الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
و
تجويز الحيل يناقض سدَّ الذرائع
مناقضة ظاهرة؛ فإن الشارع يسدُّ الطريق إلى المفاسد بكل ممكن، والمحتال يفتح الطريق إليها بِحِيَلِهِ، فأين من يمنع من الجائز خشيةَ الوقوع في المحرَّم إلى من يعمل الحيلة في التوصل إليه؟ فهذه الوجوه التي ذكرناها وأضعافها تدلُّ على تحريم الحيل والعمل بها والإفتاء في دين الله بها.
ومن تأمل أحاديث اللعن وجد عامتها لمن استحلَّ محارم الله، أو أسقط فرائضه بالحيل، كقوله:«لعن الله المحلِّل والمحلَّل له»
(1)
، «لعن الله اليهود، حُرِّمت عليهم الشحومُ فجَمَلوها وباعوها وأكلوا ثمنها»
(2)
(3)
، «لعن الله آكلَ الربا ومُوكِله وكاتبه وشاهدَه»
(4)
. ومعلوم أن الكاتب والشاهد إنما يكتب ويشهد على الربا المحتال عليه ليتمكن من الكتابة والشهادة بخلاف ربا المجاهرة الظاهر. ولعن في الخمر عشرةً: عاصرَها ومعتصرَها
(5)
، ومعلوم أنه إنما عصَرَ عنبًا. ولعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة، وقرن
(6)
بينهما وبين آكل الربا
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
رواه مسلم (1598/ 106) من حديث جابر رضي الله عنه. ورواه أبو داود (3333) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه واللفظ له.
(5)
تقدم تخريجه.
(6)
ز: «وفرق» ، تحريف.
وموكله، والمحلِّل والمحلَّل له، في حديث ابن مسعود
(1)
، وذلك للقدر المشترك بين هؤلاء الأصناف وهو التدليس والتلبيس؛ فإن هذه تُظهِر من الخلقة ما ليس فيها، والمحلل يُظهِر من الرغبة ما ليس عنده، وآكل الربا يستحلُّه بالتدليس والمخادعة فيُظهِر من عقد التبايع ما ليس له حقيقة، فهذا يستحلّ الربا بالبيع، وذاك يستحلّ الزنا باسم النكاح، فهذا يُفسِد الأموال، وذاك يُفسِد الأنساب. وابن مسعود هو راوي هذا الحديث، وهو راوي حديث:«ما ظهر الربا والزنا في قوم إلا أحلُّوا بأنفسهم العقابَ»
(2)
.
والله سبحانه مسخ الذين استحلُّوا محارمه بالحيل قردةً وخنازير جزاءً من جنس عملهم؛ فإنهم لما مَسخوا شرعه وغيَّروه عن وجهه مسَخَ وجوههم وغيَّرها عن خلقتها. والله سبحانه وتعالى ذمَّ أهل الخداع والمكر، ومن يقول بلسانه ما ليس في قلبه، وأخبر أن المنافقين يخادعونه وهو خادِعُهم، وأخبر عنهم بمخالفة ظواهرهم لبواطنهم وسرائرهم لعلانيتهم وأقوالهم لأفعالهم.
وهذا شأن أرباب الحيل المحرَّمة، وهذه الأوصاف منطبقة عليهم؛ فإن المخادعة
(3)
هي الاحتيال والمراوغة بإظهار أمر جائز ليتوصَّل به إلى أمر
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
رواه أحمد (3809) وأبو يعلى (4981) وابن حبان (4410) من حديث ابن مسعود، وفي إسناده شريك بن عبد الله النخعي متكلم فيه، ورواية سماك عن عكرمة مضطربة إلا أن للحديث شاهدًا يتقوى به. انظر:«مسند أحمد» ط. الرسالة (6/ 358 - 359) و «صحيح ابن حبان» (10/ 258 - 259).
(3)
من هنا اعتمد المؤلف على كلام شيخه في «بيان الدليل» (ص 30 وما بعدها).
محرَّم يُبْطِنه، ولهذا يقال:«طريقٌ خَيْدَع» إذا كان مخالفًا للقصد لا يُفطَن له، ويقال للسراب:«الخَيْدع» لأنه يَخدع من يراه ويَغُرُّه، وظاهره خلاف باطنه، ويقال للضبّ:«خادع» ، وفي المثَل:«أخدعُ من ضَبٍّ» لمراوغته. ويقال: «سوقٌ خادعةٌ» أي متلونة، وأصله الاختفاء والستر، ومنه «المُخْدَع» في البيت
(1)
.
فوازِنْ بين قول القائل: آمنا بالله وباليوم الآخر وأشهدُ أن محمدًا [54/أ] رسول الله؛ إنشاءً للإيمان وإخبارًا به، وهو غير مُبطِن لحقيقة هذه الكلمة ولا قاصدٍ له ولا مطمئنٍ به، وإنما قاله متوصلًا به إلى أمنه وحَقْن دمه أو نيل غرض دنيوي، وبين قول المرابي: بعتك هذه السلعة بمائة. وليس لواحد منهما غرض فيها بوجهٍ، وليس مبطنًا لحقيقة هذه اللفظة، ولا قاصدًا له، ولا مطمئنًّا به، وإنما تكلم بها متوصلًا إلى الربا. وكذلك قول المحلل: تزوجتُ هذه المرأة، أو قبلتُ هذا النكاح، وهو غير مبطنٍ لحقيقة النكاح، ولا قاصدٍ له، ولا مريدٍ أن تكون زوجتَه بوجه، ولا هي مريدة لذلك ولا الولي، هل تجد بينهما فرقًا في الحقيقة أو العرف؟
فكيف يسمَّى أحدهما مخادعًا دون الآخر، مع أن قوله بعتُ واشتريت واقترضت وأنكحت وتزوجت غير قاصدٍ به انتقال الملك الذي وضعت له هذه الصيغة، ولا ينوي النكاح الذي جعلت له هذه الكلمة، بل قصدُه ما ينافي مقصود العقد أو أمر آخر خارج عن أحكام العقد، وهو عود المرأة إلى زوجها المطلق، وعود السلعة إلى البائع بأكثر من ذلك الثمن، بمباشرته لهذه الكلمات التي جعلت لها حقائق ومقاصد، مُظهِرًا لإرادة حقائقها ومقاصدها
(1)
شرح هذه الكلمات بنحو ما هنا في «الصحاح» (خدع).
ومُبطِنًا لخلافه؛ فالأول نفاق في أصل الدين، وهذا نفاق في فروعه.
يوضِّح ذلك ما ثبت عن ابن عباس أنه جاءه رجل فقال: إن عمي طلَّق امرأته ثلاثًا، أيُحِلُّها له رجل؟ فقال: من يخادعِ الله يخدعْه
(1)
. وصح عن أنس وعن ابن عباس أنهما سئلا عن العِينة، فقالا: إن الله لا يخدع، هذا
(2)
مما حرّم الله ورسوله
(3)
. فسمَّيا ذلك خداعًا، كما سمّى عثمان وابن عمر نكاح المحلِّل نكاح دُلْسَة
(4)
. وقال أيوب السختياني في أهل الحيل: يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان، فلو أَتوا الأمر عِيانًا كان أهون عليّ
(5)
. وقال شريك بن عبد الله القاضي في كتاب الحيل: هو كتاب المخادعة
(6)
.
وتلخيص هذا
(7)
أن الحيل المحرَّمة مخادعة لله، ومخادعة الله حرام.
أما المقدمة الأولى فإن الصحابة والتابعين ــ وهم أعلم الأمة بكلام الله ورسوله ومعانيه ــ سمَّوا ذلك خداعًا، وأما الثانية فإن الله ذمَّ أهل الخداع،
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
ز: «وهذا» .
(3)
ذكره المصنف في «إغاثة اللهفان» (1/ 584) وعزا قول أنس إلى مطيَّن في كتاب البيوع، وقول ابن عباس إلى أبي محمد النخشبي.
(4)
روى أثر عثمان رضي الله عنه البيهقي (7/ 208)، وأما أثر ابن عمر فلم أقف عليه. وانظر:«بيان الدليل» (ص 31) و «إغاثة اللهفان» (1/ 481، 482).
(5)
تقدم تخريجه.
(6)
انظر: «بيان الدليل» (ص 32) و «إغاثة اللهفان» (1/ 585).
(7)
انظر: «بيان الدليل» (ص 33 وما بعدها).
وأخبر أن خداعهم إنما هو لأنفسهم، وأن في قلوبهم مرضًا، وأنه سبحانه خادعهم، فكل هذا عقوبة لهم.
ومدار الخداع على أصلين؛ أحدهما: إظهار فعل لغير مقصوده الذي جُعِل له. الثاني: إظهار قول لغير مقصوده الذي وُضع له، وهذا منطبق على الحيل المحرمة. وقد عاقب الله سبحانه المتحيلين على إسقاط نصيب المساكين وقت الجداد بجَدِّ حَبِّهم
(1)
عليهم وإهلاك ثمارهم، فكيف بالمتحيل على إسقاط فرائض الله وحقوق خلقه؟ ولعن أصحاب السبت ومسخهم قردةً وخنازير على احتيالهم على فعل ما حرّمه عليهم.
قال الحسن البصري في قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ [54/ب] اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} [البقرة: 65]، قال: رَمَوا الحيتان في السبت، ثم أرجؤوها في الماء، فاستخرجوها بعد ذلك، فطبخوها فأكلوها واللهِ أوخَمَ أَكْلةٍ أُكِلَتْ، أسرعَه في الدنيا عقوبةً وأسرعَه عذابًا في الآخرة، والله ما كانت لحوم تلك الحيتان بأعظمَ عند الله من دماء قوم مسلمين، إلا أنه عجّل لهؤلاء وأخّر لهؤلاء
(2)
.
وقوله: «رمَوها في السبت» يعني احتالوا على وقوعها في الماء يوم السبت، كما بيَّن غيره أنهم حفروا لها حياضًا ثم فتحوها عشيةَ الجمعة، ولم يُرِد أنهم باشروا رميها يوم السبت؛ إذ لو اجترؤوا على ذلك لاستخرجوها.
(1)
كذا في النسختين. وفي المطبوع: «بجنتهم» .
(2)
رواه الطبري في «تفسيره» (10/ 523) من طريق سفيان بن عيينة عن أبي موسى عن الحسن بنحوه. ورواه أيضًا (10/ 523) من طريق ابن علية عن أيوب عن الحسن.
قال شيخنا
(1)
: وهؤلاء لم يكفروا بالتوراة وموسى، وإنما فعلوا ذلك تأويلًا واحتيالًا، ظاهره ظاهر الاتقاء وحقيقته حقيقة الاعتداء، ولهذا ــ والله أعلم ــ مُسِخوا قردةً، لأن صورة القرد فيها شَبَهٌ من صورة الإنسان، وفي بعض ما يُذكر من أوصافه شَبَهٌ منه، وهو مخالف له في الحدّ والحقيقة، فلما مَسَخ أولئك المعتدون دينَ الله بحيث لم يتمسّكوا إلا بما يُشبِه الدين في بعض ظاهره دون حقيقته، مسخهم الله قردةً تُشبِه الإنسان في بعض ظاهره دون الحقيقة جزاءً وِفاقًا.
يقوّي
(2)
ذلك أن بني إسرائيل أكلوا الربا وأموال الناس بالباطل، وهو أعظم من أكل الصيد في يوم بعينه، ولم يُعاقَب أولئك بالمسخ كما عوقب به من استحلّ الحرام بالحيلة؛ لأن هؤلاء لما كانوا أعظم جرمًا كانت عقوبتهم أعظم، فإنهم بمنزلة المنافقين، يفعلون ما يفعلون ولا يعترفون بالذنب، بل قد فسدت عقيدتهم وأعمالهم. بخلاف من أكل الربا وأموال الناس والصيد المحرم عالمًا بتحريمه؛ فإنه يقترن بمعصيته اعترافُه بالتحريم وخشيتُه لله واستغفارُه وتوبتُه يومًا ما، واعترافه بأنه مذنب عاصٍ، وانكسار قلبه من ذلِّ المعصية، وإزراؤه
(3)
على نفسه، ورجاؤه لمغفرة ربه له، وعدُّ نفسِه من المذنبين الخاطئين، وهذا كله إيمان يفضي بصاحبه إلى خير، بخلاف الماكر المخادع المحتال على قلب دين الله. ولهذا حذّر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من ارتكاب الحيل، فقال: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلُّوا
(1)
في «بيان الدليل» (ص 43).
(2)
الكلام مستمر لشيخ الإسلام.
(3)
في المطبوع: «ازدراؤه» ، خلاف النسختين.
محارمَ الله بأدنى الحيل»
(1)
.
وقد أخبر سبحانه أنه جعل هذه القرية أو هذه الفعلة التي فعلها بأهلها نكالًا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين، فحقيقٌ بمن اتقى الله وخاف نكالَه أن يحذر استحلال محارم الله بأنواع المكر والاحتيال، وأن يعلم أنه لا يخلِّصه من الله ما أظهره مكرًا وخديعة من الأقوال والأفعال، وأن يعلم أن لله يومًا تَكِعُّ
(2)
فيه الرجال، وتُنْسَف فيه الجبال، وتترادف فيه الأهوال، وتشهد فيه الجوارح والأوصال، وتُبلى فيه السرائر، وتظهر فيه الضمائر، ويصير الباطن فيه ظاهرًا، [55/أ] والسرّ علانية، والمستور مكشوفًا، والمجهول معروفًا، ويُحصَّل ويبدو ما في الصدور، كما يُبعثر ويخرج ما في القبور، وتجري أحكام الرب جل جلاله هنالك على القصود والنيات، كما جرت أحكامه في هذه الدار على ظواهر الأقوال والحركات، يوم تبيضُّ وجوهٌ بما في قلوب أصحابها من النصيحة لله ورسوله وكتابه وما فيها من البرّ والصدق والإخلاص للكبير المتعال، وتسودُّ وجوه بما في قلوب أصحابها من الخديعة والغشّ والكذب والمكر والاحتيال، هنالك يعلم المخادعون أنهم لأنفسهم كانوا يخدعون، وبدينهم كانوا يلعبون، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون.
(1)
رواه ابن بطة في «إبطال الحيل» (ص 104، 105) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث حسّن إسناده ابن تيمية في «بيان الدليل» (ص 53) و «مجموع الفتاوى» (29/ 29)، وكذلك المصنف في «إغاثة اللهفان» (1/ 596) وابن كثيرفي «التفسير» (3/ 493).
(2)
أي تجبُن وتضعف.
وقد فصَّل قوله صلى الله عليه وسلم: «الأعمال بالنيات، وإنما لامرئ ما نوى»
(1)
الأمرَ في هذه الحيل وأنواعها، فأخبر أن الأعمال تابعة لمقاصدها ونياتها، وأنه ليس للعبد من ظاهر قوله وعمله إلا ما نواه وأبطنه لا ما أعلنه وأظهره. وهذا نصٌّ في أن من نوى التحليل
(2)
كان محلِّلا، ومن نوى الربا بعقد التبايع كان مرابيًا، ومن نوى المكر والخداع كان ماكرًا مخادعًا.
ويكفي هذا الحديث وحدَه في إبطال الحيل، ولهذا صدَّر به حافظ الأمة محمد بن إسماعيل البخاري إبطال الحيل
(3)
، والنبي صلى الله عليه وسلم أبطل ظاهرَ هجرة مهاجر أم قيس بما أبطنه ونواه من إرادة أم قيس. وقد قال صلى الله عليه وسلم:«البيِّعانِ بالخيار حتى يتفرقا، إلا أن تكون صفقةَ خيارٍ، ولا يحلُّ له أن يفارقه خشيةَ أن يستقيله»
(4)
، فاستدل به الإمام أحمد وقال: فيه إبطال الحيل
(5)
.
وقد أشكل هذا على كثير من الفقهاء بفعل ابن عمر؛ فإنه كان إذا أراد أن يلزم البيع مشى خطواتٍ
(6)
، ولا إشكال بحمد الله تعالى في الحديث، وهو
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
ز: «التحيل» .
(3)
في «صحيحه» (12/ 327 - مع الفتح).
(4)
رواه بهذا اللفظ الترمذي (1247) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، وحسَّنه. ورواه أيضًا أبو داود (3456) والنسائي (4483) بنحوه. والحديث رواه أيضًا البخاري (2109) من حديث ابن عمر بنحوه. وهو مروي من حديث حكيم بن حزام أيضًا عند البخاري (2110) ومسلم (1532).
(5)
كما في «إبطال الحيل» (108).
(6)
رواه البخاري (2107) ومسلم (1531/ 45).
من أظهر الأدلة على بطلان التحيُّل لإسقاط حقِّ من له حق؛ فإن الشارع صلوات الله وسلامه عليه
(1)
أثبت خيار المجلس في البيع حكمةً ومصلحة للمتعاقدين، وليحصل تمام الرضى الذي شرطه الله سبحانه فيه؛ فإن العقد قد يقع بغتةً من غير تَروٍّ ولا نظرٍ في القيمة، فاقتضت محاسن هذه الشريعة الكاملة أن يجعل للعقد حريمًا يتروَّى فيه المتبايعان، ويعيدان النظر، ويستدرك كل واحد منهما عيبًا كان خفيًّا. فلا أحسنَ من هذا الحكم، ولا أرفقَ بمصلحة الخلق؛ فلو مكّن أحد المتعاقدين الغابن للآخر من النهوض
(2)
في الحال والمبادرة إلى التفرق، لفاتت مصلحةُ الآخر ومقصودُ الخيار بالنسبة إليه. وهَبْ أنك أنت اخترتَ إمضاء البيع فصاحبك لم يتسع له وقت ينظر فيه ويتروَّى، فنهوضك حيلة على إسقاط حقّه من الخيار، فلا يجوز حتى يخيِّره؛ فلو فارق المجلس لغير هذا لحاجةٍ أو صلاة أو غير ذلك ولم يقصد [55/ب] إبطال حق أخيه من الخيار لم يدخل في هذا التحريم، ولا يقال: هو ذريعة إلى إسقاط حق الآخر من الخيار؛ لأن باب الذرائع متى فاتت به مصلحة راجحة أو تضمَّن مفسدة راجحة لم يلتفت إليه. فلو منع العاقد من التفرُّق حتى يقوم الآخر لكان في ذلك إضرار به ومفسدة راجحة؛ فالذي جاءت به الشريعة في ذلك أكمل شيء وأوفقه للحكمة والمصلحة
(3)
، ولله الحمد.
وتأمَّل قوله: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلُّوا محارمَ الله بأدنى
(1)
ز: «عليه وسلامه» .
(2)
ز: «النهوظ» .
(3)
ز: «للمصلحة والحكمة» .
الحيل»
(1)
، أي أسهلها وأقربها، وإنما ذكر أدنى الحيل لأن المطلِّق ثلاثًا مثلًا من أسهل الحيل عليه أن يعطي بعضَ التيوس المستعارة عشرةَ دراهم ويستعيره لينزو على امرأته نزوةً وقد طيَّبها له، بخلاف الطريق الشرعي التي هي نكاح الرغبة فإنها يصعب معها عودُها إلى الأول جدًّا. وكذلك من أراد أن يُقرِض ألفًا بألف وخمسمائة، فمِن أدنى الحيل عليه
(2)
أن يعطيه ألفًا إلا درهمًا باسم القرض ويبيعه خرقةً تساوي درهمًا بخمسمائة، ولو أراد ذلك بالطريق الشرعي لتعذّر عليه. وكذلك حيلة اليهود بنَصْب الشِّباك يوم الجمعة وأخْذِ ما وقع فيها يوم السبت من أسهل الحيل. وكذلك إذابتُهم للشحم وبيعُه وأكلُ ثمنه.
وقال الإمام أحمد في «مسنده»
(3)
: ثنا أسود بن عامر ثنا أبو بكر عن الأعمش عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا ضنَّ
(4)
الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعِينة، واتّبعوا أذنابَ البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله؛ أنزل الله بهم بلاء فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم».
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
«عليه» ليست في د.
(3)
رقم (4825)، ورواه الطبراني (13585) أيضًا. وفي إسناده عطاء بن أبي رباح لم يسمع من ابن عمر رضي الله عنهما. لكنه توبع بعطاء الخراساني عن نافع عند أبي داود (3462) كما سيأتي. وانظر:«السلسلة الصحيحة» (11).
(4)
ز: «ظن» .
ورواه أبو داود
(1)
بإسناد صحيح إلى حَيْوة بن شُريح المصري عن إسحاق أبي عبد الرحمن
(2)
الخراساني أن عطاء الخراساني حدثه أن نافعًا حدثه عن ابن عمر.
قال شيخنا رضي الله عنه
(3)
: وهذان إسنادان حسنان؛ أحدهما يشدُّ الآخر ويقوّيه. فأما رجال الأول فأئمة مشاهير، لكن يخاف أن لا يكون الأعمش سمعه من عطاء أو أن عطاء لم يسمعه من ابن عمر؛ فالإسناد الثاني يبيّن أن للحديث أصلًا محفوظًا عن ابن عمر؛ فإن عطاء الخراساني ثقة مشهور، وحيوة بن شريح كذلك وأفضل. وأما إسحاق أبو
(4)
عبد الرحمن فشيخ روى عنه أئمة المصريين مثل حَيوة بن شريح والليث بن سعد ويحيى بن أيوب وغيرهم.
قال: وقد روينا من طريق ثالث من حديث السريّ بن سهل الجُنديسابوري
(5)
بإسناد مشهور إليه: حدثنا عبد الله بن رُشَيد ثنا عبد الرحمن عن ليث عن عطاء عن ابن عمر قال: لقد أتى علينا زمان وما منّا رجل يرى أنه أحقُّ بديناره ودرهمه من أخيه المسلم. ولقد سمعت رسول
(1)
رقم (3462) والبزار (5887)، وفي إسناده عطاء الخراساني متكلم فيه، وقد توبع بما قبله.
(2)
في النسختين: «إسحاق بن عبد الرحمن» خطأ. والتصويب من «السنن» . وانظر «تقريب التهذيب» (344، 401/ 4).
(3)
في «بيان الدليل» (ص 73 وما بعدها).
(4)
في النسختين: «بن» . والتصويب من «بيان الدليل» .
(5)
في النسختين: «الجند نيسابوري» تحريف.
الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا ضنَّ
(1)
الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعِينة، وتركوا الجهاد، واتبعوا أذنابَ البقر؛ أدخل الله عليهم ذلًّا لا ينزِعه عنهم حتى يتوبوا ويراجعوا دينهم»
(2)
. وهذا يبيّن أن للحديث [56/أ] أصلًا عن عطاء.
وروى محمد بن عبد الله الحافظ المعروف بمُطيَّن في كتاب «البيوع» له عن أنس أنه سئل عن العينة، فقال: إن الله لا يخدع، هذا مما حرّم الله ورسوله.
وروى أيضًا في كتابه عن ابن عباس قال: اتقوا هذه العِينة، لا تبِعْ دراهم بدراهم وبينهما حريرة.
وفي رواية: أن رجلًا باع من رجلٍ حريرةً بمائة، ثم اشتراها بخمسين، فسأل ابن عباس عن ذلك، فقال: دراهم بدراهم متفاضلة دخلت بينهما حريرة
(3)
.
وسئل ابن عباس عن العينة ــ يعني بيع الحريرة ــ فقال: إن الله لا يخدع، هذا مما حرم الله ورسوله
(4)
.
وروى ابن بطّة بإسناده إلى الأوزاعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي على الناس زمان يستحلُّون الربا بالبيع»
(5)
، يعني العينة. وهذا المرسل
(1)
ز: «ظن» .
(2)
رواه أبو يعلى (5659) والطبراني (13585)، وفي إسناده ليث بن أبي سليم وعطاء الخراساني متكلم فيهما.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
ذكره ابن تيمية في بيان الدليل (ص 76) وعزاه إلى الحافظ أبي محمد النخشبي.
(5)
تقدم تخريجه.
صالح للاعتضاد به والاستشهاد، وإن لم يكن عليه وحده الاعتماد.
وقال الإمام أحمد
(1)
: حدثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن أبي إسحاق السَّبيعي عن امرأته: أنها دخلت على عائشة هي وأم ولد زيد بن أرقم وامرأة أخرى، فقالت لها أم ولد زيد: إني بعت من زيد غلامًا بثمان مائةٍ نسيئةً، واشتريته بستمائةٍ نقدًا، فقالت: أبلغي زيدًا أن قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب، بئسما شريتِ، وبئسما اشتريتِ
(2)
.
رواه الإمام أحمد وعمل به، وهذا حديث فيه شعبة، وإذا كان شعبة في حديث فاشدُدْ يدك به، فمن جعل شعبة بينه وبين الله فقد استوثق لدينه.
وأيضًا فهذه امرأة أبي إسحاق، وهو أحد أئمة الإسلام الكبار، وهو أعلم بامرأته وبعدالتها، فلم يكن ليروي عنها سنة يحرم بها على الأمة وهي عنده غير ثقة ولا يتكلم فيها بكلمة، بل يُحابيها في دين الله، هذا لا يظن بمن هو دون أبي إسحاق.
وأيضًا فإن هذه امرأة من التابعين قد دخلت على عائشة وسمعت منها وروت عنها، ولا يُعرف أحد قدح فيها بكلمة.
وأيضًا فإن الكذب والفسق لم يكن ظاهرًا في التابعين بحيث تُردُّ به رواياتهم
(3)
.
(1)
عزاه إليه ابن تيمية في «بيان الدليل» (ص 77) وابن عبد الهادي في «تنقيح التحقيق» (4/ 69)، وساقا إسناده. ولم أجده في مظانّه.
(2)
رواه سعيد بن منصور كما في «الكافي» لابن قدامة (2/ 16) وعبد الرزاق (14813) والدارقطني (3003) والبيهقي (5/ 330).
(3)
د: «رواياتهم به» .
وأيضًا فإن هذه المرأة معروفة، واسمها العالية
(1)
، وهي جدة إسرائيل، كما رواه حرب
(2)
من حديث إسرائيل: حدثني أبو إسحاق عن جدته العالية، يعني جدة إسرائيل؛ فإنه إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق، والعالية امرأة أبي إسحاق ووالدة يونس
(3)
، وقد حملا عنها هذه السنة، وإسرائيل أعلم بجدته وأبو إسحاق أعلم
(4)
بامرأته.
وأيضًا فلم يُعرف أحد قطُّ من التابعين أنكر على العالية هذا الحديث ولا قدح فيها من أجله، ويستحيل في العادة أن تروي حديثًا باطلًا ويشتهر في الأمة ولا ينكره عليها منكر.
وأيضًا فإن في
(5)
الحديث قصةً، وعند الحفاظ إذا كان فيه قصة دلَّهم على أنه محفوظ. قال أبو إسحاق: حدثتني امرأتي العالية، قالت: دخلت على عائشة في نسوة، فقالت: ما
(6)
حاجتكن؟ فكان أول من سألها أم محبة، [56/ب] فقالت: يا أم المؤمنين هل تعرفين زيد بن أرقم؟ قالت: نعم، قالت: فإني بعته جاريةً لي بثمانمائة درهم إلى العطاء، وإنه أراد بيعها فابتعتُها منه
(1)
انظر ترجمتها في: «الطبقات الكبرى» (8/ 487) و «الثقات» لابن حبان (5/ 289).
(2)
ذكره من طريقه ابن تيمية في «بيان الدليل» (ص 77).
(3)
في النسختين: «وجدة يونس» ، خطأ. وانظر:«الثقات» (5/ 289).
(4)
«أعلم» ليست في ز.
(5)
«في» ساقطة من ز.
(6)
«ما» ليست في النسختين. والمثبت من «بيان الدليل» .
بستمائة درهم نقدًا، فأقبلتْ عليها وهي غضبى، فقالت: بئسما شريتِ، وبئسما اشتريتِ، أبلغي زيدًا أنه قد أبطل جهاده إلا أن يتوب، وأفحمت صاحبتنا فلم تكلّم طويلًا، ثم إنها سهل عنها فقالت: يا أم المؤمنين أرأيتِ إن لم آخذ إلا رأس مالي؟ فتلَتْ عليها: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275]
(1)
.
وأيضًا فهذا الحديث إذا انضمَّ إلى تلك الأحاديث والآثار أفادت بمجموعها الظن الغالب إن لم تفد اليقين.
وأيضًا فإن آثار الصحابة كما تقدم موافِقةٌ لهذا الحديث، مشتقَّة منه، مفسِّرة له.
وأيضًا فلو لم يأتِ في هذه المسألة أثر لكان محضُ القياس ومصالح العباد وحكمة الشريعة تحريمها أعظم من تحريم الربا، فإنها ربا مستحلّ بأدنى الحيل.
وأيضًا فكيف يليق بالشريعة الكاملة التي لعنت آكل الربا وموكله، وبالغت في تحريمه، وآذنت صاحبه بحرب من الله ورسوله، أن تُبيحه بأدنى الحيل مع استواء المفسدة؟ ولولا أن عند أم المؤمنين رضي الله عنها علمًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تستريب فيه ولا تشكُّ بتحريم مسألة العينة لما أقدمتْ على الحكم بإبطال جهاد رجل من الصحابة باجتهادها، لا سيما إن كانت قصدت أن العمل يبطل بالردة، واستحلال الربا ردة، ولكن عذر زيدٍ أنه لم يعلم أن
(1)
تقدم تخريجه.
هذا محرم، كما عُذِر ابن عباس بإباحته بيعَ الدرهم بالدرهمين
(1)
، وإن لم يكن قصدها هذا، بل قصدت أن هذا من الكبائر التي يقاوم إثمها ثواب الجهاد، ويصير بمنزلة من عمل حسنةً وسيئةً بقدرها فكأنه لم يعمل شيئًا، ولو كان هذا اجتهادًا منها لم تمنع زيدًا منه، ولم تحكم ببطلان جهاده، ولم تَدْعُه إلى التوبة؛ فإن الاجتهاد لا يحرِّم الاجتهاد، ولا يُحكَم ببطلان عمل المسلم المجتهد بمخالفته لاجتهاد نظيره، والصحابة ــ ولا سيما أم المؤمنين ــ أعلم بالله ورسوله، وأفقه في دينه من ذلك.
وأيضًا فإن الصحابة كعائشة وابن عباس وأنس أفتوا بتحريم مسألة العِينة
(2)
، وغلَّظوا فيها هذا التغليظ في أوقات ووقائع مختلفة؛ فلم يجئ عن واحد من الصحابة ولا التابعين الرخصة فيها، فيكون إجماعًا.
فإن قيل: فزيد بن أرقم قد خالف عائشة ومن ذكرتم، فغاية الأمر أنها مسألة قولين للصحابة، وهي مما يسوغ فيها الاجتهاد.
قيل: لم يقل زيد قطُّ إن هذا حلال، ولا أفتى بها يومًا ما، ومذهب الرجل لا يؤخذ من فعله؛ إذ لعله فعله ناسيًا أو ذاهلًا أو غيرَ متأمل ولا ناظر أو متأولًا أو ذنبًا يستغفر منه ويتوب أو يصرُّ عليه وله حسنات تقاومه، فلا تؤثّر شيئًا. قال بعض السلف
(3)
: [أضعفُ]
(4)
العلمِ علم الرؤية، يعني أن
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
تقدم تخريجه
(3)
بنحوه قال عطاء الخراساني. ذكره ابن عبد البر في «الجامع» (1447).
(4)
الزيادة من «بيان الدليل» (ص 79) المصدر الذي نقل عنه المؤلف، وبها يستقيم المعنى.
يقول: رأيت فلانًا يفعل كذا وكذا؛ ولعله قد فعله ساهيًا. وقال إياس بن معاوية: لا تنظر إلى عمل الفقيه، ولكن سَلْه [57/أ] يصدقك
(1)
.
ولم يُذكر عن زيد أنه أقام على هذه المسألة بعد إنكار عائشة، وكثيرًا ما يفعل الرجل الكبير الشيء مع ذهوله عما في ضمنه من مفسدة فإذا نُبِّه انتبه. وإذا كان الفعل محتملًا لهذه الوجوه وغيرها لم يجز أن يقدَّم على المحكم، ولم يجز أن يقال: مذهب زيد بن أرقم جواز العِينة، لا سيما وأم ولده قد دخلت على عائشة تستفتيها وأفتَتْها بأخذ رأس مالها، وهذا كله يدل على أنهما لم يكونا جازمين بصحة العقد وجوازه، وأنه مما أباحه الله ورسوله.
وأيضًا فبيع العينة إنما يقع غالبًا من مضطرٍّ إليها، وإلا فالمستغني عنها لا يَشْغَل ذمته بألف وخمسمائة في مقابلة ألف بلا ضرورة وحاجةٍ تدعو إلى ذلك، وقد روى أبو داود
(2)
من حديث علي: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطرّ، وبيع الغَرر، وبيع الثمرة قبل أن تُدرك.
(3)
عنه قال: سيأتي على الناس زمان عَضوضٌ يَعَضُّ الموسِرُ على ما في يديه، ولم يؤمَرْ
(4)
بذلك، قال الله تعالى:
(1)
رواه القاضي وكيع في «أخبار القضاة» (1/ 350) والسهمي في «تاريخ جرجان» بنحوه (ص 213).
(2)
رقم (3382). ورواه أيضًا أحمد (937) ــ كما سيأتي ــ والبيهقي (5/ 84) من حديث علي رضي الله عنه. وفي إسناده أبو عامر المزني واسمه صالح بن رُستم متكلم فيه، وكذلك فيه راوٍ لم يسم.
(3)
تقدم تخريجه آنفًا.
(4)
د: «ولم يؤثر» ، تصحيف.
{وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]، ويَنْهَدُ الأشرار، ويُستذلُّ الأخيار، ويُبايَعُ
(1)
المضطرون، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطرّ، وعن بيع الغَرر، وبيع الثمر قبل أن يطعم.
وله شاهد من حديث حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه سعيد
(2)
عن هُشيم عن كوثر بن حكيم عن مكحول: بلغني عن حذيفة أنه حدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن بعد زمانكم هذا زمانًا عَضوضًا، يعضُّ الموسر على ما في يديه، ولم يُؤمر
(3)
بذلك، قال الله تعالى:{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39]، ويَنْهَد شرار خلق الله، يبايعون كلَّ مضطر، ألا إنّ بيعَ المضطرّ حرام، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخونه، إن كان عندك خير فعُدْ به على أخيك، ولا تزِدْه هلاكًا إلى هلاكه».
وهذا من دلائل النبوة، فإن عامة العِينة إنما تقع من رجل مضطر إلى نفقة يضِنُّ بها
(4)
عليه الموسر بالقرض حتى يربح عليه في المائة ما أحب، وهذا المضطر إن أعاد السلعة إلى بائعها فهي العينة، وإن باعها لغيره فهو
(1)
في النسختين: «ويباع» . والتصويب من «المسند» .
(2)
رواه سعيد بن منصور كما في «المحلى» (9/ 22) و «بيان الوهم والإيهام» (2/ 158) وأبو يعلى كما في «المطالب العالية» (967). وفي إسناده كوثر بن حكيم متكلم فيه، وكذلك الانقطاع بين مكحول وحذيفة. قال ابن كثير في «تفسيره» (6/ 523): هذا حديث غريب من هذا الوجه، وفي إسناده ضعف. وانظر:«بيان الوهم والإيهام» لابن القطان (2/ 158).
(3)
في النسختين: «ولم يؤثر» . والتصويب من مصادر التخريج و «بيان الدليل» .
(4)
ز: «يصرفها» ، تحريف.
التورُّق، وإن رجعتْ إلى ثالث يدخل بينهما فهو محلِّل الربا، والأقسام الثلاثة يعتمدها المرابون، وأخفُّها التورُّق، وقد كرهه عمر بن عبد العزيز، وقال: هو آخِيَةُ الربا
(1)
. وعن أحمد فيه روايتان، وأشار في رواية الكراهة إلى أنه مضطر، وهذا من فقهه رضي الله عنه، فإن هذا لا يدخل فيه إلا مضطر.
وكان شيخنا رضي الله عنه يمنع من مسألة التورُّق، ورُوجع فيها وأنا حاضر مرارًا، فلم يرخِّص فيها
(2)
، وقال: المعنى الذي لأجله حُرِّم الربا موجود فيها بعينه، مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها؛ فالشريعة لا تحرّم الضرر الأدنى وتُبيح ما هو أعلى منه. [57/ب] وقد تقدَّم الاستدلال على تحريم العينة بقوله صلى الله عليه وسلم:«لا يحلُّ سلفٌ وبيع، ولا شرطانِ في بيع»
(3)
، وبقوله:«من باع بيعتين في بيعة فله أوكسُهما أو الربا»
(4)
، وأن ذلك لا يمكن وقوعه إلا على العِينة.
ومما يدلُّ على تحريم الحيل قوله صلى الله عليه وسلم: «صيدُ البرّ لكم حلال، ما لم تَصيدوه أو يُصَدْ لكم» . رواه أهل السنن
(5)
.
(1)
انظر: «بيان الدليل» (ص 82). وفي «مصنف ابن أبي شيبة» (20158) قوله في العِينة إنها أخت الربا.
(2)
انظر: «مجموع الفتاوى» (29/ 302، 303، 431، 434، 439، 446، 500، 502).
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
رواه أبو داود (3461)، وابن حبان (4974)، والحاكم (2/ 45) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وصححاه، وحسَّنه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (2326).
(5)
تقدم تخريجه.
ومما يدلُّ على تحريمها ما رواه ابن ماجه في «سننه»
(1)
عن يحيى بن أبي إسحاق قال: سألت أنس بن مالك: الرجل منّا يُقرِض أخاه المالَ فيُهدي إليه، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أقرضَ أحدكم قرضًا فأُهدِي إليه أو حمله على الدابة فلا يركَبْها ولا يقبَلْه إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك» . رواه من حديث إسماعيل بن عيّاش عن عُتبة بن حُميد الضبّي عن يحيى.
قال شيخنا
(2)
رضي الله عنه: وهذا يحيى بن يزيد الهُنَائي من رجال مسلم، وعتبة بن حميد معروف بالرواية عن الهنائي. قال أبو حاتم مع تشدده: هو صالح الحديث. وقال أحمد: ليس بالقوي
(3)
. وإسماعيل بن عيّاش ثقة في حديثه عن الشاميين
(4)
.
ورواه سعيد في «سننه»
(5)
عن إسماعيل بن عيّاش، لكن قال: عن يزيد بن أبي إسحاق
(6)
الهُنائي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك رواه البخاري في «تاريخه»
(7)
عن يزيد بن أبي يحيى الهُنائي عن أنس يرفعه: «إذا
(1)
رقم (2432). وقد تقدم تخريجه.
(2)
في «بيان الدليل» (ص 262).
(3)
انظر لهذين القولين: «الجرح والتعديل» (6/ 370).
(4)
انظر: «تاريخ بغداد» (7/ 186) و «تهذيب الكمال» (3/ 163).
(5)
ومن طريقه البيهقي (5/ 350).
(6)
كذا في النسختين، وفي البيهقي و «بيان الدليل»:«يزيد بن أبي يحيى» .
(7)
الذي وجدته في «التاريخ الكبير» (8/ 310): «يحيى بن يزيد أبو يزيد الهنائي، بصري، سمع أنس بن مالك، قاله شعبة. وقال خلف بن خليفة: كنيته أبو نصر. قاله لنا آدم نا شعبة سمع يحيى بن يزيد: قلت لأنس في الرجل يكون له الدين، قال: لا يرتدف خلف دابته. وقال أبو معاوية عن أبي قلابة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو خطأ» .
أقرض أحدكم فلا يأخذ هدية». قال شيخنا
(1)
: وأظنه هو ذاك، انقلب اسمه.
وفي «صحيح البخاري»
(2)
عن أبي بُرْدَة بن أبي موسى قال: قدمتُ المدينة، فلقيتُ عبد الله بن سلام، فقال لي: إنك بأرضٍ الربا فيها فاشٍ، فإذا كان لك على رجل حقٌّ فأهدى إليك حِمْلَ تِبْنٍ أو حِملَ شعيرٍ أو حِملَ قَتٍّ فلا تأخذه فإنه ربًا».
وفي «سنن سعيد» هذا المعنى عن أبي بن كعب
(3)
، وجاء عن ابن مسعود أيضًا
(4)
. وأتى رجل عبدَ الله بن عمر فقال: إني أقرضتُ رجلًا بغير معرفة فأهدى إليَّ هدية جَزْلةً، فقال: رُدَّ إليه هديَّتَه أو احْسُبْها له
(5)
. وقال سالم بن أبي الجعد: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني أقرضتُ رجلًا يبيع السمك عشرين درهمًا، فأهدى لي سمكةً قوَّمتُها بثلاثة عشر درهمًا، فقال: خذْ منه سبعةَ دراهم
(6)
، ذكرهما سعيد. وذكر حرب عن ابن عباس: إذا
(1)
في «بيان الدليل» (ص 263).
(2)
رقم (3814).
(3)
ورواه عبد الرزاق (14652) والبيهقي (5/ 349)، وفي إسناده كلثوم بن الأقمر، قال ابن المديني فيه: مجهول. انظر: «ميزان الاعتدال» (3/ 412).
(4)
رواه البيهقي (5/ 350)، وأعلّه بالانقطاع؛ لأن ابن سيرين لم يسمع من ابن مسعود - رضى الله عنه -.
(5)
رواه عبد الرزاق (14654)، وإسناده منقطع؛ لأن أبا إسحاق السبيعي لم يسمع من ابن عمر رضي الله عنهما.
(6)
رواه البيهقي (5/ 349).
أسلفتَ رجلًا سلفًا فلا تأخذ منه هدية ولا عارية ركوب دابة
(1)
.
فنهى النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه المقرِضَ عن قبول هدية المقترض قبل الوفاء؛ لأن المقصود بالهدية أن يؤخّر الاقتضاء وإن كان لم يشترط ذلك سدًّا لذريعة الربا، فكيف تجوز الحيلة على الربا؟ ومن لم يَسُدَّ الذرائع ولم يُراعِ المقاصد ولم يحرِّم الحيل يبيح ذلك كله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهَدْي أصحابه أحقُّ أن يتبع. وقد تقدم تحريمُه السلفَ والبيعَ لأنه يُتخذ حيلةً إلى الربا.
ويدل على تحريم الحيل الحديث الصحيح، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:«لا يُجمَع بين متفرق ولا يُفرَّق بين مجتمع خشيةَ الصدقة»
(2)
. وهذا نصٌّ في تحريم الحيلة المفضية إلى [58/أ] إسقاط الزكاة أو تنقيصها بسبب الجمع والتفريق، فإذا باع بعض النصاب قبل تمام الحول تحيُّلًا على إسقاط الزكاة فقد فرّق بين المجتمع، فلا تسقط الزكاة عنه بالفرار منها.
ومما يدلُّ على تحريمها قوله تعالى: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6]، قال المفسرون من السلف ومن بعدهم: لا تُعطِ عطاء تطلب أكثر منه، وهو أن تُهدِي ليُهدَى إليك أكثر مما أهديتَ.
وهذا كله يدلُّ على أن صور العقود غير كافية في حِلّها وحصول أحكامها إلا إذا لم يقصد بها قصدًا فاسدًا، وكلُّ ما لو شرطه في العقد كان
(1)
رواه عبد الرزاق (14650) وابن أبي شيبة (21058).
(2)
رواه البخاري (1450) من حديث أبي بكر رضي الله عنه.
حرامًا فاسدًا فقصده حرام فاسد، واشتراطه إعلان وإظهار للفساد، وقصده ونيته غِشٌّ وخداع ومكر؛ فقد يكون أشدَّ فسادًا من الاشتراط ظاهرًا من هذه الجهة، والاشتراط الظاهر أشدُّ فسادًا منه من جهة إعلان المحرَّم وإظهاره.
ومما يدّل على التحريم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعوا على تحريم هذه الحيل وإبطالها، وإجماعهم حجة قاطعة، بل هي من أقوى الحجج وآكدِها، ومن جعلهم بينه وبين الله فقد استوثق لدينه.
بيان المقدمة الأولى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «لا أُوتَى بمحلِّلٍ ولا محلَّلٍ له إلا رجمتُهما»
(1)
. وأقرَّه سائر الصحابة على ذلك، وأفتى عثمان وعلي وابن عباس وابن عمر أن المرأة لا تَحِلُّ بنكاح التحليل
(2)
.
وقد تقدم عن غير واحد من أعيانهم كأُبيّ وابن مسعود وعبد الله بن سلام وابن عمر وابن عباس أنهم نَهَوا المقرِض عن قبول هدية المقترض، وجعلوا قبولها ربًا.
وقد تقدم عن عائشة وابن عباس وأنس تحريم مسألة العينة، والتغليظ فيها، وأفتى عمر وعثمان وعلي وأبي بن كعب وغيرهم من الصحابة أن المبتوتة في مرض الموت ترِث
(3)
، ووافقهم سائر المهاجرين والأنصار من
(1)
رواه عبد الرزاق (10777)، وابن أبي شيبة (17363).
(2)
قول عثمان رواه البيهقي (7/ 208)، وقول علي وابن عباس عند عبد الرزاق (10803، 10779)، وقول ابن عمر عند ابن أبي شيبة (17365).
(3)
أما فتوى عمر وعثمان فرواهما عبد الرزاق (12201، 12191)، وأما فتوى علي وأُبي بن كعب فرواهما ابن أبي شيبة (19381، 19373).
أهل بدر وبيعة الرضوان ومن عداهم.
وهذه وقائع متعددة لأشخاص متعددة في أزمان متعددة، والعادة توجب اشتهارها وظهورها بينهم، لا سيما وهؤلاء أعيان المفتين من الصحابة الذين كانت تُضبط أقوالهم، ويُنتَهى إلى
(1)
فتاويهم، والناس عنق واحد إليهم متلقُّون لفتاويهم، ومع هذا فلم يحفظ عن أحد منهم إلا الإنكار، ولا إباحة الحيل مع تباعد الأوقات وزوال أسباب السكوت. وإذا كان هذا قولهم في التحليل والعينة وهدية المقترض إلى المقرِض فماذا يقولون في التحيُّل لإسقاط حقوق المسلمين، بل لإسقاط حقوق رب العالمين، وإخراجِ الأبضاع والأموال عن مِلك أربابها، وتصحيحِ العقود الفاسدة والتلاعب بالدين؟ وقد صانهم الله سبحانه أن يروا في وقتهم من يفعل ذلك أو يفتي به، كما صانهم عن رؤية الجهمية والمعتزلة [58/ب] والحلولية والاتحادية وأضرابهم، وإذا ثبت هذا عنهم فيما ذكرنا من الحيل فهو دليل على قولهم فيما هو أعظم منها.
وأما المقدمة الثانية فكلُّ من له معرفة بالآثار وأصول الفقه ومسائله ثم أنصفَ لم يشكَّ أن تقرير هذا الإجماع منهم على تحريم الحيل وإبطالها ومنافاتها للدين أقوى من تقرير إجماعهم على العمل بالقياس وغير ذلك مما يُدَّعى فيه إجماعهم، كدعوى إجماعهم على عدم وجوب غسل الجمعة، وعلى المنع من بيع أمهات الأولاد، وعلى الإلزام بالطلاق الثلاث بكلمة واحدة، وأمثال ذلك. فإذا وازنتَ بين هذا الإجماع وتلك الإجماعات
(1)
د: «وتنتهي إليهم» .
ظهر لك التفاوتُ، وانضم إلى هذا أن التابعين موافقون لهم على ذلك؛ فإن الفقهاء السبعة وغيرهم من فقهاء المدينة الذين أخذوا عن زيد بن ثابت وغيره متفقون على إبطال الحيل، وكذلك أصحاب عبد الله بن مسعود من أهل الكوفة، وكذلك أصحاب فقهاء البصرة كأيوب وأبي الشعثاء والحسن وابن سيرين، وكذلك أصحاب ابن عباس.
وهذا في غاية القوة من الاستدلال، فإنه انضمَّ إلى كثرة فتاويهم بالتحريم في أفراد هذا الأصل وانتشارها أن عصرهم انصرم، ورقعة الإسلام متسعة، وقد دخل الناس في دين الله أفواجًا، وقد اتسعت الدنيا على المسلمين أعظمَ اتساع، وكثر من كان يتعدَّى الحدود، وكان المقتضي لوجود هذه الحيل موجودًا، فلم يُحفظ عن رجل واحد منهم أنه أفتى بحيلة واحدة منها وأمر بها أو دلّ عليها، بل المحفوظ عنهم النهي والزجر عنها؛ فلو كانت هذه الحيل مما يسوغ فيها الاجتهاد لأفتى بجوازها رجل منهم، ولكانت مسألة نزاعٍ كغيرها، بل أقوالهم وأعمالهم وأحوالهم متفقة على تحريمها والمنع منها، ومضى على أثرهم أئمة الحديث والسنة في الإنكار.
قال الإمام أحمد في رواية موسى بن سعيد الدَّنداني
(1)
: لا يجوز شيء من الحيل
(2)
. وقال في رواية الميموني وقد سأله عمن حلف على يمين ثم احتال لإبطالها، فقال: نحن لا نرى الحيلة
(3)
. وقال في رواية بكر بن
(1)
ز: «الديرانى» بالراء وبدون نقط. وانظر: «طبقات الحنابلة» (1/ 332) و «الأنساب» (5/ 346).
(2)
انظر: «إبطال الحيل» (ص 113) و «طبقات الحنابلة» (1/ 332).
(3)
انظر: «إبطال الحيل» (ص 111) و «طبقات الحنابلة» (1/ 215).
محمد: إذا حلف على شيء ثم احتال بحيلة فصار إليها فقد صار إلى ذلك الذي حلف عليه بعينه. وقال: من احتال بحيلة فهو حانث
(1)
. وقال في رواية صالح وأبي الحارث وقد ذكر قول أصحاب الحيل فأنكره
(2)
. وقال في رواية إسماعيل بن سعيد وقد سئل عمن احتال في إبطال الشفعة، فقال: لا يجوز شيء من الحيل في إبطال حق امرئ مسلم
(3)
. وقال في رواية أبي طالب وغيره في الرجل يحلف وينوي غير ذلك: فاليمين على نية ما يُحلِّفه عليه صاحبه إذا لم يكن مظلومًا، فأما إذا كان مظلومًا حلف على نيته، ولم يكن عليه من نية الذي حَلَّفه شيء
(4)
. وقال في رواية عبد الخالق بن منصور: من كان عنده كتاب الحيل في بيته يفتي به فهو كافر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم
(5)
.
[59/أ] قلت: والذين ذكروا الحيل لم يقولوا إنها كلها جائز، وإنما أخبروا أن كذا حيلةٌ وطريق إلى كذا، ثم قد تكون الطريق محرمة، وقد تكون مكروهة، وقد يُختلف فيها، فإذا قالوا
(6)
:
الحيلة في فسخ المرأة النكاحَ أن ترتدّ ثم تسلم.
(1)
رواه ابن بطة في «إبطال الحيل» (ص 111)، وانظر:«طبقات الحنابلة» (1/ 120).
(2)
انظر «بيان الدليل» (ص 56، 57).
(3)
انظر: «بيان الدليل» (ص 28).
(4)
لم أقف على هذه الرواية.
(5)
انظر: «طبقات الحنابلة» (1/ 218) و «بيان الدليل» (ص 140).
(6)
جواب الشرط: «فهذه الحيل
…
» بعد صفحتين عند الانتهاء من ذكر الحيل.
والحيلة في سقوط القصاص عمن قتل أم امرأته أن يقتل امرأته إذا كان لها ولد منه.
والحيلة في سقوط الكفارة عمن أراد الوطء في رمضان أن يتغدّى ثم يطأ بعد الغداء.
والحيلة لمن أرادت
(1)
أن تفسخ نكاح زوجها أن تُمكِّن ابنَه من الوقوع عليها.
والحيلة لمن أراد أن يفسخ نكاح امرأته ويحرِّمها عليه
(2)
على التأبيد أن يطأ حماتَه أو يقبِّلها.
والحيلة لمن أراد سقوط حدّ الزنا عنه أن يَسْكَر ثم يزني.
والحيلة لمن أراد سقوط الحج عنه مع قدرته عليه أن يُملِّك مالَه لابنه أو زوجته عند خروج الركْب، فإذا أبعدَ استردَّ ماله.
والحيلة لمن أراد حرمانَ وارثه ميراثَه أن يُقِرَّ بماله كله لغيره عند الموت.
والحيلة لمن أراد إبطال الزكاة وإسقاط فرضها عنه بالكلية أن يُملِّك مالَه عند الحول لابنه أو امرأته أو أجنبيٍّ ساعةً من زمان ثم يستردّه منه، ويفعل هكذا كلَّ عام، فيبطل فرض الزكاة عنه أبدًا.
والحيلة لمن أراد أن يَملِك مال غيره بغير رضاه أن يُفسِده عليه أو يغيِّر
(1)
ز: «أراد» .
(2)
ز: «وتحريمها» .
صورته فيملكه، فيذبح شاته، ويشقُّ قميصه، ويطحن حبَّه ويخبزه، ونحو ذلك.
والحيلة لمن أراد قتل غيره ولا يُقتَل به أن يضربه بدَبُّوسٍ
(1)
أو مِرزَبة
(2)
حديدٍ يَنثُر دماغَه فلا يجب عليه قصاص.
والحيلة لمن أراد أن يزني بامرأة ولا يجب عليه الحد أن يستأجرها لكَنْسِ بيته أو لطَيِّ ثيابه أو لغَسْلها أو لنقْلِ متاع من مكان إلى مكان، ثم يزني بها ما شاء مجَّانًا بلا حدّ ولا غرامة، أو يستأجرها لنفس الزنا.
والحيلة لمن أراد أن يسقط عنه حدّ السرقة أن يدَّعي أن المال له أو أنّ له فيه شركةً فيسقط القطع عنه بمجرد دعواه، أو يَنْقُب الدار ثم يَدَعُ غلامه أو ابنه أو شريكه يدخل يُخرج المتاع، أو يدعه على ظهر دابة تخرج به، ونحو ذلك.
والحيلة لمن أراد سقوط حدّ الزنا عنه بعد أن يشهد به عليه أربعة عدول غير متهمين أن يصدِّقهم، فيسقط عنه الحدُّ بمجرد تصديقهم.
والحيلة لمن أراد قطعَ يد غيره ولا يُقطَع بها أن يمسك هو وآخر السكِّين أو السيف ويقطعانها معًا.
والحيلة لمن أرادت التخلُّف عن زوجها في السفر أن تُقِرَّ لغيره بدين.
والحيلة لمن أراد الصيد في الإحرام أن ينصِبَ الشِّباكَ قبل أن يُحرِم ثم يأخذ ما وقع فيها حالَ إحرامه بعد أن يحلَّ.
(1)
عمود على شكل هراوةٍ مُدَمْلكةِ الرأس.
(2)
مطرقة كبيرة تُضرب بها الحجارة.
فهذه الحيل وأمثالها لا يحلُّ لمسلمٍ أن يفتي بها في دين الله، ومن استحلَّ الفتيا بها فهو الذي كفَّره الإمام أحمد وغيره من الأئمة، حتى قالوا: إن من أفتى بهذه الحيل فقد قلبَ الإسلام ظهرًا لبطنٍ، ونقضَ عُرى الإسلام عروةً عروةً. وقال بعض أهل الحيل
(1)
: ما نَقَموا علينا من أنّا عَمَدنا إلى أشياء كانت [59/ب] حرامًا عليهم فاحتلْنا فيها حتى صارت حلالًا. وقال آخر منهم: إنا نحتال للناس منذ كذا وكذا سنة في تحليل ما حرَّم الله عليهم.
قال أحمد بن زهير بن مروان: كانت امرأة هاهنا بمَروْ أرادت أن تختلع من زوجها، فأبى زوجها عليها، فقيل لها: لو ارتددتِ عن الإسلام لبِنْتِ منه، ففعلتْ، فذكرتُ ذلك لعبد الله بن المبارك، فقال: من وضع هذا الكتاب فهو كافر، ومن سمع به ورضي به فهو كافر، ومن حمله من كُورةٍ إلى كُورةٍ فهو كافر، ومن كان عنده فرضي به فهو كافر.
وقال إسحاق بن راهويه: عن شقيق بن عبد الملك أن ابن المبارك قال في قصة بنت أبي رَوْح حيث أُمِرت بالارتداد، وذلك في أيام أبي غسَّان، فذكر شيئًا، ثم قال ابن المبارك وهو مغضب: أحدثوا في الإسلام، ومن كان أمر بهذا فهو كافر، ومن كان هذا الكتاب عنده أو في بيته ليأمر به أو هَوِيه ولم يأمر به فهو كافر. ثم قال ابن المبارك: ما أرى الشيطان كان يُحسِن مثل هذا، حتى جاء هؤلاء فأفادها منهم فأشاعها حينئذٍ، أو كان يحسنها ولم يجد من يُمضِيها فيهم حتى جاء هؤلاء.
(1)
كما في «بيان الدليل» (ص 138). والأقوال الآتية كلها نقلها المؤلف منه، وقد عزاها شيخ الإسلام إلى أبي بكر الخلال في «العلم» .
وقال إسحاق الطَّالَقاني: قيل يا أبا عبد الرحمن إن هذا الكتاب وضعه إبليس، قال: إبليسٌ من الأبالسة.
وقال النضْر بن شُمَيل: في كتاب «الحيل» ثلاثمائة وعشرون أو ثلاثون مسألة كلها كفر.
وقال أبو حاتم الرازي: قال شَرِيك ــ يعني ابن عبد الله قاضي الكوفة ــ وذُكِر له كتاب «الحيل» ، فقال: من يُخادع الله يخدَعْه.
وقال حفص بن غياث: ينبغي أن يُكتب عليه كتاب الفجور.
وقال إسماعيل بن حماد: قال القاسم بن معن ــ يعني ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قاضي الكوفة ــ: كتابكم هذا الذي وضعتموه في الحيل كتاب الفجور.
وقال حماد بن زيد: سمعت أيوب يقول: ويلَهم، مَن يخدعون؟ يعني أصحاب الحيل.
وقال عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي: سمعت يزيد بن هارون يقول: لقد أفتى أصحاب الحيل بشيء
(1)
لو أفتى به اليهودي والنصراني كان قبيحًا، [أتى رجل إلى صاحب الحيل]
(2)
فقال: إني حلفتُ أن لا أطلِّق امرأتي بوجه من الوجوه، وإنهم قد بذلوا لي مالًا كثيرًا، فقال له: قبِّلْ أمَّها، فقال يزيد بن هارون: ويلَه، يأمره أن يقبِّل امرأةً أجنبية!
وقال حُبَيش بن سِندي: سئل أبو عبد الله ــ يعني الإمام أحمد ــ عن
(1)
ز: «في شيء» .
(2)
زيادة من «بيان الدليل» ليستقيم السياق ويظهر مرجع الضمير في «فقال» الثانية.
الرجل يشتري جارية ثم يُعتقها من يومه ويتزوَّجها، أيطؤها من يومه؟ فقال: كيف يطؤها من يومه وقد وطئها ذلك بالأمس؟ هذا من طريق الحيلة. وغضِب وقال: هذا أخبثُ قول.
وقال رجل للفضيل بن عياض: يا أبا علي، استفتيتُ رجلًا في يمينٍ حلفتُ بها فقال لي: إن فعلتَ كذا حنثتَ، وأنا أحتال لك حتى تفعل ولا تحنثَ. فقال له الفضيل: تعرف الرجل؟ قال: نعم، قال: ارجعْ فاستثبِتْه، فإني أحسبه شيطانًا شُبِّه لك في صورة إنسان
(1)
.
وإنما قال هؤلاء الأئمة وأمثالهم هذا الكلام في هذه الحيل لأن فيها الاحتيالَ على تأخير صوم رمضان، وإسقاط [60/أ] فرائض الله تعالى من الحج والزكاة، وإسقاط حقوق المسلمين، واستحلال ما حرَّم الله من الربا والزنا، وأخذ أموال الناس وسَفْك دمائهم، وفسخ العقود اللازمة، والكذب وشهادة الزور وإباحة الكفر، وهذه الحيل دائرة بين الكفر والفسق.
ولا يجوز أن تُنسب هذه الحيل إلى أحد من الأئمة، ومن نسبها إلى أحد منهم فهو جاهل بأصولهم ومقاديرهم ومنزلتهم من الإسلام، وإن كان بعض هذه الحيل قد تنفُذُ على أصول إمامٍ بحيث إذا فعلها المتحيلُ نفذَ حكمها عنده، ولكن هذا أمرٌ غير الإذن فيها وإباحتها وتعليمها، فإن إباحتها شيء ونفوذها إذا فُعِلتْ شيء، ولا يلزم من كون الفقيه والمفتي لا يُبطِلها أن يبيحَها ويأذنَ فيها، وكثير من العقود يحرِّمها الفقيه ثم يُنفِذها ولا يُبطِلها، ولكن الذي نَدين الله به تحريمها وإبطالها وعدم تنفيذها، ومقابلة أربابها
(1)
رواه ابن بطة في «إبطال الحيل» (ص 113، 114)، وعزاه ابن تيمية في «بيان الدليل» (ص 141) إلى ابن بطة في «مسألة خلع اليمين» .
بنقيضِ قصودهم موافقةً لشرع الله وحكمته وقدرته.
والمقصود أن هذه الحيل لا يجوز أن تُنسب إلى إمام؛ فإن ذلك قدحٌ في إمامته، وذلك يتضمن القدح في الأمة حيث ائتمَّتْ بمن لا يصلح للإمامة، وهذا غير جائز، ولو فُرِض أنه حُكي عن واحد من الأئمة بعضُ هذه الحيل المُجمَع على تحريمها فإما أن تكون الحكاية باطلة، أو يكون الحاكي لم يضبط لفظه فاشتبه عليه فتواه بنفوذها بفتواه بإباحتها مع بُعْدِ ما بينهما، ولو فُرِض وقوعها منه في وقت ما فلا بدَّ أن يكون قد رجع عن ذلك، وإن لم يُحمَل الأمر على ذلك لزم القدح في الإمام وفي جماعة المسلمين المؤتمِّين به، وكلاهما غير جائز.
ولا خلاف بين الأمة أنه لا يجوز الإذن في التكلُّم بكلمة الكفر لغرضٍ من الأغراض، إلا المُكْرَه إذا اطمأنَّ قلبه بالإيمان. ثم إن هذا على مذهب أبي حنيفة وأصحابه أشدُّ؛ فإنهم لا يأذنون في كلمات وأفعال دون ذلك بكثير، ويقولون: إنها كفر، حتى قالوا: لو قال الكافر لرجل: إني أريد أن أُسلم، فقال:«اصبِرْ ساعة» فقد كفر، فكيف بالأمر بإنشاء الكفر؟ وقالوا: لو قال: «مُسَيجِد» ، أو صغّر لفظ المصحف كفر.
فعلمت أن هؤلاء المحتالين الذين يفتون بالحيل التي هي كفر أو حرام ليسوا بمقتدين بمذهب أحد من الأئمة، وأن الأئمة أعلم بالله ورسوله ودينه وأتقى له من أن يفتوا بهذه الحيل.
وقد قال أبو داود في «مسائله»
(1)
: سمعت أحمد وذكر أصحاب
(1)
(ص 367).
الحيل: يحتالون لنقض سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال في رواية أبي الحارث الصّائغ
(1)
(2)
: هذه الحيل التي وضعوها عَمَدوا إلى السنن واحتالوا لنقضها، والشيء الذي قيل لهم إنه حرام احتالوا فيه حتى أحلُّوه. قالوا: الرهن لا يحلُّ أن يستعمل، ثم قالوا: يحتال له حتى يستعمل، فكيف يحلُّ بحيلةٍ ما حرَّم الله ورسوله
(3)
؟ وقال صلى الله عليه وسلم: «لعن الله اليهود حُرِّمت عليهم الشحوم، فأذابوها فباعوها وأكلوا أثمانَها»
(4)
، أذابوها حتى أزالوا عنها اسم الشحم. [60/ب] وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلِّل
(5)
والمحلَّل له
(6)
.
وقال في رواية ابنه صالح
(7)
: عجبتُ مما يقول أرباب الحيل في الحيل في الأيمان، يُبطِلون الأيمان بالحيل وقد قال الله تعالى:{وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91]، وقال:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7]. وكان ابن عيينة يشتدُّ عليه أمر هذه الحيل.
(1)
في المطبوع: «الصانع» ، تحريف. انظر:«تاريخ بغداد» (5/ 128) و «طبقات الحنابلة» (1/ 74).
(2)
رواها ابن بطة في «إبطال الحيل» (ص 110) مختصرًا، وذكرها ابن تيمية في «بيان الدليل» (ص 56، 57) كما هنا.
(3)
«ورسوله» ليست في ز.
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
في النسخ: «الحال» .
(6)
تقدم تخريجه.
(7)
«مسائله» (2/ 486).
وقال في رواية الميموني
(1)
وقد سأله: إنهم يقولون في رجل حلف على امرأته وهي على درجة: إن صعدتِ أو نزلتِ فأنتِ طالق، قالوا
(2)
: تُحمَل حملًا، فقال: هذا هو الحنثُ بعينه، ليس هذه حيلة، هذا هو الحنث. وقالوا: إذا حلف لا يطأُ بساطًا، يطأُ بساطينِ، وإذا حلف لا يدخل دارًا يُحمل. فأقبل أبو عبد الله يَعجَب.
وقال أبو طالب
(3)
: سمعت أبا عبد الله قال له رجل: في كتاب «الحيل» : إذا اشترى الرجل الأمة فأراد أن يقعَ بها، يُعتقها ثم يتزوجها. فقال أبو عبد الله: سبحان الله، ما أعجبَ هذا! أبطلوا كتاب الله والسنة، جعل الله على الحرائر العدةَ
(4)
من أجل الحمل، فليس من امرأة تُطلَّق أو يموت زوجها إلا تعتدُّ من أجل الحمل، ففرجٌ يوطأ يشتريه ثم يُعتقه على المكان فيتزوجها فيطؤها! فإن كانت حاملًا كيف يصنع؟ يطؤها رجلٌ اليوم ويطؤها الآخر غدًا؟ [هذا]
(5)
نقضٌ للكتاب والسنة، قال النبي
(6)
صلى الله عليه وسلم: «لا تُوطأ الحاملُ حتى تضعَ، ولا غيرُ الحامل حتى تَحيضَ»
(7)
. ولا يدري هي حامل أم لا، سبحان الله، ما أسمجَ هذا!
(1)
انظر: «بيان الدليل» (ص 28، 29).
(2)
ز: «فقال» ، خطأ.
(3)
كما في «بيان الدليل» (ص 276، 277).
(4)
د: «العدة على الحرائر» .
(5)
زيادة من «بيان الدليل» .
(6)
«النبي» ليست في د.
(7)
رواه أبو داود (2157) من حديث أبي سعيد، وصححه الحاكم (2/ 195) والألباني في «الإرواء» (1/ 200).
وقال محمد بن الهيثم
(1)
: سمعت أبا عبد الله ــ يعني أحمد بن حنبل ــ يحكي عن محمد بن مقاتل
(2)
قال: شهدتُ هشامًا وهو يُقرئ كتابًا، فانتهى بيده إلى مسألة فجازها، فقيل له في ذلك، فقال: دعوه، وكره مكاني، فتطلعتُ في الكتاب، فإذا فيه: لو أن رجلًا لفَّ على ذكر فرجِه
(3)
حريرةً في شهر رمضان ثم جامع امرأته نهارًا فلا قضاء عليه ولا كفارة.
فصل
ومما يدلّ على بطلان الحيل وتحريمها أن الله سبحانه إنما أوجب الواجبات وحرَّم المحرمات لما تتضمن من مصالح عباده في معاشهم ومعادهم؛ فالشريعة لقلوبهم بمنزلة الغذاء الذي لا بدّ لهم منه والدواء الذي لا يندفع الداء إلا به، فإذا احتال العبد على تحليل ما حرَّم الله وإسقاطِ ما فرض الله وتعطيلِ ما شرع الله كان ساعيًا في دين الله بالفساد من وجوه:
أحدها: إبطاله ما في الأمر المحتال عليه من حكمة الشارع، ونقضُ حكمته فيه، ومناقضتُه له.
والثاني: أن الأمر المحتال به ليس له عنده حقيقة، ولا هو مقصوده، وهو ظاهر المشروع؛ فالمشروع ليس مقصودًا له، والمقصود له هو المحرَّم نفسه، وهذا ظاهرٌ كلَّ الظهور فيما قصد الشارع؛ فإن المرابي مثلًا مقصوده
(1)
لم أجد هذه الرواية في مصدر آخر.
(2)
ز: «مقاتل بن محمد» . والمثبت من د، وهو الصواب. انظر ترجمته في «تاريخ بغداد» (3/ 275).
(3)
كذا في النسختين، وفي المطبوع:«ذكره» .
الربا المحرّم، وصورة البيع الجائز غير مقصودة له. وكذلك المتحيِّل على إسقاط الفرائض بتمليك ماله لمن لا يهَبه درهمًا واحدًا حقيقةُ مقصوده إسقاط الفرض، وظاهر الهبة المشروعة غير مقصودة له.
الثالث: نسبته ذلك إلى الشارع الحكيم وإلى شريعته التي هي غذاءٌ للقلوب ودواؤها وشفاؤها، ولو أن رجلًا [61/أ] تحيَّل حتى قلب الدواء والغذاء
(1)
إلى ضدّه، فجعل الغذاء دواء والدواء غذاء، إما بتغيير اسمه أو صورته مع بقاء حقيقته= لأهلكَ الناس. فمن عَمَد إلى الأدوية المُسهلة فغيَّر صورتها أو أسماءها وجعلها غذاء للناس، أو عَمَد إلى السموم القاتلة فغيَّر أسماءها وصورتها وجعلها أدويةً، أو إلى الأغذية الصالحة فغيَّر أسماءها وصورها؛ كان ساعيًا بالفساد في الطبيعة، كما أن هذا ساعٍ بالفساد في الشريعة؛ فإن الشريعة للقلوب بمنزلة الغذاء والدواء للأبدان، وإنما ذلك بحقائقها لا بأسمائها وصُوَرها.
وبيان ذلك على وجه الإشارة أن الله سبحانه إنما حرَّم الزنا والربا وتوابعهما ووسائلهما؛ لما في ذلك من الفساد، وأباح البيع والنكاح وتوابعهما لأن ذلك مصلحة محضة، ولا بدَّ أن يكون بين الحلال والحرام فرق في الحقيقة، وإلا لكان البيع مثل الربا والنكاح مثل الزنا، ومعلوم أن الفرق في الصورة دون الحقيقة مُلغًى عند الله ورسوله وفي فِطَر عباده؛ فإن الاعتبار بالمقاصد والمعاني في الأقوال والأفعال، فإن الألفاظ إذا اختلفت ومعناها واحد كان حكمها واحدًا، فإذا اتفقت الألفاظ واختلفت المعاني كان حكمها مختلفًا، وكذلك الأعمال إذا اختلفت صورها واتفقت
(1)
ز: «الغذاء والدواء» .
مقاصدها، وعلى هذه القاعدة يبنى الأمر والنهي والثواب والعقاب. ومن تأمَّل الشريعة علم بالاضطرار صحة هذا؛ فالأمر المحتال به على المحرَّم صورته صورة الحلال، وحقيقته ومقصوده حقيقة الحرام؛ فلا يكون حلالًا، فلا يترتَّب عليه أحكام الحلال فيقع باطلًا، والأمر المحتال عليه حقيقته حقيقة الأمر الحرام وإن لم تكن صورته صورته، فيجب أن يكون حرامًا لمشاركته للحرام في الحقيقة.
ويا لله العجب! أين القياس والنظر في المعاني المؤثّرة وغير المؤثّرة فرقًا وجمعًا؟ والكلام في المناسبات ورعاية المصالح وتحقيق المناط وتنقيحه وتخريجه، وإبطال قول من علَّق الأحكام بالأوصاف الطردية التي لا مناسبة بينها وبين الحكم، فكيف يعلِّقه بالأوصاف المناسبة لضدّ الحكم؟ وكيف يعلِّق الأحكام على مجرد الألفاظ والصور الظاهرة التي لا مناسبة بينها وبينها، ويَدَعُ المعاني المناسبة المقتضية لها التي ارتباطُها بها كارتباط العلل العقلية بمعلولاتها؟ والعجب منه كيف ينكر مع ذلك على أهل الظاهر المتمسكين بظواهر كتاب ربهم وسنة نبيهم حيث لا يقوم دليل يخالف الظاهر، ثم يتمسك بظواهر أفعال المكلَّفين وأقوالهم حيث يعلم أن الباطن والقصد بخلاف ذلك؟ ويعلم لو تأمَّل حق التأمُّل أن مقصود الشارع غير ذلك.
كما يقطع بأن مقصوده من إيجاب الزكاة سدُّ خَلَّة المساكين وذوي الحاجات وحصولُ المصالح التي أرادها بتخصيص هذه الأوصاف من حماية المسلمين والذبّ عن حَوزة الإسلام، [61/ب] فإذا أسقطها بالتحيُّل فقد خالف مقصود الشارع وحصل مقصود المتحيِّل، والواجب الذي لا
يجوز غيره أن يحصل مقصود الله ورسوله ويبطل مقاصد المتحيلين المخادعين. وكذلك يعلم قطعًا أنه إنما حرّم الربا لما فيه من الضرر بالمحاويج، وأن مقصوده إزالة هذه المفسدة؛ فإذا أبيح التحيلُ على ذلك كان سعيًا في إبطال مقصود الشارع وتحصيلًا لمقصود المرابي.
وهذه سبيل جميع الحيل المتوسَّل بها إلى تحليل الحرام وإسقاط الواجب، وبهذه الطريق تبطل جميعًا. ألا ترى أن المتحيِّل لإسقاط الاستبراء مُبطِل لمقصود الشارع من حكمة الاستبراء ومصلحته؛ فالمعين له على ذلك مفوِّتٌ لمقصود الشارع محلِّلٌ لمقصود المتحيِّل. وكذلك التحيُّل على إبطال حقوق المسلمين التي ملَّكَهم إياها الشارع وجعلهم أحقَّ بها من غيرهم إزالةً لضررهم وتحصيلاً لمصالحهم؛ فلو أباح التحيُّلَ لإسقاطها لكان عدم إثباتها للمستحقين أولى وأقلَّ ضررًا من أن يُثبِتها ويوصي بها ويبالغ في تحصيلها ثم يشرع التحيلَ لإبطالها وإسقاطها. وهل ذلك إلا بمنزلة من بنى بناء مشيدًا وبالغ في إحكامه وإتقانه، ثم عاد فنقضَه، وبمنزلة من أمر بإكرام رجل والمبالغة في برِّه والإحسان إليه وأداء حقوقه، ثم أباح لمن أمره أن يتحيل بأنواع الحيل لإهانته وترك حقوقه.
ولهذا يسيء الكفار والمنافقون ومن في قلوبهم المرض الظنَّ بالإسلام والشرع الذي بعث الله به
(1)
رسوله، حيث ظنوا أن هذه الحيل مما جاء به الرسول، وعلموا مناقضتها للمصالح مناقضة ظاهرة ومنافاتَها لحكمة الرب وعدله ورحمته وحمايته وصيانته لعباده؛ فإنه نهاهم عما نهاهم عنه حميةً وصيانةً، فكيف يبيح لهم الحيل على ما حماهم عنه؟ وكيف يبيح لهم
(1)
«به» ليست في ز.
التحيُّلَ على إسقاط ما فرضه عليهم وعلى إضاعة الحقوق التي أحقَّها عليهم لبعضهم بعضًا لقيام مصالح النوع الإنساني التي لا تتمُّ إلا بما شرعه؟
فهذه الشريعة شرعَها الذي علم ما في ضمنها من المصالح والحِكم والغايات المحمودة وما في خلافها من ضدّ ذلك، وهذا أمر ثابت لها لذاتها وبائنٌ من أمر الرب تبارك وتعالى بها ونهيه عنها، فالمأمور به مصلحة وحُسنٌ في نفسه، واكتسى بأمر الرب تعالى مصلحةً وحسنًا آخر، فازداد حسنًا بالأمر ومحبة الرب وطلبه له إلى حسنه في نفسه، وكذلك المنهيُّ عنه مفسدةٌ في نفسه، وازداد بنهي الرب تعالى عنه وبغضه له وكراهته له
(1)
قبحًا إلى قبحه، وما كان هكذا لم يجز أن ينقلب حسنُه قبحًا بتغيُّر الاسم والصورة مع بقاء الماهية والحقيقة.
ألا ترى أن الشارع صلوات الله وسلامه عليه حرَّم بيع الثمار قبل بُدوِّ صلاحها
(2)
لما فيه من مفسدة التشاجر والتشاحن
(3)
، ولما تؤدي إليه ــ إن منع الله الثمرة ــ من أكلِ مال أخيه [62/أ] بغير حق ظلمًا وعدوانًا، ومعلوم قطعًا أن هذه المفسدة لا تزول بالتحيل على البيع قبل بدوِّ الصلاح؛ فإن الحيلة لا تؤثّر في زوال هذه المفسدة، ولا في تخفيفها، ولا في زوال ذرة منها؛ فمفسدة هذا العقد أمر ثابت له لنفسه، فالحيلة إن لم تزِده فسادًا لم تُزِلْ فسادًا.
وكذلك شرع الله سبحانه الاستبراء لإزالة مفسدة اختلاط المياه وفساد
(1)
«له» ليست في ز.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
ز: «التشاحن والتشاجر» .
الأنساب وسَقْي الإنسان ماءه زرعَ غيرِه، وفي ذلك من الفساد ما توجب العقول تحريمه لو لم تأت به شريعة، ولهذا فطر الله الناس على استهجانه واستقباحه، ويرون من أعظم الهُجَنِ
(1)
أن يقوم هذا عن المرأة ويَخلُفه الآخر عليها، ولهذا حرّم نكاح الزانية وأوجب العِدَد والاستبراء، ومن المعلوم قطعًا أن هذه المفسدة لا تزول بالحيلة على إسقاط الاستبراء ولا تَخِفُّ.
وكذلك شرع الحج إلى بيته لأنه قِوامٌ للناس في معاشهم ومعادهم، ولو عُطِّل البيت الحرام عامًا واحدًا عن الحج لما أُمهل الناس، ولعوجلوا بالعقوبة، وتوعّد مَن ملك الزاد والراحلة ولم يحج بالموت على غير الإسلام
(2)
، ومعلوم أن التحيُّل لإسقاطه لا يُزيل مفسدةَ الترك، ولو أن الناس كلهم تحيَّلوا لترك الحج والزكاة لبطلت فائدة هذين الفرضين العظيمين، وارتفع من الأرض حكمهما بالكلية، وقيل للناس: إن شئتم كلُّكم أن تتحيّلوا لإسقاطهما فافعلوا. فليتصوَّر العبد ما في إسقاطهما من الفساد المضادِّ لشرع الله وإحسانه وحكمته.
وكذلك الحدود جعلها الله سبحانه زواجرَ للنفوس وعقوبةً ونكالًا وتطهيرًا، فشرعها من أعظم مصالح العباد في المعاش والمعاد، بل لا تتمُّ سياسة ملكٍ من ملوك الأرض إلا بزواجرَ وعقوباتٍ لأرباب الجرائم، ومعلوم ما في التحيُّل لإسقاطها من منافاة هذا الغرض وإبطاله، وتسليطِ
(1)
جمع هُجْنة: العيب والقبح.
(2)
رواه الترمذي (812) من حديث علي رضي الله عنه، وقال: حديث غريب، وأعلّه بهلال بن عبد الله والحارث الأعور.
النفوس الشريرة على تلك الجنايات إذا علمتْ أن لها طريقًا إلى إبطال عقوباتها، وأنها تسقط تلك العقوبات بأدنى الحيل؛ فإنه لا فرق عندها البتةَ بين أن تعلم أنه لا عقوبةَ عليها فيها وبين أن تعلم أن لها عقوبةً وأن لها إسقاطَها بأدنى الحيل.
ولهذا احتاج البلد الذي تظهر فيه هذه الحيل إلى سياسة والٍ أو أميرٍ يأخذ على يد الجُناة ويكفُّ شرَّهم عن الناس إذا لم يمكن أربابَ الحيل أن يقوموا بذلك، وهذا بخلاف الأزمنة والأمكنة التي قام الناس فيها بحقائقِ ما بعث الله به رسوله؛ فإنهم لم يحتاجوا معها إلى سياسة أميرٍ ولا والٍ، كما كان أهل المدينة في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم، فإنهم كانوا يحدُّون بالرائحة وبالقيء وبالحبل وبظهور المسروق عند السارق، ويقتلون في القسامة، ويعاقبون أهلَ التُّهم، ولا يقبلون الدعوى التي تكذِّبها العادة والعرف، ولا يرون الحيل في شيء من الدين ويعاقبون [62/ب] أربابها، ويحبِسون في التُّهم حتى تتبيَّن حالُ المتَّهم، فإن ظهرت براءته خلَّوا سبيله، وإن ظهر فجوره قرَّروه بالعقوبة اقتداءً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عقوبة المتهمين وحبسهم؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حبس في تهمةٍ وعاقب في تهمةٍ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى مِن ذكرِ ذلك عنه وعن أصحابه ما فيه شفاء وكفاية وبيان لإغناءِ ما جاء به عن كل والٍ وسائسٍ، وأن شريعته التي هي شريعته لا يُحتاج معها إلى غيرها، وإنما يَحتاج إلى غيرها من لم يُحِط بها علمًا أو لم يقم بها عملًا.
والمقصود أن ما في ضمن المحرَّمات من المفاسد والمأمورات من المصالح يمنع أن يشرع إليها التحيل بما يبيحها ويسقطها، وأن ذلك مناقضة
ظاهرة. ألا ترى أنه بالغ في لعن المحلِّل للمفاسد الظاهرة والباطنة التي في التحليل التي يَعجِز البشر عن الإحاطة بتفاصيلها؛ فالتحيل على صحة هذا النكاح بتقديم اشتراط التحليل عليه وإخلاء صلبه عنه إن لم يَزِد مفسدتَه فإنه لا يُزِيلها ولا يخفِّفها. وليس تحريمه والمبالغة في لعن فاعله تعبُّدًا لا يُعقل معناه، بل هو معقول المعنى من محاسن الشريعة، بل لا يمكن شريعةَ الإسلام ولا غيرَها من شرائع الأنبياء أن تأتي بحيلة؛ فالتحيُّل على وقوعه وصحته إبطالٌ لغرض الشارع وتصحيحٌ لغرض المتحيِّل المخادع.
وكذلك الشارع حرَّم الصيد في الإحرام وتوعَّد بالانتقام على من عاد إليه بعد تحريمه، لما فيه من المفسدة الموجبة لتحريمه وانتقام الربّ من فاعله، ومعلوم قطعًا أن هذه المفسدة لا تزول بنَصْب الشِّباك له قبل الإحرام بلحظة، فإذا وقع فيها حالَ الإحرام أخذه بعد الحلِّ بلحظة، فإباحته لمن فعل هذا إبطالٌ لغرض الشارع الحكيم
(1)
وتصحيحٌ لغرض المخادع.
وكذلك إيجاب الشارع الكفارة على من وطئ في نهار رمضان، فيه من المصلحة جَبْر وَهنِ الصوم، وزجر الواطئ، وتكفير جرمه، واستدراك فرطه
(2)
، وغير ذلك من المصالح التي علِمَها من شرعَ الكفارة وأحبَّها ورضيَها، فإباحةُ التحيُّلِ لإسقاطها بأن يتغدَّى قبل الجماع ثم يجامع نقضٌ لغرض الشارع وإبطال له، وإعمالٌ لغرض الجاني المتحيِّل وتصحيح له، ثم إن ذلك جناية على حقّ الله وحقّ العبيد؛ فهو إضاعة للحقَّين وتفويت لهما.
(1)
«الحكيم» ليست في ز.
(2)
في النسختين: «ممارطه» ، والمثبت من هامش د.
وكذلك الشارع شرع حدود الجرائم التي تتقاضاها الطِّباع أشدَّ تقاضٍ، لما في إهمال عقوباتها من مفاسد الدنيا والآخرة، بحيث لا يمكن سياسةَ ملكٍ ما من الملوك أن يخلو عن عقوباتها البتةَ، ولا يقوم مُلكه بذلك، فالإذن في التحيُّل لإسقاطها بصورة العقد وغيره مع وجود تلك المفاسد بعينها أو أعظم منها نقضٌ وإبطال لمقصود الشارع، وتصحيح لمقصود الجاني، وإغراء بالفساد، وتسليط للنفوس على الشر.
ويا لله العجب! كيف يجتمع في الشريعة تحريم الزنا والمبالغة [63/أ] في المنع منه وقتلُ فاعله شرَّ القتلات وأقبحها وأشنعها وأشهرها، ثم يسقط بالتحيل عليه بأن يستأجرها لذلك أو لغيره ثم يقضي غرضه منها؟ وهل يَعجِز عن ذلك زانٍ أبدًا؟ وهل في طباع ولاة الأمر أن يقبلوا قول الزاني: أنا استأجرتُها للزنا، أو استأجرتها لتطوِيَ ثيابي ثم قضيتُ غرضي منها، فلا يحلُّ لك أن تقيم عليَّ الحدَّ؟ وهل ركَّب الله في فِطَر الناس سقوطَ الحدّ عن هذه الجريمة التي هي من أعظم الجرائم إفسادًا للفراش والأنساب بمثل هذا؟ وهل يُسقِط الشارع الحكيم الحدَّ عمن أراد أن ينكح أمه وابنته
(1)
وأخته بأن يعقد عليها العقد ثم يطأها بعد ذلك؟ وهل زاده صورةُ العقد المحرم إلا فجورًا وإثمًا واستهزاءً بدين الله وشرعه ولعبًا بآياته؟ فهل يليق به مع ذلك رفعُ هذه العقوبة عنه وإسقاطها بالحيلة
(2)
التي فعلها مضمومةً إلى فعل الفاحشة بأمه وابنته؟ فأين القياس وذكر المناسبات والعلل المؤثّرة والإنكار
(1)
ز: «وبنته» .
(2)
في النسختين: «بالحسنة» مع كتابة «كذا» فوقها، مما يدلُّ على الشك في صحتها. وفي المطبوعات:«بالحيلة» ، وهي الصواب كما يدلّ عليها السياق.
على الظاهرية؟ فهل بلغوا في التمسُّك بالظاهر عُشرَ معشارِ هذا؟ والذي يُقضَى منه العجب أن يقال: لا يُعتدُّ بخلاف المتمسكين بظاهر القرآن والسنة، ويُعتدُّ بخلاف هؤلاء، والله ورسوله منزَّهٌ عن هذا الحكم.
ويا لله العجب! كيف يسقط القطع عمن اعتاد سرقة أموال الناس، وكلما مُسِكَ معه المال المسروق قال: هذا مِلكي، والدار التي دخلها داري، والرجل الذي دخلتُ دارَه عبدي؟ قال أرباب الحيل: فيسقط عنه الحدّ بدعوى ذلك، فهل تأتي بهذا سياسةٌ قطُّ جائرة أو عادلة، فضلًا عن شريعة نبي من الأنبياء، فضلًا عن الشريعة التي هي أكمل شريعة طرقت العالم؟
وكذلك الشارع أوجب الإنفاق الواجب على الأقارب؛ لما في ذلك من قيام مصالحهم ومصالح المنفق، ولما في تركه
(1)
من إضاعتهم؛ فالتحيل لإسقاط الواجب بالتمليك في الصورة مناقضةٌ لغرض الشارع، وتتميمٌ لغرض الماكر المحتال، وعودٌ إلى نفس الفساد الذي قصد الشارع إعدامه بأقرب الطرق. ولو تحيَّل هذا المخادع على إسقاط نفقة دوابّه لهلكوا.
وكذلك ما فرضه الله سبحانه للوارث من الميراث هو حقٌّ له جعله أولى من سائر الناس به، فإباحة التحيُّل لإسقاطه بالإقرار بماله كله للأجنبي وإخراجِ الوارث مضادَّةٌ لشرع الله ودينه، ونقضٌ لغرضه، وإتمامٌ لغرض المحتال، وكذلك تعليم المرأة أن تُقِرَّ بدينٍ لأجنبي إذا أراد زوجها السفر بها.
(1)
د: «تركهم» .
فصل
وأكثر هذه الحيل لا تمشي على أصول الأئمة، بل تُناقضها أعظمَ مناقضة.
وبيانه أن الشافعي رضي الله عنه يحرِّم مسألة مُدّ عجوة ودرهم بمدٍّ ودرهم، ويبالغ في تحريمها
(1)
بكل طريق خوفًا
(2)
أن تُتّخذ حيلة على نوع ما من ربا الفضل، فتحريمه للحيل الصريحة التي يتوصَّل بها إلى ربا النَّساء أولى [63/ب] من تحريم مُدِّ عجوة بكثير؛ فإن التحيل بمدّ ودرهم من الطرفين على ربا الفضل أخفُّ من التحيل بالعِينة على ربا النَّساء، وأين مفسدة هذه من مفسدة تلك؟ وأين حقيقة الربا في هذه من حقيقته في تلك؟ وأبو حنيفة يحرِّم مسألة العِينة، وتحريمه لها يوجب تحريمه للحيلة في مسألة مُدِّ عجوة بأن يبيعه خمسة عشر درهمًا بعشرة في خرقة؛ فالشافعي يبالغ في تحريم مسألة مدّ عجوة ويبيح العِينة، وأبو حنيفة يبالغ في تحريم العينة ويبيح مسائل مُدّ عجوة، ويتوسع فيها، وأصلُ كلٍّ من الإمامين رضي الله عنهما في أحد البابين يستلزم إبطالَ الحيلة في الباب الآخر، وهذا من أقوى التخريج على أصولهم ونصوصهم، وكثير من الأقوال المخرَّجة دون هذا.
فقد ظهر أن الحيل المحرَّمة في الدين تقتضي رفع التحريم مع قيام موجبه ومقتضيه وإسقاط الوجوب مع قيام سببه، وذلك حرام من وجوه:
أحدها: استلزامها فعلَ المحرَّم وترك الواجب.
(1)
ز: «تحريمه» .
(2)
«خوفا» ساقطة من ز.
والثاني: ما يتضمن من المكر والخداع والتلبيس.
والثالث: الإغراء بها والدلالة عليها وتعليمها من لا يُحسِنها.
والرابع: إضافتها إلى الشارع وأن أصول شرعه ودينه تقتضيها.
والخامس: أن صاحبها لا يتوب منها ولا يعدُّها ذنبًا.
والسادس: أنه يخادع الله كما يخادع المخلوق.
والسابع: أنه يسلِّط أعداء الدين على القدح فيه وسوءِ الظن به وبمن شرعه.
والثامن: أنه يُعمِل فكره واجتهاده في نقض ما أبرمه الرسول وإبطالِ ما أوجبه وتحليلِ ما حرمه.
والتاسع: أنه إعانة ظاهرة على الإثم والعدوان، وإنما اختلفت الطريق؛ فهذا يُعِين عليه بحيلة ظاهرُها صحيح مشروع يتوصل بها إليه، وذاك يُعِين عليه بطريقه المفضية إليه بنفسها، فكيف كان هذا مُعِينًا على الإثم والعدوان والمتحيلُ المخادع يُعِين على البر والتقوى؟
العاشر: أن هذا ظلم في حق الله وحق رسوله وحق دينه وحق نفسه وحق العبد المعين وحقوق عموم المؤمنين؛ فإنه يُغرِي به ويعلّمه ويدلُّ عليه، والمتوصِّل إليه بطريق المعصية لا يظلم إلا نفسه. ومن تعلَّق به ظلمه من المعينين فإنه لا يزعم أن ذلك دين وشرع ولا يقتدي به الناس، فأين فسادُ أحدهما من الآخر وضررُه من ضرره؟ وبالله التوفيق.
* * * *
فصل
قال أرباب الحيل: قد أكثرتم مِن ذمّ الحيل، وأجلبتم بِخَيل الأدلة ورَجِلها وسمينها ومهزولها، فاسمعوا الآن تقريرها واشتقاقها من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وأئمة الإسلام، وأنه لا يمكن أحدًا إنكارُها.
قال الله تعالى لنبيه أيوب عليه السلام: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] فأذن لنبيه أيوب أن يتحلَّل من يمينه بالضرب بالضِّغْث
(1)
، وقد كان نذر أن يضربها [64/أ] ضرباتٍ معدودة، وهي في المتعارف الظاهر إنما تكون متفرقة؛ فأرشده سبحانه إلى الحيلة في خروجه من اليمين. فنقيسُ عليه سائر الباب، ونسمِّيه وجوهَ المخارج من المضايق، ولا نُسمِّيه بالحيل التي يَنفُر الناس من اسمها.
وأخبر تعالى عن نبيه يوسف عليه السلام
(2)
أنه جعل صُواعه في رَحْل أخيه ليتوصَّل بذلك إلى أخذه من إخوته، ومدحه بذلك، وأخبر أنه برضاه وإذنه، كما قال:{كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]، فأخبر أن هذا كيده لنبيه وأنه بمشيئته، وأنه يرفع درجة عبده بلطيف العلم ودقيقه الذي لا يهتدي إليه سواه، وأن ذلك من علمه وحكمته.
وقال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل:
50]، فأخبر سبحانه أنه مكرَ بمن مكرَ بأنبيائه ورسله، وكثير من الحيل هذا شأنها، يُمكَر بها على الظالم والفاجر ومن يَعْسُر تخليص الحق منه؛ فتكون وسيلةً إلى نصر مظلوم وقهر ظالم ونصر حق وإبطال باطل. والله سبحانه قادر على أخذهم بغير وجه المكر الحسن، ولكن جازاهم بجنس عملهم، وليُعلِم عبادَه أن المكر الذي يُتوصَّل به إلى إظهار الحق ويكون عقوبةً للماكر ليس قبيحًا.
وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]، وخداعه لهم أن يُظهِر لهم أمرًا ويُبطِن لهم خلافَه. فما تنكرون على أرباب الحيل الذين يُظهِرون أمرًا يتوصَّلون به إلى باطنٍ غيره اقتداءً
(1)
بفعل الله تعالى؟
وقد روى البخاري في «صحيحه»
(2)
من حديث أبي هريرة وأبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلًا على خيبر، فجاءهم بتمرٍ جَنيبٍ، فقال:«أكلُّ تمْرِ خيبَر هكذا؟» قال: إنّا لنأخذُ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاث، فقال:«لا تفعلْ، بِعِ الجَمْعَ بالدراهم، ثم ابتَعْ بالدراهم جنيبًا» ، وقال في الميزان
(3)
مثل ذلك. فأرشده إلى الحيلة على التخلُّص من الربا
(4)
بتوسط العقد الآخر، وهذا أصلٌ في جواز العِينة.
(1)
في النسختين د، ز:«افتوا» . والمثبت كما في المطبوع.
(2)
رقم (2302).
(3)
في النسختين: «القرآن» . والتصويب من البخاري. قال الحافظ في «الفتح» (4/ 481): أي والموزون مثل ذلك، لا يباع رطل برطلين.
(4)
«من الربا» ساقطة من ز.
وهل الحيل إلا معاريض في الفعل على وِزان
(1)
المعاريض في القول؟ وإذا كان في المعاريض مندوحةٌ عن الكذب ففي معاريض الفعل مندوحةٌ عن المحرَّمات وتخلُّصٌ
(2)
من المضايق.
وقد لقي النبي صلى الله عليه وسلم طائفةً من المشركين وهو في نفر من أصحابه، فقال المشركون: ممن أنتم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «نحن من ماءٍ» ، فنظر بعضهم إلى بعض، فقالوا: أحياءُ اليمن كثير، فلعلهم منهم، وانصرفوا
(3)
.
وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: احملني، فقال:«ما عندنا إلا ولدُ ناقةٍ» ، فقال: ما أصنع بولد ناقة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وهل تَلد الإبلَ إلا النوقُ؟»
(4)
.
وقد رأت امرأة عبد الله بن رواحة عبد الله على جارية له، فذهبتْ وجاءت بالسكّين، فصادفتْه قد قضى حاجته، فقالت: لو وجدتُك على الحال التي كنتَ عليها لوجَأْتُك، فأنكر، فقالت: فاقرأْ إن كنتَ صادقًا، [64/ب] فقال:
(1)
د: «وزن» .
(2)
«عن المحرمات وتخلص» ساقطة من ز.
(3)
رواه الواقدي في «المغازي» (1/ 18) وابن هشام في «السيرة» (2/ 189) والطبري في «التاريخ» (2/ 27، 436) من طريق ابن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان، وهو مرسل.
(4)
رواه أحمد (13817) وأبو داود (4998) والترمذي (1991) وأبو يعلى (3776) عن أنس، وصححه الترمذي والبغوي في «شرح السنة» (13/ 181) والألباني في «مختصر الشمائل» (203).
شهدتُ بأن وعد الله حقٌّ
…
وأن النار مَثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طافٍ
…
وفوق العرش ربُّ العالمينا
وتَحمِله ملائكةٌ شِدادٌ
…
ملائكةُ الإلهِ مسوّمينا
فقالت: آمنتُ بكتاب الله وكذَّبتُ بصري. فبلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فضحك ولم ينكر عليه
(1)
. وهذا تحيّلٌ منه بإظهار القراءة لما أوهم أنه قرآن ليتخلَّص به من مكروه الغيرة.
وكان بعض السلف إذا أراد أن لا يَطعم طعامَ رجلٍ قال: أصبحتُ صائمًا، يريد أنه أصبح فيما سلف قبل ذلك اليوم صائمًا
(2)
.
وكان محمد بن سيرين إذا اقتضاه بعض غرمائه وليس عنده ما يعطيه قال: أُعطيك في أحد اليومين إن شاء الله، يريد بذلك يومي الدنيا والآخرة.
وسأل رجل عن المرّوذي
(3)
وهو في دار أحمد بن حنبل، فكره الخروج إليه، فوضع أحمد إصبعه في كفه وقال: ليس المرّوذي هاهنا، وما يصنع المرّوذي هاهنا؟
(4)
.
(1)
رواه الفسوي في «المعرفة والتاريخ» (1/ 259) والدارقطني (1/ 120، 121) والبيهقي في «الخلافيات» (2/ 31) من طريق زمعة ين صالح عن سلمة بن وَهْرَام عن عكرمة عن ابن رواحة، وعكرمة لم يلق ابن رواحة، وزمعة ضعيف، وضعف الحديث عبد الحق في «الأحكام الوسطى» (1/ 174) والنووي في «المجموع» (2/ 159) وابن عبد الهادي في «التنقيح» (1/ 244).
(2)
ز: «فيما سلف صائمًا قبل ذلك» .
(3)
في المطبوع: «المروزي» ، تصحيف.
(4)
الخبر في «مناقب الإمام أحمد» (ص 302) و «سير أعلام النبلاء» (11/ 319). وفيهما أن مهنّا الذي وضع إصبعه وقال: ليس المروذي هاهنا، فضحك أحمد ولم ينكر عليه.
وحضر سفيان الثوري مجلسًا، فلما أراد النهوض منعوه، فحلف أنه يعود، ثم خرج وترك نعله كالناسي لها، فلما خرج عاد وأخذها وانصرف.
وقد كان لشُريح في هذا الباب فقه دقيق، كما أعجب رجلًا فرسُه وأراد أخذها منه، فقال له شريح: إنها إذا رَبَضَتْ لم تقم حتى تُقام، فقال الرجل: أف أف، وإنما أراد شريح أن الله هو الذي يُقِيمها
(1)
.
وباع من رجل ناقةً، فقال له المشتري: كم تحمل؟ فقال: احملْ على الحائط ما شئتَ، فقال: كم تحلب؟ قال: احلُبْ في أيّ إناء شئتَ، قال: كيف سيرها؟ قال: الريح لا تلحق. فلما قبضها المشتري لم يجد شيئًا من ذلك، فجاء إليه وقال: ما وجدتُ شيئًا من ذلك، فقال: ما كَذَبتُك
(2)
.
قالوا: ومن المعلوم أن الشارع جعل العقود وسائلَ وطُرقًا إلى إسقاط الحدود والمأثم، ولهذا لو وطئ الإنسان امرأة أجنبية من غير عقد ولا شبهةٍ لزمه الحدُّ، فإذا عقد عليها عقد النكاح ثم وطئها لم يلزمه الحدُّ، وكان العقد حيلة على إسقاط الحد. بل قد جعل الله سبحانه الأكل والشرب واللباس حيلةً على دفع أذى الجوع والعطش والبرد، والأكْنانَ
(3)
حيلة على دفع أذى الصائل من الحيوان وغيره، وعقد التبايع حيلة على حصول الانتفاع بملك
(1)
ذكره الخصاف في «الحيل» (ص 2).
(2)
ذكره ابن حبان في «الثقات» (6/ 20) بنحوه.
(3)
د: «والاكنا» . وفي المطبوع: «والاكتفاء» ، تحريف. والأكنان جمع كِنّ: كل ما يردُّ الحرّ والبرد من الأبنية والغيران ونحوها.
الغير، وسائر العقود حيلة على التوصُّل إلى ما لا يباح إلا بها، وشرع الرهن حيلة على رجوع صاحب الدين في ماله من عين الرهن إذا أفلس الراهن أو تعذَّر الاستيفاء منه.
وقد روى سلمة بن صالح عن يزيد الواسطي عن عبد الكريم عن عبد الله ابن بُريدة [عن أبيه] قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أعظم آية في كتاب الله، فقال:«لا أخرج من المسجد حتى أُخبرك» ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من مجلسه، فلما أخرج إحدى رجليه أخبره بالآية [65/أ] قبل أن يُخرِج رِجلَه الأخرى
(1)
. وقد بنى الخصاف «كتابه في الحيل»
(2)
على هذا الحديث، ووجه الاستدلال به أن من حلف لا يفعل شيئًا فأراد التخلُّص من الحِنْث بفعل بعضه لم يكن حانثًا، فإذا حلف لا يأكل هذا الرغيف ولا يأخذ هذا المتاع فلْيدَعْ بعضه ويأخذ الباقي ولا يحنث، وهذا أصل في بابه في التخلُّص من الأيمان.
وهذا السلف الطيب قد فتحوا لنا هذا الباب، ونهجوا لنا هذا
(3)
الطريق، فروى قيس بن الربيع عن الأعمش عن إبراهيم في رجل أخذه رجل فقال: إن لي معك حقًّا، فقال: لا، فقال: احلِفْ لي بالمشي إلى بيت الله، فقال: يحلف له بالمشي إلى بيت الله، ويعني به مسجد حيِّه
(4)
.
(1)
رواه الدارقطني (1183) والبيهقي (10/ 62) بهذا الطريق، وسلمة وعبد الكريم ضعيفان، وضعّف الحديث البيهقي والذهبي في «التنقيح» (1/ 145)، وأشار إلى ضعفه الدارقطني في «الغرائب» (2/ 329). والزيادة من المصادر.
(2)
انظر (ص 2) منه.
(3)
ز: «فيها» .
(4)
رواه الخصاف في «الحيل» (ص 2) بهذا الإسناد، وقيس ضعيف.
وبهذا الإسناد أنه قال له رجل: إن فلانًا أمرني أن آتي مكانَ كذا وكذا، وأنا لا أقدر على ذلك المكان، فكيف الحيلة؟ قال: يقول: والله ما أُبصِر إلا ما سدَّدني غيري
(1)
.
وذكر عبد الملك بن مَيْسرة عن النزَّال بن سَبْرة قال: جعل حذيفة يحلف لعثمان بن عفان على أشياء بالله ما قالها، وقد سمعناه يقولها، فقلنا: يا أبا عبد الله، سمعناك تحلف لعثمان على أشياء ما قلتَها، وقد سمعناك قلتَها، فقال: إني أشتري ديني بعضَه ببعضٍ مخافةَ أن يذهب كلُّه
(2)
.
وذكر قيس بن الربيع عن الأعمش عن إبراهيم أن رجلًا قال له: إني أنال من رجل شيئًا فيبلغه عني، فكيف أعتذر إليه؟ فقال له إبراهيم: قُل: والله إن الله ليعلم ما قلتُ من ذلك من شيء
(3)
.
وكان إبراهيم يقول لأصحابه إذا خرجوا من عنده وهو مستخفٍ من الحجاج: إن سُئلتم عني فاحلفوا بالله لا تدرون أين أنا، ولا في أيّ موضع أنا، واعْنُوا لا تدرون أين أنا من البيت، وفي أي موضع منه، وأنتم صادقون
(4)
.
وقال مجاهد عن ابن عباس: ما يسُرُّني بمعاريض الكلام حُمْرُ النَّعم
(5)
.
(1)
انظر التعليق السابق.
(2)
رواه ابن أبي شيبة (33721) والطبري في «تهذيب الآثار ــ مسند علي» (ص 143) وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 279) من طرق عن الأعمش عن ابن ميسرة به، وسنده صحيح.
(3)
رواه الخصاف في «الحيل» (ص 2)، وفيه قيس بن الربيع ضعيف.
(4)
المصدر السابق.
(5)
رواه الخصاف (ص 3) من طريق الحسن بن عمارة، وهو ضعيف جدًّا. وأخرجه ابن أبي شيبة (26621) والطبري في «تهذيب الآثار ــ مسند علي» (ص 145) من طريق منصور عن ابن عباس، وهو منقطع بينهما.
وقد ثبت في الصحيح من حديث حُميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أمه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيط ــ وكانت من المهاجرات الأُول ــ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخَّص في الكذب في ثلاث: في الرجل يُصلِح بين الناس، والرجل يَكذِب لامرأته، والكذب في الحرب
(1)
.
وقال معتمر بن سليمان التيمي عن أبيه: حدثني نُعيم بن أبي هند عن سُويد بن غَفَلة أن عليًّا لما قتل الزنادقة نظر في الأرض، ثم رفع رأسه إلى السماء، ثم قال: صدق الله ورسوله، ثم قام فدخل بيته، فأكثر الناس في ذلك، فدخلتُ عليه فقلت: يا أمير المؤمنين أشيء عهدَ إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم أم شيء رأيتَه؟ فقال: هل عليَّ من بأسٍ
(2)
أن أنظر إلى السماء؟ قلت: لا، قال: فهل عليَّ من بأسٍ أن أنظر إلى الأرض؟ قلت: لا، قال: فهل عليَّ من بأسٍ أن أقول صدق الله ورسوله؟ قلت: لا، قال: فإني رجل مُكايد
(3)
.
(1)
رواه مسلم (2605) وأبو داود (4921) والنسائي في «الكبرى» (8/ 36)، وأعلّه الحافظ في «الفتح» (5/ 300) بالإدراج. وانظر:«الصحيحة» (545).
(2)
ز: «لي علي بأس» .
(3)
رواه أحمد بن منيع كما في «إتحاف الخيرة» (4/ 73) من طريق يزيد بن هارون، والخصاف (ص 3) من طريق عبد الله بن الفضل وأبي عمر بن سليمان عن سليمان التيمي، وسنده صحيح، صححه الحافظ في «المطالب العالية» (2/ 364) والبوصيري. وأخرجه الطبري في «تهذيب الآثار ــ مسند علي» (ص 79) من طريق معتمر بن سليمان عن أبيه.
وقال حجاج بن منهال: ثنا أبو عوانة عن أبي مسكين قال: كنت عند إبراهيم وامرأته تعاتبه في جاريته وبيدها مِروحةٌ، فقال: أُشهِدكم أنها لها، فلما خرجنا قال: على [65/ب] مَا شهدتم؟ قلنا: أَشْهَدتَنا أنك جعلت الجارية لها، قال: أما رأيتموني أشير إلى المروحة؟
(1)
.
وقال محمد بن الحسن عن عُمر
(2)
بن ذر عن الشعبي: لا بأس بالحيل فيما يحلّ ويجوز، وإنما الحيل شيء يتخلَّص به الرجل من الحرام، ويخرج به إلى الحلال، فما كان من هذا ونحوه فلا بأس به، وإنما يُكره من ذلك أن يحتال الرجل في حقّ رجلٍ حتى يُبطِله، أو يحتال في باطل حتى يُوهِم أنه حق، أو يحتال في شيء حتى يدخل فيه شبهة، فأما ما كان على السبيل الذي قلنا فلا بأس بذلك
(3)
.
قالوا: وقد قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]، قال غير واحد من المفسرين: مخرجًا مما ضاق على الناس. ولا ريب أن هذه الحيل مخارج مما ضاق على الناس
(4)
. ألا ترى أن الحالف يضيق عليه إلزام ما حلف عليه، فيكون له بالحيلة مخرجٌ منه، وكذلك الرجل تشتدُّ به الضرورة إلى نفقة ولا يجد من يُقرِضه فيكون له من هذا الضيق مخرجٌ بالعِينة
(1)
رواه الخصاف (ص 4) بهذا الإسناد، وفيه أبو مسكين حسن الحديث، والبقية ثقات.
(2)
في النسختين د، ز:«عمرو» ، وكذا في المطبوع. والصواب «عمر». انظر:«تهذيب التهذيب» (7/ 444) و «العلل» لأحمد (2004) ففيه ذكر روايته عن الشعبي. وعمر هذا ثقة.
(3)
رواه الخصاف (ص 4).
(4)
«على الناس» ليست في ز.
والتورُّق ونحوهما، فلو لم يفعل ذلك لهلك وهلكت عياله، والله سبحانه لا يشرع ذلك، ولا يَضِيق عنه شرعُه الذي وَسِعَ جميعَ خلقه؛ فقد دار أمره بين ثلاثة لا بدَّ له من واحدٍ منها: إما إضاعة نفسه وعياله، وإما الربا صريحًا، وإما المخرج من هذا الضيق بالحيلة، فأَوجِدُونا أمرًا رابعًا نصير إليه.
وكذلك الرجل يَنْزَغه الشيطان فيقع به الطلاق فيضيق عليه جدًّا مفارقةُ امرأته وأولاده وخراب بيته، فكيف يُنكَر في حكمة الله ورحمته أن نتحيَّل له بحيلة تُخرِجه من هذا الإصر والغُلّ؟ وهل الساعي في ذلك إلا مأجور غير مأزور كما قاله إمام الظاهرية في وقته أبو محمد بن حزم وأبو ثور وبعض أصحاب أبي حنيفة، وحملوا أحاديث التحريم على ما إذا شُرِط في صلب العقد أنه نكاح تحليل؟
قالوا: وقد روى عبد الرزاق
(1)
عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين قال: أرسلت امرأة إلى رجل، فزوَّجتْه نفسَها ليُحِلَّها لزوجها، فأمره عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يقيم معها ولا يطلِّقها، وأوعده أن يعاقبه إن طلَّقها. فهذا أمير المؤمنين قد صحَّح نكاحه، ولم يأمره باستئنافه، وهو حجة في صحة نكاح المحلِّل والنكاح بلا وليّ.
وذكر عبد الرزاق
(2)
عن معمر عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان لا يرى بأسًا بالتحليل، إذا لم يعلم أحد الزوجين.
(1)
في «المصنف» (10786، 10787) وابن حزم في «المحلى» (10/ 182)، وابن سيرين لم يدرك عمر.
(2)
في «المصنف» (10782) وابن حزم في «المحلى» (10/ 182)، وسنده صحيح.
قال ابن حزم
(1)
: وهو قول سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد.
وصح عن عطاء فيمن نكح امرأة محلِّلًا ثم رغب فيها فأمسكها، قال: لا بأس بذلك
(2)
.
وقال الشعبي: لا بأسَ بالتحليل إذا لم يأمر به الزوج
(3)
.
وقال الليث بن سعد: إن تزوجها ثم فارقها لترجع إلى زوجها ولم يعلم المطلّق ولا هي بذلك وإنما كان ذلك منه إحسانًا فلا بأس بأن ترجع إلى الأول، فإن بيَّن الثاني ذلك للأول بعد دخوله بها لم يضرَّه
(4)
.
وقال الشافعي وأبو ثور: [66/أ] المحلّل الذي يفسُدُ نكاحه هو الذي يعقد عليه في نفس عقد النكاح أنه إنما يتزوّجها ليُحِلَّها ثم يطلّقها، فأما من لم يشترط ذلك في عقد النكاح فعقده
(5)
صحيح لا داخلةَ فيه
(6)
، سواء شرط ذلك عليه قبل العقد أو لم يشرط، نوى ذلك أو لم ينوِه، قال أبو ثور: وهو مأجور.
وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة مثل هذا سواء.
وروى أيضًا عن محمد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: إذا نوى الثاني
(1)
في «المحلى» (10/ 182). ولم أجده مسندًا.
(2)
رواه عبد الرزاق (10784) وابن حزم (10/ 182) من طريق ابن جريج، وسنده صحيح.
(3)
رواه عبد الرزاق (10789) من طريق جابر الجعفي، وهو ضعيف جدًّا.
(4)
ذكره ابن حزم في «المحلى» (10/ 182). وكذلك النصوص الآتية عن الأئمة.
(5)
د: «فنكاحه» .
(6)
أي لا فساد فيه.
وهي تحليلَها للأول لم تحلَّ له بذلك.
وروى الحسن بن زياد
(1)
عن زفر وأبي حنيفة: أنه إن شرطَ عليه في نفس العقد أنه إنما تزوَّجها ليُحِلَّها للأول فإنه نكاح صحيح، ويبطُلُ الشرط، وله أن يقيم معها؛ فهذه ثلاث روايات عن أبي حنيفة.
قالوا: وقد قال الله تعالى: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، وهذا زوج قد عقدَ بمهر وولي ورضاها وخلوّها من الموانع الشرعية، وهو راغب في ردِّها إلى الأول؛ فيدخل في حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا نكاحَ إلا نكاحُ رغبةٍ»
(2)
، وهذا نكاح رغبة في تحليلها للمسلم كما أمر الله بقوله:{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} . والنبي صلى الله عليه وسلم إنما شرط في عَودها إلى الأول مجرد ذوق العُسَيلة بينهما، وغَيَّا
(3)
الحِلَّ بذلك فقال: «لا، حتى تذوقَ عُسيلته ويذوق عُسيلتها» فإذا تذاوقا العُسيلةَ حلَّت له بالنص
(4)
.
قالوا: وأما نكاح الدُّلسة فنعم هو باطل، ولكن ما هو نكاح الدُّلسة؟ فلعله أراد به أن تدلَّس له المرأةُ بغيرها، أو تدلَّس له أنها انقضتْ عدتها ولم تنقضِ لتستعجلَ عودَها إلى الأول.
(1)
د: «عن زياد» ، تحريف.
(2)
رواه الطبراني (11/ 80) وابن حزم في «المحلى» (10/ 184)، وفي إسناده إبراهيم بن إسماعيل، وهو ضعيف. وقال ابن حزم: موضوع. وله شاهد من حديث ابن عمر رواه الحاكم (2/ 199) والبيهقي (7/ 208)، وإسناده صحيح. انظر:«إرواء الغليل» (1898).
(3)
أي جعل الحلَّ موقوفًا عليه.
(4)
د: «بالنص له» .
وأما لعنه للمحلِّل فلا ريبَ أنه صلى الله عليه وسلم لم يُرِد كل محلِّل ومحلَّل له؛ فإن الولي محلِّل لما كان حرامًا قبل العقد، والحاكم المزوِّج محلِّل بهذا الاعتبار، والبائع لأمته محلِّل للمشتري وطأها، فإن قلنا:«العام إذا خُصَّ صار مجملًا» بطل الاحتجاج بالحديث، وإن قلنا:«هو حجة فيما عدا محلِّ التخصيص» فذلك مشروط ببيان المراد منه، ولسنا ندري المحلِّل المراد من هذا النص، أهو الذي نوى التحليل أو شرطه قبل العقد أو شرطه في صلب العقد؟ أو الذي أحلَّ ما حرَّمه الله ورسوله؟ ووجدنا كلّ من تزوج مطلقةً ثلاثًا فإنه محلِّل، ولو لم يشترط التحليل ولم ينوِه؛ فإن الحلَّ حصل بعقده ووطئه. ومعلوم قطعًا أنه لم يدخل في النص، فعُلِم أن النص إنما أراد به من أحلَّ الحرام بفعله أو عقده، ونحن وكل مسلم لا نشكُّ في أنه أهلٌ للعنة الله. أما من قصد الإحسان إلى أخيه المسلم ورغب في جمع شَمْله بزوجته، ولمِّ شَعَثِه وشَعَثِ أولاده وعياله؛ فهو محسن، وما على المحسنين من سبيل، فضلًا عن أن تلحقهم لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قواعد الفقه وأدلته لا تحرِّم مثل ذلك؛ فإن هذه العقود التي لم يشترط المحرم في صلبها عقودٌ صدرت من أهلها في محلِّها [66/ب] مقرونة بشروطها، فيجب الحكم بصحتها؛ لأن السبب هو الإيجاب والقبول وهما تامّانِ، وأهلية العاقد لا نزاع فيها، ومحلية العقد قابلة، فلم يبقَ إلا القصد المقرون بالعقد، ولا تأثير له في بطلان الأسباب الظاهرة لوجوه:
أحدها: أن المُعْتانَ
(1)
مثلًا إنما قصد الربح الذي وُضعت له التجارة، وإنما لكل امرئ ما نوى، فإذا حصل له الربح حصل له مقصوده، وقد سلك
(1)
أي المتعامل بالعِينة.
الطريق المفضية إليه في ظاهر الشرع. والمحلِّل غايته أنه قصد الطلاق ونواه إذا وطئ المرأة، وهو مما ملَّكه الشارع إياه، فهو كما لو نوى المشتري إخراج المبيع عن مِلكه إذا اشتراه، وسرُّ ذلك أن السبب مقتضٍ لتأبُّد الملك، والنية لا تغيِّر موجبَ السبب حتى يقال: إن النية تُوجِب تأقيتَ العقد، وليست هي منافية لموجب العقد، فإن له أن يطلِّق. ولو نوى بعقد الشراء إتلافَ المبيع وإحراقَه أو إغراقَه لم يقدح في صحة البيع، فنية الطلاق أولى.
وأيضًا فالقصد لا يقدح في اقتضاء السبب لحكمه؛ لأنه خارج عما يتمُّ به العقد، ولهذا لو اشترى عصيرًا ومن نيته أن يتخذه خمرًا، أو جاريةً ومن نيته أن يُكرِهها على البغاء أو يجعلها مغنيةً، أو سلاحًا ومن نيته أن يقتل به معصومًا= فكل ذلك لا أثر له في صحة البيع من جهة أنه منقطع عن السبب؛ فلا يخرج السبب عن اقتضاء حكمه.
وقد ظهر بهذا الفرقُ بين
(1)
هذا القصد وبين الإكراه؛ فإن الرضا شرط في صحة العقد، والإكراه ينافي الرضا، وظهر أيضًا الفرقُ بينه وبين الشرط المقارن؛ فإن الشرط المقارن يقدح في مقصود العقد؛ فغاية الأمر أن العاقد قصد محرمًا، لكن ذلك لا يمنع ثبوتَ الملك، كما لو تزوَّجها ليُضارَّ بها امرأةً له أخرى.
ومما يؤيّد ما ذكرناه أن النية إنما تعمل في اللفظ المحتمل للمنْويّ وغيره، مثل الكنايات، ومثل أن يقول: اشتريتُ كذا؛ فإنه يحتمل أن يشتريه لنفسه ولموكِّله، فإذا نوى أحدهما صح، فإذا كان السبب ظاهرًا متعينًا
(1)
ز: «وبين» .
لمسببه لم يكن للنية الباطنة أثر في تغيير حكمه.
يوضحه أن النية لا تؤثّر في اقتضاء الأسباب الحسية والعقلية المستلزمة لمسبباتها، [و] لا تؤثّر النية في تغييرها.
يوضحه أن النية إما أن تكون بمنزلة الشرط أو لا تكون، فإن كانت بمنزلة الشرط لزم أنه إذا نوى أن لا يبيع ما اشتراه ولا يهبه ولا يتصرف فيه، أو نوى أن يُخرِجه عن ملكه، أو نوى أن لا يطلِّق الزوجة أو يبيت عندها كل ليلة أو لا يسافر عنها، بمنزلة أن يشترط ذلك في العقد، وهو خلاف الإجماع، وإن لم يكن بمنزلة الشرط فلا تأثير له حينئذٍ.
وأيضًا فنحن لنا ظواهر الأمور، وإلى الله سرائرها وبواطنها؛ ولهذا تقول الرسل لربهم تعالى يوم القيامة إذا سألهم:{مَاذَا أُجِبْتُمْ} فيقولون: {لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 109]، كان [67/أ] لنا ظواهرهم، وأما ما انطوت عليه ضمائرهم وقلوبهم فأنت العالم به.
قالوا: فقد ظهر عذرنا، وقامت حجتنا، وتبيَّن أنا لم نخرج فيما أصَّلناه ــ من اعتبار الظاهر، وعدم الالتفات إلى القصود في العقود، وإلغاء الشروط المتقدمة الخالي عنها العقدُ، والتحيُّل على التخلُّص من مضايق الأيمان وما حرَّمه الله ورسوله من الربا وغيره ــ عن كتاب ربنا وسنة نبينا وأقوال السلف الطيب.
ولنا بهذه الأصول رهنٌ عند كل طائفة من الطوائف المنكرة علينا.
فلنا عند الشافعية رهونٌ كثيرة في عدة مواضع، وقد سلَّموا لنا أن الشرط المتقدم على العقد مُلغًى، وسلَّموا لنا أن القصود غير معتبرة في العقود، وسلَّموا لنا جواز التحيُّل على إسقاط الشفعة، وقالوا بجواز التحيُّل على بيع
المعدوم من الثمار فضلًا عما لم يبدُ
(1)
صلاحه بأن يُؤْجِره الأرضَ ويُساقيه على الثمر من كل ألف جزء على جزء، وهذا نفس الحيلة على بيع الثمار قبل وجودها، فكيف ينكرون علينا التحيُّل على بيعها قبل بدوِّ صلاحها؟ وهل مسألة العينة إلا ملك باب الحيل؟ وهم يُبطلون الشركة بالعروض ثم يقولون: الحيلة في جوازها أن يبيع كلٌّ منهما نصفَ عَرضه لصاحبه، فيصيران شريكين حينئذٍ بالفعل، ويقولون: لا يصح تعليق الوكالة بالشرط، والحيلة على جوازها أن يوكِّله الآن ويعلِّق تصرُّفَه بالشرط. وقولهم في الحيل على عدم الحنث بالمسألة السُّريجية
(2)
معروف، وكل حيلة سواه محلّل بالنسبة إليه؛ فإن هذه المسألة حيلة على أن يحلف دائمًا بالطلاق ويحنَث ولا يقع عليه الطلاق أبدًا.
وأما المالكية فهم من أشدِّ الناس إنكارًا علينا للحيل، وأصولُهم تخالف أصولَنا في ذلك؛ إذ عندهم أن الشرط المتقدم كالمقارن، والشرط العرفي كاللفظي، والقصود في العقود معتبرة، والذرائع يجب سدُّها، والتغرير الفعلي كالتغرير القولي، وهذه الأصول تسدُّ باب الحيل سدًّا محكمًا. ولكن قد غلقنا
(3)
لهم برهونٍ نطالبهم بفِكاكها أو بموافقتهم لنا على ما أنكروه علينا، فجوَّزوا التحيُّلَ على إسقاط الشفعة، وقالوا: لو
(1)
في النسختين: «لم يبدو» .
(2)
سيأتي ذكر المؤلف لصورتها ومتى حدثت، في فصل مستقل.
(3)
في النسختين: «علقنا» . والمثبت هو الصواب، وبه يستقيم المعنى. يقال: غَلِقَ الرهنُ، لم يقدر راهِنُه على تخليصه من يد المرتهن في الموعد المشروط، فصار مِلكًا للمرتهن.
تزوَّجها ومِن نيته أن يقيم معها سنةً صح النكاح، ولم تعمل هذه النية في فساده.
وأما الحنابلة فبيننا وبينهم مُعتَرك النِّزال في هذه المسائل؛ فإنهم هم الذين شنُّوا علينا الغارات، ورمَونا بكل سلاح من الأثر والنظر، ولم يراعُوا لنا حرمة، ولم يُراقبوا
(1)
فينا إلًّا ولا ذمَّة.
وقالوا: لو نصبَ شِباكًا للصيد قبل الإحرام ثم أخذ ما وقع فيها حالَ الإحرام بعد الحل جاز. ويا لله العجب! أيُّ فرقٍ بين هذه الحيلة وحيلة أصحاب السبت على الحيتان؟
وقالوا: لو نوى الزوج الثاني أن يُحِلَّها للأول ولم يشترط ذلك جاز وحلَّت، لأنه لم يشترط ذلك في العقد. [67/ب] وهذا تصريح بأن النية لا تؤثِّر في العقد.
وقالوا: لو تزوَّجها ومِن نيته أن يقيم معها شهرًا ثم يطلِّقها صح العقد، ولم تكن نية التوقيت مؤثرةً فيه. وكلامهم في باب المخارج من الأيمان بأنواع الحيل معروف، وعنَّا تلقَّوه، ومنّا أخذوه.
وقالوا: لو حلف أن لا يشتري منه ثوبًا فاتَّهبه منه وشرط له العوض لا يحنث.
وقالوا بجواز مسألة التورُّق. وهي شقيقة مسألة العِينة؛ فأيُّ فرق بين مصير السِّلعة إلى البائع وبين مصيرها إلى غيره؟ بل قد يكون عَودُها إلى
(1)
كذا في النسختين من باب المفاعلة، وهو صحيح في اللغة. وفي القرآن ورد ثلاثيًّا.
البائع أرفقَ بالمشتري وأقلَّ كلفةً عليه وأرفهَ
(1)
لخسارته وتعنِّيه. فكيف يُحرِّمون الضرر اليسير ويُبيحون ما هو أعظم منه والحقيقة في الموضعين واحدة، وهي عشرة بخمسة عشر وبينهما حريرةٌ، رجعتْ في إحدى الصورتين إلى مالكها وفي الثانية إلى غيره؟
وقالوا: لو حلف بالطلاق لا يزوِّج عبدَه بأمته أبدًا ثم أراد تزويجه بها ولا يحنث، فإنه يبيع العبد والجارية من رجل ثم يزوِّجهما المشتري ثم يستردُّهما منه.
قال القاضي
(2)
: وهذا غير ممتنع على أصلنا؛ لأن عقد النكاح قد وُجِد في حال زوال مِلكه عنهما، ولا يتعلَّق الحنثُ باستدامة العقد بعد أن ملكهما؛ لأن التزويج عبارة عن العقد وقد انقضى، وإنما بقي حكمه فلم يحنث باستدامة حكمه.
وقالوا: لو كان له عليه مال وهو محتاج فأحبَّ أن يدعه له من زكاته، فالحيلة أن يتصدَّق عليه بذلك القدر ثم يقبضه منه. ثم قالوا: فإن كان له شريك فيه
(3)
فخاف أن يُحاصَّه
(4)
فيه، فالحيلة أن يهبَ المطلوب للطالب مالًا بقدر حصة الطالب مما له عليه
(5)
، ويقبضه منه للطالب، ثم يتصدق
(1)
في المطبوع: «وأرفع» .
(2)
أي أبو يعلى. ولم أجد النص في كتبه المعروفة. وانظر: «إغاثة اللهفان» (2/ 712).
(3)
ز: «فيه شريك» .
(4)
في المطبوع: «يخاصمه» ، تحريف.
(5)
د: «عليه له» .
الطالب على المطلوب بما وهبه له ويحتسب بذلك من زكاته، ثم يهب المطلوب ماله عليه من الدين، ولا يضمن الطالب لشريكه شيئًا؛ لأن هبة الدَّين لمن في ذمته براءة. وإذا أبرأ أحد الشريكين الغريمَ من نصيبه لم يضمن لشريكه شيئًا، وإنما يضمن إذا حصل الدَّين في ضمانه.
وقالوا: لو آجرَه الأرضَ بأجرة معلومة وشرطَ عليه أن يؤدِّي خراجَها لم يجز؛ لأن الخراج على المالك لا على المستأجر. والحيلة في جوازه أن يُؤجِره إياها بمبلغ يكون زيادته بقدر الخراج، ثم يأذن له أن يدفع في خراجها ذلك القدر الزائد على أجرتها. قالوا: لأنه متى زاد مقدار الخراج على الأجرة حصلَ ذلك دينًا على المستأجر، وقد أمره أن يدفعه إلى مستحقّ الخراج، وهو جائز.
قالوا: ونظير هذا أن يُؤجِره دابةً ويشترط علفَها على المستأجر لم يجزْ، والحيلة في جوازه هكذا سواء، يزيد في الأجرة ويوكِّله أن يعلِف الدابة بذلك القدر الزائد.
وقالوا: لا يصح استئجار الشجرة للثمرة
(1)
، والحيلة في ذلك أن يُؤجِره الأرضَ ويساقيه على الثمرة من كل ألف جزءٍ جزءًا مثلًا.
[68/أ] وقالوا: لو
(2)
وكَّله أن يشتري له جارية معينة بثمن معين دفعه إليه، فلما رآها أراد شراءها لنفسه، وخاف أن يحلِّفه أنه إنما اشتراها بمال الموكِّل له، وهو وكيله، فالوجه أن يَعزِل نفسه عن الوكالة، ثم يشتريها بثمن
(1)
ز: «المثمرة» .
(2)
د: «ولو» .
في ذمته، ثم ينقد ما معه من الثمن، ويصير
(1)
لموكّله في ذمته نظيره. قالوا: وأما نحن فلا تتأتَّى هذه الحيلة على أصولنا؛ لأن الوكيل لا يملك عزل نفسه إلا بحضرة موكله.
قالوا: وقد قالت الحنابلة أيضًا: لو أراد إجارة أرض له فيها زرع لم يجز، والحيلة في جوازه أن يبيعه الزرعَ ثم يُؤجِره الأرضَ، فإن أراد بعد ذلك أن يشتري منه الزرع جاز.
وقالوا: لو شرط ربُّ المال على المضارب ضمانَ مال المضاربة لم يصح، والحيلة في صحته أن يُقرِضه المال في ذمته ثم يقبضه المضارب منه، فإذا قبضه دفعه إلى مالكه الأول مضاربة، ثم يدفعه ربُّ المال إلى المضارب بضاعة، فإن تَوى
(2)
فهو من ضمان المضارب؛ لأنه قد صار مضمونًا عليه بالقرض، فتسليمه إلى رب المال مضاربة كتسليم مالٍ له آخر.
وحيلة أخرى، وهي أن يُقرِض ربُّ المال المضارب ما يريد دفعه إليه، ثم يُخرِج من عنده درهمًا واحدًا، فيشاركه على أن يعملا بالمالين جميعًا على أن ما رزقه الله فهو بينهما نصفين، فإن عمل أحدهما بالمال بإذن صاحبه فربح كان الربح بينهما على ما شرطاه
(3)
، وإن خسر كان الخسران على قدر المالين، على رب المال بقدر الدرهم وعلى المضارب بقدر رأس المال، وإنما جاز ذلك لأن المضارب هو الملزِم نفسَه الضمانَ بدخوله في القرض.
(1)
ز: «ويصيره» .
(2)
أي هلك.
(3)
ز: «شرطا» .
وقالوا: لا تجوز المضاربة على العَرض، فإن كان عنده عرضٌ فأراد أن يضارب عليه فالحيلة في جوازه أن يبيعه العرض ويقبض ثمنه فيدفعه إليه مضاربة، ثم يشتري المضارب ذلك المتاع بالمال.
وقالوا: لو حلَّفتْه امرأته أن كل جارية يشتريها فهي حرة، فالحيلة في جواز الشراء ولا تُعتَق أن يعني بالجارية السفينة ولا تعتق، وإن لم تحضره هذه النية وقتَ اليمين فالحيلة أن يشتريها صاحبه ويهبه إياها ثم يهبه نظير الثمن.
وقالوا: لو حلَّفتْه أن كل امرأة يتزوجها عليها فهي طالق، وخاف من هذه اليمين عند من يصحح هذا التعليق، فالحيلة أن ينوي كل امرأة أتزوجها على طلاقك، أي: يكون طلاقك صداقها، أو كل امرأة أتزوجها على رقبتك، أي: تكون رقبتك صداقها، فهي طالق، فلا يحنث بالتزويج على غير هذه الصفة.
وقالوا: لو أراد أن يصرف دنانير بدراهم ولم يكن عند الصيرفي مبلغ الدراهم وأراد أن يصبر عليه بالباقي لم يجز، والحيلة فيه أن يأخذ ما عنده من الدراهم بقدر صرفه، ثم يُقرِضه إياها فيصرف بها الباقي، فإن لم يعرف
(1)
فعل ذلك مرارًا حتى يستوفي [68/ب] صرفه، ويصير ما أقرضه دينًا عليه، لا أنه عوض الصرف.
وقالوا: لو أراد أن يبيعه دراهم بدنانير إلى أجلٍ لم يجز، والحيلة في ذلك أن يشتري منه متاعًا وينقُده ثمنَه ويقبض المتاع، ثم يشتري البائع منه ذلك المتاع بدنانير إلى أجل، والتأجيل جائز في ثمن المتاع.
(1)
كذا في نسختين، وفي هامش ز:«لعله يستغرق» . وفي المطبوع: «يوفِ» .
وقالوا: لو مات ربُّ المال بعد أن قبض المضارب المال انتقل إلى ورثته، فلو اشترى المضارب به بعد ذلك متاعًا ضَمِنَ؛ لأنه تصرّف بعد بطلان الشركة. والحيلة في تخلُّص المضارب من ذلك أن يشهد ربُّ المال أن حصّته من المال الذي دفعه مضاربة لولده، وأنه مقارض إلى هذا الشريك بجميع ما تركه، وأمره أن يشتري لولده ما أحبَّ في حياته وبعد وفاته. فيجوز ذلك؛ لأن المانع منه كونُه متصرفًا في ملك الغير بغير وكالة ولا ولاية، فإذا أذن له في التصرُّف برئ من الضمان، وإن
(1)
كانت هذه الحيلة إنما تتم إذا كان الورثة أولادًا صغارًا.
وقالوا: لو صالح عن المؤجَّل ببعضه حالًا لم يصح، والحيلة في تصحيحه أن يفسخا العقد الذي وقع على المؤجّل ويجعلاه بذلك القدر الحال.
وقالوا: لو لبس المتوضئ أحد الخفَّين قبل غَسل الرجل الأخرى ثم غسل الأخرى ولبس عليها لم يجز المسح؛ لأنه لم يلبس على كمال الطهارة، والحيلة في جواز المسح أن يخلع هذه الفردة الثانية ثم يلبسها.
قالوا: ولو أوصى لرجلٍ بخدمة عبده أو بما في بطن أمته جاز، فلو أراد الورثة شراء خدمة العبد أو ما في بطن الأمة من الموصى له لم يجز، والحيلة في جوازه أن يصالحوه من الموصى به على ما يبذلونه له فيجوز، وإن لم يجز البيع فإن الصلح يجوز فيه ما لا يجوز في البيع.
قالوا: ولا تجوز الشركة بالعروض، فإن كان لأحدهما عرضٌ يساوي
(1)
في نسختين: «فإن» . والمثبت يقتضيه السياق.
خمسة آلاف درهم، وللآخر عرضٌ يساوي ألفًا، فأحبَّا أن يشتركا في العرضين، فالحيلة أن يشتري صاحب العرض الذي قيمته خمسة آلاف من الآخر خمسةَ أسداسِ عرضِه بسدسِ عرضِه هو؛ فيصير للذي
(1)
يساوي عرضه سدسُ جميع المال، وللآخر
(2)
خمسةُ أسداسه؛ لأن جميع ماليهما ستة آلاف، وقد حصل كل واحد من العرضين بهذه الشركة بينهما أسداسًا، خمسةُ أسداسِه لأحدهما وسدسُه للآخر، فإذا هلك أحدهما هلك على الشركة.
قالوا: ولا تُقبل شهادة الموكَّل لموكِّله فيما هو وكيلٌ فيه، فلو لم يكن له شاهد غيره وخاف ضياع حقه فالحيلة أن يعزِله حتى يشهد له، ثم يوكِّله بعد ذلك إن أراد.
قالوا: ولو أعتق عبده في مرضه، وثلثُه يحتمله، وخاف عليه من الورثة أن يجحدوا المال ويرِثوا
(3)
ثلثيه؛ فالحيلة أن يدفع إليه مالًا يشتري نفسَه منه بحضرة شهود، ويشهدون أنه قد أقبضَه المال، وصار العبد حرًّا.
قالوا: وكذلك الحيلة لو كان لأحد الورثة دينٌ على الموروث، وليست له به بينة، فأراد بيعه العبد بدَينه الذي له عليه فعلَ مثل ذلك سواء.
قالوا: ولو [69/أ] قال: «أوصيتُ إلى فلان، وإن لم يقبلْ فإلى فلان» وخاف أن تبطل الوصية على مذهب من لا يرى جواز تعليق الولاية بالشرط،
(1)
د: «الذي» .
(2)
د: «والآخر» .
(3)
في النسختين: «ويرقوا» . ولعل المثبت هو الصواب.
[فالحيلة]
(1)
أن يقول: «فلان وفلان وصيّانِ، فإن لم يقبل أحدهما وقبل الآخر فالذي قبِلَ هو الوصي» ، فيجوز على قول الجميع؛ لأنه لم يعلِّق الولاية بالشرط.
قالوا: ولو أراد ذمي أن يُسلِم وعنده خمر كثير، فخاف أن يذهب عليه بالإسلام؛ فالحيلة أن يبادر ببيعها من ذمي آخر ثم يسلم، فإنه يملك تقاضِيَه بعد الإسلام، فإن بادر الآخر وأسلم لم يسقط عنه ذلك. وقد نصّ عليه الإمام أحمد في مجوسي باع مجوسيًّا خمرًا ثم أسلما: يأخذ الثمن، قد وجب له يومَ باعَه.
قال أرباب الحيل: فهذا رَهنُ الفِرَقِ عندنا بأنهم قالوا بالحيل وأفتوا بها، فماذا يُنكرون علينا بعد ذلك ويُشنعون؟ ومثالنا ومثالهم في ذلك كقوم وجدوا كنزًا فأصاب كل منهم طائفةً منه في يديه، فمستقلٌ ومستكثرٌ، ثم أقبل بعض الآخذين يَنقِمُ على بقيتهم، وما أخذه من الكنز في يديه، فلْيرمِ بما أخذ منه ثم لْينكرْ على الباقين.
قال المبطلون للحيل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فسبحان الله الذي فرض الفرائض وحرّم المحارم وأوجب الحقوق رعايةً لمصالح العباد في المعاش والمعاد، وجعل شريعته الكاملة قيامًا للناس، وغذاء لحفظ حياتهم، ودواء لدفع أدوائهم، وظلّه الظليل الذي من استظلَّ به أَمِنَ من الحَرور
(2)
، وحِصنه
(1)
زيادة ليستقيم السياق.
(2)
أي حرّ الشمس.
الحصين الذي من دخله نجا من الشرور. فتعالى شارعُ هذه الشريعة الفائقة لكل شريعة أن يشرع فيها الحيل التي تُسقِط فرائضه، وتُحِلُّ محارمه، وتُبطِل حقوق عباده، وتفتح للناس أبواب الاحتيال، وأنواع المكر والخداع، وأن يُبيح التوصُّلَ بالأسباب المشروعة إلى الأمور المحرمة الممنوعة، وأن يجعلها مُضغةً
(1)
لأفواه المحتالين، عُرضةً لأغراض المخادعين الذين يقولون ما لا يفعلون، ويُظهرون خلاف ما يُبطنون، ويرتكبون العبثَ الذي لا فائدة فيه سوى ضُحْكة الضاحكين وسُخرية الساخرين، فيخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان، ويتلاعبون بحدوده كتلاعب المُجَّان، فيحرِّمون الشيء ثم يستحلُّونه إياه بعينه بأدنى الحيل، ويسلكون إليه نفسِه طريقًا تُوهِم أن المراد غيره، وقد علموا أنه هو المراد لا غيره، ويُسقطون الحقوق التي وصَّى الله بحفظها وأدائها بأدنى شيء، ويفرِّقون بين متماثلينِ من كل وجه لاختلافهما في الصورة أو الاسم أو الطريق الموصل إليهما، ويستحلُّون بالحيل ما هو أعظم فسادًا مما يحرّمونه
(2)
، ويُسقطون بها ما هو أعظم وجوبًا مما يوجبونه.
والحمد لله الذي نزَّه شريعته عن هذا التناقض
(3)
والفساد، وجعلها كَفيَّةً
(4)
وَفيَّة بمصالح خلقه في المعاش والمعاد، وجعلها من أعظم [69/ب] آياته الدالة عليه، ونصبها طريقًا مُرشدًا لمن سلكه إليه؛ فهو نوره المبين،
(1)
في النسختين: «مصبغة» . والمثبت يناسق السياق
(2)
ز: «يحرّمون» .
(3)
ز: «النتاقظ» .
(4)
ز: «كفيلة» . و «الكفيّة» بمعنى الكافية.
وحِصنه الحصين، وظلُّه الظليل، وميزانه الذي لا يَعُول
(1)
. لقد تعرّف بها إلى ألبَّاء عباده غايةَ التعرف، وتحبَّب بها إليهم غايةَ التحبُّب، فآنَسُوا بها
(2)
منه حكمتَه البالغة، وتمت بها عليهم منه نِعمُه السابغة، ولا إله إلا الله الذي في شرعه أعظم آية تدلُّ على تفرُّده بالإلهية وتوحُّده بالربوبية، وأنه الموصوف بصفات الكمال، المستحقّ لنعوت الجلال، الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى وله المثل الأعلى، فلا يدخل السوء في أسمائه، ولا النقص والعيب في صفاته، ولا العبث ولا
(3)
الجور في أفعاله، بل هو منزَّه في ذاته وأوصافه وأفعاله وأسمائه عما يضادُّ كمالَه بوجه من الوجوه.
تبارك اسمه، وتعالى جَدُّه، وبَهرتْ حكمته، وتمَّت نعمته، وقامت على عباده حجته، والله أكبر كبيرًا أن يكون في شرعه تناقض أو اختلاف، فلو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا، بل هي شريعة مؤتلفة النظام، متعادلة الأقسام، مبرَّأة من كل نقص، مطهَّرة من كل دَنَس، مسلَّمة لا شِيةَ فيها، مؤسَّسة على العدل والحكمة والمصلحة والرحمة قواعدُها ومبانيها، إذا حرَّمت فسادًا حرَّمت ما هو أولى منه أو نظيره، وإذا رعَتْ صلاحًا رعَتْ ما هو فوقه أو شبيهه؛ فهي صراطه المستقيم الذي لا أَمْتَ
(4)
فيه ولا عِوَج، وملّته الحنيفية السمحة التي لا ضِيقَ فيها ولا حرج، بل هي حنيفية التوحيد سمحة العمل، لم تأمر بشيء فيقول العقل لو نهتْ عنه لكان أوفق، ولم تَنْهَ
(1)
أي لا ينقص ولا يزيد.
(2)
«بها» ليست في د. وآنسوا بمعنى أبصروا.
(3)
«لا» ليست في ز.
(4)
العيب والعِوج.
عن شيء فيقول الحِجَا لو أباحته لكان أوفق، بل أمرت بكل صلاح، ونهت عن كل فساد، وأباحت كل طيِّب، وحرّمت كل خبيث، فأوامرها غذاء ودواء، ونواهيها حِميةٌ وصيانة، وظاهرها زينة لباطنها، وباطنها أجمل من ظاهرها، شعارها الصدق، وقِوامُها الحق، وميزانها العدل، وحكمها الفَصْل، لا حاجة بها البتةَ إلى أن تُكْمَل بسياسة ملكٍ أو رأي ذي رأي أو قياس فقيه أو ذوقِ ذي رياضة أو منامِ ذي دين وصلاح، بل بهؤلاء كلِّهم أعظمُ الحاجة إليها، ومن وُفِّقَ منهم للصواب فلاعتماده وتعويله عليها.
لقد أكملها الذي أتمَّ نعمته علينا بشرعها قبل سياسات الملوك، وحيل المتحيّلين، وأقيسة القياسيين، وطرائق الخلافيين، وأين كانت هذه الحيل والأقيسة والقواعد المتناقضة والطرائق القِدَد
(1)
وقتَ نزول قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]؟ وأين كانت يومَ قوله صلى الله عليه وسلم: «لقد تركتُكم على المَحجَّة البيضاءِ ليلُها كنهارِها، لا يَزِيغُ عنها إلا هالكٌ»
(2)
، ويومَ قوله: «ما تركتُ من شيء يُقرِّبكم إلى
(3)
الجنة ويُباعِدكم من النار إلا أعلمتُكموه»
(4)
؟ وأين كانت عند قول أبي ذر: لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم[70/أ] وما طائرٌ يقلِّب جناحَيه في السماء
(1)
أي المختلفة.
(2)
رواه أحمد (17142) وابن ماجه (43) والحاكم (1/ 96) بنحوه من حديث العرباض بن سارية، وهو حديث صحيح بطرقه وشواهده. انظر:«الصحيحة» (937).
(3)
ز: «من» .
(4)
رواه ابن أبي شيبة (35473) والبيهقي في «شعب الإيمان» (9891) والبغوي في «شرح السنة» (4111) من حديث ابن مسعود، وفي إسناده انقطاع.
إلا أذكَرَنا منه علمًا
(1)
، وعند قول القائل لسلمان: لقد علَّمكم نبيكم كلَّ شيء حتى الخِراءة، فقال: أجل
(2)
؟
فأين علَّمهم الحيلَ والمخادعة والمكر وأرشدهم إليه ودلّهم عليه؟ كلّا والله، بل حذَّرهموه أشدَّ التحذير، وأوعدهم عليه أشدَّ الوعيد، وجعله منافيًا للإيمان، وأخبر عن لعنة اليهود لما ارتكبوه، وقال لأمته:«لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلُّوا محارمَ الله تعالى بأدنى الحيل»
(3)
، وأغلقَ أبواب المكر والاحتيال، وسدَّ الذرائعَ، وفصَلَ الحلالَ من الحرام، وبيَّن الحدود، وقسَّم شريعته إلى حلال بيِّن وحرام بيِّن وبرزخٍ بينهما
(4)
؛ فأباح الأول، وحرَّم الثاني، وحضَّ الأمة على اتقاء الثالث خشيةَ الوقوع في الحرام، وقد أخبر الله سبحانه عن عقوبة المحتالين على حِلّ ما حرَّمه عليهم وإسقاطِ ما فرضه عليهم في غير موضع من كتابه.
قال أبو بكر الآجرِّي
(5)
وقد ذكر بعض الحيل الربوية التي يفعلها الناس: لقد مُسِخ اليهود قِردةً بدون هذا.
وصدقَ واللهِ، لأَكلُ حوتٍ صِيْدَ يوم السبت أهونُ عند الله وأقلّ جرمًا من آكل الربا ــ الذي حرَّمه الله ــ بالحيل والمخادعة، ولكن كما قال الحسن:
(1)
رواه أحمد (21361، 21439، 21440)، وفي إسناده انقطاع وضعف، والحديث حسن بشواهده. انظر:«الصحيحة» (1803) و «العلل» للدارقطني (6/ 290).
(2)
رواه مسلم (262).
(3)
تقدم.
(4)
كما في حديث النعمان بن بشير الذي رواه البخاري (52، 2501) ومسلم (1599).
(5)
كما نقل عنه شيخ الإسلام في «بيان الدليل» (ص 38، 39).
عُجِّل لأولئك عقوبةُ تلك الأكلة الوخيمة وأُرجِئتْ عقوبة هؤلاء
(1)
.
وقال الإمام أبو يعقوب الجوزجاني
(2)
: وهل أصاب الطائفةَ من بني إسرائيل المسخُ إلا باحتيالهم على أمر الله، بأن حَظَروا الحظائر
(3)
على الحيتان في يومِ سَبْتِهم، فمنعوها الانتشارَ يومَها إلى الأحد فأخذوها. وكذلك السلسلة التي كانت تأخذ بعنق الظالم، فاحتال لها صاحب الدرَّة إذ صيَّرها في قصبةٍ ثم دفع القصبة إلى خصمه، وتقدَّم إلى السلسلة ليأخذها فُرِفعتْ
(4)
.
وقال بعض الأئمة
(5)
: في هذه الآية مَزجرةٌ عظيمة للمتعاطين الحيلَ على المناهي الشرعية ممن تلبَّس بعلم الفقه وليس بفقيه؛ إذ الفقيه من يخشى الله عز وجل في الربويات، واستعارة التيس الملعون لتحليل المطلقات، وغير ذلك من العظائم والمصائب الفاضحات، التي لو اعتمدها مخلوق مع مخلوق لكان في نهاية القبح، فكيف بمن يعلم السرَّ وأخفى الذي يعلم خائنةَ الأعين وما تخفي الصدور؟
(1)
رواه ابن أبي شيبة (36471) والطبري (10/ 523) وابن أبي حاتم في «التفسير» (5/ 1599)، وإسناده صحيح.
(2)
كما في «بيان الدليل» (ص 39). والصواب في كنيته واسمه: أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب، كما في مصادر ترجمته.
(3)
كذا في النسختين و «بيان الدليل» ، والمعنى واضح. وفي المطبوع:«حفروا الحفائر» ، تحريف.
(4)
انظر: «تاريخ دمشق» (17/ 103) و «البداية والنهاية» (2/ 308). والخبر من الإسرائيليات عن وهب.
(5)
كما في «بيان الدليل» (ص 39).
قال: وإذا وازن اللبيب بين حيلة أصحاب السبت والحيل التي يتعاطاها
(1)
أرباب الحيل في كثير من الأبواب، ظهر له التفاوت ومراتب المفسدة التي بينها وبين هذه الحيل، فإذا عرف قدر الشرع، وعظمة الشارع وحكمته، وما اشتمل عليه شرعه من رعاية مصالح العباد= تبيَّن له حقيقة الحال، وقطَع بأن الله سبحانه يتنزَّه ويتعالى أن يسوِّغ لعباده نقضَ شرعه وحكمته بأنواع الخداع والاحتيال.
فصل
قالوا: ونحن نذكر ما تمسكتم به في تقرير الحيل والعمل بها، ونبيِّن ما فيه، متحرِّين للعدل والإنصاف، منزِّهين [70/ب] لشريعة الله وكتابه وسنة رسوله عن المكر والخداع والاحتيال المحرّم، ونبيِّن انقسام الحيل والطرق إلى ما هو كفر محض، وفسق ظاهر، ومكروه، وجائز، ومستحبّ، وواجب عقلًا أو شرعًا، ثم نذكر فصلًا نبيِّن فيه التعويض بالطرق الشرعية عن الحيل الباطلة، فنقول وبالله التوفيق والمستعان وعليه التُّكلان:
أما قوله تعالى لنبيه أيوب عليه السلام: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} ، فقال شيخنا رضي الله عنه
(2)
: الجواب أن هذا ليس مما نحن فيه؛ فإن للفقهاء في موجب هذه اليمين في شرعنا قولين
(3)
، يعني إذا حلف ليضربنَّ عبدَه أو امرأته مائة ضربة:
(1)
د: «يتعاطاه» .
(2)
الترضي من د. والكلام الآتي كلُّه من «بيان الدليل» (ص 308 وما بعدها).
(3)
ز: «قولان» .
أحدهما: قول من يقول: موجبها الضرب مجموعًا أو مفرَّقًا، ثم منهم من يشترط مع الجمع الوصول إلى المضروب؛ فعلى هذا تكون هذه
(1)
الفتيا موجب هذا اللفظ عند الإطلاق، وليس هذا بحيلة، إنما الحيلة أن يصرف اللفظ عن موجبه عند الإطلاق.
والقول الثاني: أن موجبه الضرب المعروف
(2)
، وإذا كان هذا موجبه في شرعنا لم يصح الاحتجاج علينا بما يخالف شرعًا من شرائع من قبلنا؛ لأنا إن قلنا:«ليس شرعًا لنا مطلقًا» فظاهر، وإن قلنا:«هو شرعٌ لنا» فهو مشروط بعدم مخالفته لشرعنا، وقد انتفى الشرط.
وأيضًا فمن تأمَّل الآية علم أن هذه الفتيا خاصّةُ الحكم؛ فإنها لو كانت عامةَ الحكم في حق كل أحدٍ لم يَخْفَ على نبي كريم موجبُ يمينه، ولم يكن في اقتصاصها علينا كبيرُ عبرةٍ؛ فإنما يُقصُّ ما خرج عن نظائره لنعتبر به ونستدلّ به على حكمة الله فيما قصَّه علينا، أما ما كان هو مقتضى العادة والقياس فلا يُقَصُّ، ويدل على الاختصاص قوله تعالى:{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص: 44]. وهذه الجملة خرجت مخرج التعليل كما في نظائرها؛ فعُلِم أن الله سبحانه وتعالى إنما أفتاه بهذا جزاءً له على صبره، وتخفيفًا عن امرأته، ورحمةً بها، لا أن هذا موجب هذه اليمين.
وأيضًا فإن الله سبحانه إنما أفتاه بهذه الفتيا لئلا يحنَثَ، كما أخبر سبحانه. وهذا يدلُّ على أن كفارة الأيمان لم تكن مشروعةً بتلك الشريعة، بل
(1)
«هذه» ليست في د.
(2)
كذا في النسختين. وفي «بيان الدليل» : «المفرّق» .
ليس في اليمين إلا البر والحنث، كما هو ثابت في نذر التبرُّر في شريعتنا؛ وكما كان في أول الإسلام. قالت عائشة رضي الله عنها: لم يكن أبو بكر يحنث في يمين، حتى أنزل الله كفارة اليمين
(1)
. فدلَّ على أنها لم تكن مشروعة في أول الإسلام، وإذا كان كذلك صار كأنه قد نذر ضرْبَها، وهو نذر لا يجب الوفاء به؛ لما فيه من الضرر عليها، ولا يُغني عنه كفارة يمين؛ لأن تكفير النذر فرع عن تكفير اليمين، فإذا لم تكن كفارة النذر إذ ذاك مشروعةً فكفارة اليمين أولى.
وقد عُلِم أن الواجب بالنذر يُحتذَى به حذو الواجب بالشرع، وإذا كان الضرب الواجب بالشرع يجب تفريقه إذا كان المضروب [71/أ] صحيحًا ويجوز جمعه إذا كان المضروب مريضًا مأيوسًا منه عند الكل أو مريضًا على الإطلاق عند بعضهم، كما ثبتت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
= جاز أن يقام الواجب بالنذر مقام ذلك عند العذر. وقد كانت امرأة أيوب عليه السلام ضعيفة عن احتمال مائة ضربةٍ التي حلف أن يضربها إياها، وكانت كريمةً على ربها، فخفَّف عنها برحمته الواجبَ باليمين بأن أفتاه بجمع
(3)
الضربات بالضِّغث كما خفّف عن المريض.
(1)
رواه البخاري (6621).
(2)
رواها أحمد (21935) وأبو داود (4472) و النسائي في «الكبرى» (7268) وابن ماجه (2574) عن أبي أمامة بن سهل موصولةً ومرسلة. وانظر: «التلخيص الحبير» (4/ 59)، وتعليق المحققين على «مسند أحمد» (36/ 263 - 266).
(3)
في النسختين: «بجميع» . والمثبت من «بيان الدليل» .
ألا ترى أن السنة قد جاءت فيمن نذر الصدقة بجميع ماله أنه يُجزئه الثلث
(1)
، فأقام الثلث في النذر مقام الجميع رحمةً بالناذر وتخفيفًا عنه، كما أقيم مقامه في الوصية رحمة بالوارث ونظرًا له. وجاءت السنة فيمن نذرت الحج ماشيةً أن تركب وتُهدِي
(2)
، إقامةً لترك بعض الواجب بالنذر مقامَ ترك بعض
(3)
الواجب بالشرع في المناسك عند العجز عنه، كطواف الوداع عن الحائض.
وأفتى ابن عباس وغيره من نذر ذَبْحَ ابنه بشاة
(4)
، إقامةً لذبح الشاة مقامَ ذبح الابن كما شُرع ذلك للخليل.
وأفتى أيضًا من نذر أن يطوف على أربع بأن يطوف أسبوعين
(5)
، إقامةً لأحد الأسبوعين مقام طواف اليدين.
(1)
رواه مالك (2/ 481) وعبد الرزاق (16397) من حديث أبي لبابة من طريق الزهري مرسلًا، ووصله ابن حبان (3371) والبيهقي (4/ 181)، وقال ابن عبد البر في «التمهيد» (20/ 83):«ولا يتصل حديث أبي لبابة فيما علمت ولا يستند، وقصته في السير محفوظة» . ورواه أبو داود (3319 - 3321) والبيهقي (10/ 67) من حديث كعب بن مالك، وفي إسناده ومتنه اضطراب.
(2)
رواه البخاري (1866) ومسلم (1644) من حديث عقبة بن عامر، إلّا أنهما لم يذكرا الهدي، وجاء ذكره عند أبي داود (3296).
(3)
«بعض» ليست في ز.
(4)
رواه مالك (2/ 476) وعبد الرزاق (15904، 15906) وابن ابي شيبة (12653) والطبراني (11/ 186) والبيهقي (10/ 73) من طرق عن عكرمة عن ابن عباس.
(5)
رواه عبد الرزاق (15895) والطبراني (11/ 180) من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس.
وأفتى أيضًا هو
(1)
وغيره من الصحابة رضي الله عنهم المريض المأيوس منه والشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم بأن يفطرا ويطعما كل يوم مسكينًا
(2)
، إقامةً للإطعام مقامَ الصيام.
وأفتى أيضًا هو
(3)
وغيره من الصحابة: الحامل والمرضع إذا خافتا على ولدَيْهما أن تفطرا وتُطعِما كل يوم مسكينًا
(4)
، إقامةً للإطعام مقامَ الصيام، وهذا كثير جدًّا.
وغير مستنكر في واجبات الشريعة أن يخفّف الله سبحانه الشيء منها عند المشقة بفعل ما يشبهه من بعض الوجوه كما في الأبدال وغيرها، ولكن مثل قصة أيوب لا يُحتاج إليها في شرعنا؛ لأن رجلًا لو حلف ليضربنَّ أمته أو امرأته مائة ضربة أمكنه أن يكفّر عن يمينه من غير احتياج إلى حيلة وتخفيف الضرب بجمعه، ولو نذر ذلك فهو نذر معصية، فلا شيء عليه عند طائفة، وعند طائفة عليه كفارة يمين.
وأيضًا فإن المطلق من كلام الآدميين محمول على ما فسّر به المطلق من كلام الشارع خصوصًا في الأيمان؛ فإن الرجوع فيها إلى عرف الخطاب شرعًا أو عادةً أولى من الرجوع إلى موجب اللفظ في أصل اللغة، والله سبحانه وتعالى قد قال:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]،
(1)
رواه البخاري (4505) عن ابن عباس.
(2)
رواه عبد الرزاق (7570) وابن أبي شيبة (12346) من طرق عن أنس.
(3)
رواه أبو داود (2317، 2318) والبيهقي (4/ 230) عن ابن عباس.
(4)
رواه عبد الرزاق (7558، 7559) والدارقطني (2388 - 2389) والبيهقي (4/ 230) عن ابن عمر.
وقال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]. وفهم الصحابة والتابعون ومن بعدهم من ذلك أنه ضربات متفرقة لا مجموعة، إلا أن يكون المضروب معذورًا عذرًا لا يُرجى زواله؛ فإنه يُضرب ضربًا مجموعًا، وإن كان يرجى زواله فهل يؤخَّر إلى الزوال أو يُقام عليه مجموعًا؟ فيه خلاف بين الفقهاء، فكيف يقال: إن الحالف ليضربنّ موجب يمينه [71/ب] هو الضرب المجموع مع صحة المضروب وقوته؟ فهذه الآية هي أقوى ما يعتمد عليه أرباب الحيل، وعليها بَنَوا حيلهم، وقد ظهر بحمد الله أنه لا متمسَّكَ لهم فيها البتةَ.
فصل
وأما إخباره سبحانه عن يوسف عليه السلام أنه جعل صُواعه في رَحْل أخيه ليتوصَّل بذلك إلى أخذه وكيد إخوته، فنقول لأرباب الحيل أولًا: هل تجوِّزون أنتم مثل هذا حتى يكون حجةً لكم؟ وإلا فكيف تحتجُّون بما لا تجوِّزون فعلَه؟، فإن قلتم: فقد كان جائزًا في شريعته، قلنا: وما ينفعكم إذا لم يكن جائزًا في شرعنا؟
قال شيخنا
(1)
رضي الله عنه: ومما قد يُظَنّ أنه من جنس الحيل التي بيَّنا تحريمها وليس من جنسها قصة يوسف، حين كاد الله له في أخذ أخيه كما قصَّ ذلك سبحانه في كتابه، فإن فيها ضروبًا من الحيل الحسنة:
أحدها: قوله لفتيانه: {اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [يوسف: 62]، فإنه تسبَّب بذلك إلى رجوعهم،
(1)
في «بيان الدليل» (ص 205 وما بعدها).
وقد ذكروا في ذلك معاني:
منها: أنه تخوَّف أن لا يكون عندهم وَرِقٌ يرجعون بها.
ومنها: أنه خشي أن يُضِرَّ أخذُ الثمن بهم.
ومنها: أنه رأى لُؤمًا أخذ الثمن منهم.
ومنها: أنه أراهم كرمَه في ردّ البضاعة ليكون أدعى لهم إلى العود.
ومنها: أنه علم أن أمانتهم تُحوِجهم إلى العود ليردُّوها إليه.
فهذا المحتال به عمل صالح، والمقصود رجوعهم ومجيء أخيه، وذلك أمر فيه منفعة لهم ولأبيهم وله، وهو مقصود صالح، وإنما لم يعرِّفهم نفسَه لأسبابٍ أُخر فيها أيضًا منفعة لهم وله ولأبيهم، وتمامٌ لما أراده الله بهم من الخير في البلاء.
الضرب الثاني: أنه في المرة الثانية لما جهَّزهم بجَهازهم جعل السقاية في رَحْل أخيه، وهذا القدر تضمَّن إيهام أن أخاه سارق، وقد ذكروا أن هذا كان بمواطأةٍ من أخيه ورِضًى منه بذلك، والحق له في ذلك، وقد دلَّ على ذلك قوله تعالى:{وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يوسف: 69]، وفيه قولان: أحدهما: أنه عرَّفه أنه يوسف ووطَّنه على عدم الابتئاس بالحيلة التي فعلها في أخذه منهم، والثاني: أنه لم يصرِّح له بأنه يوسف، وإنما أراد أني مكانَ أخيك المفقود، فلا تبتئس بما يعاملك به إخوتك من الجفاء.
ومن قال هذا قال: إنه وضع السقاية في رَحْل أخيه والأخ لا يشعر،
ولكن هذا خلاف المفهوم من القرآن وخلاف ما عليه الأكثرون، وفيه ترويعٌ لمن لم يستوجب الترويع.
وأما على القول الأول
(1)
فقد قال كعب وغيره
(2)
: لما قال له إني أنا أخوك، قال: فأنا لا أفارقك. قال يوسف: فقد علمتَ اغتمام والدي بي، فإذا حبستُك ازداد غمُّه، ولا يمكنني هذا إلا بعد أن أشهِّرك بأمر فظيع وأنسبك إلى ما لا يحتمل، قال: لا أبالي، فافعلْ ما بدا لك فإني لا أفارقك، قال: فإني أدسُّ [72/أ] صاعي هذا في رَحْلك، ثم أنادي عليك بالسرقة ليتهيَّأَ لي ردُّك، قال: فافعل. وعلى هذا فهذا التصرف إنما كان بإذن الأخ ورضاه.
ومثل هذا النوع ما ذكر أهل السير
(3)
عن عدي بن حاتم أنه لما همَّ قومه بالردة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كفَّهم عن ذلك، وأمرهم بالتربُّص، وكان يأمر ابنه إذا رعى إبل الصدقة أن يبعد، فإذا جاء خاصمه بين يدي قومه وهمَّ بضربه، فيقومون فيشفعون إليه فيه؛ ويأمره كل ليلة أن يزداد بعدًا، فلما كان ذات ليلة أمره أن يبعد بها جدًّا، وجعل ينتظره بعدما دخل الليل، وهو يلوم قومه على شفاعتهم ومنعهم إياه من ضربه، وهم يعتذرون عن ابنه، ولا ينكرون إبطاءه،
(1)
«الأول» ليست في ز.
(2)
انظر: «الوسيط» للواحدي (2/ 623) و «تفسير البغوي» (4/ 260) والقرطبي (9/ 229).
(3)
ذكره الواقدي في «كتاب الردة» (1/ 63) والدياربكري في «تاريخ الخميس» (2/ 203)، وقال الحافظ في «الفتح» (8/ 103):«وذلك مشهور عند أهل العلم بالفتوح» .
حتى إذا ابْهارَّ
(1)
الليلُ ركب في طلبه فلحقه، واستاق الإبل حتى قدم بها على أبي بكر رضي الله عنه. فكانت صدقات طيئ مما استعان بها أبو بكر في قتال أهل الردة.
وكذلك في الحديث الصحيح
(2)
أن عديًّا قال لعمر رضي الله عنه: أما تعرفني يا أمير المؤمنين؟ قال: بلى، أعرفك، أسلمتَ إذ كفروا، ووفيتَ إذ غدروا، وأقبلتَ إذ أدبروا، وعرفتَ إذ أنكروا.
ومثل هذا ما أذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم للوفد الذين أرادوا قتل كعب بن الأشرف أن يقولوا
(3)
، وأذن للحجّاج بن عِلاط عامَ خيبر أن يقول
(4)
، وهذا كله من الاحتيال المباح؛ لكون صاحب الحق قد أذن فيه ورضي به، والأمر المحتال عليه طاعة لله أو أمر مباح.
الضرب الثالث: أنه {أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} إلى قوله: {فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ
(1)
أي انتصف.
(2)
رواه البخاري (4394) من حديث عدي بن حاتم.
(3)
رواه البخاري (2510) ومسلم (1801) من حديث جابر بن عبد الله.
(4)
رواه أحمد (12409) والنسائي في «الكبرى» (8592) وأبو يعلى (3479) من حديث أنس. وصححه ابن حبان (4530) وابن كثير في «البداية والنهاية» (4/ 216).
أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف: 70 - 76]. وقد ذكروا في تسميتهم سارقين وجهين:
أحدهما: أنه من باب المعاريض، وأن يوسف نوى بذلك أنهم سرقوه من أبيه، حيث غيَّبوه عنه بالحيلة التي احتالوا عليه وخانوه فيه، والخائن يسمَّى سارقًا، وهو من الكلام المرموز، ولهذا يسمَّى خَوَنةُ الدواوين لصوصًا.
الثاني: أن المنادي هو الذي قال ذلك من غير أمر يوسف.
قال القاضي أبو يعلى وغيره: أمر يوسف بعض أصحابه أن يجعل الصواع في رحل أخيه، ثم قال بعض الموكّلين وقد فقدوه فلم يُدْرَ
(1)
آخِذُه: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} على ظنٍّ منهم أنهم كذلك، من غير أمر يوسف لهم بذلك، أو لعل يوسف قد قال للمنادي: هؤلاء سرقوا، وعَنَى أنهم سرقوه من أبيه، والمنادي فَهِمَ سرقة الصُّواع، فصدق يوسف في قوله، وصدق المنادي. وتأمَّلْ حذف المفعول في قوله:{إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} ليصح أن يضمن سرقتهم [72/ب] ليوسف فيتمّ التعريض، ويكون الكلام صدقًا. وذكر المفعول في قوله:{نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} وهو صادق في ذلك، فصدق في الجملتين معًا تعريضًا وتصريحًا. وتأمَّل قول يوسف:{مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} ، ولم يقل إلا من سرق، وهو أخصر لفظًا، تحرِّيًا للصدق، فإن الأخ لم يكن سارقًا بوجه، وكان عنده المتاع حقًّا؛
(1)
د: «فلم يدري» . ز: «فلم ندري» . وفي «بيان الدليل» : «ولم يدروا من أخذه» .
فالكلام من أحسن المعاريض وأصدقها.
ومثل هذا قول الملَكينِ لداود عليه السلام: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} إلى قوله: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 22 - 23] أي غلبني في الخطاب، ولكن تخريج هذا الكلام على المعاريض لا يكاد يتأتَّى، وإنما وجهه أنه كلام خرج على ضرب المثال، أي إذا كان كذلك فكيف الحكم بيننا.
ونظير هذا قول الملَك للثلاثة الذين أراد الله أن يبتليهم: «مسكين وغريب وعابر سبيل، وقد تقطَّعت بي الحِبال، ولا بلاغ لي اليومَ إلا بالله ثم بك، فأسألك بالذي أعطاك هذا المال بعيرًا أتبلَّغُ به في سفري هذا»
(1)
. وهذا ليس بتعريض، وإنما هو تصريح على وجه ضرب المثال وإيهام أني أنا صاحب هذه القضية، كما أوهم الملَكانِ داود أنهما صاحبا القصة ليتمَّ الامتحان.
ولهذا قال نصر بن حاجب: سئل ابن عيينة عن الرجل يعتذر إلى أخيه من الشيء الذي قد فعله، ويحرِّف القول فيه ليرضيه، لم يأثم في ذلك؟ فقال: ألم تسمع قوله: «ليس بكاذبٍ من أصلحَ بين الناس يكذِب
(2)
فيه»
(3)
، فإذا أصلح بينه وبين أخيه المسلم خير من أن يصلح بين الناس بعضهم من بعض، وذلك إذا أراد به مرضاة الله، وكره أذى المؤمن، ويندم على ما كان
(1)
رواه البخاري (3464) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
كذا في د، ز. وفي «بيان الدليل»:«فكذب» .
(3)
أصل الحديث عند البخاري (2692) ومسلم (2605) من حديث أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط. وأما هذا اللفظ فقد رواه الطبراني في «الأوسط» (8058) والقطيعي في «جزء الألف دينار» (328) والسلفي في «الطيوريات» (125، 393).
منه، ويدفع شرَّه عن نفسه، ولا يريد بالكذب اتخاذ المنزلة عندهم ولا طمعًا في شيء يصيب منهم؛ فإنه لم يرخَّص في ذلك، ورُخِّص له إذا كره مَوجدتَهم وخاف عداوتهم.
قال حذيفة: إني أشتري ديني بعضَه ببعض مخافةَ أن أُقدِم على ما هو أعظم منه
(1)
.
قال سفيان: وقال الملكان: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} ، أراد معنى سِيّ
(2)
ولم يكونا خصمين فلم يصيرا بذلك كاذبين، وقال إبراهيم:{إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، وقال:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، وقال يوسف:{إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} . فبيَّن سفيان أن هذا من المعاريض المباحة.
فصل
وقد احتج بعض الفقهاء بقصة يوسف على أنه جائز للإنسان التوصُّل إلى أخذ حقه من الغير بما يمكنه الوصول إليه بغير رضى مَن عليه الحق.
قال شيخنا
(3)
رضي الله عنه: وهذه الحجة ضعيفة؛ فإن يوسف لم يكن
(4)
يملك حبْسَ أخيه عنده بغير رضاه، ولم يكن هذا الأخ ممن ظلم
(5)
يوسف
(1)
تقدم.
(2)
في المطبوع و «بيان الدليل» : «شيء» ، وهو تحريف. والمثبت هو الصواب كما في النسختين. والسِّيّ: المثل والنظير.
(3)
في «بيان الدليل» (ص 211).
(4)
«يكن» ليست في ز.
(5)
ز: «من ظلمه» .
حتى يقال إنه قد اقتصّ منه، وإنما سائر الإخوة هم الذين كانوا قد فعلوا ذلك، نعم تخلُّفه عنده كان يؤذيهم من أجل تأذِّي أبيهم والميثاق الذي أخذه عليهم، وقد استثنوا
(1)
في الميثاق بقوله: {إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66]، وقد أحيط بهم، ولم يكن قصد يوسف باحتباس أخيه الانتقام من إخوته؛ فإنه كان أكرمَ من هذا، وكان في [73/أ] ذلك من الإيذاء لأبيه أعظم مما فيه من إيذاء إخوته، وإنما هو أمر أمره الله به ليبلُغَ الكتاب أجلَه، ويتمَّ البلاء الذي استحقَّ به يعقوب ويوسف كمال الجزاء، وتبلغَ حكمة الله التي قضاها لهم نهايتها.
ولو كان يوسف قصد القصاص منهم بذلك فليس هذا موضع الخلاف بين العلماء؛ فإن الرجل له أن يعاقب بمثل ما عوقب به، وإنما موضع الخلاف: هل يجوز له أن يسرق أو يخون سرقةً أو خيانةً
(2)
مثل ما سرقَ منه أو خانه إياه؟ وقصة يوسف لم تكن من هذا الضرب.
نعم، لو كان يوسف أخذ أخاه بغير أمره لكان لهذا المحتجّ شبهةٌ، مع أنه لا دلالة في ذلك على هذا التقدير أيضًا؛ فإن مثل هذا لا يجوز في شرعنا بالاتفاق، وهو أن يُحبس رجل بريء، ويُعتقل للانتقام من غيره من غير أن يكون له جرم، ولو قدِّر أن ذلك وقع من يوسف فلا بدّ أن يكون بوحي من الله ابتلاء منه لذلك المعتقل، كما ابتلى إبراهيمَ بذبح ابنه، فيكون المبيح له على هذا التقدير وحيًا خاصًّا كالوحي الذي جاء إبراهيم بذبح ابنه، وتكون حكمته في حقّ المبتلَى امتحانه وابتلاؤه لينال درجة الصبر على حكم الله
(1)
كذا في النسخ. والسياق يقتضي: «استثنى» .
(2)
في المطبوع: «من سرقه أو خانه» ، خلاف ما في النسختين و «بيان الدليل» .
والرضا بقضائه، وتكون حاله في هذا كحال أبيه يعقوب في احتباس يوسف عنه.
وهذا معلوم من فقه القصة وسياقها ومن حال يوسف، ولهذا قال تعالى:{كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]، فنسب الله سبحانه هذا الكيد إلى نفسه كما نسبه إلى نفسه في قوله:{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 15 - 16]، وفي قوله:{وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا} [النمل: 50]، وفي قوله:{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].
وقد قيل: إن تسمية ذلك مكرًا وكيدًا واستهزاءً وخداعًا من باب الاستعارة ومجاز المقابلة، نحو:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، ونحو قوله:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].
وقيل ــ وهو أصوب ــ: بل تسميته بذلك حقيقة على بابه؛ فإن المكر إيصال الشيء إلى الغير بطريق خفي، وكذلك الكيد والمخادعة، ولكنه نوعان: قبيح وهو إيصال ذلك لمن لا يستحقّه، وحسن وهو إيصاله إلى مستحقه عقوبة له؛ فالأول مذموم والثاني ممدوح، والرب تعالى إنما يفعل من ذلك ما يُحمد عليه عدلًا منه وحكمةً، وهو سبحانه يأخذ الظالم والفاجر من حيث لا يحتسب كما يفعل الظلمة بعباده.
وأما السيئة فهي فَيْعِلَة مما يسوء، ولا ريبَ أن العقوبة تسوء صاحبها؛ فهي سيئة له حسنة من الحَكَم العدل.
وإذا عُرِف ذلك فيوسف الصديق كان قد كِيدَ غير مرة: أولها أن إخوته كادوا به كيدًا حيث احتالوا في التفريق بينه وبين أبيه. ثم إن امرأة العزيز كادتْه بما أظهرتْ أنه راودها عن نفسه، حتى أُودع السجن. ثم إن النسوة كادوه حتى
(1)
استجار بالله [73/ب] من كيدهن فصرفه عنه؛ فقال له يعقوب: {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف: 5]، وقال الشاهد لامرأة العزيز:{إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ} [يوسف: 28]، وقال تعالى في حق النسوة:{فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} [يوسف: 34]. وقال للرسول: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: 50].
فكاد الله سبحانه له أحسنَ كيدٍ وألطفَه وأعدلَه، بأن جمع بينه وبين أخيه، وأخرجه من أيدي إخوته بغير اختيارهم كما أخرجوا يوسف من يد أبيه بغير اختياره، وكاد له عوضَ كيدِ المرأة بأن أخرجه من ضيق السجن إلى فضاء الملك، ومكّنه في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء، وكادَ له في تصديق النسوة اللاتي كذّبنه وراودنَه حين شهدن ببراءته وعفته، وكاد له في تكذيب امرأة العزيز لنفسها واعترافها بأنها هي التي راودته وأنه من الصادقين؛ فهذه عاقبةُ من صبر على كيد الكائد له بغيًا وعدوانًا.
فصل
وكيد الله سبحانه لا يخرج عن نوعين:
(1)
في النسختين: «حين» . والمثبت من «بيان الدليل» .
أحدهما ــ وهو الأغلب ــ: أن يفعل سبحانه فعلًا خارجًا عن قدرة العبد الذي كاد له؛ فيكون الكيد قدرًا محضًا ليس هو من باب لا يسوغ، كما كاد أعداء الرسل بانتقامه منهم بأنواع العقوبات، وكذلك كانت قصة يوسف؛ فإن أكثر ما أمكنه أن يفعل أن ألقى الصُّواع في رحل أخيه، وأن أذن المؤذّن بسرقتهم، فلما أنكروا قال:{فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} أي جزاء السارق أو جزاء السُّرَّق، {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 74 - 75] أي جزاؤه نفس السارق، يستعبده المسروق منه إما مطلقًا وإما إلى مدة. وهذه كانت شريعة آل يعقوب.
ثم في إعراب هذا الكلام وجهان:
أحدهما: أن قوله: {جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} جملة مستقلة قائمة من مبتدأ وخبر، وقوله:{فَهُوَ جَزَاؤُهُ} جملة ثانية كذلك مؤكِّدة للأولى مقرِّرة لها، والفرق بين الجملتين أن الأولى إخبار عن استحقاق المسروق لرقبة السارق، والثانية إخبار أن هذا جزاؤه في شرعنا وحكمنا؛ فالأولى إخبار عن المحكوم عليه، والثانية إخبار عن الحكم، وإن كانا متلازمين، وإن أفادت الثانية معنى الحصر وأنه لا جزاء له غيره.
والقول الثاني: أن {جَزَاؤُهُ} الأول مبتدأ وخبره الجملة الشرطية، والمعنى جزاء السرق أن من وُجد المسروق في رحله كان هو الجزاء، كما تقول: جزاء السرقة من سَرق قُطعت يده، وجزاء الأعمال مَن عمل حسنةً فبعشرٍ أو سيئةً فواحدة، ونظائره.
قال شيخنا
(1)
رضي الله عنه: وإنما احتمل الوجهين لأن الجزاء قد يراد به نفس الحكم باستحقاق العقوبة، وقد يراد به نفس فعل العقوبة، وقد يراد به نفس الألم الواصل إلى المعاقب؛ والمقصود أن إلهام الله سبحانه لهم هذا الكلام
(2)
كيدٌ كاده ليوسف خارج عن قدرته؛ [74/أ] إذ قد كان يُمكنهم أن يقولوا: لا جزاء عليه حتى يثبت أنه هو الذي سرق؛ فإن مجرد وجوده في رحله لا يوجب ثبوت السرقة، وقد كان يوسف عادلًا لا يأخذهم بغير حجة. وقد كان يمكنهم أن يقولوا: يُفعل به ما يُفعل بالسرَّاق في دينكم، وقد كان من دين ملك مصر ــ كما قاله أهل التفسير ــ أن يُضرب السارق ويُغرم قيمة المسروق مرتين، ولو قالوا ذلك لم يمكنه أن يُلزِمهم ما لا يلزم به غيرهم.
ولهذا قال سبحانه: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف: 76]، أي ما كان يمكنه أخذُه في دين ملك مصر؛ إذ لم يكن في دينه طريق له إلى أخذه، وعلى هذا فقوله:{إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} استثناء منقطع، أي لكن إن شاء الله أخذه بطريق آخر، أو يكون متصلًا على بابه، أي إلا أن يشاء الله ذلك فيهيِّئ له سببًا يؤخذ به في دين الملك من الأسباب التي كان الرجل يُعتقل بها، فإذا كان المراد من الكيد فعلًا من الله ــ بأن ييسِّر لعبده المؤمن المظلوم المتوكل عليه أمورًا يحصل بها مقصوده من الانتقام من الظالم ــ كان هذا خارجًا عن الحيل الفقهية؛ فإن كلامنا في الحيل التي يفعلها العبد، لا فيما يفعله الله سبحانه.
بل في قصة يوسف تنبيهٌ على بطلان الحيل، وأن من كاد كيدًا محرَّمًا فإن الله يكيده ويعامله بنقيض قصده وبمثل عمله، وهذه سنة الله في أرباب الحيل المحرَّمة أنه لا يبارك لهم فيما نالوه بهذه الحيل، ويهيِّئ لهم كيدًا على يد من يشاء من خلقه يجزون به من جنس كيدهم وحيلهم.
وفيها تنبيه على أن المؤمن المتوكِّل على الله إذا كاده الخلق فإن الله يكيد له وينتصر له بغير حولٍ منه ولا قوة.
وفيها دليل على أن وجود المسروق بيد السارق كافٍ في إقامة الحد عليه، بل هو بمنزلة إقراره، وهو أقوى من البينة، وغاية البينة أن يستفاد منها ظن، وأما وجود المسروق بيد السارق فيستفاد منه اليقين وبهذا جاءت السنة في وجوب الحد بالحَبَل والرائحة في الخمر كما اتفق عليه الصحابة، والاحتجاج بقصة يوسف على هذا أحسن وأوضح
(1)
من الاحتجاج بها على الحيل.
وفيها تنبيه على أن العلم الخفي الذي يُتوصَّل به إلى المقاصد الحسنة مما يرفع الله به درجاتِ العبد؛ لقوله بعد ذلك: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 76]، قال زيد بن أسلم وغيره: بالعلم
(2)
. وقد أخبر تعالى عن رفعه درجات أهل العلم في ثلاث
(3)
مواضع من كتابه:
(1)
د: «حسن وأصح» .
(2)
رواه ابن وهب في «الموطأ» (274) وابن أبي حاتم في «التفسير» (4/ 1335) وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (1069)، وإسناده صحيح.
(3)
كذا في النسختين بدون هاء.
أحدها: قوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83]، فأخبر أنه يرفع درجات من يشاء بعلم الحجة.
وقال في قصة يوسف: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 76]، فأخبر أنه يرفع درجات من يشاء بالعلم الخفي الذي [74/ب] يتوصَّل به صاحبه إلى المقاصد المحمودة.
وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، فأخبر أنه يرفع درجات أهل العلم والإيمان.
فصل
النوع الثاني من كيده لعبده المؤمن: هو أن يلهمه سبحانه أمرًا مباحًا أو مستحبًّا أو واجبًا يوصله به إلى المقصود الحسن؛ فيكون على هذا إلهامه ليوسف أن يفعل ما فعل هو من كيده سبحانه أيضًا، وقد دلّ على ذلك قوله:{نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} ، فإنّ فيها تنبيهًا على أن العلم الدقيق الموصل إلى المقصود الشرعي صفة مدح، كما أن العلم الذي يخصم به المُبطِل صفة مدح؛ وعلى هذا فيكون من الكيد ما هو مشروع، لكن لا يجوز أن يراد به الكيد الذي تُستحلُّ به المحرّمات أو تسقط به الواجبات؛ فإن هذا كيدٌ لله، والله هو الذي يكيد الكائد، ومحال أن يشرع الله سبحانه أن يُكاد دينُه. وأيضًا فإن هذا الكيد لا يتم إلا بفعل يُقصَد به غير مقصوده الشرعي، ومحال أن يشرع الله لعبده أن يقصد بفعله ما لم يشرع الله ذلك الفعل له.
فهذا هو الجواب عن احتجاج المتحيِّلين بقصة يوسف عليه الصلاة والسلام، وقد تبيَّن أنها من أعظم الحجج عليهم، وبالله التوفيق.
فصل
وأما حديث أبي هريرة وأبي سعيد: «بع الجمع بالدراهم ثم ابتَعْ بالدراهم جَنيبًا» فما أصحَّه من حديث، ونحن نتلقّاه بالقبول والتسليم. والكلام معكم فيه في مقامين: أحدهما: إبطال استدلالكم به على جواز الحيل، والثاني: بيان دلالته على نقيض مطلوبكم؛ إذ هذا شأن كل دليل صحيح احتج به محتج على باطل؛ فإنه لا بدَّ أن يكون فيه ما يدل على بطلان قوله ظاهرًا أو إيماءً، مع عدم دلالته على قوله.
فأما المقام الأول
(1)
فنقول: غاية ما دلَّ الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يبيع سِلعته الأولى بثمن ثم يبتاع بثمنها تمرًا آخر، ومعلوم قطعًا أن ذلك إنما يقتضي البيع الصحيح؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأذن في العقد الباطل؛ فلا بدَّ أن يكون العقد الذي أذن فيه صحيحًا، والشأن كل الشأن في العقد المتنازع فيه؛ فلو سلَّم لكم المنازع صحته لاستغنيتم عن الاستدلال بالحديث، ولا يمكن الاستدلال بالحديث على صحته لأنه ليس بعام؛ فإن قوله:«بع» مطلق لا عام؛ فهذا البيع لو كان صحيحًا متفقًا على صحته لم يكن هناك لفظ عام يحتجُّ به على تناوله له، فكيف وهذا البيع مما قد دلّت السنة الصحيحة وأقوال الصحابة والقياس الصحيح على بطلانه كما تقدم؟ ولو اختلف رجلان في بيع هل هو صحيح أو فاسد، وأراد كل واحد منهما إدخاله في
(1)
يأتي المقام الثاني بعد 13 صفحة.
هذا اللفظ؛ لم يُمكِنه ذلك حتى يُثبِت أنه بيع صحيح، ومتى أثبت [75/أ] أنه بيع صحيح لم يحتج إلى الاستدلال بهذا المطلق؛ فتبيَّن أنه لا حجة فيه على صورة من صور النزاع البتةَ.
ونكتة الجواب أن يقال: الأمر المطلق بالبيع إنما يقتضي البيع الصحيح، ومن سلَّم لكم أن هذه الصورة التي تواطأ فيها البائع والمشتري على الربا، وجعلا السلعة الدخيلة محلِّلًا له غير مقصودة بالبيع= بيع صحيح؟ وإذا كان الحديث ليس فيه عموم، وإنما هو مطلق، والأمر بالحقيقة المطلقة ليس أمرًا بشيء من صورها؛ لأن الحقيقة مشتركة بين الأفراد، والقدر المشترك ليس هو ما يميَّز به كل واحد من الأفراد عن الآخر، ولا هو مستلزمًا له؛ فلا يكون الأمر بالمشترك أمرًا بالمميّز بحال، وإن كان مستلزمًا لبعض تلك القيود لا بعينه، فيكون عامًّا لها على سبيل البدل، لكن ذلك لا يقتضي العموم للأفراد على سبيل الجمع، وهو المطلق في قوله:«بع هذا الثوب» ، لا يقتضي الأمر ببيعه من زيد أو عمرو، ولا بكذا وكذا، ولا بهذه السوق أو هذه؛ فإن اللفظ لا دلالة له
(1)
على شيء من شيء من ذلك، إذا أتى بالمسمى حصل ممتثلًا من جهة وجود تلك الحقيقة، لا من جهة وجود
(2)
تلك القيود. وهذا الأمر لا خلاف فيه، لكن بعض الناس يعتقد أن عدم الأمر بالقيود يستلزم عدم الإجزاء إذا أتى بها إلا بقرينة، وهو خطأ، والصواب أن القيود لا تنافي الأمر ولا تستلزمه، وإن كان لزوم بعضها لزومًا عقليًّا ضرورةَ وقوعِ القدر المشترك في ضمن قيدٍ من تلك القيود.
(1)
«له» ليست في ز.
(2)
«وجود» ليست في ز.
وإذا تبيَّن هذا فليس في الحديث أمرُه أن يبيع التمر لبائع النوع الآخر ولا لغيره، ولا بحلول ولا بأجل، ولا بنقد البلد ولا بغيره
(1)
، ولا بثمن المثل أو غيره، وكل هذه القيود خارجة عن مفهوم اللفظ، ولو زعم زاعم أن اللفظ يعمُّ هذا كله كان مبطلًا، لكن اللفظ لا يمنع الإجزاء إذا أتى بها، وإنما استفيد عدم الامتثال إذا بيع بدون ثمن المثل أو بثمن مؤجّل أو بغير نقد البلد من العرف الذي ثبت للبيع المطلق. وكذلك ليس في اللفظ ما يدلُّ على أنه يبيعه من البائع بعينه ولا غيره، كما ليس فيه ما يمنعه، بل كل واحد من الطرفين يحتاج إلى دليل خارج عن اللفظ المطلق؛ فما قام الدليل على إباحته أبيح فعله بالدليل الدال على جوازه لا بهذا اللفظ، وما قام الدليل
(2)
على المنع منه لم يعارض دليل المنع بهذا اللفظ المطلق حتى يطلب الترجيح، بل يكون دليل المنع سالمًا عن المعارضة بهذا، فإن عورض بلفظ عام متناول لإباحته بوضع اللفظ له أو بدليل خاص صحت المعارضة. فتأمَّلْ هذا الموضع الذي كثيرًا ما يَغلَط فيه الناظر والمناظر، وبالله التوفيق.
وقد ظهر بهذا جوابُ من قال: «لو كان الابتياع من المشتري حرامًا لنهى عنه» ، فإن مقصوده صلى الله عليه وسلم إنما كان بيان الطريق التي بها يحصل اشتراء التمر الجيد لمن عنده رديء، وهو أن يبيع الرديء بثمن ثم يبتاع بالثمن جيدًا، ولم يتعرض لشروط
(3)
المبيع وموانعه؛ لأن المقصود ذكر الحكم [75/ب] على وجه الجملة، أو لأن المخاطب أُحيل على فهمه وعلمه بأنه
(1)
ز: «غيره» .
(2)
د: «دليل» .
(3)
ز: «لشرط» .
إنما أذن له في بيع يتعارفه الناس، وهو البيع المقصود في نفسه، ولم يؤذن له في بيع يكون وسيلة وذريعة ظاهرة إلى ما هو ربا صريح، وكان القوم أعلم بالله ورسوله وشريعته من أن يفهموا عنه أنه أذن لهم في الحيل الربوية التي ظاهرها بيع وباطنها ربًا، ونحن نشهد بالله أنه كما لم يأذن فيها بوجه لم يفهمها عنه أصحابه بخطابه بوجه.
وما نظير هذا الاستدلال إلا استدلال بعضهم على جواز أكل ذي الناب والمِخْلَب بقوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187]، واستدلال آخر بقوله:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] على جواز نكاح الزانية المُصِرَّة على الزنا، واستدلال آخر على ذلك بقوله:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32]، واستدلال غيره به على صحة نكاح التحليل بذلك، وعلى صحة نكاح المتعة، واستدلال آخر على جواز نكاح المخلوقة من مائه إذا كان زانيًا. ولو أن رجلًا استدلَّ بذلك على جواز نكاح المرأة على عمتها وخالتها، وأخذ يعارض به السنة= لم يكن فرق بينه وبين هذا الاستدلال، بل لو استدل به على كل نكاح حرَّمته السنة لم يكن فرق بينه وبين هذا الاستدلال. وكذلك قوله:«بع الجمع» لو استدل به مستدل على بيع من البيوع المتنازع فيها لم يكن فيه حجة، وليس الغالب أن بائع التمر بدراهم يبتاع بها من المشتري حتى يقال: هذه الصورة غالبة فيُحمَل اللفظ عليها، ولا هو المتعارف عند الإطلاق عرفًا وشرعًا.
وبالجملة فإرادة هذه الصورة وحدها من اللفظ ممتنع، وإرادتها مع غيرها فرع على عمومه، ولا عمومَ له، وإرادة القدر المشترك بين أفراد البيع إنما ينصرف إلى البيع المعهود عرفًا وشرعًا، وعلى التقديرات كلها لا تدخل
هذه الصورة.
ومما يدلُّ على ذلك أن هذه الصورة لا تدخل في أمر الرجل لعبده وولده ووكيله أن يشتري له كذا، فلو قال:«بع هذه الحنطة العتيقة واشترِ لنا جديدة» لم يفهم السامع إلا بيعًا مقصودًا أو شِرًى مقصودًا
(1)
، فثبت أن الحديث ليس فيه إشعار بالحيلة الربوية البتةَ.
يوضحه أن قوله: «بع كذا واشترِ كذا» أو «بعتُ واشتريتُ» لا يفهم منه إلا البيع الذي يُقصد به نقل ملك المبيع نقلًا مستقرًّا؛ ولهذا لا يفهم منه بيع الهازل ولا المُكرَه، ولا بيع الحيلة، ولا بيع العينة، ولا يعدُّ الناس من اتخذ خَرزةً أو عرضًا يحلِّل به الربا ويبيعه ويشتريه صورة خالية عن حقيقة البيع ومقصودِه تاجرًا، وإنما يسمونه مرابيًا ومتحيلًا، فكيف يدخل هذا تحت لفظ النبي صلى الله عليه وسلم؟
يزيده إيضاحًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من باع بيعتينِ في بيعةٍ فله أوكسُهما أو الربا»
(2)
، ونهى عن بيعتين في بيعة، ومعلوم أنهما متى تواطآ على أن يبيعه بالثمن ثم يبتاع به منه فهو بيعتان في بيعة، فلا يكون ما نهى عنه داخلًا فيما [76/أ] أذن فيه.
يوضحه أيضًا أنه قال: «لا يحلُّ سَلفٌ وبيعٌ، ولا شرطانِ في بيع»
(3)
، وتواطؤهما على أن يبيعه السلعة بثمن ثم يشتري منه غيرها بذلك الثمن
(1)
«مقصودًا» ليست في ز.
(2)
تقدم.
(3)
تقدم.
منطبق على لفظ الحديث؛ فلا يدخل ما أخبر أنه لا يحلُّ تحت ما أذن فيه.
يوضحه أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بعِ الجمعَ بالدراهم ثم ابتَعْ بالدراهم جَنيبًا» ، وهذا يقتضي بيعًا ينشئه ويبتدئه بعد انقضاء البيع الأول، ومتى واطأه في أول الأمر على أن أبيعك وأبتاع منك فقد اتفقا على العقدين معًا؛ فلا يكون الثاني عقدًا مستقلًّا مبتدأً، بل هو من تتمة العقد الأول عندهما وفي اتفاقهما، وظاهر الحديث أنه أمر بعقدين مستقلَّين لا يرتبط أحدهما بالآخر ولا ينبني عليه.
ولو نزَلنا عن ذلك كله وسلَّمنا أن الحديث عام عمومًا لفظيًّا يدخل تحته صورة الحيلة فهو لا ريبَ مخصوص بصور كثيرة؛ فتخصّ منه هذه الصورة المذكورة بالأدلة المتقدمة على بطلان الحيل وأضعافها، والعام يُخَصُّ بدون مثلها بكثير، فكم قد خُصَّ العموم بالمفهوم وخبر الواحد والقياس وغير ذلك، فتخصيصه
(1)
ــ لو فُرِض عمومه ــ بالنصوص والأقيسة وإجماع الصحابة على تحريم الحيل أولى وأحرى، بل واحد من تلك الأدلة التي ذكرناها على المنع من الحيل وتحريمها كافٍ في التخصيص.
وإذا كنتم قد خصصتم قوله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله المحلِّلَ والمحلَّلَ له»
(2)
مع أنه عام عمومًا لفظيًّا، فخصصتموه بصورة واحدة وهي ما اشترطا في صلب العقد أنه إنما تزوَّجها ليُحِلَّها ومتى أحلَّها فهي طالق، مع أن هذه الصورة نادرة جدًّا لا يفعلها محلِّل، والصور الواقعة في التحليل أضعاف أضعافِ هذه، فحملتم اللفظ العام عمومًا لفظيًّا ومعنويًّا على أندرِ صورة تكون لو قُدِّر
(1)
د: «فتخصه» ، ز:«فيخصه» . والمثبت يقتضيه السياق.
(2)
تقدم.
وقوعها، وأخليتموه عن الصور
(1)
الواقعة المستعملة بين المحلِّلين؛ فقوله صلى الله عليه وسلم: «بع الجمعَ بالدراهم» أولى بالتقييد بالنصوص الكثيرة والآثار والأقيسة الصحيحة التي هي في معنى الأصل، وحملِه على البيع المتعارف المعهود عرفًا وشرعًا، وهذا بحمد الله تعالى في غاية الوضوح، ولا يخفى على منصفٍ يريد الله ورسوله والدار الآخرة، وبالله التوفيق.
فصل
ومما يوضح فساد حمل الحديث على صورة الحيلة وأن كلام الرسول ومنصبه العالي منزَّه عن ذلك: أن المقصود الذي شرع الله سبحانه له البيع وأحلَّه لأجله هو أن يحصل مِلك الثمن للبائع ويحصل مِلك المبيع للمشتري؛ فيكون كلٌّ منهما قد حصل له مقصوده بالبيع، هذا ينتفع بالثمن وهذا بالسلعة، وهذا إنما يكون إذا قصد المشتري نفس السلعة للانتفاع بها أو التجارة فيها وقصد البائع نفس الثمن، ولهذا يحتاط كلُّ واحد منهما فيما يصير إليه من العرض، هذا في وزن الثمن ونقده ورواجه، وهذا في سلامة السلعة من العيب وأنها تساوي الثمن الذي بذله فيها، [76/ب] فإذا كان مقصود كل منهما ذلك فقد قصدا بالسبب ما شرعه الله له، وأتى بالسبب حقيقة وحكمًا، وسواء حصل مقصوده بعقد أو توقَّف على عقود، مثل أن يكون بيده سلعة وهو يريد أن يبتاع سلعة أخرى لا تباع سلعته لمانع شرعي أو عرفي أو غيرهما فيبيع سلعته ليملك ثمنها، وهذا بيع مقصود وعوضه مقصود، ثم يبتاع بالثمن سلعة أخرى.
(1)
ز: «الصورة» .
وهذه قصة بلال في تمر خيبر سواء، فإنه إذا باع الجمع بالدراهم فقد أراد بالبيع مِلكَ الثمن، وهذا مقصود مشروع، ثم إذا ابتاع بالدراهم جنيبًا فقد عقد عقدًا مقصودًا مشروعًا؛ فلما كان بائعًا قصد مِلك الثمن حقيقة، ولما كان مبتاعًا قصد مِلك السلعة حقيقة.
فإن ابتاع بالثمن من غير المشتري منه فهذا لا محذور فيه؛ إذ كلٌّ من العقدين مقصود مشروع، ولهذا يستوفيان حكم العقد الأول من النقد والقبض وغيرهما. وأما إن ابتاع بالثمن من مبتاعه من جنس ما باعه فهذا يُخشى منه أن لا يكون العقد الأول مقصودًا لهما، بل قصدهما بيع السلعة الأولى بالثانية فيكون ربًا بعينه، ويظهر هذا القصد بأنهما يتفقان على صاع بصاعين أولًا ثم يتوصلا [نِ] إلى ذلك ببيع الصاع بدرهم ويشتري به صاعين، ولا يبالي البائع بنقد ذلك الثمن ولا بقبضه ولا بعيب فيه ولا بعدم رواجه، ولا يحتاط لنفسه فيه احتياطَ من قصدُه تملُّك الثمن؛ إذ قد علم هو والآخر أن الثمن بعينه خارج منه عائد إليه، فنقده وقبضه والاحتياط فيه يكون عبثًا.
وتأمَّلْ
(1)
حال باعة الحُلِيَّ عنه، كيف يُخرِج كل حلقة من غير جنسه أو قطعةً ما، ويبيعك إياها بذلك الثمن، ثم يبتاعها منك؟ فكيف لا تسأل عن قيمتها ولا عن وزنها ولا مساواتها للثمن؟ بل قد تساوي أضعافه وقد تساوي بعضه؛ إذ ليست هي القصد، وإنما القصد أمرٌ وراءها، وجُعِلت هي محلِّلًا لذلك المقصود.
(1)
ز: «فهامل» ، تحريف.
وإذا عُرِف هذا فهو إنما عقد معه العقد الأول ليعيد إليه الثمن بعينه ويأخذ العوض الآخر، وهذا تواطؤٌ منهما حين عقداه على فسخه، والعقد إذا قصد به فسخه لم يكن مقصودًا، وإذا لم يكن مقصودًا كان وجوده كعدمه، وكان توسطه عبثًا.
ومما يوضح الأمر في ذلك أنه إذا جاءه بتمر أو زبيب أو حنطة ليبتاعَ به من جنسه فإنهما يتشارطان ويُراوِضانِ
(1)
على سعر أحدهما من الآخر، وأنه مدٌّ بمدٍّ ونصفٍ مثلًا، ثم بعد ذلك يقول: بعتُك هذا بكذا وكذا درهمًا، ثم يقول: بعني بهذه الدراهم كذا وكذا صاعًا من النوع الآخر، وكذلك في الصرف، وليس للبائع ولا للمشتري غرض في الدراهم، والغرض معروف. فأين من يبيعه السلعة بثمن ليشتري به منه من جنسها إلى من
(2)
يبيعه إياها بثمن له غرض في تملُّكه وقبضه؟ وتوسُّط الثمن في الأول عبث محض لا فائدة فيه، فكيف يأمر به الشارع الحكيم مع زيادة [77/أ] التعب والكلفة فيه؟ ولو كان هذا سائغًا لم يكن في تحريم الربا حكمة سوى تضييع الزمان وإتعاب النفوس بلا فائدة؛ فإنه لا يشاء أحد أن يبتاع ربويًّا بأكثر منه من جنسه إلا قال: بعتُك هذا بكذا، وابتعتُ منك هذا بهذا الثمن؛ فلا يَعجِز أحد عن استحلال ما حرَّمه الله قطُّ بأدنى الحيل.
يوضحه أن الربا نوعان: ربا الفضل، وربا النسيئة، فأما ربا الفضل فيمكنه في كل مال ربوي أن يقول: بعتك هذا المال بكذا، ويسمِّي ما شاء، ثم يقول:
(1)
كذا في النسختين، وهو صواب. يقال: راوضَه على الأمر: داراه وخاتله حتى يُدخله فيه. وفي المطبوع: «يتراضيان» .
(2)
في النسختين: «أن» . والمثبت يقتضيه السياق.
اشتريتُ منك هذا ــ للذي هو من جنسه ــ بذلك الذي سمّاه، ولا حقيقة له مقصودة. وأما ربا النَّساء فيمكنه أن يقول: بعتك هذه الحريرة بألف درهم أو عشرين صاعًا إلى سنة، وابتعتها منك بخمسمائة حالة أو خمسة عشر صاعًا، ويمكنه ربا الفضل، فلا يشاء مُرْبٍ إلا أقرضه ثم حاباه في بيع أو إجارة أو غيرهما، ويحصل مقصوده من الزيادة.
فيا سبحان الله! أيعود الربا ــ الذي قد عظَّم الله شأنه في القرآن، وأوجب محاربة مستحلِّيه، ولعن آكله وموكِله وشاهديه وكاتبه، وجاء فيه من الوعيد ما لم يجئ في غيره ــ إلى أن يُستحَلَّ نوعاه بأدنى حيلةٍ لا كلفةَ فيها أصلًا إلا بصورة عقد هي عبث ولعب يُضحك منها ويُستهزأ بها؟ فكيف يستحسن أن يُنسب إلى نبي من الأنبياء فضلًا عن سيد الأنبياء، بل أن يُنسب رب العالمين إلى أن يحرِّم هذه المحرمات العظيمة ويُوعِد عليها بأغلظ العقوبات وأنواع الوعيد، ثم يبيحها بضرب من الحيل والعبث والخداع الذي ليس له حقيقة مقصودة في نفسه للمتعاقدين؟
وترى كثيرًا من المترابين ــ لما علم أن هذا العقد ليس له حقيقة مقصودة البتةَ ــ قد جعل عنده خرزةَ ذهب، فكل من جاءه يريد أن يبيعه جنسًا بجنسه أكثر منه أو أقلَّ ابتاع منه ذلك الجنس بتلك الخرزة، ثم ابتاع الخرزة بالجنس الذي يريد أن يعطيه إياه، أفيستجيز عاقل أن يقول: إن الذي حرَّم بيع الفضة بالفضة متفاضلًا أحلَّها بهذه الخرزة؟ وكذلك كثير من الفجّار قد أعدَّ سِلعة لتحليل ربا النَّساء، فإذا جاءه من يريد ألفًا بألف ومائتين أدخل تلك السلعة محلِّلا. ولهذا كانت أكثر حيل الربا في بابها أغلظ من حيل التحليل، ولهذا حرَّمها أو بعضها من لم يحرِّم التحليل؛ لأن القصد في البيع معتبر في فِطَر الناس، ولأن الاحتيال في الربا غالبًا إنما يتمُّ بالمواطأة اللفظية أو
العرفية، ولا يفتقر إلى شهادة، ولكن يتعاقدان ثم يشهدان أن له في ذمته دينًا، ولهذا إنما لُعِن شاهداه إذا علما به، والتحليل لا يمكن إظهاره وقت العقد؛ لكون الشهادة شرطًا فيه، والشروط المتقدمة تؤثِّر كالمقارِنة كما تقدم تقريره؛ إذ تقديم
(1)
الشرط ومقارنته لا تُخرجه عن كونه عقدَ تحليل وتُدخله في نكاح الرغبة، والقصود معتبرة في العقود.
فصل
وجماع الأمر أنه إذا باعه ربويًّا بثمن وهو يريد أن يشتري [77/ب] منه بثمنه من جنسه، فإما أن يواطئه على الشراء منه لفظًا، أو يكون العرف بينهما قد جرى بذلك، أو لا يكون، فإن كان الأول فهو باطل كما تقدم تقريره؛ فإن هذا لم يقصد مِلك الثمن ولا قصَد هذا تمليكَه، وإنما قصد تمليك الثمن بالثمن
(2)
، وجعلا تسمية الثمن تلبيسًا وخداعًا ووسيلةً إلى الربا؛ فهو في هذا العقد بمنزلة التيس الملعون في عقد التحليل، وإن لم تجرِ بينهما مواطأة لكن قد علم المشتري أن البائع يريد أن يشتري منه ربويًّا بربوي فكذلك؛ لأن علمه بذلك ضربٌ من المواطأة، وهو يمنع قصد الثمن الذي يخرج به عن قصد الربا، وإن قصد البائع الشراء منه بعد البيع ولم يعلم المشتري؛ فقد قال الإمام أحمد هاهنا: لو باع من رجل دنانير بدراهم لم يجز أن يشتري بالدراهم منه ذهبًا إلا أن يمضي ويبتاع بالورِق من غيره ذهبًا فلا يستقيم، فيجوز أن يرجع إلى الذي ابتاع منه الدنانير فيشتري منه ذهبًا. وكذلك كره مالك أن تصرف دراهمك من رجل بدنانير، ثم تبتاع منه بتلك الدنانير دراهم
(1)
ز: «تقدم» .
(2)
كذا في النسختين. وفي المطبوع: «المثمن بالمثمن» .
غير دراهمك في الوقت أو بعد يوم أو يومين. قال ابن القاسم: فإن طال الزمان وصح أمرهما فلا بأس به.
فوجه ما منعه الإمام أحمد رضي الله عنه أنه متى قصد المشتري منه تلك الدنانير لم يقصد تملك الثمن، ولهذا لا يحتاط في النقد والوزن، ولهذا يقول: إنه متى بدا له بعد القبض والمفارقة أن يشتري منه ــ بأن يطلب من غيره فلا يجد ــ لم يكن في العقد الأول خللٌ، والمتقدمون من أصحابه حملوا هذا المنع منه
(1)
على التحريم.
وقال القاضي وابن عقيل وغيرهما: إذا لم يكن غرضًا ومواطأةً بينهما لم يحرم، وقد أومأ إليه الإمام أحمد في رواية حرب؛ فإنه قال: قلت لأحمد: اشترى من رجل ذهبًا ثم باعه منه، قال: يبيعه من غيره أعجبُ إلي. وذكر ابن عقيل أن أحمد لم يكرهه في رواية أخرى.
وكره ابن سيرين للرجل أن يبتاع من الرجل الدراهم بالدنانير ثم يشتري منه بالدراهم دنانير
(2)
. وهذه المسألة في ربا الفضل كمسائل العِينة في ربا النَّساء، ولهذا عدَّها من الربا الفقهاء السبعة وأكثر العلماء، وهو قول أهل المدينة كمالك وأصحابه، وأهل الحديث كأحمد وأصحابه، وهو مأثور عن ابن عمر
(3)
. ففي هذه المسألة قد عاد الثمن إلى المشتري، وحصلا على ربا الفضل أو النَّساء، وفي العينة قد عاد المبيع إلى البائع وأفضى إلى ربا الفضل والنَّساء جميعًا، ثم إن كان في الوصفين لم يقصد الثمن ولا المبيع، وإنما
جعل وصلة إلى الربا؛ فهذا الذي لا ريبَ في تحريمه، والعقد الأول هاهنا باطل بلا توقف عند من يُبطل الحيل. وقد صرَّح به القاضي في مسألة العِينة في غير موضع، وحكى أبو الخطاب في صحته وجهين.
قال شيخنا
(1)
: [78/أ] والأول هو الصواب، وإنما تردد من تردد من الأصحاب في العقد الأول في مسألة العينة؛ لأن هذه المسألة إنما يُنصَب الخلاف فيها في العقد الثاني بناء على أن الأول صحيح، وعلى هذا التقدير فليست من مسائل الحيل، وإنما هي من مسائل الذرائع. ولها مأخذ آخر يقتضي التحريم عند أبي حنيفة وأصحابه؛ فإنهم لا يحرّمون الحيل ويحرّمون مسألة العِينة، وهو أن الثمن إذا لم يُستوفَ لم يتم العقد الأول؛ فيصير الثاني مبنيًّا عليه، وهذا تعليل خارج عن قاعدة الحيل والذرائع. فصار للمسألة ثلاثة مآخذ، فلما لم يتمحّض تحريمها على قاعدة الحيل توقف في العقد الأول من توقف.
قال شيخنا
(2)
: والتحقيق أنها إذا كانت من الحيل أُعطِيت حكم الحيل، وإلا اعتُبِر فيها المأخذان الآخران، هذا إذا لم يقصد العقد الأول، فإن قصد حقيقته فهو صحيح، لكن ما دام الثمن في ذمة المشتري لم يجز أن يشتري منه المبيع بأقل منه من جنسه، ولا يجوز أن يبتاع منه بالثمن ربويًّا لا يباع بالأول نَساءً؛ لأن أحكام العقد الأول لا تتم إلا بالتقابض؛ فإذا لم يحصل كان ذريعة إلى الربا، وإن تقابضا وكان العقد مقصودًا فله أن يشتري منه كما يشتري من غيره، وإذا كان الطريق إلى الحلال هي العقود المقصودة المشروعة التي لا
(1)
في «بيان الدليل» (ص 226، 227).
(2)
المصدر السابق (ص 227).
خداعَ فيها ولا تحريمَ لم يصح أن يلحق بها صورة عقد لم تُقصد حقيقته، وإنما قُصِد التوصل به إلى استحلال ما حرمه الله، والله الموفق.
وإنما أطلنا الكلام على هذه الحجة لأنها عمدة أرباب الحيل من السنة، كما عمدتهم من الكتاب:{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} .
فصل
فهذا تمام الكلام على المقام الأول، وهو عدم دلالة الحديث على الحيل الربوية بوجه من الوجوه.
وأما المقام الثاني ــ وهو دلالته على تحريمها وفسادها ــ فلأنه صلى الله عليه وسلم نهاه أن يشتري الصاع بالصاعين، ومن المعلوم أن الصفة التي في الحيل مقصودة يرتفع سعره لأجلها، والعاقل لا يُخرج صاعين ويأخذ صاعًا إلا لتميُّز ما يأخذه بصفة، أو لغرض له في المأخوذ ليس في المبذول، والشارع حكيم لا يمنع المكلَّفَ مما هو مصلحة له ويحتاج إليه إلا لتضمنه أو لاستلزامه
(1)
مفسدة أرجح من تلك المصلحة. وقد خفيت هذه المفسدة على كثير من الناس حتى قال بعض المتأخرين: لا يتبين لي ما وجه تحريم ربا الفضل والحكمة فيه، وقد تقدَّم أن هذا من أعظم حكمة الشريعة ومراعاة مصالح الخلق، وأن الربا نوعان: ربا نسيئة، وتحريمه تحريم المقاصد؛ وربا فضلٍ، وتحريمه تحريم الذرائع والوسائل؛ فإن النفوس متى ذاقت الربح فيه عاجلًا تسوَّرت منه إلى الربح الآجل، فسدت عليها الذريعة وحمي جانب الحمى، وأيُّ حكمة وحكمٍ أحسنُ من ذلك؟
(1)
ز: «استلزامه» .
وإذا كان كذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم منع بلالًا من أخذ مدٍّ بمدَّينِ
(1)
لئلا يقع في الربا، ومعلوم أنه لو جوز له ذلك [78/ب] بحيلة لم يكن في منعه من بيع مدين بمد فائدةٌ أصلًا، بل كان بيعه كذلك أسهل وأقل مفسدة من مِرْبَط
(2)
الحيلة الباردة التي لا تُغني من المفسدة شيئًا، وقد نبّه على هذا بقوله في الحديث:«لا تفعَلْ، أُوَّهْ، عينُ الربا»
(3)
، فنهاه عن الفعل، والنهي يقتضي المنع بحيلة أو غير حيلة؛ لأن المنهي عنه لا بدّ أن يشتمل على مفسدة لأجلها ينهى عنه، وتلك المفسدة لا تزول بالتحيُّل
(4)
عليها بل تزيد، وأشار إلى المنع بقوله:«عينُ الربا» ، فدلّ على أن المنع إنما كان لوجود حقيقة الربا وعينه، وأنه لا تأثير للصورة المجردة مع قيام الحقيقة؛ فلا تُهمِل قوله:«عين الربا» ، فتحت هذه اللفظة ما يشير إلى أن الاعتبار بالحقائق، وأنها هي التي عليها المعوَّل، وهي محلُّ التحليل والتحريم، والله سبحانه لا ينظر إلى صورها وعباراتها التي يكسوها إياها العبد، وإنما ينظر إلى حقائقها وذواتها
(5)
، وبالله التوفيق.
فصل
وأما تمسكهم بجواز المعاريض وقولهم: «إن الحيل معاريضُ فعلية
(1)
رواه البخاري (2312) ومسلم (1594) عن أبي سعيد الخدري.
(2)
كذا في د مهملة، وفي ز:«بربط» . وفي المطبوع: «توسط» . والمِربط: ما تُربط به الدواب، والمقصود هنا الذريعة والوسيلة.
(3)
قاله لبلال كما في الحديث المذكور آنفًا.
(4)
ز: «بالحيل» .
(5)
ز: «دورانها» .
على وِزان المعاريض القولية»، فالجواب من وجوه:
أحدها: أن يقال: ومن سلَّم لكم أن المعاريض إذا تضمَّنت استباحة الحرام وإسقاط الواجبات وإبطال الحقوق كانت جائزة؟ بل هي من الحيل القولية، وإنما تجوز المعاريض إذا كان فيها تخلُّص من ظالم، كما عرَّض الخليل بقوله:«هذه أختي»
(1)
، فإذا تضمنت نصْرَ حق أو إبطال باطل كما عرَّض الخليل بقوله:{إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، وقوله:{فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، وكما عرَّض الملكان
(2)
لداود بما ضرباه له من المثال الذي نسباه إلى أنفسهما، وكما عرَّض النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «نحن
(3)
من ماءٍ»
(4)
، وكما كان يُورِّي عن الغزوة بغيرها لمصلحة الإسلام والمسلمين، إذا لم تتضمن مفسدة في دين ولا دنيا، كما عرَّض صلى الله عليه وسلم بقوله:«إنّا حاملوك على ولدِ الناقة»
(5)
، وبقوله:«إن الجنة لا تدخلها العُجُز»
(6)
، وبقوله:«من يشتري منّي هذا العبدَ»
(7)
يريد عبد الله، وبقوله لتلك المرأة: «زوجُك الذي في
(1)
في حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري (3357) ومسلم (2371).
(2)
في النسختين: «الملكين» .
(3)
«نحن» ليست في ز.
(4)
تقدم.
(5)
تقدم.
(6)
رواه الترمذي في «الشمائل» (230) والبيهقي في «البعث» (346) من طريق مبارك بن فضالة عن الحسن البصري مرسلًا. ورواه الطبراني في «الأوسط» (5545) عن سعيد بن المسيب عن عائشة موصولًا. وانظر الكلام عليه في «الصحيحة» (2987).
(7)
تقدم.
عينيه بياضٌ»
(1)
، وإنما أراد به البياض الذي خلقه الله في عيون بني آدم= فهذه المعاريض ونحوها من أصدق الكلام، فأين في جواز هذه ما يدل على جواز الحيل المذكورة؟
وقال شيخنا
(2)
رضي الله عنه: والذي قِيستْ عليه الحيل الربوية وليست مثله نوعان:
أحدهما: المعاريض، وهي: أن يتكلم الرجل بكلام جائز يقصد به معنى صحيحًا، ويوهم غيره أنه يقصد به معنى آخر، ويكون سبب ذلك الوهم كون اللفظ مشتركًا بين حقيقتين لغويتين أو عرفيتين أو شرعيتين أو لغوية مع إحداهما أو عرفية مع إحداهما أو شرعية مع إحداهما، فيعني أحدَ معنييه ويوهم السامعَ أنه إنما عنى الآخر: إما لكونه لم يعرف إلا ذلك، وإما لكون دلالة الحال تقتضيه، وإما لقرينة حالية أو مقالية يضمُّها إلى اللفظ. أو يكون سبب التوهم كون اللفظ ظاهرًا في معنى فيعني به معنى يحتمله باطنًا: بأن ينوي مجاز اللفظ دون حقيقته، أو ينوي بالعام الخاصَّ أو بالمطلق [79/أ] المقيدَ. أو يكون سبب التوهم كون المخاطب إنما يفهم من اللفظ غير حقيقته لعرف خاص له أو غفلة منه أو جهلٍ أو غير ذلك من الأسباب، مع كون المتكلم إنما قصد حقيقته؛ فهذا كله إذا كان المقصود به رفع ضرر غير مستحق فهو جائز، كقول الخليل:«هذه أختي» ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:«نحن من ماءٍ» ، وقول الصديق
(1)
رواه الزبير بن بكّار في كتاب «الفكاهة والمزاح» عن زيد بن أسلم مرسلًا، كما في «تخريج الإحياء» (3/ 129). والمرأة يقال لها أم أيمن.
(2)
في «بيان الدليل» (ص 198 وما بعدها).
- رضي الله عنه: «هادٍ يهديني السبيلَ»
(1)
، ومنه قول عبد الله بن رواحة:
شهدتُ بأن وعد الله حقٌّ
…
الأبيات.
أوهم امرأتَه القرآن
(2)
. وقد يكون واجبًا إذا تضمَّن دفع
(3)
ضرر يجب دفعه ولا يندفع إلا بذلك.
وهذا الضرب وإن كان نوعَ حيلةٍ في الخطاب لكنه يفارق الحيل المحرَّمة من الوجه المحتال عليه والوجه المحتال به:
أما الأول: فلكونه دفعَ ضررٍ غير مستحق، فلو تضمَّن كتمان ما يجب إظهاره من شهادة أو إقرار أو علم أو نصيحة مسلم أو التعريف بصفة معقود عليه في بيع أو نكاح أو إجارة= فإنه غِشٌّ محرم بالنص.
قال مثنَّى الأنباري: قلت لأحمد بن حنبل: كيف الحديث الذي جاء في المعاريض؟ فقال: المعاريض لا تكون في الشراء والبيع، تكون في الرجل يُصلح بين الناس أو نحو هذا.
قال شيخنا رضي الله عنه
(4)
: والضابط أن كلَّ ما وجب بيانه فالتعريض فيه حرام؛ لأنه كتمان وتدليس، ويدخل في هذا الإقرار بالحق، والتعريض في الحلف عليه، والشهادة على العقود، ووصف المعقود عليه، والفتيا والحديث والقضاء. وكلّ ما حَرُم بيانه فالتعريض فيه جائز، بل واجب إذا
(1)
تقدم.
(2)
تقدم.
(3)
ز: «رفع» .
(4)
في «بيان الدليل» (ص 200). والكلام متصل بما قبله.
أمكن ووجب الخطاب، كالتعريض لسائل عن مال معصوم أو نفسه يريد أن يعتدي عليه. وإن كان بيانه جائزًا، أو كتمانه جائزًا؛ فإما أن تكون المصلحة في كتمانه أو في إظهاره أو كلاهما متضمن للمصلحة:
فإن كان الأول فالتعريض مستحبٌّ، كتورية الغازي عن الوجه الذي
(1)
يريد، وتورية الممتنع عن الخروج والاجتماع بمن يصدُّه عن طاعة أو مصلحة راجحة، كتورية أحمد عن المرُّوذي، وتورية الحالف لظالم له أو لمن استحلفه يمينًا لا تجب عليه، ونحو ذلك.
وإن كان الثاني فالتورية فيه مكروهة، والإظهار مستحب، وهذا في كل موضع يكون البيان فيه مستحبًّا.
وإن تساوى الأمران وكان كلٌّ منهما طريقًا إلى المقصود لكون ذلك المخاطبِ التعريضُ والتصريحُ بالنسبة إليه سواء= جاز الأمران، كما لو كان يعرف بعدة ألسُنٍ، وخطابه بكل لسان منها يحصل مقصوده، ومثل هذا ما لو كان له غرض مباح في التعريض ولا حذرَ عليه في التصريح، والمخاطب لا يفهم مقصوده، وفي هذا ثلاثة أقوال للفقهاء وهي في مذهب الإمام أحمد:
أحدها: له التعريض؛ إذ لا يتضمن كتمان حق ولا إضرارًا بغير مستحق.
والثاني: ليس له ذلك، فإنه إيهام للمخاطب من غير حاجة إليه، وذلك تغرير، وربما أوقع السامع في [79/ب] الخبر الكاذب، وقد يترتَّب عليه ضررٌ به.
والثالث: له التعريض في غير اليمين.
(1)
«الذي» ساقطة من ز.
وقال الفضل
(1)
بن زياد: سألت أحمد عن الرجل يعارض في كلامه يسألني عن الشيء أكره أن أُخبره به، قال: إذا لم يكن يمينًا فلا بأس، في المعاريض مندوحةٌ عن الكذب.
وهذا عند الحاجة إلى الجواب، فأما الابتداء فالمنع فيه
(2)
ظاهر، كما دلّ عليه
(3)
حديث أم كلثوم أنه لم يرخّص فيما يقول الناس إنه كذِبٌ إلا في ثلاث
(4)
، وكلها مما يحتاج إليه المتكلم. وبكلِّ حالٍ فغاية هذا القسم تجهيل السامع بأن يُوقِعه المتكلم في اعتقاد ما لم يُرِده بكلامه، وهذا التجهيل قد تكون مصلحته أرجح من مفسدته، وقد تكون مفسدته أرجح من مصلحته، وقد يتعارض الأمران، ولا ريب أن من كان علمه بالشيء يحمله على ما يكرهه الله ورسوله كان تجهيله به وكتمانه عنه أصلح له وللمتكلم، وكذلك إن كان في علمه مضرَّةٌ على القائل، أو تفوت عليه مصلحة هي أرجح من مصلحة البيان، فله أن يكتمه عن السامع؛ فإن أبى إلا استنطاقه فله أن يعرِّض له.
فالمقصود بالمعاريض فعلُ واجبٍ أو مستحبٍّ أو مباحٍ أباح الشارع السعي في حصوله، ونصبَ له سببًا يُفضِي إليه؛ فلا يقاس بهذا الحيل التي تتضمن سقوطَ ما أوجبه الشارع وتحليلَ ما حرَّمه، فأين أحد البابين من
(1)
في النسختين: «الفضيل» ، خطأ، والتصويب من «بيان الدليل» (ص 200) المصدر الذي نقل عنه المؤلف هذا المبحث. وانظر:«طبقات الحنابلة» (1/ 251).
(2)
«فيه» ليست في ز.
(3)
«عليه» ليست في ز.
(4)
تقدم.
الآخر؟ وهل هذا إلا من أفسد القياس؟ وهو كقياس الربا على البيع والميتة على الذكي
(1)
.
فصل
فهذا الفرق من جهة المحتال عليه، وأما الفرق من جهة المحتال به فإن المعرِّض إنما تكلَّم بحق، ونطقَ بصدق فيما بينه وبين الله تعالى، لا سيما إن لم ينوِ باللفظ خلاف ظاهره في نفسه، وإنما كان الظهورُ
(2)
من ضَعْفِ فهم السامع وقصورِه في فهم دلالة اللفظ، ومعاريض النبي صلى الله عليه وسلم ومُزاحه كانت من هذا النوع، كقوله:«نحنُ من ماءٍ» ، وقوله:«حاملوكَ على ولدِ الناقة» ، و «لا يدخل الجنةَ العُجُز» ، و «زوجُك الذي في عينيه بياضٌ»
(3)
، وأكثر معاريض السلف كانت من هذا. ومن هذا الباب التدليس في الإسناد، لكن هذا مكروه لتعلُّقه بالدين وكون البيان في العلم واجبًا، بخلاف ما قصد به دفع ظالم أو دفع ضرر عن المتكلم.
والمعاريض نوعان:
أحدهما: أن يستعمل اللفظ في حقيقته وما وُضِع له، فلا يخرج به عن ظاهره، ويقصد فردًا من أفراد حقيقته، فيتوهَّم السامع أنه قصد غيره: إما لقصور فهمه، وإما لظهور ذلك الفرد عنده أكثر من غيره، وإما لشاهد الحال عنده، وإما لكيفية المخبر وقتَ التكلُّم من ضحك أو غضب أو إشارة ونحو
(1)
كذا في النسختين. وفي المطبوع: «المذكى» .
(2)
كذا في النسختين و «بيان الدليل» ، وفي المطبوع:«عدم الظهور» ، وهو يقلب المعنى.
(3)
تقدم تخريج هذه الأحاديث قريبًا.
ذلك، وإذا تأملتَ المعاريض النبوية والسلفية وجدت عامتها من هذا النوع.
والثاني: أن يستعمل العام في الخاص والمطلق في المقيّد، وهو الذي يسمِّيه المتأخرون الحقيقة والمجاز، وليس يفهم أكثر من المطلق والمقيد؛ فإن لفظ الأسد والبحر والشمس عند الإطلاق له معنى، وعند التقييد له معنى يسمُّونه المجاز، ولم يفرِّقوا بين مقيّد ومقيّد ولا بين قيد وقيد. فإن قالوا:[80/أ]«كل مقيَّدٍ مجاز» لزمهم أن يكون كل كلام مركب مجازًا؛ فإن التركيب يقيده بقيود زائدة على اللفظ المطلق. وإن قالوا: «بعض القيود يجعله مجازًا دون بعض» سُئلوا عن الضابط ما هو، ولن يجدوا إليه سبيلًا.
وإن قالوا: «يعتبر اللفظ المفرد من حيث هو مفرد قبل التركيب، وهناك يُحكم عليه بالحقيقة والمجاز» .
قيل لهم: هذا أبعد وأشدُّ فسادًا؛ فإن اللفظ قبل العقد والتركيب بمنزلة الأصوات التي يَنْعِق بها ولا تفيد شيئًا، وإنما إفادتها بعد تركيبها، وأنتم قلتم: الحقيقة هي اللفظ المستعمل، وأكثركم يقول: استعمال اللفظ فيما وُضِع له أولًا، والمجاز بالعكس؛ فلا بدّ في الحقيقة والمجاز من استعمال اللفظ فيما وضع له
(1)
، وهو إنما يُستعمل بعد تركيبه، وحينئذٍ فتركيبه بعده بقيود يُفهم منها مراد المتكلم، فما الذي جعله مع بعض تلك القيود حقيقةً ومع بعضها مجازًا؟
وليس الغرض
(2)
إبطال هذا التقسيم الحادث المبتدع المتناقض، فإنه
باطل من أكثر من أربعين وجهًا
(1)
، وإنما الغرض التنبيه على نوعَي التعريض، وأنه تارةً يكون مع استعمال اللفظ في ظاهره، وتارةً يكون بإخراجه عن ظاهره، ولا يذكر المعرِّض قرينة تبيِّن مراده، ومن هذا النوع عامة التعريض في الأيمان والطلاق، كقوله:«كل امرأة له فهي طالق» وينوي في بلد كذا وكذا، أو ينوي فلانة. وقوله:«أنتِ طالق» وينوي من زوجٍ كان قبلَه ونحو ذلك؛ فهذا القسم شيء والذي قبله شيء، فأين هذا من قصد المحتال بلفظ العقد أو صورِته ما لم يجعله الشارع مقتضيًا له بوجهٍ بل جعله مقتضيًا لضدِّه؟
ولا يلزم من صلاحية اللفظ له إخبارًا صلاحيتُه له إنشاءً؛ فإنه لو قال: «تزوجتُ» في المعاريض وعنى نكاحًا فاسدًا كان صادقًا كما لو بيَّنه، ولو قال:«تزوجتُ» إنشاء وكان فاسدًا لم ينعقد، وكذلك في جميع الحيل؛ فإن الشارع لم يشرع القرض إلا لمن قصد أن يسترجع مثلَ قرضه، ولم يشرعه لمن قصد أن يأخذ أكثر منه لا بحيلة ولا بغيرها. وكذلك إنما شرع البيع لمن له غرضٌ في تمليك الثمن وتملُّك السلعة، ولم يشرعه قطُّ لمن قصد به ربا الفضل أو النَّساء ولا غرضَ له في الثمن ولا في السلعة، وإنما غرضهما الربا. وكذلك النكاح لم يشرعه إلا لراغب في المرأة، لم يشرعه لمحلِّل. وكذلك الخلع لم يشرعه إلا للمفتدية نفسَها من الزوج تتخلَّص منه من سوء العشرة، ولم يشرعه للتحيُّل على الحِنث قطُّ. وكذلك التمليك لم يشرعه الله
(1)
ذكرها المؤلف في «الصواعق المرسلة» ، ولم يصل إلينا هذا الجزء من أصله الذي فيه هذا المبحث، وانظر:«مختصر الصواعق» (2/ 700 وما بعدها)[ط. أضواء السلف] ففيه ذكر أكثر من خمسين وجهًا.
سبحانه إلا لمن قصد نفع الغير والإحسان إليه بتمليكه سواء كان محتاجًا أو غيرَ محتاج، ولم يشرعه لإسقاط فرض من زكاة أو حج أو غيرهما قطُّ. وكذلك المعاريض لم يشرعها إلا لمحتاج إليها أو لمن لا يُسقِط بها حقًّا ولا يضرُّ بها أحدًا، ولم يشرعها إذا تضمَّنت إسقاط حق أو إضرارًا لغير مستحق.
فثبت [80/ب] أن التعريض المباح ليس من المخادعة لله في شيء، وغايته أنه مخادعة لمخلوق أباح الشارع مخادعته لظلمه، ولا يلزم من جواز مخادعة الظالم المُبطِل جوازُ مخادعة المُحِقّ؛ فما كان من التعريض مخالفًا لظاهر اللفظ كان قبيحًا إلا عند الحاجة، وما لم يكن منها مخالفًا لظاهر اللفظ كان جائزًا إلا عند تضمُّن مفسدة.
والمعاريض كما تكون بالقول تكون بالفعل، وتكون بالقول والفعل معًا، مثال ذلك أن يُظهِر المحارب أن يريد وجهًا من الوجوه ويسافر إليه ليحسب العدوُّ أنه لا يريده، ثم يَكُرُّ عليه وهو آمنٌ من قصده، أو يستطرد المبارز بين يدي خصمه ليظنَّ هزيمته ثم يعطف عليه، وهذا من خَدَعاتِ الحرب.
فصل
فهذا أحد النوعين الذي قيست عليه
(1)
الحيل المحرَّمة.
والنوع الثاني
(2)
: الكيد الذي شرعه الله للمظلوم أن يكيد به ظالمه ويخدعه به، إما للتوصل إلى أخذ حقِّه منه، أو عقوبةً له، أو لكفِّ شره
(1)
د: «عليهما» .
(2)
سبق النوع الأول قبل ثمان صفحات (154).
وعدوانه عنه، كما روى الإمام أحمد في «مسنده»
(1)
: أن رجلًا شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من جاره أنه يؤذيه، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرح متاعه في الطريق، ففعل، فجعل كلّ من مرَّ عليه
(2)
يسأل عن شأن المتاع، فيخبر بأنّ جارَ صاحبه يؤذيه، فيسبُّه ويلعنه، فجاء إليه وقال: رُدَّ متاعك إلى مكانه، فوالله لا أُؤذيك بعد ذلك أبدًا.
فهذا من أحسن المعاريض الفعلية، وألطف الحيل التي يتوصَّل بها إلى دفع ظلم الظالم. ونحن لا ننكر هذا الجنس، وإنما الكلام في الحيل على استحلال محارم الله، وإسقاط فرائضه، وإبطال حقوق عباده؛ فهذا النوع هو الذي يفوت أفرادُ الأدلة على تحريمه الحصرَ.
فصل
وأما قولكم: «جعل العقود حيلًا على التوصُّل إلى ما لا يباح إلا بها
…
إلى آخره»، فهذا موضع الكلام في الحيل
(3)
وأقسامها
(4)
إلى أحكامها الخمسة، فنقول:
ليس كل ما يُسمَّى حيلةً
(5)
حرامًا، قال الله تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ
(1)
لم أجده في «المسند» . ورواه البخاري في «الأدب المفرد» (124) وأبو داود (5153) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (520) والحاكم (4/ 165)، وجوَّده ابن مفلح في «الآداب الشرعية» (1/ 16).
(2)
«عليه» ليست في ز.
(3)
«في الحيل» ليست في ز.
(4)
كذا في النسختين. وفي المطبوع: «وانقسامها» .
(5)
زيد في المطبوع بعدها: «يسمى» ، ولا حاجة إليها.
مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [النساء: 98]، أراد بالحيلة التحيُّل على التخلُّص من بين الكفار، وهذه حيلة محمودة يثاب عليها، وكذلك الحيلة على هزيمة الكفار، كما فعل نُعيم بن مسعود يوم الخندق
(1)
، أو على تخليص ماله منهم كما فعل الحجّاج بن عِلَاط بامرأته
(2)
، وكذلك الحيلة على قتل رأس من رؤوس أعداء الله كما فعل الذين قتلوا ابن أبي الحُقَيق اليهودي وكعب بن الأشرف وأبا رافع
(3)
وغيرهم؛ فكل هذه حيل محمودة محبوبة لله ومرضية له.
والحيلة: مشتقة من التحوُّل، وهي النوع والحالة كالجِلسة والقِعدة والرِّكبة، فإنها بالكسر للحالة وبالفتح للمرَّة، كما قيل: الفَعْلة للمرة، والفِعْلة للحالة، والمَفْعل للموضع، والمِفْعل للآلة. وهي من ذوات الواو، فإنها من التحوُّل من حال يحول، وإنما انقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، وهو قلب مَقِيسٌ مطّرد في كلامهم، نحو ميزان وميقات وميعاد؛ فإنها مفعال من الوزن والوقت والوعد. فالحيلة هي نوع [81/أ] مخصوص من التصرف والعمل
(1)
رواه البيهقي في «الدلائل» (3/ 445) من طريق ابن إسحاق عن رجل عن عبد الله بن كعب بن مالك، والرجل مبهم، ورواه ابن سعد (4/ 277) من طريق الواقدي، وهو متروك، وقال الألباني في «فقه السيرة» (ص 305):«هذه القصة بدون إسناد» .
(2)
تقدم.
(3)
أبو رافع هو ابن أبي الحُقَيق، وخبر قتله رواه البخاري (4039، 4040) عن البراء بن عازب. وخبر قتل كعب بن الأشرف أيضًا رواه البخاري (4037) عن جابر بن عبد الله.
الذي يتحوَّل به فاعله من حال إلى حال، ثم غلب عليها بالعرف استعمالها في سلوك الطرق الخفية التي يتوصَّل بها الرجل إلى حصول غرضه، بحيث لا يتفطَّن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة؛ فهذا أخص من موضوعها في أصل اللغة، وسواء كان المقصود أمرًا جائزًا أو محرمًا، وأخصُّ من هذا استعمالها في التوصل إلى الغرض الممنوع منه شرعًا أو عقلًا أو عادةً، وهذا هو الغالب عليها في عرف الناس؛ فإنهم يقولون: فلان من أرباب الحيل، ولا تعاملوه فإنه يتحيَّل، وفلان يعلِّم الناسَ الحيلَ، وهذا من استعمال المطلق في بعض أنواعه كالدابة والحيوان وغيرهما.
وإذا قُسِّمت باعتبارها لغة انقسمت إلى الأحكام الخمسة؛ فإن مباشرة الأسباب الواجبة
(1)
حيلة على حصول مسبباتها؛ فالأكل والشرب واللبس والسفر الواجب حيلة على المقصود منه، والعقود الشرعية واجبها ومستحبها ومباحها كلها حيلة على حصول المعقود عليه، والأسباب المحرَّمة كلها حيلة على حصول مقاصدها منها، وليس كلامنا في الحيلة بهذا الاعتبار العام الذي هو مورد التقسيم إلى مباح ومحظور؛ فالحيلة جنس تحته التوصُّل إلى فعل الواجب، وترك المحرم، وتخليص الحق، ونصر المظلوم، وقهر الظالم، وعقوبة المعتدي، وتحته التوصُّل إلى استحلال المحرَّم، وإبطال الحقوق، وإسقاط الواجبات. ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلُّوا محارمَ الله بأدنى الحيل»
(2)
غلب استعمال الحيل في عرف الفقهاء على النوع المذموم. وكما يذمُّ الناس
(1)
ز: «الواجب» .
(2)
تقدم.
أربابَ الحيل فهم يذمُّون أيضًا
(1)
العاجز الذي لا حيلةَ عنده لعجزه وجهله بطرق تحصيل مصالحه، فالأول ماكر مخادعٌ، والثاني عاجز مفرِّط، والممدوح غيرهما، وهو من له خبرة بطرق الخير والشر خفيِّها وظاهرِها، فيُحسِن التوصّلَ إلى مقاصده المحمودة التي يحبُّها الله ورسوله بأنواع الحيل، ويعرف طرق الشر الظاهرة والخفية التي يُتوصَّل بها إلى خداعه والمكر به فيحترز منها أو لا يفعلها ولا يدلُّ عليها.
وهذه كانت حال سادات الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم كانوا أبرَّ الناس قلوبًا، وأعلمَ الخلق بطرق الشر ووجوه الخداع، وأتقى لله من أن يرتكبوا منها شيئًا أو يدخلوه في الدين، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لست بخِبٍّ ولا يخدعني الخِبُّ
(2)
. وكان حذيفة أعلم الناس بالشر والفتن، وكان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكان هو يسأله عن الشر
(3)
.
والقلب السليم ليس هو الجاهل بالشرّ الذي لا يعرفه، بل الذي يعرفه
(1)
د: «أيضًا يذمون» .
(2)
لم أجده مسندًا عن عمر، وقد عزاه إليه ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (10/ 302) والمصنف في «الروح» (2/ 683). وهو مرويٌّ عن إياس بن معاوية، رواه ابن قتيبة في «عيون الأخبار» (1/ 394) ووكيع في «أخبار القضاة» (1/ 348) وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (10/ 19) والمزي في «تهذيب الكمال» (3/ 418)، ولفظ وكيع:«لست بخِبٍّ، والخِبُّ لا يخدعني، ولا يخدع ابنَ سيرين، ويخدع الحسن، ويخدع أبا معاوية بن قرة، ويخدع عمر بن عبد العزيز» . وانظر: «البيان والتبيين» (1/ 101) و «الحيوان» (2/ 279) و «العقد الفريد» (3/ 11) و «تاريخ الإسلام» للذهبي (8/ 42 (.
(3)
كما في الحديث الذي رواه البخاري (3606، 7084) ومسلم (1847) عن حذيفة.
ولا يريده، بل يريد الخير والبر. والنبي صلى الله عليه وسلم قد سمَّى الحرب خَدْعة
(1)
، ولا ريبَ في انقسام الخداع إلى ما يحبه الله ورسوله وإلى ما يبغضه وينهى عنه، وكذلك المكر ينقسم إلى قسمين: محمود ومذموم؛ فالحيلة والمكر والخديعة تنقسم إلى محمود ومذموم.
فالحيل المحرَّمة منها ما هو كفر، ومنها ما هو كبيرة، ومنها ما هو صغيرة. وغير [80/ب] المحرَّمة منها ما هو مكروه، ومنها ما هو جائز، ومنها ما هو مستحب، ومنها ما هو واجب:
فالحيلة بالردّة على فسخ النكاح كفر، ثم إنها لا تتأتَّى إلا على قول من يقول بتعجيل الفسخ بالردة، فأما من وقفه على انقضاء العدة فإنها لا يتمُّ لها غرضها حتى تنقضي عدتها؛ فإنها متى علم بردّتها قُتِلتْ، إلا على قول من لا يقتل المرتدة، بل يحبسها حتى تسلم أو تموت.
وكذلك التحيُّل بالردة على حرمان الوارث كفر، والإفتاء بها كفر، ولا تتمُّ إلا على قول من يرى أن
(2)
مال المرتدّ لبيت المال، فأما على القول الراجح أنه لورثته من المسلمين فلا تتم الحيلة، وهذا القول هو الصواب، فإن ارتداده أعظم من مرض الموت المَخُوف، وهو في هذه الحال قد تعلَّق حق الورثة بماله، فليس له أن يُسقِط هذا التعلق بتبرع، فهكذا المرتد بردته تعلَّق حق الورثة بماله إذ صار مستحقَّ القتل.
(1)
رواه البخاري (3030) ومسلم (1739) عن جابر رضي الله عنه. ورواه أيضًا البخاري (3029) ومسلم (1740) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
«أن» ليست في ز.