المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ فعل المحلوف عليه مكرها - أعلام الموقعين عن رب العالمين - ط عطاءات العلم - جـ ٤

[ابن القيم]

الفصل: ‌ فعل المحلوف عليه مكرها

بعدم الحنث لأنه لم يقصده، والناسي قد قصد التسليم عليه، وإن حنَّثنا الناسي هل يحنث هذا؟ على روايتين:

إحداهما: يحنث لأنه بمنزلة الناسي؛ إذ هو جاهل بكونه معهم.

والثانية ــ وهي أصح ــ: أنه لا يحنث، قاله أبو البركات

(1)

وغيره.

وهذا يدّل على أن الجاهل أعذرُ من الناسي، وأولى بعدم الحنث. وصرَّح به أصحاب الشافعي في الأيمان، ولكن تناقضوا كلهم في جعل الناسي في الصوم أولى بالعذر من الجاهل، ففطَّروا الجاهلَ دون الناسي. وسوَّى شيخنا بينهما، وقال

(2)

: الجاهل أولى بعدم الفطر من الناسي. فسَلِم من التناقض.

وقد سوَّوا بين الجاهل والناسي فيمن حمل النجاسة في الصلاة ناسيًا أو جاهلًا [163/أ] ولم يعلم حتى فرغ منها، فجعلوا الروايتين والقولين في الصورتين. وقد سوَّى الله سبحانه بين المخطئ والناسي في عدم المؤاخذة، وسوَّى بينهما النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:«إن الله تجاوزَ لي عن أمتي الخطأَ والنسيانَ»

(3)

، فالصواب التسوية بينهما.

فصل

وأما إذا‌

‌ فعل المحلوف عليه مُكرَهًا

فعن أحمد روايتان منصوصتان، إحداهما: يحنث في الجميع، والثانية: لا يحنث في الجميع، وهما قولان

(1)

في «المحرر» (2/ 81).

(2)

«مجموع الفتاوى» (20/ 569 - 573).

(3)

تقدم.

ص: 532

للشافعي. وخرَّج أبو البركات

(1)

رواية ثالثة أنه يحنث في اليمين

(2)

بالطلاق والعتاق دون غيرهما من الأيمان، مِن نصِّه على الفرق في صورة الجاهل والناسي.

فإن أُلجِئ وحُمِل أو فُتح فمه وأُوجِرَ

(3)

ما حلف أن لا يشربه: فإن لم يقدر على الامتناع لم يحنث، وإن قدر على الامتناع فوجهان. وإذا لم يحنث فاستدام ما أُلجِئ عليه كما لو أُلجِئ دخولَ دارٍ حلفَ أن لا يدخلها، فهل يحنث؟ فيه وجهان. ولو حلف على غيره ممن يقصد منعه على ترك فعلٍ ففعلَه مُكرَهًا أو مُلجَأً فهو على هذا الخلاف سواء.

فصل

أما المتأوِّل فالصواب أنه لا يحنث كما لم يأثم في الأمر والنهي، وقد صرَّح به الأصحاب فيما لو حلف أن لا يفارق غريمَه حتى يقبض حقَّه فأحاله به، ففارقه يظنُّ أن ذلك قبض، وأنه برَّ في يمينه، فحكوا فيه الروايات الثلاث. وطَرْد هذا كلّ متأول ظنَّ أنه لا يحنث بما فعله؛ فإن غايته أن يكون جاهلًا بالحنث، وفي الجاهل الرواياتُ الثلاث.

وإذا ثبت هذا في حق المتأول فكذلك في حق المقلد أو

(4)

أولى، فإذا حلف بالطلاق أن لا يكلِّم فلانًا أو لا يدخل داره فأفتاه مفتٍ بعدم وقوع

(1)

في «المحرر» (2/ 81).

(2)

في المطبوع: «باليمين» خلاف النسخ.

(3)

أي صُبَّ في حلقه.

(4)

سقطت من المطبوع «أو» .

ص: 533

الطلاق في هذه اليمين، اعتقادًا لقول علي بن أبي طالب

(1)

وطاوس

(2)

وشُريح

(3)

، أو اعتقادًا لقول أبي حنيفة والقفّال في صيغة الالتزام دون صيغة الشرط، أو اعتقادًا لقول أشهب ــ وهو أجلُّ أصحاب مالك ــ إنه إذا علّق الطلاق بفعل الزوجة لم يحنث بفعلها، أو اعتقادًا لقول أبي عبد الرحمن الشافعي أجل أصحاب الشافعي إن الطلاق المعلَّق لا يصح، كما لا يصح النكاح والبيع والوقف المعلّق، وهو مذهب جماعة من أهل الظاهر= لم يحنث

(4)

في ذلك كله، ولم يقع الطلاق.

ولو فُرض فساد هذه الأقوال كلها فإنه إنما فعل المحلوف عليه متأولًا مقلّدًا ظانًّا أنه لا يحنث به، فهو أولى بعدم الحنث من الجاهل والناسي، وغاية ما يقال

(5)

: إنه مفرِّط حيث لم يستقصِ، ولم يسأل غيرَ من أفتاه، وهذا بعينه يقال في الجاهل: إنه مفرِّط حيث لم يبحثْ ولم يسأل عن المحلوف عليه، فلو صحَّ هذا الفرق لبطل عذر الجاهل البتةَ. كيف والمتأول مطيع لله مأجور إما أجرًا واحدًا أو أجرين؟ والنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخذ خالدًا في تأويله حين

(1)

تقدم. وسيأتي الكلام عليه عند المصنف.

(2)

رواه عبد الرزاق كما في «المحلى» (10/ 213) من طريق ابن جريج أخبرني ابن طاوس عن أبيه أنه كان يقول: الحلف بالطلاق ليس شيئا، قلت: كان يراه يمينًا؟ قال: لا أدري. وإسناده صحيح.

(3)

رواه عبد الرزاق (11322) من طريق هشيم عن ابن سيرين عن شريح.

(4)

سياق الكلام: «فإذا حلف بالطلاق

لم يحنث». وقد طال الفصل بين الشرط والجزاء بذكر أقوال الفقهاء.

(5)

بعدها في المطبوع زيادة «في الجاهل» ، وليست في النسخ، ولا يقتضيها السياق، فسيأتي ذكر الجاهل.

ص: 534

قتل بني جَذِيمة بعد إسلامهم

(1)

. [163/ب] ولم يؤاخذ أسامة حين قتل من قال لا إله إلا الله لأجل التأويل

(2)

. ولم يؤاخذ من أكل نهارًا في الصوم عمدًا لأجل التأويل

(3)

. ولم يؤاخذ أصحابه حين قتلوا من سلَّم عليهم وأخذوا غُنَيْمتَه لأجل التأويل

(4)

. ولم يؤاخذ المستحاضة بتركها الصومَ والصلاة لأجل التأويل

(5)

. ولم يؤاخذ عمر حين ترك الصلاة لما أجنبَ في السفر ولم يجدْ ماء لأجل التأويل

(6)

. ولم يؤاخذ مَن تمعَّكَ في التراب كتمعُّك الدابة وصلَّى لأجل التأويل

(7)

.

وهذا أكثر من أن يُستقصى.

وأجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل مال أو دم أصيب بتأويل القرآن فهو هدرٌ في قتالهم في الفتنة، قال الزهري: وقعت الفتنةُ وأصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم متوافرون، فأجمعوا على أن كل مال أو دم أصيب بتأويل القرآن فهو هدرٌ، أنزلوهم منزلةَ الجاهلية

(8)

.

(1)

رواه البخاري (4339، 7189) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

رواه البخاري (4269، 6872) ومسلم (96) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه.

(3)

كما في حديثي سهل بن سعد وعدي بن حاتم المتفق عليهما، وقد سبق ذكرهما.

(4)

رواه البخاري (4591) ومسلم (3025) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(5)

رواه أحمد (27144، 27474، 27475) وأبو داود (287) والترمذي (128) وابن ماجه (627) من طريق عمران بن طلحة عن أمه حمنة بنت جحش. وصححه أحمد والبخاري والترمذي. انظر: «العلل الكبير» (ص 60) والتعليق عليه.

(6)

كما في حديث عمّار بن ياسر الذي أخرجه البخاري (338) ومسلم (368).

(7)

كما في الحديث السابق. وعمار هو الذي فعل ذلك.

(8)

رواه ابن أبي شيبة (28542) والخلال في «السنة» (1/ 151 - 153) والبيهقي (8/ 174، 175) من طرق عن الزهري.

ص: 535

ولم يؤاخذ النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين رمى حاطب بن أبي بَلْتَعة المؤمن البدريَّ بالنفاق لأجل التأويل

(1)

. ولم يؤاخذ أُسَيد بن حُضَير بقوله لسعد سيد الخزرج: «إنك منافق تُجادِل عن المنافقين» لأجل التأويل

(2)

. ولم يؤاخذ من قال عن مالك بن الدُّخْشُم: «ذاك منافقٌ، نرى وجهَه

(3)

وحديثَه إلى المنافقين» لأجل التأويل

(4)

. ولم يؤاخذ عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه حين ضرب صدر أبي هريرة حتى وقع على الأرض، وقد ذهب للتبليغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمره، فمنعه عمر وضربه وقال:«ارجِعْ» ، وأقرَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم على فعله، ولم يؤاخذه لأجل التأويل

(5)

.

وكما رفع مؤاخذة التأثيم في هذه الأمور وغيرها رفع مؤاخذة الضمان في الأموال والقضاء في العبادات، فلا يحلُّ لأحدٍ أن يفرِّق بين رجل وامرأته لأمرٍ يخالف مذهبه وقوله الذي قلّد فيه بغير حجة إذا كان الرجل قد تأوَّل وقلَّد من أفتاه بعدم الحنث، ولا يحلُّ له أن يحكم عليه بأنه حانثٌ في حكم الله ورسوله، ولم يتعمَّد الحنث، بل هذا فِريةٌ على الله ورسوله وعلى الحالف، وإذا وصل الهوى إلى هذا الحدّ فصاحبه تحت الدرك، وله مقامٌ وأيُّ مقامٍ بين يدي الله يومَ لا ينفعه شيخه ولا مذهبه ومن قلَّده، والله المستعان.

(1)

روى هذه القصة البخاري (3007 ومواضع أخرى) ومسلم (2494) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري (2661، 4141، 4750) ومسلم (2770) من حديث عائشة رضي الله عنها الطويل في قصة الإفك.

(3)

عند البخاري: «وُدَّه» .

(4)

رواه البخاري (1186) من حديث عتبان بن مالك.

(5)

رواه مسلم (31) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ضمن قصة.

ص: 536

وإذا قال الرجل لامرأته: «أنتِ طالق ثلاثًا لأجل كلامكِ لزيد وخروجكِ من بيتي» فبانَ أنها لم تكلِّمه ولم تخرج من بيته= لم تَطْلُق، صرَّح به الأصحاب. قال ابن أبي موسى في «الإرشاد»

(1)

: فإن قال: «أنتِ طالق أن دخلتِ الدار» بنصب الألف، والحالف من أهل اللسان، فإن كان تقدَّم لها دخولٌ إلى تلك الدار قبل اليمين طلُقتْ في الحال؛ لأن ذلك للماضي من الفعل دون المستقبل، وإن كانت لم تدخلها قبل اليمين بحال لم تَطْلُقْ، وإن دخلت الدار بعد اليمين، إذا كان الحالف قصدَ بيمينه الفعلَ الماضي دون المستقبل، لأنّ ذلك يَعني: إن كنتِ دخلتِ الدار فأنتِ طالق. وإن كان الحالف جاهلًا باللسان. [164/أ] وإنما أراد باليمين الدخول المستقبل، فمتى دخلت الدار بعد اليمين طلقتْ بما حلف به قولًا واحدًا. وإن كان تقدَّم لها دخول الدار قبل اليمين فهل يحنث بالدخول الماضي أم لا؟ على وجهين أصحهما لا يحنَث.

والمقصود أنه إذا

(2)

عُلِّل الطلاق بعلة ثم تبيَّن انتفاؤها فمذهب أحمد أنه لا يقع به الطلاق، وعند شيخنا

(3)

لا يشترط ذِكْره التعليلَ بلفظه، ولا فرقَ عنده بين أن يطلِّقها لعلة مذكورة في اللفظ أو غير مذكورة، فإذا تبيَّن انتفاؤها لم يقع به الطلاق. وهذا هو الذي لا يليق بالمذهب غيره، ولا تقتضي قواعد الأئمة غيره. فإذا قيل له: امرأتك قد شربتْ مع فلان وباتَتْ عنده، فقال: اشهدوا عليَّ أنها طالق ثلاثًا، ثم علم أنها كانت تلك الليلة في بيتها قائمةً

(1)

(ص 299).

(2)

«إذا» ليست في ك.

(3)

انظر: «الاختيارات» للبعلي (ص 377).

ص: 537

تصلِّي، فإن هذا الطلاق لا يقع به قطعًا. وليس بين هذا وبين قوله «إن كان الأمر كذلك فهي طالق ثلاثًا» فرقٌ البتةَ، لا عند الحالف ولا في العرف ولا في الشرع، فإيقاع الطلاق بهذا وهمٌ محض؛ إذ يُقطَع بأنه لم يُرِد طلاق من ليست كذلك، وإنما أراد طلاقَ من فعلَتْ ذلك.

وقد أفتى جماعة من الفقهاء من أصحاب الإمام أحمد والشافعي ــ منهم الغزالي والقفَّال وغيرهما ــ الرجل يمرُّ على المَكَّاس

(1)

برقيقٍ له، فيطالبه بمَكْسهم، فيقول:«هم أحرار» ليتخلَّص من ظلمه، ولا غرضَ له في عتقهم= أنهم لا يعتقون. وبهذا أفتينا نحن تجَّارَ اليمن لما قدِموا منها ومرُّوا على المكّاسين فقالوا لهم ذلك.

وقد صرَّح أصحاب الشافعي

(2)

في باب الكتابة بما إذا دفع إليه العوض فقال: «اذهبْ فأنت حرٌّ» بناء على أنه قد سلّم له العوض، فظهر العوض مستحقًّا ورجع به عليه صاحبه= أنه لا يعتق. وهذا هو الفقه بعينه.

وصرَّحوا

(3)

أن الرجل لو علَّق طلاق امرأته بشرطٍ، فظنّ أن الشرط قد وقع فقال:«اذهبي فأنتِ طالق» وهو يظن أن الطلاق قد وقع بوجود الشرط، فبان أن الشرط لم يوجد= لم يقع الطلاق. ونص على ذلك شيخنا

(4)

(1)

الذي يأخذ الضريبة من التجّار.

(2)

انظر: «روضة الطالبين» (12/ 247) و «الفتاوى الكبرى الفقهية» لابن حجر الهيتمي (3/ 57).

(3)

انظر: «حاشية الجمل على شرح منهج الطلاب» (5/ 467).

(4)

انظر: «الاختيارات» للبعلي (ص 377).

ص: 538

قدَّس الله روحه

(1)

.

ومن هذا القبيل: لو قال «حلفتُ بطلاق امرأتي ثلاثًا أن لا أفعلَ كذا» وكان كاذبًا ثم فعَلَه= لم يحنث، ولم تطلَّق عليه امرأته. قال الشيخ في «المغني»

(2)

: إذا قال: حلفتُ، ولم يكن حلفَ، فقال الإمام أحمد: هي كذبةٌ ليس عليه يمين. وعنه: عليه الكفارة؛ لأنه أقرَّ على نفسه. والأول هو المذهب لأنه حكمٌ فيما بينه وبين الله تعالى، فإذا كذبَ في الخبر به [لم يلزمه حكمه]، كما لو قال:«ما صلّيتُ» وقد صلَّى.

قلت: قال أبو بكر عبد العزيز: باب القول في إخبار الإنسان بالطلاق واليمينِ كاذبًا. قال في رواية الميموني: إذا قال: «قد حلفتُ بيمين» ولم يكن حلفَ فعليه كفارة يمين، فإن قال:«قد حلفتُ بالطلاق» ولم يكن حلف يلزمه الطلاق، ويرجع إلى نيته في الواحدة والثلاث. وقال في رواية محمد بن الحكم في الرجل يقول: قد حلفتُ، ولم يكن حلفَ: فهي كذبةٌ ليس عليه [164/ب] يمين. فاختلف أصحابنا على ثلاثة طرق:

إحداها: أن المسألة على روايتين.

والثانية وهي طريقة أبي بكر، قال عقيب حكاية الروايتين: قال عبد العزيز في الطلاق: يلزمه، وفيما يكون

(3)

من الأيمان: لا يلزمه.

والطريقة الثالثة: أنه حيثُ ألزمه أراد به في الحكم، وحيث لم يُلزِمه

(1)

«قدس الله روحه» ليست في ك، ب.

(2)

(13/ 504). والزيادة بين المعكوفتين منه ليستقيم السياق.

(3)

في المطبوع: «لا يكون» ، خطأ.

ص: 539