الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المثال السابع: لا تصح
إجارة الأرض المشغولة بالزرع
، فإن أراد ذلك فله حيلتان جائزتان، إحداهما: أن يبيعه الزرعَ ثم يُؤجِره الأرضَ، فتكون الأرض مشغولة بملك المستأجر، فلا يقدح في صحة الإجارة. فإن لم يتمكّن من هذه الحيلة لكون الزرع لم يشتدَّ أو كان زرعًا للغير انتقل إلى الحيلة الثانية، وهي أن يُؤجِره إياها لمدة تكون بعد أخذ الزرع، ويصح هذا بناء على صحة الإجارة المضافة.
المثال الثامن: لا تصح إجارة الأرض على أن يقوم المستأجر بالخراج مع الأجرة، أو يكون قيامه به هو أجرتها، ذكره القاضي؛ لأن الخراج مُؤنةٌ تَلزم المالكَ بسبب تمكُّنه من الانتفاع؛ فلا يجوز نقله إلى المستأجر.
والحيلة في جوازه أن يسمِّي مقدار الخراج، ويضيفه إلى الأجرة
(1)
ــ قلت: ولا يمتنع أن يُؤجِره الأرضَ بما عليها من الخراج إذا كان مقدَّرًا معلومًا لا جهالة فيه ــ فيقول: آجرتُكَها بخراجها تقوم به عنّي، فلا محذورَ في ذلك، ولا جهالةَ، ولا غررَ
(2)
، وأيُّ فرقٍ بين أن يقول آجرتُك كل سنة بمائة أو بالمائة [114/ب] التي عليها كل سنة خراجًا؟
فإن قيل: الأجرة تُدفع إلى المُؤجِر والخراج إلى السلطان.
قيل: بل تُدفع الأجرة إلى المُؤجِر أو إلى من أذن له بالدفع إليه، فيصير وكيله في الدفع.
المثال التاسع: لا يصح أن يستأجر الدابة بعَلَفها؛ لأنه مجهول. والحيلة
(1)
ك: «الآخر» ، تصحيف.
(2)
ك: «ولا غرور» .
في جوازه أن يسمِّي ما يعلم أنها تحتاج إليه من العلف فيجعله أجرة، ثم يوكّله
(1)
في إنفاق ذلك عليها.
وهذه الحيلة غير محتاج إليها على أصلنا؛ فإنا نجوِّز أن يستأجر الظِّئر بطعامها وكسوتها والأجير بطعامه وكسوته، فكذلك إجارة الدابة بعلفها وسَقْيها.
فإن قيل: عَلَف الدابة على مالكها، فإذا شرطه على المستأجر فقد شرط ما ينافي مقتضى العقد، فأشبهَ ما لو شرط في عقد النكاح أن تكون نفقة الزوجة على نفسها.
قيل: هذا من أفسد القياس؛ لأن العلف قد جُعل في مقابلة الانتفاع، فهو نفسه أجرة مغتفرة جهالتها اليسيرة للحاجة، بل الحاجة إلى ذلك أعظم من حاجة استئجار الأجير بطعامه وكسوته؛ إذ يمكن الأجيرَ أن يشتري له بالأجرة ذلك، فأما الدابة فإن كُلِّف ربّها أن يصحبها ليعلفها شقَّ عليه ذلك، فتدعو الحاجة إلى قيام المستأجر عليها، ولا يُظنّ به تفريطُه في علفها لحاجته إلى ظهرها، فهو يعلفها لحاجته وإن لم يمكنها مخاصمته.
المثال العاشر: إذا أراد أن يستأجر دارًا أو حانوتًا، ولا يدري مدة مقامه، فإن استأجره سنة فقد يحتاج إلى التحوُّل قبلها.
فالحيلة أن يستأجر كلَّ شهر بكذا وكذا، فتصح الإجارة وتلزم في الشهر الأول، وتصير جائزة فيما بعده من الشهور، فلكل واحد منهما الفسخُ عقيبَ كل شهر إلى تمام يوم. وهذا قول أبي حنيفة. وقال الشافعي: الإجارة فاسدة،
(1)
ك: «يوكل» .
وعن أحمد نحوه. والصحيح الأول.
فإذا خاف المستأجر أن يتحوّل قبل تمام الشهر الثاني فتلزمه أجرته، فالحيلة أن يستأجرها كلَّ أسبوع بكذا، فإن خاف التحوّل قبل الأسبوع استأجرها كل يوم بكذا، ويصح، ويكون حكم اليوم كحكم الشهر.
المثال الحادي عشر: لو وكلَّه أن يشتري له جارية معينة، فلما رآها الوكيل أعجبته وأراد شراءها لنفسه من غير إثم يدخل عليه ولا غدرٍ بالموكِّل= جاز ذلك؛ لأن شراءه إياها لنفسه عزلٌ لنفسه وإخراج لها من الوكالة، والوكيل يملك عزل نفسه في حضور الموكل وغيبته، وإذا عزل نفسه واشترى الجارية لنفسه بماله ملكها، وليس في ذلك بيعٌ على بيع أخيه ولا شِرًى على شِرى أخيه، إلا أن يكون سيدها قد ركنَ إلى الموكِّل وعزم على إمضاء البيع له؛ فيكون شِرى الوكيل لنفسه حينئذٍ حرامًا؛ لأنه شِرًى على شِرى أخيه.
ولا يقال: «العقد لم يتم والشِّرى على شرائه هو أن يطلب من البائع فسخ العقد في مدة الخيار ويعقد معه هو» لعدة أوجهٍ:
أحدها: أن هذا حملٌ
(1)
للحديث على الصورة النادرة، والأكثر خلافها.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم[115/أ] قرنَ ذلك بخِطبته على خِطبة أخيه، وذلك إنما يكون قبل عقد النكاح.
(1)
ز: «أجمل» ، تحريف.
الثالث: أنه نهي أن يسوم على سَوْمِ أخيه
(1)
، وذلك أيضًا قبل العقد.
الرابع: أن المعنى الذي حرَّم الشارع لأجله ذلك لا يختص بحالة الخيار، بل هو قائم بعد الركون والتراضي وإن لم يعقداه كما هو قائم بعد العقد.
الخامس: أن هذا تخصيص لعموم الحديث بلا موجب، فيكون فاسدًا، فإن شراءه على شراء أخيه متناول لحال الشِّرى وما بعده، والذي غَرَّ من خصَّه بحالة الخيار ظنُّه أن هذا اللفظ إنما يصدُق على من اشترى بعد شراء أخيه، وليس كذلك، بل اللفظ صادق على القسمين.
السادس: أنه لو اختص اللفظ بما بعد الشِّرى لوجب تعديته بتعدية علته
(2)
إلى حالة السَّوم.
وأما على أصل أبي حنيفة فلا يتأتَّى ذلك؛ لأن الوكيل لا يملك عزْلَ نفسه في غيبة الموكِّل، فلو اشتراها لنفسه لكان عزلًا لنفسه في غيبة
(3)
موكله، وهو لا يملكه.
قالوا: فالحيلة في شرائها لنفسه أن يشتريها بغير جنس الثمن الذي وكّل أن يشتري به، وحينئذٍ فيملكها؛ لأن هذا العقد غير الذي وكّل فيه، فهو بمنزلة ما لو وكّله في شراءِ شاةٍ فاشترى فرسًا؛ فإن العقد يكون للوكيل دون الموكِّل؛ فإن أراد الموكل الاحتراز من هذه الحيلة وأن لا يمكِّن الوكيلَ من
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
ك: «عليه» ، تصحيف.
(3)
«الموكل
…
في غيبة» ساقطة من ك.
شِراها لنفسه فليشهد عليه أنه متى اشتراها لنفسه فهي حرة؛ فإن وكَّل الوكيل من يشتريها له انبنى ذلك على أصلين: أحدهما: أن الوكيل هل له أن يوكِّل أم لا؟ والثاني: أن من حلف لا يفعل شيئًا؛ فوكَّل في فعله هل يحنث أم لا؟ وفي الأصلين نزاع معروف.
فإن وكَّله رجل في بيع جارية ووكّله آخر في شِراها، وأراد هو شِراها لنفسه فالحكم على ما تقدم، غير أن هاهنا أصلًا آخر، وهو أن الوكيل في بيع الشيء هل يملك بيعه نفسَه؟ فيه روايتان عن الإمام أحمد؛ إحداهما: لا يملك ذلك سدًّا للذريعة؛ لأنه لا يستقصي في الثمن، والثانية: يجوز إذا زاد على ثمنها في النداء لتزول التهمة؛ فعلى هذه الرواية يفعل ذلك من غير حاجة إلى حيلة، والثانية لا يجوز. فعلَى
(1)
هذا هل له التحيُّل على ذلك؟ فقيل: له أن يتحيلَ عليه بأن يدفع إلى غيره دراهم ويقول له: اشترِها لنفسك، ثم يتملكها منه. والذي تقتضيه قواعد المذهب أن هذا لا يجوز؛ لأنه تحيلٌ على التوصل إلى فعل محرم، ولأن ذلك ذريعة إلى عدم استقصائه واحتياطه في البيع، بل يسامح في ذلك لعلمه أنها تصير إليه، وأنه هو الذي يزِن الثمن، ولأنه يعرِّض نفسه للتهمة، ولأن الناس يرون ذلك نوعَ غدرٍ ومكر؛ فمحاسن الشريعة تأبى الجواز.
فإن قيل: فلو وكّله أحدهما في بيعها والآخر في شرائها ولم يُرِد أن يشتريها لنفسه؛ فهل يجوز ذلك؟
قيل: هذا ينبني على شراء الوكيل في البيع لنفسه؛ فإن أجزناه هناك جاز
(1)
ك: «فعل» .
هاهنا بطريق الأولى، وإن منعناه هناك، فقال القاضي: لا يجوز أيضًا [115/ب] هاهنا لتضادِّ الغرضين؛ لأن وكيل البيع يستقصي في زيادة الثمن، ووكيل الشِّرى يستقصي في نقصانه؛ فيتضادّان. ولم يذكر غير ذلك. ويتخرَّج الجواز ــ وإن منعنا الوكيلَ من الشراء لنفسه ــ من نصِّ أحمد على جواز كون الوكيل في النكاح وكيلًا من الطرفين، وكونِه أيضًا وليًّا من الطرفين، وأنه يلي بذلك على
(1)
إيجابِ العقد وقبوله، ولا ريبَ أن التهمة التي تلحقه
(2)
في الشراء لنفسه أظهرُ من التهمة التي تلحقه في الشراء لموكِّله.
والحيلة الصحيحة في ذلك كله أن يبيعها بيعًا بتاتًا ظاهرًا لأجنبي يثق به، ثم يشتريها منه شراء مستقلًّا؛ فهذا لا بأس به، والله أعلم.
المثال الثاني عشر: إذا قال الرجل لامرأته: «الطلاق يلزمني لا تقولين لي شيئًا إلا قلتُ لكِ مثله» ، فقالت له:«أنتِ طالق ثلاثًا» .
فالحيلة في التخلُّص من أن يقول لها مثل ذلك أن يقول: قلتِ لي: أنتِ طالقٌ ثلاثًا. قاله أصحاب الشافعي.
وفي هذه الحيلة نظر لا يخفى؛ لأنه لم يقل لها مثل ما قالت له، وإنما حكى كلامها من غير أن يقول لها نظيره. ولو أن رجلًا سبَّ رجلًا فقال له المسبوب:«أنت قلت لي كذا وكذا» لم يكن قد ردَّ عليه عند أحد لغةً ولا عرفًا؛ فهذه الحيلة ليست بشيء.
وقالت طائفة أخرى: الحيلة أن يقول لها: «أنتَ طالق ثلاثا» ــ بفتح
(1)
«على» ليست في ز.
(2)
ك: «تحلقه» ، تحريف هنا وفيما يأتي.
التاء ــ فلا تطلَّق. وهذا نظير ما قالت له سواء
(1)
.
وهذه وإن كانت أقربَ من الأولى؛ فإن المفهوم المتعارف لغةً وعقلًا وعرفًا
(2)
من الردّ على المرأة أن يخاطبها خطابَ المؤنث، فإذا خاطبها خطابَ المذكر لم يكن ذلك ردًّا ولا جوابًا، ولو فُرِض
(3)
أنه ردٌّ لم يمنع وقوع الطلاق بالمواجهة وإن فتح التاء، كأنه قال: أيها
(4)
الشخص أو الإنسان.
وقالت طائفة أخرى: الحيلة في ذلك أن يقول: «أنتِ طالق ثلاثًا إن شاء الله» ، أو «إن كلَّمتِ السلطان» ، أو «إن سافرتِ» ، ونحو ذلك؛ فيكون قد قال لها نظير ما قالت، ولا يضره زيادة الشرط.
وهذه الحيلة أقرب من التي قبلها، ولكن في كون المتكلم بها رادًّا أو مجيبًا نظرٌ لا يخفى؛ لأن الشرط وإن تضمَّنَ زيادة في الكلام لكنه يُخرجه عن كونه نظيرًا لكلامها ومثلًا له، وهو إنما حلف أن يقول لها مثل ما قالت، والجملة الشرطية ليست مثل الجملة الخبرية، بل الشرط يدخل على الكلام التام فيصيِّره ناقصًا يحتاج إلى الجواب، ويدخل على الخبر فيقلبه إنشاء، ويغيِّر صورة الجملة الخبرية ومعناها، ولو قال رجل لغيره:«لعنك الله» ، فقال له:«لعنك الله إن بدَّلتَ دينك أو ارتددتَ عن الإسلام» لم يكن سابًّا له. ولو قال له: «يا زان» فقال: «بل أنت زانٍ إن وطئتَ فرجًا حرامًا» لم يكن
(1)
ك: «قالتا سواء» .
(2)
ك: «وفرعا» ، تحريف.
(3)
ك: «فرض له» .
(4)
في النسختين: «أيتها» . والمثبت من النسخ المطبوعة.
الثاني قاذفًا له. ولو بذلتْ له مالًا على أن يطلقها، فقال:«أنتِ طالق إن كلَّمتِ السلطان» ، لم يستحق المال، ولم يكن مطلّقًا.
وقالت طائفة أخرى: لا حاجة إلى شيء من ذلك، والحالف لم يُدخِل هذه الصورة في عموم كلامه، وإن دخلت فهي من المخصوص بالعرف والعادة والعقل؛ فإنه لم يُرد هذه الصورة قطعًا، ولا خطرتْ بباله، ولا تناولها لفظه؛ فإنه إنما تناول [116/أ] لفظُه القولَ الذي يصح أن يقال له، وقولها:«أنت طالق ثلاثًا» ليس من القول الذي يصح أن يواجه به؛ فهو لغو محض وباطل، وهو بمنزلة قولها:«أنت امرأتي» وبمنزلة قول الأمة لسيدها: «أنتِ أمتي وجاريتي» ونحو هذا من الكلام اللغو الذي لم يدخل تحت لفظ الحالف ولا إرادته، أما عدم دخوله تحت إرادته فلا إشكال فيه، وأما عدم تناول لفظه له فإن اللفظ العام إنما يكون عامًّا فيما يصلح له وفيما سِيق لأجله.
وهذا أقوى من جميع ما تقدم، وغايته تخصيص العام بالعرف والعادة، وهذا أقرب لغةً وعقلًا وشرعًا من جعْلِ ما تقدم مطابقًا ومماثلًا لكلامها، فتأملْه، والله الموفق.
المثال الثالث عشر: إذا خاف الرجل لضيق الوقت أن يحرم بالحج فيفوته فيلزمه القضاء ودم الفوات؛ فالحيلة أن يُحرِم إحرامًا مطلقًا ولا يعينه؛ فإن اتسع له
(1)
الوقت جعله حجًّا أو قِرانًا أو تمتعًا، وإن ضاق عليه الوقت جعله عمرة، ولا يلزمه غيرها.
المثال الرابع عشر: إذا جاوز الميقاتَ غيرَ محرم لزمه الإحرام ودم لمجاوزته للميقات غير محرم. والحيلة في سقوط الدم عنه أن لا يحرم من
(1)
«له» ليست في ز.
موضعه، بل يرجع إلى الميقات فيحرم منه؛ فإن أحرم من موضعه لزمه الدم، ولا يسقط برجوعه إلى الميقات.
المثال الخامس عشر: إذا سُرق له متاع، فقال لامرأته: إن لم تخبريني من أخذه فأنتِ طالق ثلاثًا، والمرأة لا تعلم من أخذه. فالحيلة في التخلُّص من هذه اليمين أن تذكر الأشخاص التي لا يخرج المأخوذ عنهم، ثم تُفرِد كل واحد واحد، وتقول: هو أخذه؛ فإنها تكون مخبرةً عن الآخذ وعن غيره فيَبرُّ في يمينه ولا تطلَّق.
المثال السادس عشر: إذا ادَّعت المرأة النفقة والكسوة لمدة ماضية، فقد اختُلِف
(1)
في قبول دعواها، فمالك وأبو حنيفة لا يقبلان
(2)
دعواها، ثم اختلفا في مأخذ الرد؛ فأبو حنيفة يُسقطها بمضيِّ الزمان، كما يقوله منازعوه في نفقة القريب، ومالك لا يسمع الدعوى التي يكذِّبها العرف والعادة، ولا يُحلِّف فيها، ولا يقبل فيها بينة، كما لو كان رجلٌ حائز دارٍ
(3)
متصرفًا فيها مدةَ السنين الطويلة بالبناء والهدم والإجارة والعمارة وينسبها إلى نفسه ويضيفها إلى مِلكه، وإنسان حاضر يراه ويشاهد أفعاله فيها طول هذه المدة، ومع ذلك لا يعارضه فيها، ولا يذكر أن له فيها حقًّا، ولا مانع يمنعه من خوف أو شركة في ميراث، ونحو ذلك، ثم جاء بعد تلك المدة
(4)
فادعاها
(5)
(1)
ك: «اختلفت» .
(2)
ز: «لا يقبلون» . وسقطت «لا يقبلان
…
فأبو حنيفة» من ك، ب بسبب انتقال النظر.
(3)
ك: «دارًا» .
(4)
ك: «ذلك المدة» .
(5)
ك، ب:«فادعى» .
لنفسه، فدعواه غير مسموعة فضلًا عن إقامة بيّنةٍ.
قالوا: وكذلك إذا كانت المرأة مع الزوج مدةَ سنين يشاهده الناس والجيران داخلًا بيتَه بالطعام والفاكهة واللحم والخبز، ثم ادَّعت بعد ذلك أنه لم ينفق عليها في هذه المدة؛ فدعواها غير مسموعة، فضلًا عن أن يحلف لها، أو تُسمع لها بينة.
قالوا: وكل دعوى ينفيها العرف وتكذِّبها العادة فإنها مرفوضة غير مسموعة.
وهذا المذهب [116/ب] هو الذي نَدين الله به، ولا يليق بهذه الشريعة الكاملة سواه، وكيف يليق بالشريعة أن تُسمع مثل هذه الدعوى التي قد علم الله وملائكته والناس أنها كذب وزور؟ وكيف تدَّعي المرأة أنها أقامت مع الزوج ستين سنة أو أكثر لم ينفق عليها فيها
(1)
يومًا واحدًا ولا كساها فيها ثوبًا، ويُقبل قولها عليه، ويُلزم بذلك كله، ويقال: الأصل معها؟ وكيف يُعتمد على أصل يكذِّبه العرف والعادة والظاهر الذي بلغ في القوة إلى حدّ القطع؟ والمسائل التي يُقدَّم فيها الظاهر القوي على الأصل أكثر من أن تحصى، ومثل هذا المذهب في القوة مذهب أبي حنيفة، وهو سقوطها بمضيّ الزمان؛ فإن البينة قد قامت بدونها؛ فهي كحق المبيت والوطء.
ولا يُعرف أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ــ مع أنهم أئمة الناس في الورع والتخلُّص من الحقوق والمظالم ــ قضى لامرأة بنفقة ماضية، أو
(1)
«فيها» ليست في ك.
استحل امرأته منها، ولا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك امرأة واحدة منهن، ولا قال لها: ما مضى من النفقة حق لك عند الزوج؛ فإن شئتِ تُطالبيه
(1)
، وإن شئتِ تُحالِليه
(2)
، وقد كان النبي
(3)
صلى الله عليه وسلم يتعذَّر عليه نفقة
(4)
أهله أيامًا حتى سألْنَه إياها، ولم يقل لهن: هي باقية في ذمتي حتى يوسِّع الله وأقضيكنَّ، ولما وسَّع الله عليه لم يقضِ لامرأة منهن ذلك، ولا قال لها: هذا عوضٌ عما فاتكِ من الإنفاق، ولا سمع الصحابة لهذه المسألة خبرًا. وقول عمر رضي الله عنه للغياب:«إما أن تطلِّقوا وإما أن تبعثوا بنفقة ما مضى»
(5)
في ثبوته نظر، وإن قال ابن المنذر:«ثبت عن عمر» ، فإنَّ في إسناده ما يمنع ثبوته. ولو قُدِّر صحته فهو حجة عليهم، ودليل على أنهم إذا طلَّقوا لم يلزمهم بنفقة
(6)
ما مضى.
(1)
كذا في النسختين، وفي ب:«تطالبينه» .
(2)
ب: «تجالبينه» ، تحريف.
(3)
«النبي» ليست في ز.
(4)
«نفقة» ليست في ك.
(5)
رواه الشافعي في «الأم» (6/ 277 - 278) وابن أبي شيبة (19358) وعبد الرزاق (12346) ومن طريقه ابن المنذر في «الأوسط» (9/ 65)، كلهم من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عنه، إلا أنه سقط من إسناد ابن أبي شيبة «ابن عمر» . ورواه أيضًا عبد الرزاق (12347) عن معمر عن أيوب عن نافع عن عمر مرسلًا. واحتج به أبو حاتم في «العلل» (1/ 406) وأحمد في «مسائل أبي داود» (ص 179)، وجودَّ إسناده ابن كثير في «مسند الفاروق» (1/ 438)، وصححه الألباني في «الإرواء» (2159).
(6)
ك، ب:«نفقة» .
فإن قيل: وحجةٌ عليكم في إلزامه لهم بها
(1)
، وأنتم لا تقولون بذلك.
قيل: بل نقول به، وإن الأزواج إذا امتنعوا من الواجب عليهم مع قدرتهم عليه لم يَسقط بالامتناع، ولزمهم ذلك. وأما المعذور العاجز فلا يُحفظ عن أحد من الصحابة أنه جعل النفقة دَينًا في ذمته أبدًا.
وهذا التفصيل هو أحسن ما يقال في هذه المسألة.
والمقصود أن
(2)
على هذين المذهبين لا تُسمع الدعوى
(3)
، ويسمعها الشافعي وأحمد بناء على قاعدة الدعاوي، وأن الحق قد ثبت ومستحقّه يُنكِر قبضه، فلا يُقبل قول الدافع عليه إلا ببينة؛ فعلى قولهما يحتاج الزوج إلى طريقٍ تُخلِّصه من هذه الدعوى، ولا ينفعه دعوى النشوز، فإن القول فيه قول المرأة، ولا يخلِّصه دعوى عدم التسليم الموجب للإنفاق لتمكُّن المرأة من إقامة البينة عليه؛ فله حيلتان:
إحداهما: أن يقيم البينة على نفقته وكسوته لتلك المدة، وللبينة أن تشهد على ذلك بناء على ما علمتْه وتحقَّقتْه بالاستفاضة والقرائن المفيدة للقطع؛ فإن الشاهد يشهد بما علمه بأي طريق علمه، وليس على الحاكم أن يسأل البينة عن مستند التحمُّل، ولا يجب على الشاهد أن يبيِّن مستنده في الشهادة.
الحيلة الثانية: أن ينكر التمكين الموجب [117/أ] لثبوت المدَّعى به في ذمته، ويكون صادقًا في هذا الإنكار؛ فإن التمكين الماضي لا يوجب عليه ما
(1)
«بها» ليست في ك، ب.
(2)
«أن» ليست في ك.
(3)
ك، ب:«دعوى» .
ادَّعتْ به الزوجة إذا كان قد أدَّاه إليها، والتمكين الذي يوجب ما ادَّعتْ به لا حقيقة له؛ فهو صادق في إنكاره.
المثال السابع عشر: إذا اشترى ربويًّا بمثله فتعيَّب عنده ثم وجد به عيبًا، فإنه لا يُمكِنه ردُّه للعيب الحادث، ولا يمكنه أخذُ الأَرْش لدخول التفاضل، فالحيلة في استدراك ظُلامته أن يدفع إلى البائع ربويًّا معيبًا
(1)
بنظير العيب الذي وجد به المبيع، ثم يسترجع منه الذي دفعه إليه، فإن استهلكه استردَّ منه نظيره. وهذه الحيلة على أصل الشافعي.
وأما على أصل أبي حنيفة فالحيلة في الاستدراك أن يأخذ عوض العيب من غير جنسه، بناء على أصله في تجويز مسألة «مُدِّ عَجْوة» .
وأما على أصل الإمام أحمد فإن كان البائع علم بالعيب فكتمه لم يمنع العيب الحادث عند المشتري ردَّه عليه، بل لو تلِفَ جميعُه رجع عليه بالثمن عنده. وإن لم يكن من البائع تدليس فإنه يردُّ عليه المبيع ومعه أَرْش العيب الحادث عنده، ويستردُّ العوض، وليس في ذلك محذور، فإنه يبطل العقد؛ فالزيادة ليست زيادة في عوض، فلا يكون ربا
(2)
.
المثال الثامن عشر: إذا أبرأ الغريم من دَينه في مرض موته، ودينه يخرج من الثلث وهو غير وارث، فخاف المبرأ
(3)
أن يقول الورثة: «لم يُخلف مالًا سوى الدَّين» ويطالبونه بثلثَيْه، فالحيلة أن يُخرِج المريض إلى الغريم مالًا
(1)
ز: «معينًا» .
(2)
ك: «زيادة» ، تحريف.
(3)
ب: «الميت» .
بقدر دَينه فيَهَبه إياه، ثم يستوفيه منه من دينه. فإن عجز عن ذلك ولم يغِبْ عنه الورثة، فالحيلة أن
(1)
يقرَّ بأنه شريكه بقدر الدَّين عليه. فإن عجز عن ذلك فالحيلة أن يقرَّ بأنه
(2)
كان قبضه منه أو أبرأه منه في صحته. فإن خاف أن يتعذَّر عليه مطالبته به إذا عُوفي فالحيلة أن يشهد عليه أنه إن ادَّعى عليه أو أي وقت ادَّعى عليه أو متى ادَّعى عليه بكذا وكذا فهو صادق في دعواه، فما لم يدَّعِ عليه بذلك لم يلزمه، وليس لوارثه بعده أن يدَّعي به، فإنه إنما صدق الموروث
(3)
إن ادعى، ولم تحصل دعواه، وإنما ينتقل إلى الورثة ما ادعى به الموروث وصدقه عليه المدَّعي
(4)
، ولم يتحقق ذلك.
المثال التاسع عشر: إذا أراد أن يعتق عبده وخاف أن يجحد الورثة المال ويُرِقُّوا ثُلثَيه، فالحيلة أن يبيعه لأجنبي، ويقبض ثمنه منه
(5)
، ثم يهب الثمن للمشتري، ويسأله إعتاق العبد. ولا ينفعه أن يأخذ إقرار الورثة أن العبد يخرج من الثلث؛ لأن الثلث إنما يعتبر عند الموت لا قبله. فإن لم يُرِد تنجيزَ عتقه وأحبَّ تدبيره وخاف من ذلك فالحيلة أن يملِّكه لرجل يثق به، ويعلِّق المشتري عتقه بموت السيد المملّك، فلا يجد الورثة إليه سبيلًا.
المثال العشرون: إذا كان لأحد الورثة دينٌ على الموروث وأحبَّ أن يُوفيه إياه ولا بينةَ له به، فإن أقرَّ له به أبطلنا إقراره، وإن أعطاه [117/ب]
(1)
ك: «بأن» .
(2)
ك، ب:«بأن يقر أنه» .
(3)
ك: «المروث» . ب: «المورث» .
(4)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «وصدقه المدعى عليه» .
(5)
«منه» ليست في ك، ب.
عوضَه كان تبرعًا في الظاهر فلباقي
(1)
الورثة ردُّه، فالحيلة في خلاصه من دينه أن يقبض الوارث ما له عليه في السرّ، ثم يبيعه سلعة أو دارًا أو عبدًا بذلك الثمن، فيستردّ منه المال، ويدفع إليه تلك السلعة التي هي بقدر دينه.
فإن قيل: وأي حاجةٍ له إلى ذلك إذا أمكنه أن يعطيه ما له عليه في السر؟
قيل: بل في ذلك خلاص الوارث من دعوى بقية الورثة واتهامهم له وشكواهم إياه أنه استولى على مال موروثنا وصار إليه بغير حقٍّ، فإذا لم يخرج المال الذي عاينوه عند الموروث عن التركة سلم من تطرُّقِ التهمة والأذى والشكوى.
المثال الحادي والعشرون: إذا زوَّج عبده من ابنته
(2)
صح، فإن خاف من انفساخ النكاح بموته حيث تملكه أو بعضه، فالحيلة في بقاء
(3)
النكاح أن يبيعه من أجنبي ويقبض ثمنه أو يهبه إياه، فإن مات بعد ذلك هو أو الأجنبي لم ينفسخ النكاح.
المثال الثاني والعشرون: إذا كان مولاه سفيهًا إن زوَّجه طلق وإن شَراه أعتق وإن أهمله فسق، فالحيلة أن يشتري جارية من مال نفسه ويزوِّجه إياها، فإن أعتقها لم ينفذ عتقه، وإن طلّقها رجعت إلى سيدها فلا تطالبه بمهرها.
المثال الثالث والعشرون: إذا طلب عبده منه أن يزوِّجه جاريتَه فحلف بالطلاق لا يزوِّجه إياها، فالحيلة على جواز تزويجه بها ولا يحنث: أن
يبيعهما جميعًا أو يملِّكهما لمن يثق به، ثم يزوِّجهما
(1)
المشتري، فإذا فعل ذلك استردَّهما ولا يحنث؛ لأنه لم يزوِّج أحدهما الآخر، وإنما فعل ذلك غيره.
قال القاضي أبو يعلى: وهذا غير ممتنع على أصلنا؛ لأن الصفة قد وجدت في حال زوال ملكه، فلا يتعلق به حِنث، ولا يتعلق الحنث باستدامة العقد بعد أن ملَّكهما؛ لأن التزويج عبارة عن العقد وقد تقضَّى، وإنما بقي حكمه فلم يحنث باستدامته.
قال: ويفارق هذا إذا حلف على عبده لا دخلَ
(2)
هذه الدار فباعه ودخلها ثم ملكه ودخلها بعد ذلك فإنه يحنث؛ لأن الدخول عبارة عن الكون، وذلك موجود بعد الملك كما كان موجودًا في الملك الأول.
قال: وقد علَّق أحمد القول في رواية مهنَّا في رجل قال لامرأته: «أنتِ طالق إن رهنتِ كذا وكذا» فإذا هي قد رهنته قبل اليمين، فقال: أخاف أن يكون حنث. قال: وهذا محمول
(3)
على أنه قال: «إن كنتِ رهَنْتِيه» فيحنث؛ لأنه
(4)
حلف على ماضٍ.
ولا يخفى ما في هذا الحمل من مخالفة ظاهر كلام السائل وكلام الإمام أحمد؛ أما كلام السائل فظاهر في أنه إنما أراد رهنًا تُنشِئه بعد اليمين،
(1)
ب: «يزوجه إياها» .
(2)
كذا في النسخ وهو صواب، والضمير يرجع إلى العبد. وفي المطبوع:«لا أدخل» ، خطأ.
(3)
ك: «مجهول» ، تحريف.
(4)
ك: «لا» ، خطأ.
فإن أداة الشرط تُخلِص الفعل الماضي للاستقبال، فهذا الفعل مستقبل بوضع اللغة والعرف والاستعمال.
وأما كلام الإمام أحمد فإنه لو فهم من السائل ما حمله عليه القاضي لجزم بالحنث، ولم يقل:«أخاف» ، فهو إنما يطلق هذه اللفظة فيما عنده فيه [118/أ] نوع
(1)
توقُّفٍ. واستقراء أجوبته يدلُّ على ذلك. وإنما وجه هذا أنه جعل استدامة الرهن رهنًا كاستدامة اللبس
(2)
والركوب والسكنى والجماع والأكل والشرب ونحو ذلك. ولما كان لها شَبَهٌ بهذا وشَبَهٌ باستدامة النكاح والطيب ونحوهما لم يجزم بالحنث، بل قال: أخاف أن يكون قد حنث، والله أعلم.
المثال الرابع والعشرون: هل تصح الشركة بالعروض والفلوس إن قلنا هي عروض والنقود المغشوشة؟ على قولين هما روايتان عن الإمام أحمد، فإن جوَّزنا الشركة بها لم يُحتَجْ إلى حيلة، بل يكون رأس المال قيمتها وقت العقد، وإن لم نجوِّز الشركة فالحيلة على أن يصيرا شريكين فيها أن يبيع كل واحد منهما صاحبه نصف عرضه بنصف عرضه مشاعًا، فيصير كل منهما شريكًا لصاحبه في عرضه، ويصير عرض كل واحد منهما بينهما نصفين، ثم يأذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف.
هذا إذا كان قيمة العرضين سواء، فإذا كانا متفاوتينِ ــ بأن يساوي أحدهما مائة والآخر مائتين ــ فالحيلة أن يبيع صاحب العرض الأدنى ثُلثَي عرضه بثُلثِ عرض صاحبه كما تقدم، فيكون العرضان بينهما أثلاثًا، والربح على قدر
(1)
«نوع» ليست في ك.
(2)
ك: «الرهن» .
الملكين
(1)
عند الشافعي وعند أحمد على ما شرطاه. ولا تمتنع هذه الحيلة على أصلنا فإنها لا تُبطِل حقًّا، ولا تُثبِت باطلًا، ولا تُوقِع في محرَّم.
المثال الخامس والعشرون: إذا كان له عليه ألف درهم فأراد أن يصالحه على بعضها فلها ثمانُ صورٍ؛ فإنه إما أن يكون مقرًّا أو منكرًا، وعلى التقديرين فإما أن تكون حالَّةً أو مؤجلةً، ثم الحلول والتأجيل إما أن يقع في المصالح عنه أو في المصالح به، وإنما تتبين أحكام هذه المسائل بذكر صورها وأصولها.
الصورة الأولى: أن يصالحه من ألف حالة قد أقرَّ بها على خمسمائة حالة؛ فهذا صلح
(2)
على الإقرار، وهو صحيح على أحد القولين، باطل على القول الآخر؛ فإن الشافعي لا يصحح الصلح إلا على الإقرار، والخرقي ومن وافقه من أصحاب الإمام أحمد لا يصححه إلا على الإنكار، وابن أبي موسى وغيره يصححونه على الإقرار والإنكار، وهو ظاهر النص، وهو الصحيح؛ فالمبطلون له مع الإقرار يقولون: هو هضمٌ للحق؛ لأنه إذا أقرَّ له فقد لزمه ما أقرَّ به، فإذا بذل له دونه فقد هضمه حقَّه، بخلاف المنكر فإنه يقول: إنما افتديتُ يميني والدعوى عليَّ بما بذلتُه
(3)
، والآخذ يقول: أخذتُ بعض حقي. والمصححون له يقولون: إنما يمكن الصلح مع الإقرار لثبوت الحق به؛ فتمكن المصالحة على بعضه، وأما مع الإنكار فأيُّ شيء ثبت حتى يصالح عليه؟ فإن قلتم:«صالحه عن الدعوى واليمين وتوابعهما» ، فإن هذا
(1)
ز: «المالين» .
(2)
ز: «أصلح» ، خطأ.
(3)
ك، ب:«ما بذلته» .
لا تجوز المعاوضة عليه، ولا هو مما يقابل بالأعواض، فهذا أصل.
والصواب جواز الأمرين للنص والقياس والمصلحة؛ فإن الله تعالى أمرنا بالوفاء بالعقود ومراعاة العهود، وأخبر
(1)
النبي صلى الله عليه وسلم أن المسلمين على شروطهم، [118/ب] وأخبر أن الصلح بين المسلمين جائز إلا صلحًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا
(2)
. وقول من منع الصلح على الإقرار: «إنه هَضْمٌ للحق» ليس كذلك، وإنما الهضم أن يقول: لا أقرُّ لك حتى تهبَ لي كذا وتضع عني كذا، وأما إذا أقرَّ له ثم صالحه ببعض ما أقرَّ به فأيُّ هضمٍ هناك؟ وقول من منع الصلح على الإنكار:«إنه يتضمن المعاوضة عما لا تصح المعاوضة عليه» ، فجوابه أنه افتداءٌ لنفسه من الدعوى واليمين وتكليف إقامة البينة، كما تفتدي المرأة نفسها من الزوج بمالٍ تبذله له
(3)
، وليس هذا
(1)
ك، ب:«أمر» . والمثبت من ز.
(2)
رواه أبو داود (3594) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وإسناده حسن، ولفظه:«الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا» . وزاد سليمان: «المسلمون على شروطهم» اهـ. وروى أحمد (8784) وابن حبان (5091) الشطر الأول فقط، وروى الدارقطني (2890) والحاكم (2/ 49) الشطرين دون قوله:«إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا» . وله شواهد، منها: ما رواه الترمذي (1352) والحاكم (4/ 101) من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جدّه، وصححه الترمذي، وفيه كثير بن عبد الله ضعيف، وأبوه فيه لين. وعلق البخاري شطره الأول في «صحيحه» قبل الحديث رقم (2274). وانظر:«القواعد النورانية» (220)، و «البدر المنير» (6/ 552 - 554)، و «الإرواء» (1303)، و «السلسلة الصحيحة» (2915).
(3)
«له» ليست في ك.
بمخالفٍ لقواعد الشرع، بل حكمة الشرع
(1)
وأصوله وقواعده ومصالح المكلَّفين تقتضي ذلك.
فهاتان صورتان: صلح عن الدين الحالّ ببعضه حالًّا مع الإقرار ومع الإنكار.
الصورة الثالثة: أن يصالح عنه ببعضه مؤجلًا مع الإقرار والإنكار، فهاتان صورتان أيضًا، فإن كان مع الإنكار ثبت التأجيل، ولم تكن له المطالبة به قبل الأجل؛ لأنه لم يثبت له قبله دَينٌ فيقال: لا يقبل التأجيل. وإن كان مع الإقرار ففيه ثلاثه أقوال للعلماء، وهي في مذهب الإمام أحمد:
أحدها: لا يصح الإسقاط ولا التأجيل، بناء على أن الصلح لا يصح مع الإقرار وعلى أن الحالَّ لا يتأجل.
والثاني: أنه يصح الإسقاط دون التأجيل، بناء على صحة الصلح مع الإقرار.
والثالث: أنه يصح الإسقاط والتأجيل، وهو الصواب، بناء على تأجيل القرض والعارية، وهو مذهب أهل المدينة، واختيار شيخنا
(2)
.
وإن كان الدين مؤجلًا فتارةً يصالحه على بعضه مؤجلًا مع الإقرار والإنكار، فحكمه ما تقدم. وتارةً يصالحه ببعضه حالًّا مع الإقرار والإنكار، فهذا للناس فيه ثلاثة أقوال أيضًا:
أحدها: أنه لا يصح مطلقًا، وهو المشهور عن مالك؛ لأنه يتضمن بيع
المؤجل ببعضه حالًّا، وهو عين الربا، وفي الإنكار المدعي يقول: هذه المائة الحالَّة عوضٌ عن مائتين مؤجلة، وذلك لا يجوز، وهذا قول ابن عمر
(1)
.
والقول الثاني: يجوز، وهو قول ابن عباس
(2)
، وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد حكاها ابن أبي موسى
(3)
وغيره، واختارها شيخنا؛ لأن هذا عكس الربا؛ فإن الربا يتضمن الزيادة في أحد العوضين في مقابلة الأجل، وهنا يضمن براءة ذمته من بعض العوض في مقابلة سقوط الأجل، فسقط بعض العوض في مقابلة سقوط بعض الأجل، فانتفع به كل واحد منهما، ولم يكن هنا ربًا لا حقيقة ولا لغةً ولا عرفًا، فإن الربا الزيادة وهي منتفية هاهنا، والذين حرَّموا ذلك إنما قاسوه على الربا، ولا يخفى الفرق الواضح بين قوله: إما أن تُربِي وإما أن تَقضِي
(4)
وبين قوله: عجِّلْ لي وأهبُ لك مائة، فأين أحدهما من الآخر؟ فلا نصَّ في تحريم ذلك ولا إجماع ولا قياس صحيح.
والقول الثالث: يجوز ذلك في دَين الكتابة، ولا يجوز في غيره، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة. قالوا: لأن ذلك يتضمن تعجيلَ العتق المحبوب
(1)
رواه مالك (2/ 672) وعبد الرزاق (14354، 14359) والبيهقي (6/ 28) من طرق عن ابن عمر.
(2)
رواه عبد الرزاق (14360، 14361، 14362) وابن أبي شيبة (22665) والطحاوي في «مشكل الآثار» (11/ 61)، والبيهقي (6/ 28).
(3)
في «الإرشاد» (ص 191).
(4)
كان الربا في الجاهلية بهذه الطريقة، كما روى مالك في «الموطأ» (2/ 672) عن زيد بن أسلم.
إلى الله، والمكاتَب عبد ما بقي عليه درهم
(1)
، ولا ربا بين العبد وبين سيده؛ فالمكاتب وكسبه للسيد، فكأنه أخذ بعض كسبه وترك له بعضه. ثم تناقضوا فقالوا: لا يجوز أن يبيعه درهمًا بدرهمين؛ [119/أ] لأنه في المعاملات معه كالأجنبي سواء.
فيا لله العجب! ما الذي جعله معه كالأجنبي في هذا الباب من أبواب الربا، وجعله معه
(2)
بمنزلة العبد القِنّ
(3)
في الباب الآخر؟ فهذه صورة هذه المسائل وأصولها ومذاهب العلماء فيها، وقد تبيَّن أن الصواب جوازها كلها؛ فالحيلة على التوصل إليها حيلة على أمر جائز ليست على حرام.
فصل
فالحيلة على الصلح على الإنكار عند من يمنعه أن يجيء رجل أجنبي فيقول للمدَّعي
(4)
: أنا أعلم أن ما في يد المدَّعَى عليه لك، وهو يعلم أنك صادق في دعواك، وأنا وكيله، فصالِحْني على كذا، فينقلب حينئذٍ صلحًا على الإنكار.
ثم ينظر، فإن كان فعل ذلك بإذن المدَّعى عليه رجع بما دفعه إلى المدعي، وإن كان بغير إذنه لم يرجع عليه. وإن دفع المدعى عليه المال إلى الأجنبي وقال:«صالِحْ عني بذلك» جاز أيضًا.
(1)
رواه أبو داود (3926) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا، وهو حديث حسن. وقد روي موقوفًا عن جماعة من الصحابة.
(2)
«كالأجنبي
…
معه» ساقطة من ك بسبب انتقال النظر.
(3)
أي كامل العبودة.
(4)
ك: «المدعي» ، خطأ.
فصل
والحيلة في جواز الصلح على الإقرار عند من يمنعه أن يبيعه سلعة ويُحابيه فيها بالقدر الذي اتفقا على إسقاطه بالصلح.
فصل
والحيلة في الصلح عن الحال ببعضه مؤجلًا حتى يلزم التأجيل أن يُبرِئه من الحال، ويقرّ أنه لا يستحق عليه إلا المؤجّل، والحيلة في الصلح عن المؤجل ببعضه حالًّا أن يتفاسخا العقد الأول، ثم يجعلانه بذلك القدر الحالّ، فإذا اشترى منه سلعة أو استأجر منه دابة أو خالعَتْه على عوض مؤجل فسخا العقدَ ثم
(1)
جعلا عوضَه ذلك القدر الحالّ. فإن لم يمكن فيه الفسخُ كالدية وغيرها فالحيلة في جواز ذلك أن
(2)
يعاوض على الدين بسلعة أو شيء غير جنسه، وذلك جائز؛ لأن غاية ما فيه بيع الدين ممن هو في ذمته، فإن أتلفَ له مثليًّا لزِمه مثلُه دينًا عليه، فإن صالح عليه بأكثر من جنسه لم يجز؛ لأنه ربا، وإن كان المتلف متقوّمًا لزمه قيمتُه، فإن صالح عليه بأكثر من قيمته فإن كان من جنسها لم يجز ذلك، وإن كان من غير جنسها جاز؛ إذ هو تبعٌ
(3)
للقيمة، وهي
(4)
دينٌ بذلك العوض، وهو جائز.
المثال السادس والعشرون: إذا وكّله في شراء جارية بألف، فاشتراها
(1)
«ثم» ليست في ك.
(2)
«أن» ساقطة من ك.
(3)
في المطبوع: «بيع» .
(4)
ك، ب:«وهو» .
الوكيل، وقال: أذنتَ لي في شرائها بألفين وقد فعلتُ
(1)
، فالقول قول الوكيل، ولا يلزمه الألفانِ، ولا يملك الجاريةَ والوكيلُ مقرٌّ أنها للموكل، وأنه لا يحلُّ له وطؤها، والألف الزائدة دين عليه، ولا يمكن الوكيلَ بيعُها ولا التصرفُ فيها؛ لأنه معترف أنها مِلك للموكِّل، وأن الألف الأخرى في ذمته والوكيل ضامن لها.
فالحيلة في ملك الوكيل لها أن يقول له الموكّل: إن كنتُ أذنت لك في اشترائها بألفين فقد بعتُكها بألفين. فيقول: قد اشتريتها منك، فيملكها حينئذٍ، ويتصرف فيها. وهذا قول المزني وأكثر أصحاب الشافعي، ولا يضر تعليق البيع بصورة الشرط؛ فإنه لا يمكن صحته إلا على هذا
(2)
الشرط، فهو كما لو
(3)
قال: «إن كانت ملكي فقد بعتُكها بألفينِ» ولا يلتفت إلى نصفِ فقيهٍ يقول: هذا تعليق للبيع بالشرط فيبطل، كما لو قال: إن قدم زيد فقد بعتُك كذا، بل هذا نظير قوله: إن كنتَ جائز التصرف [119/ب] فقد بعتك كذا، وإن أعطيتَني ثمن هذا المبيع فقد بعتُكه، ونحو ذلك.
المثال السابع والعشرون: إذا أودعه وديعة وأشهد عليه
(4)
فتَلِفَتْ من غير تفريطه لم يضمن، فإذا ادَّعى عليه قَبْض الوديعة فأنكر فأقام البينة عليه ضمن، فإن ادعى التلف بعد ذلك لم يُقبل منه؛ لأنه معترف أنه غير أمين له،
(1)
بعدها زيادة في ب: «وقال الموكل: بل بألف» . وليست في ز، ك. وهي مفهومة من السياق.
(2)
«البيع بصورة
…
على هذا» ساقطة من ك.
(3)
«لو» ليست في ك، ب.
(4)
كذا في النسختين. وفي المطبوع: «عليها» .
وقد قامت البينة على قبضه ماله فيضمنه، ولا ينفعه تكذيب البينة. فالحيلة في سقوط الضمان أن يقول: ما لك عندي شيء، فإن حلَّفه حلف صادقًا، فإن أقام البينة بالوديعة فليصدِّق البينة، ويقول: صدقتْ فيما شهدتْ به، ويدَّعي التلف بغير تفريط؛ فإن كذَّب البينة لزمه الضمان، ولا ينفعه دعوى التلف.
المثال الثامن والعشرون: إذا رهن عنده رهنًا، ولم يثق بأمانته، وخاف أن يدّعي هلاكه ويذهب به، فالحيلة في أن يجعله مضمونًا عليه أن يُعِيره إياه أولًا، فإذا قبضه رهنَه منه بعد ذلك؛ فإن تلف كان من ضمانه؛ لأن طريانَ الرهن على العارية لا يُبطل حكمها؛ لأن المرتهن يجوز له الانتفاع بها بعد الرهن كما كان ينتفع بها قبله، ولو بطل لم يجز له الانتفاع.
المثال التاسع والعشرون: اختلف الناس في العارية: هل توجب الضمان إذا لم يفرِّط المستعير؟ على أربعة أقوال:
أحدها: توجب الضمان مطلقًا، وهو قول الشافعي وأحمد في المشهور عنه.
الثاني: لا توجب الضمان، ويد المستعير يد أمانة، وهو قول أبي حنيفة.
الثالث: أنه
(1)
إن كان التلف بأمر ظاهر كالحريق وأخذ السيل وموت الحيوان وخراب الدار لم يضمن، وإن كان بأمر لا يطلع عليه
(2)
كدعوى سرقة الجوهرة والمنديل والسكّين ونحو ذلك ضمن، وهو قول مالك.
الرابع: أنه إن شرط نفي ضمانها لم يضمن، وإن أطلق ضمن. وهذا
(1)
«أنه» ليست في ك.
(2)
«عليه» ليست في النسخ. وهي في المطبوع.
إحدى الروايتين عن أحمد.
والقول بعدم الضمان قوي متَّجه، وإن كنا لا نقبل قوله في دعوى التلف؛ لأنه ليس بأمينه، لكن إذا صدَّقه المالك في التلف بأمر لا يُنسب
(1)
فيه إلى تفريط فعدم التضمين أقوى.
فالحيلة في سقوط الضمان أن يشترط نفيه، فإن خاف أن لا يفي له بالشرط فله حيلة أخرى، وهي أن يشهد عليه أنه متى ادّعى عليه بسبب هذه العين ما يوجب الضمان فدعواك باطلة.
فإن لم يصعد
(2)
معه هذه الحيلة أو خاف من ورثته بعده الدعوى فله حيلة ثالثة، وهي أن يستأجر العين منه بأقل شيء للمدة التي يريد الانتفاع بها، أو
(3)
يستأجرها منه بأجرة مثلها ويشهد عليه
(4)
أنه قبض الأجرة أو أبرأه منها، فإن تلفتْ بعد ذلك لم يضمنها، وليست هذه الحيلة مما تحلِّل حرامًا أو تحرِّم حلالًا
(5)
.
المثال الثلاثون: اختلف الناس في تأجيل القرض والعارية إذا أجَّلها؛ فقال الشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه وأبو حنيفة: لا يتأجل شيء من ذلك بالتأجيل، وله المطالبة متى شاء، وقال مالك: يتأجَّل بالتأجيل، فإن أطلق ولم يؤجِّل ضُرِب له أجل مثله. وهذا هو الصحيح لأدلة كثيرة مذكورة في
(1)
ك: «مسبب» .
(2)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «لم يسعد» .
(3)
«يستأجر
…
أو» ساقطة من ز.
(4)
«عليه» ليست في ك، ب.
(5)
موضعها.
وعلى هذا القول فالمستقرض والمستعير أمينٌ
(1)
من غدر المقرِض غنيٌّ عن الحيلة للزوم الأجل، وعلى القول الأول فالحيلة في لزوم التأجيل أن يشهد عليه أنه لا يستحقُّ ما عليه من الدين إلى مدة كذا وكذا، [120/أ] ولا يستحق المطالبة بتسليم العين إلى مدة كذا وكذا، فإن أراد
(2)
حيلة غير هذه فليستأجر منه العين إلى تلك المدة ثم يُبرِئه من الأجرة كما تقدم. وأما القرض فالحيلة في تأجيله أن يشتري من المُقرِض شيئًا ما بمبلغ القرض ثم يكتبه مؤجلًا من ثمن مبيع قبضه المشتري؛ فإنه لا يتمكن من المطالبة به قبل الأجل، وهذه حيلة على أمر جائز لا يُبطِل بها حقًّا
(3)
فلا تُكره.
المثال الحادي والثلاثون: إذا رهنه رهنًا بدين، وقال: «إن
(4)
وفَّيتُك الدينَ إلى كذا وكذا، وإلا فالرهن لك
(5)
بما عليه» صح ذلك، وفعله الإمام أحمد، وقال أصحابنا: لا يصح، وهو المشهور من مذاهب
(6)
الأئمة الثلاثة، واحتجوا بقوله:«لا يَغلَق الرَّهنُ»
(7)
. ولا حجةَ لهم فيه؛ فإن هذا كان موجبه
(1)
كذا في النسخ وهو صواب بمعنى «مأمون» . وفي المطبوع: «آمن» .
(2)
ز: «أرادوا» .
(3)
ك: «حق» .
(4)
«إن» ليست في ك.
(5)
«لك» ليست في ك.
(6)
ك: «مذهب» .
(7)
رواه ابن ماجه (2441) وابن حبان (5934) والدارقطني (2920 - 2925، 2927) والحاكم (2/ 51) من طرق عن أبي هريرة مرفوعًا. وقد صححه ابن عبد البر وعبد الحق الإشبيلي، وحسّنه ابن حزم. ورواه مالك (2/ 728) والشافعي في «الأم» (4/ 346، 383) وعبد الرزاق (15033) وأبو داود في «المراسيل» (ص 170 - 171) والدارقطني (2926) والبيهقي (6/ 44) مرسلًا، ورجّح الإرسال أبو داود والبزار والدارقطني وابن القطان وابن عبد الهادي. انظر:«نصب الراية» (4/ 319 - 321) و «التلخيص الحبير» (3/ 36).
في الجاهلية أن المرتهن يتملَّك الرهن بغير إذن المالك إذا لم يُوفِّه؛ فهذا هو غَلَقُ الرهن الذي أبطله النبي صلى الله عليه وسلم. وأما بيعه للمرتهن بما عليه عند الحلول فلم يُبطله كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح ولا مفسدة
(1)
ظاهرة، وغاية ما فيه أنه بيع عُلِّق على شرط، ونعم فكان ماذا؟ وقد تدعو الحاجة والمصلحة إلى هذا من المتراهنين، ولا يحرم عليهما ما لم يحرِّمه الله ورسوله، ولا ريبَ أن هذا خير للراهن والمرتهن من تكليفه الرفعَ إلى الحاكم، وإثباته الرهن، واستئذانه في بيعه، والتعب الطويل الذي لا مصلحة فيه سوى الخسارة والمشقة، فإذا اتفقا على أنه له بالدين عند الحلول كان أصلح لهما وأنفع وأبعد من الضرر والمشقة والخسارة، والحيلة في جواز ذلك بحيث لا يحتاج إلى حاكم أن يملِّكه العين التي يريد أن يرهنها منه، ثم يشتريها منه بالمبلغ الذي يريد استدانته، ثم يقول: إن وفَّيتك الثمن إلى كذا وكذا وإلا فلا بيعَ بيننا، فإن وفَّاه وإلا انفسخ البيع وعادت السلعة إلى ملكه. وهذه حيلة حسنة محصِّلة لغرضهما
(2)
من غير مفسدةٍ، ولا تضمُّنٍ لتحريم ما أحلَّ الله، ولا تحليل ما حرَّم.
المثال الثاني والثلاثون: إذا كان عليه دَين مؤجل فادَّعى به صاحبه فأقرَّ به فالصحيح المقطوع به أنه لا يؤاخَذ به قبل أجله؛ لأنه إنما أقرَّ به على هذه
(1)
ب: «مصلحة» ، تحريف ..
(2)
ك: «لغرضها» .
الصفة، فإلزامه به
(1)
على غير ما أقرَّ به إلزامٌ بما لم يقرَّ به. وقال بعض أصحاب أحمد والشافعي: يكون مقرًّا بالحق مدَّعيًا لتأجيله، فيؤاخَذ بما أقرَّ به، ولا تُسمع منه دعوى الأجل إلا ببينة.
وهذا في غاية الضعف، فإنه إنما أقرَّ به إقرارًا مقيدًا لا مطلقًا؛ فلا يجوز أن يُلغى التقييد ويُحكم عليه بحكم الإقرار المطلق، كما لو قال: له عليَّ ألفٌ إلا خمسين، أو له عليَّ ألف من ثمن مبيع لم أقبِضْه، أو له عليَّ ألفٌ من نقدِ كذا وكذا ومعاملةِ كذا وكذا؛ فيلزمهم في هذا ونحوه أن يُبطِلوا هذه التقييدات كلها، ويُلزِمونه بألف كاملة من النقد الغالب، ولا يُقبل قوله: إنها من ثمن مبيع لم أقبضه.
ومما يبيِّن بطلان هذا القول أن إقرار المرء [120/ب] على نفسه شهادة منه على نفسه، كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135]. ولو شهد عليه شاهدان بألف مؤجَّلة لم يحكم بها عليه قبل الأجل اتفاقًا، فهكذا إذا أقرَّ بها مؤجلة.
فالحيلة في خلاصه من الإلزام بهذا القول الباطل أن يقول: لا يلزمني توفيةُ ما تدَّعيه عليَّ أو أداؤه إليك إلى مدة كذا وكذا، ولا
(2)
يزيد على هذا.
فإن ألحَّ عليه وقال: «لي عليك كذا أم ليس لي عليك شيء؟» ولا بدَّ من أن يجيب
(3)
بأحد الجوابين، فالحيلة في خلاصه أن يقول: إن ادعيتَها مؤجَّلةً فأنا مقرٌّ بها، وإن ادعيتَها حالَّةً فأنا منكر.
(1)
«به» ليست في ك.
(2)
ك: «أو لا» .
(3)
ك: «يحنث» ، تصحيف.
وكذلك لو كان قد قضاه الدين وخاف أن يقول: كان له عليَّ وقضيتُه، فيجعله الحاكم مقرًّا بالحق مدعيًا لقضائه؛ فالحيلة أن يقول: ليس له عليَّ شيء، أو لا يلزمني أداء
(1)
ما يدَّعيه، فإن ألحَّ عليه لم يكن له جواب غير هذا. على أن القول الصحيح أنه لا يكون مقرًّا بالحق مدعيًا لقضائه
(2)
، بل منكرًا الآن
(3)
لثبوته في ذمته، فكيف يلزم به؟
فإن قيل: هو أقرَّ
(4)
بثبوت سابق وادَّعى قضاءً طارئًا عليه.
قيل: لم يُقرَّ بثبوت مطلق، بل بثبوت مقيد بقيد وهو الزمن الماضي، ولم يُقرَّ بأنه ثابت الآن في ذمته؛ فلا يجوز إلزامه به الآن استنادًا إلى إقراره به في الزمن الماضي؛ لأنه غير منكرٍ ثبوتَه في الماضي، وإنما هو منكر لثبوته الآن، فكيف يُجعل مقرًّا بما هو منكرٌ له؟
وقياسهم هذا الإقرار على قوله: «له عليَّ ألفٌ لا يلزمني ولا يثبت في ذمتي» قياس باطل، فإنه كلام متناقض لا يُعقل، وأما هذا فكلام معقول، وصدقه فيه ممكن، ولم يُقرَّ بشغل ذمته الآن بالمدَّعى به، فلا يجوز شَغْل ذمته به بناء على إقراره بشَغْلها في الماضي. وما نظير هذا إلا قول الزوج:«كنت طلقتُ امرأتي وراجعتُها» ، فهل يُجعل بهذا مطلِّقًا الآن؟ وقول القائل:«كنتُ فيما مضى كافرًا ثم أسلمتُ» ، فهل يُجعل بهذا الكلام كافرًا الآن؟ وقول القائل:«كنتُ عبدًا فأعتقني مولاي» ، هل يجعل بهذا الكلام رقيقًا؟
(1)
ك، ب:«إذا» .
(2)
«لقضائه» ليست في ك.
(3)
ز: «الا ان» .
(4)
ز: «أقرب» ، تحريف.
فإن طردوا الحكم في هذا كله، وطلَّقوا على الزوج، وكفَّروا المعترف بنعمة الله عليه وأنه كان كافرًا فهداه الله وأمروه أن يجدِّد إسلامه، وجعلوا هذا قِنًّا= قيل لهم: فاطردوا ذلك فيمن قال: كانت هذه الدار أو هذا البستان أو هذه الأرض أو هذه الدابة لفلان ثم اشتريتُها منه، فأخرِجوها من ملكه بهذا الكلام، وقولوا: قد أقرَّ بها لفلان ثم ادَّعى اشتراءها، فيُقبل إقراره ولا تُقبل دعواه، فمن جرتْ هذه الكلمة على لسانه وقال الواقعَ فأخرِجوا ملكه من يده. وكذلك إذا قالت المرأة: كنت مزوَّجةً لفلانٍ ثم طلَّقني، اجعلوها بمجرد هذا الكلام زوجته، والكلام بآخره، فلا يجوز أن يؤخذ منه بعضه ويُلغى بعضه، ويقال: قد لزمك حكم ذلك البعض، وليس علينا من بقية كلامك؛ فإن هذا يرفع حكم الاستثناء [121/أ] والتقييدات جميعها، وهذا لا يخفى فساده.
ثم إن هذا على أصل من لا يقبل الجواب إلا على وَفْق الدعوى يحول بين الرجل وبين التخلُّص
(1)
من ظلم المدعي، ويُلجِئه إلى أن يقرَّ له بما يتوصل به إلى الإضرار به وظلمه، أو إلى أن يكذِب. بيانُه: أنه إذا استدان منه ووفَّاه، فإن قال:«ليس له عليَّ شيء» لم تقبلوا منه؛ لأنه لم يجب على نفي الدعوى، وإن قال:«كنت استدنتُ منه ووفَّيتُه» لم تسمعوا منه آخر كلامه وسمعتم منه أوله، وإن قال:«لم أستدِنْ منه» كان
(2)
كاذبًا. فقد ألجأتموه إلى أن يظلم أو يكذب ولا بدَّ.
فالحيلة لمن بُلِيَ بهذا القول أن يستعمل التورية، ويحلف ما استدان
(1)
ك، ب:«التخليص» .
(2)
في المطبوع: «وكان» ، خطأ؛ فهو جواب الشرط.
منه، وينوي أن تكون «ما» موصولة، فإذا قال:«والله إني ما استدنتُ منه» أي إني الذي استدنتُ منه، وينفعه تأويله بالاتفاق إذا كان مظلومًا، كما لا ينفعه إذا كان ظالمًا بالاتفاق.
المثال الثالث والثلاثون: إذا كان عليه دين فأعسرَ به فادَّعى عليه به
(1)
، فإن أنكره
(2)
كان كاذبًا، وإن أقرَّ له به ألزمه إياه، وإن جحده أقام به البينة، فإن ادعى الإعسار بعد ذلك فإن المدَّعي قد ظهر للحاكم كذبُه في جحده الحقَّ، فهكذا هو كاذب في دعوى الإعسار؛ فالحيلة في تخليصه أن يقول: لا يلزمني توفية ما يدَّعيه عليَّ ولا أداؤه، فإن طالبه الحاكم بجواب يطابق السؤال فله أن يورِّي كما تقدم، ويحلف على ذلك، فإن خشي من إقامة البينة فهنا تَعِزُّ عليه الحيلة، ولم يبقَ له إلا تحليفُ المدَّعي أنه لا يعلم عجزه عن الوفاء، أو إقامة البينة بأنه عاجز عن الوفاء، فإن حلف المدَّعي ولم تقم له بينة بالعجز لم يبقَ له حيلة غير الصبر.
المثال الرابع والثلاثون: إذا تداعيا عينًا هي في يد أحدهما فهي لصاحب اليد، فإن أقام الآخر بينة حُكِم له ببينته؛ فإن أقام كل واحد منهما بينة؛ فقال الشافعي: بينةُ صاحب اليد أولى؛ لأن البينتين قد تعارضتا، وسلمت اليدُ عن معارض. وقال الإمام أحمد في ظاهر مذهبه: بينة الخارج أولى؛ لأن معها زيادةَ علمٍ خفيتْ على بينة صاحب اليد فإنها تستند إلى ظاهر اليد
(3)
، وبينة الخارج تستند إلى سبب خفي على بينة الداخل فتكون أولى. فالحيلة في
(1)
«به» ليست في ك، ب.
(2)
ك: «فأنكره» .
(3)
«اليد» ليست في ز. وفي ك، ب:«صاحب اليد» .
تقديم بينة الخارج عند من يقدِّم بينة الداخل: أن يدَّعي الخارج
(1)
أنه في يد الداخل
(2)
غصبًا أو عاريةً أو وديعةً أو ببيعٍ فاسد، ثم تشهد البينة على وَفْق ما ادعاه، فحينئذٍ تُقدَّم بينة الخارج على الصحيح عندهم.
المثال الخامس والثلاثون: الحيلة المخلصة من لدغ العقارب، وذلك إذا اشترى الماكر المخادع من رجل
(3)
دارًا أو بستانًا أو سلعةً، وأشهد عليه بالبيع، ثم مضى إلى البيت أو الحانوت ليأتيه بالثمن، فأقرَّ بجميع ما في يده لولده أو لامرأته، فلا يصل البائع إلى أخذ الثمن، فالحيلة له
(4)
أن يبيعه بحضرة الحاكم أو يمضي بعد البيع معه إليه ليثبت له التبايع، ثم يسأله قبل مفارقته أن يَحجُر على المشتري في ماله ويَقِفَه [121/ب] حتى يُسلِم إليه الثمن؛ لئلا يتلف ماله أو يتبرع به فيتعذّر عليه الوصول إلى حقه. ويلزم الحاكم إجابته إذا خشي ذلك من المشتري؛ لأن فيه إعانةً لصاحب الحق على التوصل إلى حقه.
فإن تعذَّرت عليه هذه الحيلة ولدغَتْه العقرب وادَّعى الإعسار
(5)
عند
(1)
«عند من
…
الخارج» ليست في ك.
(2)
ك: «الخارج» ، خطأ.
(3)
«من رجل» ليست في ك، ب.
(4)
«له» ليست في ك، ب.
(5)
بعدها في المطبوع زيادة لا توجد في النسخ، والنصّ سليم بدونها، وهي: فللبائع الفسخ إذا لم يكن عالمًا بعسرته وقتَ العقد ولا راضيًا بها، فإن الإعسار عيب في محل الحق، فيثبت له خيار الفسخ كما لو كان العيب بالعوض، ولهذا إذا احتال على من يظنه موسرًا فبانَ معسرًا، فله فسخ الحوالة والرجوع على المحيل، لوجود العيب في محل الحق الذي لم يرض به المحتال. وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد ملَّك البائع الرجوع في عين ماله إذا أفلس المشتري، فكذلك إذا بان مفلسًا، مع أن الحديث نصٌّ في تمليكه الفسخ إذا عرض له الإفلاس، وليس فيه اشتراط حجر الحاكم، ولا دلَّ عليه بوجهٍ، ولا له أصل من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس ولا مصلحة للناس، فمن أين لكم أنه لا يملك الفسخ حتى يحجر عليه الحاكم؟ وحكمُ سيد الحكّام بالرجوع في عين المال وفسخ البيع أولى بالاعتبار والمراعاة من آحاد الناس، فإذا كان سيد الحكّام قد حكم له بالفسخ والرجوع لم يجز أن يقال: لا رجوع لك حتى يحكم حاكم بالفلس والإعسار. فإن قيل: إنما شرطنا ذلك ليتحقق ثبوت فلسه، قيل: لو تحقق ثبوت فلسه بحيث أن لا يشك فيه ولم يحكم به حاكم لم تمكّنوه من الفسخ، وهذا مخالف للسنة والقياس المحض كما تقدم، إذ العيب في محل العوض كالعيب في العوض. فإن سأل الحاكم الحجر عليه وفعل ذلك رجع عليه في عين ماله عند الجمهور».
الجمهور سأل الحاكمَ الحجْرَ عليه، فإن
(1)
فعل ذلك رجع عليه في عين ماله.
فإن كانت العقرب داهيةً بأن غيَّر العين المبيعة أو ملَّكها لولده أو زوجته أو كان الحاكم لا يرى رجوع البائع في عين المبيع إذا أفلس المشتري؛ فالحيلة أن يتوصل إلى إبطال العقد بإقرار سابق على البيع أن المبيع لولده أو لزوجته أو يرهنه أو يبيعه لمن يثق به، ويقدِّم تاريخ ذلك على بيع العقرب، وله أن يتوصل بهذه الحيلة وإن كانت مكرًا وخداعًا؛ فإن المكر والخداع حسن إذا كان على وجه المقابلة لا على وجه الظلم، كما قال تعالى:{وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 50]، وقال:{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}
(2)
[آل عمران: 54]، وقال:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]، وأخبر سبحانه أنه كاد ليوسف في مقابلة كيد إخوته، وقد تقدم
(3)
ذلك.
(1)
ك، ز:«و» .
(2)
هذه الآية ليست في ك.
(3)
(4/ 90، 132).
المثال السادس والثلاثون: إذا تحيَّل المكَّار المخادع على سقوط نفقة القريب بالمماطلة، وقال: إنها تسقط بمضيِّ الزمان فلا تبقى دينًا عليَّ، فتركها آمنًا من إلزامه بها لما مضى، فالحيلة للمنفق عليه أن يرفعه إلى الحاكم ليفرضها عليه، ثم يستأذنه في الاستدانة عليه بقدرها، فإذا فعل ألزمه الحاكم بقضاء ما استدانه المنفق عليه. فإن فرضها عليه ولم يستأذنه في الاستدانة
(1)
ومضى الزمان فهل تستقرُّ عليه بذلك؟ فيه وجهان لأصحاب الشافعي، والأكثرون منهم صرَّحوا بسقوطها مطلقًا فُرِضت أو لم تُفرض، ومنهم من قال: إن فُرضت لم تسقط.
فإن لم يمكنه الرفع إلى الحاكم فليقل له: اشفَعْ لي إلى فلان يُنفق عليَّ أو يعطيني ما أحتاج إليه، فإذا فعل فقد لزم الشافع؛ لأن ذلك حق أدَّاه المشفوع عنده عن الشفيع بإذنه، فإن أنفق عليه الغير بغير إذنه ناويًا للرجوع فله الرجوع في أصح المذهبين، وهو مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين، وهكذا كل من أدَّى
(2)
عن غيره واجبًا بغير إذنه. بل لا يُشترط
(3)
أن يكون واجبًا على
(4)
المنصوص من مذهب مالك وأحمد، فإن أحمد نصَّ في رواية الجرجرائي على رجوع مَن عمَّر قناةَ غيرِه بغير إذنه، وهو مذهب مالك.
ولو أن القريب استدان وأنفق على نفسه ثم أحال بالدين على من تلزمه نفقته لزمه أن يقوم له به؛ لأنه أحال على من له عليه حق، ولا يقال: قد
(1)
«المنفق عليه
…
الاستدانة» ساقطة من ك.
(2)
ك: «ادعى» ، تحريف.
(3)
ك، ب:«بلا شرط» .
(4)
ز: «عن» .
سقطتْ بمضيِّ الزمان فلم تُصادِف
(1)
الحوالة محلًّا؛ لأنها إنما تسقط بمضيِّ الزمان إذا لم يكن المنفَق عليه قد استدان على المنفِق، بل تبرَّع له
(2)
غيره أو تكلَّف أو صبر. فأما إذا استدان عليه بقدر نفقته الواجبة عليه فهنا لا وجهَ لسقوطها، وإن كان الأصحاب وغيرهم [122/أ] قد أطلقوا السقوط فتعليلهم يدلُّ على ما قلناه، فتأملْه.
المثال السابع والثلاثون
(3)
: إذا استنبط في ملكه أو أرضٍ استأجرها عينَ ماءٍ ملَكَه، ولم يملك بيعَه لمن يسوقه إلى أرضه أو يسقي به بهائمَه، بل يكون أولى به من كل أحد، وما فضلَ منه لزمه بذلُه لبهائمِ غيره وزرْعِه. والحيلة على جواز المعاوضة أن يبيعه نصفَ العين أو ثلثها أو يُؤجِره ذلك؛ فيكون الماء بينه وبينه على حسب ذلك، ويدخل الماء تبعًا لملك العين أو منفعتها. ولا تدخل هذه الحيلة تحت النهي عن بيع الماء، فإنه لم يبعه، وإنما باع العين، ودخل الماء تبعًا، والشيء قد يستتبع ما لا يجوز أن يُفردَ
(4)
وحده.
المثال الثامن والثلاثون: إذا باع عبده من رجل وله غرض أن لا يكون إلا عنده أو عند بائعه، فالحيلة في ذلك أن يشهد عليه أنه إن باعه فهو أحقُّ به بالثمن، فهذا يجوز على نص أحمد، وهو قول عبد الله بن مسعود
(5)
، ولا
(1)
ك: «تصادق» ، تحريف.
(2)
«له» ليست في ك.
(3)
ك: «السادس والثلاثون» . وهو رقم مكرر فيها، وهكذا يستمر فيما بعد، فلا نشير إليه، ونثبت ما في ز.
(4)
ك: «يفرده» .
(5)
سيأتي تخريجه.
محذورَ في ذلك. وقول المانعين: «إنه يخالف مقتضى العقد» فنعم يخالف مقتضى العقد المطلق، وجميع الشروط اللازمة تخالف مقتضى العقد المطلق، ولا تخالف مقتضى العقد المقيَّد، بل هي مقتضاه.
فإن لم تصعد
(1)
معه هذه الحيلة فله حيلة أخرى، وهي أن يقول له في مدة الخيار: إما أن تقول: «متى بعتُه فهو حرٌّ» وإلا فسختُ البيع، فإذا قال ذلك فمتى باعه عتق عليه بمجرد الإيجاب قبل قبول المشتري على ظاهر المذهب؛ فإن الذي علّق عليه العتق هو الذي يملكه البائع وهو الإيجاب، وذلك بيعٌ حقيقة، ولهذا يقال:«بعتُه العبد فاشتراه» فكما أن الشِّرى هو قبول المشتري، فكذلك البيع هو إيجاب البائع، ولهذا يقال: البائع والمشتري، قال الشاعر
(2)
:
وإذا تُباع كريمةٌ أو تُشتَرى
…
فسِواك بائعُها وأنتَ المشترِي
هذا منصوص أحمد.
فإن لم تصعد معه هذه الحيلة فليقلْ له في مدة الخيار: «إما أن تقول متى بعتُك فأنت حرٌّ قبله بساعة، وإما أن أفسخ» ، فمتى قال ذلك لم يمكنه بيعه البتةَ.
المثال التاسع والثلاثون: إذا كان للموكِّل عند وكيله شهادة تتعلق بما هو وكيلٌ فيه لم تُقبل، فإن أراد قبولها فليعزِلْه أو ليعزِلْ نفسه قبل الخصومة ثم يقيم الشهادة، فإذا تمَّت عاد فوكَّله. وليس في هذه الحيلة محذور؛ فلا تكون محرَّمة.
(1)
في المطبوع: «تسعد» خلاف النسخ.
(2)
هو ابن المولى، كما في «الحماسة» لأبي تمام (2/ 377) و «معجم الشعراء» للمرزباني (ص 342) و «وفيات الأعيان» (6/ 325).
المثال الأربعون: إذا توضَّأ ولبس إحدى خفَّيه قبل غسل رجله الأخرى، ثم غسل رجله الأخرى وأدخلها الخفَّ، جاز له المسح على أصح القولين، وفيه قول آخر أنه لا يجوز؛ لأنه لم يلبس الأولى على طهارة كاملة؛ فالحيلة في جواز المسح أن ينزع خفَّ الرِّجل الأولى ثم يلبسه. وهذا نوعُ عبثٍ لا غرضَ للشارع فيه، ولا مصلحة للمكلَّف؛ فالشرع لا يأمر به.
المثال الحادي والأربعون: إذا استُحْلِف على شيء، فأحبَّ أن يحلف ولا يحنث؛ فالحيلة أن [122/ب] يحرِّك لسانه يقول:«إن شاء الله» ، وهل يُشترط أن يُسمِعها نفسه؟ فقيل: لا بدّ أن يُسمِع نفسه. وقال شيخنا: هذا لا دليل عليه، بل متى حرك لسانه بذلك كان متكلمًا، وإن لم يَسمَعْه نفسُه، وهكذا حكم الأقوال الواجبة والقراءة الواجبة.
قلت: وكان بعض السلف يُطبِق شفتَيه ويحرِّك لسانه بلا إله إلا الله ذاكرًا، وإن لم يُسمِع نفسَه؛ فإنه لا حظَّ للشفتين في حروف هذه الكلمة، بل كلها حلقية لسانية
(1)
؛ فيمكن الذاكرَ أن يحرِّك لسانَه بها ولا يُسمِع نفسَه ولا أحدًا
(2)
من الناس، ولا تراه العين يتكلم، وكذلك التكلُّم
(3)
بقول: «إن شاء الله» يمكن مع إطباق الفم؛ فلا يسمعه أحد ولا يراه، وإن أطبق أسنانه وفتح شفتيه أدنى شيء سمعته أذناه بجملته.
المثال الثاني والأربعون: إذا لاعن امرأته وانتفى من ولدها، ثم قتل
(1)
«لسانية» ليست في ك.
(2)
في النسختين: «أحد» .
(3)
«التكلم» ليست في ك.
الولد لزمه القصاص، وكذلك إن قتلها فلولدها القصاص
(1)
إذا بلغ. فإن أراد إسقاط القصاص عن نفسه؛ فالحيلة أن يكذِّب نفسه، ويقرَّ بأنه ابنه؛ فيسقط القصاص في الموضعين. وفي جواز هذه الحيلة نظر.
المثال الثالث والأربعون: إذا كان له عليه حق وقد أبرأه منه ولا بينةَ له بالإبراء ثم عاد فادّعاه؛ فإن قال: «قد أبرأني منه» لم يكن مقرًّا، كما لو قال:«كان له عليَّ وقضيتُه» . وعلى القول الآخر يكون مقرًّا به مدَّعيًا للإبراء؛ فيكلف البينة؛ فالحيلة على التخلُّص أن يقول: قد أبرأتَني من هذه الدعوى؛ فإذا قال ذلك لم يكن مقرًّا بالمدعى به؛ فإذا سأل إحلاف خصمه أنه لم يُبرِئه من الدعوى مَلكَ
(2)
ذلك؛ فإن لم يحلف صرفَهما، وإن حلف طُولب بالجواب، ولا يسمع منه بعد ذلك أنه أبرأه من الدعوى. فإن قال:«أبرأني من الحق» ففيه الخلاف المذكور، وإن قال:«لا شيء عندي» اكتفى منه بهذا الجواب عند الجمهور؛ فإن طالبه الحاكم بالجواب على وَفْق الدعوى فالحيلة أن يجيب
(3)
ويورِّي كما تقدم.
المثال الرابع والأربعون: إذا خاف المضارب أن يسترجع ربُّ المال منه المال فقال: «قد ربحتُ ألفًا» لم يكن له الاسترجاع؛ لأنه قد صار شريكًا؛ فإن كان قال ذلك حيلةً، ولم يربح، فقال بعد ذلك:«كذبتُ» لم يُسمع منه؛ فالحيلة في تخلُّصه أن يدَّعي خسارتها بعد ذلك أو تلَفَها
(4)
فيُقْبل قوله مع يمينه.
(1)
«وكذلك
…
القصاص» ليست في ك.
(2)
ك، ب:«ملكه» .
(3)
ك: «يحنث» ، تصحيف. ب:«يحلف» ، تحريف.
(4)
ك: «وأتلفها» ، خطأ.
المثال الخامس والأربعون: إذا وقف وقفًا وجعل النظر فيه لنفسه مدةَ حياته ثم من
(1)
بعدِه لغيره، صح ذلك عند الجمهور، وهو اتفاق من الصحابة؛ فإن عمر رضي الله عنه كان يلي صدقته، وكذلك الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصحابة، والنبي صلى الله عليه وسلم لما أشار على عمر بوقف أرضه
(2)
لم يقل له
(3)
لا يصح ذلك حتى تُخرِجها عن يدك ولا تَلِي نظَرَها، وأيُّ غرضٍ للشارع في ذلك؟ وأيُّ مصلحةٍ للواقف أو الموقوف عليه؟ بل المصلحة خلاف ذلك؛ لأنه أخبرُ بماله، وأقومُ بعمارته ومصالحه وحفظه من الغريب الذي ليست خِبرته وشفقته كخبرة صاحبه [123/أ] وشفقته، ويكفي في صحة الوقف إخراجه عن ملكه، وثبوت نظره ويده عليه كثبوت نظر الأجنبي ويده، ولا سيما إن كان متبرعًا، فأيُّ مصلحةٍ في أن يقال له: «لا يصح وقفُك حتى تجعله في يدِ من لستَ
(4)
على ثقةٍ من حفظه والقيامِ بمصالحه وإخراجِ نظرك عنه؟».
فإن قيل: إخراجه لله يقتضي رفْعَ يده عنه بالكلية كالعتق.
قيل: بالعتق خرج العبد عن أن يكون مالًا، وصار محرَّمًا
(5)
محضًا، فلا تثبت عليه يدُ أحدٍ. وأما الوقف فإنه لا بدَّ من ثبوت اليد عليه لحفظه والقيام
(1)
«من» ليست في ك.
(2)
رواه البخاري (2737) ومسلم (1632) من حديث ابن عمر.
(3)
«له» ليست في ك.
(4)
ك: «ليست» ، تحريف.
(5)
كذا في النسخ، وهو صحيح. وفي المطبوع:«محررًا» .
بمصالحه، وأحقُّ ما يثبت
(1)
عليه يدُ أشفقِ الناس عليه وأقومِهم بمصالحه، وثبوتُ يده ونظره لا ينافي وقفه لله، فإنه وقفَه لله وجعلَ نظره عليه ويده لله، فكلاهما قربة وطاعة، فكيف يُحرَم ثوابَ هذه القربة ويقال له: لا يصلح
(2)
لك قربةُ الوقف إلا بحرمان قربة النظر والقيام بمصالح الوقف؟ فأيُّ نص وأيُّ قياس وأيُّ مصلحة وأيُّ غرضٍ للشارع أوجب ذلك؟ بل أي صاحب قال ذلك؟
فإن احتاج الواقف إلى ذلك في موضع لا يحكم فيه إلا بقول من يُبطِل الوقف إذا لم يخرجه عن يده وإذا شرط النظر لنفسه، فالحيلة في ذلك أن يفوِّض النظر إلى من يثق به ويجعل إليه تفويضَ النظر لمن شاء، فيقبل الناظر ذلك، ويصحُّ الوقف ويلزم، ثم يفوِّضه الناظر إليه، فإنه قد صار أجنبيًّا بمنزلة سائر الناس. فهذه حيلة صحيحة يتوصَّل بها إلى حق، فهي جائزة. وكذلك لو جعل النظر فيه للحاكم ثم فوَّضه الحاكم إليه، فإن خاف أن لا يفوِّضه الحاكم إليه فليملِّكه لمن يثق به، ويَقِفُه ذلك على ما يريد المملك، ويشترط
(3)
أن يكون نظره له، وأن يكون تحت يده.
المثال السادس والأربعون: إذا وقف على نفسه ثم على غيره صح في أصحّ
(4)
الروايتين عن الإمام أحمد، وهو قول أبي يوسف
(5)
وهو قول
(1)
ز: «ثبت» .
(2)
في المطبوع: «يصح» .
(3)
ك: «ويشرط» .
(4)
في المطبوع: «إحدى» .
(5)
بعدها في المطبوع زيادة: «وعليه عمل الحنفية» . وليست في النسخ.
بعض
(1)
الشافعية، وممن اختاره أبو عبد الله الزبيري. وعند الفقهاء الثلاثة لا يصح.
المانعون من صحته قالوا: يمتنع كون الإنسان معطيًا من نفسه لنفسه؛ ولهذا لا يصح أن يبيع نفسَه ولا يهب نفسَه ولا يُؤجِر مالَه من نفسه، فكذا لا يصح وقفه على نفسه.
قال المجوِّزون: الوقف شبيهُ العتق والتحرير من حيث إنه يمتنع نقل الملك في رقبته، ولهذا لا يفتقر إلى قبول إذا كان على غير معيَّن اتفاقًا، ولا إذا كان على معيَّن على أحد القولين، وأشبهُ شيء به أم الولد. وإذا كان مثل التحرير لم يكن الواقف مملِّكًا لنفسه، بل يكون مُخرِجًا للملك عن نفسه ومانعًا لها
(2)
من التصرف في رقبته مع انتفاعه بالعين كأم الولد.
وهذا إذا قلنا بانتقال رقبة الوقف إلى الله تعالى ظاهر؛ فإن الواقف أخرج رقبة الوقف لله، وجعل نفسه أحد المستحقين للمنفعة مدةَ حياته، فإن لم يكن أولى من البطون المرتبة فلا يكون دون بعضهم، فهذا محض القياس.
وإن [123/ب] قلنا: الوقف ينتقل إلى الموقوف عليهم بطنًا بعد بطنٍ يتلقَّونه من الواقف، فالطبقة الأولى أحد الموقوف عليهم، ومعلوم أن أحد الشريكين إذا اشترى لنفسه أو باع من مال الشركة جاز على المختار لاختلاف
(3)
حكم الملكين، فلأن يجوز أن ينقل ملكه المختصّ إلى طبقاتٍ موقوفٍ عليها هو أحدها أولى؛ لأنه في كلا الموضعين نقل مِلْكه المختصّ إلى
(1)
«بعض» ليست في ك.
(2)
«لها» ليست في ك.
(3)
ك: «لا خلاف» ، خطأ.
مِلكٍ مشترك له فيه نصيب، بل في الشركة الملكُ الثاني من جنس الأول يملك به التصرف في الرقبة، وفي الوقف ليس من جنسه فيكون أولى بالجواز.
يؤيِّده أنه لو وقف على جهة عامة جاز أن يكون كواحد من تلك الجهة، كما وقف عثمان بئر رُومةَ وجعل دَلْوه فيها كدِلاء المسلمين
(1)
، وكما يصلِّي المرء في المسجد الذي وقَفَه، ويشرب من السقاية التي وقَفَها، ويُدفن في المقبرة التي سَبَّلها، أو يمرُّ في الطريق التي فتحها، وينتفع بالكتاب الذي وقَفَه، ويجلس على البساط والحصير اللذين وقفهما، وأمثال ذلك، فإذا جاز للواقف أن يكون موقوفًا عليه في الجهة العامة جاز مثله في الجهة الخاصة، لاتفاقهما في المعنى، بل الجواز هنا أولى من حيث إنه موقوف عليه بالتعيين، وهناك دخل في الوقف بشمول الاسم له
(2)
.
وتقليد هذا القول خير
(3)
من الحيلة الباردة التي يملِّك الرجل فيها مالَه لمن لا تطيب نفسُه أن يُعطيه درهمًا ثم يقفه ذلك المملَّك على المملِّك؛ فإن هذه الحيلة تضمَّنت أمرين:
أحدهما: لا حقيقة له، وهو انتقال الملك إلى المملّك.
(1)
رواه الترمذي (3703) والنسائي (3608) من طريق يحيى بن أبي الحجاج المنقري عن أبي مسعود الجريري عن ثمامة بن حزن، وفيه يحيى لين الحديث، وتابعه هلال بن حِقّ في «زوائد مسند أحمد» (555) وهو مقبول ذكره ابن حبان في «الثقات» ، وعلَّقه البخاري جزمًا (5/ 29 - مع الفتح)، وحسَّنه الألباني في «الإرواء» (1594).
(2)
«له» ليست في ك.
(3)
بعدها زيادة «له» في ك، ولا حاجة إليها.
والثاني: اشتراطه عليه أن يَقِفَه على هذا الوجه، أو إذنه
(1)
له فيه. وهذا في المعنى توكيلٌ له في الوقف، كما أن اشتراطه حَجْرٌ عليه في التصرف بغير الوقف؛ فصار وجود هذا التمليك وعدمه سواءً، لم يملكه المملك ولا يمكنه التصرف فيه، ولو مات قبل وقفه لم يحلَّ لورثته أخذُه، ولو أنه أخذه ولم يقِفْه على صاحبه ولم يردَّه إليه عُدَّ ظالمًا غاصبًا
(2)
، ولو تصرَّف فيه صاحبه بعد هذا التمليك لكان تصرفه فيه نافذًا كنفوذه قبله، هذا فيما بينه وبين الله تعالى، وكذلك في الحكم إن قامتْ بينة بأنهما
(3)
تواطآ على ذلك وأنه إنما وهبه إياه بشرط أن يقِفَه عليه أو أقرَّ له بذلك.
فإن قيل: فهل عندكم أحسنُ من هذه الحيلة؟
قيل: نعم، أن يقفَه على الجهات التي يريد؛ ويستثني غلَّته ومنفعتَه لنفسه
(4)
مدةَ حياته أو مدةً معلومة. وهذا جائز بالسنة الصحيحة والقياس الصحيح، وهو مذهب فقهاء أهل الحديث؛ فإنهم يجوِّزون أن يبيع الرجل الشيء أو يهبَه أو يُعتقَ العبد ويستثني بعضَ منفعة ذلك مدةً. ويجوِّزون أن يقف الشيءَ على غيره ويستثني بعضَ منفعته مدةً معلومة أو إلى حين موته. ويستدلُّون بحديث جابر
(5)
، وبحديث عِتق أم سلمة سَفِينةَ
(6)
، وبحديث
(1)
ك، ب:«وإذنه» .
(2)
ك، ب:«عاصيًا» .
(3)
ز: «لأنهما» .
(4)
«لنفسه» ليست في ز.
(5)
هو حديث شراء النبي صلى الله عليه وسلم لبعير جابر، وقد تقدم.
(6)
رواه أحمد (21927، 26711) وأبوداود (3932) والنسائي في «الكبرى» (4976، 4977، 11746) وابن ماجه (2526) كلهم من طريق سعيد بن جمهان عن سفينة، وهذا إسناد حسن من أجل سعيد، وصححه الحاكم (2/ 214)، وحسنه الألباني في «الإرواء» (1752).
عِتق [124/أ] صفية
(1)
، وبآثارٍ صحاح كثيرة
(2)
عن الصحابة لم يُعلَم فيهم من خالفها، ولهذا القول
(3)
قوة في القياس.
فإن قيل: فلو عدل إلى الحيلة الأولى فما حكمها في نفس الأمر؟ وما حكم الموقوف عليه إذا علم بالحال، هل يطيب له تناولُ الوقف أم لا؟
قيل: لا يمنع ذلك صحةَ الوقف ونفوذه، ويطيب للموقوف عليه تناولُ الوقف؛ فإن المقصود مقصود صحيح شرعي وإن كانت الطريق إليه غير مشروعة. وهذا كما إذا أعتق العبد أو طلَّق المرأة وجحد
(4)
ذلك، فأقام العبد أو المرأة شاهدين لم يعلما ذلك فشهدَا به، وسِعَ العبد أن يتصرفَ لنفسه والمرأةَ أن تتزوج.
وفقهُ المسألة: أن هذا الإذن والتوكيل في الوقف وإن حصل في ضمن عقدٍ فاسد فإنه لا يفسد بفساد العقد، كما لو فسدت الشركة أو المضاربة لم يفسد تصرفُ الشريك والعامل لما تضمَّنه العقد الفاسد من الإذن، بل هذا أولى من وجهين:
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
«كثيرة» ليست في ك، ب.
(3)
ك، ب:«اللفظ» .
(4)
ز: «أو جحد» .
أحدهما: أن الاتفاق يلزمهما قبل التمليك إذنٌ صحيح ووكالة صحيحة في الباطن لم يَرِدْ بعدها ما ينافيها.
وأيضًا فإنما بطل عقد الهبة لكونه شرَطَ على الموهوب له أن لا يتصرف فيه إلا بالوقف على الواهب، ومعلوم أن التصرف في العين لا يتوقف على الملك، بل يصح بطريق الوكالة وبطريق الولاية؛ فلا يلزم من إبطال الملك بطلانُ الإذن الذي تضمَّنه الشرط؛ لأن للإذن مستندًا غير الملك.
فإن قيل: إذا بطل الملك ينبغي أن يبطل التصرف الذي هو من توابعه.
قيل: لا يلزم ذلك؛ لأن التصرف في مثل هذه الصورة ليس من توابع الملك الحقيقي، وإنما هو من توابع الإذن والتوكيل.
يوضِّحه أن هذه الحيل التي لا حقيقةَ لها يجب أن تُسلَب الأسماءَ التي أُعِيرتْها وتُعطَى الأسماءَ الحقيقية، كما سُلِب منها ما يُسمَّى بيعًا ونكاحًا وهديةً هذه الأسماء، وأُعطِي اسم الربا والسِّفاح والرشوة
(1)
؛ فكذلك هذه الهبة تُسلَب اسمَ الهبة وتُسمَّى إذنًا وتوكيلًا، ولا سيما فإن صحة الوكالة لا تتوقف على لفظ مخصوص، بل تصح بكل لفظ يدلُّ على الوكالة؛ فهذه الحيلة في الحقيقة توكيلٌ للغير أن يقفَ على الموكّل؛ فمن اعتقد صحة وقف الإنسان على نفسه اعتقد جواز هذا الوقف، ومن اعتقد بطلانه وبطلان الحيل المُفضِية إلى الباطل فإنه عنده يكون منقطع الابتداء، وفيه من الخلاف ما هو مشهور. فمن أبطله رأى أن الطبقة الثانية ومن بعدها تبعٌ للأولى، فإذا لم يصح في المتبوع ففي التابع أولى أن لا يصح، ولأن الواقف
(1)
«والرشوة» ليست في ك.
لم يرضَ أن تصير الثانية إلا بعد الأولى، فلا يجوز أن يلزم بما لم يرضَ به؛ إذ لا بدَّ في صحة التصرف من رضا المتصرف وموافقة الشرع؛ فعلى هذا هو باقٍ على ملك الواقف.
فإذا مات فهل يصح الوقف حينئذٍ؟ يحتمل وجهين. ويكون مأخذهما أن ذلك كما لو قال: «هو وقفٌ بعد موتي» فيصح، أو أنه وقف معلَّقٌ على شرط، [124/ب] وفيه وجهان: فإن قيل بصحته كان من الثلث، وفي الزائد يقف على إجازة الورثة. وإن قيل ببطلانه كان ميراثًا. ومن رأى صحته قال: قد أمكن تصحيح تصرف العاقل الرشيد بأن يصحّح الوقف ويصرِفه في الحال إلى الجهة التي يصح الوقف عليها، وتُلغَى الجهة التي لا تصح فتُجعَل كالمعدومة. وقيل على هذا القول: بل
(1)
يصرف مصرفَ الوقف المنقطع، فإذا مات الواقف صُرِفَ مصرفَ الجهة الصحيحة.
فإن قيل: فما تقولون لو سلك حيلةً غيرَ هذا كلِّه وأسهلَ منه وأقرب؟ وهي أن يقرَّ أن ما في يده من العقار وقفٌ عليه انتقل إليه من جائز الملك جائز الوقف، ثم بعده على كذا وكذا، فما حكمُ
(2)
هذه الحيلة في الباطن، وحكمُ من علم بها من الموقوف عليهم؟
قيل: هذه الحيلة إنما قصد المتكلم بها إنشاء الوقف، وإن أظهر
(3)
أنه قصدَ بها الإخبار؛ فهي إنشاء في الباطن إخبار في الظاهر، فهي كمن أقرَّ
(1)
«التي لا تصح
…
بل» ساقطة من ك.
(2)
«جائز الملك
…
فما حكم» ساقطة من ك.
(3)
ك: «ظهر» .
بطلاقٍ أو عتاقٍ ينوي به الإنشاء. والوقف ينعقد بالصريح وبالكناية مع النية وبالفعل مع النية عند الأكثرين، وإذا
(1)
كان مقصودُه الوقفَ على نفسه، وتكلَّم بقوله:«هذا وقف عليَّ» ، وميَّزه بفعله عن ملكه= صار وقفًا؛ فإن الإقرار يصح أن يكون كنايةً عن الإنشاء مع النية، فإذا قصده به صح، كما أن لفظ الإنشاء يجوز أن يقصد به الإخبار، وإذا أراد به الإخبار دُيِّنَ، فكلٌّ من الأمرين صالح لاستعماله في الآخر، فقد يقصد بالإقرار الإخبار عما مضى، وقد يقصد به الإنشاء، وإنما ذكر بصيغة الإخبار لغرضٍ من الأغراض.
يوضِّح ذلك أن صيغ العقود قد قيل: هي إنشاءات، وقيل: إخبارات؛ والتحقيق أنها متضمنة للأمرين؛ فهي إخبار عن المعاني التي في القلب، وقصدُ تلك المعاني إنشاء؛ فاللفظ خبر والمعنى إنشاء، فإذا أخبر أن هذا وقفٌ عليه وهو يعلم أن غيره لم يَقِفْه عليه وإنما مقصوده أن يصير وقفًا بهذا الإخبار فقد اجتمع لفظ الإخبار وإرادة الإنشاء، فلو كان أخبر عن هذه الإرادة لم يكن هناك ريبٌ أنه أنشأ الوقف، لكن لما كان لفظه إخبارًا عن غير ما عناه، والذي عناه لم يُنشِئْ له لفظًا صارت المسألة محتملة، ونشأت الشبهة؛ ولكن هذه النية مع هذا اللفظ الصالح للكناية مع الفعل الدال على الوقف يقوم مقام التكلُّم باللفظ الذي ينشأ به الوقف
(2)
، والله أعلم.
المثال السابع والأربعون: لو باع غيره دارًا أو عبدًا أو سِلعةً؛ واستثنى منفعةَ المبيع مدةً معلومة= جاز كما دلت عليه النصوص والآثار والمصلحة والقياس الصحيح؛ فإن خاف أن يرفعه إلى حاكم يرى بطلان هذا الشرط
(1)
ك: «واذ» .
(2)
«يقوم
…
الوقف» ساقطة من ك.
فيُبطِله عليه؛ فالحيلة في تخلُّصه من ذلك أن يواطئه قبل البيع على أن يُؤجِره إياه تلك المدةَ بمبلغٍ معين؛ ويقرَّ بقبض الأجرة، ثم يبيعه إياه، ثم يستأجره كما اتفقا عليه، ويقرّ له بقبض الأجرة. وهذه حيلة صحيحة جائزة لا تتضمن تحليلَ حرامٍ ولا تحريمَ حلالٍ.
المثال الثامن والأربعون: المطلقة البائن لا نفقةَ [125/أ] لها ولا سكنى بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الصريحة التي لا معارضَ لها، بل هي موافقة لكتاب الله، وهي مقتضى القياس، وهي مذهب فقهاء الحديث. فإن خاف المطلِّق أن ترفعه إلى حاكم يرى وجوبَ النفقة والسكنى أو السكنى وحدها؛ فالحيلة في تخليصه أن يعلِّق طلاقها على البراءة الصحيحة من ذلك، فيقول: إن صحَّتْ براءتكِ لي من النفقة والسكنى أو من دعوى ذلك فأنتِ طالق؛ فلا يُمكِنها بعد ذلك أن تدَّعي بهما البتة.
وله حيلة أخرى، وهي أن يخالعها على نظير ما يعلم أنه يفرض عليه للنفقة والسكنى أو أكثر منه، فإذا ادَّعت بذلك
(1)
وفرضه عليه الحاكم صار لها عليه مثل الذي له عليها، فإما أن يأخذ منها ويعطيها وإما أن يتقاصَّا.
المثال التاسع والأربعون: إذا اشترى سلعة من رجل غريب فخاف أن تستحق أو تظهر معيبةً ولا يعرفه؛ فالحيلة أن يقيم له وكيلًا يخاصمه إن ظهر ذلك، فإن خاف أن يعزل البائع الوكيلَ فالحيلة أن يشتريها
(2)
من الوكيل نفسه ويضمِّنه دركَ المبيع.
(1)
ك: «بعد ذلك» .
(2)
ك، ب:«يشتري بها» .
المثال الخمسون: إذا دفع إليه مالًا يشتري به متاعًا من بلد
(1)
غير بلده فاشتراه، وأراد تسليمه إليه وإقامته في تلك البلد، فإن أودعه غيره ضمن؛ لأنه لم يأذن له ربه، وإن وكَّل غيره في دفعه إليه ضمن أيضًا، وإن استأجر من يُوصله إليه ضمن؛ لأنه لم يأتمن غيره عليه؛ فالحيلة في إيصاله إلى ربه أن يُشهد عليه قبل الشراء أو بعده أن يعمل في المال برأيه، وأن يوكل فيه وأن
(2)
يودع إذا رأى المصلحة في ذلك كله، فإن أبى ذلك الموكل وقال:«لا يوافيني به غيرُك» فقد ضاقت عليه الحيلة، فليُخرِج نفسه من الوكالة، فتصير يده يدَ مُودَع، فلا تلزمه مُؤنةُ ردِّ الوديعة، بل مؤنةُ ردِّها على صاحبها، فإن أحبَّ أخْذَ ماله أرسل من يأخذه أو جاء هو في طلبه.
فإن قيل: فلو لم يعزل نفسه أكان مؤنةُ الردِّ عليه؟
قيل: لما دخل معه في عقد الوكالة فقد التزم له أن يُسلِّم إليه المال، فيلزمه ما التزم به، فإذا أخرج
(3)
نفسَه من الوكالة بقي كالمُودَع المحض، فإن كان وكيلًا بجُعْلٍ فهو كالأجير فمؤنةُ الردِّ عليه، ولا يملك إخراج نفسه من الوكالة قبل توفية العمل كالأجير
(4)
.
المثال الحادي والخمسون: إذا أراد الذمّي أن يُسلِم وعنده خمر، فخاف إن أسلم يجب عليه إراقتها ولا يجوز له بيعها، فالحيلة أن يبيعها من ذمي آخر بثمن معين أو في ذمته، ثم يُسلِم ويتقاضاه الثمن، ولا حرجَ عليه
(1)
«بلد» ليست في ك، ب.
(2)
«أن» ليست في ك.
(3)
ك: «خرج» .
(4)
ك: «توفية الأجر» .
في ذلك؛ فإن تحريمها عليه بالإسلام كتحريمها بالكتاب بعد أن لم تكن حرامًا، وفي الحديث:«إن الله يُعرِّض بالخمر، فمن كان عنده منها شيءٌ فلْيبِعْه»
(1)
.
فإن قيل: فلو أسلم من اشتراها ولم يؤدِّ ثمنها هل يسقط عنه؟
قيل
(2)
: لا يسقط؛ لثبوته في ذمته قبل الإسلام.
فإن قيل: فلو أسلم إليه في خمرٍ ثم أسلما [125/ب] أو أحدهما.
قيل: ينفسخ العقد، ويُردُّ إليه رأس ماله.
فإن قيل: فلو أراد أن يشتري منه خمرًا ثم عزم على الإسلام، وخاف أن يلزمه بثمنها، فهل له حيلة في التخلُّص من ذلك؟
قيل: الحيلة أن لا يتملكها بالشراء بل بالقرض، فإذا اقترضها منه ثم أسلما أو أحدهما لم يجب عليه ردُّ بدل القرض؛ فإن موجب القرض ردُّ المثل
(3)
، وقد تعذَّر بالإسلام.
المثال الثاني والخمسون: إذا اشترى دارًا أو أرضًا قد وقعت الحدود وصُرِّفت
(4)
الطرق بينها
(5)
وبين جاره فلا شفعة فيها، وإن كانت الحدود لم تقع ولم تُصرَّف الطرق بل طريقهما واحدة ففيها الشفعة. هذا أصح الأقوال
(1)
رواه مسلم (1578) من حديث أبي سعيد الخدري.
(2)
«فلو أسلم
…
قيل» ساقطة من ك.
(3)
ك: «فإن وجب القرض والمثل» ، تحريف.
(4)
أي بُيِّنت مصارف الطرق وشوارعها.
(5)
كذا في النسخ، وفي المطبوع:«بينه» . وضمير المؤنث للدار أو الأرض.
في شفعة الجوار، وهو مذهب أهل البصرة، وأحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد، اختاره شيخ الإسلام وغيره. فإن خاف المشتري أن يرفعه الجار إلى حاكم يرى الشفعة وإن صُرِّفت الطرق فله التحيُّل على إبطالها بضربٍ
(1)
من الحيل:
أحدها: أن يشتريها منه بألف دينار ويكاتبه على ذلك، ثم يعطيه عوضَ كل دينارٍ درهمين أو نحو ذلك.
وثانيها: أن يهبَ منه الدار أو الأرض ثم يهبه ثمنها.
وثالثها: أن يقول المشتري للشفيع إن شئتَ بعتُكها
(2)
بما اشتريتُها به أو بأقلَّ من ذلك أو أصبر عليك بالثمن، فيجيبه إلى ذلك فتسقط شفعته.
ورابعها: أن يتصادق البائع والمشتري على شرط أو صفة تُفسِد البيع، كأجل مجهول أو خيار مجهول أو إكراه أو تلجئة ونحو ذلك، ثم يقرّها البائع في يد المشتري، ولا يكون للشفيع سبيلٌ عليها.
وخامسها: أن يشترط الخيار مدة طويلة، فإن صح لم يكن له أن يأخذ قبل انقضائه، وإن بطل لم يكن له أن يأخذ ببيع فاسد.
وسادسها: أن يهب له تسعة أعشار الدار أو الأرض، ويبيعه العُشر الباقي بجميع الثمن.
وسابعها: أن يوكِّل الشفيعَ في بيع داره أو أرضه، فيقبل الوكالة ويبيع، أو يوكِّله المشتري في الشراء له.
(1)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «بضروب» .
(2)
«وثالثها
…
بعتكها» ساقطة من ك.
وثامنها: أن يزِن له الثمن الذي اتفقا عليه سرًّا
(1)
ثم يجعله صُبرةً غير معلومة ويبيعه الدار بها.
وتاسعها: أن يقرّ البائع بسهمٍ من ألف سهمٍ للمشتري فيصير شريكه، ثم يبيعه باقي الدار، فلا يجد جاره إليها
(2)
سبيلًا؛ لأن حق الشريك مقدَّمٌ على حق الجار
(3)
.
وعاشرها: أن يتصدَّق عليه ببيت من الدار، ثم يبيعه باقيها بجميع الثمن، فيصير شريكًا، فلا شفعة لجاره.
وحادي عشرها: أن يأمر غريبًا أو مسافرًا بشرائها، فإذا فعل دفعها إليه ثم وكَّله بحفظها، ويُشهِد على الدفع
(4)
إليه وتوكيله حتى لا يخاصمه الشفيع.
وثاني عشرها: أن يجيء المشتري إلى الجار قبل البيع فيشتري منه داره ويرغِّبه في الثمن أضعافَ ما تساوي، ويشترط الخيار لنفسه ثلاثة أيام، ثم
(5)
في
(6)
مدة الخيار يمضي ويشتري تلك الدار التي يريد شراءها، فإذا تمَّ العقد بينهما فسخ البيع الأول، ولا يستحقُّ جاره عليه شفعة؛ لأنه حين البيع لم يكن [126/أ] جارًا، وإنما طرأ له الجوار بعد البيع.
(1)
ز: «شراء» .
(2)
ك: «إليه» .
(3)
ك، ب:«الجوار» .
(4)
ز: «الدافع» .
(5)
«ثم» ليست في ز.
(6)
«في» ليست في ك.
وثالث عشرها: أن يُؤجِر المشتري لبائع الدار عبدَه أو ثوبَه شهرًا بسهمٍ من الدار، فيصير شريكه، ثم بعد يومين أو ثلاثة يشتري منه بقيتها؛ فلا يكون لجاره عليه سبيل.
ورابع عشرها: أن يشتريها بثمن مؤجَّلٍ أضعاف ما تساوي، فإن الجار لا يأخذها بذلك الثمن، فإذا رغب عنها صالحه من ذلك الثمن على ما يساويه حالًا من غير جنسه.
فإن قيل: فأنتم قد بالغتم في الإنكار على من احتال ببعض هذه الوجوه على إسقاط الشفعة، وذكرتم تلك الآثار، فنَكِيْلُ لكم بالكيل الذي كِلْتم به لنا.
قلنا: لا سواء نحن وأنتم في ذلك؛ فإنا ذكرنا هذه الوجوه تحيُّلًا على إبطال ما أبطله رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «فإذا وقعتِ الحدودُ وصُرِّفتِ الطُّرقُ فلا شفعةَ»
(1)
، فلما أبطل الشفعة تحيّلْنا على تنفيذ حكمه وأمره بكل طريق؛ فكنّا في هذه الحيل منفِّذين لأمره. وأما أنتم فأبطلتم بها ما أثبته بحكمه وقضائه بالشفعة فيما لم يقسم، وأنه لا يحلُّ له أن يبيع حتى يُؤذِن شريكَه، فإذا حرم عليه البيع قبل استئذانه فما الظن بالتحيل على إسقاط شفعته؟ فتوصَّلتم أنتم بهذه الحيل إلى إسقاط ما أثبته، وتوصَّلنا نحن بها إلى إسقاط ما أسقطه وأبطله، فأيُّ الفريقين أحقُّ بالصواب، وأتبعُ لمقصود الرسول صلى الله عليه وسلم؟ والله المستعان.
المثال الثالث والخمسون: يصح تعليق الوكالة بالشرط، كما يصح تعليق
(1)
رواه البخاري (2213، 2214) من حديث جابر رضي الله عنه.
الولاية بالشرط، كما صحت به السنة، بل تعليق الوكالة أولى بالجواز؛ فإن الولي وكيل وكالةً عامة، فإنه إنما يتصرف نيابةً عن المُولِّي، فوكالته أعم من وكالة الوكيل في الشيء المعين، فإذا صح تعليقها فتعليق
(1)
الوكالة الخاصة أولى بالصحة. وقال الشافعي: لا يصح؛ فإذا دعت الحاجة إلى ذلك فالحيلة في جوازه أن يوكّله مطلقًا ثم يعلِّق التصرف على شرط فيصح. ولا يظهر فرقٌ فقهي بين امتناع هذا وجواز هذا، والمقصود من التوكيل التصرف، والتوكيل وسيلة إليه؛ فإذا صح تعليق الغاية فتعليق الوسيلة أولى بالصحة.
المثال الرابع والخمسون: إذا رُفِع
(2)
إلى الإمام وادُّعِيَ عليه أنه زنى، فخاف إن أنكر أن تقوم عليه البينة فيُحدّ؛ فالحيلة
(3)
في إبطال شهادتهم أن يقرَّ إذا سئل مرة واحدة، ولا يزيد عليها؛ فلا تُسمع البينة مع الإقرار. وليس للحاكم ولا للإمام أن يقرِّره تمامَ النصاب، بل إذا سكت لم يَعرِض له.
فإن كان الإمام ممن يرى وجوب الحدّ بالمرة الواحدة؛ فالحيلة أن يرجع عن إقراره فيسقط عنه الحدُّ؛ فإذا خاف
(4)
من إقامة البينة عليه أقرَّ أيضًا ثم رجع، وهكذا أبدًا. وهذه الحيلة جائزة؛ فإنه يجوز له دفع الحدِّ عن نفسه، وأن يُخلدِ إلى التوبة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة لما فرَّ ماعز من الحد:«هلَّا تركتموه يتوبُ فيتوبُ الله عليه»
(5)
، فإذا فرَّ من الحد إلى التوبة فقد أحسن.
(1)
ز: «بتعليق» ، خطأ.
(2)
ك: «وقع» ، تحريف.
(3)
ز: «الحيلة» .
(4)
«خاف» ساقطة من ك.
(5)
تقدم تخريجه.
المثال الخامس والخمسون: إذا حلف لغادر أو جاسوس أو سارق أن لا يخبر به أحدًا، ولا يدلّ عليه؛ فأراد التخلُّص [126/ب] من هذه اليمين وأن لا يُخفيه؛ فالحيلة أن يسأل عن أقوام هو من جملتهم؛ فإذا سئل عن غيره قال: لا، فإذا انتهت النوبة إليه سكت؛ فإنه لا يحنث ولا يأثم بالستر عليه وإيوائه.
وسئل أبو حنيفة رحمه الله عن هذه المسألة بعينها، قال له السائل: نزل بي اللصوص؛ فأخذوا مالي واستحلفوني بالطلاق أن لا أُخبر أحدًا بهم؛ فخرجتُ فرأيتهم يبيعون متاعي في السوق جهرةً. فقال له: اذهبْ إلى الوالي فقل له يجمع أهل المحلَّة أو السِّكَّة الذين هم فيهم ثم يُحضِرهم ثم يسألك
(1)
عنهم واحدًا واحدًا؛ فإذا سألك عمن ليس منهم، فقل: ليس منهم، وإذا سألك عمن هو منهم فاسكتْ. ففعل الرجل؛ فأخذ الوالي متاعه منهم، وسلَّمه إليه
(2)
. فلو عُمِلت هذه الحيلة مع مظلوم لم تنفع، وحنث الحالف؛ فإن المقصود الدفع عنه، وبالسكوت قد أعانَ عليه، ولم يدفع عنه.
المثال السادس والخمسون: ما سئل عنه أبو حنيفة رحمه الله عن امرأة قال لها زوجها: أنت طالق إن سألتِني الخلعَ إن لم أخلعك، وقالت المرأة: كل مملوك لي حرٌّ إن لم أسألك الخلعَ اليوم؛ فجاء الزوج إلى أبي حنيفة فقال: أَحضِر المرأة؛ فأحضرها، فقال لها أبو حنيفة: سليه الخلعَ، فقالت: سألتك أن تخلعني
(3)
، فقال له: قل لها قد خلعتُك على ألف درهم تُعطينها، فقال
(1)
ك: «سألك» .
(2)
ذكرها محمد بن الحسن الشيباني في كتاب الحيل ضمن كتاب «الأصل» (9/ 474).
(3)
ك، ب:«الخلع أن تخلعني» .
ذلك، فقال لها قولي: لا أقبل، فقالت ذلك، فقال: قومي مع زوجك فقد برَّ كل واحدٍ منكما ولم يحنَثْ في شيء، ذكرها محمد بن الحسن في كتاب «الحيل»
(1)
له.
وإنما تتمُّ هذه الحيلة على الوجه الذي ذكره؛ فلو قالت له: «أسألك الخلعَ على ألف درهم حالَّةً أو إلى شهرٍ» فقال: «قد خلعتك على ذلك» وقع الخلع؛ بخلاف ما إذا قالت له
(2)
: «اخلعني» قال: «خلعتك على ألف» فإن هذا لا يكون خلعًا حتى تقبل وترضى، وهي لم ترضَ بالألف؛ فلا يقع الخلع.
فإن قيل: فكيف يبرأ إذا لم يقع الخلع؟
قيل: هو إنما حلف على فعله لا على قبولها؛ فإذا قال: «قد خلعتك على ألفٍ» فقد وُجِد الخلع من جهته؛ فانحلَّت يمينه، ولم يقف حِلُّ اليمين على قبولها، كما إذا حلف لا يبيع، فباع، ولم يقبل المشتري، ولا نيةَ له؛ فإنه يحنث.
المثال السابع والخمسون: ما ذكره محمد في كتابه
(3)
أيضًا عنه أنه أتاه أخوان قد تزوَّجا بأختين؛ فزُفَّتْ كل امرأة منهما إلى زوج أختها؛ فدخل بها ولم يعلم، ثم علم الحال لما أصبحا؛ فذكرا له ذلك، وسألاه المخرج، فقال لهما: كلٌّ منكما راضٍ بالتي دخل بها؟ فقال: نعم، فقال: ليطلِّق كلٌّ منكما امرأته التي عقد عليها تطليقةً؛ ففعلا، فقال: ليعقِدْ كلٌّ منكما على المرأة التي
(1)
ضمن كتاب «الأصل» (9/ 444).
(2)
«له» ليست في ز.
(3)
كتاب «الأصل» (9/ 444).
دخل بها، ففعلا، فقال: ليمضِ كلٌّ منكما
(1)
إلى أهله.
وهذه الحيلة في غاية اللطف؛ فإن المرأة التي دخل بها كلٌّ منهما قد وطئها بشبهة؛ فله أن ينكحها في عدتها؛ فإنه لا يصان ماؤه عن مائه، وأمره أن يطلِّق واحدة فإنه لم يدخل بالتي طلَّقها فالواحدة تُبِينها، ولا عدةَ عليها منه، فللآخر أن يتزوَّجها.
المثال الثامن والخمسون: إذا تزوَّجت المرأة فخافت
(2)
أن يسافر عنها الزوج ويَدَعها، أو يسافر بها ولا تريد الخروج من دارها، أو أن يتزوَّج عليها أو يتسرَّى، أو يشرب [127/أ] المسكر، أو يضربها من غير جُرمٍ، أو تبيَّن فقيرًا وقد ظنته غنيًّا، أو مَعيبًا وقد ظنته سليمًا، أو أميًّا وقد ظنته قارئًا، أو جاهلًا وقد ظنته عالمًا، ونحو ذلك، فلا يُمكنها التخلُّص؛ فالحيلة لها في ذلك كله أن تشترط عليه أنه متى وُجِد شيء من ذلك فأمرُها بيدها، إن شاءت أقامت معه
(3)
وإن شاءت فارقتْه، وتُشهِد عليه بذلك. فإن خافتْ أن لا تشترط ذلك بعد لزوم العقد فلا يمكنها إلزامه بالشرط فلا تأذن لوليها أن يزوِّجها منه إلا على هذا الشرط، فيقول: زوَّجتكما على أن أمرها بيدها إن كان الأمر كيت وكيت؛ فمتى كان الأمر كذلك ملكتْ تطليقَ نفسها. ولا بأس بهذه الحيلة، فإن المرأة تتخلص بها من نكاح من لم ترضَ بنكاحه
(4)
، وتستغني بها عن رفع أمرها إلى الحاكم ليفسخ بالغيبة والإعسار وغيرهما. والله أعلم.
(1)
«على المرأة
…
منكما» ساقطة من ز.
(2)
ك: «فخاف» .
(3)
«معه» ليست في ك.
(4)
ك، ب:«نكاحه» .
المثال التاسع والخمسون: يصح ضمان ما لم يجب كقوله: «ما أعطيتَ لفلان فهو عليَّ» عند الأكثرين، كما دلَّ عليه القرآن في قول
(1)
مؤذِّن يوسف: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72]، والمصلحة تقتضي ذلك، بل قد تدعو إليه الحاجة أو الضرورة. وعند الشافعي لا يجوز، وسلَّم جوازه إذا تبين سبب وجوبه كدرك المبيع.
والحيلة في جوازه على هذا القول أنه إذا رضي بأن يلتزم عنه مقدارًا لم يجب عليه بعد أن يقرَّ المضمون عنه به للدافع ثم يضمنه عنه الضامن. فإن خشي المقرُّ أن يطالبه المقرُّ له بذلك ولا يدفعه إليه، فالحيلة أن يقول: هو عليَّ من ثمن مبيعٍ لم أقبضه. فإن تحرَّج من الإخبار بالكذب فالحيلة أن يبيعه ما يريد أخذه منه بالمبلغ الذي التزم الضامن أداءه، فإذا صار في ذمته ضمنه عنه.
وهكذا الحكم إذا زوَّج ابنه أو عبده أو أجيره وضمن للمرأة نفقتها وكسوتها، فالصحيح في هذا كله جواز الضمان، والحاجة تدعو إليه، ولا محذورَ فيه، وليس بعقد معاوضةٍ فتؤثِّر فيه الجهالة، وعقود الالتزام
(2)
لا تؤثِّر فيها الجهالة كالنذر، ثم يمكن رفع الجهالة بأن يحدَّ له حدًّا فيقول: من درهمٍ إلى كذا وكذا.
فإن قيل: ما بين الدرهم والغاية مجهول لا يدري كم
(3)
يلزمه منه.
(1)
ز: «قوله عن» .
(2)
ك: «الأكثر ام» ، تحريف.
(3)
ك: «لم» .
قيل: لا يقدح ذلك في جواز الالتزام؛ لأنه يتبين في الآخرة
(1)
كم هو الواجب منه، ثم لو أقرَّ بذلك فقال:«له عليَّ ما بين درهمٍ إلى ألف» صح؛ فهكذا إذا قال: «ضمِنتُ عنه ما بين درهمٍ إلى ألف» .
فإن قيل: الضامن فرعٌ على المضمون عنه، فإذا كان الأصل لم يثبت في ذمته شيء فعلى أي شيء ينبني الضمان ويتفرَّع؟
قيل: إنما يصير ضامنًا إذا ثبت في ذمة المضمونِ عنه، وإلا في الحال فليس هو ضامنًا. وإن صح أن يقال:«هو ضامن بالقوة» ففي الحقيقة هو ضمان معلَّق على شرط، وذلك جائز، والله أعلم.
المثال الستون: إذا سبق لسانه بما يؤاخَذ به في الظاهر ولم يُرِد معناه، أو أراده ثم [127/ب] رجع عنه وتاب منه، أو خاف أن يَشهد عليه به شهودُ زورٍ ولم يتكلم به، فرُفِع إلى الحاكم وادُّعِي عليه به، فإن أنكر شهدوا عليه، وإن أقرَّ حكم عليه، ولا سيما إن كان لا يرى قبول التوبة من ذلك؛ فالحيلة في الخلاص أن لا يُقرَّ به ولا يُنكر، فيشهد عليه الشهود، بل يكفيه في الجواب أن يقول:«إن كنتُ قلته فقد رجعتُ عنه، وأنا تائب إلى الله منه» ، وليس للحاكم بعد ذلك أن يقول: لا أكتفي منك بهذا الجواب، بل لا بدَّ من الإقرار أو الإنكار، فإن هذا جواب كافٍ
(2)
في مثل هذه الدعوى، وتكليفُه بعد ذلك خُطَّة الخَسْف بالإقرارِ وقد يكون كاذبًا فيه، أو الإنكارِ وقد تاب منه بينه وبين الله تعالى، فيشهد عليه الشهود= ظلمٌ وباطل؛ فلا يحلُّ للحاكم أن يسأله بعد هذا هل وقع منه ذلك أو لم يقع.
(1)
ك: «الأجرة» .
(2)
ك: «كان» ، تحريف.
بل أبلغُ من هذا لو شهد عليه بالردّة فقال: «لم أزلْ أشهد أن لا إله لا الله وأن محمدًا رسول الله منذ عقلتُ وإلى الآن» لم يُستكشَف عن شيء، ولم يُسأل لا هو
(1)
ولا الشهود عن سبب ردّته، كما ذكره الخرقي في «مختصره»
(2)
وغيرُه من أصحاب الشافعي، فإذا ادُّعي عليه بأنه قال كذا وكذا فقال:«إن كنتُ قلته فأنا تائبٌ إلى الله منه» أو «قد تبتُ منه» اكتُفِي منه
(3)
بهذا الجواب، ولم يُكشَف عن شيء بعد ذلك.
فإن قيل: هذا تعليق للتوبة أو الإسلام بالشرط، ولا يصح تعليقه بشرط.
قيل: هذا من قلة فقه مُورِده؛ فإن التوبة لا تصح إلا على هذا الشرط، تلفَّظ به أو لم يتلفَّظ به
(4)
، وكذلك تجديد الإسلام لا يصح إلا بشرط أن يوجد ما يناقضه، فتلفُّظه بالشرط تأكيدٌ لمقتضى عقدِ التوبة والإسلام. وهذا كما إذا قال: «إن كان
(5)
هذا ملكي فقد بعتُك إياه» فهل يقول أحد: إن هذا بيع معلَّق بشرط فلا يصح؟ وكذلك إذا قال: «إن كانت هذه امرأتي فهي طالق» لا يقول أحد: إنه طلاق معلَّق، ونظائره أكثر من أن تُذكر.
وقد شرع الله لعباده التعليق بالشروط في كل موضع يحتاج إليه العبد، حتى بينه وبين ربه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لضُباعة بنت الزبير وقد شكت إليه
(1)
ك: «إلا هو» ، خطأ.
(2)
انظر: «المختصر» مع شرحه «المغني» (12/ 286، 287).
(3)
«اكتفي منه» ليست في ك.
(4)
«به» ليست في ز.
(5)
«كان» ليست في ك.
وقتَ الإحرام، فقال:«حُجِّي واشترِطي على ربكِ فقولي: إن حبسني حابسٌ فمحلِّي حيث حبستَني، فإن لكِ ما شرطتِ على ربك»
(1)
. فهذا شرطٌ مع الله في العبادة، وقد شرعه على لسان رسوله لحاجة الأمة إليه، ويفيد شيئين: جواز التحلل، وسقوط الهدي.
وكذلك الداعي بالخِيَرة يشترط على ربه في دعائه، فيقول: «اللهم إن كان هذا الأمر خيرًا
(2)
لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدُرْه لي ويسِّره لي»
(3)
، فيعلِّق طلب الإجابة بالشرط لحاجته إلى ذلك لخفاء المصلحة عليه.
وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم اشترط على ربه أيُّما رجلٍ سبَّه أو لعنَه وليس لذلك
(4)
بأهل أن يجعلها كفارةً له وقربةً يقرِّبه بها إليه
(5)
، وهذا تعليق للمدعو به بشرط الاستحقاق.
وكذلك المصلِّي [128/أ] على الميت شُرع له تعليق الدعاء بالشرط، فيقول: اللهم أنت أعلمُ بسرِّه وعلانيته، إن كان محسنًا فتقبَّل حسناتِه، وإن
(1)
رواه البخاري (5089) ومسلم (1207) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
في النسخ: «خير» .
(3)
كما في حديث الاستخارة عند البخاري (1162، 6383، 7390) من حديث جابر رضي الله عنه.
(4)
ك: «كذلك» ، خطأ.
(5)
ورد في هذا الباب عدة أحاديث أقربها إلى لفظ المؤلف حديث أبي هريرة عند البخاري (6361) ومسلم (2601/ 90).
كان مسيئًا فتجاوزْ عن سيئاته
(1)
؛ فهذا طلبٌ للتجاوز عنه بشرطه، فكيف يُمنع تعليق التوبة بالشرط؟ وقال شيخنا: كان يُشكل عليَّ أحيانًا حالُ من أصلي عليه من الجنائز، هل هو مؤمن أو منافق؟ فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فسألته عن مسائل عديدة منها هذه المسألة، فقال: يا أحمد الشرطَ الشرطَ، أو قال: علِّق الدعاء بالشرط.
وكذلك أرشد أمته صلى الله عليه وسلم إلى تعليق الدعاء بالحياة والموت بالشرط، فقال:«لا يتمنَّى أحدكم الموتَ لِضرٍّ نزل به، ولكن ليقلْ: اللهم أَحيِني إذا كانت الحياة خيرًا لي، وتوفَّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي»
(2)
. وكذلك قوله في الحديث الآخر: «وإذا أردتَ بعبادك فتنةً فتوفَّني إليك غيرَ مفتونٍ»
(3)
.
وقال: «المسلمون عند شروطهم، إلا شرطًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا»
(4)
.
وتعليق العقود والفسوخ والتبرعات والالتزامات وغيرها بالشروط أمر قد تدعو إليه الضرورة أو الحاجة أو المصلحة؛ فلا يستغني عنه المكلَّف. وقد صح تعليق النذر بالشرط بالإجماع ونص الكتاب
(5)
، وتعليق الضمان
(1)
رواه مالك (1/ 227) من دعاء أبي هريرة في صلاة الجنازة، وإسناده صحيح، وصححه الألباني في «أحكام الجنائز» (ص 159). وأخرجه ابن أبي شيبة (30471) من دعاء أنس بعد الدفن، وإسناده صحيح.
(2)
رواه البخاري (5671، 6351، 7233) ومسلم (2680) من حديث أنس رضي الله عنه.
(3)
رواه الترمذي (3235) وابن خزيمة في «التوحيد» (55) من حديث معاذ بن جبل، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، ونقل تصحيحه عن البخاري.
(4)
تقدم.
(5)
في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ
…
} [التوبة: 75 - 77].
بالشرط بنص القرآن
(1)
، وتعليق النكاح بالشرط
(2)
في تزويج موسى بابنة صاحب مدين وهو من أصح نكاحٍ على وجه الأرض، ولم يأتِ في شريعتنا ما ينسخه، بل أتت مقرِّرةً له، كقوله صلى الله عليه وسلم:«إنّ أحقَّ الشروط أن تُوفوا به ما استحللتم به الفروج»
(3)
، فهذا صريح في أن حل الفرج بالنكاح قد يعلَّق على شرط، ونصَّ الإمام أحمد على جواز تعليق النكاح بالشرط، وهذا هو الصحيح، كما يعلق الطلاق والجعالة والنذر وغيرها من العقود.
وعلَّق أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه عقد المزارعة بالشرط، فكان يدفع أرضه إلى من يعمل عليها على أنه إن جاء عمر بالبذر فله كذا وإن جاء العامل بالبذر
(4)
فله كذا، ذكره البخاري
(5)
، ولم يخالفه صاحب.
ونصَّ الإمام أحمد على جواز تعليق البيع بالشرط في قوله: إن بعت هذه الجارية فأنا أحقُّ بها بالثمن، واحتج بأنه قول ابن مسعود
(6)
. ورهنَ
(1)
في قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72].
(2)
«بالإجماع
…
بالشرط» ساقطة من ك.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
ك: «بالنذر» ، تصحيف.
(5)
في «صحيحه» (5/ 10 - مع الفتح) معلقًا، وأخرجه ابن أبي شيبة (38171) والبيهقي (6/ 135)، قال الحافظ في «التغليق» (3/ 303 - 304):«هذان خبران مرسلان يتقوى أحدهما بالآخر» .
(6)
رواه مالك (2/ 616) وعبد الرزاق (14291) وأبو يوسف (844) كلهم من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عبد الله بن مسعود، وفيه انقطاع بين عبيد الله و ابن مسعود. انظر:«جامع التحصيل» (ص 232).
الإمام أحمد نعله وقال للمرتهن: إن جئتك بالحق إلى كذا وإلا فهو لك. وهذا بيعٌ بشرط، فقد فعله وأفتى به.
وكذلك تعليق الإبراء بالشرط، نصَّ على جوازه فعلًا منه، فقال لمن اغتابه ثم استحلَّه:«أنت في حلٍّ إن لم تَعُد» ، فقال له الميموني: قد اغتابك وتحلِّله؟ فقال: ألم ترني قد اشترطتُ عليه أن لا يعود؟ والمتأخرون من أصحابه يقولون: لا يصح تعليق الإبراء بالشرط، وليس ذلك موافقًا لنصوصه ولا لأصوله.
وقد علَّق النبي صلى الله عليه وسلم ولاية الإمارة بالشرط
(1)
، وهذا تنبيه على تعليق ولاية الحكم وكل ولاية، وعلى تعليق الوكالة الخاصة والعامة. وقد علَّق أبو بكر تولية عمر رضي الله عنه بالشرط
(2)
، ووافقه عليه سائر الصحابة فلم ينكره منهم رجل واحد.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من باع نخلًا قد أُبِّرت فثمرتها للبائع، إلا أن يشترطها [128/ب] المبتاع»
(3)
، فهذا اشتراطٌ خلاف مقتضى العقد المطلق، وقد
(1)
فقد أمَّر في غزوة مؤتة زيد بن حارثة، وقال:«إن قُتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة» . رواه البخاري (4261) عن عبد الله بن عمر.
(2)
حيث أملى على عثمان بن عفان قبل وفاته: «إني استخلفتُ عليكم بعدي عمر بن الخطاب
…
فإن عدلَ فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بدَّل فلكلِّ امرئ ما اكتسب من الإثم، والخير أردتُ ولا أعلم الغيب». انظر:«طبقات ابن سعد» (3/ 200).
(3)
رواه البخاري (2204، 2206، 2716) ومسلم (1543/ 77 - 79) من حديث نافع عن ابن عمر مرفوعًا. ورواه أيضًا البخاري (2379) ومسلم (1543/ 80) من حديث سالم عن ابن عمر مرفوعًا مع الجزء الثاني المتعلق بالعبد، الآتي ذكره.
جوَّزه الشارع
(1)
.
وقال: «من باع عبدًا وله مالٌ فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع»
(2)
. وفي «السنن»
(3)
عنه: «من أعتق عبدًا وله مالٌ فمال العبد له، إلا أن يشترطه السيد» .
وفي «السنن» و «المسند»
(4)
عن سَفِينة قال: كنت مملوكًا لأم سلمة، فقالت: أعتقتك، واشترطتُ عليك أن تخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عشتَ، فقلتُ: إن لم تشترطي عليَّ ما فارقتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عشتُ، فأعتقتْني واشترطتْ عليَّ.
(1)
«اشتراط
…
الشارع» ساقطة من ك.
(2)
جزء من الحديث السابق.
(3)
رواه أبو داود (3962) والنسائي في «الكبرى» (4961) وابن ماجه (2529) من طريق عبيد الله بن أبي جعفر، عن بكير بن الأشج، عن نافع، عن ابن عمر.
والحديث صححه ابن حزم في «المحلى» (9/ 215) وابن حجر في «موافقة الخبر الخبر» (2/ 393) والألباني في «الإرواء» (1749). ولكن عبيد الله بن أبي جعفر قد تفرد في الحديث بلفظة: «من أعتق» ، والمشهور في حديث ابن عمر:«مَن باع» كما في الحديث المتفق عليه. وقد ضعف هذه اللفظة أبو حاتم في «العلل» (1183)، وأحمد بن حنبل وتبعه ابن قدامة في «المغني» (14/ 397، 457) وابن القيم في «تهذيب السنن» (2/ 456، 3/ 45).
(4)
رواه أحمد (21927، 26711) وأبو داود (3932) والنسائي في «الكبرى» (4976، 4977، 11746) وابن ماجه (2526) وغيرهم من طريق سعيد بن جمهان عن سفينة به. وإسناده حسن من أجل سعيد هذا، وصححه الحاكم (2/ 213، 3/ 606)، وحسَّنه الألباني في «الإرواء» (1752).
وذكر البخاري في «صحيحه»
(1)
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: مقاطع الحقوق عند الشروط ولك ما شرطتَ.
وقال البخاري في باب الشروط في القرض
(2)
: وقال ابن عمر وعطاء: إذا أجَّله في القرض جاز.
(1)
(5/ 322، 9/ 217 - مع الفتح) معلقًا. ورواه سعيد بن منصور (662، 680) وعبد الرزاق (6/ 227) وابن أبي شيبة (16706، 22464) والبيهقي (7/ 249) كلهم من طريق إسماعيل بن عبيد الله، عن عبد الرحمن بن غنم، وهذا إسناد صحيح، صححه الألباني في «الإرواء» (1893)، وضعفه ابن حزم من أجل إسماعيل (8/ 414) ولكن الأئمة وثّقوه، وهو من احتج به الشيخان. وقد علقه بالجزم البخاري (باب الشروط في المهر عند عقدة النكاح).
وقد أخرج البيهقي (7/ 249) عن عمر ما يخالف هذا بلفظ «أن رجلا تزوج امرأة على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وشرط لها أن لا يخرجها فوضع عنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشرط وقال: المرأة مع زوجها» ، وإسناده صحيح، صححه الألباني في «الإرواء» (6/ 304)، وجوَّد إسناده الحافظ في «الفتح» (9/ 189). وقال البيهقي عن هذه الرواية:«الرواية الأولى أشبه بالكتاب والسنة وقول غيره من الصحابة رضي الله عنهم» .
(2)
(5/ 353 - مع الفتح). وأثر ابن عمر أخرجه ابن أبي شيبة (23210) من طريق حجاج عن عطاء بلفظ: «كان ابن عمر يستقرض، فإذا خرج عطاؤه أعطاه خيرًا منها» ، وسنده ضعيف من أجل عنعنة حجاج، وأخرج ابن ابي شيبة (23218) من طريق هشام الدستوائي، عن القاسم بن أبي بزة، عن عطاء بن يعقوب، قال: استسلف مني ابن عمر ألف درهم فقضاني دراهم أجود من دراهمي، فقال: ما كان فيها من فضل، فهو نائل مني إليك، أتقبله؟ قلت: نعم. وهذا إسناد صحيح، ومثله في «الموطأ» (2/ 681) بإسناد صحيح. وأثر عطاء أخرجه عبد الرزاق كما في «تغليق التعليق» (3/ 322)، وليس في المطبوع من المصنّف من طريق ابن جريج عن عطاء.
وقال في باب ما يجوز من الاشتراط والثُّنيا في الإقرار والشروط التي يتعارفها الناس بينهم
(1)
: وقال ابن عون عن ابن سيرين قال: قال رجلٌ لكَرِيِّه: أَرحِلْ
(2)
رِكابَك، فإن لم أرحَلْ معك يومَ كذا وكذا فلك مائة درهم، فلم يخرج، فقال شريح: من شرطَ على نفسه طائعًا غيرَ مُكْرهٍ فهو عليه
(3)
. وقال أيوب عن ابن سيرين: إن رجلًا باع طعامًا وقال: إن لم آتِك الأربعاءَ فليس بيني وبينك بيعٌ
(4)
، فقال للمشتري: أنت أخلفتَه، فقضى عليه
(5)
.
وقال في باب الشروط في المهر
(6)
: وقال المِسْوَر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر صِهْرًا له فأثنى عليه في مصاهرته فأحسنَ، فقال:«حدَّثني فصَدَقني، ووعدني فوَفَى لي» . ثم ذكر فيه حديث: «أحقُّ الشروط أن تُوفوا به ما استحللتم به الفُروجَ»
(7)
.
وقال في كتاب الحرث
(8)
: وعاملَ عمرُ الناسَ على إن جاء عمر بالبذر
(1)
(5/ 354 - مع الفتح).
(2)
كذا في النسخ، وهو الصواب. وفي المطبوع نقلًا عن طبعة البخاري مع «الفتح»:«أدخِلْ» وهو بعيد. ومعنى «أرْحِل رِكابَك» : ضَعْ على الإبل رحالَها للسفر.
(3)
رواه سعيد بن منصور كما في «تغليق التعليق» (3/ 415) من طريق هشيم عن ابن عون.
(4)
«بيع» ليست في ك.
(5)
رواه سعيد بن منصور كما في «تغليق التعليق» (3/ 415) من طريق سفيان عن أيوب، وهذا الإسناد في غاية الصحة.
(6)
«صحيح البخاري» (5/ 322 - مع الفتح).
(7)
رقم (2721).
(8)
(5/ 10 - مع الفتح).
من عنده فله
(1)
الشطر، وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا
(2)
.
وهذا صريح في جواز: «إن خِطْتَه اليومَ فلك كذا، وإن خِطْتَه غدًا فلك كذا» ، وفي جواز:«بعتُكه بعشرةٍ نقدًا أو بعشرين نسيئةً» ، فالصواب جواز هذا كله للنص والآثار والقياس.
وقال جابر: بعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعيرًا، واشترطتُ حُملانَه إلى أهلي
(3)
.
وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عبد الرحمن بن فرُّوخ عن نافع بن عبد الحارث عاملِ عمرَ على مكة أنه اشترى من صفوان بن أمية دارًا لعمر بن الخطاب بأربعة آلاف درهم، واشترط عليه نافع إن رضي عمر فالبيع له، وإن لم يرضَ فلصفوانَ أربعُ مائة درهم
(4)
.
ومن هاهنا قال أحمد: لا بأس ببيع العربون؛ لأن عمر فعله، وأجاز هذا البيعَ والشرطَ فيه مجاهد
(5)
ومحمد بن سيرين
(6)
وزيد بن أسلم
(7)
(1)
ز: «فلهم» وكذا في المطبوع. والمثبت من ك والبخاري.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
رواه البخاري (2718).
(4)
رواه عبد الرزاق (9213) وابن أبي شيبة (23662) والبيهقي (6/ 34) كلهم من طريق ابن فروخ.
(5)
رواه ابن أبي شيبة (23658) من طريق ابن عيينة عن ابن أبي نجيح، وهو إسناد صحيح.
(6)
رواه ابن أبي شيبة (23659، 23663) من طريق يزيد، عن هشام، عن ابن سيرين، وهو إسناد صحيح.
(7)
رواه ابن أبي شيبة (23656) من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم مرسلًا، ورواه عبد الرزاق كما في «التمهيد» (24/ 179) من طريق الأسلمي عن زيد مرسلًا.
ونافع بن عبد الحارث، وقال أبو عمر
(1)
: وكان زيد بن أسلم يقول: أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر الإمام أحمد أن محمد بن مَسلمة الأنصاري اشترى من نَبطيٍّ حُزمةَ حطبٍ، واشترط عليه حمْلَها إلى قصر سعد
(2)
. واشترى عبد الله بن مسعود جارية من امرأته وشرطتْ عليه أنه إن باعها فهي لها بالثمن
(3)
. وفي ذلك اتفاقهما على صحة البيع والشرط، ذكره الإمام أحمد وأفتى به.
والمقصود أن للشروط عند الشارع شأنًا ليس عند كثير من [129/أ] الفقهاء؛ فإنهم يُلغون شروطًا لم يُلغِها الشارع، ويُفسدون بها العقد من غير مفسدة تقتضي فساده، وهم متناقضون فيما يقبل التعليق بالشروط من العقود وما لا يقبله؛ ليس لهم ضابط مطَّرد منعكس يقوم عليه دليل؛ فالصواب الضابط الشرعي الذي دلَّ عليه النص أن كل شرط خالف حكم الله وكتابه فهو باطل، وما لم يخالف حكمه فهو لازم.
يوضِّحه أن الالتزام بالشرط كالالتزام بالنذر، والنذر لا يَبطُل منه إلا ما خالف حكم الله، بل الشرط
(4)
في حقوق العباد أوسعُ من النذر في حق الله،
(1)
في «التمهيد» (24/ 179) و «الاستذكار» (6/ 264) ط. دار الكتب العلمية. وزاد ابن عبد البر بعد ذكر قول زيد بن أسلم: وهذا لا يُعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجهٍ يصح.
(2)
رواه إسحاق بن راهويه كما في «المطالب العالية» (2/ 384) ضمن قصة طويلة، وفي إسناده انقطاع.
(3)
رواه مالك في «الموطأ» (2/ 616) من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن مسعود، وفيه انقطاع بين عبيد الله وابن مسعود.
(4)
ز: «الشروط» .
والالتزام به أوسع من الالتزام بالنذر.
وإنما بُسِط القول في هذا؛ لأن باب الشروط يدفع أكثر حيل المتحيلين، ويجعل للرجل مخرجًا مما يخاف منه ومما
(1)
يضيق عليه؛ فالشرط الجائز بمنزلة العقد، بل هو عقد وعهد، وقد قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وقال:{وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة: 177].
وهاهنا قضيتان كلّيتان من قضايا الشرع الذي بعث الله به رسوله.
إحداهما: أن كل شرط خالف حكم الله وناقض كتابه فهو باطل كائنًا ما كان.
والثانية: أن كل شرط لا يخالف حكمه ولا يناقض كتابه، وهو ما يجوز بذلُه وفعلُه بدون الشرط، فهو لازم بالشرط.
ولا يُستثنى من هاتين القضيتين شيء
(2)
، وقد دلَّ عليهما كتاب الله وسنة رسوله واتفاق الصحابة، ولا يُعبأ
(3)
بالنقض
(4)
بالمسائل المذهبية والأقوال الآرائية، فإنه لا يهدم قاعدة من قواعد الشرع؛ فالشروط في حق المكلفين كالنذر في حقوق رب العالمين، فكل طاعةٍ جاز فعلها قبل النذر لزمت بالنذر، وكذلك كل شرطٍ جاز بذله بدون الاشتراط لزم بالشرط، فمقاطعُ
(1)
«ومما» ليست في ك.
(2)
«فهو لازم
…
شيء» ساقطة من ك.
(3)
كذا في النسختين. وفي المطبوع: «ولا تعبأ» .
(4)
ز: «بالبعض» ، تصحيف.
الحقوق عند الشروط.
وإذا كان من علامات النفاق إخلاف الوعد وليس بمشروط، فكيف الوعد المؤكَّد بالشرط؟ بل ترك الوفاء بالشرط يدخل في الكذب والخُلف والخيانة والغدر، وبالله التوفيق.
المثال الحادي والستون: إذا باعه جاريةً معيبة وخاف من ردِّها عليه بالعيب فليبيِّن له من
(1)
عيبها ويشهد أنه دخل عليه، فإن خاف ردَّها بعيب آخر لا يعلمه البائع فليعيِّن له عيوبًا يدخل في حكمها وأنه رضي بها كذلك، فإن كان العيب غير متصور ولا داخلٍ في جملة تلك العيوب فليقل:«وأنك رضيتَ بها بجملة ما فيها من العيوب التي تُوجِب الردّ» مقتصرًا على ذلك. ولا يقلْ: «وأنك أسقطتَ حقَّك من الردّ» ، ولا:«أبرأتَني من كل دعوى تُوجب الردَّ» ، ولا يبيعها بشرط البراءة من كل عيب؛ فإن هذا لا يُسقط الرد عند كثير من الفقهاء، وهي مسألة البيع بالبراءة من العيوب.
وللشافعي فيها ثلاثة أقوال؛ أحدها: صحة البيع والشرط، والثاني: صحة البيع وفساد الشرط وأنه لا يبرأ من شيء من العيوب، والثالث: أنه يبرأ من العيوب الباطنة في الحيوان خاصة دون غيرها.
والمشهور من مذهب مالك
(2)
جواز العقد والشرط، وأنه يبرأ من جميع العيوب. وهل يعمُّ ذلك جميعَ المبيعات أو [129/ب] يخصّ بعضها؟
(1)
«من» ليست في ك.
(2)
ما ذكره المؤلف هنا من مذهب مالك وأصحابه أكثره منقول من «عقد الجواهر الثمينة» (2/ 480 وما بعدها).
فذكر ابن حبيب عن مالك وابن وهب أنه يعمُّ جميعَ المبيعات عرضًا كان المبيع أو حيوانًا. وعنه أنه يختص ببعض المبيعات.
واختُلف عنه في تعيينه، فالذي في «الموطأ»
(1)
عنه أنه يختصُّ بالحيوان ناطقًا كان أو بهيمًا. والذي في «التهذيب»
(2)
اختصاصه بناطق الحيوان.
قالوا: وعلى المذهب في صحة ذلك مطلقًا، فبيع السلطان وبيع الميراث إذا علم أنه ميراثٌ جاري
(3)
مجرى بيع البراءة وإن لم يشترط، وعلى هذا فإذا قال: أبيعك بيع الميراث لا قيام بعيب صحَّ ذلك ويكون بيع براءة؛ وفي الميراث لا يحتاج إلى ذكره.
قالوا: وإذا قلنا إن البراءة تنفع فإنما منفعتها في امتناع الرد بعيب لم يعلم به البائع؛ وأما ما علم به البائع فإن شرط البراءة لا يمنع ردَّ المشتري به إذا لم يكن عالمًا به وقتَ العقد؛ فإذا ادعى المشتري علم البائع فأقرَّ أو نكلَ بعد توجُّه اليمين عليه توجَّه الرد عليه.
قالوا: ولو ملك شيئًا ثم باعه قبل أن يستعمله بشرط البراءة لم ينفعه ذلك، حتى يستعمله ويستبرئه ثم يبيعه بشرط البراءة.
قال في «التهذيب»
(4)
: في التجَّار يَقدَمون بالرقيق فيبيعونه بالبراءة ولم
(1)
(2/ 614).
(2)
(3/ 380) للبراذعي.
(3)
كذا بإثبات الياء في جميع النسخ، وهو جائز في العربية.
(4)
انظر: «المدونة» (4/ 349).
تطُلْ إقامة الرقيق عندهم: هؤلاء يريدون أن يذهبوا بأموال الناس باطلًا، لا تنفعهم البراءة.
وقال عبد الملك وغيره: لا يشترط استعلامه ولا طولُ مقامه عنده، بل تنفعه البراءة كما تنفعه مع الطول والاستعلام.
قالوا: وإذا كان في المبيع عيب يعلمه البائع بعينه فأدخله في جملة عيوب ليست موجودة، وتبرَّأ منها كلها، لم يبرأ منه حتى يُفرده بالبراءة ويعيِّن موضعه وجنسه ومقداره بحيث لا يبقى للمبتاع فيه قول.
قالوا: وكذلك لو أراه العيب وشاهده لم يبرأ منه، إذا كان ظاهره لا يستلزم الإحاطة بباطنه وباطنُه فيه فساد آخر، كما إذا أراه دَبَرَةَ
(1)
البعير وشاهدها وهي مُنْغِلةٌ مفسدة، فلم يذكر له ما فيها من نَغَلٍ وغيره، ونظائر ذلك.
قالوا: وكذلك لو أخبره أن به إباقًا أو سرقةً، وهو إباقٌ بعيدٌ أو سرقة عظيمة والمشتري يظنه يسيرًا، لم يبرأ حتى يبيّن له ذلك.
قال أبو القاسم بن الكاتب: لا يختلف قول مالك في أن بيع السلطان بيع براءة على المفلس أو لقضاء ديون من تركة ميت بيع براءة أيضًا وإن لم يشترطها. قال: وإنما كان كذلك؛ لأنه حكم منه بالبيع، وبيع البراءة مختلف فيه، فإذا حكم السلطان بأحد أقوال العلماء لم تُردَّ قضيته عند من يرى خلاف رأيه فيما
(2)
حكم به.
(1)
الدَّبَرة: قرحة الدابة.
(2)
في النسخ: «فما» . والتصويب من «عقد الجواهر» .
وردّ ذلك عليه المازري وغيره، وقالوا: السلطان لم يتعرض في البيع إلى خلافٍ ولا وفاق، ولا قصد إلى حكمه يرفع النزاع، وقد حكى بعض الشيوخ الخلاف في بيع البراءة ولو تولّاه السلطان بنفسه. قال: وذلك لأن سحنون قال: وكان قول مالك القديم أن بيع السلطان وبيع الوارث لا قيامَ فيه بعيبٍ ولا بعهدة. قال: وهذا يدل على أن له قولًا آخر خلاف هذا. قال: ويدل عليه أن ابن القاسم [130/أ] قال: إذا بيع عبد على مفلس فإن للمشتري أن يردَّه بالعيب
(1)
، قال: والصواب أن بيع السلطان وبيع الورثة كغيرهما.
قال المازري: أما بيع الورثة لقضاء ديونه وتنفيذ وصاياه فإن فيه الخلاف المشهور. قال: وأما ما باعوه لأنفسهم للانفصال من شركة بعضهم لبعض فملتحق ببيع الرجل مالَ نفسه بالبراءة، وكذلك من باع للإنفاق على مَن
(2)
في ولايته.
قلت: وقول المازري: «إن بيع السلطان لا تعرُّضَ فيه لحكمٍ» مبني على أصل، وهو أن الحاكم إذا عقد بنفسه عقدًا مختلَفًا فيه هل يكون بمنزلة حكمه به فيسوغ تنفيذه ولا يسوغ رده، أو لا يكون حكمًا منه به
(3)
فيسوغ لحاكمٍ آخر خلافُه؟ وفي هذا الأصل قولان للفقهاء، وهما في مذهب أحمد وغيره. فهذا تقرير مذهب مالك في هذه المسألة.
وأما مذهب أبي حنيفة: فإنه يصحِّح البيع والشرط، ولا يمكن المشتري
(1)
في النسختين: «بالبيع» . والتصويب من «عقد الجواهر» .
(2)
«من» ليست في ك.
(3)
«فيسوغ
…
منه به» ساقطة من ب.
من الردّ بعد اشتراط
(1)
البراءة العامة، سواء علم البائع العيب أو لم يعلمه، حيوانًا كان المبيعُ أو غيره، وتناظر في هذه المسألة أبو حنيفة وابن أبي ليلى، فقال ابن أبي ليلى: لا يبرأ إلا من عيب أشار إليه ووضع يده عليه
(2)
، فقال أبو حنيفة: فلو أن امرأة من قريش باعت عبدًا زنجيًّا على ذَكَرِه عيبٌ أفتضع أصبعها على ذَكَرِه؟ فسكت ابن أبي ليلى.
وأما مذهب الإمام أحمد فعنه ثلاث روايات
(3)
:
إحداهن: أنه لا يبرأ بذلك، ولا يسقط حقُّ المشتري من الردّ بالعيب إلا من عيبٍ عيَّنه وعلم به المشتري.
والثانية: أنه يبرأ مطلقًا.
والثالثة: أنه يبرأ من كل عيبٍ لم يعلمه، ولا يبرأ من كل عيب عَلِمه حتى يعلم به المشتري.
فإن صححنا البيع والشرط فلا إشكال، وإن أبطلنا الشرط فهل يبطل البيع أو يصح ويثبت الردّ؟ فيه وجهان، وإذا أثبتنا الردَّ وأبطلنا الشرط فللبائع الرجوع بالتفاوت الذي نقص من ثمن السلعة بالشرط الذي لم يسلم له؛ فإنه إنما باعها بذلك الثمن بناء على أن المشتري لا يردُّها عليه بعيب، ولو علم
(1)
ك: «اشتراطه» .
(2)
ذكر الشافعي في «اختلاف العراقيين» ضمن «الأم» (8/ 225) هذه المسألة، ونقل عن ابن أبي ليلى أنه كان يقول: لا يبرأ من ذلك حتى يسمي العيوب كلها بأسمائها، ولم يذكر أن يضع يده عليها.
(3)
انظر: «المغني» (12/ 264، 265).
أن المشتري يتمكَّن من ردِّها لم يبعها بذلك الثمن؛ فله الرجوع بالتفاوت. وهذا هو العدل وقياس أصول الشريعة؛ فإن المشتري كما يرجع بالأَرْش عند فوات غرضه من سلامة المبيع فهكذا البائع يرجع بالتفاوت عند فوات غرضه من الشرط الذي أبطلناه عليه.
والصحيح في هذه المسألة ما جاء عن الصحابة؛ فإن عبد الله بن عمر باع زيد بن ثابت عبدًا بشرط البراءة بثمان مائة درهم، فأصاب به زيدٌ عيبًا، فأراد ردَّه على ابن عمر، فلم يقبله، فترافعا إلى عثمان، فقال عثمان لابن عمر: تَحلِف أنك لم تعلم بهذا العيب، فقال: لا، فردَّه عليه، فباعه ابن عمر بألف درهم. ذكرها الإمام أحمد وغيره
(1)
. وهذا اتفاقٌ منهم على صحة البيع وجواز شرط البراءة، واتفاقٌ من عثمان وزيد على أن البائع إذا علم بالعيب لم ينفعه شرط البراءة، وعلى أن المدَّعى عليه متى نكَلَ عن اليمين قُضي عليه بالنكول، ولم تُردَّ اليمين على المدعي. لكن هذا فيما إذا كان المدعى عليه منفردًا بمعرفة الحال، فإذا لم يحلف مع كونه عالمًا بصورة الحال قضي عليه بالنكول، وأما [130/ب] إذا كان المدعي هو المنفرد بالعلم بالحال أو كان مما لا يخفى عليه علمها رُدَّت عليه اليمين:
فمثال الأول قضية ابن عمر هذه، فإنه هو العالم بأنه هل كان يعلم العيب
(1)
رواه صالح عن أبيه في «مسائله» (2/ 39)، وعبد الله بن أحمد في «مسائله» (ص 276)، ورواه أيضًا مالك (2/ 613) وعبد الرزاق (14722) وابن أبي شيبة (21201، 21504، 22226) والبيهقي (5/ 328) من طريق يحيى بن سعيد، عن سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر بنحوه، وليس فيه ذكر زيد بن ثابت، وإسناده صحيح.
أو لا يعلمه، بخلاف زيد بن ثابت، فإنه لا يعلم علم ابن عمر بذلك، ولا عدم علمه، فلا يُشرَع ردُّ اليمين
(1)
عليه.
ومثال الثاني: إذا ادعى على وارث ميت أنه أقرض مورثه
(2)
مائة درهم أو باعه سِلعةً ولم يقبضه ثمنها أو أودعه
(3)
وديعة والوارث غائب لا يعلم ذلك، وسأل إحلافه، فنكل عن اليمين، لم يُقْضَ عليه بالنكول، ورُدَّت اليمين على المدعي؛ لأنه منفرد بعلم ذلك، فإذا لم يحلف لم يُقْضَ له.
ومثال الثالث: إذا ادعى عليه أنه باعه أو آجرَه فنكلَ عن اليمين، حلف المدعي وقُضِي له، فإن لم يحلف لم يُقضَ له بنكول المدعى عليه؛ لأنه عالم بصحة ما ادعاه، فإذا لم يحلف ولم يقم له
(4)
بينة لم يكن مجردُ نكولِ خصمِه مصححًا لدعواه.
فهذا التحقيق أحسن ما قيل في مسألة النكول وردِّ اليمين، وعليه تدلُّ آثار الصحابة ويزول عنها الاختلاف، ويكون هذا في موضعه وهذا في موضعه.
وعرف حذيفة
(5)
جملًا له فادَّعاه، فنكلَ المدَّعى عليه، وتوجهت اليمين على حذيفة، فقال: أتُراني أترك جملي؟ فحلف بالله أنه ما باع ولا
(1)
ك: «الثمن» ، تحريف.
(2)
ك: «موروثه» .
(3)
«مئة درهم
…
أودعه» ساقطة من ك.
(4)
«له» ليست في ك.
(5)
«حذيفة» ساقطة من ك.
وهبَ
(1)
.
وقد ثبت تحليف المدَّعي إذا أقام شاهدًا واحدًا، والشاهد أقوى من النكول، فتحليفه مع النكول أولى. وقد شرع الله ورسوله تحليف المدَّعي في أيمان القسامة؛ لقوة جانبه باللَّوث، فتحليفه
(2)
مع النكول أولى. وكذلك شرع تحليف الزوج في اللعان، وكذلك شرع تحليف المدعي إذا كان شاهد الحال يصدِّقه، كما إذا تداعيا متاع البيت أو تداعى النجّار والخيّاط آلة كل منهما، فإنه يُقضى لمن تدلُّ الحال على صحة دعواه مع يمينه. وقد رُوي في حديث مرفوع أن النبي صلى الله عليه وسلم ردَّ اليمين على طالب الحق، ذكره الدارقطني وغيره
(3)
.
(1)
رواه عبد الرزاق (16055) وابن أبي شيبة (20978) والدارقطني (4596) والبيهقي (10/ 179) من طريق حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي عن الحسن بن صالح عن الأسود بن قيس عن حسان بن ثمامة قال: زعموا أن حذيفة عرف جملًا له سُرق، فخاصم فيه إلى قاضي المسلمين، فصارت على حذيفة يمين في القضاء، فأراد أن يشتري يمينه فقال: لك عشرة دراهم، فأبى، فقال: لك عشرون، فأبى، قال: فلك ثلاثون، فأبى، فقال لك أربعون، فأبى، فقال حذيفة: أتركُ جملي؟ فحلف أنه جمله ما باعه ولا وهبه. رجاله ثقات غير حسان، لم أجد له ترجمة.
(2)
ز: «فيحلفه» .
(3)
رواه الدارقطني (4490) والحاكم (4/ 100) والبيهقي (10/ 184) من طريق محمد بن مسروق عن إسحاق بن الفرات عن ليث بن سعد عن نافع عن ابن عمر. وهذا الإسناد ضعيف من أجل محمد بن مسروق، ضعفه البيهقي وعبد الحق في «الأحكام الوسطى» (6/ 288) وابن القطان في «بيان الوهم والإيهام» (3/ 219) وابن عبد الهادي في «التنقيح» (3/ 543)، وابن حجر في «التلخيص» (4/ 1594)، وغيرهم.
وهذا محض الفقه والقياس؛ فإنه إذا نكَلَ قوِيَ جانب المدَّعي وظُنّ صدقه، فشُرِع اليمين في حقه؛ فإن اليمين إنما شُرعت في جانب المدَّعى عليه لقوة جانبه بالأصل. فإذا شهد الشاهد الواحد ضعُف هذا الأصل، ولم تتمكن قوته من الاستقلال، فقوِيَ جانب المدعي باليمين. وهكذا إذا نكلَ ضعُف أصل البراءة، ولم يكن النكول مستقلًّا بإثبات الدعوى؛ لجواز أن يكون لجهله بالحال، أو لتورُّعه عن اليمين، أو للخوف من عاقبة اليمين، أو لموافقة قضاء وقدرٍ؛ فيظنّ الظانّ أنه بسبب اليمين، أو لترفُّعه
(1)
عن ابتذاله باستحلاف خصمه له مع علمه بأنه لو حلف كان صادقًا، وإذا احتمل نكولُه هذه الوجوه لم يكن مستقلًّا؛ بل غايته أن يكون مقوِّيًا لجَنْبة المدعي فيُردُّ
(2)
اليمين عليه. ولم تكن هذه المسألة مقصودةً، وإنما جرَّ إليها الكلام في أثر ابن عمر وزيد في مسألة البراءة.
وقد عُلم حكم هذا الشرط، وأين ينتفع به البارُّ، وأين لا ينتفع به.
وإن
(3)
قيل: فهل ينفعه أن يشترط على [131/أ] المشتري أنه متى ردَّه فهو حرٌّ أم لا ينفعه؟ وإذا خاف توكيله في الردّ استوثقَ منه بقوله: «متى رددته أو وكَّلت في رده» ، فإن خاف من ردِّ الحاكم عليه حيث يردُّه بالشرع فلا يكون المشتري هو الرادّ ولا وكيله، بل الحاكم المنفِّذ للشرع، فاستوثق منه بقوله:«إذا ادَّعيت رده فهو حرٌّ» ، فهنا تصعب الحيلة على الردّ، إلا على مذهب أبي ثور وأحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد ــ وهو إجماع
(1)
ز: «لرفعه» .
(2)
ك، ب:«فرد» .
(3)
ك، ب:«فان» .
الصحابة ــ أن تعليق العتق متى قصد به الحضّ أو المنع فهو يمينٌ، حكمه حكم اليمين بالحج والصوم والصدقة، وحكمُ ما لو قال:«إن رددته فعليَّ أن أُعتقه» بل أولى بعدم
(1)
العتق، فإن هذا نذر قربة، ولكن إخراجه مُخرَجَ اليمين منع لزوم الوفاء به، مع أن الالتزام به أكثر من الالتزام بقوله:«فهو حرٌّ» ، فكلُّ ما في التزام قوله:«فهو حرٌّ» فهو داخل في التزام: «فعليَّ أن أُعتقه» ولا ينعكس، فإن قوله:«فعليَّ أن أُعتقه» يتضمَّن وجوبَ الإعتاق وفعلَ العتق ووقوعَ الحرية. فإذا منع قصد الحضّ أو المنع وقوع ثلاثة أشياء فلأن يمنع وقوع واحد منها أولى وأحرى. وهذا لا جواب عنه.
وهو مما يبيِّن
(2)
فضل فقه الصحابة، وأن بين فقههم وفقهِ مَن بعدهم كما بينهم وبينهم، وحتى لو لم يصح ذلك عنهم لكان هذا محضَ القياس ومقتضى قواعد الشرع وأصوله من أكثر من عشرين وجهًا لا تخفى على متحرٍّ
(3)
تتبعُها. ويكفي قول فقيه الأمة وحَبْرها وترجمان القرآن ابن عباس: «العتق ما ابتُغِي به وجهُ الله، والطلاق ما كان عن وَطَرٍ»
(4)
، فتأمَّلْ هاتين الكلمتين الشريفتين الصادرتين عن علمٍ قد رسخ أسفله، وبَسَقَ
(5)
أعلاه، وأينعَتْ ثمرته، وذُلِّلت للطالب قطوفُه، ثم حكِّم الكلمتين
(6)
على أيمان
(1)
ك: «يقدم» ، تحريف.
(2)
ك: «بين» .
(3)
ك: «مستحر» . وفي المطبوع: «متبحر» .
(4)
علَّقه البخاري (9/ 388 - مع الفتح)، ولم أجد مَن وصله. انظر:«تغليق التعليق» (4/ 455).
(5)
في النسخ: «سبق» ، والمثبت من المطبوع. وبَسَق: زاد ارتفاعه.
(6)
كذا في النسخ وهو صواب، وفي المطبوع:«احكم بالكلمتين» .
الحالفين بالعتق والطلاق، هل تجد الحالف بهذا ممن يبتغي به
(1)
وجه الله والتقرُّب إليه بإعتاق هذا العبد؟ وهل تجد الحالف بالطلاق ممن له وَطَرٌ في طلاق زوجته؟ فرضي الله عن حَبْر الأمة، لقد شَفَتْ كلمتاه هاتان الصدورَ، وطبَّقتا المفصلَ، وأصابتا المَحَزَّ، وكانتا برهانًا على استجابة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم له أن يعلِّمه الله التأويل ويفقِّهه في الدين
(2)
.
ولا
(3)
يُوحِشنَّك من قد أقرَّ على نفسه هو وجميع أهل العلم أنه ليس من أولي العلم، فإذا ظَفِرتَ برجل من أولي العلم طالبٍ للدليل مُحكِّم له متبعٍ للحق حيث كان وأين كان ومع من كان زالت الوحشة وحصلت الألفة، ولو خالفك فإنه يخالفك ويعذرك، والجاهل الظالم يخالفك بلا حجة ويكفِّرك أو يبدِّعك بلا حجة، وذنبك رغبتُك عن طريقته الوخيمة وسيرتِه الذميمة، فلا تغترَّ بكثرة هذا الضرب، فإن الآلاف المؤلَّفة منهم لا يُعدَلون بشخص واحد من أهل العلم، والواحد
(4)
من أهل العلم يُعدَل بمِلْء الأرض منهم.
واعلم أن الإجماع والحجة والسواد الأعظم هو العالِم صاحب الحق، وإن كان وحده، وإن خالفه أهل الأرض. قال عمرو بن ميمون الأودي: صحبتُ معاذًا باليمن، فما فارقته حتى واريتُه في التراب [131/ب] بالشام، ثم صحبتُ مِن بعده أفقهَ الناس عبد الله بن مسعود، فسمعته يقول: عليكم
(1)
«به» ليست في ز، ب.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
قبلها في النسختين: «فان» . وكُتب عليها «كذا» . ولعلها خطأ من ناسخ الأصل، بقي كما هي.
(4)
ك: «واحد» .
بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة. ثم سمعته يومًا من الأيام وهو يقول: سيَلي عليكم ولاة يؤخِّرون الصلاة عن مواقيتها، فصلُّوا الصلاة لميقاتها فهي الفريضة، وصلُّوا معهم فإنها لكم نافلة. قال: قلتُ يا أصحاب محمد ما أدري ما تحدثون
(1)
، قال: وما ذاك؟ قلت: تأمرني بالجماعة وتحضُّني عليها ثم تقول لي
(2)
: صلِّ الصلاة وحدك وهي الفريضة، وصلِّ مع الجماعة وهي نافلة. قال: يا عمرو بن ميمون، قد كنتُ أظنُّك من أفقه أهل هذه القرية، تدري ما الجماعة؟ قلت: لا، قال: إن جمهور الجماعة هم الذين فارقوا الجماعة، الجماعة
(3)
ما وافق الحق وإن كنتَ وحدَك. وفي لفظ آخر: فضرب على فخذي وقال: ويحك، إن جمهور الناس فارقوا الجماعة، وإن الجماعة ما وافق طاعة الله عز وجل.
وقال نُعيم بن حماد: إذا فسدت الجماعةُ فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن يفسدوا، وإن كنت وحدَك، فإنك أنت الجماعة حينئذٍ. ذكرهما البيهقي
(4)
وغيره.
(1)
في النسخ: «تحدثوه» . والمثبت من المصادر.
(2)
«لي» ليست في ك.
(3)
«الجماعة» ليست في ك، ب.
(4)
في «المدخل» كما عزاه إليه أبو شامة في «الباعث» (ص 91). وسياق الخبرين موافق لما عند أبي شامة. وقد رواهما ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (46/ 408 - 409) من طريق البيهقي، وذكرهما أيضًا المزي في «تهذيب الكمال» (22/ 264 - 265) في ترجمة عمرو بن ميمون الأودي. وقد روى الأثر الأول أحمد (22020) وأبو داود (432) وابن حبان (1481) بنحوه إلى قوله:«وصلوا معهم فإنها لكم نافلة» ، دون محل الشاهد من القصة.
وقال بعض أئمة الحديث وقد ذُكر له السواد الأعظم، فقال: تدري مَن السواد الأعظم؟ هو محمد بن أسلم الطوسي وأصحابه
(1)
.
فمسخ المتخلفون
(2)
الذين جعلوا السواد الأعظم والحجة والجماعة هم الجمهور، وجعلوهم
(3)
عِيارًا على السنة، وجعلوا السنة بدعةً، والمعروف منكرًا، لقلة أهله وتفرُّدهم في الأعصار والأمصار، وقالوا: من شذَّ شذَّ الله به في النار. وما عرف المتخلفون أن الشاذَّ ما خالف الحق وإن كان عليه الناس كلهم إلا واحدًا منهم فهم الشاذُّون.
وقد شذَّ الناس كلهم زمنَ أحمد بن حنبل إلا نفرًا يسيرًا
(4)
؛ فكانوا هم الجماعة، وكانت القضاة حينئذٍ والمفتون والخليفة وأتباعه
(5)
كلهم هم الشاذُّون، وكان الإمام أحمد وحده هو الجماعة. ولما لم يَحْمِل هذا عقول الناس قالوا للخليفة: يا أمير المؤمنين أتكون أنت وقضاتك ووُلاتك والفقهاء والمفتون كلهم على الباطل وأحمد وحدَه على الحق؟ فلم يتَّسع علمه لذلك؛ فأخذه بالسياط والعقوبة بعد الحبس الطويل. فلا إله إلا الله، ما أشبهَ الليلةَ بالبارحة! وهي السبيل المَهْيَع لأهل السنة والجماعة حتى يَلْقَوا ربَّهم، مضى عليها سلفهم، وينتظرها خلفهم: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا
(1)
انظر: «حلية الأولياء» (9/ 239) و «السير» (12/ 197). والقائل إسحاق بن راهويه.
(2)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «المختلفون» .
(3)
ك: «وجعلهم» .
(4)
ز: «نفر يسير» .
(5)
ز: «تباعه» . وهو جمع تابعٍ على وزن فُعَّال. والأَتباع جمع تَبَع.
عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23] ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(1)
.
المثال الحادي والستون
(2)
: إذا وقعت الفرقة البائنة بين الزوجين لم تَجب لها عليه نفقة ولا سكنى بسنة
(3)
رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الصريحة
(4)
، فإن خاف أن ترفعه إلى حاكم يرى وجوب ذلك عليه
(5)
فالحيلة أن يتغيَّب مدةَ العدة، فإذا رفعتْه بعد ذلك لم يحكم بها عليه؛ لأنها تسقط عنه
(6)
بمضيِّ الزمان، كما يقوله الأكثرون في نفقة القريب، وكما هو متفق عليه في نفقة العبد والحيوان البهيم. ولا كراهةَ في هذه الحيلة؛ لأنها وسيلة إلى إسقاط ما أسقطه الله ورسوله، بخلاف الحيلة على إسقاط ما أوجبه الله، فهذه لون وتلك لون.
فإن لم [132/أ] تُمكِنه الغَيبةُ وأمكنه أن يرفعها إلى حاكم يحكم بسقوط ذلك فعل. والحيلة في أن يتوصل إلى حكم الحاكم بذلك أن يُنشئ الطلاق أو يُقرّ به بحضرته، ثم يسأله الحكمَ بما يراه من سقوط النفقة والسكنى بهذه
(1)
بعد الآية بياض في ز.
(2)
كذا في ك: «المثال الحادي والستون» . وهو تكرار للرقم السابق، ويستمر إلى ما بعد في النسختين، فلم نغيِّره. وفي ز هنا بياض.
(3)
ك: «لسنة» .
(4)
يشير بذلك إلى قصة فاطمة بنت قيس، رواها البخاري (5321، 5322) ومسلم (1480).
(5)
«عليه» ليست في ك.
(6)
ك، ب:«عنده» .
الفرقة، مع علمه باختلاف العلماء في ذلك.
فإن بَدَرَتْه
(1)
إلى حاكمٍ يرى وجوبها فقد ضاقت عليه وجوه الحيل، ولم يبقَ له إلا حيلة واحدة، وهي دعواه أنها كانت بانتْ منه قبلَ ذلك بمدةٍ تزيد على انقضاء عدتها، وأنه نسي سببَ البينونة. وهذه الحيلة تدخل في قسم التوصُّل إلى الجائز بالمحظور، كما تقدم نظائره.
المثال الثاني والستون: اختلف الفقهاء في الضمان، هل هو تعدد لمحل الحق وقيامٌ للضمين
(2)
مقام المضمون عنه أو هو استيثاقٌ بمنزلة الرهن؟ على قولين، وهما روايتان عن مالك، يظهر أثرهما في مطالبة الضامن مع التمكُّن من مطالبة المضمون عنه. فمن قال بالقول الأول ــ وهم الجمهور ــ قالوا: لصاحب الحق مطالبةُ من شاء منهما على السواء. ومن قال بالقول الثاني قال: ليس له مطالبةُ الضامن إلا
(3)
إذا تعذَّر عليه
(4)
مطالبة المضمون عنه.
واحتجَّ هؤلاء بثلاث حُجج:
إحداها: أن الضامن فرع، والمضمون عنه أصل، وقاعدة الشريعة أن الفروع والأبدال لا يُصار إليها إلا عند تعذُّر الأصول، كالتراب في الطهارة، والصوم في كفارة اليمين، وشاهد الفرع مع شاهد الأصل. وقد اطَّرد هذا في ولاية النكاح واستحقاق الميراث، لا يلي فرعٌ مع أصله ولا يرِث معه.
(1)
أي سبقتْه المرأة.
(2)
ك، ب:«الضمين» .
(3)
«إلّا» ليست في ك.
(4)
«عليه» ليست في ك.
الحجة الثانية: أن الكفالة تَوثِقةٌ وحفظٌ للحق، فهي جارية مجرى الرهن، ولكن ذاك رهن عينٍ، وهي رهن ذمةٍ، أقامها الشارع مقامَ رهنِ الأعيان للحاجة إليها واستدعاء المصلحة لها، والرهن لا يُستوفى منه إلا مع تعذُّر الاستيفاء من الراهن، فكذا الضَّمين. ولهذا كثيرًا ما يقترن الرهن والضمين لتَواخِيهما وتَشابُههما وحصولِ الاستيثاق بكل منهما.
الحجة الثالثة: أن الضامن في الأصل لم يُوضع لتعدد محلِّ الحق كما لم يوضع لنقله، وإنما وُضع ليحفظ صاحب الحق حقه من التَّوَى والهلاك، ويكون له محلٌّ يرجع إليه عند تعذُّر الاستيفاء من محله الأصلي
(1)
، ولم يَنصِب الضامنُ نفسَه لأن يطالبه المضمونَ له مع وجود الأصيل ويَسْرَتِه والتمكُّن من مطالبته. والناس يستقبحون هذا، ويعدُّون فاعلَه متعديًا، ولا يعذرونه بالمطالبة، حتى إذا تعذَّر عليه مطالبة الأصيل عذروه بمطالبة الضامن وكانوا عونًا له عليه. وهذا أمرٌ مستقر في فِطر الناس ومعاملاتهم، بحيث لو طالب الضامن والمضمون عنه إلى جانبه والدراهم في كُمِّه
(2)
وهو متمكِّن من
(3)
مطالبته لاستقبحوا ذلك غايةَ الاستقباح.
وهذا القول في [132/ب] القوة كما ترى، وهو رواية ابن القاسم في الكتاب
(4)
عن مالك. ولا ينافي هذا قولَ النبي صلى الله عليه وسلم: «الزعيم غارمٌ»
(5)
فإنه لا
(1)
ك، ب:«الأصل» .
(2)
ك: «كم» .
(3)
ك: «في» .
(4)
أي «المدونة» (5/ 262).
(5)
رواه أحمد (22294) وأبو داود (3565) والترمذي (1265) وابن ماجه (2398) من طريق شرحبيل بن مسلم الخولاني، عن أبي أمامة الباهلي، وإسناده صحيح. حسنه الترمذي، وصححه ابن حبان (319) والبوصيري في «مصباح الزجاجة» (2/ 42). وانظر:«السلسلة الصحيحة» (610).
عمومَ له، ولا يدلُّ على أنه غارم في جميع الأحوال، ولهذا لو أدَّى الأصيل لم يكن غارمًا، ولحديث أبي قتادة في ضمان دَين الميت لتعذُّر مطالبة الأصيل
(1)
.
ولا يصح الاحتجاج بأن الضمان مشتقٌّ من «الضم» ، فاقتضى لفظه ضمَّ إحدى الذمتين إلى الأخرى لوجهين:
أحدهما: أن الضمّ من المضاعف، والضمان من «الضمن» ، فمادتهما مختلفة ومعناهما مختلف وإن تشابها لفظًا ومعنًى في بعض الأمور.
الثاني: أنه لو كان مشتقًّا من «الضم» فالضمُّ قدر مشترك بين ضمٍّ يطالب معه استقلالًا أو بدلًا، والأعمُّ لا يستلزم الأخصَّ.
وإذا عُرِف هذا فأراد الضامن الدخول على هذا، فالحيلة أن يعلِّق الضمان بالشرط فيقول: إن تَوِيَ
(2)
المال على الأصيل
(3)
فأنا ضامن له. ولا يمتنع تعليق الضمان بالشرط، وقد صرَّح القرآن بتعليقه بالشرط، وهو محضُ القياس؛ فإنه التزامٌ، فجاز تعليقه بالشرط كالنذر، والمؤمنون عند شروطهم
(1)
رواه أحمد (22572، 22573، 22657) والترمذي (1069) والنسائي (1960) وابن ماجه (2407) عن أبي قتادة، وصححه الترمذي وابن حبان (3058). وروى البخاري (2289) عن سلمة بن الأكوع، وفيه:«قال أبو قتادة: صلِّ عليه يا رسول الله وعليَّ دَينه، فصلَّى عليه» .
(2)
أي ضاع وهلك.
(3)
ز: «الأصل» .
إلا شرطًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا
(1)
، وهذا ليس واحدًا منهما، ومقاطعُ الحقوق عند الشروط.
فإن خاف من قاصرٍ في الفقه غيرِ راسخ في حقائقه فليقل: «ضمِنتُ لك هذا الدين عند تعذُّر استيفائه ممن هو عليه» ، فهذا ضمان مخصوص بحالة مخصوصة فلا يجوز إلزامه
(2)
به في غيرها، كما لو ضمن الحال مؤجلًا أو ضمنه في مكان دون مكان.
فإن خاف من إفساد هذا أيضًا فليُشهِد عليه أنه لا يستحق المطالبة له به إلا عند تعذُّر مطالبة الأصيل، وأنه متى طالبه أو ادَّعى عليه به مع قدرته على الأصيل كانت دعواه باطلة، والله أعلم.
المثال الثالث والستون: قد تدعو الحاجة إلى أن يكون عقد الإجارة مبهمًا
(3)
غير معين، مثاله أن يقول له: إن ركبتَ هذه الدابة إلى أرض كذا فلك عشرة، وإن ركبتَها إلى أرض كذا فلك خمسة عشر. أو يقول: إن خِطْتَ هذا القميصَ اليوم فلك درهم، وإن خِطْتَه غدًا فنصف درهم، وإن زرعتَ هذه الأرضَ حنطةً فأجرتُها مائة، أو شعيرًا فأجرتُها خمسون، ونحو ذلك؛ فهذا كله جائز صحيح، لا يدلُّ على بطلانه كتاب
(4)
ولا سنة ولا إجماع ولا قياس، بل هذه الأدلة تقتضي صحته، وإن كان فيه نزاع متأخر.
(1)
حديث تقدم تخريجه.
(2)
ك: «التزامه» .
(3)
ك، ب:«منهما» .
(4)
ك: «الكتاب» .
فالثابت عن الصحابة الذي لا يُعلم عنهم فيه نزاعٌ جوازُه، كما ذكره البخاري في «صحيحه»
(1)
عن عمر أنه دفع أرضه إلى من يزرعها وقال: إن جاء عمر بالبَذْر من عنده فله كذا، وإن جاءوا بالبَذْر فلهم كذا. ولم يخالفه صحابي واحد، ولا محذورَ في ذلك ولا خطَرَ ولا غررَ، ولا أكلَ مالٍ [133/أ] بالباطل، ولا جهالةَ تعود إلى العمل ولا إلى العوض، فإنه لا يقع إلا معينًا، والخِيَرة إلى الأجير؛ أيَّ ذلك أحبَّ أن يستوفي فعلَ، فهو كما لو قال له: أيَّ ثوبٍ أخذتَه من هذه الثياب فثمنُه
(2)
كذا، أو أيَّ دابةٍ ركبتَها فأجرتُها كذا، أو أجرةُ هذه الفرس كذا
(3)
وأجرة هذا الحمار كذا، فأيَّهما شئتَ فخُذْه، أو ثمنُ هذا الثوب مائة وثمنُ هذا مائتان، ونحو ذلك مما ليس فيه غررٌ ولا جهالة ولا ربا ولا ظلم، فكيف تأتي الشريعة بتحريمه؟ وعلى هذا فلا يُحتاج إلى حيلة على فعله.
وكثير من المتأخرين من أتباع الأئمة يُبطِل هذا العقد، فالحيلة على جوازه أن يقول: استأجرتُك لتَخِيْطَه اليومَ بدرهم، فإن خِطته غدًا فلك أجرةُ مثله نصف درهم. وكذا يقول: آجرتُك هذه الدابةَ إلى أرض كذا بعشرة، فإن ركبتَها إلى أرض كذا وكذا فعليك أجرةُ مثلها كذا وكذا. فإن خاف أن يكون يده يدَ عدوانٍ ضامنة فليقل: فإذا انقضت المسافة الأولى فهي أمانة عندك. هذا عند من لم يصحح الإجارة المضافة، ومن صحّحها فالحيلة عنده أن يقول: فإذا قطعتَ هذه المسافة فقد آجرتُكها إلى مسافة كذا وكذا، فإذا
(1)
(5/ 10 - مع الفتح).
(2)
ك، ب:«قيمته» .
(3)
«فأجرتها
…
الفرس كذا» ساقطة من ك.
انتهتْ آجرتُكها إلى مسافة كذا وكذا
(1)
. فإن خشي المستأجر أن ينقضي شغله قبل ذلك فيبقى عقدُ الإجارة لازمًا له وقد فرغ شغله، فالحيلة أن يقول: إذا انقضت المسافة أو المدة فقد وكَّلتُك في إجارتها لمن شئتَ، فليُؤْجِرها لغيره ثم يستأجرها منه. فإن خاف أن لا تتم هذه الحيلة على أصلِ من لا يجوِّز تعليق الوكالة بالشرط فليوكِّله في الحال وكالةً غير معلقة، ثم يعلِّق تصرفَه بالشرط، فيقول: أنت وكيلي في إجارتها، فإذا انقضت المدة فقد أذنتُ لك في إجارتها
(2)
.
وقال القاضي أبو يعلى في كتاب «إبطال الحيل» : إن احتال في إجازة هذا الشرط فقال: استأجِرْها إلى دمشق بكذا، ومن دمشق إلى الرملة بكذا، ومن الرملة إلى مصر بكذا، جاز؛ لأنه إذا سمَّى لكل من المسافتين أجرة معلومة فكل واحدة منهما كالمعقود عليه على حاله، فلا يمنع صحة العقد.
قلت: ولكن لا تنفعه هذه الحيلة إذا انقضى غرضه عند المسافة الأولى، ويبقى عقد الإجارة لازمًا له فيما وراءها، فيصير كما لو استأجرها إلى مصر فانقضى غرضه في الرملة، فما الذي أفاده تعدُّد العقود، فوجود هذه الحيلة وعدمها سواء، فالوجه ما ذكرناه، والله أعلم.
المثال الرابع والستون: يجوز بيع المَقَاثِئ
(3)
والباذنجان ونحوها بعد أن يبدو صلاحُها، كما تُباع الثمار في رؤوس الأشجار، ولا يمنع من صحة
(1)
«وكذا» ليست في ك، ب.
(2)
«فإذا انقضت
…
إجارتها» ساقطة من ك، ب.
(3)
جمع المقْثأة: الأرض التي يُزرع فيها القثّاء وينبت. والمؤلف يقصد هنا المحاصيل الزراعية من القثاء ونحوه.
البيع تلاحقُ المبيع شيئًا بعد شيء، كما لم يمنع ذلك صحةَ بيع التُّوت والتِّين وسائرِ ما يخرج شيئًا بعد شيء. هذا محض القياس، وعليه تقوم مصالح بني آدم، ولا بدّ [133/ب] لهم منه. ومن منع بيعَ ذلك إلا لقطةً لقطةً فمع أن ذلك متعذِّر في الغالب لا سبيلَ إليه، أو هو في غاية الحرج والعسر، فهو مجهول لا ينضبط، ولا ما هي اللقطة المبيعة أهي الكبار والصغار والمتوسط أو بعض ذلك؟ وتكون المَقْثَأَة كبيرةً جدًّا لا يمكن أخذُ اللقطة الواحدة إلا في أيام متعددة، فيحدث كل يوم لقطةٌ أخرى تختلط بالمبيع ولا يمكن تمييزها منه، ولا سبيلَ إلى الاحتراز من ذلك إلا أن يجمع دوابَّ المصرِ كلها في يوم واحد، ومَن أمكَنه من القطَّافين، ثم يقطع الجميع في يوم واحد ويعرِّضه للتلف والضياع. وحاشا أكمل الشرائع ــ بل غيرها من الشرائع ــ أن تأتي بمثل هذا. وإنما هذا من الأغلاط الواقعة بالاجتهاد، وأين حرَّم الله ورسوله على الأمة ما هم أحوجُ الناس إليه ثم أباح لهم نظيره؟ فإن كان هذا غررًا فبيع الثمار المتلاحقة الأجزاء غررٌ، وإن لم يكن ذلك غررًا فهذا مثله.
والصواب أن كليهما ليس غررًا لغةً ولا عرفًا ولا شرعًا؛ ودعوى أن ذلك غررٌ دعوى بلا برهان، فإن ادَّعى ذلك على اللغة طُولب بالنقل، ولن يجد إليه سبيلًا، وإن ادَّعى ذلك على العرف فالعرف شاهدٌ بخلافه، وأهل العرف لا يعدُّون ذلك غررًا، وإن ادَّعاه على الشرع طُولب بالدليل الشرعي.
فإن بُلِي بمن يقول: «هكذا في الكتاب، وهكذا قالوا» فالحيلة في الجواز أن يشتري ذلك بعُروقِه، فإذا استوفى ثمرته تصرَّف في العروق بما يريد. والمانعون يجوِّزون هذه الحيلة. ومن المعلوم أن العروق غير مقصودة، وإنما المقصود الثمرة، فإن امتنع البيع لأجل الغرر فالغرر لم يزل