المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌التعليل يجري مجرى الشرط - أعلام الموقعين عن رب العالمين - ط عطاءات العلم - جـ ٤

[ابن القيم]

الفصل: ‌التعليل يجري مجرى الشرط

يتعين الإفتاء به، ولا يُحمل الناس على ما يُقطَع أنهم لم يريدوه بأيمانهم، فكيف إذا عُلم قطعًا أنهم أرادوا خلافه؟ والله أعلم.

و‌

‌التعليل يجري مجرى الشرط

، فإذا قال:«أنتِ طالق لأجل خروجكِ من الدار» فبان أنها لم تخرج، لم تطلَّق قطعًا، صرَّح به صاحب «الإرشاد»

(1)

فقال: وإن قال: «أنتِ طالق أن دخلتِ الدار» ــ بنصب الألف ــ والحالف من أهل اللسان، ولم يتقدم لها دخول قبل اليمين بحال، لم تَطْلُق، ولم يذكر فيه خلافًا. وقد قال الأصحاب

(2)

وغيرهم: إنه إذا قال «أنتِ طالق» وقال: «أردتُ الشرط» دُيِّن؛ فكذلك إذا قال: «لأجل كلامكِ زيدًا، أو خروجكِ من داري بغير إذني

(3)

» فإنه يديَّن، ثم إن تبيَّن أنها لم تفعل لم يقع الطلاق. ومن أفتى بغير هذا فقد وهمَ على المذهب، والله أعلم.

فصل

المخرج الحادي عشر: خلع اليمين عند من يجوِّزه كأصحاب الشافعي وغيرهم، وهذا وإن كان غير جائز على قول أهل المدينة وقول الإمام أحمد وأصحابه كلهم، فإذا دَعَت الحاجة إليه أو إلى التحليل كان أولى من التحليل من وجوه عديدة:

أحدها: أن الله سبحانه شرع الخلع رفعًا لمفسدة المشاقَّة الواقعة بين الزوجين، وتخلُّص كل منهما من صاحبه؛ فإذا شرع الخلع رفعًا لهذه

(1)

(ص 299).

(2)

انظر: «الهداية» (ص 432) و «المغني» (10/ 446).

(3)

ك، ب:«بإذنه» .

ص: 566

المفسدة التي هي بالنسبة إلى مفسدة التحليل كتَفْلَةٍ في بحر فتسويغُه لدفع مفسدة التحليل أولى.

يوضحه الوجه الثاني: أن الحيل المحرَّمة إنما منع منها لما تتضمَّنه من الفساد الذي اشتملت عليه تلك المحرَّمات التي يُتحيَّل عليها بهذه الحيل، وأما حيلة ترفع مفسدة هي من أعظم المفاسد فإن الشارع لا يحرِّمها.

يوضحه الوجه الثالث: أن هذه الحيلة تتضمَّن مصلحة بقاء النكاح المطلوب للشارع بقاؤه، ودفْعَ مفسدةِ التحليل التي بالغ الشارع كل المبالغة في دفعه والمنع منه ولعْن أصحابه، فحيلةٌ تحصِّل المصلحة المطلوبَ إيجادُها وتدفع المفسدةَ المطلوبَ إعدامُها لا يكون ممنوعًا منها.

الوجه الرابع: أن ما حرَّمه الشارع فإنما حرَّمه لما يتضمَّنه من المفسدة الخالصة أو الراجحة، فإذا كانت مصلحة خاصة أو راجحة لم يحرِّمه البتةَ، وهذا الخلع مصلحته أرجح من مفسدته.

الوجه الخامس: أن غاية ما في هذا الخلع اتفاق الزوجين ورضاهما بفسخ النكاح لغيرِ شقاقٍ واقع بينهما، وإذا وقع الخلع من غير شقاقٍ صحَّ، وكان غايته الكراهة؛ لما فيه من مفسدة المفارقة، وهذا الخلع أريد به لَمُّ شَعَثِ النكاح بحصول عقدٍ بعده يتمكَّن الزوجان فيه من المعاشرة بالمعروف، وبدونه لا يتمكَّنانِ من ذلك، بل إما خراب البيت وفراق الأهل، وإما التعرُّض للعنةِ من لا يقوم للعنتهِ شيء، وإما التزام ما حلف عليه وإن كان فيه فساد دنياه وأخراه، كما إذا حلف [171/أ] ليقتلنَّ ولده اليوم، أو ليشربنَّ هذا الخمر، أو ليطأنَّ هذا الفرج الحرام، أو حلف أنه لا يأكل ولا يشرب ولا يستظلُّ بسقفٍ ولا يُعطي فلانًا حقَّه، ونحو ذلك، فإذا دار الأمرُ بين مفسدة

ص: 567

التزام المحلوف عليه أو مفسدة الطلاق وخراب البيت وشَتَات الشمل أو مفسدة التزام لعنة الله بارتكاب التحليل وبين ارتكاب الخلع المخلِّص من ذلك جميعِه لم يَخْفَ على العاقل أيُّ ذلك أولى.

الوجه السادس: أنهما لو اتفقا على أن يطلِّقها من غير شقاقٍ بينهما، بل ليأخذ غيرها، لم يمنع من ذلك، فإذا اتفقا على الخلع ليكون سببًا إلى دوام اتصالهما كان أولى وأحرى.

ويوضحه الوجه السابع: أن الخلع إن قيل «إنه طلاق» فقد اتفقا على الطلاق بعوضٍ لمصلحة لهما في ذلك، فما الذي يحرِّمه؟ وإن قيل «إنه فَسْخ» فلا ريبَ أن النكاح من العقود اللازمة، والعقد اللازم إذا اتفق المتعاقدان على فسخه ورفعه لم يُمنعا من ذلك، إلا أن يكون العقد حقًّا لله، والنكاح محضُ حقِّهما، فلا يُمنعان من الاتفاق على فسخه.

الوجه الثامن: أن الآية اقتضت جواز الخلع إذا خاف الزوجان أن لا يقيما حدود الله، فكان الخلع طريقًا إلى تمكُّنهما من إقامة حدود الله، وهي حقوقه الواجبة عليهما في النكاح، فإذا كان الخلع مع استقامة الحال طريقًا إلى إقامة حدوده التي تُعطَّل ولا بدَّ بدون الخلع تعيَّن الخلعُ طريقًا إلى إقامتها.

فإن قيل: لا يتعيَّن الخلع طريقًا، بل هاهنا طريقان آخران، أحدهما: مفارقتهما

(1)

، والثاني: عدم إلزام الطلاق بالحنث إذا أخرجه مُخرجَ اليمين إما بكفارة أو بدونها، كما هي ثلاثة أقوال للسلف معروفة صرَّح بها

(1)

ز: «مفارقتها» .

ص: 568

أبو محمد ابن حزم

(1)

وغيره.

قيل: نعم هذان طريقان، ولكن إذا أحكم سدّهما غاية الإحكام، ولم يُمكِنْه سلوكُ أحدهما، وأيَّهما سلكَ ترتَّب عليه غاية الضرر في دينه ودنياه= لم يحرم عليه ــ والحالة هذه ــ سلوكُ طريق الخلع، وتعيَّن في حقِّه طريقان: إما طريق الخلع، وإما سلوك طريق أرباب اللعنة.

وهذه المواضع وأمثالها لا تحتملها إلا العقول الواسعة التي لها

(2)

إشراف على أسرار الشريعة ومقاصدها وحِكَمها، وأما عقلٌ لا يتسع لغير تقليد من اتفق له تقليده وترك أقوال جميع أهل العلم لقوله فليس الكلام معه.

الوجه التاسع: أن غاية ما منع المانعين من صحة هذا الخلع أنه حيلة، والحيل باطلة؛ ومنازعوهم ينازعونهم في كلتا المقدمتين، فيقولون: الاعتبار في العقود بصورها دون نيّاتها ومقاصدها، فليس لنا أن نسأل الزوج إذا أراد خلْعَ امرأته: ما أردتَ بالخلع؟ وما السبب الذي حملَك عليه؟ هل هو المشاقَّة أو التخلُّص من اليمين؟ بل نُجرِي حكم التخالع على ظاهره، ونَكِلُ سرائر الزوجين إلى الله.

قالوا: ولو ظهر لنا قصد الحيلة فالشأن في المقدمة الثانية، فليس كل حيلةٍ باطلةٌ محرَّمة، وهل هذا الفصل الطويل الذي نحن فيه إلا في أقسام [171/ب] الحيل؟ والحيلة المحرَّمة الباطلة هي التي تتضمَّن تحليل ما حرَّمه

(1)

في «المحلَّى» (10/ 213).

(2)

ز: «لا لها» .

ص: 569

الله أو تحريمَ ما أحلَّه الله أو إسقاطَ ما أوجبه؟ وأما حيلة تتضمَّن الخلاصَ من الآصار والأغلال والتخلُّصَ من لعنة الكبير المتعال فأهلًا بها من حيلةٍ وبأمثالها، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220]، والمقصود تنفيذ أمر الله ورسوله بحسب الإمكان، والله المستعان.

الوجه العاشر: أنه ليس القول ببطلان خلع اليمين أولى من القول بلزوم الطلاق للحالف به غير القاصد له، فهلُمَّ نُحاكمكم إلى كتاب الله وسنة رسوله وأقوال أصحابه وقواعد الشريعة، وإذا وقع التحاكم تبيَّن أن القول بعدم لزوم الطلاق للحالف به أقوى أدلةً، وأصح أصولًا، وأطرد قياسًا، وأوفق لقواعد الشرع، وأنتم معترفون بهذا شئتم أو أبيتم، فإذا ساغ لكم العدول عنه إلى القول المتناقض المخالف للقياس ولِما أفتى به الصحابة ولِما تقتضيه قواعد الشريعة وأصولها، فلَأَنْ يسوغ لنا العدول عن قولكم ببطلان خلع اليمين إلى ضدِّه تحصيلًا لمصلحة الزوجين ولَمًّا لِشَعَثِ النكاح وتعطيلًا لمفسدة التحليل وتخلُّصًا لامرأَينِ مسلمَين من لعنة الله ورسوله= أولى وأحرى، والله أعلم.

فصل

المخرج الثاني عشر: أخْذُه بقول من يقول «الحلف بالطلاق من الأيمان الشرعية التي تدخلها الكفارة» ، وهذا أحد الأقوال في المسألة، حكاه أبو محمد ابن حزم في كتاب «مراتب الإجماع» له، فقال

(1)

: واختلفوا فيمن حلف بشيء غير أسماء الله أو بنَحْر ولده أو هديه أو نَحْر أجنبي أو

(1)

(ص 184).

ص: 570

بالمصحف أو بالقرآن أو بنذرٍ أخرجه مُخرجَ اليمين أو بأنه مخالف لدين الإسلام أو بطلاق أو بظهارٍ أو تحريمِ شيء من ماله. ثم ذكر صورًا أخرى، ثم قال: فاختلفوا في جميع هذه الأمور، أفيها كفارة أم لا؟ ثم قال: واختلفوا في اليمين بالطلاق، أهو طلاق فيلزم، أم هو يمين فلا يلزم؟ فقد حكى في كونه طلاقًا لازمًا أو يمينًا لا يلزم قولين، وحكى قبل ذلك هل فيه كفارة أم لا؟ على قولين، واختار هو أن لا يلزم، ولا كفارة فيه. وهذا اختيار شيخنا أبي محمد ابن تيمية أخي شيخ الإسلام.

قال شيخ الإسلام

(1)

: والقول بأنه يمين مكفَّرة هو مقتضى المنقول عن الصحابة في الحلف بالعتق، بل بطريق الأولى؛ فإنهم إذا أفتوا من قال:«إن لم أفعلْ فكلُّ مملوكٍ لي حرٌّ» بأنه يمين تكفَّر، فالحالف بالطلاق أولى. قال: وقد علَّق القول به أبو ثور، فقال: إن لم تجمع الأمة على لزومه فهو يمين تكفَّر، وقد تبيَّن أن الأمة لم تُجمِع على لزومه.

وحكاه شيخ الإسلام عن جماعة من العلماء الذين سَمَتْ هِممُهم وشرُفت نفوسُهم فارتفعتْ عن حضيضِ التقليد المحض إلى أوج النظر والاستدلال، ولم يكن مع خصومه ما يردُّون به عليه أقوى من الشكاية إلى السلطان، فلم يكن له بردِّ هذه الحجة قِبَلٌ، وأما ما سواها فبيَّن فساد جميع حججهم، ونقضَها [172/أ] أبلغ نقْضٍ، وصنَّف في المسألة ما بين مطوَّلٍ

(1)

لم أجد النص في كتبه المطبوعة، وسيأتي عند المؤلف أن شيخ الإسلام صنَّف في هذه المسألة ما بين مطول ومتوسط ومختصر ما يقارب ألفي ورقة. وآخر ما وُجِدَ ونُشِر من مؤلفاته:«الرد على السبكي في مسألة تعليق الطلاق» في مجلدين، وهو الجزء الثاني من الكتاب. وانظر منه (1/ 7، 154).

ص: 571

ومتوسطٍ ومختصرٍ ما يقارب ألفَيْ ورقة، وبلغت الوجوه التي استدلَّ بها عليها من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والقياس وقواعد إمامه خاصةً وغيرِه من الأئمة زهاءَ أربعين دليلًا، وصار إلى ربه وهو مقيم عليها، داعٍ إليها، مباهلٌ لمنازعيه، باذلٌ نفسَه وعِرضَه وأوقاتَه لمستفتيه؛ فكان يفتي في الساعة الواحدة فيها بقلمه ولسانه أكثر من أربعين فُتيا؛ فعُطِّلتْ لفتاواه مصانعُ التحليل، وهُدِّمتْ صوامعه وبِيَعُه، وكَسَدتْ سوقه، وتقشَّعتْ سحائب اللعنة عن المحلّلين والمحلَّل لهم من المطلّقين، وقامت سوقُ الاستدلال بالكتاب والسنة والآثار السلفية، وانتشرت مذاهب الصحابة والتابعين وغيرهم من أئمة الإسلام للطالبين، وخرج من حَبْسِ تقليد المذهب المعيَّن مَن كَرُمت عليه نفسُه من المتبصِّرين.

فقامت قيامةُ أعدائه وحُسَّاده ومَن لا يتجاوز ذكرُ أكثرهم بابَ داره أو محلَّته، وهجَّنوا ما ذهب إليه بحسب المستجيبين لهم غايةَ التهجين، فمن استخفُّوه من الطَّغام وأشباهِ الأنعام قالوا: هذا قد رفع الطلاق بين المسلمين، وكثَّر أولاد الزنا في العالمين، ومن صادفوا عنه مُسكةَ عقلٍ ولُبٍّ قالوا: هذا قد أبطل الطلاق المعلَّق بالشرط، وقالوا لمن تعلَّقوا به من الملوك والولاة: هذا قد حلَّ بيعةَ السلطان من أعناق الحالفين. ونسوا أنهم هم الذين حلُّوها بخلع اليمين، وأما هو فصرَّح في كتبه أن أيمان الحالفين لا تغيِّر شرائعَ الدين، فلا يحلُّ لمسلمٍ حلُّ بيعة السلطان بفتوى أحد من المفتين، ومن أفتى بذلك كان من الكاذبين المفترين على شريعة أحكم الحاكمين.

ولعَمْرُ الله لقد مُنِيَ من هذا بما مُنِيَ به مَن سلف من الأئمة المَرضيِّين، فما أشبه الليلةَ بالبارحة للناظرين! فهذا مالك بن أنس توصَّل أعداؤه إلى

ص: 572

ضربه بأن قالوا للسلطان: إنه يحلُّ عليك أيمانَ البيعة بفتواه أن يمين المُكْره لا تنعقد، وهم يحلفون مُكرَهين غير طائعين، فمنعه السلطان، فلم يمتنع لِما أخذه الله من الميثاق على من آتاه علمًا أن يبيِّنه للمسترشدين. ثم تلاه على أَثرِه محمد بن إدريس الشافعي، فوَشَى به أعداؤه إلى الرشيد أنه يحلُّ أيمان البيعة بفتواه أن اليمين بالطلاق قبل النكاح لا تنعقد، ولا تطلُق إن تزوَّجها الحالف، وكانوا يحلِّفونهم في جملة الأيمان «وإن كلّ امرأة أتزوَّجها فهي طالق». وتلاهما على آثارهما شيخ الإسلام فقال حُسَّاده: هذا ينقض عليكم أيمانَ البيعة. فما فَتَّ ذلك في عضد أئمة الإسلام، ولا ثَنَى عنه عَزَماتِهم في الله وهِمَمَهم، ولا صدَّهم ذلك عما أوجب الله سبحانه عليهم اعتقادَه والعملَ به من الحقّ الذي أدَّاهم إليه اجتهادهم، بل مَضَوا لسبيلهم، وصارت أقوالهم أعلامًا يَهتدي بها المهتدون، تحقيقًا لقوله تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].

[172/ب] فصل

ومن له اطلاع وخبرةٌ وعناية بأقوال العلماء يعلم أنه لم يزل في الإسلام من عصر الصحابة مَن يفتي في هذه المسألة بعدم اللزوم، وإلى الآن.

فأما الصحابة فقد ذكرنا فتاواهم في الحالف

(1)

بالعتق بعدم اللزوم، وأن الطلاق أولى منه، وذكرنا فتوى علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعدم لزوم اليمين بالطلاق، وأنه لا مخالفَ له من الصحابة.

وأما التابعون فذكرنا فتوى طاوس بأصحِّ إسناد عنه، وهو من أجلِّ

(1)

ك، ب:«الحلف» .

ص: 573

التابعين، وأفتى عكرمة ــ وهو من أغزرِ أصحاب ابن عباس علمًا ــ على ما أفتى به طاوس سواء. قال سُنَيد بن داود في «تفسيره» المشهور في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور: 21]: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن سليمان التَّيمي عن أبي مِجْلَز في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} قال: النذور في المعاصي

(1)

.

حدثنا عبَّاد بن عبَّاد المهلَّبي عن عاصم الأحول عن عكرمة في رجلٍ قال لغلامه: «إن لم أجلدْك مائةَ سوطٍ فامرأته طالق» ، قال: لا يجلد غلامه ولا تُطلَّق امرأته، هذا من خطوات الشيطان

(2)

.

وأما من بعد التابعين فقد حكى المعتنون بمذاهب العلماء كأبي محمد ابن حزم وغيره ثلاثةَ أقوال للعلماء في ذلك، وأهل الظاهر لم يزالوا متوافرين على عدم لزوم الطلاق للحالف به، ولم يزل منهم الأئمة والفقهاء والمصنِّفون والمقلِّدون لهم، وعندنا بأسانيد صحيحة لا مَطعنَ فيها عن جماعة من أهل العلم الذين هم أهله في عصرنا وقبله أنهم كانوا يفتون بها أحيانًا، فأخبرني صاحبنا الصادق محمد بن شَهْوان

(3)

قال: أخبرني شيخنا

(1)

رواه سعيد بن منصور (242 - التفسير) وابن جرير (3/ 39) من طريق سليمان التيمي عن أبي مجلز، والأثر صحيح.

(2)

نقله عن سنيد بن داود ابنُ كثير في «تفسيره» (2/ 34) ط. دار ابن الجوزي.

(3)

لم أجد ترجمته. وفي «الدرر الكامنة» (3/ 440): محمد بن الرشيد بن شهوان بدر الدين الدمشقي المتوفى سنة 701. وهو غير المقصود به.

ص: 574

الذي قرأت عليه القرآن ــ وكان من أصدق الناس ــ الشيخ محمد المحلي

(1)

قال: أخبرني شيخنا الإمام خطيب جامع دمشق عز الدين الفاروثي

(2)

قال: كان والدي يرى هذه المسألة، ويفتي بها ببغداد.

وأما أهل المغرب فتواتر عمن يعتني بالحديث ومذاهب السلف منهم أنه كان يفتي بها، وأُوذِي بعضهم على ذلك وضُرب، وقد ذكرنا فتوى القفَّال في قوله «الطلاق يلزمني» أنه لا يقع به طلاقٌ وإن نواه، وذكرنا فتاوى أصحاب أبي حنيفة في ذلك، وحكايتهم إياه عن الإمام نصًّا، وذكرنا فتوى أشهب من المالكية فيمن قال لامرأته «إن خرجتِ من داري أو كلَّمتِ فلانًا ــ ونحو ذلك ــ فأنتِ طالق» ففعلتْ لم تَطْلُق.

ولا يختلف عالمان متحلِّيان بالإنصاف أن اختيارات شيخ الإسلام لا تتقاصر عن اختيارات ابن عقيل وأبي الخطّاب بل وشيخهما أبي يعلى، فإذا كانت اختيارات هؤلاء وأمثالِهم وجوهًا يُفتَى بها في الإسلام ويَحكم بها الحكّام فلاختيارات شيخ الإسلام أسوةٌ بها إن لم تَرْجَحْ

(3)

عليها، والله المستعان وعليه التُّكلان.

* * * *

(1)

ز: «محمد النحل» . وفي المطبوع: «محمد بن المحلي» ، والمثبت من ك.

(2)

في المطبوع: «الفاروقي» ، تحريف. وهو أبو العباس أحمد بن إبراهيم الواسطي، توفي سنة 694. له ترجمة في «الوافي بالوفيات» (6/ 219) و «طبقات الشافعية» للسبكي (8/ 6) وغيرهما.

(3)

ك، ب:«تترجح» .

ص: 575

فصل

[173/أ] في جواز الفتوى بالآثار السلفية والفتاوي الصحابية

وأنها أولى بالأخذ بها من آراء المتأخرين وفتاويهم، وأن قُربها إلى الصواب بحسب قُرب أهلها من عصر الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وأن فتاوى الصحابة أولى أن يُؤخذ بها من فتاوى التابعين، وفتاوى التابعين أولى من فتاوى تابعي التابعين، وهلمَّ جرًّا. وكلَّما كان العهد بالرسول صلى الله عليه وسلم أقربَ كان الصواب أغلبَ، وهذا حكم

(1)

بحسب الجنس لا بحسب كل فرد فرد من المسائل، كما أن عصر التابعين وإن كان أفضلَ من عصر تابعيهم، فإنما هو بحسب الجنس لا بحسب كل شخص شخص، ولكنِ المفضَّلون في العصر المتقدم أكثر من المفضَّلين في العصر المتأخر، وهكذا الصواب في أقوالهم أكثر من الصواب في أقوال من بعدهم؛ فإن التفاوت بين علوم المتقدمين والمتأخرين كالتفاوت الذي بينهم في الفضل والدين.

ولعله لا يَسَعُ المفتيَ والحاكمَ عند الله أن يفتي ويحكم بقول فلان وفلان من المتأخرين من مقلِّدي الأئمة ويأخذ برأيه وترجيحه، ويترك الفتوى والحكم بقول البخاري وإسحاق بن راهويه وعلي بن المديني ومحمد بن نصر المروزي وأمثالهم

(2)

، بل يترك قول ابن المبارك والأوزاعي وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وأمثالهم، بل لا يلتفت إلى قول ابن أبي ذئب والزهري والليث بن سعد وأمثالهم، بل لا يَعدُّ قول سعيد بن المسيّب والحسن والقاسم وسالم

(1)

ك: «الحكم» .

(2)

«وأمثالهم» ليست في ك، ب.

ص: 576

وعطاء وطاوس وجابر بن زيد وشُريح وأبي وائل وجعفر بن محمد وأضرابهم مما يَسُوغ الأخذ به، بل يرى تقديم قول المتأخرين من أتباع من قلَّده على فتوى أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب وأبي الدرداء وزيد بن ثابت وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعُبادة بن الصامت وأبي موسى الأشعري وأضرابهم، فلا يدري ما عُذره غدًا عند الله إذا سوَّى بين أقوال أولئك وفتاويهم وأقوال هؤلاء وفتاويهم، فكيف إذا رجَّحها عليها؟ فكيف إذا عيَّن الأخذَ بها حكمًا وإفتاءً، ومنعَ الأخذَ بقول الصحابة، واستجاز عقوبة من خالف المتأخرين

(1)

لها، وشهد عليه بالبدعة والضلالة ومخالفة أهل العلم وأنه يكيد الإسلام؟

بالله لقد أخذ بالمثل المشهور «رَمَتْنِي بدائِها وانْسَلَّتْ»

(2)

، وسمَّى ورثة الرسول باسمه هو، وكساهم أثوابَه، ورماهم بدائه، وكثير من هؤلاء يصرخ ويصرِّح ويقول ويُعلِن أنه يجب على الأمة كلِّهم الأخذُ بقول من قلَّدناه دينَنا، ولا يجوز الأخذ بقول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من الصحابة. وهذا كلامٌ من أخذ به وتقلَّده ولَّاه الله ما تولَّى، ويَجزيه عليه يوم القيامة الجزاء الأوفى. والذي نَدينُ الله به ضدُّ هذا القول، والردُّ عليه، فنقول

(3)

:

إذا قال الصحابي قولًا فإما أن يخالفه صحابي آخر أو لا يخالفه، فإن

(1)

ك، ب:«من المتأخرين» ، خطأ. فالمعنى: من خالفَ المتأخرين مؤيِّدًا لأقوال السلف.

(2)

انظر: «الأمثال» لأبي عبيد (ص 73).

(3)

اعتمد المؤلف في هذا المبحث على كلام شيخه في «تنبيه الرجل العاقل» (ص 529 وما بعدها) الطبعة الثانية.

ص: 577

خالفه مثله لم يكن [173/ب] قول أحدهما حجةً على الآخر، وإن خالفه أعلمُ منه كما إذا خالف الخلفاء الراشدون أو بعضُهم غيرَهم من الصحابة في حكمٍ، فهل يكون الشِّقُّ الذي فيه الخلفاء الراشدون أو بعضهم حجةً على الآخرين؟ فيه قولان للعلماء، وهما روايتان عن الإمام أحمد. والصحيح أن الشقّ الذي فيه الخلفاء أو بعضهم أرجحُ وأولى أن يؤخذ به من الشقّ الآخر، فإن كان الأربعة في شِقٍّ فلا شك أنه الصواب، وإن كان أكثرهم في شِقٍّ فالصواب فيه أغلب، وإن كانوا اثنين واثنين فشِقُّ أبي بكر وعمر أقرب إلى الصواب، فإن اختلف أبو بكر وعمر فالصواب مع أبي بكر.

وهذه جملة لا يعرف تفصيلَها إلا مَن له خبرة واطلاع على ما اختلف فيه الصحابة وعلى الراجح من أقوالهم، ويكفي في ذلك معرفةُ رجحان قول الصديق في الجدّ والإخوة، وكون الطلاق الثلاث بفم واحدٍ مرةً واحدةً وإن تلفَّظ فيه بالثلاث، وجواز بيع أمهات الأولاد. وإذا نظر العالم المنصف في أدلة هذه المسائل من الجانبين تبيَّن له أن جانب الصديق أرجح، وقد تقدم بعض ذلك في مسألة الجدّ والطلاق الثلاث بفم واحد، ولا يُحفظ للصدّيق خلافُ نصٍّ واحد أبدًا، ولا يُحفظ له فتوى ولا حكمٌ مأخذُها ضعيف أبدًا، وهو تحقيقًا لكون خلافته خلافةَ نبوةٍ.

فصل

وإن لم يخالف الصحابيَّ

(1)

صحابيٌّ آخر فإما أن يشتهر قوله في الصحابة أو لا يشتهر، فإن اشتهر فالذي عليه جماهير الطوائف من الفقهاء أنه إجماع وحجة، وقالت طائفة منهم: هو حجة وليس بإجماع، وقال شِرْذِمةٌ

(1)

ك، ب:«الصحابة» ، خطأ.

ص: 578

من المتكلمين وبعض الفقهاء المتأخرين: لا يكون إجماعًا ولا حجًة.

وإن لم يشتهر قوله أو لم يُعلَم هل اشتهر أم لا، فاختلف الناس: هل يكون حجة أم لا؟ فالذي عليه جمهور الأمة أنه حجة. هذا قول جمهور الحنفية، صرَّح به محمد بن الحسن، وذكر عن أبي حنيفة نصًّا

(1)

، وهو مذهب مالك وأصحابه، وتصرُّفُه في «موطئه» دليل عليه، وهو قول إسحاق بن راهويه وأبي عبيد، وهو منصوص الإمام أحمد في غير موضع عنه

(2)

واختيارُ جمهور أصحابه، وهو منصوص الشافعي في القديم والجديد، أما القديم فأصحابه مُقِرُّون به، وأما الجديد فكثير منهم يحكي عنه فيه أنه ليس بحجة

(3)

.

وفي هذه الحكاية عنه نظر ظاهر جدًّا؛ فإنه لا يُحفظ له في الجديد حرف واحد أن قول الصحابي ليس بحجة، وغاية ما تعلَّق به مَن نقل ذلك أنه يحكي أقوالًا للصحابة في الجديد ثم يخالفها، ولو كانت عنده حجة لم يخالفها. وهذا تعلُّقٌ ضعيف جدًّا، فإن مخالفة المجتهد الدليلَ المعيَّن لما هو أقوى في نظره منه لا يدلُّ على أنه لا يراه دليلًا من حيث الجملة، بل خالف دليلًا لدليلٍ أرجحَ عنده منه.

وقد تعلَّق بعضهم بأنه يراه في الجديد إذا ذكر أقوال الصحابة موافقًا لها لا يعتمد عليها وحدها كما يفعل بالنصوص

(4)

، بل يعضدها بضروب من

(1)

انظر: «أخبار أبي حنيفة» للصَّيْمَري (ص 24).

(2)

انظر: «العدة» لأبي يعلى (4/ 1178 وما بعدها).

(3)

انظر: «التبصرة» لأبي إسحاق الشيرازي (ص 395).

(4)

ك: «بالمنصوص» .

ص: 579

الأقيسة؛ فهو تارةً يذكرها ويصرِّح بخلافها، وتارةً يوافقها ولا يعتمد عليها [174/أ] بل يعضدها بدليل آخر. وهذا أيضًا تعلُّقٌ أضعفُ من الذي قبله؛ فإنَّ تظافُرَ الأدلة وتعاضدها وتناصرها من عادة أهل العلم قديمًا وحديثًا، ولا يدل ذِكْرهم دليلًا ثانيًا وثالثًا على أن ما ذكروه قبله ليس بدليل.

وقد صرَّح الشافعي في الجديد من رواية الربيع عنه بأن قول الصحابي حجة يجب المصير إليه، فقال

(1)

: المحدثات من الأمور ضربان، أحدهما: ما أُحدِث يخالف كتابًا أو سنة أو إجماعًا أو أثرًا، فهذه البدعة الضلالة. والربيع إنما أخذ عنه بمصر، وقد جعل مخالفة الأثر الذي ليس بكتاب ولا سنة ولا إجماع ضلالةً، وهذا فوق كونه حجة.

وقال البيهقي في كتاب «مدخل السنن»

(2)

له: باب ذكر أقاويل الصحابة إذا تفرقوا. قال الشافعي: أقاويل الصحابة إذا تفرَّقوا فيها نصير إلى ما وافق الكتاب أو السنة أو الإجماع أو

(3)

كان أصح في القياس، وإذا قال الواحد منهم القول لا يُحفظ عن غيره منهم فيه له موافقة ولا خلاف صرتُ إلى اتباع قوله إذا لم أجد كتابًا ولا سنةً ولا إجماعًا ولا شيئًا في معناه يُحكم له بحكمه أو وُجِد معه قياس.

قال البيهقي

(4)

: وقال في كتاب «اختلافه مع مالك»

(5)

: ما كان الكتاب

(1)

رواه البيهقي في «المدخل» (1/ 226).

(2)

(1/ 43). وقول الشافعي هذا بصورة حوار في «الرسالة» (ص 596 وما بعدها).

(3)

ز: «إذا» . والمثبت موافق لما في «الرسالة» و «المدخل» .

(4)

في «المدخل» (1/ 43). والكلام متصل بما قبله.

(5)

ضمن كتاب «الأم» (8/ 763، 764).

ص: 580

والسنة

(1)

موجودين فالعذر على من سمعه مقطوع إلا بإتيانه

(2)

، فإن لم يكن ذلك صرنا إلى أقاويل الصحابة أو واحد منهم

(3)

، ثم كان قول الأئمة أبي بكر أو عمر أو عثمان إذا صرنا إلى التقليد أحبَّ إلينا، وذلك إذا لم نجد دلالة في الاختلاف تدلُّ على أقرب الاختلاف من الكتاب والسنة فنتبع القول الذي معه الدلالة؛ لأن قول الإمام مشهور بأنه يلزم الناس، ومن لزِم قولُه الناسَ كان أشهرَ ممن يفتي الرجل أو النفر وقد يأخذ بفتياه ويدعها، وأكثر المفتين يفتون الخاصة في بيوتهم ومجالسهم ولا يُعنَى العامة بما قالوا عنايتَهم بما قال الإمام، وقد وجدنا الأئمة ينتدبون فيسألون عن العلم من الكتاب والسنة فيما أرادوا أن يقولوا فيه، ويقولون فيخبرون بخلاف قولهم، فيقبلون من المخبر، ولا يستنكفون عن أن يرجعوا لتقواهم الله وفضلهم. فإذا لم يوجد عن الأئمة فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين في موضع الأمانة أخذنا بقولهم، وكان اتباعهم أولى بنا من اتباع مَن بعدهم.

قال الشافعي

(4)

رضي الله عنه: والعلم طبقات: الأولى: الكتاب والسنة، الثانية: ثم الإجماع فيما ليس كتابًا

(5)

ولا سنة. الثالثة: أن يقول صحابي فلا يُعلَم له مخالف من الصحابة. الرابعة: اختلاف الصحابة. الخامسة: القياس.

(1)

في النسخ و «المدخل» : «أو السنة» . والمثبت من المصدر السابق.

(2)

كذا في النسخ. وفي «المدخل» و «الأم» : «باتباعهما» .

(3)

في النسخ و «المدخل» : «واحدهم» . والمثبت من المصدر السابق.

(4)

في المصدر السابق (8/ 764)، والكلام متصل بما قبله. وهو في «المدخل» (1/ 44).

(5)

كذا في النسخ، وفي «الأم» و «المدخل»:«ليس فيه كتاب» .

ص: 581

هذا كله كلامه في الجديد. قال البيهقي

(1)

بعد أن ذكر هذا: وفي «الرسالة القديمة» للشافعي ــ بعد ذكر الصحابة وتعظيمهم ــ قال: وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورعٍ وعقل، وأمرٍ استُدرك به علم، وآراؤهم لنا أحمدُ وأولى بنا من رأينا

(2)

. ومن [174/ب] أدركْنا ممن نَرضى أو حُكِي لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا فيه سنةً إلى قولهم إن اجتمعوا أو قولِ بعضهم إن تفرَّقوا، وكذا نقول، ولم نخرج من أقوالهم كلهم.

قال

(3)

: وإذا قال الرجلان منهم في شيء قولين نظرتُ، فإن كان قول أحدهما أشبهَ بالكتاب والسنة أخذتُ به، لأن معه شيئًا قويًّا؛ فإن لم يكن على واحد من القولين دلالةٌ بما وصفتُ كان قول الأئمة أبي بكر أو عمر أو عثمان أرجح عندنا من أحدٍ لو خالفهم غير إمام.

قال البيهقي

(4)

: وقال في موضع آخر: فإن لم يكن على القول دلالة من كتاب ولا سنة كان قول أبي بكر أو عمر أو عثمان أحبَّ إليَّ من قول غيرهم، فإن اختلفوا صرنا إلى القول الذي عليه دلالة، وقلَّما يخلو اختلافهم من ذلك، وإن اختلفوا بلا دلالة نظرنا إلى الأكثر، فإن تكافَؤوا نظرنا أحسن أقاويلهم مخرجًا عندنا، وإن وجدنا للمفتين في زماننا أو قبله اجتماعًا في شيء تبعناه، فإذا نزلت نازلةٌ لم نجد فيها واحدة من هذه الأمور فليس إلا اجتهاد الرأي.

(1)

في «المدخل» (1/ 44، 45). وانظر: «مناقب الشافعي» (1/ 442، 443).

(2)

في «المدخل» و «المناقب» : «آرائنا» .

(3)

الكلام متصل بما قبله في «المدخل» .

(4)

في «المدخل» (1/ 45). وبعضه في «مناقب الشافعي» (1/ 443).

ص: 582

فهذا كلام الشافعي بنصّه، ونحن نشهد بالله أنه لم يرجع عنه، بل كلامه في الجديد مطابق لهذا موافق له كما تقدم ذكر لفظه. وقد قال في الجديد في قتل الراهب

(1)

: إنه القياس عنده، ولكن تركَه

(2)

لقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه. فقد أخبرنا أنه ترك القياس الذي هو دليل عنده لقول الصاحب، فكيف يترك موجب الدليل لغير دليل؟

وقال

(3)

: وفي الضلع بعير، قلته تقليدًا لعمر.

وقال في موضع آخر

(4)

: قلته تقليدًا لعثمان.

وقال في الفرائض

(5)

: هذا مذهب تلقَّيناه عن زيد.

ولا تستوحِشْ من لفظة «التقليد» في كلامه، وتظنَّ أنها تنفي كون قوله حجةً بناءً على ما تلقَّيتَه من اصطلاح المتأخرين أن التقليد قبول قول الغير بغير حجة، فهذا اصطلاح حادث، وقد صرَّح الشافعي في موضع من كلامه بتقليد خبر الواحد فقال

(6)

: قلت هذا تقليدًا للخبر.

وأئمة الإسلام كلهم على قبول قول الصحابي. قال نعيم بن حماد

(7)

:

(1)

في كتاب «الأم» (5/ 581).

(2)

كذا في النسخ. وفي المطبوع: «أتركه» .

(3)

«الأم» (8/ 651). وفيه: «وأنا أقول بقول عمر» .

(4)

المصدر نفسه (8/ 225). وفيه: «ذهبنا إلى هذا تقليدًا» .

(5)

المصدر نفسه (5/ 174). وفيه: «هذا قول زيد بن ثابت، وعنه قبلنا أكثر الفرائض» .

(6)

لم أجده في كتاب «الأم» .

(7)

رواه من طريقه البيهقي في «المدخل» (1/ 46)، وروى نحوه أبو حمزة السكري عن الإمام أبي حنيفة كما في «الانتقاء» لابن عبد البر (ص 144 - 145).

ص: 583

حدثنا ابن المبارك قال: سمعت أبا حنيفة يقول: إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن الصحابة نختار من قولهم، وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم.

وذهب بعض المتأخرين من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة وأكثر المتكلمين إلى أنه ليس بحجة، وذهب بعض الفقهاء إلى أنه إن خالف القياس فهو حجة، وإلا فلا. قالوا: لأنه إذا خالف القياس لم يكن إلا عن توقيفٍ، وعلى هذا فهو حجة وإن خالفه صحابي آخر.

والذين قالوا «ليس بحجة» قالوا: لأن الصحابي مجتهد من المجتهدين يجوز عليه الخطأ، فلا يجب تقليده، ولا يكون قوله حجةً كسائر المجتهدين. ولأن الأدلة الدالة على بطلان التقليد تعمُّ تقليدَ الصحابة

(1)

ومن دونهم. ولأن التابعي إذا أدرك عصر الصحابة اعتُدَّ بخلافه [175/أ] عند أكثر الناس، فكيف يكون قول الواحد حجة عليه؟ ولأن الأدلة قد انحصرتْ في الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستصحاب، وقولُ الصحابي ليس واحدًا منها. ولأن امتيازه بكونه أفضلَ وأعلمَ وأتقَى لا يوجب وجوبَ اتباعه على مجتهد آخر من علماء التابعين بالنسبة إلى من بعدهم.

فنقول: الكلام في مقامين، أحدهما: في الأدلة الدالة على وجوب اتباع الصحابة، الثاني: في الجواب عن شبه النُّفاة.

(1)

في النسخ: «الصحابي» . والمثبت يقتضيه السياق. وهو كذلك في «تنبيه الرجل العاقل» (ص 531).

ص: 584

فأما الأول فمن وجوه

(1)

:

أحدها

(2)

: ما احتجَّ به مالك، وهو قوله تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]. فوجه الدليل

(3)

أن الله تعالى أثنى على من اتبعهم، فإذا قالوا قولًا فاتبعهم متبعٌ عليه قبل أن يعرف صحته فهو متبع لهم، فيجب أن يكون محمودًا على ذلك وأن يستحقَّ الرضوان، ولو كان اتباعهم تقليدًا محضًا كتقليد بعض المفتين لم يستحقَّ من اتبعهم الرضوانَ إلا أن يكون عاميًّا، فأما العلماء المجتهدون فلا يجوز لهم اتباعهم حينئذٍ.

فإن قيل: اتباعهم هو أن يقول ما قالوا بالدليل، وهو سلوك سبيل الاجتهاد؛ لأنهم إنما قالوا بالاجتهاد، والدليل عليه قوله:{بِإِحْسَانٍ} ، ومن قلَّدهم لم يتبعهم بإحسان، لأنه لو كان مطلق الاتباع محمودًا لم يفرق بين الاتباع بإحسان أو بغير إحسان. وأيضًا فيجوز أن يُراد به اتباعهم في أصل الدين، وقوله:{بِإِحْسَانٍ} أي بالتزام الفرائض واجتناب المحارم، ويكون المقصود أن السابقين قد وجب لهم الرضوان، وإن أساؤوا؛ لقوله: «وما يُدرِيك أن الله قد اطَّلعَ على أهل بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتم فقد غَفرتُ

(1)

اعتمد المؤلف في بيانها على كلام شيخه في «تنبيه الرجل العاقل» (ص 532 وما بعدها).

(2)

سيأتي الوجه الثاني بعد 9 صفحات، وبعدها الوجوه الأخرى.

(3)

ك والمطبوع: «الدلالة» . والمثبت من ز موافق لما في «تنبيه الرجل العاقل» .

ص: 585

لكم»

(1)

. وأيضًا فالثناء على من اتبعهم كلهم، وذلك اتباعهم فيما أجمعوا عليه. وأيضًا فالثناء على من اتبعهم لا يقتضي وجوبه، وإنما يدلُّ على جواز تقليدهم، وذلك دليل على جواز تقليد العالم كما هو مذهب طائفة من العلماء، أو تقليد الأعلم كقول طائفة أخرى. أما الدليل على وجوب اتباعهم فليس في الآية ما يقتضيه.

فالجواب من وجوه:

أحدها: أن الاتباع لا يستلزم الاجتهاد لوجوه، أحدها: أن الاتباع المأمور به في القرآن كقوله: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] ونحوه= لا يتوقَّف على الاستدلال على صحة القول مع الاستغناء عن القائل.

الثاني: أنه لو كان المراد اتباعهم في الاستدلال والاجتهاد لم يكن فرقٌ بين السابقين وبين جميع الخلائق؛ لأن اتباع موجب الدليل يجب أن يتبع فيه كل أحد، فمن قال قولًا بدليل صحيح وجب موافقته فيه.

الثالث: أنه إما أن تجوز مخالفتهم في قولهم بعد الاستدلال أو لا تجوز، [175/ب] فإن لم تجُزْ فهو المطلوب، وإن جازت مخالفتهم فقد خُولفوا في خصوص الحكم واتُّبِعوا في جنس

(2)

الاستدلال، فليس جَعْل

(1)

رواه البخاري (3007) ومسلم (2494) من حديث علي رضي الله عنه.

(2)

ك: «حسن» . المطبوع: «أحسن» . كلاهما تحريف. والمثبت موافق لما في «تنبيه الرجل» .

ص: 586

من فعلَ ذلك متبعًا لموافقتهم في الاستدلال بأولى من جَعْلِه مخالفًا لمخالفته في عين الحكم.

الرابع: أن من خالفهم في الحكم الذي أفتوا به لا يكون متبعًا لهم أصلًا، بدليل أن من خالف مجتهدًا من المجتهدين في مسألة بعد اجتهاده لا يصح أن يقال «اتبعَه» ، وإن أطلق ذلك فلا بدَّ من تقييده بأن يقال: اتبعَه في الاستدلال أو الاجتهاد.

الخامس: أن الاتباع افتعال من التَّبَع

(1)

، وكونُ الإنسان تابعًا لغيره نوعُ افتقارٍ إليه ومشْيٍ خلفه، وكل واحدٍ من المجتهدين المستدلّين ليس تبعًا للآخر ولا مفتقرًا إليه بمجرد ذلك، حتى يستشعرَ موافقتَه والانقيادَ له، ولهذا لا يصح أن يقال لمن وافق رجلًا في اجتهاده أو فتواه اتفاقًا: إنه متَّبعٌ له.

السادس: أن الآية قُصِد بها مدحُ السابقين والثناء عليهم، وبيان استحقاقهم أن يكونوا أئمة متبوعين، وبتقدير أن لا يكون قولهم موجبًا للموافقة ولا مانعًا من المخالفة ــ بل إنما يتبع القياس مثلًا ــ لا يكون لهم هذا المنصب، ولا يستحقُّون هذا المدح والثناء.

السابع: أن من خالفهم في خصوص الحكم فلم يتبعهم في ذلك الحكم ولا فيما استدلُّوا به على ذلك الحكم، فلا يكون متبعًا لهم بمجرد مشاركتهم في صفة عامة، وهي مطلق الاستدلال والاجتهاد، لا سيما وتلك الصفة العامة لا اختصاصَ لها به؛ لأن ما يَنفِي الاتباع أخصُّ مما يُثبِته. وإذا وُجِد الفارق الأخصّ والجامع الأعمُّ ــ وكلاهما مؤثِّر ــ كان التفريق رعايةً

(1)

في المطبوع: «اتبع» خلاف جميع النسخ و «التنبيه» .

ص: 587

للفارق أولى من الجمع رعايةً للجامع.

وأما قوله: {بِإِحْسَانٍ} فليس المراد به أن يجتهد، وافق أو خالف؛ لأنه إذا خالف لم يتبعهم فضلًا عن أن يكون بإحسان، ولأن مطلق الاجتهاد ليس فيه اتباعٌ لهم، لكن الاتباع لهم اسم يدخل فيه كل من وافقهم في الاعتقاد والقول، فلا بدَّ مع ذلك أن يكون المتبع محسنًا بأداء الفرائض واجتناب المحارم؛ لئلّا يقع الاغترار بمجرد الموافقة قولًا.

وأيضًا فلا بدَّ أن يُحسِن المتبع لهم القولَ فيهم، ولا يقدحُ فيهم اشتراطُ

(1)

اللهِ ذلك، لعلمه بأن سيكون أقوام ينالون منهم. وهذا مثل قوله بعد أن ذكر المهاجرين والأنصار:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: 10].

وأما تخصيص اتباعهم بأصول الدين دون فروعه فلا يصح؛ لأن الاتباع عام، ولأن من اتبعهم في أصول الدين فقط لو كان متبعًا لهم على الإطلاق لكنّا متَّبعين للمؤمنين من أهل الكتابين

(2)

، ولم يكن فرقٌ بين اتباع السابقين من هذه الأمة وغيرها.

وأيضًا فإنه إذا قيل «فلان يتبع فلانًا، واتبع فلانًا، وأنا متبعٌ فلانًا» ، ولم يقيَّد ذلك بقرينة لفظية ولا حالية فإنه يقتضي اتباعه في كل الأمور التي يتأتَّى [176/أ] فيها الاتباع؛ لأن من اتبعه في حال وخالفه في حالٍ أخرى لم يكن

(1)

كذا في النسخ، وهو فاعل «لا يقدح». وفي «تنبيه الرجل»:«اشترط» .

(2)

ز: «أهل الكتاب» . والمثبت من ك موافق لما في «تنبيه الرجل» .

ص: 588

وصفُه بأنه متبع بأولَى من وصفِه بأنه مخالف؛ ولأن الرضوان حكمٌ تعلَّق باتباعهم، فيكون الاتباع سببًا له؛ لأن الحكمَ المعلَّق بما هو مشتقٌّ يقتضي أن ما منه الاشتقاق سبب، وإذا كان اتباعهم سببًا للرضوان اقتضى الحكم في جميع موارده، [إذ]

(1)

لا اختصاصَ للاتباع بحالٍ دون حالٍ؛ ولأن الاتباع يُؤذِن بكون الإنسان تبعًا لغيره وفرعًا عليه، وأصول الدين ليست كذلك؛ ولأن الآية تضمَّنت الثناء عليهم وجعلهم أئمة لمن بعدهم، فلو لم يتناول إلا اتباعَهم في أصول الدين والشرائع

(2)

لم يكونوا أئمةً في ذلك، لأن ذلك معلوم مع قطع النظر عن اتباعهم.

فصل

وأما قولهم «إن الثناء على من اتبعهم كلهم» ، فنقول: الآية اقتضَتْ الثناءَ على من اتبع كلَّ واحدٍ واحدٍ

(3)

منهم، كما أن قوله:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ} [التوبة: 100] يقتضي حصول الرضوان لكلِّ واحد من السابقين والذين اتبعوهم في قوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} [التوبة: 100] وكذلك في قوله: {اتَّبَعُوهُمْ} ، لأنه حكم عُلِّق عليهم في هذه الآية، فقد تناولهم مجتمعين ومنفردين.

وأيضًا فإن الأصل في الأحكام المعلَّقة بأسماء عامة ثبوتُها لكل فردٍ فردٍ من تلك المسمَّيات، كقوله:{أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الأنعام: 72]، وقوله: {لَقَدْ

(1)

زيادة من «تنبيه الرجل» . وفي المطبوع: «و» . وليست في النسخ.

(2)

في المطبوع: «دون الشرائع» خلاف النسخ و «التنبيه» .

(3)

«واحد» الثانية ساقطة من ك والمطبوع.

ص: 589

رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 18]، وقوله:{اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].

وأيضًا فإن الأحكام المعلَّقة على المجموع يُؤتَى فيها باسم يتناول المجموع دون الأفراد، كقوله:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، وقوله:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، و قوله:{وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115]، فإن لفظ «الأمة» ولفظ «سبيل المؤمنين» لا يمكن توزيعه على أفراد الأمة وأفراد المؤمنين، بخلاف لفظ «السابقين» ، فإنه يتناول كل فرد من السابقين.

وأيضًا فالآية تعمُّ اتباعَهم مجتمعين ومنفردين في كل ممكن؛ فمن اتبع جماعتهم إذا اجتمعوا واتَّبع آحادهم فيما وُجِد عنهم مما لم يخالفه فيه غيره منهم فقد صدق عليه أنه اتبع السابقين. أما من خالف بعض السابقين فلا يصح أن يقال «اتبع السابقين» لوجود مخالفته لبعضهم، لا سيما إذا خالف هذا مرةً وهذا مرةً. وبهذا يظهر الجواب عن اتباعهم إذا اختلفوا؛ فإن اتباعهم هناك قولُ

(1)

بعض تلك الأقوال باجتهاد واستدلال، إذ هم مجتمعون على تسويغ كل واحد من الأقوال لمن أدَّى اجتهاده إليه، فقد قصد اتباعهم أيضًا. أما إذا قال الرجل قولًا، ولم يخالفه غيره فلا يُعلم أن السابقين سوَّغوا خلافَ ذلك القول.

وأيضًا فالآية تقتضي اتباعَهم مطلقًا، فلو فرضنا أن الطالب عَثَرعلى نصّ

(1)

في المطبوع: «قبول» خلاف النسخ وأصل «تنبيه الرجل» .

ص: 590

يخالف قول الواحد

(1)

منهم فقد علمنا أنه لو ظَفِر بذلك النصّ لم يَعدِلْ عنه. أما إذا رأينا رأيًا فقد يجوز أن يخالف ذلك الرأي.

[176/ب] وأيضًا فلو لم يكن اتباعهم إلا فيما أجمعوا عليه كلُّهم لم يحصل اتباعهم إلا فيما قد عُلِم أنه من دين الإسلام بالاضطرار؛ لأن السابقين الأولين خلقٌ عظيم، ولم يُعلَم أنهم اجتمعوا إلا على ذلك؛ فيكون هذا الوجه هو الذي قبله، وقد تقدم بطلانه؛ إذ الاتباع في ذلك غير مؤثِّر.

وأيضًا فجميع السابقين قد مات منهم أناسٌ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحينئذٍ فلا يحتاج في ذلك الوقت إلى اتباعهم للاستغناء عنه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لو فرضنَا أحدًا يتبعهم إذ ذاك لكان من السابقين، فحاصله أن التابعين لا يُمكِنهم اتباعُ جميع السابقين.

وأيضًا فإن معرفة قول جميع السابقين كالمتعذّر، فكيف يتبعون كلَّهم في شيء لا يكاد يُعلَم؟

وأيضًا فإنهم إنما استحقُّوا منصبَ الإمامة والاقتداء بهم بكونهم هم السابقين، وهذه صفة موجودة في كل واحد منهم، فوجب أن يكون كلٌّ منهم إمامًا للمتقين كما استوجب الرضوان والجنة.

فصل

وأما قوله: «ليس فيها ما يوجب اتباعهم» ، فنقول: الآية تقتضي الرضوان عمن اتبعهم بإحسان، وقد قام الدليل على أن القول في الدين بغير علم حرام؛ فلا يكون اتباعهم قولًا بغير علم، بل قولًا بعلم، وهو المقصود،

(1)

ك، ب:«أحد» .

ص: 591

وحينئذٍ فسواء سُمِّي

(1)

تقليدًا أو اجتهادًا.

وأيضًا فإن كان تقليد العالم للعالم حرامًا ــ كما هو قول الشافعية والحنابلة ــ فاتباعهم ليس بتقليد لأنه مَرضيٌّ، وإن كان تقليدهم جائزًا أو كان تقليدهم مستثنًى من التقليد المحرَّم فلم يقل أحد إنّ تقليد العلماء من موجبات الرضوان؛ فعُلِم أن تقليدهم خارج عن هذا، لأن تقليد العالم وإن كان جائزًا فتركُه إلى قول غيره أو إلى اجتهادٍ جائزٌ أيضًا بالاتفاق، والشيء المباح لا يستحقُّ به الرضوان.

وأيضًا فإن رضوان الله غايةُ المطالب، لا يُنال إلا بأفضل الأعمال، ومعلوم أن التقليد الذي يجوز خلافه ليس بأفضل الأعمال، بل الاجتهاد أفضلُ منه، فعُلِم أن اتباعهم هو أفضل ما يكون في مسألةٍ

(2)

اختلفوا فيها هم ومَن بعدهم، وأن اتباعهم دون مَن بعدهم هو الموجب لرضوان الله؛ فلا ريبَ أن رجحان أحد القولين يوجب اتباعه بلا شك، ومسائل الاجتهاد لا يتخيَّر الرجل فيها بين القولين.

وأيضًا فإن الله أثنى على الذين اتبعوهم بإحسان، والتقليد وظيفة العامة، فأما العلماء فإما أن يكون مباحًا لهم أو محرَّمًا؛ إذ الاجتهاد أفضلُ منه لهم بغير خلاف، أو هو واجب عليهم، فلو أُريد باتباعهم التقليدُ الذي يجوز خلافه لكان للعامة في ذلك النصيبُ الأوفى، وكان حظُّ علماء الأمة من هذه الآية أبخسَ الحظوظ، ومعلومٌ أن هذا فاسد.

(1)

في المطبوع: «يسمى» خلاف النسخ و «التنبيه» .

(2)

ك: «المسألة» .

ص: 592

وأيضًا فالرضوان عمَّن اتبعهم دليلٌ على أن اتباعهم صواب ليس بخطأ؛ فإنه لو كان خطأً لكان غاية صاحبه [177/أ] أن يُعفَى له عنه، فإن المخطئ إلى أن يُعفَى عنه أقربُ منه إلى أن يُرْضَى عنه، وإذا كان صوابًا وجب اتباعه؛ لأن خلاف الصواب خطأ، والخطأ يحرُم اتباعه إذا عُلِم أنه خطأ، وقد عُلِم أنه خطأ بكونِ الصواب خلافه.

وأيضًا فإذا كان اتباعهم موجِب الرضوان لم يكن ترك اتباعهم موجِب الرضوان؛ لأن الجزاء لا يقتضيه وجود الشيء وضده ولا وجوده ولا عدمه؛ لأنه يبقى عديم الأثر في ذلك الجزاء، وإذا كان في المسألة قولان أحدهما يوجب الرضوان والآخر لا يوجبه كان الحق هو ما يوجبه، وهذا المطلوب.

وأيضًا فإنّ طلب رضوان الله واجب؛ لأنه إذا لم يُوجَد رضوانه فإما سخطه أو عفوه، والعفو إنما يكون مع انعقاد سبب الخطيئة، وذلك لا يُباح مباشرته إلا بالنصّ، وإذا كان رضوانه إنما هو في اتباعهم، واتباعُ رضوانه واجب= كان اتباعهم واجبًا.

وأيضًا فإنه إنما أثنى على المتَّبع بالرضوان، ولم يصرِّح بالوجوب؛ لأن إيجاب الاتباع يدخل فيه الاتباعُ في الأفعال، ويقتضي تحريمَ مخالفتهم مطلقًا، فيقتضي ذمَّ المخطئ، وليس كذلك. أما الأقوال فلا وجهَ لمخالفتهم فيها بعدما ثبت أن فيها رضا الله عز وجل.

وأيضًا فإن القول إذا ثبت أن فيه رضا الله لم يكن رضا الله في ضدِّه، بخلاف الأفعال فقد يكون رضا الله في الأفعال المختلفة وفي الفعل والترك بحسب قصدَينِ وحالَينِ. أما الاعتقادات والأقوال فليست كذلك، فإذا ثبت أن في قولهم رضوان الله تعالى لم يكن الحق والصواب إلا هو؛ فوجب

ص: 593

اتباعه.

فإن قيل: السابقون هم الذين صلَّوا إلى القبلتين، أو هم أهل بيعة الرضوان ومن قبلهم، فما الدليل على اتباع مَن أسلم بعد ذلك؟

قيل: إذا ثبت وجوب اتباع أهل بيعة الرضوان فهو أكبر المقصود، على أنه لا قائلَ بالفرق، وكلُّ الصحابة سابقٌ بالنسبة إلى من بعدهم.

فصل

الوجه الثاني

(1)

: قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس: 21]، هذا قصَّه الله سبحانه عن صاحب ياسين على سبيل الرِّضا بهذه المقالة، والثناءِ على قائلها، والإقرارِ له عليها، وكل واحدٍ من الصحابة لم يسألنا أجرًا، وهم مهتدون بدليل قوله تعالى خطابًا لهم:{وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103]، و «لعلَّ» من الله واجب. وقوله:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 16 - 17] وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ قَاتَلوا

(2)

فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ} [محمد: 4]، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، وكلٌّ منهم قاتلَ في

(1)

من الأدلة الدالة على وجوب اتباع قول الصحابة.

(2)

كذا في النسخ. وهي قراءة نافع وابن كثير وابن عامر. انظر: «التيسير» (ص 200) و «السبعة» لابن مجاهد (ص 600). وسيأتي في كلام المؤلف «قاتل» بناءً عليها.

ص: 594

سبيل الله وجاهد إما بيده أو بلسانه، فيكون الله قد هداهم، ومن هداه فهو مهتدٍ، فيجب اتباعه بالآية.

الوجه الثالث: قوله تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15]، وكلٌّ من الصحابة منيبٌ إلى الله فيجب [177/ب] اتباعُ سبيله، وأقواله واعتقاداته من أكبرِ سبيله، والدليل على أنهم منيبون إلى الله سبحانه أن الله سبحانه قد هداهم، وقد قال:{وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى: 13].

الوجه الرابع: قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]، فأخبر سبحانه أن من اتبع الرسول يدعو إلى الله على بصيرة

(1)

، ومن دعا إلى الله على بصيرة وجب اتباعه؛ لقوله فيما حكاه عن الجنّ ورضِيَه:{يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف: 31]، ولأن من دعا إلى الله على بصيرة فقد دعا إلى الحق عالمًا به، والدعاء إلى أحكام الله دعاء إلى الله؛ لأنه دعاء إلى طاعته فيما أمر ونهى وأذِنَ، والصحابة قد اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم، فيجب إجابتُهم

(2)

إذا دَعَوا إلى الله.

الوجه الخامس: قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59]، قال [ابن عباس]

(3)

: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم

(4)

.

(1)

«على بصيرة» ليست في ز.

(2)

في المطبوع: «اتباعهم» خلاف النسخ والتنبيه.

(3)

هنا بياض في النسخ وأصل «التنبيه» .

(4)

رواه البزار (1492) مختصرًا، والطبري (10/ 4) وابن أبي حاتم (9/ 2906) من طريق الحكم عن السدي عن أبي مالك، والحَكَم متروك.

ص: 595

والدليل عليه قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32]، وحقيقة الاصطفاء: افتعال من التصفية، فيكون قد صفَّاهم من الأكدار، والخطأ من الأكدار، فيكونون مصفَّينَ منه. ولا ينتقض هذا بما إذا اختلفوا لأن الحق لم يَعْدُهم، فلا يكون قول بعضهم كدرًا؛ لأن مخالفة الكدر وبيانه يُزيل كونَه كدرًا بخلاف ما إذا قال بعضهم قولًا ولم يخالف فيه، فلو كان قولًا باطلا ولم يردَّه رادٌّ لكان حقيقة الكدر، وهذا لأن خلاف بعضهم لبعض بمنزلة متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أموره، فإنها لا تُخرِجه عن حقيقة الاصطفاء.

الوجه السادس: أن الله تعالى شهد لهم بأنهم

(1)

أوتوا العلم بقوله: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6]، وقوله:{حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد: 16]، وقوله:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]. واللام في «العلم» ليست للاستغراق، وإنما هي للعهد، أي العلم الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم، وإذا كانوا قد أُوتوا هذا العلمَ كان اتباعهم واجبًا.

الوجه السابع: قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، شهِدَ لهم الله تعالى بأنهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر، فلو كانت الحادثة في زمانهم لم يُفْتِ فيها إلا من أخطأ منهم= لم يكن أحد منهم قد أمر فيها بمعروف ولا نهى فيها عن المنكر؛ إذ الصواب معروف بلا شك،

(1)

ك، ب:«أنهم» .

ص: 596

والخطأ منكر من بعض الوجوه، ولولا ذلك لما صح التمسك بهذه الآية على كون الإجماع حجة، وإذا كان هذا باطلًا عُلِمَ أن خطأ من تكلَّم

(1)

منهم في العلم إذا لم يخالفه غيره ممتنع، وذلك يقتضي أن قوله حجة.

الوجه الثامن: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]، قال غير واحد من السلف: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم

(2)

. ولا ريبَ أنهم أئمة الصادقين، وكل صادقٍ بعدهم فبهم يأتمُّ في صدقه، بل حقيقة صدقه اتباعه لهم وكونه معهم، ومعلوم أن من خالفهم [178/أ] في شيء وإن وافقهم في غيره لم يكن معهم فيما خالفهم فيه، وحينئذٍ فيصدق عليه أنه ليس معهم، فتنتفي عنه المعية المطلقة، وإن ثبت له قِسطٌ من المعية فيما وافقهم فيه، فلا يَصدُق عليه أنه معهم بهذا القسط.

وهذا كما نفى الله ورسوله الإيمان المطلق عن الزاني والشارب والسارق والمنتهب بحيث لا يستحقُّ اسمَ المؤمن، وإن لم ينتفِ عنه مطلقُ الاسم الذي يستحقُّ لأجله أن يقال: معه شيء من إيمان. وهذا كما أن اسم الفقيه والعالم عند الإطلاق لا يقال لمن معه مسألة أو مسألتان من فقهٍ وعلمٍ، وإن قيل: معه شيء من العلم.

ففرقٌ بين المعية المطلقة ومطلق المعية، ومعلوم أن المأمور به الأول لا الثاني، فإن الله سبحانه لم يُرِد منّا أن نكون معهم في شيء من الأشياء، وأن

(1)

في النسخ: «يعلم» . والتصويب من «التنبيه» .

(2)

انظر: «تفسير الطبري» (12/ 67، 68) وابن أبي حاتم (6/ 1906) و «الدر المنثور» (7/ 581).

ص: 597

نحصل من المعية ما يصدُق عليه الاسم. وهذا غلط عظيم في فهم مراد الربّ تعالى من أوامره؛ فإذا أمرنا بالتقوى والبر والصدق والعفة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد ونحو ذلك لم يُرِدْ منا أن نأتي من ذلك بأقلِّ ما يُطلَق عليه الاسم، وهو مطلق الماهية المأمور بها، بحيث نكون ممتثلين لأمره إذا أتينا بذلك. وتمام تقرير هذا الوجه بما تقدَّم في تقرير الأمر بمتابعتهم سواء.

الوجه التاسع: قوله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]، ووجه الاستدلال بالآية أنه سبحانه أخبر أنه جعلهم أمةً خِيارًا عَدْلًا، هذا حقيقة الوسط، فهم خير الأمم وأعدلُها في أقوالهم وأعمالهم وإرادتهم ونياتهم، وبهذا استحقوا أن يكونوا شهداء للرسل على أممهم يوم القيامة، والله سبحانه يقبل شهادتهم عليهم، فهم شهداؤه، ولهذا نوَّه بهم ورفع ذكرهم وأثنى عليهم؛ لأنه سبحانه لما اتخذهم شهداء أَعلَمَ خلْقَه من الملائكة وغيرهم بحال هؤلاء الشهداء، وأمر ملائكته أن تصلِّي عليهم وتدعوَ لهم وتستغفر لهم.

والشاهد المقبول عند الله هو الذي يشهد بعلم وصدقٍ، فيخبر بالحق مستندًا إلى علمه به، كما قال تعالى:{إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]. فقد يخبر الإنسان بالحق اتفاقًا من غير علمه به، وقد يعلمه ولا يخبر به؛ فالشاهد المقبول عند الله هو الذي يخبر به عن علم. فلو كان علمُهم أن يفتي أحدهم بفتوى وتكون خطأ مخالِفةً لحكم الله ورسوله، ولا يفتي غيره بالحق الذي هو حكم الله ورسوله، إما مع اشتهار فتوى الأول أو

ص: 598

بدون اشتهارها= كانت هذه الأمة العدلُ الخيارُ قد أصفقَتْ

(1)

على خلاف الحق، بل انقسموا قسمين: قسمًا

(2)

أفتى بالباطل، وقسمًا سكت عن الحق، وهذا من المستحيل، فإن الحق لا يعدوهم ويخرج عنهم إلى مَن بعدهم قطعًا، ونحن نقول لِما

(3)

خالف أقوالهم: لو كان خيرًا ما سبقونا إليه.

الوجه العاشر: أن

(4)

قوله تبارك وتعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ [178/ب] وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} الآية [الحج: 78]، فأخبر سبحانه أنه اجتباهم، والاجتباء كالاصطفاء، وهو افتعال من «اجتبى الشيءَ يجتبيه»

(5)

إذا ضمَّه إليه وحازَه إلى نفسه، فهم المجتَبَون الذين اجتباهم الله إليه وجعلهم أهله وخاصَّته وصفوتَه من خلقه بعد النبيين والمرسلين، ولهذا أمرهم سبحانه أن يجاهدوا فيه حقَّ جهاده، فيبذلوا له أنفسهم، ويُفرِدوه بالمحبة والعبودية، ويختاروه وحده إلهًا معبودًا محبوبًا على كل ما سواه كما اختارهم على من سواهم، فيتخذونه وحدَه إلههم ومعبودهم الذي يتقرَّبون إليه بألسنتهم وجوارحهم وقلوبهم وإرادتهم

(6)

ومحبتهم، فيُؤثِرونه في كل حال على ما سواه، كما

(1)

أي اجتمعت وأطبقت.

(2)

ك، ب:«قسم» في الموضعين.

(3)

في المطبوع: «لمن» خلاف النسخ.

(4)

«أن» ليست في ك.

(5)

ك، ب:«جبى الشيء يجبيه» .

(6)

«وإرادتهم» ليست في ز.

ص: 599

اتخذهم عبيدَه وأولياءه وأحبابه، وآثرهم بذلك على من سواهم.

ثم أخبرهم سبحانه أنه يسَّر عليهم دينه

(1)

غايةَ التيسير، ولم يجعل عليهم فيه من حرج البتةَ لكمال محبته لهم ورأفته ورحمته وحنانه بهم، ثم أمرهم بلزوم ملة إمام الحنفاء أبيهم إبراهيم، وهي إفراده سبحانه وحده بالعبودية والتعظيم والحب والخوف والرجاء والتوكل والإنابة والتفويض والاستسلام؛ فيكون تعلُّق ذلك من قلوبهم به وحده لا بغيره

(2)

.

ثم أخبر سبحانه أنه نوَّه بهم وأثنى عليهم قبل وجودهم، وسمّاهم عباده المسلمين قبل أن يُظهرهم، ثم نوَّه بهم وسمّاهم كذلك بعد أن أوجدهم اعتناءً بهم، ورفعةً لشأنهم، وإعلاءً لقدرهم. ثم أخبر سبحانه أنه فعل ذلك ليشهد عليهم رسوله ويشهدوا هم على الناس؛ فيكونون مشهودًا لهم بشهادة الرسول شاهدين على الأمم بقيام حجة الله عليهم، فكان هذا التنويه وإشادة

(3)

الذكر لهذين الأمرين الجليلين ولهاتين الحكمتين العظيمتين. والمقصود أنهم إذا كانوا بهذه المنزلة عنده سبحانه فمن المحال أن يَحرِمهم كلَّهم الصوابَ في مسألة، فيفتي فيها بعضهم بالخطأ، ولا يفتي فيها غيره بالصواب، ويَظفر فيها بالهدى مَن بعدهم، والله المستعان.

الوجه الحادي عشر: قوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101]، ووجه الاستدلال بالآية أنه سبحانه أخبر عن

(1)

ك، ب:«دينهم» .

(2)

ز: «بغيرهم» .

(3)

ز: «وإشارة» .

ص: 600

المعتصمين به أنهم قد هُدوا إلى الحق؛ فنقول: الصحابة معتصمون بالله فهم مهديُّون، فاتباعهم واجب. أما المقدمة الأولى فتقريرها من وجوه، أحدها: قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78]، ومعلومٌ كمال تولِّي الله سبحانه لهم ونصره إيّاهم أتمَّ نصرة، وهذا يدلُّ على أنهم اعتصموا به أتمَّ اعتصام، فهم مَهديُّون بشهادة الربّ لهم بلا شك، واتباع المهديّ واجب شرعًا وعقلًا وفطرةً بلا شك. وما يَرِد على هذا الوجه من أن المتابعة لا تستلزم المتابعة في جميع أمورهم فقد تقدم جوابه.

الوجه الثاني عشر: قوله تبارك وتعالى عن أصحاب موسى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا [179/أ] وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، فأخبر سبحانه أنه جعلهم أئمةً يأتمُّ بهم مَن بعدهم لصبرهم ويقينهم؛ إذ بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين، فإن الداعي إلى الله لا يتمُّ له أمره إلا بتيقُّنهِ للحق الذي يدعو إليه، وبصيرتِه به، وصبرِه على تنفيذ الدعوة إلى الله باحتمال مشاقِّ الدعوة، وكفِّ النفس عما يُوهِن عزمَه ويُضعِف إرادته، فمن كان بهذه المثابة كان من الأئمة الذين يهدون بأمره سبحانه.

ومن المعلوم أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحقُّ وأولى بهذا الوصف من أصحاب موسى، فهم أكمل يقينًا وأعظم صبرًا من جميع الأمم، فهم أولى بمنصب هذه الإمامة. وهذا أمر ثابت لهم بلا شك بشهادة الله لهم وثنائه عليهم، وشهادة الرسول لهم بأنهم

(1)

خير القرون، وأنهم خِيَرة الله وصفوته. ومن المحال على مَن هذا شأنهم أن يُخطئوا كلهم الحقَّ، ويَظفر به

(1)

ز: «بأنه» .

ص: 601

المتأخرون، ولو كان هذا ممكنًا لانقلبت الحقائق، وكان المتأخرون أئمةً لهم يجب عليهم الرجوع إلى فتاويهم وأقوالهم، وهذا كما أنه محال حِسًّا وعقلًا فهو محال شرعًا، وبالله التوفيق.

الوجه الثالث عشر: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]، وإمام بمعنى قدوة، وهو يصلح للواحد والجمع كالأمَّة والأسوة. وقد قيل: هو جمعُ آمٍّ

(1)

، كصاحب وصِحاب، وراجل ورِجال، وتاجر وتِجار. وقيل: هو مصدر كقِتال وضِراب، أي ذَوي إمامٍ. والصواب الوجه الأول، فكلُّ من كان من المتقين وجب عليه أن يأتمَّ بهم، والتقوى واجبة، فالائتمام بهم واجب، ومخالفتهم فيما أفتَوا به مخالف للائتمام بهم. وإن قيل:«نحن نأتمُّ بهم في الاستدلال وأصول الدين» فقد تقدَّم مِن جواب هذا ما فيه كفاية.

الوجه الرابع عشر

(2)

: ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحاح من وجوه متعددة أنه قال: «خيرُ القرون القرنُ الذي بُعِثتُ فيهم، ثم الذين يَلُونهم، ثم الذين يَلُونهم»

(3)

. فأخبر صلى الله عليه وسلم أن خير القرون قرنه مطلقًا، وذلك يقتضي

(1)

في المطبوع: «آمم» خلاف جميع النسخ التي فيها الكلمة بميم واحدة، وهي مشددة بإدغام الميمين، ولا يجوز فكّها، مثل ضالّ وحاجّ وشابّ وحارّ وغيرها.

(2)

عاد المؤلف إلى النقل من «تنبيه الرجل العاقل» بعد ما أضاف ستة أدلة أو وجوه من القرآن، من الوجه الثامن إلى الثالث عشر.

(3)

رواه البخاري (2651) ومسلم (2535) من حديث عمران بن حصين، ورواه أيضًا البخاري (2652) ومسلم (2533) من حديث ابن مسعود، ورواه مسلم (2534) من حديث أبي هريرة نحوه.

ص: 602

تقدُّمَهم

(1)

في كل باب من أبواب الخير، وإلا لكانوا خيرًا من بعض الوجوه، فلا يكونون خيرَ القرون مطلقًا. فلو جاز أن يُخطئ الرجل منهم في حكمٍ وسائرُهم لم يُفتوا بالصواب، وإنما ظَفِرَ بالصواب مَن بعدهم، وأخطأوه هم لزِم أن يكون ذلك القرن خيرًا منهم من ذلك الوجه؛ لأن القرن المشتمل على الصواب خير من القرن المشتمل على الخطأ في ذلك الفن.

ثم هذا يتعدَّد في مسائل عدة؛ لأن من يقول «قول الصحابي ليس بحجة» يجوز عنده أن يكون مَن بعدهم أصاب في كل مسألة قال فيها

(2)

الصحابي قولًا ولم يخالفه صحابيٌّ آخر، وفات هذا الصواب للصحابة

(3)

، ومعلوم أن هذا يأتي في مسائل كثيرة تفوق العدَّ والإحصاء، فكيف يكونون خيرًا ممن بعدهم وقد امتاز القرن الذي بعدهم [179/ب] بالصواب فيما يفوق العدَّ والإحصاء مما

(4)

أخطؤوا فيه؟ ومعلوم أن فضيلة العلم ومعرفة الصواب أكملُ الفضائل وأشرفها، فيا سبحان الله! أيُّ وصمةٍ أعظمُ من أن يكون الصدّيق أو الفاروق أو عثمان أو علي أو ابن مسعود أو سلمان الفارسي أو عُبادة بن الصامت وأضرابهم قد أخبر عن حكم الله أنه كيتَ وكيتَ في مسائل كثيرة، وأخطأ في ذلك

(5)

، ولم يشتمل قَرنهم على ناطقٍ بالصواب في تلك المسائل، حتى نَبَغَ من بعدهم فعرفوا حكم الله الذي جهله أولئك السادة، وأصابوا الحق

(1)

في المطبوع: «تقديمهم» خلاف النسخ و «تنبيه الرجل» .

(2)

«فيها» ليست في ك.

(3)

كذا في النسخ. وفي المطبوع: «الصحابة» .

(4)

في النسخ: «ما» . والمثبت من «التنبيه» .

(5)

في النسخ: «فيه ذلك» . والمثبت من «التنبيه» .

ص: 603

الذي أخطأه أولئك الأئمة؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.

الوجه الخامس عشر: ما روى مسلم في «صحيحه»

(1)

من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: صلَّينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلنا: لو جلسنا حتى نصلِّي معه العشاء، فجلسنا، فخرج علينا فقال:«ما زِلْتم هاهنا؟» فقلنا: يا رسول الله، صلَّينا معك المغربَ ثم قلنا: نجلس حتى نصلّي معك العشاء. قال: «أحسنتم وأصبتم» ، ورفع رأسه إلى السماء، وكان كثيرًا ما يرفع رأسه إلى السماء، فقال:«النجومُ أَمَنةٌ للسماء، فإذا ذهبتِ النجومُ أتى السماءَ ما تُوعد، وأنا أَمَنَةٌ لأصحابي، فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يُوعَدون، وأصحابي أَمَنَةٌ لأمتي، فإذا ذهبَ أصحابي أتى أمتي ما يُوعَدون» . ووجه الاستدلال بالحديث أنه جعل نسبةَ أصحابه إلى من بعدهم كنسبته إلى أصحابه، وكنسبة النجوم إلى السماء، ومن المعلوم أن هذا التشبيه يُعطي من وجوب اهتداء الأمة بهم ما هو نظير اهتدائهم هم بنبيهم صلى الله عليه وسلم، ونظير اهتداء أهل الأرض بالنجوم. وأيضًا فإنه جعل بقاءهم بين الأمة أمنةً لهم وحِرزًا من الشر وأسبابه، فلو جاز أن يُخطئوا فيما أفتوا به ويَظفر به مَن بعدهم لكان الظافرون بالحق أمنةً للصحابة وحِرزًا لهم، وهذا من المحال.

الوجه السادس عشر: ما رواه أبو عبد الله ابن بطَّة

(2)

من حديث الحسن

(1)

رقم (2531).

(2)

لم أجد النصّ في «الإبانة» (فضائل الصحابة)، فالمطبوع ناقص. وقد رواه ابن المبارك في «الزهد» (572) والبزار (13/ 219) وأبو يعلى (2762) من طريق إسماعيل عن الحسن به، قال الحافظ في «المطالب» (17/ 88): تفرد به إسماعيل، وليس بالحافظ. وروي عن الحسن مرسلًا كما سيأتي من كلام المصنف.

ص: 604

عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن مَثَلَ أصحابي في أمتي كمَثَلِ الملح في الطعام، لا يصلُح الطعام إلا بالملح» . قال الحسن: قد

(1)

ذهب مِلْحُنا فكيف نَصلُح؟

وروى ابن بطَّة

(2)

أيضًا بإسنادين إلى عبد الرزاق أخبرنا مَعمر عمن سمع الحسن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَثلُ أصحابي في الناس كمَثَلِ الملح في الطعام» . ثم يقول الحسن: هيهات! ذهب مِلحُ القوم.

وقال الإمام أحمد

(3)

: حدثنا حُسين بن علي الجعفي عن أبي موسى ــ يعني إسرائيل ــ عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ أصحابي كمَثَلِ الملح في الطعام» . قال: يقول الحسن: هل يَطيب الطعامُ إلا بالملح؟ ويقول الحسن: فكيف بقومٍ ذهبَ ملحُهم؟

ووجه الاستدلال أنه شبَّه أصحابه في صلاح دين الأمة بهم بالملح الذي صلاحُ الطعام به، فلو جاز أن يُفتوا بالخطأ ولا يكون في عصرهم من يفتي بالصواب ويَظفر به مَن بعدهم لكان مَن [180/أ] بعدهم مِلْحًا لهم، وهذا محال. يوضِّحه أن الملح كما أن به صلاحَ الطعام؛ فالصواب به صلاح الأنام، فلو أخطأوا فيما أفتوا به لاحتاج ذلك إلى ملحٍ يُصلِحه، فإذا أفتى مَن بعدهم بالحق كان قد أصلح خطأهم فكان مِلْحًا لهم.

(1)

ك، ب:«فقد» .

(2)

ذكره في «الشرح والإبانة» (ص 113) بدون إسناد. وهو في «مصنف عبد الرزاق» (20377).

(3)

في «فضائل الصحابة» (1730). ورواه أيضًا ابن أبي شيبة (33072) بنفس الإسناد نحوه، وهو صحيح.

ص: 605

الوجه السابع عشر: ما روى البخاري في «صحيحه»

(1)

من حديث الأعمش قال: سمعت أبا صالح يحدث عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تَسُبُّوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفقَ مِثلَ أحدٍ ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفَه» . وفي لفظ

(2)

: «فوالذي نفسي بيده» . وهذا خطابٌ منه لخالد بن الوليد ولأقرانه من مُسلِمة الحديبية والفتح، فإذا كان مُدُّ أحد أصحابه ونصيفُه أفضلَ عند الله من مِثلِ أحدٍ ذهبًا من مِثلِ خالد وأضرابه من الصحابة، فكيف يجوز أن يَحرِمَهم الله الصوابَ في الفتاوى ويَظفر به مَن بعدهم؟ هذا من أبينِ المحال.

الوجه الثامن عشر: ما روى الحميدي حدثنا محمد بن طلحة قال: حدثني عبد الرحمن بن سالم بن عبد الرحمن بن عُوَيم بن ساعدة عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله اختارني، واختار لي أصحابًا، فجعل لي منهم وزراءَ وأنصارًا وأصهارًا» الحديث

(3)

. ومن المحال أن يَحرِم الله الصوابَ مَن اختارهم لرسوله وجعلهم وزراءه وأنصاره وأصهاره، ويُعطِيَه مَن بعدهم في شيء من الأشياء.

(1)

رقم (3673). وأخرجه مسلم (2541) بهذا الطريق نحوه.

(2)

عند مسلم (2540) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

رواه ابن ابي عاصم في «السنة» (1000) والطبراني (17/ 439) والحاكم (3/ 632) من طريق محمد بن طلحة التيمي به، وهذا إسناد ضعيف من أجل محمد بن طلحة، وجهالة عبد الرحمن. انظر:«المدخل» للبيهقي (1/ 50) و «مجمع الزوائد» (10/ 17).

ص: 606

الوجه التاسع عشر: ما روى

(1)

أبو داود الطيالسي

(2)

حدثنا المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلبَ محمدٍ خيرَ قلوب العباد، فبعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوبَ أصحابه خيرَ قلوب العباد، فاختارهم لصحبة نبيه ونصرة دينه، فما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيح.

ومن المحال أن يُخطئ الحقَّ في حكم الله خيرُ قلوب العباد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويَظفَر به مَن بعدهم. وأيضًا فإن ما أفتى به أحدهم وسكت عنه الباقون كلُّهم فإما أن يكونوا قد رأوه حسنًا أو يكونوا رأوه قبيحًا، فإن كانوا رأوه حسنًا فهو حسنٌ عند الله، وإن كانوا رأوه قبيحًا ولم يُنكِروه لم تكن قلوبهم من خير قلوب العباد، وكان مَن أنكره بعدهم خيرًا منهم وأعلمَ، وهذا من أبين المحال.

الوجه العشرون: ما رواه الإمام أحمد

(3)

وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: من كان متأسِّيًا فليتأسَّ بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم كانوا أبرَّ هذه

(1)

ك: «رواه» .

(2)

في «مسنده» (243). وأخرجه أيضًا أحمد (3600) والبزار (5/ 212) وإسناده حسن من أجل عاصم، وصححه المصنف في «الفروسية» (ص 299)، وقال ابن تيمية في «منهاج السنة» (2/ 77): إسناده معروف، وحسنه الحافظ في «موافقة الخبر الخبر» (2/ 435) والسخاوي في «المقاصد الحسنة» (435).

(3)

لم أجده في «المسند» وغيره من مؤلفاته. وقد أخرجه ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (1808) والهروي في «ذم الكلام» (ص 188) وأبو نعيم (1/ 305) من طرقٍ عن ابن مسعود يقوِّي بعضها بعضًا.

ص: 607

الأمة قلوبًا، وأعمقَها علمًا، وأقلَّها تكلُّفًا، وأقومَها هَدْيًا، وأحسَنها حالًا، قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامةِ دينه، فاعرِفوا لهم فضلَهم، واتبعوا آثارهم، فإنهم كانوا على الهدي المستقيم.

ومن المحال أن يَحرِم الله أبرَّ هذه الأمة قلوبًا، وأعمقَها علمًا، وأقلَّها تكلفًا، وأقومَها هديًا، الصوابَ [180/ب] في أحكامه، ويوفِّق له مَن بعدهم.

الوجه الحادي والعشرون: ما رواه الطبراني وأبو نعيم وغيرهما عن حذيفة بن اليمان أنه قال: يا معشرَ القراء، خُذوا طريقَ من كان قبلكم، فوالله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقًا بعيدًا، ولئن تركتموه يمينًا وشمالًا لقد ضللتم ضلالًا بعيدًا

(1)

.

ومن المحال أن يكون الصواب في غير طريق مَن سبقَ إلى كل خير على الإطلاق.

الوجه الثاني والعشرون: ما قاله جُندب بن عبد الله لفرقةٍ دخلت عليه من الخوارج، فقالوا: ندعوك إلى كتاب الله، فقال: أنتم؟ قالوا: نحن، قال: أنتم؟ قالوا: نحن، فقال: يا أخابثَ

(2)

خلقِ الله، في اتّباعنا تختارون الضلالة أم في غير سنتنا تلتمسون الهدى؟! اخرجوا عني

(3)

.

(1)

رواه أبو نعيم في «الحلية» (10/ 280)، ولم أجده من حديث حذيفة عند الطبراني في كتبه، وهو عنده في «الكبير» (9/ 135) من حديث ابن مسعود بنحوه. وأصله في البخاري (7282) من حديث حذيفة بلفظ:«يا معشر القراء استقيموا فقد سبقتم سبقًا بعيدًا، فإن أخذتم يمينًا وشمالًا لقد ضللتم ضلالًا بعيدًا» .

(2)

في المطبوع: «أخابيث» خلاف النسخ.

(3)

لم أجده إلّا في «تنبيه الرجل العاقل» (ص 548) بدون إسناد.

ص: 608

ومن المعلوم أن من جوَّز أن تكون الصحابة أخطأوا في فتاويهم فمَن بعدهم، وخالفَهم فيها= فقد اتبع الحقَّ في غير سنتهم، وقد دعاهم إلى كتاب الله؛ فإن كتاب الله إنما يدعو إلى الحق، وكفى ذلك إزراءً على نفوسهم وعلى الصحابة.

الوجه الثالث والعشرون: ما رواه الترمذي

(1)

من حديث العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظةً بليغة ذَرَفتْ منها العيون، ووَجِلتْ منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأنها موعظةُ مودِّع، فماذا تعهَدُ إلينا؟ فقال: «عليكم بالسمع والطاعة، وإن تأمَّر عليكم عبد حبشيٌّ كأنّ رأسَه زبيبة، وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعدي، تمسَّكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدَثاتِ الأمور، فإن كل محدثة [بدعة، وكل بدعة]

(2)

ضلالة»، وهذا حديث حسن، إسناده لا بأس به.

فقَرَنَ سنة خلفائه بسنته، وأمر باتباعها كما أمر باتباع سنته، وبالغ في الأمر بها حتى أمر بأن يعضَّ عليها بالنواجذ، وهذا يتناول ما أفْتَوا به وسَنُّوه للأمة، وإن لم يتقدَّم من نبيهم فيه شيء، وإلا كان ذلك سنتَه، ويتناول ما أفتى به جميعهم أو أكثرهم أو بعضهم لأنه علَّق ذلك بما سنَّه الخلفاء الراشدون، ومعلوم أنهم لم يسنُّوا ذلك وهم خلفاء في آنٍ واحد، فعُلِم أن ما سنَّه كل

(1)

رقم (2676). ورواه أيضًا أحمد (17144، 17145) وأبو داود (4607) وابن ماجه (42). وإسناده صحيح، صححه البزار كما في «جامع بيان العلم» (2/ 924) والترمذي وابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (4/ 399) والذهبي في «تاريخ الإسلام» (30/ 408) والعيني في «نخب الأفكار» (2/ 146).

(2)

ما بين المعكوفتين ليس في جميع النسخ، وزيد من مصادر التخريج والنسخ المطبوعة.

ص: 609

واحد منهم في وقته فهو من سنة الخلفاء الراشدين.

ورواه الإمام أحمد في «مسنده»

(1)

من حديث عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن ضَمْرة بن حبيب عن عبد الرحمن بن عمرو السُّلَمي سمع العرباض بن سارية

(2)

، فذكر نحوه.

الوجه الرابع والعشرون: ما رواه الترمذي

(3)

من حديث الثوري عن عبد الملك بن عمير عن هلال مولى رِبْعِي بن حِرَاش عن رِبْعِي عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقتدُوا باللَّذَينِ من بعدي أبي بكر وعمر، واهتدوا بهَدْي عمَّار، وتمسَّكوا بعهدِ ابن أم عبد» . قال الترمذي: هذا حديث حسن. ووجه الاحتجاج به ما تقدم في تقرير المتابعة.

الوجه الخامس والعشرون: ما رواه مسلم في «صحيحه»

(4)

من حديث عبد الله بن رَباح عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن يُطِع القومُ أبا بكر وعمر يَرشُدوا» . [181/أ] وهو في حديث الميضأة الطويل، فجعل الرشد معلّقًا

(1)

رقم (17142).

(2)

«بن سارية» ليست في ك.

(3)

رقم (3799). وكذلك رواه أحمد (23276، 23419). ورواه بدون واسطة مولى رِبعي: أحمد (23245) والترمذي (3662) وابن ماجه (97) والحاكم (3/ 75) والبيهقي (8/ 153). وله شواهد، انظر:«البدر المنير» (9/ 578) و «التلخيص الحبير» (4/ 460). والحديث ضعفه البزار كما في «التلخيص الحبير» وابن حزم في «الإحكام» (2/ 250)، وحسنه العقيلي (5/ 308) وابن عبد البر في «الجامع» (2/ 312) والذهبي في «التاريخ» (3/ 257)، وصححه ابن حبان والحاكم وابن العربي في «العواصم» (ص 252)، والحديث حسن إن شاء الله.

(4)

رقم (681).

ص: 610

بطاعتهم

(1)

، فلو أفتَوا بالخطأ في حكمٍ وأصابه مَن بعدهم لكان الرشد في خلافهما

(2)

.

الوجه السادس والعشرون: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر في شأن تأمير القَعْقاع بن حكيم

(3)

والأقرع بن حابس: «لو اتفقتما على شيء لم أخالِفْكما»

(4)

. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر أنه لا يخالفهما لو اتفقا، ومن يقول قولهما ليس بحجة يجوِّز مخالفتهما، وبعض غُلاتهم يقول: لا يجوز الأخذُ بقولهما ويجب الأخذ بقول إمامنا الذي قلَّدناه، وذلك موجود في كتبهم.

الوجه السابع والعشرون: أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى أبي بكر وعمر فقال: «هذان السمع والبصر»

(5)

. أي هما منّي بمنزلة السمع والبصر، أو هما من

(1)

في المطبوع: «بطاعتهما» خلاف النسخ.

(2)

ك، ب:«خلافها» .

(3)

كذا عند المؤلف، والصواب القعقاع بن معبد كما في البخاري، وسيأتي. أما القعقاع بن حكيم فليس صحابيًا، بل هو من ثقات التابعين من رجال مسلم، مترجم في «تهذيب التهذيب» (8/ 383).

(4)

ذكره بهذا اللفظ شيخ الإسلام في «منهاج السنة» (6/ 129، 8/ 295) و «جامع الرسائل» (1/ 267). وأخرجه الإمام أحمد في «مسنده» (17994) من حديث عبد الرحمن بن غَنْم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر: «لو اجتمعتما في مشورةٍ ما خالفتكما» . وفي إسناده شهر بن حوشب ضعيف. وعبد الرحمن بن غنم له صحبة. أما الخلاف بين أبي بكر وعمر بشأن تأمير القعقاع أو الأقرع، فقد رواه البخاري (4367، 4847)، وليس عنده قول النبي صلى الله عليه وسلم.

(5)

رواه أحمد في «الفضائل» (686) والترمذي (3671) والحاكم (3/ 69) من طريق عبد العزيز بن المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن حنطب، وهو مرسل، وله شواهد. وحسنه الذهبي في «تلخيص المستدرك» ، وصححه الألباني في «الصحيحة» (814).

ص: 611

الدين بمنزلة السمع والبصر، ومن المحال أن يُحرَم سمعُ الدين وبصرُه الصوابَ ويَظْفَر به من بعدهما.

الوجه الثامن والعشرون: ما رواه أبو داود وابن ماجه

(1)

من حديث ابن إسحاق عن مكحول عن غُضَيف بن الحارث عن أبي ذر قال

(2)

: مرَّ فتًى على عمر رضي الله عنه، فقال عمر: نعم الفتى، قال: فتبعه أبو ذر، فقال: يا فتى استغفِرْ لي، فقال: يا أبا ذر، أَستغفر لك وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: استغفِرْ لي، قال: لا أو تُخبرنَّ

(3)

، قال: إنك مررتَ على عمر فقال: نعم الفتى، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«إن الله جعلَ الحقَّ على لسانِ عمر وقلبِه» . ومن المحال أن يكون الخطأ في مسألةٍ أفتى بها مَن جعلَ الله الحقَّ على لسانِه وقلبِه حظَّه

(4)

، ولا ينكره عليه أحد من الصحابة، ويكون الصوابُ فيها حظَّ مَن بعده، هذا من أبينِ المحال.

(1)

عند أبي داود (2962) وابن ماجه (108) الجزء المرفوع بهذا الإسناد دون القصة. ورواه أحمد (21457، 21542) والحاكم (3/ 86 - 87) والبيهقي في «المدخل» (66) بهذا الإسناد مع القصة. وصححه الترمذي والحاكم وابن تيمية في «منهاج السنة» (6/ 63).

(2)

كذا في النسخ: «عن أبي ذر قال» ، فيوهم أن «مرَّ فتى

» قولُه، والواقع أنه قول غُضَيف، وهو الفتى المذكور كما في مصادر التخريج. والمؤلف روى القصة بالمعنى.

(3)

كذا في النسخ. وفي المطبوع: «تخبرني» .

(4)

«حظَّه» خبر «يكون» .

ص: 612

الوجه التاسع والعشرون: ما رواه مسلم في «صحيحه»

(1)

من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد كان فيمن خَلا من الأمم أناسٌ مُحدَّثون، فإن يكن في أمتي أحدٌ فهو عمر» . وهو في «المسند» والترمذي

(2)

وغيرهما من حديث أبي هريرة.

والمحدَّث: هو المكلَّم الذي يُلقي الله في رُوْعِه الصوابَ يحدِّثه به المَلَك عن الله، ومن المحال أن يختلف هذا ومَن بعده في مسألة ويكون الصواب فيها مع المتأخر دونه؛ فإن ذلك يستلزم أن يكون ذلك الغير هو المحدَّث بالنسبة إلى هذا الحكم دون أمير المؤمنين، وهذا وإن أمكن في أقرانه من الصحابة فإنه لا يخلو عصرهم من الحق: إما على لسان عمر، وإما على لسان غيره منهم، وإنما المحال أن يفتي أمير المؤمنين المحدَّث بفتوى أو يحكم بحكم ولا يقول أحد من الصحابة غيره ويكون خطأ، ثم يوفَّق له مَن بعدهم فيصيب الحق ويخطئه الصحابة.

الوجه الثلاثون: ما رواه الترمذي من حديث بكر بن عمرو عن مِشْرَح بن هَاعان عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لو كان بعدي نبيٌّ لكان عمر»

(3)

. وفي لفظ: «لو لم أُبعَثْ فيكم لبُعِثَ فيكم

(1)

رقم (2398). وأخرجه أيضًا أحمد (24285) والترمذي (3693).

(2)

«المسند» (8468). وهو عند الترمذي (3693) من حديث عائشة رضي الله عنها كما سبق. وأخرجه البخاري (3689) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وهو حديث واحد وقع الخلاف فيه من بعض الرواة. انظر: «فتح الباري» (7/ 50) و «العلل» للدارقطني (14/ 311، 312).

(3)

رواه أحمد (17405) والترمذي (3686) والطبراني (17/ 298) والحاكم (3/ 85) وهذا إسناد حسن من أجل مشرح، وصححه الحاكم وابن تيمية في «منهاج السنة» (6/ 68)، وحسنه الألباني في «الصحيحة» (327).

ص: 613

عمر»

(1)

. قال الترمذي: حديث حسن. ومن المحال أن يختلف مَن هذا شأنه ومن بعده من

(2)

[181/ب] المتأخرين في حكم من أحكام الدين ويكون حظُّ عمر منه الخطأَ وحظُّ ذلك المتأخر منه الصوابَ.

الوجه الحادي والثلاثون: ما روى إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي أن عليًّا رضي الله عنه قال: ما كنَّا نُبعِد أن السكينة تَنْطِق على لسان عمر

(3)

. ومن المحال أن يكون مَن بعده مِن المتأخرين أسعدَ بالصواب منه في أحكام الله عز وجل. ورواه عمرو بن ميمون وزِرّ

(4)

عن علي.

(1)

رواه ابن عدي (4/ 1511) وابن الجوزي في «الموضوعات» (1/ 320) وابن عساكر (44/ 114). وفي إسناده عبد الله بن واقد، وهومتروك، وضعفه ابن عدي وابن الجوزي وابن عساكر.

(2)

«من» ليست في ز.

(3)

رواه عبد الله بن أحمد في زياداته على «فضائل الصحابة» (310، 470) وابن أبي شيبة (32637) وأبو نعيم في «الحلية» (4/ 328) بهذا الإسناد، وصححه ابن تيمية في «منهاج السنة» (6/ 57)، وحسَّنه الهيثمي (9/ 70) والشوكاني في «در السحابة» (101).

(4)

في النسخ المخطوطة والمطبوعة: «عن زر» ، وهو خطأ، والصواب:«وزِرّ» ، فكلٌّ منهما يروي هذا عن علي، ورواية عمرو عن علي أخرجها الطبراني في «المعجم الأوسط» (5549) والبيهقي في «دلائل النبوة» (6/ 369، 370). قال البيهقي بعد روايته: «تابعه زرّ بن حبيش والشعبي عن علي» . ورواية زرّ عن علي أخرجها عبد الرزاق في «المصنّف» (20380) وعبد الله بن أحمد في زيادات «فضائل الصحابة» (522).

ص: 614

الوجه الثاني والثلاثون: ما رواه واصل الأحدب عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: ما رأيتُ عمر إلا وكأنَّ بين عينيه ملَكًا يسدِّده

(1)

. ومعلوم قطعًا أن هذا أولى بالصواب ممن ليس بهذه المثابة.

الوجه الثالث والثلاثون: ما رواه الأعمش عن شقيق قال: قال عبد الله: والله لو أنّ علْمَ عمر وُضِع في كِفَّة ميزانٍ وجُعِل علم أهل الأرض في كِفَّةٍ لرجَحَ علمُ عمر. فذكرتُ ذلك لإبراهيم النخعي، فقال: قال عبد الله: والله إني لأحسبُ عمر ذهبَ بتسعة أعشارِ العلم

(2)

. ومن أبعد الأمور أن يكون المخالف لعمر بعد انقراض عصر الصحابة أولى بالصواب منه في شيء من الأشياء.

الوجه الرابع والثلاثون: ما رواه ابن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: كان ابن عباس إذا سئل عن شيء وكان في القرآن أو السنة قال به، وإلا قال بما قال به أبو بكر وعمر، فإن لم يكن قال برأيه

(3)

. فهذا ابن عباس ــ واتباعه للدليل وتحكيمه للحجة معروف، حتى يخالف لِما قام عنده من الدليل أكابرَ الصحابة ــ يجعل قول أبي بكر وعمر حجة يؤخذ بها بعد قول الله ورسوله، ولم يخالفه في ذلك أحد من الصحابة.

(1)

رواه أبو نعيم في «تثبيت الإمامة» (88) والطبراني (8832) والبيهقي في «المدخل» (69)، وإسناده صحيح، صححه ابن تيمية في «منهاج السنة» (6/ 57).

(2)

تقدم تخريجه (3/ 159).

(3)

رواه الدارمي (168) وابن أبي شيبة (23448) والحاكم (1/ 127) والبيهقي (10/ 115) من طريق ابن عيينة به، وإسناده صحيح.

ص: 615

الوجه الخامس والثلاثون: ما رواه منصور عن زيد بن وهب عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رضيتُ لأمتي ما رضيَ لها ابنُ أم عبدٍ»

(1)

. كذا رواه يحيى بن يعلى المحاربي عن زائدة عن منصور، والصواب ما رواه إسرائيل وسفيان عن منصور عن القاسم بن عبد الرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا

(2)

. ولكن قد روى جعفر بن عون عن المسعودي عن جعفر بن عمرو بن حُريث عن أبيه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود: «اقْرَأْ»

(3)

قال: أَقرأُ وعليك أُنزِل؟ قال: «إني أحِبُّ أن أَسمعه من غيري» ، فافتتح سورة النساء حتى إذا بلغ {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] فاضَتْ عينَا رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وكفَّ عبد الله، فقال

(4)

رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تكلَّم»

(5)

فحمد الله في أول كلامه، وأثنى على الله، وصلَّى على النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد شهادة الحق، وقال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، ورضيتُ لكم ما رضي [الله ورسوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(1)

أخرجه الحاكم (3/ 317، 318) بهذا الإسناد. وهو معلول، وسيأتي كلام المؤلف عليه.

(2)

رواه هكذا أحمد في «فضائل الصحابة» (1536) وابن أبي شيبة (32896) والطبراني في «الكبير» (8458) والحاكم (3/ 318)، ورواه البزار (5/ 354) والطبراني في «الأوسط» (6875) من طريق عمرو بن أبي قيس عن منصور بن المعتمر عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن ابن مسعود مرفوعًا. ولكن البزار رجّح الإرسال، وكذا البيهقي في «المدخل» (1/ 99).

(3)

بعدها في المطبوع: «عليّ» . وليست في النسخ و «المستدرك» .

(4)

كذا في النسخ و «المستدرك» . وفي المطبوع: «فقام» .

(5)

في النسخ: «وتكلم» ، والصواب أنه صيغة أمر بحذف الواو كما في «المستدرك» .

ص: 616

«رضيتُ لكم ما رضي]

(1)

لكم ابن أم عبد»

(2)

.

ومن قال: «ليس قوله بحجة، وإذا خالفه غيره ممن بعده يجوز أن يكون الصواب في قول المخالف له» لم يرضَ للأمة ما رضِيَه له

(3)

ابنُ أم عبد ولا ما رضِيَه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الوجه السادس والثلاثون: ما رواه أبو إسحاق عن حارثة بن مُضرِّب قال: كتب عمر إلى أهل الكوفة: «قد بعثتُ إليكم [182/أ] عمار بن ياسر أميرًا، وابن مسعود معلِّمًا ووزيرًا، وهما من النجباء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من أهل بدر، فاقتدُوا بهما، واسمعوا قولهما، وقد آثرتُكم بعبد الله على نفسي»

(4)

.

فهذا عمر قد أمر أهل الكوفة أن يقتدوا بعمار وابن مسعود ويسمعوا قولهما، ومن لم يجعل قولهما حجةً يقول: لا يجب الاقتداء بهما ولا سماعُ أقوالهما إلا فيما أجمعتْ عليه الأمة، ومعلومٌ أن ذلك لا اختصاصَ لهما به، بل لا فرقَ فيه بينهما وبين غيرهما من سائر الأمة.

الوجه السابع والثلاثون: ما قاله عُبادة بن الصامت وغيره: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن نقولَ بالحق حيث كنّا، ولا نخافَ في الله لومة لائم

(5)

.

(1)

زيادة من «المستدرك» ليستقيم السياق، وليست في النسخ المخطوطة والمطبوعة ..

(2)

رواه الحاكم (3/ 319) بهذا الطريق وصححه، والمسعودي ضعيف، وأوله في «الصحيحين» انظر: البخاري (4582، 5050، 5055) ومسلم (800).

(3)

كذا في النسخ. وفي المطبوع: «لهم» .

(4)

رواه الحاكم (3/ 388) من طريق سفيان عن أبي إسحاق به، وصححه الحاكم وابن كثير في «مسند الفاروق» (2/ 678).

(5)

أخرجه البخاري (7199، 7200) ومسلم (1709).

ص: 617

ونحن نشهد بالله أنهم وَفَوا بهذه البيعة، وقالوا بالحق، وصَدَعوا به، ولم تأخذهم فيه لومةُ لائم، ولم يكتموا شيئًا منه مخافةَ سوطٍ ولا عصًا ولا أميرٍ ولا والٍ، كما هو معلوم لمن تأمَّله من هَدْيهم وسيرتهم، فقد أنكر أبو سعيد على مروان وهو أمير على المدينة

(1)

، وأنكر عبادة بن الصامت على معاوية وهو خليفة

(2)

، وأنكر ابن عمر على الحجّاج مع سطوته وبأسه

(3)

، وأنكر على عمرو بن سعيد وهو أمير على المدينة

(4)

. وهذا كثير جدًّا من إنكارهم على الأمراء والولاة إذا خرجوا عن العدل، لم يخافوا سَوطهم ولا عقوبتهم، ومَن بعدهم لم تكن لهم هذه المنزلة، بل كانوا يتركون كثيرًا من الحقّ خوفًا من ولاة الظلم وأمراء الجور، فمن المحال أن يوفَّق هؤلاء للصواب ويُحرَمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الوجه الثامن والثلاثون: ما ثبت في «الصحيح»

(5)

من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رقِيَ المنبر فقال: «إنّ عبدًا خيَّره الله بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله» . فبكى أبو بكر وقال: بل نَفْدِيك بآبائنا

(1)

كما رواه البخاري (956) ومسلم (889) عن أبي سعيد وهو الخدري.

(2)

كما رواه مسلم (1587).

(3)

أخرجه ابن جرير الطبري في «تفسيره» (12/ 226) والحاكم في «المستدرك» (2/ 339) بإسناد صحيح. وأخرج ابن سعد في «الطبقات» (4/ 184) القصة التي فيها إنكاره على الحجاج وهو يخطب، وإسناده حسن. وانظر «سير أعلام النبلاء» (3/ 230).

(4)

الذي أنكر على عمرو بن سعيد هو أبو شُريح، كما أخرجه البخاري (104) ومسلم (1354).

(5)

البخاري (466، 3654) ومسلم (2382).

ص: 618

وأمهاتنا. فعجبنا لبكائه أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن رجلٍ خُيِّر فكان المخيَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان أبو بكر أعلَمَنا به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن أمنَّ الناس علينا في صحبته وذاتِ يده أبو بكر، ولو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذتُ أبا بكرٍ خليلًا، ولكنْ أخوَّة الإسلام ومودَّتُه، لا يبقى في المسجد بابٌ إلا سُدَّ إلا باب أبي بكر» .

ومن المعلوم أن فوتَ الصواب في الفتوى لِأعلمِ الأمة برسول الله صلى الله عليه وسلم ولجميع الصحابة معه وظَفَرَ فلانٍ وفلان من المتأخرين به من أمحل المحال، ومن لم يجعل قوله حجةً يجوِّز ذلك، بل يحكم بوقوعه، والله المستعان.

الوجه التاسع والثلاثون: ما رواه زائدة عن عاصم عن زِرٍّ عن عبد الله قال: لما قُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، فأتاهم عمر، فقال: ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يؤمَّ الناس؟ قالوا: بلى، قال: فأيُّكم تَطِيْب نفسُه أن يتقدَّم أبا بكر؟ فقالوا: نعوذ بالله أن نتقدَّم أبا بكر

(1)

.

ونحن نقول لجميع المفتين: أيُّكم تَطيب نفسُه أن يتقدَّم أبا بكر إذا أفتى بفتوى وأفتى من قلَّدتموه بغيرها؟ ولا سيما من قال [182/ب] من زعمائكم: إنه يجب تقليد من قلَّدناه دينَنا، ولا يجوز تقليد أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

(1)

رواه أحمد (133، 3765، 3842) والنسائي (777) والحاكم (3/ 67) والبيهقي (8/ 152)، وإسناده حسن من أجل عاصم، وصحّحه ابن المديني كما في «مسند الفاروق» (2/ 531)، وحسَّنه الذهبي في «تهذيب السنن الكبرى» (6/ 3253) والحافظ في «الفتح» (12/ 159).

ص: 619

اللهم إنا نُشهِدك أن أنفسنا لا تطيب بذلك، ونعوذ بك أن نَطيبَ

(1)

به نفسًا.

الوجه الأربعون: ما ثبت في «الصحيح»

(2)

من حديث الزهري عن حمزة بن عبد الله عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينا أنا نائم إذْ أُتِيتُ بقَدَحِ لبنٍ، فقيل لي: اشربْ، فشربتُ منه، حتى إني لأرى الرِّيَّ يجري في أظفاري، ثم أعطيتُ فَضْلي عمر» ، قالوا: فما أوَّلتَ ذلك؟ قال: «العلم» .

ومن أبعد الأشياء أن يكون الصواب مع من خالفه في فُتيا أو حكمٍ لا يُعلَم أن أحدًا من الصحابة خالفه فيه، وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الشهادة.

الوجه الحادي والأربعون: ما ثبت في «الصحيح»

(3)

من حديث عبيد الله

(4)

بن أبي يزيد عن ابن عباس رضي الله عنه أنه وَضع للنبي صلى الله عليه وسلم وضوءًا، فقال:«مَن وَضع هذا؟» قالوا: ابن عباس، فقال:«اللهم فقِّهه في الدين» . وقال عكرمة

(5)

: ضمَّني إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اللّهمَّ علِّمه الحكمةَ» .

ومن المستبعد جدًّا بل الممتنع أن يفتي حبر الأمة وترجمان القرآن الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوة مستجابة قطعًا أن يفقِّهه في الدين ويعلِّمه الحكمة ولا يخالفه فيها أحد من الصحابة ويكون فيها على خطأ، ويفتي واحدٌ من المتأخرين بعده بخلاف فتواه ويكون الصواب معه، فيظفر به هو

(1)

في المطبوع: «تطيب» .

(2)

البخاري (82، 3681) ومسلم (2391).

(3)

البخاري (143) ومسلم (2477).

(4)

في المطبوع: «عبد الله» ، خطأ.

(5)

أي: عن ابن عباس. وقد أخرجه البخاري (3756، 7270).

ص: 620

ومقلِّدوه، ويُحْرَمه ابن عباس والصحابة.

الوجه الثاني والأربعون: أن صورة المسألة ما إذا لم يكن في الواقعة حديثٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا اختلافٌ بين الصحابة، وإنما قال بعضهم فيها قولًا وأفتى بفُتيا، ولم يُعلَم أن قوله وفتياه اشتهر في الباقين ولا أنهم خالفوه، وحينئذٍ فنقول: من تأمَّل المسائل الفقهية والحوادث الفروعية، وتدرَّب بمسالكها، وتصرَّف في مداركها، وسلك سُبُلَها ذُلُلًا، وارتوى من مَوْرِدها عَلَلًا ونَهَلًا= عَلِم قطعًا أن كثيرًا منها قد تشتبه فيها وجوه الرأي بحيث لا يُوثَق

(1)

فيها بظاهر مراد، أو قياسٍ صحيح ينشرح له الصدر ويثلَج له الفؤاد، بل تتعارض فيها الظواهر والأقيسة على وجهٍ يقف المجتهد في أكثر المواضع حتى لا يبقى للظنّ رجحانٌ بيِّن، لا سيما إذا اختلف الفقهاء؛ فإن عقولهم من أكمل العقول وأوفرِها، فإذا تلدَّدوا وتوقَّفوا، ولم يتقدَّموا ولم يتأخّروا= لم يكن ذلك وفي المسألة طريقة واضحة ولا حجة لائحة؛ فإذا وُجِد فيها قولٌ لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين هم سادات الأمة وقدوة الأئمة، وأعلم الناس بكتاب ربهم وسنة نبيهم، وقد شاهدوا التنزيل وعرفوا التأويل، ونسبةُ مَن بعدهم في العلم إليهم كنسبتهم إليهم في الفضل والدين= كان

(2)

الظنُّ ــ والحالة هذه ــ بأن الصواب في جهتهم والحقُّ في جانبهم من أقوى الظنون، وهو أقوى من الظنّ المستفاد من كثير من الأقيسة، هذا ما لا يمتري فيه عاقل منصف، وكان الرأي الذي [183/أ] يوافق رأيَهم هو الرأي السَّداد الذي لا رأيَ سواه.

(1)

ز: «لا يوفق» .

(2)

جواب «فإذا وُجِد

».

ص: 621

وإذا كان المطلوب في الحادثة إنما هو ظنٌّ راجح، ولو استند إلى استصحابٍ أو قياس علةٍ أو دلالةٍ أو شَبَهٍ أو عمومٍ مخصوص أو محفوظٍ مطلق أو واردٍ على سبب؛ فلا شك أن الظنَّ الذي يحصل لنا بقول الصحابي الذي لم يُخالَف أرجحُ من كثير من الظنون المستندة إلى هذه الأمور أو أكثرها، وحصولُ الظن الغالب في القلب ضروريٌّ لحصول

(1)

الأمور الوجدانية، ولا يخفى على العالم أمثلة ذلك.

الوجه الثالث والأربعون: أن الصحابي إذا قال قولًا أو حكم بحكمٍ أو أفتى بفُتيا فله مداركُ ينفرد بها عنّا، ومداركُ نشاركه فيها، فأما ما يختصّ به فيجوز أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم شِفاهًا أو من صحابي آخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ما انفردوا به من العلم عنّا أكثرُ من أن يُحاط به، فلم يروِ كلٌّ منهم كلَّ ما سمع، وأين ما سمعه الصديق والفاروق وغيرهما من كبار الصحابة إلى ما رووه؟ فلم يروِ عنه صدِّيق الأمة مائةَ حديث، وهو لم يغِبْ عن النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من مشاهده، بل صحبه من حين بُعِث بل قبل المبعث إلى أن توفي، وكان أعلم الأمة به صلى الله عليه وسلم وبقوله وفعله وهَدْيه وسيرته. وكذلك جِلَّة الصحابة روايتُهم قليلة جدًّا بالنسبة إلى ما سمعوه من نبيهم وشاهدوه، ولو رووا كلَّ ما سمعوه وشاهدوه لزاد على رواية أبي هريرة أضعافًا مضاعفًا

(2)

، فإنه إنما صحبه نحو أربع سنين، وقد روى عنه الكثير. فقول القائل «لو كان عند الصحابي في هذه الواقعة شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم لذكره» قولُ من لم يعرف سيرة القوم وأحوالهم، فإنهم كانوا يهابون الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

في المطبوع: «كحصول» خلاف النسخ.

(2)

كذا في النسخ. وفي المطبوع: «مضاعفة» .

ص: 622

ويعظِّمونها ويُقِلُّونها خوفَ الزيادة والنقص، ويحدِّثون بالشيء سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم مرارًا، ولا يصرِّحون بالسماع، ولا يقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فتلك الفتوى التي يفتي بها أحدهم لا تخرج

(1)

عن ستة أوجه:

أحدها: أن يكون سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم.

الثاني: أن يكون سمعها ممن سمعها منه.

الثالث: أن يكون فهِمَها من آية من كتاب الله فهمًا خفي علينا.

الرابع: أن يكون قد اتفق عليها مَلَؤهم، ولم يُنقل إلينا إلا قول المفتي بها وحده.

الخامس: أن يكون لكمال علمه باللغة ودلالة اللفظ على الوجه الذي انفرد به عنّا، أو لقرائنَ حالية اقترنتْ بالخطاب، أو لمجموع أمورٍ فهموها على طول الزمان: من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ومشاهدة أفعاله وأحواله وسيرته، وسماع كلامه، والعلم بمقاصده، وشهود تنزيل الوحي، ومشاهدة تأويله بالفعل، فيكون فَهِمَ ما لا نفهمه نحن. وعلى هذه التقادير الخمسة تكون فتواه حجة يجب اتباعها.

السادس: أن يكون فهِمَ ما لم يُرِدْه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخطأ في فهمه، والمراد غيرُ ما فهمه، وعلى هذا التقدير لا يكون قوله حجة. [183/ب] ومعلومٌ قطعًا أن وقوع احتمالٍ من خمسةٍ أغلبُ على الظن من وقوع احتمال واحد معين، هذا ما لا يشك فيه عاقل، وذلك يفيد ظنًّا غالبًا قويًّا على أن الصواب في قوله دون ما خالفه من أقوالِ مَن بعده، وليس المطلوب إلا الظن الغالب، والعمل به متعيِّن، ويكفي العارفَ هذا الوجهُ.

(1)

«تخرج» ساقطة من ك.

ص: 623

فصل

هذا فيما انفردوا به عنّا، وأما المدارك التي شاركناهم فيها من دلالات الألفاظ والأقيسة فلا ريبَ أنهم كانوا أبرَّ قلوبًا، وأعمقَ علمًا، وأقلَّ تكلُّفًا، وأقربَ إلى أن يوفَّقوا فيها لما لم نوفَّق له نحن؛ لِما خصَّهم الله به من توقُّد الأذهان، وفصاحة اللسان، وسعة العلم، وسهولة الأخذ، وحسن الإدراك وسرعته، وقلة المعارض أو عدمه، وحسن القصد، وتقوى الربّ؛ فالعربية طبيعتهم وسليقتهم، والمعاني الصحيحة مركوزة في فِطَرهم وعقولهم، ولا حاجةَ بهم إلى النظر في الإسناد وأحوال الرواة وعلل الحديث والجرح والتعديل، ولا إلى النظر في قواعد الأصول وأوضاع الأصوليين، بل قد أُغْنُوا

(1)

عن ذلك كله، فليس في حقهم إلا أمران: أحدهما: قال الله كذا، وقال رسوله كذا، والثاني: معناه كذا وكذا، وهم أسعدُ الناس بهاتين المقدّمتين، وأحظَى الأمةِ بها

(2)

، فقواهم متوفرة مجتمعة عليها

(3)

.

وأما المتأخرون فقُواهم متفرقة، وهِمَمُهم متشعبة، فالعربية وتوابعها قد أخذت من قُوى أذهانهم شعبةً، والأصول وقواعدها قد أخذت

(4)

منها شعبة، وعلم الإسناد وأحوال الرواة قد أخذ منها شعبة، وفكرهم في كلام مصنِّفيهم وشيوخهم على اختلافه

(5)

وما أرادوا به قد أخذ منها شعبة، إلى

(1)

كذا في النسخ وهو صواب. وفي المطبوع: «غنوا» .

(2)

كذا في النسخ، وفي المطبوع:«بهما» .

(3)

كذا في النسخ، وفي المطبوع:«عليهما» .

(4)

ز: «أخذ» .

(5)

كذا في النسخ، والضمير يرجع للكلام. وفي المطبوع:«اختلافهم» .

ص: 624

غير ذلك من الأمور، فإذا وصلوا إلى النصوص النبوية ــ إن كان لهم هِمَمٌ وتُسافر

(1)

إليها ــ وصلوا إليها بقلوب وأذهانٍ قد كلَّتْ من السير في غيرها، وأوهنَ قُواها مواصلةُ السُّرَى في سواها، فأدركوا من النصوص ومعانيها بحسب تلك القوة.

وهذا أمرٌ يحسُّ به الناظر في مسألة إذا استعمل قُوى ذهنه في غيرها، ثم صار إليها، وافاها بذهنٍ كالٍّ وقوةٍ ضعيفة، وهذا شأن من استفرغ قواه في الأعمال غير المشروعة تَضعُف قوتُه عند العمل المشروع، كمن استفرغ قوته في السماع الشيطاني، فإذا جاء قيام الليل قام إلى وِرْده بقوة كالَّةٍ وعزيمة باردة، وكذلك من صرفَ قوى حبِّه وإرادته إلى الصور أو المال أو الجاه، فإذا طالبَ قلْبَه بمحبة الله فإن انجذب

(2)

معه انجذب بقوة ضعيفة قد استفرغها في محبة غيره، فمن استفرغ قوى فكره في كلام الناس، فإذا جاء إلى كلام الله ورسوله جاء بفكرة كالَّةٍ، فأعطى بحسب ذلك.

والمقصود أن الصحابة أغناهم الله سبحانه عن ذلك كلِّه، فاجتمعت قواهم على تَينِكَ المقدمتين فقط، هذا إلى ما خُصُّوا به من قوى الأذهان وصفائها [184/أ] وصحتها، وسرعة إدراكها وكماله، وكثرة المعاون، وقلة المعاوق

(3)

، وقرب العهد بنور النبوة، والتلقّي من تلك المشكاة النبوية، فإذا كان هذا حالَنا وحالَهم فيما تميَّزوا به علينا وما شاركناهم فيه، فكيف نكون

(1)

الواو ليست في ك.

(2)

ك: «اتخذت» في الموضعين.

(3)

كذا في النسخ. ولم أجد الفعل «عاوقَ» في المعاجم، وإنما يُستعمل ثلاثيًّا (عاقَ) أو رباعيًّا (عوَّق)، واسم الفاعل منه: عائق ومعوِّق.

ص: 625

نحن أو شيوخنا أو شيوخهم أو من قلَّدناه أسعدَ بالصواب منهم في مسألة من المسائل؟ ومن حدَّث نفسَه بهذا فلْيُعْرِها

(1)

من العلم والدين، والله المستعان.

الوجه الرابع والأربعون: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق»

(2)

. وقال علي رضي الله عنه: لن تخلو الأرض من قائمٍ لله بحُججه لكي لا تَبطُلَ حجج الله وبيناته

(3)

. فلو جاز أن يخطئ الصحابي في حكم، ولا يكون في العصر ناطقٌ بالصواب في ذلك الحكم، لم يكن في الأمة قائم بالحق في ذلك الحكم؛ لأنهم بين ساكتٍ ومخطئ، ولم يكن في الأرض قائمٌ لله بحججه في ذلك الأمر، ولا من يأمر فيه بمعروف أو ينهى فيه عن منكر، حتى نبغتْ نابغةٌ فقامت بالحجة وأمرتْ بالمعروف ونهتْ عن المنكر، وهذا خلاف ما دلَّ عليه الكتاب والسنة والإجماع.

الوجه الخامس والأربعون: أنهم إذا قالوا قولًا أو بعضهم ثم خالفهم مخالف من غيرهم كان مبتدئًا لذلك القول ومبتدعًا له، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعدي، تمسَّكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإن كل بدعة ضلالة»

(4)

. وقولُ من جاء بعدهم يخالفهم من محدثات الأمور، فلا يجوز اتباعهم.

(1)

ك: «فليعزها» . والمعنى: فلينزعْ عنها العلم والدين.

(2)

رواه مسلم (1920) من حديث ثوبان. وروي عن غيره من الصحابة، انظر:«السلسلة الصحيحة» (270، 1108، 1956).

(3)

هذا جزء من وصيته لكُميل بن زياد، وقد تقدم تخريجه.

(4)

تقدم تخريجه.

ص: 626

وقال عبد الله بن مسعود: اتَّبعوا ولا تبتدعوا، فقد كُفِيتم، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة

(1)

.

وقال أيضًا: إنا نقتدي ولا نبتدي، ونتَّبع ولا نبتدع، ولن نَضِلَّ ما تمسَّكنا بالأثر

(2)

.

وقال أيضًا: إياكم والتبدُّع، وإياكم والتنطُّع، وإياكم والتعمُّق، وعليكم بالعتيق

(3)

.

وقال أيضًا: أنا لغير الدجّال أخوفُ عليكم من الدجّال، أمور تكون من كبرائكم، فأيُّما مُرَيَّةٍ أو رُجَيْلٍ أدرك ذلك الزمان فالسمت الأول، فالسمت الأول، فإنّا اليومَ على السنة

(4)

.

وقال أيضًا: إياكم والمحدثاتِ؛ فإن شرَّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة

(1)

رواه وكيع في «الزهد» (315) وأحمد في «الزهد» (162) والدارمي (211) وأبو خيثمة في «العلم» (54)، وإسناده صحيح، صححه الألباني.

(2)

رواه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 381) واللالكائي في «السنة» (105، 106) من طريقين يقوّي أحدهما الآخر.

(3)

رواه عبد الرزاق (20465) والدارمي (145) والطبراني (8845) والبيهقي في «المدخل» (387) من طريق أبي قلابة عن ابن مسعود، وهو منقطع بين أبي قلابة وابن مسعود، وله شاهد موصول عند البيهقي في «المدخل» (388)، وإسناده صحيح.

(4)

رواه ابن أبي شيبة (37159) والدارمي (219) من طريق واصل، عن امرأة يقال لها: عائذة، وعائذة مجهولة، ولكن صح عنه بلفظ:«إنكم اليوم على الفطرة، وإنكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالهدي الأول» ، أخرجه المروزي في «السنة» (80) وغيره بإسناد صحيح.

ص: 627

ضلالة

(1)

.

وقال أيضًا: اتَّبعْ ولا تبتدعْ، فإنك لن تَضِلَّ ما أخذتَ بالأثر

(2)

.

وقال ابن عباس: كان يقال: عليك بالاستقامة والأثر، وإيّاك والتبدُّع

(3)

.

وقال شُريح: إنما أَقتفي الأثر، فما وجدتُ قد سبقَنا إليه غيرُكم حدَّثتُكم به

(4)

.

وقال إبراهيم النخعي: لو بلغني عنهم ــ يعني الصحابة ــ أنهم لم يجاوزوا بالوضوء ظُفْرًا ما جاوزتُه به، وكفى على قومٍ وزْرًا أن تخالف أعمالُهم أعمالَ أصحاب نبيهم

(5)

.

وقال عمر بن عبد العزيز: إنه لم يبتدع الناسُ بدعةً إلا وقد مضى فيها ما هو دليل وعبرةٌ منها، والسنة ما استنَّها إلا من عَلِم ما في خلافها من الخطأ

(1)

رواه البخاري (7277) الفقرة الثانية منه موقوفًا. ورواه مطولًا عبد الرزاق (20076، 20198) والبزار (2051، 2055، 2056) والطبراني (8518، 8521، 8523) وغيرهم.

(2)

لم أجده بهذا اللفظ عنه، وتقدم ما يقاربه. وأخرجه الدارمي (204) عن شُريح بهذا اللفظ.

(3)

رواه الدارمي (141) وابن وضاح في «البدع» (61) والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 173) من طريق زمعة بن صالح عن عثمان بن حاضر الأزدي، وزمعة ضعيف، وله شاهد من طريق أبي حذيفة عن سفيان عند المروزي في «السنة» (83)، وأبو حذيفة ضعيف أيضًا. ويقوي أحدهما الآخر.

(4)

رواه ابن عبد البر في «الجامع» (1455)، وإسناده صحيح.

(5)

رواه الدارمي (224) بنحوه. وفيه «إزراءً» بدل «وزرًا» .

ص: 628

والزلل والحُمْق والتعمُّق، فارضَ لنفسك ما رضي القوم

(1)

.

وقال أيضًا: قِفْ حيثُ وقف القوم، وقُلْ [184/ب] كما قالوا، واسكتْ عما

(2)

سكتوا؛ فإنهم عن علمٍ وَقَفوا، وببصرٍ نافذٍ

(3)

كَفُّوا، وهم على كشفِها كانوا أقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى، فلئن كان الهدى ما أنتم عليه فلقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم حدثَ بعدهم فما أحدثه إلا من سلكَ غيرَ سبيلهم ورغِبَ بنفسه عنهم، وإنهم لهم السابقون، ولقد تكلَّموا منه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فما دونهم مَقْصَر، ولا فوقهم مَحْسَر، ولقد قصَّر عنهم قوم فجَفَوا، وطمحَ آخرون عنهم فغَلَوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم

(4)

.

وقال أيضًا كلامًا كان مالك بن أنس وغيره من الأئمة يستحسنونه ويحدِّثون به دائمًا، قال: سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ووُلاةُ الأمر بعده سُننًا الأخذُ بها تصديقٌ لكتاب الله، واستكمالٌ لطاعته، وقوةٌ على دينه، ليس لأحدٍ تغييرُها ولا تبديلُها ولا النظر في رأيِ من خالفها، فمن اقتدى بما سنُّوا اهتدى، ومن استنصر بها منصورٌ، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولَّاه الله ما تولَّى وأَصْلاه جهنَّمَ وساءتْ مصيرًا

(5)

.

(1)

رواه أحمد في «الزهد» (1709) وأبو داود (4612) وابن وضاح في «البدع» (74) والفريابي في «القدر» (446)، وإسناده صحيح.

(2)

ك: «كما» . والمثبت من ز موافق لما في «تنبيه الرجل» .

(3)

في المطبوع: «ناقد» ، تصحيف.

(4)

هو تتمة الأثر السابق، وهو كما هنا في «تنبيه الرجل» (ص 549).

(5)

رواه عبد الله بن أحمد في «السنة» (766) والآجري في «الشريعة» (92، 139، 698) وابن بطة في «الإبانة» (230، 231) واللالكائي (134) وغيرهم.

ص: 629

ومن هنا أخذ الشافعي الاحتجاجَ بهذه الآية على أن الإجماع حجة

(1)

.

وقال الشعبي: عليكَ بآثارِ مَن سلفَ وإن رفضَك الناس، وإيَّاك وآراءَ الرجال وإن زَخْرفوها لك بالقول

(2)

.

وقال أيضًا: ما حدَّثوك به عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فخُذْه، وما حدَّثوك به عن رأيهم

(3)

فانبِذْه في الحُشِّ

(4)

.

قال الأوزاعي: اصبِرْ نفسَك على السنة، وقِفْ حيث وقفَ القوم، واسلُكْ سبيلَ سلَفِك الصالح، فإنه يَسَعُك ما وسِعَهم، وقُلْ بما قالوا، وكُفَّ عما كَفُّوا، ولو كان هذا خيرًا ما خُصِصْتم به دون أسلافكم؛ فإنهم لم يُدَّخَرْ عنهم خيرٌ خُبِئ لكم دونهم لفضلٍ عندكم، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اختارهم له وبعثَه فيهم، ووصفهم فقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ

} الآية [الفتح: 29]

(5)

.

(1)

كما في «أحكام القرآن» للشافعي (1/ 39، 40) و «قواطع الأدلة» (3/ 202).

(2)

رواه الآجري في «الشريعة» (127) والهروي في ذم الكلام (120) وابن عبد البر في «الجامع» (2077)، عن الأوزاعي، ولم أجده عن الشعبي إلا في «تنبيه الرجل» (ص 550).

(3)

ك، ب:«رأي» .

(4)

رواه عبد الرزاق (20476) وأبو نعيم (4/ 319) وابن عبد البر في «الجامع» (1438).

(5)

رواه الآجري في «الشريعة» (294) واللالكائي (315) والخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (ص 7) وغيرهم.

ص: 630

الوجه السادس والأربعون: أنه لم يزلْ أهل العلم في كل عصر ومصر يحتجون بما هذا سبيله من فتاوى الصحابة وأقوالهم، ولا ينكره منكِرٌ، وتصانيف العلماء شاهدة بذلك، ومناظراتهم ناطقةٌ به.

قال بعض علماء المالكية: أهل الأعصار مجمعون على الاحتجاج بما هذا سبيله، وذلك مشهور في رواياتهم وكتبهم ومناظراتهم واستدلالاتهم، ويمتنع ــ والحالة هذه ــ إطباقُ هؤلاء كلهم على الاحتجاج بما لم يشرع الله ورسوله الاحتجاجَ به ولا نَصَبَه دليلًا للأمة، فأيّ كتابٍ شئتَ من كتب السلف والخلف المتضمنة للحكم والدليل وجدتَ فيه الاستدلال بأقوال الصحابة، ووجدتَ ذلك طِرازَها وزينتَها، ولم تجد فيها قطُّ ليس قول أبي بكر وعمر حجةً، ولا يُحتَجُّ بأقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتاويهم، ولا ما يدلُّ على ذلك.

وكيف يَطِيب قلبُ عالمٍ يُقدِّم على أقوال من وافقَ ربَّه تعالى في غير حكمٍ، فقال وأفتى بحضرة الرسول، ونزل القرآن بموافقة ما قال لفظًا ومعنى= قولَ متأخرٍ بعده ليس له هذه الرتبة ولا يُدانِيها؟ وكيف يظنُّ أحد أن الظنَّ [185/أ] المستفاد من آراء المتأخرين أرجحُ من الظنِّ المستفاد من فتاوى السابقين الأولين، الذين شاهدوا الوحي والتنزيل، وعرفوا التأويل، وكان الوحي ينزل خلال بيوتهم، وينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرهم؟ قال جابر:«والقرآن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعرف تأويلَه، فما عَمِلَ به من شيء عَمِلنا به» في حديث حجة الوداع

(1)

. فمستندُهم في معرفة مراد الربّ تعالى من كلامه ما يشاهدونه من فعلِ رسوله وهَدْيه الذي

(1)

رواه مسلم (1218) ضمن حديث جابر الطويل.

ص: 631

هو يفصِّل القرآن ويفسِّره، فكيف يكون أحد من الأمة بعدَهم أولى بالصواب منهم في شيء من الأشياء؟ هذا عينُ المحال.

فإن قيل: فإذا كان هذا حكْمَ أقوالهم في أحكام الحوادث، فما تقولون في أقوالهم في تفسير القرآن؟ هل هي حجة يجب المصيرُ إليها؟

قيل: لا ريبَ أن أقوالهم في التفسير أصوبُ من أقوال مَن بعدهم، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن تفسيرهم في حكم المرفوع، قال أبو عبد الله الحاكم في «مستدركه»

(1)

: وتفسير الصحابي عندنا في حكم المرفوع. ومراده أنه في حكمه في الاستدلال به والاحتجاج، لا أنه إذا قال الصحابي في الآية قولًا فلنا أن نقول لذلك القول: هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وله وجه آخر، وهو أن يكون في حكم المرفوع بمعنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيَّن لهم معانيَ القرآن وفسَّره لهم، كما وصفه الله سبحانه بقوله:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] ، فبيَّن لهم القرآن بيانًا شافيًا كافيًا. وكان إذا أشكل على أحدٍ منهم معنًى سأله عنه فأوضحه له، كما سأله الصدِّيق عن قوله تعالى:{مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] فبيَّن له المراد

(2)

، وكما

(1)

كذا نقله المؤلف في «إغاثة اللهفان» (1/ 425) و «حادي الأرواح» (2/ 679) و «تحفة المودود» (ص 21). والذي في «المستدرك» (2/ 258): «ليعلم طالب هذا العلم أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عند الشيخين حديثٌ مسند» . وانظر: «معرفة علوم الحديث» للحاكم (ص 59).

(2)

تقدم تخريجه.

ص: 632

سأله الصحابة عن قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] فبيَّن لهم معناها

(1)

، وكما سألتْه أمُّ سلمة عن قوله تعالى:{فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8] فبيَّن لها أنه العرض

(2)

، وكما سأله عمر عن الكلالة فأحاله على آية الصيف التي في آخر

(3)

السورة

(4)

، وهذا كثير جدًّا. فإذا نقلوا لنا تفسير القرآن فتارةً ينقلونه عنه بلفظه، وتارةً بمعناه، فيكون ما فسَّروهُ بألفاظهم من باب الرواية بالمعنى، كما يروون عنه السنة تارةً بلفظها، وتارةً بمعناها. وهذا أحسنُ الوجهين، والله أعلم.

فإن قيل: فنحن نجد لبعضهم أقوالًا في التفسير تُخالف الأحاديثَ المرفوعة الصحاح، وهذا كثير، كما فسَّر ابن مسعود الدخانَ بأنه الأثر الذي حصل عن الجوع الشديد والقحط

(5)

، وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخانٌ يأتي قبلَ يوم القيامة يكون من أشراط الساعة مع الدابَّة والدجّال وطلوع الشمس من مغربها

(6)

.

(1)

تقدم.

(2)

الذي في «الصحيحين» أن التي سألت هي عائشة لا أم سلمة، انظر: البخاري (103) ومسلم (2876).

(3)

ك، ب:«أول» ، خطأ.

(4)

رواه مسلم (1617).

(5)

رواه البخاري (4774) ومسلم (2798).

(6)

ورد في هذا الباب عدة أحاديث، منها حديث حذيفة بن أسيد الذي رواه مسلم (2901).

ص: 633

وفسَّر عمر بن الخطاب قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] بأنها للبائنة والرجعية، حتى قال: لا نَدَعُ كتابَ ربِّنا لقول امرأة

(1)

، مع أن السنة الصحيحة في البائن تخالف هذا التفسير

(2)

.

وفسَّر علي بن أبي طالب قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ [185/ب] أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] أنها عامَّة في الحامل والحائل

(3)

، فقال: تعتدُّ أبعدَ الأجلين

(4)

. والسنة الصحيحة بخلافه

(5)

.

وفسَّر ابن مسعود قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] بأن الصفة لنسائكم الأولى والثانية؛ فلا تحرُمُ أمُّ المرأة حتى يدخل بها

(6)

. والصحيح خلاف قوله، وأن أمَّ المرأة تحرم بمجرد العقد على ابنتها، والصفة راجعة إلى قوله:{وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} ، وهو قول جمهور الصحابة

(7)

.

(1)

كما رواه مسلم (1480/ 46).

(2)

كما في حديث فاطمة بنت قيس الذي رواه مسلم (1480/ 36).

(3)

أي المرأة التي لا تحمل.

(4)

رواه عبد الرزاق (11714)، وسعيد بن منصور (1516)، وابن أبي شيبة (17386) من طرق عن علي.

(5)

كما في حديث سُبيعة الأسلمية الذي رواه البخاري (5319) ومسلم (1484).

(6)

تقدم.

(7)

انظر: «تفسير الطبري» (6/ 556).

ص: 634

وفسَّر ابن عباس السِّجِلَّ بأنه كاتب النبي صلى الله عليه وسلم يسمى السِّجِلّ

(1)

. وذلك وهم، وإنما السجلُّ الصحيفة المكتوبة، واللام مثلها في قوله تعالى:{وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103]، وفي قول الشاعر:

فخرَّ صريعًا لليدينِ وللفمِ

(2)

أي يَطوي السماءَ كما يُطوَى السجلُّ على ما فيه من الكتاب.

وهذا كثيرٌ جدًّا، فكيف يكون تفسير الصحابي حجةً في حكم المرفوع؟

قيل: الكلام في تفسيره كالكلام في فتواه سواء، وصورة المسألة هنا كصورتها هناك سواء بسواء، وصورتها أن لا يكون في المسألة نصٌّ يخالفه، ويقول في الآية قولًا لا يخالفه فيه أحد من الصحابة، سواء عُلِم اشتهارُه أو لم يُعلم، وما ذُكِر من هذه الأمثلة قد فُقِد فيه الأمران، وهو نظير ما رُوي عن بعضهم من الفتاوى التي تخالف النص وهم

(3)

مختلفون فيها سواء.

فإن قيل: لو كان قوله حجةً بنفسه لما أخطأ، ولكان معصومًا؛ لتقوم

(1)

رواه أبو داود (2935) والنسائي في «الكبرى (10/ 187) والطبراني (12/ 170)، والبيهقي (10/ 126). وضعفه ابن جرير (17/ 110) وابن تيمية في «الرد على السبكي» (1/ 268، 269)، ونقل ذلك عنه المصنف في «تهذيب السنن» (2/ 325) وابن كثير في «البداية والنهاية» (8/ 340). وأغرب ابن حجر فصححه في «الإصابة» (4/ 225).

(2)

هذا شطر بيت لجابر بن حُنَي التغلبي في «المفضليات» (ص 212) وبيت آخر لحرب بن مسعر في «الأشباه والنظائر» للخالديين (1/ 6)، وبيت آخر اختُلف في قائله، انظر:«فصل المقال» لأبي عبيد البكري (ص 313).

(3)

ك، ب:«أوهم» .

ص: 635

الحجة بقوله، فإذا كان يفتي بالصواب تارةً وبغيره أخرى، وكذلك تفسيره، فمن أين لكم أن هذه الفتوى المعيّنة والتفسير المعيّن من قسم الصواب؟ إذ صورة المسألة أنه لم يَقُم على المسألة دليل غير قوله، وقوله منقسم، فما الدليل على أن هذا القول المعيَّن من أحد القسمين ولا بدَّ؟

قيل: الأدلة المتقدمة تدلُّ على انحصار الصواب في قوله في الصورة المفروضة الواقعة، وهو أنه من الممتنع أن يقولوا في كتاب الله الخطأ المحض ويُمسِك الباقون عن الصواب فلا يتكلَّمون به، وهذه الصورة المذكورة وأمثالها قد تكلَّم فيها غيرهم بالصواب، والمحذور

(1)

إنما هو خلوُّ عصرِهم عن ناطقٍ بالصواب واشتمالُه على ناطقٍ بغيرِه فقط؛ فهذا هو المحال. وبهذا خرج الجواب عن قولكم: لو كان قول الواحد منهم حجةً لما جاز عليه الخطأ، فإن قوله لم يكن بمجرده حجة، بل بما انضاف إليه مما تقدَّم ذكرُه من القرائن.

فإن قيل: فبعض ما ذكرتم من الأدلّة يقتضي أن التابعي إذا قال قولًا ولم يخالفه صحابي ولا تابعي أن يكون قوله حجة.

فالجواب: أن التابعين انتشروا انتشارًا لا ينضبط لكثرتهم، وانتشرت المسائل في عصرهم؛ فلا يكاد يغلب على الظنِّ عدمُ المخالف لما أفتى به الواحد منهم، فإن فُرِض ذلك فقد اختلف السلف في ذلك:

فمنهم من يقول: يجب اتباع التابعي فيما أفتى به ولم يخالفه فيه صحابي ولا تابعي، وهذا قول بعض الحنابلة والشافعية. وقد صرَّح الشافعي

(1)

كذا في النسخ. وفي المطبوع: «والمحظور» .

ص: 636

في موضع

(1)

بأنه قاله تقليدًا لعطاء. وهذا من كمال علمه وفقهه رضي الله عنه، فإنه لم يجد في المسألة غير قول عطاء، فكان قوله عنده أقوى ما وُجِد في المسألة. وقال في موضع آخر

(2)

: وهذا يخرج على معنى قول عطاء.

والأكثرون يفرِّقون بين الصحابي والتابعي، ولا يخفى ما بينهما من الفروق. على أن في الاحتجاج بتفسير التابعي عن الإمام أحمد روايتين، ومن تأمل كتب الأئمة ومن بعدهم وجدها مشحونة بالاحتجاج بتفسير التابعي.

فإن قيل: فما تقولون في قوله إذا خالف القياس؟

قيل: من يقول بأن قوله ليس بحجة فلهم قولان فيما إذا خالف القياس:

أحدهما: أنه أولى أن لا يكون حجة؛ لأنه قد خالف حجة شرعية، وهو ليس بحجة في نفسه.

والثاني: أنه حجة في هذه الحال، ويُحمَل على أنه قاله توقيفًا، ويكون بمنزلة المرسَل الذي عمِلَ به مُرسِلُه.

وأما من يقول إنه حجة فلهم أيضًا قولان:

أحدهما: أنه حجة وإن خالف القياس، بل هو مقدَّم على القياس، والنصُّ مقدَّم عليه، فتُرتَّب الأدلة عندهم: القرآن، ثم السنة، ثم قول الصحابة، ثم القياس.

(1)

انظر: «الأم» (3/ 348، 384، 425، 468، 473) بمعناه، وليس فيها لفظ التقليد.

(2)

المصدر نفسه (3/ 658، 659).

ص: 637

والثاني: ليس بحجة؛ لأنه قد خالفه دليل شرعي، وهو القياس؛ فإنه لا يكون حجةً إلا عند عدم المعارض.

والأولون يقولون: قول الصحابي أقوى من المعارض الذي خالفه من القياس؛ لوجوه عديدة، والأخذُ بأقوى الدليلين متعيِّن، وبالله التوفيق.

* * * *

ص: 638