المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الثاني: أن تكون الطريق مشروعة، وما يفضي إليه مشروع - أعلام الموقعين عن رب العالمين - ط عطاءات العلم - جـ ٤

[ابن القيم]

الفصل: ‌ الثاني: أن تكون الطريق مشروعة، وما يفضي إليه مشروع

كانت ناشزًا؛ فلا نفقة لها ولا كسوة.

ومثل أن يقتل رجلٌ وليَّه، فيقيم شاهدَيْ زور ولم يشهدا القتل فيشهدا أنه قتله.

ومثل أن يموت موروثه فيقيم شاهدَيْ زور أنه مات وأنه وارثُه، وهما لا يعلمان ذلك.

ونظائره ممن له حقٌّ لا شاهدَ له به، فيقيم شاهدَ زورٍ يشهد له به؛ فهذا يأثم على الوسيلة دون المقصود. وفي مثل هذا جاء الحديث:«أدِّ الأمانةَ إلى مَن ائتمنَك، ولا تَخُنْ مَن خانَك»

(1)

.

فصل

القسم‌

‌ الثاني: أن تكون الطريق مشروعة، وما يُفضي إليه مشروع

، وهذه هي الأسباب التي نصبها الشارع مفضيةً إلى مسبباتها، كالبيع والإجارة والمساقاة والمزارعة والوكالة، بل الأسباب محلُّ حكمة

(2)

الله ورسوله، وهي في اقتضائها لمسبباتها شرعًا على وِزانِ الأسباب الحسية في اقتضائها لمسبباتها قدرًا؛ فهذا شرع الرب تعالى وذلك قَدَرُه، وهما خَلْقه وأمره، والله

(1)

رواه أبو داود (3535) والترمذي (1264) من حديث أبي هريرة، وقال الترمذي: حسن غريب. وضعَّفه الشافعي وأحمد وأبو حاتم وابن حزم والبيهقي وابن الجوزي. وله شواهد لا تخلوا من مقال. انظر: «البدر المنير» (7/ 297 - 301) و «التلخيص الحبير» (3/ 97). وحسّنه الذهبي في «تلخيص العلل» (197) والمؤلف في «إغاثة اللهفان» (2/ 101) والسخاوي في «المقاصد الحسنه» (48). وانظر: «السلسلة الصحيحة» (423).

(2)

ك: «حكم» .

ص: 301

سبحانه له الخلق والأمر، ولا تبديلَ لخلق الله، ولا تغييرَ لحكمه. فكما لا يخالف سبحانه بالأسباب القدرية أحكامَها بل يُجرِيها على سببها وما خلقت له؛ فهكذا الأسباب الشرعية لا يُخرِجها عن سببها وما شُرِعت له، بل هذه سنته أمرًا وشرعًا، وتلك سنته قضاء وقدرًا، وسنته الأمرية قد تُبدَّل وتُغيَّر كما يُعصَى

(1)

أمرُه ويُخالَف، وأما سنته القدرية فلن تجد لسنة الله تبديلًا ولن تجد لسنة الله تحويلًا، وكما لا يُعصَى أمره الكوني القدري.

ويدخل في هذا القسم التحيُّلُ على جلب المنافع وعلى دفع المضار، وقد ألهم الله سبحانه ذلك لكل حيوان؛ فلأنواع الحيوانات من أنواع الحيل والمكر ما لا يهتدي إليه بنو آدم.

وليس كلامنا ولا كلام السلف في ذم الحيل متناولًا لهذا القسم، بل العاجز من عجَزَ عنه، والكيِّس من كان به أفطَنَ وعليه أقدَرَ، ولا سيّما في الحرب فإنها خدعة. والعجزُ كلُّ العجز ترك هذه الحيلة. والإنسان مندوب إلى الاستعاذة [111/ب] بالله من العجز والكسل؛ فالعجز عدم القدرة على الحيلة النافعة، والكسل عدم الإرادة لفعلها؛ فالعاجز لا يستطيع الحيلة، والكسلان لا يريدها. ومن لم يحتَلْ وقد أمكنتْه هذه الحيلةُ أضاع فرصتَه وفرَّط في مصالحه، كما قال

(2)

:

إذا المرءُ لم يَحْتَلْ وقد جَدَّ جِدُّه

أضاعَ وقاسَى أمرَه وهْوَ مُدْبِرُ

(1)

ك: «يقضى» ، تصحيف هنا وفيما يأتي.

(2)

قاله الشاعر الجاهلي تأبّط شرًّا في قصيدة له، كما في «حماسة أبي تمام» (1/ 71) و «الاختيارين» (ص 295) و «الأغاني» (21/ 140) وغيرها.

ص: 302

وفي هذا قال بعض السلف

(1)

: الأمر أمران: أمر فيه حيلة فلا تَعجِزْ عنه، وأمر لا حيلة فيه فلا تَجْزَعْ منه.

فصل

القسم الثالث: أن يحتال على التوصُّل إلى الحق أو على دفع الظلم بطريق مباحة لم تُوضع مُوصِلةً إلى ذلك، بل وُضِعت لغيره، فيتخذها هو طريقًا إلى هذا المقصود الصحيح، أو تكون قد وُضِعت له لكن تكون خفيةً لا يُفطَن لها.

والفرق بين هذا القسم والذي قبله أن الطريق في الذي قبله نُصِبْت مُفضِيةً إلى مقصودها ظاهرًا، فسالكها سالك للطريق المعهود. والطريق في هذا القسم نُصِبتْ مُفضِيةً إلى غيره، فيتوصل بها إلى ما لم تُوضَع له؛ فهي في الفعال كالتعريض الجائز في المقال، أو تكون مفضية إليه لكن بخفاء، ونذكر لذلك أمثلةً يُنتفع بها في هذا الباب

(2)

.

المثال الأول: إذا استأجر منه دارًا مدةَ سنين بأجرة معلومة، فخاف أن يغدر به المُكرِي في آخر المدة ويتسبب إلى فسخ الإجارة: بأن يُظهِر أنه لم تكن له ولايةُ الإيجار

(3)

، أو أن المُؤجَر مِلكٌ لابنه أو امرأته، أو أنه كان مُؤجَرًا قبل إيجاره، ويُبيِّن أن المقبوض أجرة المثل لما استوفاه من المدة

(1)

ذكره شيخ الإسلام بلا نسبة في «مجموع الفتاوى» (8/ 320، 10/ 507) و «جامع الرسائل» (2/ 136)، ونسبه في «مجموع الفتاوى» (16/ 39) إلى ابن المقفع أو غيره.

(2)

ذكر المؤلف أكثر هذه الأمثلة في «إغاثة اللهفان» (2/ 667 - 761).

(3)

ك: «الإجار» .

ص: 303

وينتزع المؤجَر منه؛ فالحيلة في التخلُّص

(1)

من هذه الحيلة أن يُضمِّنه

(2)

المستأجر دركَ العين المؤجَرة أو لغيره، فإذا استحقت أو ظهرت الإجارة فاسدةً رجع عليه بما قبضه منه، أو يأخذ إقرار من يخاف منه بأن لا حقَّ له في العين وأن كل دعوى يدّعيها بسببها فهي باطلة، أو يستأجرها منه بمائة دينار مثلًا ثم يصارفه كل دينار بعشرة دراهم، فإذا طالبه بأجرة المثل طالبه هو بالدنانير التي وقع عليها العقد. فإن

(3)

لم يخَفْ من ذلك، ولكن خاف

(4)

أن يغدر به في آخر المدة، فليُقسِط مبلغَ الأجرة على عدد السنين، ويجعل معظمها للسنة التي يخشى غدره فيها.

وكذلك إذا خاف المُؤجِر أن يغدر المستأجر ويرحل في آخر المدة، فليجعل معظم الأجرة على المدة التي يأمنُ فيها رحيلَه، والقدر اليسير منها لآخر المدة.

المثال الثاني: أن يخاف ربُّ الدار غيبة المستأجر، ويحتاج إلى داره فلا يُسلمها أهله إليه، فالحيلة في التخلُّص من ذلك أن

(5)

يُؤجِرها ربها من امرأة المستأجر، ويضمن الزوج أن تردَّ إليه المرأة الدار وتُفرغها متى انقضت المدة، أو تضمن المرأة ذلك إذا استأجر الزوج؛ فمتى استأجر أحدهما وضمِنَ الآخر الردَّ لم يتمكَّن أحدهما من الامتناع.

(1)

ك: «التخليص» .

(2)

ك: «يضمه» .

(3)

ز: «فإنه» .

(4)

ز: «يخاف» .

(5)

ك: «أنه» .

ص: 304

وكذلك إن مات المستأجر فجحد ورثته الإجارة، وادَّعَوا أن الدار لهم، نفعَ ربَّ الدار كفالةُ الورثة وضمانُهم ردَّ الدارِ إلى المُؤجِر. فإن خاف المُؤجِر [112/أ] إفلاس المستأجر وعدم تمكُّنه قبضَ الأجرة؛ فالحيلة أن يأخذ منه كفيلًا بأجرة ما سكن أبدًا، ويسمي أجرة كل شهر للضمين، ويشهد عليه بضمانه.

المثال الثالث: أن يأذن رب الدار للمستأجر أن يكون في الدار ما يحتاج إليه أو يعلف الدابة بقدر حاجتها، وخاف أن لا يحتسب له ذلك من الأجرة؛ فالحيلة في اعتداده به عليه

(1)

أن يقدِّر ما يحتاج إليه الدار أو الدابة، ويسمِّي له قدرًا معلومًا، ويحسبه من الأجرة، ويُشهِد على المُؤجِر أنه قد وكَّله في صرف ذلك القدر فيما تحتاج إليه الدار أو الدابة.

فإن قيل: فهل تجوِّزون لمن له دَين على رجل أن يوكّله في المضاربة به أو الصدقة به أو إبراء نفسه منه أو أن

(2)

يشتري له شيئًا، ويبرأ المَدِين إذا فعل ذلك؟

قيل: هذا مما اختُلِف فيه، وفي صورة المضاربة بالدين قولان في مذهب الإمام أحمد:

أحدهما: أنه لا يجوز ذلك، وهو المشهور؛ لأنه يتضمن قبض الإنسان من نفسه وإبراءه لنفسه من دَين الغريم بفعل نفسه؛ لأنه متى

(3)

أخرج الدين

(1)

ك: «باعتداده عليه» .

(2)

ك: «وأن» .

(3)

ك: «من» ، تحريف.

ص: 305

وضارب به فقد صار المال أمانةً وبرئ منه؛ وكذلك إذا اشترى به شيئًا أو تصدَّق به.

والقول الثاني: أنه يجوز، وهو الراجح في الدليل، وليس في الأدلة الشرعية ما يمنع من جواز ذلك، ولا يقتضي تجويزه مخالفةَ قاعدةٍ من قواعد الشرع، ولا وقوعًا في محظور من ربا ولا قِمار ولا بيعِ غرر، ولا مفسدةَ في ذلك بوجهٍ ما؛ فلا يليق بمحاسن الشريعة المنعُ منه، وتجويزه من محاسنها ومقتضاها.

وقولهم: «إنه يتضمن إبراء الإنسان لنفسه بفعل نفسه» كلام فيه إجمال يوهم أنه هو المستقلُّ بإبراء نفسه، وبالفعل الذي به يبرأ، وهذا إيهام؛ فإنه إنما برِئَ بما أذن له ربُّ الدين من مباشرة الفعل الذي تضمن

(1)

براءته من الدين، فأيُّ محذورٍ في أن يفعل فعلًا أذن له فيه رب الدين، ومستحقه يتضمن براءته؟ وكيف يُنكَر أن يقع في الأحكام الضمنية التبعية

(2)

ما لا يقع مثله في المتبوعات

(3)

، ونظائر ذلك أكثر من أن تُذكر؟ حتى لو وكّله أو أذن له أن يُبرِئ نفسه من الدين جاز وملك ذلك، كما لو وكّل المرأةَ أن تطلِّق نفسها؛ فأيُّ فرق بين أن يقول طلِّقي نفسك إن شئت، أو يقول لغريمه: أبرِئْ نفسَك إن شئت؟ وقد قالوا: لو أذن لعبده في التكفير بالمال ملك ذلك على الصحيح، فلو أذن له في الإعتاق ملَكَه، فلو أعتق نفسَه صح على أحد القولين، والقول الآخر لا يصح لمانع آخر، وهو أن الولاء للمُعتِق،

(1)

ك: «يتضمن» .

(2)

في النسختين: «النفعية» . والمثبت من النسخ المطبوعة.

(3)

ز: «المبيوعات» ، تصحيف.

ص: 306

والعبد ليس من أهل الولاء، نعم المحذورُ أن يملك إبراء نفسه من الدين بغير رضا ربه وبغير إذنه؛ فهذا هو المخالف لقواعد الشرع.

فإن قيل: فالدين لا يتعين، بل هو مطلق كلي ثابت في الذمة، فإذا أخرج مالًا فاشترى به أو تصدَّق به

(1)

لم يتعين أن يكون هو الدين، ورب الدين لم يعينه، فهو باقٍ على إطلاقه.

قيل: هو في الذمة مطلق، وكل فردٍ من أفراده طابقَه صح أن يعيَّن عنه ويُجزِئ، وهذا كإيجاب الرب سبحانه وتعالى الرقبةَ المطلقة في الكفارة فإنها غير [112/ب] معينة، ولكن أيّ رقبة عيَّنها المكلَّف وكانت مطابقة لذلك المطلق تأدَّى بها الواجب. ونظيره هاهنا أن أي فردٍ عيَّنه وكان مطابقًا لما في الذمة تعيَّن وتأدَّى به الواجب. وهذا كما يتعين عند الأداء إلى ربه، وكما يتعين عند التوكيل في قبضه؛ فهكذا يتعين عند توكيله

(2)

لمن هو في ذمته أن يعيِّنه ثم يضارِب

(3)

به أو يتصدق أو يشتري به شيئًا. وهذا محض الفقه وموجب القياس، وإلا فما الفرق بين تعيينه إذا وكَّل الغير

(4)

في قبضه والشِّرَى

(5)

أو التصدُّق به وبين تعيينه إذا وكَّل من هو في ذمته أن يعينه ويضارب أو يتصدق به؟ وهل تحتَ

(6)

التفريقِ فقهٌ أو مصلحة لهما أو

(1)

«به» ليست في ز.

(2)

في النسختين: «توكله» .

(3)

ك: «ضارب» .

(4)

ك: «العين» .

(5)

كذا في النسختين مقصورًا، ولا غبار عليه.

(6)

في المطبوع: «يوجب» ، تحريف.

ص: 307

لأحدهما أو حكمةٌ للشارع فتجبُ مراعاتها؟

فإن قيل: فجوِّزوا على هذا أن يقول له: اجعل الدين الذي عليك رأسَ مال السلم

(1)

في كذا وكذا.

قيل: شرط صحة النقض أمران؛ أحدهما: أن تكون الصورة التي نُقِض بها مساويةً لسائر الصور في المعنى الموجب للحكم. الثاني: أن يكون الحكم فيها معلومًا بنص أو إجماع. وكلا الأمرين منتفٍ هاهنا، فلا إجماع معلوم في المسألة وإن كان قد حُكِي، وليست مما نحن فيه؛ فإن المانع من جوازها رأى أنها من باب بيع الدين بالدين، بخلاف ما نحن فيه، والمجوِّز لها يقول: ليس عن الشارع نصٌّ عام في المنع من بيع الدين بالدين، وغاية ما ورد فيه حديث وفيه ما فيه: أنه «نهى عن بيع الكالئ بالكالئ»

(2)

، والكالئ: هو المؤخَّر، وهذا كما إذا كان رأس مال السلم دينًا في ذمة المسلم، فهذا هو الممنوع منه بالاتفاق؛ لأنه يتضمن شَغْل الذمتين بغير مصلحة لهما، وأما إذا كان الدين في ذمة المسلم إليه فاشترى به شيئًا في ذمته فقد سقط الدين من ذمته وخلفه دين آخر واجب، فهذا من باب بيع الساقط بالواجب، فيجوز كما يجوز بيع الساقط بالساقط في باب المقاصَّة. فإن بنى المستأجر أو أنفق على

(1)

ك: «سلم» .

(2)

رواه عبد الرزاق (14440) وابن أبي شيبة (22566) والدارقطني (3060، 3061) والحاكم (2/ 65) من حديث ابن عمر، وضعّفه البيهقي (5/ 290) والنووي في «المجموع» (9/ 399) وابن تيمية في «تفسير آيات أشكلت» (2/ 637) وابن عبد الهادي في «رسالة لطيفة» (22) والذهبي في «تلخيص العلل» (200) وابن حجر في «بلوغ المرام» (247) وغيرهم. وقال الدارقطني عقيب (3061): قال اللغويون: هو النسيئة بالنسيئة.

ص: 308

الدابة، وقال: أنفقتُ كذا وكذا، وأنكر المُؤجِر، فالقول قول المؤجر؛ لأن المستأجر يدَّعي براءة نفسه من الحق الثابت عليه، والقول قول المنكر.

فإن قيل: فهل ينفعه إشهاد ربّ الدار

(1)

أو الدابة على نفسه أنه مصدَّق فيما يدعي إنفاقه؟

قيل: لا ينفعه ذلك، وليس بشيء، ولا يُصدَّق أنه أنفق شيئًا إلا ببينة؛ لأن مقتضى العقد أن لا يُقبل قوله في الإنفاق، ولكن ينتفع بعد الإنفاق بإشهاد المُؤجِر أنه صادق فيما يدَّعي أنه أنفقه. والفرق بين الموضعين أنه بعد الإنفاق مدّعٍ، فإذا صدَّقه المدَّعى عليه نفعه ذلك، وقبل الإنفاق ليس مدَّعيًا، فلا ينفعه إشهاد المُؤْجِر بتصديقه فيما سوف يدّعيه في المستقبل؛ فهذا شيء وذاك شيء آخر.

فإن قيل: فما الحيلة على أن يصدَّق المستأجر فيما يدَّعيه من النفقة؟

قيل: الحيلة أن يُسلِف المستأجر ربَّ الدار أو الحيوان من الأجرة ما يعلم أنه بقدر حاجته، ويُشهِد عليه بقبضه، ثم يدفع رب الدار إلى المستأجر [113/أ] ذلك الذي قبضه منه، ويوكِّله في الإنفاق على داره ودابته، فيصير أمينَه فيصدَّق على ما يدَّعيه إذا كان ذلك نفقة مثله عرفًا، فإن خرج عن العادة لم يُصدَّق به، وهذه حيلة لا يدفع بها حقًّا، ولا يتوصل بها إلى المحرَّم، ولا يُقِيم بها باطلًا.

المثال الثالث

(2)

: إذا خاف ربُ الدار أو الدابة أن يُعوِّقها عليه المستأجر

(1)

ك: «المال» .

(2)

كذا في النسختين، وقد مضى الثالث، وغُيِّر في المطبوعات بالرابع، وهكذا بزيادة عدد في الأمثلة القادمة. وقد أبقيناه كما في النسختين دون تغيير، ويبدو أنه من المؤلف.

ص: 309

بعد المدة، فالحيلة في أمنه من ذلك أن يقول: متى حبستَها بعد انقضاء المدة فأُجرتها كلَّ يومٍ كذا وكذا، فإنه يخاف من حبسها أن يلزمه بذلك.

المثال الرابع: لا يجوز استئجار الشمع ليُشعِله، لذهاب عين المستأجر، والحيلة في تجويز هذا العقد أن يبيعه من الشمعة أَواقيَّ معلومةً، ثم يُؤجِره إياها، فإن كان الذي أشعل منها ذلك القدر، وإلا احتسب له بما أذهبه منها. وأحسنُ من هذه الحيلة أن يقول: بعتك من هذه الشمعة كلَّ أوقيةٍ بدرهم، قلَّ المأخوذ منها أو كثر. وهذا جائز على أحد القولين في مذهب الإمام أحمد، اختاره شيخنا، وهو الصواب المقطوع به، وهو مخرَّجٌ على نص الإمام أحمد في جواز إجارة الدار كل شهر بدرهم، وقد آجَر عليٌّ رضي الله عنه نفسَه كلّ دلوٍ بتمرة

(1)

. ولا محذورَ في هذا أصلًا، ولا يُفضي إلى تنازع ولا تشاحنٍ، بل عمل الناس في أكثر بياعاتهم عليه، ولا يضرُّ جهالة كمية المعقود عليه عند البيع؛ لأن الجهالة المانعة من صحة العقد هي التي تؤدِّي إلى القِمار والغرر، ولا يدري العاقد على أي شيء يدخل، وهذه لا تؤدِّي إلى شيء من ذلك، بل إن أراد قليلًا أخذ والبائع راضٍ، وإن أراد كثيرًا أخذ والبائع راضٍ، والشريعة لا تحرِّم مثل هذا ولا تمنع منه، بل هي أسمحُ من ذلك وأحكمُ.

(1)

رواه أحمد (687) والترمذي (2473) وابن ماجه (2446، 2447) من طرق عن علي، وفي كلها ضعف، وقد ضعَّف الحديث وبين علل الطرق الألباني في «الإرواء» (313).

ص: 310

فإن قيل: لكن في العقد على هذا الوجه محذوران؛ أحدهما: تضمُّنه للجمع بين البيع والإجارة. الثاني: أن مورد عقد الإجارة يذهب عينه أو بعضه بالإشعال.

قيل: لا محذورَ في الجمع بين عقدين كل منهما جائز بمفرده، كما لو باعه سلعةً وآجرَه داره شهرًا بمائة درهم. وأما ذهاب المستأجر

(1)

بالانتفاع فإنما

(2)

لم يجز؛ لأنه لم يتعوّض

(3)

عنه المُؤجِر، وعقد الإجارة يقتضي ردَّ العين بعد الانتفاع، وأما هذا العقد فهو عقد بيع يقتضي ضمانَ المُتلَف بثمنه الذي قدّر له وأجرة انتفاعه بالعين قبل الإتلاف، فالأجرة

(4)

في مقابلة انتفاعه بها مدة بقائها، والثمن في مقابلة ما أذهب منها. فدَعُونا من تقليد آراء الرجال، ما الذي حرّم هذا؟ وأين في كتاب الله وسنة رسوله أو قول الصحابة أو القياس الصحيح الذي يكون فيه الفرع

(5)

مساويًا للأصل ويكون حكم الأصل ثابتًا بالكتاب أو السنة أو الإجماع؟ وليس كلامنا في هذا الكتاب مع المقلّد المتعصّب المقرّ على نفسه بما شهد عليه به جميع أهل العلم أنه ليس من جملتهم، فذاك وما اختار لنفسه، وبالله التوفيق.

المثال الخامس: أن تشترط المرأة دارها أو بلدها أو أن لا يتزوَّج عليها، ولا يكون هناك [113/ب] حاكم يصحِّح هذا الشرط، أو تخاف أن يرفعها

(1)

ك: «ذهاب اجزاء المستأجر» .

(2)

ك: «قايمًا» ، تصحيف.

(3)

ك: «لم يتعرض» .

(4)

في النسختين: «بالأجرة» . والمثبت من المطبوعات.

(5)

ك: «الفرع فيه» .

ص: 311

إلى حاكم يُبطِله، فالحيلة في

(1)

تصحيحه أن تُلزِمه عند العقد بأن يقول: «إن تزوجتُ عليكِ امرأة فهي طالق» . فهذا الشرط يصح وإن قلنا: «لا يصح تعليق الطلاق بالنكاح» ، نص عليه أحمد؛ لأن هذا الشرط لما وجب الوفاء به من منع التزويج بحيث لو تزوَّج فلها الخيار بين المُقام معه ومفارقته جاز اشتراط طلاق من يتزوَّجها عليها

(2)

، كما جاز اشتراط عدم نكاحها.

فإن لم تتمَّ لها هذه الحيلة فلتأخذ شرطه أنه إن تزوَّج عليها فأمرُها بيدها، أو أمرُ الضرَّة بيدها، ويصح تعليق ذلك

(3)

بالشرط؛ لأنه توكيل على الصحيح، ويصح تعليق الوكالة على الشرط على الصحيح من قولَي العلماء، وهو قول الجمهور ومالك وأبي حنيفة وأحمد رضي الله عنهم، كما يصح تعليق الولاية على الشرط بالسنة الصحيحة الصريحة.

ولو قيل: «لا يصح تعليق الوكالة بالشرط» لصحَّ تعليق هذا التوكيل الخاص؛ لأنه يتضمن الإسقاط، فهو كتعليق الطلاق والعتق بالشرط، ولا ينتقض هذا بالبراءة فإنه يصح تعليقها بالشرط، وقد فعله الإمام أحمد، وأصوله تقتضي صحته، وليس عنه نص بالمنع. ولو سُلِّم أنه تمليك لم يمنع تعليقه بالشرط كما تعلّق الوصية وأولى؛ فإن الوصية تمليك مال وهذا ليس كذلك.

فإن لم تتمَّ لها هذه الحيلة فلتتزوَّجْه على مهر مسمًّى على أنه إن أخرجها من دارها فلها مهر مثلها وهو أضعاف ذلك المسمَّى، ويُقرّ الزوج

(1)

«في» ليست في ك.

(2)

«عليها» ليست في ز.

(3)

في النسختين: «بذلك» . والمثبت من النسخ المطبوعة.

ص: 312

بأنه مهر مثلها. وهذا الشرط صحيح؛ لأنها لم ترضَ بالمسمَّى إلا بناء على قرارها في دارها، فإذا لم يسلّم لها ذلك وقد شرطت في مقابلته زيادةً جاز، وتكون تلك الزيادة في مقابلة ما فاتها من الغرض

(1)

الذي إنما أرخصت المهر ليسلّم لها، فإذا لم يسلِّم انتقلت إلى المهر الزائد.

وقد صرَّح أبو حنيفة بجواز مثل ذلك مع قولهم

(2)

بأنه لا يصح اشتراط دارها ولا أن يتزوج عليها. وقد أغنى الله سبحانه عن هذه الحيلة بوجوب الوفاء بهذا الشرط الذي هو أحقُّ الشروط أن يُوفَى به وهو مقتضى الشرع والعقد

(3)

والقياس الصحيح، فإن المرأة لم ترضَ ببذل بُضْعها للزوج إلا على هذا الشرط، ولو لم يجب الوفاء به لم يكن العقد عن تراضٍ، وكان إلزامًا لها بما لم تلتزمه

(4)

وبما لم يُلزِمها الله ورسوله به، فلا نص ولا قياس، والله الموفّق.

المثال السادس: إذا خاصمته امرأته وقالت: قلْ «كل جاريةٍ أشتريها فهي حرة، وكل امرأةٍ أتزوجها فهي طالق» ، فالحيلة في خلاصه أن يقول ذلك ويعني بالجارية السفينة، كقوله

(5)

تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة: 11]، ويمسك بيده حصاة أو خرقةً ويقول:«فهي طالق» فيردُّ الكنايةَ إليها.

(1)

ك: «العوض» .

(2)

كذا في النسختين بضمير الجمع.

(3)

كذا في النسختين: «والعقد» ، وهو صواب، وفي النسخ المطبوعة:«والعقل» .

(4)

ز: «تلزمه» .

(5)

ز: «لقوله» .

ص: 313

فإن تفقَّهت عليه الزوجة وقالت: قل

(1)

: «كل رقيقة أو أمة» فليقلْ ذلك وليعْنِ: فهي حرَّة الخصالِ غير فاجرة، فإنه لو قال ذلك لم تعتق، كما لو قال له رجل:«غلامك فاجر زانٍ» ، فقال: ما أعرفه إلا حرًّا عفيفًا، ولم يُرِد العتق= لم يعتق.

وإن تفقّهت عليه وقالت: قل: «فهي [114/أ] عتيقة» فليقل ذلك ولينْوِ ضدَّ الجديدة، أي عتيقة في الرقّ.

فإن تفقّهت وقالت: قل: «فهي معتوقة» أو

(2)

«قد أعتقتُها إن ملكتُها» فليردَّ الكناية

(3)

إلى حصاةٍ بيده أو خرقة، فإن لم تَدَعْه أن يمسك شيئًا فليردَّها إلى نفسه، ويعني أن قد أعتقتُها من النار بالإسلام، أو فهي حرة ليست رقيقة لأحد، ويجعل الكلام جملتين.

فإن حَصَرتْه وقالت: قل: «فالجارية التي أشتريها

(4)

معتوقة» فليقيِّد ذلك بزمن معين، أو مكان معين في نيته، ولا يحنَث بغيره.

فإن حَصَرتْه وقالت: «من غير تورية ولا كناية ولا نيةٍ تخالف قولي» ، فهذا آخر الشدّ، فلا يمنعه ذلك من التورية والكناية. وإن قال بلسانه: «لا أورِّي

(5)

ولا أَكْني» والتورية والكناية في قلبه، كما لو قال:«لا أستثني» بلسانه ومِن نيته الاستثناء، ثم استثنى= فإنه ينفعه، حتى لو لم ينوِ الاستثناء ثم

(1)

في النسختين: «بل» . والمثبت من المطبوعات.

(2)

ك: «و» .

(3)

ك: «الكتابة» ، تصحيف.

(4)

ك: «اشتريتها» .

(5)

ك: «لا أروي» .

ص: 314

عزم عليه واستثنى نفَعَه ذلك بالسنة الصحيحة الصريحة التي لا معارضَ لها بوجهٍ في غير حديث، كقول الملَك لسليمان:«قل إن شاء الله»

(1)

، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إلّا الإذْخِر» بعد أن ذكَّره به العباس

(2)

، وقوله:«إن شاء الله» بعد أن قال: «لأغزونَّ قريشًا» ، ثلاث مرات، ثم قال بعد الثالثة وسكوته:«إن شاء الله»

(3)

.

والقرآن صريح في نفع الاستثناء إذا نسيه ولم ينْوِه في أول كلامه ولا أثنائه في قوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 23 - 24]، وهذا إما أن يختصّ بالاستثناء إذا نسيه كما فسَّره به جمهور المفسرين، أو يعمّه ويعمّ غيرَه وهو الصواب؛ فأما أن يُخرج منه الاستثناء الذي سِيق

(4)

الكلام لأجله ويُردّ إلى غيره فلا يجوز، ولأن الكلام الواحد لا يعتبر في صحته نية كل جملة من جمله وبعضٍ من أبعاضه؛ فالنص والقياس يقتضي نفعَ الاستثناء، وإن خطر له بعد انقضاء الكلام، وهذا هو الصواب المقطوع به.

(1)

رواه البخاري (5242، 6720) ومسلم (1654) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري (1349) ومسلم (1353) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(3)

رواه أبو يعلى (2674) وابن حبان (4343) والطحاوي في «مشكل الآثار» (5/ 186) من طريق سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس موصولًا، وأخرجه أبو داود (3286) وعبد الرزاق (11306، 16123) والبيهقي (10/ 48) عن عكرمة مرسلًا، ورجح الإرسال أبو حاتم في «العلل» (1/ 440) وابن عدي في «الكامل» (3/ 179) وابن حجر في «الدراية» (2/ 93).

(4)

ك: «يسبق» .

ص: 315