الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يعني فيما بينه وبين الله. وهذه الطريقة أفقهُ وأطردُ على أصول مذهبه، والله أعلم.
فصل
وأما مذهب مالك في هذا الفصل فالمشهور فيه التفريق بين النسيان والجهل والخطأ وبين الإكراه والعجز، ونحن نذكر كلام أصحابه في ذلك.
قالوا
(1)
: من حلف أن لا يفعل حنِثَ بحصول الفعل، عمدًا أو سهوًا أو خطأً، واختار أبو القاسم السُّيُوري ومن تبعه من محققي الأشياخ أنه لا يحنث إذا نسي اليمين، وهذا اختيار القاضي أبي بكر ابن العربي.
قالوا: ولو أكره لم يحنث.
فصل
في
تعذُّر فعل المحلوف عليه وعجز الحالف عنه
.
قال أصحاب مالك
(2)
: من حلف على شيء ليفعلنَّه، فحِيلَ بينه وبين فعله، فإن أجَّل أجلًا فامتنع الفعل لعدم المحلّ وذهابه، كموت العبد المحلوف على ضربه، أو الحمامة المحلوف على ذبحها= فلا حنثَ عليه بلا خلاف منصوص. وإن امتنع الفعل لسبب مَنْعِ الشرعِ، كمن حلفَ ليطأنَّ زوجته أو أمتَه فوجدها حائضًا، فقيل: لا شيء عليه.
قلت: وهذا هو الصواب، لأنه إنما حلف على وطءٍ يملكه، ولم يقصد
الوطء الذي لم يملِّكه الشارع إياه، فإن قصده حنث. وهكذا في صورة العجز الصوابُ أنه لا يحنث؛ فإنه
(1)
إنما حلف على شيء يدخل تحت قدرته، ولم يلتزم فعْلَ ما لا يقدر عليه، فلا تدخل حالة العجز تحت يمينه، وهذا بعينه قد قالوه في المُكْرَه والناسي والمخطئ، والتفريق تناقض ظاهر؛ فالذي يليق بقواعد أحمد وأصوله أنه لا يحنث في صورة العجز، سواء كان العجز لمنع شرعي أو منع كوني قدري، كما هو قوله فيما لو كان العجز لإكراهِ مكرِهٍ، ونصه على خلاف ذلك لا يمنع أن يكون عنده رواية مخرَّجة من أصوله المذكورة، وهذا من أظهر التخريج.
فلو وطئ مع الحيض وعصى فهل يتخلَّص من الحنث؟ فيه وجهان في مذهب أحمد ومالك، أحدهما: يتخلَّص وإن أثِمَ بالوطء، كما لو حلف بالطلاق ليشربنَّ هذا الخمر فشربه فإنه لا تطلَّق عليه زوجته. والثاني: لا يبرُّ؛ لأنه إنما حلف على فعل وطء مباح، فلا تتناول يمينُه المحرَّم. فيقال: إذا كان إنما حلف على وطء مأذون فيه شرعًا لم تتناول يمينه المحرَّم فلا يحنث بتركه بعين ما ذكرتم من الدليل، وهذا ظاهر. وحرفُ المسألة أن يمينه لم تتناول المعجوز عنه لا شرعًا ولا قدرًا، فلا يحنث بتركه.
وإن كان الامتناع بمنع ظالمٍ كالغاصب والسارق أو غيرِ ظالم كالمستحق، فهل يحنث أم لا؟ قال أشهب: لا يحنث، وهو الصواب لما ذُكر. وقال غيره من أصحاب [165/أ] مالك: يحنث؛ لأن المحلَّ باقٍ، وإنما حِيلَ بينه وبين الفعل فيه، وللشافعي في هذا الأصل قولان.
(1)
ك، ب:«لأنه» .
قال أبو محمد الجويني: ولو حلف ليشربنَّ ما في هذه الإداوة غدًا فأُرِيقَ قبل الغد بغير اختياره فعلى قولي الإكراه، قال: والأولى أن لا يحنث، وإن حنَّثنا المُكْرَه لعجزِه عن الشرب وقدرةِ المكره على الامتناع.
فجعل الشيخ أبو محمد العاجز أولى بالعذر من المكره، وسوَّى غيره بينهما، ولا ريبَ أن قواعد الشريعة وأصولها تشهد لهذا القول؛ فإن الأمر والنهي من الشارع نظير الحض والمنع في اليمين، وكما أن أمره ونهيه مَنوطٌ بالقدرة فلا واجبَ مع عجزٍ ولا حرامَ مع ضرورةٍ، فكذلك الحضّ والمنع في اليمين إنما هو مقيَّد بالقدرة.
يوضحه أن الحالف يعلم سرَّ نفسه أنه لم يلتزم فعل المحلوف عليه مع العجز عنه، وإنما التزمه مع قدرته عليه، ولهذا لم يحنث المغلوب على الفعل بنسيان أو إكراه، ولا من لا قصد له إليه كالمغمى عليه وزائل العقل، وهذا قول جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنفية، وهو مقتضى أصول الإمام أحمد، وإن كان المنصوص عنه خلافه، فإنه قال في رواية ابنه صالح
(1)
: إذا حلف أن يشرب هذا الماء الذي في هذا الإناء فانصبَّ فقد حنث، ولو حلف أن يأكل رغيفًا فجاء كلب فأكله فقد حنث؛ لأن هذا لا يقدر عليه.
وقال في رواية جعفر بن محمد: إذا حلف الرجل
(2)
على غريمه أن لا يفارقه حتى يستوفي منه ماله، فهرب منه مخاتلةً، فإنه يحنث.
(1)
«مسائله» (2/ 323).
(2)
ك، ب:«رجل» .
وهذا وأمثاله من نصوصه بناء على قوله في المكره والناسي والجاهل «إنه يحنث» كما نص عليه، فإنه قال في رواية أبي الحارث: إذا حلف أن لا يدخل الدار فحُمِل كرهًا فأُدخِل فإنه يحنث
(1)
. وكذلك نصَّ على حنث الناسي والجاهل، فقد جعل الناسي والجاهل والمكره والعاجز بمنزلة.
ونصَّ في رواية أبي طالب: إذا حلف لا يدخل الدار فحُمل كرهًا فأُدخِل فلا شيء عليه.
وقد قال في رواية أحمد بن القاسم: والذباب يدخل حلق الصائم، والرجل يرمي بالشيء فيدخل حلقَ
(2)
الآخر، وكل أمر غلب عليه فليس عليه قضاء ولا غيره.
وتواترت نصوصه فيمن أكل في رمضان أو شرب ناسيًا فلا قضاء عليه؛ فقد سوَّى بين الناسي والمغلوب، وهذا محض القياس والفقه، ومقتضى ذلك التسوية بينهما في باب الأيمان كما نصَّ عليه في المُكْرَه، فتخرج مسألة العاجز والمغلوب على روايتين، بل المغلوب والعاجز أولى بعدم الحنث من الناسي والجاهل، كما تقدَّم بيانه، وبالله التوفيق.
فصل
المخرج السادس: أخْذُه بقول من يقول: إن التزام الطلاق لا يلزم، ولا
(1)
في المطبوع: «لا يحنث» ، وهو خطأ مخالف لما في النسخ وللسياق. وقد كتب الناسخ في ز «لا» ثم شطب عليه.
(2)
ك، ب:«في حلق» .
يقع به طلاق إذا
(1)
حنِث، وهذا إذا أخرجه بصيغة الالتزام، كقوله:«الطلاق يلزمني، أو [165/ب] لازمٌ لي، أو ثابت عليَّ، أو حقٌّ عليَّ، أو متعينٌ عليَّ أو واجبٌ عليَّ إن فعلتُ، أو إن لم أفعلْ» . وهذا مذهب أبي حنيفة، وبه أفتى جماعة من مشايخ مذهبه، وبه أفتى القفَّال في قوله:«الطلاق يلزمني» . ونحن نذكر كلامهم بحروفه.
قال صاحب «الذخيرة»
(2)
من الحنفية: لو قال لها: «طلاقكِ عليَّ واجب، أو لازم، أو فرض، أو ثابت» ، ذكر أبو الليث خلافًا بين المتأخرين؛ فمنهم من قال: يقع واحدة رجعية نوى أو لم ينوِ، ومنهم من قال: لا يقع نوى أو لم ينوِ، ومنهم من قال: في قوله: «واجب» يقع بدون النية، وفي قوله:«لازم» لا يقع وإن نوى. وعلى هذا الخلاف إذا قال: «إن فعلتِ كذا فطلاقكِ عليّ واجب، أو قال: لازم، أو ثابت» ففعلتْ. وذكر القدوري في «شرحه» أن على قول أبي حنيفة لا يقع الطلاق في الكلّ، وعند أبي يوسف إن نوى الطلاق يقع في الكلّ، وعن محمد أنه يقع في قوله «لازم» ولا يقع في قوله «واجب» . ثم ذكر من اختار من المشايخ الوقوعَ ومن اختار عدمه، فقال: وكان الإمام ظهير الدين المرغيناني يفتي بعدم الوقوع في الكل.
وقال القفال في «فتاويه» : إذا قال: «الطلاق يلزمني» فليس بصريح ولا كناية، حتى لا يقع به وإن نواه. ولهذا القول مأخذان:
أحدهما: أن الطلاق لا بدّ فيه من الإضافة إلى المرأة، ولم تتحقق الإضافة هاهنا، ولهذا لو قال:«أنا منك طالق» لم تطلُق، ولو قال لها: «طلِّقي
(1)
في المطبوع: «ولا» .
(2)
انظر «المحيط البرهاني» (4/ 395).
نفسكِ» فقالت: «أنت طالق» لم تَطْلُق.
والمأخذ الثاني ــ وهو مأخذ أصحاب أبي حنيفة ــ: أنه التزام بحكم الطلاق، وحكمه لا يلزمه إلا بعد وقوعه، وكأنه قال:«فعليَّ أن أطلِّقك» ، وهو لو صرح بهذا لم تطلُق بغير خلاف؛ فهكذا المصدر.
وسرُّ المسألة أن ذلك التزام لأن يطلِّق أو التزامٌ لطلاق واقع؛ فإن كان الالتزام لأن يطلِّق لم تطلُق، وإن كان التزامًا لطلاق واقع فكأنه قال:«إن فعلتِ كذا فأنت طالق طلاقًا يلزمني» طلُقت إذا وُجد الشرط. ولمن رجَّح هذا أن يحيل فيه على العرف؛ فإن الحالف لا يقصد إلا هذا، ولا يقصد التزام التطليق، وعلى هذا فيظهر أن يقال: إن نوى بذلك التزام التطليق لم تطلُق، وإن نوى وقوع الطلاق طلُقت، وهذا قول أبي يوسف وقول جمهور أصحاب الشافعي. ومن جعله صريحًا في وقوع الطلاق حكَّم فيه العرفَ وغلبةَ استعمال هذا اللفظ في وقوع الطلاق، وهذا قول أبي المحاسن الروياني. والوجوه الثلاثة في مذهب الشافعي، حكاها شارح «التنبيه» وغيره.
وفي المسألة قولان آخران، وهما للحنفية:
أحدهما: أنه إن قال: «فالطلاق عليَّ واجب» يقع، نواه أو لم ينوه، وإن قال:«فالطلاق لي لازم» لا يقع، نواه أو لم ينوِه. ووجه هذا الفرق أن قوله «لازم» التزام لأن يطلِّق؛ فلا تطلُق بذلك، وقوله «واجب» إخبار عن وجوبه عليه، ولا يكون واجبًا إلا وقد وقع. ولمن سوَّى بينهما أن يقول: هو إيجابٌ للتطليق، أو إخبار عن وقوع الطلاق، ولا ريبَ أن [166/أ] اللفظ محتمل لهما كاحتمال قوله:«الطلاق يلزمني» سواء. وهذا هو الصواب، والفرق تحكُّم.
والثاني: قول محمد بن الحسن، وهو عكس هذا القول، أن الطلاق يقع بقوله:«الطلاق لي لازم، أو يلزمني» ، ولا يقع بقوله:«هو عليَّ واجب» . وعلى هذا الخلاف قوله: «إن فعلتُ كذا فالعتق يلزمني، أو فعليَّ العتقُ، أو فالعتق لازم لي، أو واجب عليَّ» .
فصل
المخرج السابع: أخْذُه بقول أشهب من أصحاب مالك، بل هو أفقههم على الإطلاق، فإنه قال: إذا قال الرجل لامرأته: «إن كلَّمتِ زيدًا، أو خرجتِ من بيتي بغير إذني» ونحو ذلك مما يكون من فعلها «فأنت طالق» ، وكلّمتْ زيدًا أو خرجتْ من بيته تقصِد أن يقع عليها
(1)
الطلاق= لم تطلُق. حكاه أبو الوليد ابن رشد في كتاب الطلاق من كتاب «المقدِّمات»
(2)
له.
وهذا القول هو الفقه بعينه، ولا سيما على أصول مالك وأحمد في مقابلة العبد بنقيض قصده، كحرمان القاتل ميراثَه من المقتول، وحرمان الموصى له وصيةَ مَن قتلَه بعد الوصية، وتوريث امرأة من طلَّقها في مرض موته فرارًا من ميراثها، وكما يقوله مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنهما ــ وقبلهما عمر بن الخطاب رضي الله عنه ــ فيمن تزوَّج في العدة وهو يعلم: يفرَّق بينهما، ولا تحلُّ له أبدًا
(3)
، ونظائر ذلك كثيرة. فمعاقبة المرأة هاهنا بنقيض قصْدِها هو محض الفقه والقياس، ولا ينتقض هذا على أشهب بمسألة
(1)
ز: «عليه» .
(2)
«المقدمات الممهدات» (1/ 576).
(3)
رواه مالك (2/ 536) وعبد الرزاق (10539 - 10544) وسعيد بن منصور (1/ 219) وابن أبي شيبة (28553) من طرق عن عمر، وإسناد مالك صحيح.
المخيَّرة ومَن جعلَ طلاقها بيدها؛ لأن الزوج قد ملَّكها ذلك وجعله بيدها، بخلاف الحالف فإنه لم يقصد طلاقها بنفسه، ولا جعله بيدها باليمين، حتى لو قصد ذلك فقال:«إن أعطيتِني ألفًا فأنتِ طالق» أو «إن أبرأتِني من جميع حقوقك فأنتِ طالق» فأعطتْه أو أبرأتْه طلُقتْ.
ولا ريبَ أن هذا الذي قاله أشهب أفقهُ من القول بوقوع الطلاق؛ فإن الزوج إنما قصد حضَّها ومنعها، ولم يقصد تفويض الطلاق إليها، ولا خطرَ ذلك بقلبه، ولا قصد وقوع الطلاق عند المخالفة. ومكانُ أشهب من العلم والإمامة غير مجهول؛ فذكر أبو عمر ابن عبد البر في كتاب «الانتقاء»
(1)
عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال: أشهب أفقهُ من ابن القاسم مائة مرة. وأنكر ابن كنانة
(2)
ذلك وقال: ليس عندنا كما قال محمد، وإنما قاله لأن أشهب شيخه ومعلِّمه. قال أبو عمر: أشهب شيخه، وابن القاسم شيخه، وهو أعلمُ بهما لكثرة مجالسته لهما وأخذِه عنهما.
فصل
المخرج الثامن: أخْذُه بقول من يقول إن الحلف بالطلاق لا يلزم، ولا يقع على الحانث به
(3)
طلاق، ولا يلزمه كفارة ولا غيرها. وهذا مذهب خلقٍ من السلف والخلف، صح ذلك عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
(4)
.
(1)
(ص 52).
(2)
كذا في جميع النسخ، فأثبتُّه كذلك وهو تحريف «ابن لُبابة» واسمه محمد بن عمر بن لبابة، كما في «الانتقاء» . وترجمته في «ترتيب المدارك» (5/ 153 - 157).
(3)
«به» ليست في ك.
(4)
تقدم.
قال بعض فقهاء المالكية وأهل الظاهر: ولا يُعرف لعليٍّ في ذلك مخالف من الصحابة. هذا لفظ أبي القاسم التميمي في «شرح أحكام عبد الحق»
(1)
، وقاله قبله أبو محمد ابن حزم
(2)
. وصح ذلك عن طاوس أجلِّ أصحاب ابن عباس [166/ب] وأفقهِهم على الإطلاق.
قال عبد الرزاق في «مصنفه»
(3)
: أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني ابن طاوس عن أبيه أنه كان يقول: الحلف بالطلاق ليس شيئًا. قلت: أكان يراه يمينًا؟ قال: لا أدري.
وهذا أصحُّ إسنادٍ عمن هو من أجلِّ التابعين وأفقهِهم، وقد وافقه أكثر من أربعمائة عالم ممن بنى فقهه على نصوص الكتاب والسنة دون القياس، ومن آخرهم أبو محمد بن حزم، قال في كتابه «المحلى»
(4)
: مسألة: واليمين بالطلاق لا يلزم، سواء برَّ أو حنِثَ، لا يقع به طلاق، ولا طلاقَ إلا كما أمر الله عز وجل، ولا يمينَ إلا كما شرع الله عز وجل على لسان رسوله. ثم قرّر ذلك، وساق اختلاف الناس في ذلك، ثم قال
(5)
: فهؤلاء علي بن أبي طالب وشُريح وطاوس لا يقضون بالطلاق على من حلف به فحنث، ولا يُعرف لعلي في ذلك
(6)
مخالفٌ من الصحابة رضي الله عنهم.
(1)
تقدم التعريف بالكتاب والمؤلف.
(2)
في «المحلى» (10/ 212).
(3)
رقم (11298).
(4)
(10/ 211).
(5)
(10/ 213).
(6)
ز: «في ذلك لعلي» .
قلت: أما أثر علي فرواه حماد بن سلمة
(1)
عن حميد عن الحسن أن رجلًا تزوَّج امرأة، وأراد سفرًا، فأخذه أهل امرأته، فجعلها طالقًا إن لم يبعث بنفقتها إلى شهر، فجاء الأجل، ولم يبعث إليها بشيء، فلما قدم خاصموه إلى علي، فقال علي رضي الله عنه: اضطهدتموه حتى جعلها طالقًا، فردَّها عليه.
ولا متعلَّق لهم بقوله «اضطهدتموه» لأنه لم يكن هناك إكراه، فإنهم إنما طالبوه بحق نفقتها فقط، ومعلومٌ أن ذلك ليس بإكراه على الطلاق ولا على اليمين، وليس في القصة أنهم أكرهوه بالقتل أو بالضرب أو بالحبس وأخذ المال على اليمين حتى يكون يمينَ مُكْرَه، والسائلون لم يقولوا لعلي شيئًا من ذلك البتة، وإنما خاصموه في حكم اليمين فقط، فنزَّل علي رضي الله عنه ذلك منزلةَ المضطهد حيث لم يُرِد طلاق امرأته، وإنما أراد التخلُّص إلى سفره بالحلف، فالحالف والمضطهد كل منهما لم يُرِد طلاق امرأته، فالمضطهد محمول على الطلاق تكلَّم به ليتخلَّص من ضرر الإكراه، والحالف حلف به ليتوصَّل إلى غرضه من الحضّ أو المنع أو التصديق أو التكذيب، ولو اختلف حال الحالف بين أن يكون مكرهًا أو مختارًا لسأله علي رضي الله عنه عن الإكراه وشروطه وحقيقته، وبأيِّ شيء أُكرِه، وهذا ظاهر بحمد الله، فارضَ للمقلِّد بما رضي لنفسه.
وأما أثر شُريح ففي «مصنف عبد الرزاق»
(2)
عن هشام بن حسّان عن محمد بن سيرين عن شريح أنه خوصم إليه في رجل طلَّق امرأته إن أحدث
(1)
ومن طريقه ابن حزم في «المحلى» (10/ 212). وتقدم هذا الأثر.
(2)
رقم (11322). وفيه: «عن هشيم» ، خطأ. وما عند المؤلف موافق لما في «المحلى» (10/ 212). وقد تقدم هذا الأثر.
في الإسلام حدثًا، فاكترى بغلًا إلى حمام أَعْينَ، فتعدَّى به إلى أصبهان، فباعه واشترى به خمرًا، فقال شريح: إن شئتم شهدتم عليه أنه طلَّقها، فجعلوا يردِّدون عليه القصة ويردِّد
(1)
عليهم. فلم يَرَه حدثًا.
ولا متعلَّقَ بقول الراوي ــ إما محمد وإما هشام ــ: «فلم يره حدثًا» ، فإنما ذلك ظنٌّ منه.
قال أبو محمد
(2)
: وأيُّ حدثٍ أعظم ممن تعدَّى
(3)
من حمام أعين، وهو على مسيرة أميالٍ يسيرة من الكوفة إلى أصبهان ثم باع بغْلَ [167/أ] مسلمٍ ظلمًا واشترى به خمرًا؟
قلت: والظاهر أن شريحًا لما ردَّ عليه
(4)
المرأةَ ظنَّ مَن شاهد القصة أنه لم يرَ ذلك حدثًا؛ إذ لو رآه حدثًا لأوقع عليها الطلاق، وشريح إنما ردَّها لأنه علم أنه لم يقصد طلاق امرأته، وإنما قصد اليمين فقط، فلم يُلزِمه بالطلاق، فقال الراوي وفهِمَ
(5)
: فلم يرَ ذلك حدثًا، وشريح أفقهُ في دين الله أن لا يرى مثلَ هذا حدثًا.
وممن رُوي عنه عدم وقوع الطلاق على الحالف إذا حنث: عكرمة
(1)
في النسختين: «ويرد» . والمثبت من «المصنف» و «المحلى» .
(2)
أي ابن حزم في «المحلى» (10/ 212، 213).
(3)
في «المحلى» : «أو ما نعلم في الإسلام أكثر ممن تعدى
…
».
(4)
في المطبوع: «ردت عليه» خلاف النسخ. والضمير في «ردّ» لشريح.
(5)
كذا في النسخ، وهو صواب. والمعنى أن الراوي فهم هذا فعبَّر عنه بقوله:«فلم ير ذلك حدثًا» . وفي المطبوع: «فيهم» .
مولى ابن عباس، كما ذكره سُنيد بن داود في «تفسيره» في أول سورة النور عنه بإسناده أنه سئل عن رجل حلف بالطلاق أنه لا يكلِّم أخاه، فكلَّمه، فلم يرَ ذلك طلاقًا، ثم قرأ:{وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة: 168].
ومن تأمَّل المنقول عن السلف في ذلك وجده أربعة أنواع: صريح في عدم الوقوع، وصريح في الوقوع، وظاهر في عدم الوقوع، وتوقُّف عن الطرفين. فالمنقول عن طاوس وعكرمة صريح في عدم الوقوع، وعن علي وشُريح ظاهر في ذلك، وعن ابن عيينة صريح في التوقُّف.
وأما التصريح بالوقوع فلا يؤثَر عن صحابي واحد إلا فيما هو محتمل لإرادة الوقوع عند الشرط، كالمنقول عن أبي ذر
(1)
، بل الثابت عن الصحابة عدم الوقوع في صورة العتق الذي هو أولى بالنفوذ من الطلاق، ولهذا ذهب إليه أبو ثور وقال: القياس أن الطلاق مثله، إلا أن تجمع الأمة عليه، فتوقَّف في الطلاق لتوهُّم الإجماع.
وهذا عذر أكثر الموقعين للطلاق، وهو ظنُّهم الإجماعَ
(2)
على الوقوع، مع اعترافهم أنه ليس في الكتاب والسنة والقياس الصحيح ما يقتضي الوقوع، وإذا تبيَّن أنه ليس في المسألة إجماع تبيَّن أن لا دليل أصلًا يدل على الوقوع، والأدلة الدالة على عدم الوقوع في غايةٍ من القوة والكثرة، وكثير منها لا
(1)
رُوي عنه في العتق المؤجَّل، فقاس الإمام أحمد الطلاق المؤجَّل عليه، كما في «المسائل» رواية صالح (3/ 130). وأثر أبي ذر رواه ابن أبي شيبة في «المصنَّف» (17896) أنه قال لغلامٍ له: هو عتيقٌ إلى الحول.
(2)
«وهذا عذر
…
الإجماع» ساقطة من ك.
سبيل إلى دفعه، فكيف يجوز معارضتها
(1)
بدعوى إجماع قد عُلم بطلانه قطعًا؟ فليس بأيدي الموقعين آية من كتاب الله ولا أثرٌ عن رسول الله ولا عن أصحابه ولا قياس صحيح. والقائلون بعدم الوقوع لو لم يكن معهم إلا الاستصحاب الذي لا يجوز الانتقال عنه إلا لما هو أقوى منه لكان كافيًا، فكيف ومعهم الأقيسة التي أكثرها من باب قياس الأَولى؟ والباقي من القياس المساوي، وهو قياس النظير على نظيره، والآثار والعمومات والمعاني الصحيحة والحِكَم والمناسبات التي شهد لها الشرع بالاعتبار ما
(2)
لم يدفعهم منازعوهم عنه بحجة أصلًا؟
وقولهم وسطٌ بين قولين متباينين غايةَ التباين:
أحدهما: قول من يعتبر التعليق فيُوقِع به الطلاقَ على كل حال، سواء كان تعليقًا قسميًّا يقصد به الحالف منع الشرط والجزاء أو تعليقًا شرطيًّا يقصد به حصول الجزاء عند حصول الشرط.
والثاني قول من يقول: [167/ب] إن هذا التعليق كله لغوٌ
(3)
لا يصح بوجهٍ مَّا، ولا يقع الطلاق به البتةَ، كما سنذكره في المخرج الذي بعد هذا إن شاء الله.
فهؤلاء توسَّطوا بين الفريقين، وقالوا: يقع الطلاق في صورة التعليق المقصود به وقوع الجزاء، ولا يقع في صورة التعليق القسمي، وحجتهم
(1)
ك، ب:«معارضته» .
(2)
ك، ب:«وما» .
(3)
ك، ب:«لغو كله» .
قائمة على الفريقين، وليس لأحدٍ منهما حجة صحيحة عليهم، بل كلُّ حجة صحيحة احتج بها الموقعون فإنما تدلُّ على الوقوع في صورة التعليق المقصود، وكلُّ حجة احتج بها المانعون صحيحة فإنما تدلُّ على عدم الوقوع في صورة التعليق القسمي، فهم قائلون بمجموع حجج الطائفتين، وجامعون للحق الذي مع الفريقين، ومعارضون قولَ كلٍّ من الفريقين وحججَهم بقول الفريق الآخر وحججِهم.
فصل
المخرج التاسع: أخْذُه بقول من يقول: إن الطلاق المعلَّق بالشرط لا يقع، ولا يصح تعليق الطلاق كما لا يصح تعليق النكاح. وهذا اختيار أبي عبد الرحمن أحمد بن يحيى بن عبد العزيز الشافعي أحد أصحاب الشافعي الجِلَّة أو أجلّهم، وكان الشافعي يُكرِمه ويُجِلُّه ويَكْنِيه ويعظِّمه وأبا ثورٍ، وكانا يكرمانه، وكان بصره ضعيفًا، فكان الشافعي يقول: لا تدفعوا إلى أبي عبد الرحمن الكتابَ يعارض به فإنه يخطئ
(1)
. وذكره أبو إسحاق الشيرازي في طبقات أصحاب الشافعي
(2)
، ومحلُّ الرجل من العلم والتضلُّع
(3)
منه لا يُدفَع، وهو في العلم بمنزلة أبي ثور وتلك الطبقة، وكان رفيقَ أبي ثور، وهو أجلُّ من جميع أصحاب الوجوه من المنتسبين إلى الشافعي، فإذا نُزِلَ بطبقته إلى طبقة أصحاب الوجوه كان قوله وجهًا، وهو أقلُّ درجاته.
وهذا مذهب لم ينفرد به، بل قد قال به غيره من أهل العلم، قال أبو
(1)
انظر: «تاريخ بغداد» (5/ 200).
(2)
من كتابه «طبقات الفقهاء» (ص 102).
(3)
في النسخ: «والتظلع» ، خطأ.
محمد ابن حزم في «المحلَّى»
(1)
: والطلاق بالصفة عندنا كما هو الطلاق باليمين، كل ذلك لا يلزم وبالله التوفيق، ولا يكون طلاقًا إلا كما أمر الله عز وجل وعلَّمه، وما عداه فباطلٌ وتعدٍّ لحدود الله عز وجل.
وهذا القول وإن لم يكن قويًّا في النظر فإن الموقعين للطلاق لا يُمكِنهم إبطالُه البتةَ لتناقضهم، فإن أصحابه يقولون لهم: قولنا في تعليق الطلاق بالشرط كقولكم في تعليق الإبراء والهبة والوقف والبيع والنكاح سواء، فلا يمكنكم
(2)
البتةَ أن تفرِّقوا بين ما صحَّ تعليقه من عقود التبرُّعات والمعاوضات والإسقاطات بالشروط وما لا يصحُّ تعليقه، فلا تُبطِلوا قول منازعيكم في صحة تعليق الطلاق بالشرط بشيء إلا كان هو بعينه حجةً عليكم في إبطال قولكم في منع صحة تعليق الإبراء والهبة والوقف والنكاح، فما الذي أوجب إلغاءَ هذا التعليق وصحةَ ذلك التعليق؟
فإن فرَّقتم بالمعاوضة وقلتم: «إن عقود المعاوضات لا تقبل التعليق بخلاف غيرها» انتقض عليكم طردًا بالجِعالة
(3)
وعكسًا بالهبة والوقف؛ فانتقض عليكم [168/أ] الفرق طردًا وعكسًا.
وإن فرَّقتم بالتمليك والإسقاط فقلتم: «عقود التمليك لا تقبل التعليق، بخلاف عقود الإسقاط» انتقض أيضًا طرده بالوصية، وعكسه بالإبراء؛ فلا طرد ولا عكس.
(1)
(10/ 213).
(2)
ك، ب:«فلا يمكنهم» .
(3)
ما يُجعل على العمل من أجر.
وإن فرَّقتم بالإدخال في ملكه والإخراج عن ملكه فصححتم التعليق في الثاني دون الأول انتقض أيضًا فرقكم؛ فإن الهبة والإبراء إخراجٌ عن ملكه ولا يصح تعليقهما عندكم.
وإن فرَّقتم بما يحتمل الغَرَر وما لا يحتمله، فما يحتمل الغرر والأخطار يصح تعليقه بالشرط كالطلاق والعتق والوصية، وما لا يحتمله لا يصح تعليقه كالبيع والنكاح والإجارة= انتقض عليكم بالوكالة، فإنها لا تقبل التعليق عندكم وتحتمل الخطر؛ ولهذا يصح أن يوكِّله في شِرى عبدٍ، ولا يذكر قدره ولا وصفه ولا سنَّه ولا ثمنه، بل يكفي ذكر جنسه فقط، وأن يوكله في شِرى دار، ويكتفي بذكر محلّها وسكنها فقط، وأن يوكِّله في التزوُّج بامرأة فقط، ولا يزيد على كونها امرأة، ولا يذكر له جنس مهرها ولا قدره ولا وصفه، وأيُّ خطرٍ فوق هذا؟ ومع ذلك منعتم من تعليقها بالشرط، وطَرْدُ هذا الفرق يوجب عليكم صحة تعليق النكاح بالشرط، فإنه يحتمل من الخطر ما لا يحتمل غيره من العقود، فلا يشترط فيه رؤية الزوجة ولا صفتها، ولا تعيين
(1)
العوض جنسًا ولا قدرًا ولا وصفًا، ويصح مع جهالته وجهالة المرأة، ولا يُعلَم عقد يحتمل من الخطر ما يحتمله؛ فهو أولى بصحة التعليق من الطلاق والعتاق إن صح هذا الفرق.
وقد نصَّ الشافعي على صحة تعليقه فيما لو قال: «إن كانت جاريتي ولدت بنتًا
(2)
فقد زوَّجتُكها»
(3)
. وهذا وإن لم يكن تعليقًا على شرط
(1)
ك، ب:«يعتبر» ، تصحيف.
(2)
ك، ب:«ابنة» .
(3)
انظر: «روضة الطالبين» (7/ 40).
مستقبل، وليس بمنزلة قوله:«متى ولدت جارية فقد زوَّجتكها» لأن هذا فيه خطر ليس في صورة النص، فهذا فرق صحيح، ولكن لم يوفُّوه حقَّه، ولم يطرد فقهه، فلو قال:«إن كان أبي مات وورثتُ منه هذا المتاع فقد بعتُكَه» أبطلتموه، وقلتم: هو بيع معلَّق على شرط، والبطلان هاهنا في غاية البعد من الفقه، ولا معنى تحته، ولا خَطَر هناك ولا غررَ البتة.
وقد نصَّ الإمام أحمد على صحة تعليق النكاح على الشرط، قال صاحب «المستوعب»
(1)
: وأما إذا علَّق انعقاد النكاح على شرط مثل أن يقول: «زوَّجتُك إذا جاء رأس الشهر، أو إذا رضيتْ أمُّها» ففيه روايتان: إحداهما يبطل النكاح من أصله، والأخرى يصح.
وذكر في هذا الفصل أنه إذا تزوَّجها بشرط الخيار، وإن جاءها بالمهر إلى وقت كذا، وإلا فلا نكاح بينهما، ففيه روايتان؛ إحداهما: يبطل النكاح من أصله، والثانية: يبطل الشرط ويصح العقد، نصَّ عليه في رواية الأثرم
(2)
. وقد ذكر القاضي عنه رواية أنه إذا تزوَّجها بشرط الخيار يصح العقد والشرط جميعًا.
فصار عنه ثلاث روايات: [168/ب] صحة العقد والشرط، وبطلانهما، وصحة العقد وفساد الشرط، ولكن هذا فيما إذا شرط الخيار أو إن جاءها بالمهر إلى وقت كذا، وإلا فلا نكاح بينهما.
وأما إذا قال: «زوَّجتُك إن رضيتْ أمها» فنصَّ على صحة العقد إذا
(1)
لم أجد النصّ في النسخة المطبوعة منه، فليس فيها كتاب النكاح.
(2)
كما في «شرح الزركشي» (3/ 240).
رضيتْ أمُّها، وقال: هو نكاح. وقال في رواية عبد الله وصالح وحنبل
(1)
: نكاح المتعة حرام، وكل نكاح فيه وقت أو شرط فاسد.
والمقصود أن المفرِّقين بين ما يقبل التعليق بالشروط وما لا يقبله إلى الآن لم يستقرَّ لهم ضابط في الفرق، فمن قال من أهل الظاهر وغيرهم إن الطلاق لا يصح تعليقه بالشروط لم يتمكن من الردِّ عليه مَن قوله مضطرب فيما يعلَّق وما لا يعلَّق، ولا يُرَدُّ عليه بشيء
(2)
إلا تمكَّن من ردِّه عليهم بمثله أو أقوى منه، وإن ردُّوا عليه بمخالفته لآثار الصحابة ردَّ عليهم بمخالفة النصوص المرفوعة في صور عديدة قد تقدَّم ذكرُ بعضها، وإن فرَّقوا طالبَهم بضابط ذلك أولًا وبتأثير الفرق شرعًا ثانيًا، فإن الوصف الفارق لا بدَّ أن يكون مؤثرًا كالوصف الجامع؛ فإنه لا يصح تعليق الأحكام جمعًا وفرقًا بالأوصاف التي لم يُعلم أن الشارع اعتبرها، فإنه وضْعُ شرعٍ لم يأذن به الله.
وبالجملة فليس بطلان هذا القول أظهرَ في الشريعة من بطلان التحليل، بل العلم بفساد نكاح التحليل أظهر من العلم بفساد هذا القول، فإذا جاز التقرير على التحليل وترك إنكاره ــ مع ما فيه من النصوص والآثار التي اتفق عليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنع منه ولَعْن فاعله وذمِّه ــ فالتقرير
(3)
على هذا القول أجوزُ وأجوزُ
(4)
، هذا ما لا يستريب فيه عالم منصف، وإن
(1)
انظر: «كتاب الروايتين والوجهين» (2/ 106)، و «الهداية» للكلوذاني (ص 393)، و «الكافي» لابن قدامة (3/ 59).
(2)
ك، ب:«شيء» .
(3)
ك: «فالتفريق» .
(4)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «أجود وأجوز» .
كان الصواب في خلاف القولين جميعًا، ولكن أحدهما أقل خطأ، وأقربُ إلى الصواب، والله أعلم.
فصل
المخرج العاشر: مخرج زوال السبب، وقد كان الأَولى تقديمه على هذا المخرج لقوته وصحته، فإن الحكم يدور مع علته وسببه وجودًا وعدمًا، ولهذا إذا علَّق الشارع حكمًا بسبب أو علة زال الحكم بزوالهما، كالخمر علّق بها حكم التنجيس ووجوب الحدّ لوصف الإسكار، فإذا زال عنها وصارت خلًّا زال الحكم، وكذلك وصف الفسق علّق عليه المنع من قبول الشهادة والرواية، فإذا زال الوصف زال الحكم الذي علّق عليه، وكذلك السَّفَه والصِّغر والجنون والإغماء تزول الأحكام المعلَّقة عليها بزوالها. والشريعة مبنية على هذه القاعدة، فهكذا الحالف إذا حلف على أمر لا يفعله لسبب فزال السبب لم يحنث بفعله؛ لأن يمينه تعلَّقت به لذلك
(1)
الوصف، فإذا زال الوصف زال تعلُّق اليمين، فإذا دُعي إلى شرابٍ
(2)
مُسكرٍ ليشربه فحلف أن لا يشربه، فانقلب خلًّا فشرِبه لم يحنث، فإنَّ منْعَ نفسِه منه نظيرُ منْعِ الشارع، فإذا زال منْعُ الشارع بانقلابه خلًّا وجب أن يزول منْعُ نفسه بذلك، [169/أ] والتفريق بين الأمرين تحكُّمٌ محض لا وجهَ له؛ فإذا كان التحريم والتنجيس ووجوب الإراقة ووجوب الحد وثبوت الفسق قد زال بزوال سببه فما المُوجِب لبقاء المنع في صورة اليمين وقد زال سببه؟ وهل يقتضي محضُ الفقه إلا زوالَ حكم اليمين؟
(1)
ز: «كذلك» ، خطأ.
(2)
ك: «شرب» .
يوضِّحه أن الحالف يعلم مِن نفسه أنه لم يمنعها من شرب غير
(1)
المسكر، ولم يخطر بباله، فإلزامُه ببقاء حكم اليمين وقد زال سببها إلزامٌ بما لم يلتزمه هو ولا ألزمَه به الشارع.
وكذلك لو حلف على رجلٍ أن لا يقبل له قولًا ولا شهادةً لما يعلم من فسقه، ثم تاب وصار من خيار الناس؛ فإنه يزول حكم المنع باليمين كما يزول حكم المنع من ذلك بالشرع.
وكذلك إذا حلف أن لا يأكل هذا الطعام أو لا يلبس هذا الثوب أو لا يكلِّم هذه المرأة ولا يطأها لكونه لا يحلُّ
(2)
له ذلك، فملك الطعامَ والثوب وتزوَّج المرأة، فأكله ولبس الثوب ووطئ المرأة لم يحنث؛ لأن المنع بيمينه كالمنع بمنع الشارع، ومنعُ الشارع يزول بزوال الأسباب التي ترتَّب عليها المنع؛ فكذلك منع الحالف.
وكذلك إذا حلف «لا دخلتُ هذه الدار» ، وكان سبب يمينه أنها تُعمل فيها المعاصي ويُشرب
(3)
الخمر؛ فزال ذلك وعادت مَجمعًا للصالحين وقراءة القرآن والحديث. أو قال: «لا أدخل هذا المكان» لأجلِ ما رأى فيه من المنكر، فصار بيتًا من بيوت الله تُقام فيه الصلوات
(4)
= لم يحنث بدخوله.
(1)
«غير» ساقطة من ك.
(2)
في النسخ: «لا تحل» .
(3)
ك، ب:«ويشرب فيها» .
(4)
ك: «الصلاة» .
وكذلك إذا حلف لا يأكل لفلان طعامًا، وكان سبب اليمين أنه يأكل الربا، ويأكل أموال الناس بالباطل؛ فتاب وخرج من المظالم وصار طعامه من كَسْب يده أو تجارة مباحة= لم يحنث بأكل طعامه، ويزول حكم منع اليمين كما يزول حكم منع الشارع.
وكذلك لو حلف لا بايعتُ فلانًا، وسبب يمينه كونه مفلسًا أو سفيهًا؛ فزال الإفلاس والسفه؛ فبايعه= لم يحنث.
وأضعاف أضعاف هذه المسائل، كما إذا اتِّهم بصحبة مُريب فحلف لا صاحبتُه، فزالت الريبة وخلَفَها ضدُّها فصاحبَه= لم يحنث. وكذلك لو حلف المريض لا يأكل لحمًا أو طعامًا، وسبب يمينه كونه يزيد في مرضه، فصحَّ وصار الطعام نافعًا له= لم يحنث بأكله.
وقد صرَّح الفقهاء بمسائل من هذا الجنس:
فمنها: لو حلف لوالٍ أن لا أفارقَ البلد إلا بإذنك، فعُزِل ففارق البلد بغير إذنه، لم يحنث.
ومنها: لو حلف على زوجته لا تخرجين من بيتي إلا بإذني، أو لعبده لا تخرُج إلا بإذني، ثم طلَّق الزوجة وعتق العبد، فخرجَا بغير إذنه، لم يحنث، ذكره أصحاب الإمام أحمد.
قال صاحب «المغني»
(1)
: لأن قرينة الحال تنقلُ حكمَ الكلام إلى نفسها، وهو إنما يملك منْعَ الزوجة والعبد مع ولايته عليهما؛ فكأنه قال: ما دمتما في مِلْكي. ولأن السبب يدلُّ على النية في الخصوص كدلالته عليها
(1)
(13/ 546).
في العموم.
وكذلك إذا حلف لقاضٍ أن لا أرى منكرًا إلا رفعتُه إليك، فعُزِل، لم يحنث بعدم الرفع إليه بعد العزل.
وكذلك إذا حلف لامرأته أن لا أبيت خارجَ بيتك، أو خارجَ هذه الدار، فماتت أو طلَّقها، لم يحنث إذا بات خارجها.
وكذلك [169/ب] إذا حلف على ابنه أن لا يبيت خارج البيت لخوفه عليه من الفسَّاق؛ لكونه أمرد، فالتحى وصار شيخًا، لم يحنث بمبيته خارجَ الدار.
وهذا كله مذهب مالك وأحمد؛ فإنهما يعتبران النية في الأيمان وبساط
(1)
اليمين وسببها وما هيَّجها؛ فيحملان اليمين على ذلك.
وقال أبو عمر ابن عبد البر في كتاب الأيمان من كتابه «الكافي في مذهب مالك»
(2)
: والأصل في هذا الباب مراعاةُ ما نَوى الحالف؛ فإن لم تكن له نيةٌ نظر إلى بِساط قصته وما أثاره على الحلف، ثم حكم عليه بالأغلب من ذلك في نفوس أهل وقته.
وقال صاحب «الجواهر»
(3)
: المقتضِيات للبرّ والحِنْث أمور:
الأول: النية إذا كانت مما يصلُح أن يراد اللفظ بها، سواء كانت مطابقةً له أو زائدةً فيه أو ناقصةً عنه بتقييدِ مُطلَقه وتخصيصِ عامِّه.
(1)
كذا في النسخ، ولا غبار عليه، وسيأتي معناه. وفي المطبوع:«ومناط» .
(2)
(1/ 452).
(3)
«عقد الجواهر الثمينة» (1/ 525).
الثاني: السبب المثير لليمين يُتعرَّف
(1)
منه، ويعبَّر عنه بالبِساط أيضًا، وذلك أن القاصد لليمين لا بدَّ أن تكون له نية، وإنما يذكرها في بعض الأوقات وينساها في بعضها؛ فيكون المحرِّك على اليمين ــ وهو البِساط ــ دليلًا عليها، لكن قد يظهر مقتضى المحرّك ظهورًا لا إشكالَ فيه، وقد يخفى في بعض الحالات، وقد يكون ظهوره وخفاؤه بالإضافة.
وكذلك أصحاب الإمام أحمد صرَّحوا باعتبار النية وحَمْل اليمين على مقتضاها، فإن عُدِمَتْ رُجِعَ إلى سبب اليمين وما هيَّجها، فحُمِل اللفظ عليه؛ لأنه دليلٌ على النية.
حتى صرح أصحاب مالك
(2)
فيمن دفن مالًا ونسيَ مكانه فبحث عنه فلم يجده، فحلفَ على زوجته أنها هي التي أخذتْه، ثم وجده، لم يحنثْ. قالوا: لأن قصْدَه ونيتَه إنما هو إن كان المال قد ذهب فأنتِ التي أخذتِه. فتأمَّلْ كيف جعلوا القصد والنية في قوة الشرط، وهذا هو محض الفقه.
ونظير هذا ما لو دُعِي إلى طعام فظنَّه حرامًا فحلف لا أطعمه، ثم ظهر أنه حلالٌ لا شبهةَ فيه، فإنه لا يحنث بأكله؛ لأن يمينه إنما تعلَّقتْ به إن كان حرامًا، وذلك قصده.
ومثله لو مرَّ به رجل فسلَّم عليه، فحلف لا يردُّ عليه السلام لظنِّه أنه مبتدع أو ظالم أو فاجر، فظهر أنه غير ذلك الذي ظنَّه، لم يحنث بالردِّ عليه.
(1)
في «عقد الجواهر» : «لتُعرف» .
(2)
انظر المصدر السابق (1/ 531).
ومثله لو قدِّمت له دابةٌ ليركبها، فظنَّها قَطُوفًا
(1)
أو جَمُوحًا
(2)
أو متعسِّرة الركوب فحلف لا يركبها، فظهرتْ بخلاف ذلك، لم يحنث بركوبها.
وقال أبو القاسم الخرقي في «مختصره»
(3)
: ويُرجَع في الأيمان إلى النية؛ فإن لم ينوِ شيئًا رجع إلى سبب اليمين وما هيَّجها.
وقال أصحاب الإمام أحمد: إذا دُعِي إلى غداء فحلف أن لا يتغدَّى، أو قيل له
(4)
اقعد فحلف أن لا يقعد، اختصَّتْ يمينُه بذلك الغداء وبالقعود في ذلك الوقت؛ لأن عاقلًا لا يقصد أن لا يتغدَّى أبدًا ولا يقعد أبدًا.
ثم قال صاحب «المغني»
(5)
: إن كان له نية فيمينه على ما نوى، وإن لم تكن له نية فكلام أحمد يقتضي روايتين؛ إحداهما: أن اليمين محمولة على العموم؛ لأن أحمد سُئل عن رجل حلف أن لا يدخل بلدًا لظلمٍ رآه فيه فزال الظلم، قال أحمد: النذر يُوفي به، يعني لا يدخله. ووجهُ ذلك أن لفظ الشارع إذا كان عامًّا لسبب خاصٍّ وجبَ الأخذُ بعموم اللفظ دون خصوص السبب، كذلك يمين الحالف.
ونازعه في ذلك شيخنا، فقال
(6)
: إنما منعه أحمد من دخول البلد بعد
(1)
من قَطَفَت الدابة: أبطأتْ.
(2)
من جَمَح، أي: عَتَتْ عن أمر صاحبها حتى غلبتْه.
(3)
انظره بشرحه «المغني» (13/ 543، 545).
(4)
«له» ليست في ز.
(5)
(13/ 545).
(6)
لم أجد كلامه هذا في كتبه المطبوعة.
زوال الظلم؛ لأنه نذر لله أن لا يدخلها، وأكَّد نذره باليمين، والنذر قربة، فقد نذر التقرُّب إلى الله بهجران ذلك البلد؛ فيلزمه الوفاء بما نذره.
هذا هو الذي فهمه الإمام أحمد، وأجاب به السائل حيث قال:«النذر يُوفي به» ؛ ولهذا منع النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين من الإقامة بمكة بعد قضاء نُسكهم فوق ثلاثة أيام
(1)
؛ لأنهم تركوا ديارهم لله، فلم يكن لهم العود فيها، وإن زال السبب الذي تركوها لأجله. وذلك نظير مسألة ترك البلد للظلم والفواحش التي فيه إذا نذره الناذر. فهذا سِرُّ جوابه، وإلا فمذهبه الذي عليه نصوصه وأصوله: اعتبارُ النية والسبب في اليمين، وحمْلُ كلام الحالف على ذلك، وهذا في نصوصه أكثر من أن نذكره، فلينظر فيها.
وأما مذهب أصحاب أبي حنيفة فقال في كتاب «الذخائر»
(2)
في كتاب الأيمان: الفصل السادس في تقييد الأيمان المطلقة بالدلالة، إذا أرادت المرأة الخروج من الدار فقال الزوج:«إن خرجتِ فأنت طالق» ، فجلست ساعة ثم خرجت، لا تطلَّق. وكذلك لو
(3)
أراد رجل أن يضربه فحلف آخر أن ضربَه
(4)
، فهذا على تلك الضربة، حتى لو مكث ساعة ثم ضربه لا يحنث، ويسمَّى هذا يمين الفور، وهذا لأن الخرجة التي قصد والضربة التي قصد هي المقصودة بالمنع منها عرفًا وعادةً؛ فيتعين ذلك بالعرف والعادة. وإذا دخل الرجل على رجلٍ فقال: تعالَ تغدَّ معي، فقال: والله لا أتغدَّى،
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
انظر أصله «المحيط البرهاني» (6/ 90).
(3)
ك، ب:«إذا» .
(4)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «أن لا يضربه» .
فذهب إلى بيته وتغدَّى مع أهله لا يحنث. وكذلك إذا قال الرجل لغيره: كُلْ مع فلان، فقال: والله لا آكل.
ثم ذكر تقرير ذلك بأنه جواب لقول الآمر له، والجواب كالمعاد في السؤال؛ فإنه يتضمن ما فيه. قال: وليس كابتداء اليمين؛ لأن كلامه لم يخرج جوابًا بالتقييد، بل خرج ابتداءً وهو مطلق عن القيد، فينصرف إلى كل غداء. قال: وإذا قال لغيره: كلِّم لي زيدًا اليوم في كذا، فقال: والله لا أكلِّمه، فهذا يختصُّ باليوم؛ لأنه خرج جوابًا عن الكلام السابق. وعلى هذا إذا قال: ائْتِني اليوم، فقال: امرأته طالق إن أتاك.
وقد صرَّح أصحاب أبي حنيفة بأن النية تعمل في اللفظ لتعيين ما احتمله اللفظ؛ فإذا تعيَّن باللفظ ولم يكن اللفظ محتملًا لما نوى لم تؤثِّر النية فيه؛ فإنه حينئذٍ يكون الاعتبار بمجرد النية، ومجرد النية لا أثر لها في إثبات الحكم؛ فإذا احتملها اللفظ فعيَّنتْ بعض محتملاتِه أثَّرت حينئذٍ.
قالوا: ولهذا لو قال: «إن لبستُ ثوبًا أو أكلتُ طعامًا أو شربتُ شرابًا أو كلَّمتُ امرأةً فامرأته
(1)
طالق»، ونوى ثوبًا أو طعامًا أو شرابًا أو امرأةً معينًا، دُيِّنَ فيما بينه وبين الله، وقُبِلت نيته بغير خلاف، ولو حذف المفعول واقتصر على الفعل فكذلك عند أبي يوسف في رواية عنه والخصَّاف، وهو قول الشافعي وأحمد [170/ب] ومالك.
والمقصود أن النية تؤثِّر في اليمين تخصيصًا وتعميمًا، وإطلاقًا وتقييدًا، والسبب يقوم مقامها عند عدمها، ويدلُّ عليها، فيؤثِّر ما تؤثِّره. وهذا هو الذي
(1)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «فامرأتي» .