره يغرِّمه الطعام لم يأكله، ولو ضمن المالك ذلك كله للغاصب جاز، ولم يرجع على القابض إلا بما لا يرجع به عليه، فيرجع عليه إذا كان مستأجرًا بما غرمه من الأجرة
(1)
.
وعلى القول الذي اخترناه إنما يرجع عليه بما التزمه من الأجرة خاصة، ويرجع عليه إذا كان مشتريًا بما غرمه من قيمة العين، وعلى القول الآخر إنما يرجع عليه بما بذله من الثمن، ويرجع عليه إذا كان مستعيرًا بما غرمه من قيمة العين؛ إذ لا مسمَّى هناك، وإذا كان متَّهبًا أو مودعًا لم يرجع عليه بشيء. فإن كان القابض من الغاصب هو المالك فلا شيء له لما استقرَّ
(2)
عليه لو كان أجنبيًّا، وما سواه فعلى الغاصب؛ لأنه لا يجب له على نفسه شيء، وأما ما لا يستقر عليه لو كان أجنبيًّا بل يكون قراره على الغاصب فهو على الغاصب أيضًا هاهنا.
والقول الثاني: أنه ليس للمالك مطالبة المغرور ابتداءً، كما ليس له مطالبته قرارًا، وهذا هو الصحيح، ونصّ عليه الإمام أحمد في المُودَع إذا أودعها ــ يعني الوديعة ــ عند غيره من غير حاجة فتلِفتْ، فإنه لا يضمن الثاني إذا لم يعلم، وذلك لأنه مغرور.
وطَرْد هذا النص أنه لا يطالب المغرور في جميع هذه الصور، وهو الصحيح؛ فإنه مغرور ولم يدخل على أنه مطالب، فلا هو التزم المطالبة ولا الشارع ألزمه بها، وكيف يُطالَب المظلوم المغرور ويُترك الظالم الغارّ؟ ولا
(1)
ز: «الأجر» . ك: «الاخر» .
(2)
ك: «يستقر» .
سيما إن كان محسنًا بأخذه الوديعة، و {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91]، {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 42]، وهذا شأن الغارّ الظالم.
وقد قضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن المشتري المغرور بالأمة إذا وطئها ثم خرجت مستحقة، وأخذ منه سيدها المهر، رجع به على البائع لأنه غرَّه
(1)
.
وقضى علي أنه لا يرجع به لأنه استوفى عوضه.
وهاتان الروايتان عن الصحابة هما قولان للشافعي وروايتان عن الإمام أحمد، ومالك أخذ بقول عمر، وأبو حنيفة أخذ بقول علي.
وقول عمر أفقهُ، لأنه لم يدخل على أنه يستمتع بالمهر، وإنما دخل على الاستمتاع بالثمن وقد بذله. وأيضًا فالبائع ضمن له بعقد البيع سلامة الوطء كما ضمن له سلامة الولد، فكما يرجع عليه بقيمة الولد يرجع عليه بالمهر.
فإن قيل: فما تقولون في أجرة الاستخدام إذا ضمنه إياها المستحق، هل يرجع بها على الغارّ؟
قلنا: نعم يرجع بها
(2)
، وقد صرّح بذلك القاضي وأصحابه، وقد قضى
(1)
رواه مالك (2/ 526) وعبد الرزاق (10679) وسعيد بن منصور (1/ 212) والدارقطني (4/ 398)، وصححه الحافظ في «موافقة الخبر الخبر» (1/ 161)، والشوكاني في «الدراري المضية» (ص 212).
(2)
«يرجع بها» ليست في ك.
أمير المؤمنين أيضًا بأن الرجل إذا وجد امرأته برصاء أو عمياء أو مجنونة فدخل بها فلها الصداق، [107/أ] ويرجع به على من غرَّه
(1)
. وهذا محض القياس والميزان الصحيح؛ لأن الولي
(2)
لما لم يُعلِمه وأتلف عليه المهر لزمه غُرمه.
فإن قيل: هو الذي أتلفه
(3)
على نفسه بالدخول.
قيل: لو علم أنها كذلك لم يدخل بها، وإنما دخل
(4)
بها بناء على السلامة التي غرَّه
(5)
بها الولي، ولهذا لو علم العيب ورضي به ودخل بها لم يكن هناك فسخ ولا رجوع، ولو كانت المرأة هي التي غرَّته سقط مهرها.
ونكتة المسألة أن المغرور إما محسن وإما معذور، وكلاهما لا سبيل عليه، بل ما يلزم المغرورَ بالتزامه له لا يسقط عنه، كالثمن في المبيع والأجرة في عقد الإجارة.
فإن قيل: فالمهر قد التزمه، فكيف يرجع به؟
(1)
روى عبد الرزاق (10677) وسعيد بن منصور (1/ 245) والدارقطني (4/ 399) والبيهقي (7/ 215)، من طرق عن الشعبي عن علي بلفظ:«أيما امرأة نكحت وبها برص أو جنون أو جذام أو قرن، فزوجها بالخيار ما لم يمسها، إن شاء أمسك، وإن شاء طلق، وإن مسها فلها المهر بما استحل من فرجها» . وهذا إسناد صحيح.
(2)
ك: «المولى» .
(3)
د: «أتلف» .
(4)
ز: «يدخل» .
(5)
ك: «غرّ» .
قيل: إنما التزمه في محلٍّ سليم، ولم يلتزمه
(1)
في معيبة ولا أمة مستحقة؛ فلا يجوز أن يلزم به.
فإن قيل: فهذا ينتقض عليكم بالنكاح الفاسد؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ألزمه فيه بالصداق
(2)
بما استحلَّ من فرجها، وهو لم يلتزمه
(3)
إلا في نكاح صحيح.
قيل: لما أقدم على الباطل لم يكن هناك مَن غرَّه، بل كان هو الغارّ لنفسه، فلا يذهب استيفاء المنفعة فيه مجّانًا، وليس هناك من يرجع عليه، بلى
(4)
لو فسد
(5)
النكاح بغرور المرأة سقط مهرها، أو بغرور الولي رجع عليه.
فصل
ومن الحيل المحرَّمة الباطلة: التحيلُ على جواز مسألة العِينة، مع أنها حيلة في نفسها على الربا، وجمهور الأمة على تحريمها.
وقد ذكر أرباب الحيل لاستباحتها عدة حيل:
منها: أن يُحدِث المشتري في السلعة حدثًا ما تنقص به أو تتعيَّب؛ فحينئذٍ يجوز لبائعها أن يشتريها بأقلّ ما
(6)
باعها.
(1)
ك: «يلزمه» .
(2)
ك: «الصداق» .
(3)
ك: «يلزمه» .
(4)
ك: «بل» .
(5)
د: «أفسد» .
(6)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «بأقلّ مما» .
ومنها: أن تكون السلعة قابلةً للتجزِّي، فيمسك منها جزءًا ما ويبيعه بقيتها.
ومنها: أن يضمَّ البائع إلى السلعة سكّينًا أو منديلًا أو حلقةَ حديدٍ أو نحو ذلك، فيمسكه المشتري، ويبيعه السلعة بما يتفقان عليه من الثمن.
ومنها: أن يهبها المشتري لولده أو زوجته أو من يثق به، فيبيعها الموهوب له من بائعها، فإذا قبض الثمن أعطاه للواهب.
ومنها: أن يبيعه إياها نفسه من غير إحداث شيء ولا هبة لغيره، لكن يضم إلى ثمنها خاتمًا من حديد أو منديلًا أو سكّينًا ونحو ذلك.
ولا ريب أن العينة على وجهها أسهل من هذا
(1)
التكليف، وأقلّ مفسدة، وإن كان الشارع قد حرَّم مسألة
(2)
العينة لمفسدةٍ فيها فإن المفسدة لا تزول بهذه الحيلة، بل هي بحالها، وانضمَّ إليها مفسدة أخرى أعظم منها، وهي مفسدة المكر والخداع واتخاذ أحكام الله هُزُوًا، وهي أعظم المفسدتين. وكذلك سائر الحيل، لا تُزيل المفسدة التي حرّم لأجلها، وإنما يضم إليها مفسدة الخداع والمكر. وإن كانت العِينة لا مفسدة فيها فلا حاجة إلى الاحتيال عليها.
ثم إن العِينة في نفسها من أدنى الحيل إلى الربا، فإذا تحيَّل عليها المحتال صارت حيلًا متضاعفة، ومفاسدَ متنوعة، والحقيقة والقصد معلومانِ لله وللملائكة وللمتعاقدَينِ ولمن حضرهما من الناس، فليصنَعْ
(1)
«هذا» ليست في ك.
(2)
«مسألة» ساقطة من ك.
أرباب الحيل ما شاءوا، وليسلكوا أية طريقٍ سلكوا؛ فإنهم لا يخرجون بذلك [107/ب] عن بيع مائة بمائة وخمسين إلى سنة، فليدخلوا محلل الربا أو يخرجوه فليس هو المقصود، والمقصود معلوم، والله لا يُخادَع، ولا تَروجُ عليه الحيل، ولا تلبس عليه الأمور.
فصل
ومن الحيل المحرمة الباطلة: إذا أراد أن يبيع سلعةً بالبراءة من كل عيب، ولم يأمن أن يردَّها عليه المشتري، ويقول: لم يعيَّن لي عيبُ كذا وكذا= أن يوكِّل رجلًا غريبًا لا يعرف في بيعها، ويضمن للمشتري دركَ المبيع، فإذا باعها قبض منه رب السلعة الثمن، فلا يجد المشتري من يرد عليه السلعة.
وهذا غشٌّ حرام، وحيلة لا تُسقِط المأثم، فإن علم المشتري بصورة الحال فله الردُّ، وإن لم يعلم فهو المفرِّط، حيث لم يضمن الدرك لمعروفٍ يتمكن من مخاصمته، فالتفريط من هذا والمكر والخداع من ذاك
(1)
.
فصل
ومن الحيل المحرمة الباطلة: أن يشتري جارية ويريد وطأها بملك اليمين في الحال من غير استبراء، فله عدة حيل:
منها: أن يزوِّجه إياها البائعَ قبل أن يبيعها منه، فتصير زوجتَه، ثم يبيعه إياها فينفسخ النكاح، ولا يجب عليه استبراء؛ لأنه ملكَ زوجتَه
(2)
، وقد كان
(1)
ك: «ذلك» .
(2)
«ثم يبيعه
…
زوجته» ساقطة من ك.
وطؤها حلالًا له بعقد النكاح
(1)
؛ فصار حلالًا بملك اليمين.
ومنها: أن يزوِّجها غيره، ثم يبيعها من الرجل الذي يريد شراءها، فيملكها مزوَّجةً وفرجُها عليه حرام؛ فيؤمر الزوج بطلاقها، فإذا فعل حلَّت للمشتري.
ومنها: أن مشتريها لا يقبضها حتى يزوِّجها من عبده أو غيره، ثم يقبضها بعد التزويج، فإذا قبضها طلَّقها الزوج، فيطؤها سيدها بلا استبراء.
قالوا: فإن خاف المشتري أن لا يطلّقها الزوج استوثق بأن يجعل الزوجُ أمرَها بيد السيد، فإذا فعل طلَّقها هو ثم وطئها بلا استبراء.
ولا يخفى نسبة هذه الحيل إلى الشرع، ومحلُّها منه، وتضمُّنُها أن بائعها يطؤها بكرةً ويطؤها المشتري عشيةً، وأن هذا مناقض لما قصده الشارع من الاستبراء، ومُبطِل لفائدة الاستبراء بالكلية.
ثم إن هذه الحيل كما هي محرمة فهي باطلة قطعًا؛ فإن السيد لا يحلُّ له أن يزوِّج موطوءته حتى يستبرئها، وإلا فكيف يزوِّجها لمن يطؤها ورَحِمُها مشغول بمائه؟ وكذلك إن أراد بيعها وجب عليه استبراؤها على أصح القولين، صيانةً لمائه، ولا سيما إن لم يأمن وطءَ المشتري لها بلا استبراء، فهاهنا يتعين عليه الاستبراء قطعًا، فإذا زوَّجها حيلةً على إسقاط حكم الله وتعطيل أمره كان نكاحًا باطلًا، لإسقاط ما أوجبه الله من الاستبراء، وإذا طلَّقها الزوج بناء على صحة هذا النكاح الذي هو مكر وخداع واتخاذ لآيات الله هُزُوًا لم يحِلَّ للسيد أن يطأها بدون الاستبراء؛ فإن الاستبراء وجب عليه
(1)
ك: «للنكاح» .
بحكم الملك المتجدد، والنكاح العارض حالَ بينه وبينه، لأنه لم يكن يحل
(1)
له وطؤها، فإذا زال المانع عمل المقتضي عملَه، وزوال
(2)
المانع لا يزيل اقتضاء المقتضي مع قيام سبب الاقتضاء منه.
وأيضًا فلا يجوز تعطيل الوصف عن موجبه ومقتضاه من غير فوات شرطٍ أو قيام مانعٍ.
وبالجملة فالمفسدة [108/أ] التي منع الشارع المشتريَ لأجلها من الوطء بدون الاستبراء لم تَزُلْ بالتحيل والمكر، بل انضمَّ إليها مفاسدُ المكر والخداع والتحيل.
فيا لله العجبُ من شيء حرم لمفسدة فإذا انضم إليه مفسدة أخرى هي
(3)
أكبر
(4)
من مفسدته بكثير صار حلالًا! فهو بمنزلة لحم الخنزير إذا ذُبِح كان حرامًا، فإن مات حتْفَ أنفِه أو خُنِقَ
(5)
حتى يموت صار حلالًا؛ لأنه لم يذبح. قال الإمام أحمد: هو حرام من وجهين، وهكذا هذه المحرمات إذا احتيل عليها صارت حرامًا من وجهين وتأكَّد تحريمها.
والذي يُقضَى منه العجب أنهم
(6)
يجمعون بين سقوط الاستبراء بهذه الحيل وبين وجوب استبراء الصغيرة التي لم توطأ ولا يوطأ مثلها، وبين
(1)
«يحل» ليست في د.
(2)
ك: «وزال» .
(3)
«هي» ليست في د.
(4)
د، ك:«أكثر» .
(5)
ك: «حق» ، تحريف.
(6)
ز، ك:«أنه» .
استبراء البِكر التي لم يقرَعْها
(1)
فَحْل، واستبراء العجوز الهرِمة التي قد أيِستْ من الحبل والولادة، واستبراء الأمة التي يُقطع ببراءة رحمها، ثم يُسقطونه مع العلم بأن رحمها مشغول، فأوجبتموه حيث لم يوجبه الشارع، وأسقطتموه حيث أوجبه.
قالوا: وليس هذا بعجيب من تناقضكم، بل أعجبُ منه إنكار كون القُرعة طريقًا لإثبات الحكم مع ورود السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه بها
(2)
، وإثبات حِلِّ الوطء بشهادة شاهدَيْ زورٍ يعلم الزوج الواطئ أنهما شهدَا بالزور على طلاقها حتى يجوز لأحد الشاهدين أن يتزوَّجها فيثبت الحلُّ بشهادتهما!
وأعجب من ذلك أنه لو كان له أمة هي سُرِّيَّتُه يطؤها كلَّ وقت لم تكن فراشًا له، ولو ولدتْ لم يلحقه الولد، ولو تزوَّج امرأةً ثم قال بحضرة الحاكم والشهود في مجلس العقد:«هي طالقٌ ثلاثًا» ، أو كانت بأقصى المشرق وهو بأقصى المغرب= صارت فراشًا بالعقد؛ فلو أتت بعد ذلك بولدٍ
(3)
لأكثر من ستة أشهر لحقه نسبه!
وأعجبُ من ذلك قولكم: لو منع الذمي دينارًا واحدًا من الجزية وقال: «لا أؤدِّيه» انتقض عهده وحلَّ ماله ودمه، ولو سبَّ الله تعالى ورسوله وكتابه على رؤوسنا أقبحَ سبٍّ، وحرَّق أفضل المساجد على الإطلاق، واستهان بالمصحف بين أيدينا أعظمَ استهانة، وبذل ذلك الدينار= فعهدُه باقٍ ودمُه
(1)
كذا في النسخ بالقاف، وله وجه. ويقال بالفاء فَرَعَ البِكرَ: افتضَّها.
(2)
«بها» ساقطة من ك.
(3)
«بولد» ليست في ز.
معصوم!
ومن العجب تجويز قراءة القرآن بالفارسية، ومنعُ رواية الحديث بالمعنى!
ومن العجب إخراج الأعمال عن
(1)
مسمَّى الإيمان وأنه مجرد التصديق، والناس فيه سواء، وتكفيرُ من يقول مُسَيجِد أو فُقَيِّه، أو يصلِّي بلا وضوء، أو يلتذُّ بآلات الملاهي، ونحو ذلك!
ومن العجب إسقاط الحدّ عمن استأجر امرأةً للزنا أو لكَنْسِ بيته فزنى بها، وإيجابه على من وجد امرأة أجنبية على فراشه في الظلمة فجامعها يظنُّها امرأته!
ومن العجب التشديدُ في المياه حتى تُنَجَّس القناطير المقنطرة منها بقطرة بول أو قطرة دم، وتجويزُ الصلاة في ثوبٍ رُبعُه مضمَّخٌ بالنجاسة، فإن كانت مغلَّظةً فبقدر راحة الكفّ!
ومن العجب أنه لو شهد عليه أربعة بالزنا فكذَّب الشهودَ حُدَّ، وإن صدَّقهم سقط عنه الحدُّ!
ومن العجب أنه لا يصح استئجار دارٍ [108/ب] لتُتَّخذ مسجدًا يُعبد الله فيه، ويصحُّ استئجارها تُجعَل كنيسةً يُعبد فيها
(2)
الصليب أو بيتَ نارٍ تُعبد فيها النار!
ومن العجب أنه لو ضحك في صلاةٍ قهقهةً بطل وضوؤه، ولو غنَّى في
(1)
«عن» ليست في ك.
(2)
«فيها» ليست في ك.
صلاته أو قذفَ المحصنات أو شهد بالزُّور ونحو ذلك فوضوؤه بحاله!
ومن العجب أنه لو وقع في البئر نجاسة نُزِح منها أَدْلاءٌ
(1)
معدودة، فإذا حصل الدلو في البئر تنجَّس وغرفَ الماء نجسًا، وما أصاب حيطانَ البئر من ذلك الماء نجَّسها، وكذلك ما بعده من الدِّلاء إلى أن تنتهي النوبة إلى الدلو الأخير فإنه ينزِل نجسًا ثم يصعد طاهرًا، فيُقَشْقِشُ النجاسة كلَّها من قعر البئر إلى رأسه!
قال بعض المتكلمين
(2)
: ما رأيتُ أكرمَ من هذا الدلو ولا أعقلَ.
ومن العجب أنه لو حلف أنه
(3)
لا يأكل فاكهة حَنِثَ بأكل الجَوز واللَّوز والفُستق، ولو كان يابسًا قد أتت عليه السِّنون، ولا يحنَثُ بأكل الرُّطَب والعنب والرمّان!
وأعجب من ذلك تعليل هذا بأن هذه الثلاثة من خيار الفاكهة وأعلى أنواعها، فلا تدخل في الاسم المطلق.
ومن العجب أنه لو حلف أن لا يشرب من النيل أو الفرات أو دجلةَ فشرب بكفِّه أو بكوزٍ أو دلوٍ من هذه الأنهار
(4)
لم يحنَثْ، فإذا شرب بفِيْه
(1)
كذا في النسخ كأنه جمع دَلْو، ولم أجده في المعاجم. والمعروف في جمعها: أَدْلٍ ودِلاءٌ ودُلِيٌّ ودَلَى، كما في «القاموس» .
(2)
هو الجاحظ كما في «الانتصار» لأبي الخطاب (1/ 234) و «عارضة الأحوذي» (1/ 86) و «بدائع الفوائد» (3/ 1059).
(3)
«أنه» ليست في ك.
(4)
ك: «الأنهر» .
مثلَ البهائم حنِثَ
(1)
.
ومن العجب أنه لو نام في المسجد وأُغلِقت
(2)
عليه الأبواب ودعَتْه الضرورة إلى الخلاء، فطاقُ القبلةِ ومحرابُ المسجد أولى بذلك من مؤخَّر المسجد!
ومن العجب أمر هذه الحيل التي لا يزداد بها المنهيُّ عنه إلا فسادًا مضاعفًا، كيف تُباح
(3)
مع تلك المفسدة الزائدة بالمكر والخداع وتحرم بدونها؟ وكيف تنقلب مفاسدها بالحيل صلاحًا، وتصير خمرتُها خلًّا، وخبثها طيبًا؟
قالوا: فهذا فصل
(4)
في الإشارة إلى بيان فساد هذه الحيل على وجه التفصيل، كما تقدم الإشارة إلى فسادها وتحريمها على وجه الإجمال، ولو تتبعناها حيلةً حيلةً لطال الكتاب، ولكن هذه أمثلة يُحتذَى عليها، والله الموفِّق للصواب.
* * * *
(1)
ذكر المؤلف بعض هذه العجائب في «بدائع الفوائد» (3/ 1057 - 1060).
(2)
ك: «أو غلقت» .
(3)
ك: «تباع» ، تحريف.
(4)
ك: «فعل» .