المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المغلوب على عقله - أعلام الموقعين عن رب العالمين - ط عطاءات العلم - جـ ٤

[ابن القيم]

الفصل: ‌المغلوب على عقله

والطلاق بالصفة عندنا كالطلاق باليمين كل ذلك لا يلزم.

و‌

‌المغلوب على عقله

كمن يفعل المحلوف عليه في حال سُكْر أو جنون أو زوالِ عقلٍ بشرب دواء أو بَنْج أو غضب شديد ونحو ذلك.

والذي يظن أن امرأته طلُقت فيفعل المحلوف عليه بناءً على أنه لا يؤثِّر في الحنث، كما إذا قال: إن كلَّمتِ فلانًا فأنتِ طالق ثلاثًا، ثم قال: إن فعلتُ كذا فامرأتي طالق ثلاثًا، فقيل له: إن امرأتك قد كلَّمتْ فلانًا، فاعتقد صدقَ القائل وأنها قد بانت منه، ففعل المحلوف عليه بناءً على أن العصمة قد انقطعت، ثم بان له أن المخبر كاذب.

وكذلك لو قيل له: قد كلَّمتْ فلانًا، فقال: طلُقتْ مني ثلاثًا، ثم بان أنها لم تكلِّمه. ومثل ذلك لو قيل له: إن امرأتك قد مُسِكَتْ تشرب الخمر مع فلان، فقال: هي طالق ثلاثًا، ثم ظهر كذبُ المخبر، وأن ذلك لم يكن منه شيء. فاختلف الفقهاء في ذلك اختلافًا لا ينضبط.

فنذكر أقوال من أفتى بعدم الحنث في ذلك؛ إذ هو الصواب بلا ريب، وعليه تدل الأدلة الشرعية ألفاظها وأقيستها واعتبارها، وهو مقتضى قواعد الشريعة؛ فإن البر والحنث في اليمين نظير الطاعة

(1)

والمعصية في الأمر والنهي، ولو فعل المكلَّف ذلك في أمر الشارع ونهيه لم يكن عاصيًا، فأولى في باب اليمين أن لا يكون حانثًا.

يوضِّحه أنه إنما عقد يمينه على فعلِ ما يملكه، والنسيان والجهل والخطأ والإكراه غير داخل تحت قدرته، فما فعله في تلك الأحوال لم

(1)

ك، ب:«الإطاعة» .

ص: 527

يتناوله يمينه، ولم يقصد منع نفسه منه.

يوضِّحه أن الله سبحانه قد رفع

(1)

المؤاخذة عن المخطئ والناسي والمكره، فإلزامه بالحنث أعظمُ مؤاخذةً لما تجاوز الله عن المؤاخذة به، كما أنه سبحانه لما تجاوز للأمة عما حدَّثتْ به أنفسها [162/أ] لم تتعلق به المؤاخذة في الأحكام.

يوضِّحه أن فعل الناسي والمخطئ بمنزلة فعل النائم في عدم التكليف به، ولهذا هو عفْوٌ لا يكون به مطيعًا ولا عاصيًا.

يوضِّحه أن الله سبحانه إنما رتّب الأحكام على الألفاظ؛ لدلاتها على قصدِ المتكلم بها وإرادتِه، فإذا تيقَّنَّا أنه قصد كلامها، ولم يقصد معانيها، ولم يقصد مخالفة ما التزمه ولا الحنث، فإن الشارع لا يُلزِمه بما لم يقصده، بل قد رفع المؤاخذة عنه بما لم يقصده من ذلك.

يوضِّحه أن اللفظ دليل على القصد، فاعتُبِر لدلالته عليه، فإذا علمنا يقينًا خلافَ المدلول لم يجزْ أن نجعله دليلًا على ما تيقّنا خلافه.

وقد رفع الله المؤاخذة عن قتل المسلم المعصوم بيده مباشرةً إذا لم يقصد قتله بل قتله خطأً، ولم يُلزِمه شيئًا من ديته، بل حمَّلها غيرَه، فكيف يؤاخذه بالخطأ والنسيان في باب الأيمان؟ هذا من الممتنع على الشارع.

وقد رفع النبي صلى الله عليه وسلم المؤاخذة عمن أكل أو شرب في نهار رمضان ناسيًا لصومه

(2)

، مع أن أكله وشربه فعلٌ لا يمكن تداركُه، فكيف يؤاخِذه بفعل

(1)

ك: «دفع» .

(2)

كما في حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري (1933) ومسلم (1155).

ص: 528

المحلوف عليه ناسيًا ويطلّق عليه امرأته ويُخرِب بيته ويشتِّت شَمْلَه وشمْلَ أولاده وأهله، وقد عفا له عن الأكل والشرب في نهار الصوم ناسيًا؟

وقد عفا عمّن أكل أو شرب في نهار الصوم عمدًا غير ناسٍ لمَّا تأوَّل الخيط الأبيض والأسود بالحبلين المعروفين، فجعل يأكل حتى تبينَا له وقد طلع النهار، وعفا له عن ذلك

(1)

، ولم يأمره بالقضاء لتأويله، فما بال الحالف المتأول لا يُعفَى له عن الحنث، بل يخرب بيته، ويفرِّق بينه وبين حبيبته، ويشتِّت شملَه كل مشتَّت؟

وقد عفا عن المتكلم في صلاته عمدًا، ولم يأمره بالإعادة لما كان جاهلًا بالتحريم لم يتعمَّد مخالفة حكمه، فألغى كلامه، ولم يجعله مُبطِلًا للصلاة، فكيف لا يَقتِدي به ويُلغي قولَ الجاهل وفعلَه في باب الأيمان ولا يُحنِّثه كما لم يؤثِّمه الشارع؟

وإذا كان قد عفا عمن قدَّم شيئًا أو أخَّره من أعمال المناسك من الحلق والرمي والنحر نسيانًا فلم يؤاخذه بترك ترتيبها نسيانًا، فكيف يحنث من قدَّم ما حلف على تأخيره أو أخَّر ما حلف على تقديمه ناسيًا أو جاهلا؟

وإذا كان قد عفا عمن حمل القذَرَ في الصلاة ناسيًا أو جاهلًا به، فكيف يؤاخذ الحالف ويحنث به؟ وكيف تكون أوامر الرب تعالى ونواهيه دون ما التزمه الحالف بالطلاق والعتاق؟ وكيف يحنِّث الشارعُ من لم يتعمَّد الحنث؟ وهل هذا إلا بمنزلة تأثيمه مَن لم يتعمد الإثم وتكفيره من لم يتعمد

(1)

كما في حديث عدي بن حاتم الذي رواه البخاري (1916) ومسلم (1090)، وحديث سهل بن سعد الذي رواه البخاري (1917) ومسلم (1091).

ص: 529

الكفر؟ وكيف يُطلّق أو يُعتق على من لم يتعمَّد الطلاق والعتاق، ولم يطلّق على الهازل إلا لتعمُّده فإنه تعمَّد الهزل ولم يُرِد حكمه، وذلك ليس إليه بل إلى الشارع، فليس الهازل معذورًا، بخلاف الجاهل والمخطئ والناسي.

وبالجملة فقواعد الشريعة وأصولها تقتضي أن [162/ب] لا يحنث الحالف

(1)

في جميع ما ذكرنا، ولا يطَّرِد على القياس ويَسْلَم من التناقض إلا هذا القول.

وأما تحنيثه في جميع ذلك فإن صاحبه وإن سَلِم من التناقض لكن قوله مخالف لأصول الشريعة وقواعدها وأدلتها.

ومن حنَّث في بعض ذلك دون بعض تناقضَ، ولم يطَّرد له قول، ولم يَسْلَم له دليل عن المعارضة.

وقد اختلفت الرواية عن الإمام أحمد في ذلك؛ ففيه

(2)

ثلاث روايات:

إحداها: أنه لا يحنَث في شيء من الأيمان بالنسيان ولا الجهل بفعل المحلوف عليه، سواء كانت من الأيمان المكفَّرة أو غيرها. وعلى هذه الرواية فيمينه باقية لم تنحلَّ بفعل المحلوف عليه مع النسيان والجهل؛ لأن اليمين كما لم تتناول حالة الجهل والنسيان بالنسبة إلى الحنث لم تتناولها بالنسبة إلى البر؛ إذ لو كان فاعلًا للمحلوف عليه بالنسبة إلى البر لكان فاعلًا له بالنسبة إلى الحنث.

(1)

ك، ب:«الحانث» .

(2)

ك، ب:«فعنه» .

ص: 530

وهذه الرواية اختيار شيخ الإسلام

(1)

وغيره، وهي أصح قولَي الشافعي اختاره جماعة من أصحابه.

والثانية: يحنَث في الجميع، وهي مذهب أبي حنيفة ومالك.

والثالثة: يحنَث في اليمين التي لا تكفّر كالطلاق والعتاق، ولا يحنث في اليمين المكفَّرة، وهي اختيار القاضي وأصحابه.

والذين حنَّثوه مطلقًا نظروا إلى صورة الفعل، وقالوا: قد وُجدت المخالفة.

والذين فرَّقوا قالوا: الحلف بالطلاق والعتاق من باب التعليق على الشرط، فإذا وُجد الشرط وجد المشروط، سواء كان مختارًا لوجوده أو لم يكن.

كما لو قال: «إن قدم زيد فأنت طالق» فإن فعل المحلوف عليه في حال جنونه، فهل هو كالنائم فلا يحنث أو كالناسي فيجري فيه الخلاف؟ على وجهين في مذهب الإمام أحمد والشافعي، أصحهما أنه كالنائم لأنه غير مكلَّف.

ولو حلف على من يقصد منعه كعبده وزوجته وولده وأجيره، ففعل المحلوف عليه ناسيًا أو جاهلًا، فهو كما لو حلف على فعل نفسه ففعله ناسيًا أو جاهلًا، هو على الروايات الثلاث

(2)

، وكذلك هو على القولين في مذهب الشافعي، فإن منعه لمن يمتنع بيمينه كمنعه لنفسه؛ فلو حلف لا يسلِّم على زيد، فسلَّم على جماعة هو فيهم ولم يعلم، فإن لم نحنِّث الناسي فهذا أولى

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (33/ 308).

(2)

ك: «الثلاثة» .

ص: 531