الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إنما أُشهِد على ذلك توصلًا إلى أخذ بعض حقي. فهذه تعرف بمسألة إيداع الشهادة؛ فإذا فعل ذلك جاز له أن يدَّعي بقاءه على حقه، ويقيم الشهادة بذلك.
هذا مذهب مالك، وهو مطَّرد على قياس مذهب أحمد وجارٍ على أصوله، فإن له التوصل إلى حقه بكل طريق جائزة، بل لا يقتضي المذهب غير ذلك، فإن هذا مظلوم توصَّل إلى حقِّه بطريق لم يُسقِط بها حقًّا لأحد، ولم يأخذ بها ما لا يحلُّ له أخذه؛ فلا خرجَ بها من حق، ولا دخلَ بها في باطل.
ونظير هذا أن يكون للمرأة على رجل حق، فيجحده ويأبى أن يقرَّ به حتى تُقرَّ له بالزوجية، فطريق الحيلة أن تُشهِد على نفسها أنها ليست امرأة فلان، وأني أريد أن أُقِرَّ له بالزوجية إقرارًا كاذبًا لا حقيقة له؛ لأتوصَّل بذلك إلى أخذ مالي عنده، فاشْهدوا أن إقراري بالزوجية باطل أتوصَّل به إلى أخذ حقي.
ونظيره أيضًا أن ينكر نسب أخيه، ويأبى أن يقرَّ له به حتى يشهد أنه لا يستحق في تركة أبيه شيئًا، وأنه قد أبرأه من جميع ما له في ذمته منها، أو أنه وهب له جميع ما يخصُّه منها، أو أنه قبضه أو اعتاض عنه ونحو ذلك، فيُودِع الشهادةَ عدلين أنه باقٍ على حقه، وأنه يُظهِر ذلك الإقرار توصلًا إلى إقرار أخيه بنسبه، وأنه لم يأخذ من ميراث أبيه شيئًا، ولا أبرأ أخاه، ولا عاوضه، ولا وهبه.
وهذا يُشبِه
إقرار المضطَهَد
الذي قد اضطُهِد ودُفِع عن حقه حتى يُسقِط حقًّا آخر، والسلف كانوا يسمُّون مثل هذا مضطهدًا، كما قال حماد بن سلمة:
ثنا حُميد عن الحسن أن رجلًا تزوج امرأة، وأراد سفرًا، فأخذه أهلُها، فجعلها طالقًا إن لم يبعث بنفقتها إلى شهرٍ، فجاء الأجل، ولم يبعث إليها بشيء، فلما قدم خاصموه [144/ب] إلى عليّ
(1)
فقال: اضطهدتموه حتى جعلها طالقًا، فردَّها عليه
(2)
.
ومعلوم أنه لم يكن هناك إكراه بضرب ولا أخْذِ مال، وإنما طالبوه بما يجب لها عليه من نفقتها، وذلك ليس بإكراه، ولكن لما تعنَّتوه باليمين جعله مضطهدًا؛ لأنه عقدَ اليمين ليتوصَّل إلى قصده من السفر، فلم يكن حلفه عن اختيار، بل هو كالمحمول عليه.
والفرق بينه وبين المكْرَه أن المكره قاصد لدفع
(3)
الضرر باحتمال ما أُكرِه عليه، وهذا قاصد للوصول إلى حقه بالتزام ما طلب منه، وكلاهما غير راضٍ ولا مؤثرٍ لما التزمه، وليس له وَطَرٌ فيه.
فتأملْ هذا ونزِّله على قواعد الشرع ومقاصده، وهذا ظاهر جدًّا في أن علي بن أبي طالب لم يكن يرى الحلف بالطلاق مُوقِعًا للطلاق إذا حنِثَ به، وهو قول شريح وطاوس وعكرمة وأهلِ الظاهر وأبي عبد الرحمن الشافعي، وهو أجلُّ أصحابه على الإطلاق. قال بعض الحفَّاظ: ولا يُعلم لعليٍّ مخالف من الصحابة، وسيأتي الكلام في المسألة، إن شاء الله، إذ المقصود أن من أقرَّ أو حلفَ أو وهبَ أو صالحَ لا عن رِضًى منه، ولكن منع حقه إلا بذلك، فهو
(1)
بعدها في ز فقط: «كرم الله وجهه» .
(2)
ذكره ابن حزم في «المحلى» (10/ 212) بهذا اللفظ، وهوضعيف لعدم سماع الحسن من علي، وسيأتي بلفظ آخر.
(3)
ك: «قاصدًا رفع» .
بالمكره أشبهُ منه بالمختار، ومثل هذا لا يلزمه ما عقده من هذه العقود.
ومن له قدمٌ راسخ في الشريعة، ومعرفة بمصادرها ومواردها، وكان الإنصاف أحبَّ إليه من التعصب والهوى، والعلم والحجة آثرَ عنده من التقليد، لم يكد يخفى عليه الصواب، والله الموفق.
وهذه المسألة من نفائس هذا الكتاب، والجاهل الظالم لا يرى الإحسان إلا إساءةً، ولا الهدى إلا ضلالةً.
فقلْ للعيونِ الرُّمْدِ للشمسِ أعيُنٌ
…
سواكِ تراها في مَغيبٍ ومَطلعِ
وسامِحْ نفوسًا بالقُشور قد ارتضَتْ
…
وليس لها لِلُّب من مُتطلّعِ
(1)
المثال الثاني بعد المائة: اختلف الفقهاء هل يملك البائع حبْسَ السلعة على ثمنها؟ وهل يملك المستأجر حبْسَ العين بعد العمل على الأجرة؟ على ثلاثة أقوال:
أحدها: يملكه في الموضعين، وهو قول مالك وأبي حنيفة
(2)
.
والثاني: لا يملكه في الموضعين، وهو المشهور من مذهب أحمد عند أصحابه.
والثالث: يملك حبْسَ العين المستأجرة على عملها، ولا يملك حبْسَ المبيع على ثمنه. والفرق بينهما أن العمل يجري مجرى الأعيان، ولهذا يقابل بالعوض؛ فصار كأنه شريك
(3)
لمالك العين بعمله، فأثر عمله قائم
(1)
لم أجد البيتين فيما بين يديّ من المصادر، وهما أشبه بشعر المؤلف.
(2)
بعدها في المطبوع: «وهو المختار» . وليست في النسخ.
(3)
ز: «شريكًا» .
بالعين؛ فلا يجب عليه تسليمه قبل أن يأخذ عوضه. بخلاف المبيع؛ فإنه قد
(1)
دخل في ملك المشتري، وصار الثمن في ذمته، ولم يبق للبائع تعلقٌ بالعين.
ومن سوَّى بينهما قال: الأجرة قد صارت في الذمة، ولم يشترط رهن العين عليها، فلا يملك حبسها. وعلى هذا فالحيلة في الحبس في الموضعين حتى يصل إلى [145/أ] حقه: أن يشترط عليه رهن العين المستأجرة على أجرتها، فيقول: رهنتُك هذا الثوب على الأجرة
(2)
، وهي كذا وكذا. وهكذا في المبيع يَشرط على المشتري رهْنَه على ثمنه حتى يسلِّمه إليه، ولا محذورَ في ذلك أصلًا، ولا معنى، ولا مأخذٌ قويّ يمنع صحة هذا الشرط والرهن، وقد اتفقوا أنه لو شرط عليه رهْنَ عينٍ أخرى على الثمن جاز، فما الذي يمنع جواز رهن المبيع على ثمنه؟
ولا فرقَ بين أن يقبضه أو لا يقبضه على أصح القولين. وقد نصّ الإمام أحمد على جواز اشتراط رهن المبيع على ثمنه، وهو الصواب ومقتضى قواعد الشرع وأصوله. وقال القاضي وأصحابه: لا يصح، وعلَّله ابن عقيل بأن المشتري رهن ما لا يملك، فلم يصح، كما لو شرط أن يرهنه عبدًا لغيره يشتريه ويرهنه. وهذا تعليل باطل؛ فإنه إنما حصل الرهن بعد ملكه، واشتراطُه قبل الملك لا يكون بمنزلة رهن الملك.
والفرق بين هذه المسألة وبين اشتراط رهن عبد زيد: أن اشتراط
(3)
(1)
«قد» ليست في ك.
(2)
ك: «أجرته» .
(3)
ز: «اشترط» .
رهنِ عبد زيد غررٌ
(1)
قد يمكن وقد لا يمكن، بخلاف اشتراط رهن المبيع على ثمنه، فإنه إن تمَّ العقد صار المبيع رهنًا، وإن لم يتمَّ تبينَّا أنه لا ثمن يحبس عليه الرهن، فلا غررَ البتةَ؛ فالمنصوص أفقهُ وأصحُّ.
وهذا على أصل من يقول: «للبائع حبسُ المبيع على ثمنه» ألزمُ، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي وبعض أصحاب الإمام أحمد. وهو الصحيح ــ وإن كان خلاف منصوص أحمد ــ لأن عقد البيع يقتضي استواءهما في التسلُّم والتسليم، ففي إجبار
(2)
البائع على التسليم قبل حضور الثمن وتمكينِه من قبضه إضرارٌ به، فإذا ملكَ حبْسَه على ثمنه من غير شرطٍ فلأن يملكه مع الشرط أولى وأحرى. فقول القاضي وأصحابه مخالف لنصِّ أحمد وللقياس. فإن شرطَ أن يقبض المشتري المبيع ثم يرهنه على ثمنه عند بائعه فأولى بالصحة.
وقال ابن عقيل في «الفصول» : الرهن أيضًا باطلٌ؛ لأنهما شرطَا رهنه قبل ملكه، وقد عرفتَ ما فيه. وعلَّله أيضًا بتعليل آخر فقال: إطلاق البيع يقتضي تسليم الثمن من غير المبيع، والرهن يقتضي استيفاءه من عينه إن كان عينًا أو ثمنه إن كان عرضًا، فتضادَّا.
وهذا التعليل أقوى من الأول، وهو الذي أوجب له القول ببطلان الرهن قبل القبض وبعده، فيقال: المحذور من التضادّ إنما هو التدافع، بحيث يدفع كل من المتضادَّينِ المتنافيينِ الآخرَ، فأما إذا لم يدفع أحدهما الآخر فلا محذور، والبائع إنما يستحق ثمن المبيع، وللمشتري أن يؤدّيه إياه من عين
(1)
«غرر» ليست في ك، ب.
(2)
ك: «خيار» ، تحريف.
المبيع ومن غيره، فإن له أن يبيعه ويقبضه ثمنه منه. وغاية عقد الرهن أن يُوجب ذلك، فأيُّ تدافعٍ وأيُّ تنافٍ هنا؟
وأما قوله: «إطلاق العقد يقتضي التسليم للثمن من غير المبيع» ، فيقال: بل إطلاقه يقتضي تسليم الثمن من أي جهة شاء المشتري، حتى لو باعه قفيزَ حنطةٍ بقفيزِ حنطة وسلَّمه إليه، [145/ب] ملكَ أن يوفِّيه إياه ثمنًا كما استوفاه مبيعًا، كما لو اقترض منه ذلك ثم وفّاه إياه بعينه.
ثم قال ابن عقيل: وقد قال الإمام أحمد في رواية بكر بن محمد عن أبيه
(1)
: إذا حبس السلعة ببقية الثمن فهو غاصب، ولا يكون رهنًا إلا أن يكون شرط عليه في نفس البيع الرهنَ. فظاهرُ هذا أنه إن شرط كونَ المبيع رهنًا في حال العقد صحَّ. قال: وليس هذا الكلام على ظاهره ومعناه إلا أن يشرط عليه في نفس البيع رهنًا غير المبيع؛ لأن اشتراط رهنه
(2)
اشتراطُ تعويقٍ للتسليم في المبيع.
قلت: ولا يخفى منافاة ما قاله لظاهر كلام الإمام أحمد، فإن كلام أحمد المستثنى والمستثنى منه في صورة حَبْس المبيع على ثمنه، فقال:«هو غاصب إلا أن يكون شرطَ عليه في نفس البيع الرهنَ» أي: فلا يكون غاصبًا بحبس السلعة بمقتضى شرطه. ولو كان المراد ما حمله عليه لكان معنى الكلام إذا حبس السلعة ببقية الثمن فهو غاصب إلا أن يكون قد شرط له رهنًا آخر غير المبيع يسلِّمه إليه. وهذا كلام لا يرتبط أوله بآخره، ولا يتعلَّق به، فضلًا عن أن يدخل في الأول ثم يستثنى منه، ولهذا جعله أبو البركات ابن
(1)
انظر: «المغني» (6/ 503).
(2)
ز: «اشتراطه رهن» . والمثبت من ك، ب.
تيمية نصًّا في صحة هذا الشرط، ثم قال
(1)
: وقال القاضي: لا يصح.
وأما قوله: «إن اشتراط رهن المبيع تعويقٌ للتسليم في المبيع» ، فيقال: واشتراط التعويق إذا كان لمصلحة البائع، وله فيه غرض صحيح، وقد قدم عليه المشتري فأي محذور فيه؟ ثم هذا يبطل
(2)
باشتراط البائع
(3)
الخيارَ؛ فإن فيه تعويقًا للمشتري عن التصرف في المبيع، وباشتراط المشتري تأجيلَ الثمن؛ فإن فيه تعويقًا للبائع عن تسلُّمه أيضًا، ويبطل على أصل الإمام أحمد وأصحابه باشتراط البائع انتفاعَه بالمبيع مدةً يستثنيها؛ فإن فيه تعويقًا للتسليم، ويبطل أيضًا ببيع العين المُؤجَرة.
فإن قيل: إذا شرطَ
(4)
أن يكون رهنًا قبل قبضه تدافعَ موجب البيع والرهن، فإن موجب الرهن أن يكون تلفُه من ضمان مالكه؛ لأنه أمانة في يد المرتهن، وموجب البيع أن يكون تلفُه قبل التمكُّن من قبضه من ضمان البائع، فإذا تلِفَ هذا الرهن قبل التمكُّن من قبضه، فمن ضمان أيهما يكون؟
قيل: هذا السؤال أقوى من السؤالين المتقدمين، والتدافع فيه أظهر من التدافع في التعليل الثاني، وجواب هذا السؤال أن الضمان قبل التمكُّن من القبض كان على البائع، ولا يُزيل هذا الضمان إلا تمكُّنُ المشتري من القبض، فإذا لم يتمكن من قبضه فهو مضمون على البائع كما كان، وحبسه إياه على ثمنه لا يُدخِله في ضمان المشتري ويجعله مقبوضًا له كما لو حبسه بغير شرط.
(1)
في «المحرر» (1/ 314).
(2)
ك، ب:«يبطلها» .
(3)
«البائع» ليست في ك.
(4)
ك: «اشترط» .
فإن قيل: فأحمد رحمه الله تعالى قد قال: «إنه إذا حبسه على ثمنه كان غاصبًا إلا أن يشترط عليه الرهن» ، وهذا يدل على أنه فرّق في ضمانه بين أن يحبسه بشرط أو يحبسه بغير شرط، وعندكم هو مضمون عليه في [146/أ] الحالين، وهو خلاف النص.
فالجواب: أن الإمام أحمد رحمه الله إنما جعله غاصبًا بالحبس، والغاصب عنده يضمن العين بقيمتها أو مثلها، ثم يستوفي الثمن أو بقيته من المشتري، وأما إذا تلِفَ قبل قبضه فهو من ضمان البائع، بمعنى أنه ينفسخ العقد فيه، ولا يملك مطالبة المشتري بالثمن، وإن كان قد قبضه منه أعاده إليه، فهذا الضمان شيء، وضمان الغاصب شيء آخر.
فإن قيل: فكيف يكون رهنًا وضمانُه على المرتهن؟
قيل: لم يضمنه المرتهن من حيث هو رهن، وإنما ضمِنَه من حيث كونه مبيعًا لم يتمكَّن مشتريه من قبضه، فحقُّ توفيتِه بعدُ على بائعه.
فإن قيل: فما تقولون لو حبس البائع السلعة لاستيفاء حقِّه منها، وهذا يكون في صور:
أحدها
(1)
: أن يبيعه دارًا له فيها متاع لا يمكن نقله في وقت واحد.
والثانية: أن يستثني البائع الانتفاعَ بالمبيع مدة معلومة على أصلكم، أو نحو ذلك، فإذا تلِفتْ في يد البائع قبل تمكُّن المشتري من القبض في هاتين الصورتين هل تكون من ضمانه أو من ضمان البائع؟
(1)
كذا في النسخ.
الثالثة: أن يشترط الخيار ويمنعه من تسليم المبيع قبل انقضاء الخيار.
قيل: الضمان في هذا كله على البائع؛ لأنه لم يدخل تحت يد المشتري، ولم يتمكَّن من قبضه، فلا يكون مضمونًا عليه.
فإن قيل: فهل يكون من ضمانه بالثمن أو بالقيمة؟
قيل: بل يكون مضمونًا عليه بالقيمة
(1)
، بمعنى أن العقد ينفسخ بتلفه؛ فلا يلزم المشتريَ تسليمُ الثمن.
المثال الثالث بعد المائة: إقرار المريض لوارثه بدين باطلٌ عند الجمهور؛ للتهمة، فلو كان له عليه دين ويريد أن تبرأَ ذمتُه منه قبل الموت، وقد علم أن إقراره له باطل، فكيف الحيلة في براءة ذمته ووصولِ صاحب الدين إلى ماله؟ فهاهنا وجوه:
أحدها: أن يأخذ إقرار باقي الورثة بأن هذا الدين على الميت؛ فإن الإقرار إنما بطل لحقّهم، فإذا أقرُّوا به لزِمَهم.
فإن لم تتمَّ هذه الحيلة فله وجه ثانٍ، وهو أن يأتي برجل أجنبي يثِقُ به يقرُّ له بالمال، فيدفعه الأجنبي إلى ربه.
فإن لم تتم هذه الحيلة فله وجه ثالث، وهو أن يشتري منه سلعة بقدر دينه، ويقرّ المريض بقبض الثمن منه، أو يقبض منه الثمن بمحضر الشهود ثم يدفعه إليه سرًّا.
فإن لم تتم هذه الحيلة فليجعل الثمن وديعة عنده، فيكون أمانة فيُقبل
(1)
ك: «بالثمن» .
قوله في تلفه، ويتأول أو يدَّعي ردَّه إليه، والقول قوله.
وله وجه آخر، وهو أن يُحضِر الوارث شيئًا ثم يبيعه من موروثه بحضرة الشهود، ويسلِّمه إليه فيقبضه ويصير ماله، ثم يهبه الموروثُ لأجنبي ويقبضه
(1)
منه، ثم يهبه الأجنبي للوارث، فإذا فعلت هذه الحيلة ليصلَ المريض إلى براءة ذمته، والوارث إلى أخذ دينه= جاز ذلك، وإلا فلا.
المثال [146/ب] الرابع بعد المائة: إذا أحاله بدينه على رجل، فخاف أن يتْوَى ماله على المحال عليه، فلا يتمكَّن من الرجوع على المُحِيل؛ لأن الحوالة تحوِّل الحقَّ وتنقلُه، فله ثلاث حيل:
إحداها: أن يقول: أنا لا
(2)
أحتال، ولكن أكون وكيلًا لك في قبضه، فإذا قبضه فإن استنفقه ثبت له ذلك في ذمة الوكيل، وله في ذمة الموكِّل نظيره، فيتقاصَّان. فإن خاف الموكِّل أن يدَّعي الوكيل ضياع المال من غير تفريط فيعود يطالبه بحقه، فالحيلة له أن يأخذ إقراره بأنه متى ثبت قبضه منه فلا شيء له على الموكل، وما يدَّعي عليه بسبب هذا الحق أو من جهته فدعواه باطلة، وليس هذا إبراءً معلَّقًا بشرط حتى يتوصَّل إلى إبطاله، بل هو إقرار بأنه لا يستحقُّ عليه شيئًا في هذه الحالة.
الحيلة الثانية: أن يشترط عليه أنه إن تَوِي المال رجع عليه، ويصح هذا الشرط على قياس المذهب؛ فإن المحتال إنما قبل الحوالة على هذا الشرط، فلا يجوز أن يلزم بها بدون الشرط، كما لو قَبِل عقد البيع بشرط الرهن أو
(1)
ك، ب:«ويقبض» .
(2)
«لا» ليست في ز.
الضمين أو تأجيل أو الخيار، أو قبل عقد الإجارة بشرط الضمين للأجرة أو تأجيلها، أو قبل عقد النكاح بشرط تأجيل الصداق، أو قبل عقد الضمان بشرط تأجيل الدين الحال على الضامن
(1)
، أو قبل عقد الكفالة بشرط أن لا يلزمه من المال الذي عليه شيء، أو قبل عقد الحوالة بشرط ملاءة المحال عليه وكونه غير محجوب
(2)
ولا مماطل، وأضعاف أضعاف ذلك من الشروط التي لا تُحِلُّ حرامًا، ولا تُحرِّم حلالًا، فإنها جائزٌ اشتراطها لازمُ الوفاءِ بها، كما تقدم تقريره نصًّا وقياسًا.
وقد صرّح أصحاب أبي حنيفة بصحة هذا الشرط في الحوالة، فقالوا ــ واللفظ للخصَّاف
(3)
ــ: يجوز أن يحتال الطالب بالمال على غريم المطلوب على أن
(4)
هذا الغريم إن لم يوفِّ الطالبَ هذا المالَ إلى كذا وكذا فالمطلوب ضامنٌ لهذا المال على حاله، وللطالب أخذُه بذلك، وتقع الحوالة على هذا الشرط، فإن وفَّاه الغريم إلى الأجل الذي يشترطه، وإلا رجع إلى المطلوب وأخذَه بالمال. ثم حكى عن شيخه قال: قلت: وهذا جائز؟ قال: نعم.
الحيلة الثالثة: أن يقول طالب الحق للمحال عليه: اضمَنْ لي هذا الدين الذي على غريمي، ويرضى منه بذلك بدلَ الحوالة، فإذا ضمِنَه تمكَّن من مطالبة أيهما شاء. وهذه من أحسنِ الحيل وألطفِها.
(1)
ك: «المضمون عنه» .
(2)
كذا في جميع النسخ. وفي المطبوع: «محجور» .
(3)
في كتابه «الحيل» (ص 30 - 31).
(4)
«أن» ليست في ز.
المثال الخامس بعد المائة: إذا كان له عليه دينٌ حالٌّ، فاتفقا على تأجيله، وخاف من عليه الدين أن لا يفي له بالتأجيل؛ فالحيلة في لزومه أن يفسخ العقد الذي هو سبب الدين الحالّ، ثم يعقده عليه مؤجلًا، فإن كان عن ضمان أو كان بدلَ مُتلَفٍ أو عن دية وقد حلّت أو نحو ذلك؛ فالحيلة في لزوم التأجيل أن يبيعه سلعةً بمقدار هذا الدين، ويؤجِّل عليه ثمنَها، ثم يبيعه المدين تلك السلعة بالدين الذي [147/أ] أجَّله عليه أولًا، فيبرأ منه، ويثبت في ذمته نظيرُه مؤجَّلًا.
فإن خاف صاحب الحق أن لا يفي له من عليه بأدائه عند كل نجم كما أجَّله؛ فالحيلة أن يشرط عليه أنه إن حلَّ نجمٌ ولم يؤدِّه قسطَه فجميع المال عليه حال، فإذا نجمه على هذا الشرط جاز، وتمكَّن من مطالبته به حالا ومنجمًا عند من يرى لزوم تأجيل الحال ومن لا يراه، أما من لا يراه فظاهر، وأما من يراه فإنه يجوز تأجيله بهذا الشرط، كما صرَّح به أصحاب أبي حنيفة، والله أعلم.
المثال السادس بعد المائة: إذا أراد المريض الذي لا وارثَ له أن يوصي بجميع أمواله
(1)
في أبواب البر، فهل له ذلك؟ على قولين، أصحهما: أنه يملك ذلك؛ لأنه إنما منعه الشارع فيما زاد على الثلث وكان له ورثة، فمن لا وارثَ له لا يُعتَرض عليه فيما صنع في ماله.
فإن خاف أن يُبطِل ذلك حاكم لا يراه، فالحيلة أن يقرَّ لإنسانٍ يثق بدِينه وأمانته بدَين يحيط بماله كله، ثم يوصيه إذا أخذ ذلك المال أن يضعه في
(1)
ك، ب:«ماله» .
الجهات التي يريد.
فإن خاف المقرّ له أن يلزم بيمين باستحقاقه لما أقرَّ له به المريض، اشترى منه المريض عَرضًا من العروض بماله كله، ويسلّم العرض، فإذا حلف المقرُ له حلف بارًّا.
فإن خاف أن يصح فيأخذه البائع بثمن العرض، فالحيلة له أن يشتريَ بشرط الخيار سنة، فإن مات بطل الخيار، وإن عاش فسخ العقد.
فإن كان المال أرضًا أو عقارًا أو أراد أن يُوقِفه جميعَه على قوم يستغلُّونه ولا يمكن إبطاله، فالحيلة أن يقرَّ أن واقفًا وقف ذلك جميعه عليه ومِن بعده على الجهات التي يعيّنها، ويُشهِد على إقراره بأن هذا العقار في يده على جهة الوقف من واقفٍ كان ذلك العقار مِلكًا له إلى حين الوقف، أو يقرَّ بأن واقفًا معينًا وقفه على تلك الجهات، وجعله ناظرًا عليه، فهو في يده على هذا الوجه.
وكذلك الحيلة إذا كان له بنت أو أم أو وارث بالفرض لا يستغرق ماله، ولا عصبةَ له، ويريد أن لا يتعرَّض له السلطان، فله أنواع من المخارج:
منها: أن يبيع الوارث تلك الأعيان، ويقرَّ بقبض الثمن منه، وإن أمكنه أن يُشهِد على قبضه بأن يحضر الوارث مالًا يقبضه إياه، ثم يُعيده إليه سرًّا، فهو أولى.
ومنها: أن يشتري المريض من الوارث سلعة بمقدار التركة من الثمن، ويُشهِد على الشراء، ثم يعيد إليه تلك السلعة، ويرهنه المال كلَّه على الثمن، فإذا أراد السلطان مشاركته قال: وَفُّوني حقّي ثم خُذوا ما فضلَ.
ومنها: أن يبيع ذلك لأجنبي يثِقُ به، ويقرّ بقبض الثمن منه، أو يقبضه بحضرة الشهود، ثم يأذن للأجنبي في تمليكه للوارث أو وقفِه عليه.
ومنها: أن يقرَّ لأجنبي يثق به بما يريد، ثم يأمره بدفع ذلك إلى الوارث.
ولكن في هذه الحيل وأمثالها [147/ب] أمران مَخُوفان، أحدهما: أنه قد يصح فيحال بينه وبين ماله. والثاني: أن الأجنبي قد يدَّعي ذلك لنفسه، ولا يسلِّمه إلى الوارث، فلا خلاصَ من ذلك إلا بوجه واحد، وهو أن يأخذ إقرار الأجنبي، ويُشهِد عليه في مكتوب ثانٍ: أنه متى ادَّعى لنفسه أو لمن يخاف أن يواطئه على المريض أو وارثِه هذا المالَ أو شيئًا منه أو حقًّا من حقوقه كانت دعواه باطلة، وإن أقام به بينةً فهي بينة زورٍ، وأنه لا حقَّ له قِبَل فلان بن فلان ولا وارثِه بوجهٍ ما. ويُمسك الكتابَ عنده، فيأمن هو والوارث ادعاءَ ذلك لنفسه، والله أعلم.
المثال السابع بعد المائة: رجل يكون له الدين، ويكون عليه الدين، فيوكِّل وكيلًا في اقتضاء ديونه، ثم يتوارى عن غريمه، فلا يمكنه اقتضاء دينه منه، فأراد الغريم ممن له الدين على هذا الرجل حيلة يقتضي بها دَينَه منه، ولا يضرُّه تَواري من عليه الدين.
فالحيلة أن يأتي هذا الذي له الدين إلى من عليه الدين، فيقول له: وكَّلتُك بقبض مالي على فلان وبالخصومة فيه، ووكَّلتُك أن تجعل ماله عليك قصاصًا بمالي
(1)
عليه، وأجزتُ أمرَك في ذلك وما عملتَ فيه من شيء، فيقبل الوكيل، ويُشهِد على الوكالة على هذا الوجه شهودًا، ثم يُشهِدهم
(1)
ز: «بمال» .
الوكيل أنه قد جعل الألف درهم التي لفلانٍ عليه قصاصًا بالألف التي لموكِّله على فلان، فيصير الألف قصاصًا، ويتحوَّل ما كان للرجل المتواري على هذا الوكيل للرجل الذي وكَّله.
وهذه الحيلة جائزة؛ لأن الموكِّل أقام الوكيل مقامَ نفسه، والوكيل يقول: مطالبتي لك بهذا الدين كمطالبة موكِّلي به
(1)
، فأنا أطالبك بألفٍ، وأنت تطالبني به، فاجعل الألف الذي تطالبني به عوضًا عن الألف الذي أطالبك به، ولو كانت الألف لي لحصلت المقاصَّة، إذ لا معنى لقبضك للألف مني ثم أدائها إليَّ. وهذا بعينه فيما إذا طالبتُك بها لموكِّلي؛ أنا أستحقُّ عليك أن تدفع إليَّ الألف، وأنت تستحقُّ عليَّ أن أدفع إليك ألفًا، فنتقاصُّ في الألفين
(2)
.
المثال الثامن بعد المائة: رجل له على رجلٍ مال، فغاب الذي عليه المال، فأراد الرجل أن يثبت ماله عليه، حتى يحكم له الحاكم عليه وهو غائب، فليرفعه إلى حاكم يرى الحكم على الغائب. فإن كان حاكم البلد لا يرى الحكم على الغائب، فالحيلة أن يجيء رجل فيضمن لهذا الذي له المال جميعَ مالهِ على الرجل الغائب، ويسمّيه وينسبه، ولا يذكر مبلغ المال، بل يقول: ضمنتُ له جميعَ ما صح أنَّ له في ذمته، ويُشهِد على ذلك، ثم يقدِّمه إلى القاضي، فيقرّ الضامن بالضمان، ويقول: لا أعرف له على فلان شيئًا، فيسأل القاضي المضمونَ له: هل لك بينة؟ فيقول: نعم، فيأمره بإقامتها، فإذا
(1)
«به» ليست في ك، ب.
(2)
ك: «بالألفين» .
شهدت ثبت الحق على الغائب، وحكم على الضمين بالمال، وجعله خصمًا عن الغائب؛ [148/أ] لأنه قد ضمِنَ ما عليه، ولا ينفُذ حكمه على الضامن بثبوت المال على وجه الضمان حتى يحكم على الغائب المضمونِ عنه بالثبوت؛ لأنه هو الأصل، والضامن فرعه، وثبوت الفرع بدون أصله ممتنع.
وهو جائز على أصل أهل العراق، حيث يجوِّزون الحكم على الغائب إذا اتصل القضاء بحاضر محكوم عليه كوكيل الغائب، وكما لو ادَّعى أنه اشترى من غائب شفعة، فإنه يقضي عليه بالبيع وبالشفعة على المدعي، وكهذه المسألة، وكما لو ادَّعت زوجةُ غائبٍ أن له عند فلان وديعةً، فإنه يفرض لها بما في يديه.
المثال التاسع بعد المائة: ليس للمرتهن أن ينتفع بالرهن إلا بإذن الراهن، فإن أذن له كان إباحةً أو عاريةً، له الرجوع فيها متى شاء، ويُقضى له بالأجرة من حين الرجوع في أحد الوجهين؛ فالحيلة في انتفاع المرتهن بالرهن آمنًا من الرجوع ومن الأجرة أن يستأجره منه للمدة التي يريد الانتفاع به فيها، ثم يُبرِئه من الأجرة، أو يقرّ بقبضها، ويجوز أن يردَّ عقد الإجارة على عقد الرهن ولا يُبطِله، كما يجوز أن يرهنه ما استأجره، فيُرَدُّ كلٌّ من العقدين على الآخر، وهو في يده أمانة في الموضعين، وحقُّه متعلق به فيهما، إلا أن الانتفاع بالمرهون مع الإجارة، والرهن بحاله.
المثال العاشر بعد المائة: إذا كان له على رجلٍ مال، وبالمال رهن، فادّعى صاحب الرهن به عند الحاكم
(1)
، فخاف المرتهن أن يقرّ بالرهن،
(1)
ز: «حاكم» .
فيقول الراهن: قد أقررتَ بأن
(1)
لي رهنًا في يدك، وادّعيتَ الدين، فينزعه من يده، ولا يقرّ له بالدين. فقد ذكروا له حيلة تُحرِز
(2)
حقَّه، وهي أن لا يقرَّ له حتى يقرّ له صاحبه بالدين، فإن ادَّعاه وسأل إحلافه أنكر وحلف، وعرَّض في يمينه بأن ينوي أن هذا ليس له قبل ملكه، أو إذا باعه، أو ليس له عاريًا عن تعلُّق الحق به، ونحو ذلك.
وأحسن من هذه الحيلة أن يفصِّل في جواب الدعوى فيقول: إن ادَّعيتَه رهنًا في يدي على ألفٍ لي عليك فأنا مقرٌّ به، وإن ادعيتَه على غير هذا الوجه فلا أقرُّ لك، وينفعه هذا الجواب، كما قالوا فيما إذا ادعى عليه ألفًا، فقال: إن ادَّعيتَها من ثمن مبيع لم أقبضه منك فأنا مقرٌّ، وإلا فلا، وهذا مثله سواء.
فإن كان الغريم هو المدعي للمال فخاف الراهن أن يقرَّ بالمال فيجحد المرتهن الرهن فيلزم الراهنَ المالُ، ويذهب رهنه، فالحيلة في أمنه من ذلك أن يقول: إن ادَّعيتَ هذا المال وأنك تستحقُّه من غير رهنٍ لي عندك فلا أقرُّ به، وإن ادَّعيتَه
(3)
مع كوني رهنتُك به كذا وكذا فأنا مقرٌّ به، ولا يزيد على هذا.
وقالت الحنفية: الحيلة أن يقرَّ منه بدرهم فيقول: لك عليَّ درهم، ولي عندك رهن [148/ب] كذا وكذا، فإذا سأل الحاكم المدَّعيَ عن الرهن، فإما أن يقرَّ به، وإما أن ينكر، فإن أقرّ به فليقرّ له خصمه بباقي دينه، وإن أنكره وحلف عليه وسِعَ الآخرَ أن يجحد باقيَ الدين ويحلف عليه إن كان الرهن
(1)
في النسخ: «بأنه» .
(2)
ك، ب:«تجوز» .
(3)
ك: «ادعيت» .
بقدر الدين أو أكثر منه، وإن كان أقلَّ منه لزمه أن يعطيه ما زاد على قيمة الرهن من حقه. قالوا: لأن الرهن إن كان قد تلفَ بغير تفريطه سقط ما يقابله من الدين، وإن كان قد فرط فيه صارت قيمته دينًا عليه، فيكون قصاصًا بالدين الذي له.
وهذا بناء على أصلين لهم: أحدهما: أن الرهن
(1)
مضمون على المرتهن بأقلِّ الأمرين من قيمته أو قدر الدين. والثاني: جواز الاستيفاء في مسألة الظفر.
المثال الحادي عشر بعد المائة: إذا قال لامرأته: «إن لم أطأْكِ الليلةَ فأنت طالق ثلاثًا» فقالت: «إن وطئتَني الليلةَ فأَمتي حرَّة» ، فالمَخْلص من ذلك أن تبيعه الجارية، فإذا وطئها بعد ذلك لم تعتق؛ لأنها خرجت من ملكها، ثم تستردُّها.
فإن خافت أن يطأ الجارية على قول من لا يرى على الرجل استبراء الأمة التي يشتريها من امرأةٍ كما ذهب إليه بعض الشافعية والمالكية، فالحيلة أن تستردَّها منه عقيبَ الوطء فإن خافت أن لا يرد إليها الجارية ويقيم على ملكها فلا تصل إليها، فالحيلة لها أن تشترط عليه أنه إن لم يرد الجارية إليها عقيبَ الوطء فهي حرة.
فإن خافت أن يملِّكها لغيره تلجئةً فلا يصح تعليق عتقها، فالحيلة لها أن تشترط عليه أنه إن لم يردَّها إليها عقيب الوطء فهي طالق، فهنا تضيق عليه الحيلُ في استدامة ملكها، ولم يجد بدًّا من مفارقة إحداهما.
(1)
ك: «الدين» .
المثال الثاني عشر بعد المائة: إذا أراد الرجل أن يخالع امرأته الحاملَ على سكناها ونفقتها جاز ذلك، وبرئ منهما
(1)
. هذا منصوص أحمد.
وقال الشافعي: لا يصح الخلع، ويجب مهر المثل، واحتج له بأن النفقة لم تجب بعدُ فإنها إنما تجب بعد الإبانة، فقد خالعها بمعدومٍ، فلا يصح، كما لو خالعها على عوض شيء يُتلِفه عليها. وهذا اختيار أبي بكر عبد العزيز.
وقال أصحاب أبي حنيفة: إذا خالعها على أن لا سكنى لها ولا نفقة فلا نفقةَ لها، وتستحقّ عليه السكنى. قالوا: لأن النفقة حقٌّ لها، وقد أسقطته، والسكنى حقٌّ للشارع فلا تسقط بإسقاطها، فيلزمه إسكانها.
قالوا: فالحيلة على سقوط الأجرة عنه أن يشرط الزوج في
(2)
الخلع أن لا يكون عليه مُؤنة السكنى، وأن مُؤنتها تَلزم المرأةَ في مالها، وتجب أجرة المسكن
(3)
عليها.
فإن قيل: لو أبرأت المرأة زوجها عن
(4)
النفقة قبل أن تصير دينًا في ذمته لم يصح، ولو شرط في عقد الخلع براءة الزوج عن
(5)
النفقة صح.
قيل: الفرق بينهما أن الإبراء إذا شرط في الخلع [149/أ] كان إبراءً
(1)
ز: «منها» .
(2)
ك: «أن» .
(3)
ك: «السكنى» .
(4)
ك: «من» .
(5)
ك: «من» .
بعوض، والإبراء بعوضٍ استيفاء لما وقعت البراءة عنه؛ لأن العوض قائم مقام ما وقعت البراءة عنه، والاستيفاء يجوز قبل الوجوب بدليل ما لو تسلَّفتْ نفقةَ شهرٍ جملة. وأما الإبراء من النفقة في غير الخلع
(1)
قبل ثبوتها فهو إسقاط لما لم يجب، فلا يسقط، كما لو أسقطت حقَّها من القَسْم فإن لها أن ترجع فيه متى شاءت.
وأما قول صاحب «المحرر»
(2)
: «وقيل: إن أوجبنا نفقة الزوجة بالعقد صح، وإلا فهو خلعٌ بمعدوم، وقد بينّا حكمه» ، يعني إن قلنا: إن نفقة الحامل نفقة زوجة
(3)
، وإن النفقة لها من أجل الحمل، وإنها تجب بالعقد، فيكون خلعًا بشيء ثابت، وإن قلنا: إن النفقة إنما تجب بالتمكين فقد زال التمكين بالخلع، وصارت النفقة نفقة قريب، فالخلع بنفقة الزوجة حينئذٍ خلعٌ بمعدوم. هذا أقربُ ما يتوجَّه به كلامه، وفيه ما فيه، والله أعلم.
المثال الثالث عشر بعد المائة: إذا وقع الطلاق الثلاث بالمرأة، وكان دينها ودين وليها وزوجها المطلق أعزَّ عليهم من التعرُّض للعنة الله ومَقْته بالتحليل، الذي لا يُحِلُّها ولا يُطيِّبها بل يزيدها خبثًا، فلو أنها أخرجت من مالها ثمنَ مملوك فوهبته لبعض من تثق به فاشترى به مملوكًا ثم خطبها على مملوكه فزوَّجها منه فدخل بها المملوك ثم وهبَه إياها
(4)
انفسخ النكاح،
(1)
«في غير الخلع» ليست في ز.
(2)
(2/ 46).
(3)
ك، ب:«زوج» .
(4)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «وهبها إياه» .
ولم يكن هناك تحليل مشروط ولا منويٌّ ممن تؤثِّر نيتُه وشرطه، وهو الزوج؛ فإنه لا أثر لنية الزوجة ولا الولي، وإنما التأثير لنية الزوج الثاني
(1)
، فإنه إذا نوى التحليل كان محللًا فيستحقُّ اللعنة، ثم يستحقُّها الزوج المطلّق إذا رجعت إليه بهذا النكاح الباطل. فأما إذا لم يعلم الزوج الثاني ولا الأول بما في قلب المرأة أو وليها من نية التحليل لم يضرّ ذلك العقد شيئًا. وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم من امرأة رفاعة أنها كانت تريد أن ترجع إليه، ولم يجعل ذلك مانعًا من رجوعها إليه، وإنما جعل المانع عدم وطء الثاني، فقال:«حتى تذوقي عُسَيلتَه ويذوق عُسَيلتكِ»
(2)
.
وقد صرَّح أصحابنا بأن ذلك يُحِلُّها، فقال صاحب «المغني»
(3)
قلت: وهذه الصورة غير الصورة التي منع منها الإمام أحمد، فإنه منع من حلِّها إذا كان الزوج المطلق قد اشترى العبد وزوَّجه بها بإذن وليها ليُحِلَّها، فهذه حيلة لا تجوز عنده، وأما هذه المسألة فليس للزوج الأول ولا للثاني فيها نية، ومع هذا فيُكْره؛ لأنها نوع حيلة.
المثال الرابع عشر بعد المائة: قال عبد الله بن أحمد في «مسائله»
(4)
: سألتُ أبي عن رجل قال لامرأته: أنتِ طالق إن لم أجامعكِ اليوم، وأنتِ
(1)
«الزوجة
…
الزوج الثاني» ليست في ك.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
(10/ 551).
(4)
(ص 361).
طالق [149/ب] إن اغتسلتُ منكِ اليوم، فقال: يصلِّي العصر ثم يجامعها، فإذا غابت الشمس اغتسل إن لم يكن أراد بقوله «اغتسلتُ» المجامعةَ.
ونظير هذا أيضًا ما نصَّ
(1)
في رجلٍ قال لامرأته: أنتِ طالق إن لم أطأكِ في رمضان، فسافر مسيرةَ أربعة أيام أو ثلاثة ثم وطئها، فقال: لا يعجبني؛ لأنها حيلة، ولا يعجبني الحيلة
(2)
في هذا، ولا في غيره.
قال القاضي
(3)
: إنما كره الإمام أحمد هذا لأن السفر الذي يبيح الفطر لا بدَّ أن يكون سفرًا مقصودًا مباحًا، وهذا لا يقصد به غير حلِّ اليمين.
قال الشيخ أبو محمد المقدسي
(4)
: والصحيح أن هذا تنحلُّ به اليمين، ويُباح له الفطر فيه؛ لأنه سفر بعيد مباح لقصدٍ صحيح، وإرادة حلِّ يمينه من المقاصد الصحيحة. وقد أَبحنا لمن له طريقان: قصيرة لا يقصر فيها وبعيدة= أن يسلك البعيدة؛ ليقصر فيها الصلاة ويفطر، مع أنه لا قصدَ له سوى الترخُّص
(5)
، فهاهنا أولى.
قلت: ويؤيد اختيارَ الشيخ ــ قدَّس الله روحه ــ ما رواه الخطيب في كتاب «الفقيه والمتفقه»
(6)
: أبنا الأزهري أبنا سهل بن أحمد ثنا محمد بن
(1)
في المصدر السابق (ص 334).
(2)
«ولا يعجبني الحيلة» ساقطة من ك، ب.
(3)
كما في «المغني» (10/ 546).
(4)
في «المغني» (10/ 546).
(5)
ز: «الرخص» . والمثبت من النسخ الأخرى موافق لما في «المغني» .
(6)
(2/ 411). ومحمد بن محمد بن الأشعث عنده نسخة مكذوبة عن علي، انظر:«الكامل» (7/ 565).
محمد بن الأشعث الكوفي حدثني موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم حدثنا أبي عن أبيه عن جده جعفر بن محمد عن أبيه عن علي في رجلٍ حلفَ فقال: امرأته طالق ثلاثًا إن لم يطأها في شهر رمضان نهارًا، قال: يسافر ثم يجامعها نهارًا.
المثال الخامس عشر بعد المائة: في المخارج من الوقوع في التحليل الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير وجهٍ فاعلَه والمطلِّقَ المحلَّلَ
(1)
له، فأيُّ قول من أقوال المسلمين خرج به من لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعذرَ عند الله ورسوله وملائكته وعباده المؤمنين من ارتكابه لما يلعن عليه، ومَباءتِه باللعنة؛ فإن هذه المخارج التي نذكرها دائرةٌ بين ما دلَّ عليه الكتاب والسنة أو أحدهما، أو أفتى به الصحابة بحيث لا يُعرف عنهم فيه خلاف، أو أفتى به بعضهم، أو هو خارج على أقوالهم، أو هو قول جمهور الأمة
(2)
أو بعضهم، إمّا من الأئمة الأربعة أو أتباعهم أو غيرهم من علماء الإسلام. ولا تَخرج هذه التي نذكرها عن ذلك، فلا يكاد يُوصل إلى التحليل بعد مجاوزة جميعها إلا في أندر النادر. ولا ريبَ أن من نصحَ الله ورسوله وكتابه ودينه، ونصحَ نفسَه ونصحَ عباده، أن أيًّا منها ارتكب فهو أولى من التحليل.
المخرج الأول: أن يكون المطلِّق أو الحالف زائل العقل إما بجنون أو إغماء أو شرب دواء أو شرب مسكر يُعذَر به أو لا يُعذَر أو وسوسة، وهذا
(1)
ك: «المحل» .
(2)
ك: «الأئمة» .
المخلص مجمع عليه بين الأمة إلا في شرب مسكر لا يُعذَر به
(1)
، فإن المتأخرين من الفقهاء اختلفوا فيه، والثابت عن الصحابة الذي لا يُعلم فيه خلاف بينهم أنه لا يقع طلاقه.
قال البخاري في «صحيحه»
(2)
: باب الطلاق في الإغلاق [150/أ] والمُكْرَه والسكران والمجنون وأمرهما، والغلط والنسيان في الطلاق والشرك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم «الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى» ، وتلا الشعبي {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وما لا يجوز من إقرار الموسوس، وقال النبي صلى الله عليه وسلم للذي أقرَّ على نفسه:«أبكَ جنونٌ»
(3)
. وقال علي: بقَرَ حمزةُ خَواصرَ شارِفَيّ
(4)
فطفِقَ النبي صلى الله عليه وسلم يلوم حمزة، فإذا حمزة قد ثَمِل محمرَّةٌ عيناه، ثم قال حمزة: هل أنتم إلا عبيدٌ لآبائي؟ فعرف النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد ثَمِل، فخرج وخرجنا معه
(5)
. وقال عثمان: ليس لمجنونٍ ولا لسكرانَ طلاقٌ
(6)
. وقال ابن عباس: طلاق السكران والمستكره ليس
(1)
ز: «فيه» .
(2)
(9/ 388 - مع الفتح).
(3)
رواه البخاري (6815، 6825، 7167) ومسلم (1691) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
الشارف: المسنّ من الإبل. وبقَرَ: شقَّ.
(5)
روى هذه القصة البخاري (3091، 4003) ومسلم (1979).
(6)
رواه ابن أبي شيبة (18209) وسعيد بن منصور (1112) والطحاوي في «مشكل الآثار» (12/ 243) والبيهقي (7/ 359) من طريق ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن أبان بن عثمان، عن عثمان. وإسناده صحيح، وقد علقه البخاري بصيغة الجزم كما ذكره المصنف هنا، وصححه العيني (20/ 252).
بجائز
(1)
. وقال عقبة بن عامر: لا يجوز طلاق الموسوس
(2)
.
هذا لفظ الترجمة، ثم ساق بقية الباب، ولا يُعرف عن رجل من الصحابة أنه خالف عثمان وابن عباس في ذلك، ولذلك
(3)
رجع الإمام أحمد إلى هذا القول بعد أن كان يفتي بنفوذ طلاقه.
فقال أبو بكر عبد العزيز
(4)
في كتاب «الشافي» و «الزاد» : قال أبو عبد الله في رواية الميموني: قد كنت أقول إن طلاق السكران يجوز، حتى تبيَّنتُه، فغلب عليَّ أنه لا يجوز طلاقه؛ لأنه لو أقرَّ لم يلزمه، ولو باع لم يجزْ بيعه. قال: وأُلزمه الجنايةَ، وما كان من غير ذلك فلا يَلزَمُه. قال أبو بكر: وبهذا أقول.
وفي «مسائل الميموني» : سألت أبا عبد الله عن طلاق السكران، فقال: أكثر ما عندي فيه أنه لا يلزمه الطلاق. قلت: أليس كنت مرة تخاف أن يلزمه؟ قال: بلى ولكن أكثر ما عندي فيه أنه لا يلزمه؛ لأني رأيته ممن لا يعقل. قلت: السكر شيء أدخلَه على نفسه، فلذلك يلزمه، قال: قد يشرب
(1)
رواه عبد الرزاق (11408) وابن أبي شيبة (18331) وسعيد بن منصور (1143) والبيهقي (7/ 385) من طرق عن ابن عباس، وإسناده صحيح، وقد علقه البخاري بالجزم.
(2)
لم أجده، وبيَّض له الحافظ في «تغليق التعليق» (4/ 455). وفي ز:«المسوس» ، خطأ.
(3)
ك، ب:«وكذلك» .
(4)
غلام الخلّال المتوفى سنة 363. له «الشافي» و «زاد المسافر».
الرجل البَنْج
(1)
أو الدواء فيذهب عقلُه، قلت: فبيعه وشراؤه وإقراره؟ قال: لا يجوز.
وقال في رواية أبي الحارث: أرفعُ شيءٍ فيه حديث الزهري عن أبان بن عثمان عن عثمان: ليس لمجنونٍ ولا سكرانَ طلاقٌ
(2)
.
وقال في رواية أبي طالب: والذي لا يأمر بالطلاق فإنما أتى خصلةً واحدة، والذي يأمر بالطلاق قد أتى خصلتين: حرَّمها عليه، وأحلَّها لغيره، فهذا خير من هذا، وأنا أتَّقي جميعًا.
وممن ذهب إلى القول بعدم نفوذ طلاق السكران من الحنفية: أبو جعفر الطحاوي وأبو الحسن الكرخي، وحكاه صاحب «النهاية»
(3)
عن أبي يوسف وزفر.
ومن الشافعية: المزني وابن سُريج وجماعة ممن اتبعهما، وهو الذي اختاره الجويني في «النهاية»
(4)
. والشافعي نصَّ على وقوع طلاقه، ونصَّ في أحد قوليه على أنه لا يصح ظهاره. فمن أتباعه من نقلَ من الظهار قولًا إلى الطلاق، وجعلَ المسألة على قولين، ومنهم من قرَّر حكم النصين، ولم يفرِّق بطائلٍ.
(1)
جنس نباتات طبية مخدّرة من الفصيلة الباذنجانية.
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
«نهاية المطلب» (14/ 168). وليس فيه ذكر زفر.
(4)
المصدر نفسه.
والصحيح أنه لا عبرةَ بأقواله من طلاق، ولا عتاق، ولا بيع، [150/ب] ولا هبة، ولا وقف، ولا إسلام، ولا ردّة، ولا إقرار؛ لبضعة عشر دليلًا ليس هذا موضع ذكرها
(1)
، ويكفي منها قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، وأمرُ النبي صلى الله عليه وسلم باستنكاه ماعز لما أقرَّ بالزنا بين يديه، وعدمُ أمرِ النبي صلى الله عليه وسلم حمزة بتجديد إسلامه لما قال في سكره:«أنتم عبيد لآبائي» ، وفتوى عثمان وابن عباس، ولم يخالفهما أحد من الصحابة، والقياس الصحيح المحض على زائل العقل بدواء أو بَنْجٍ أو مسكر هو فيه معذور، ومقتضى قواعد الشريعة؛ فإن السكران لا قصدَ له؛ فهو أولى بعدم المؤاخذة من اللاغي ومَن جَرى اللفظُ على لسانه من غير قصدٍ له. وقد صرَّح أصحاب أبي حنيفة بأنه لا يقع طلاق الموسوس، وقالوا: لا يقع طلاق المعتوه، وهو من كان قليل الفهم مختلط الكلام فاسد التدبير، إلا أنه لا يضرب ولا يشتم كما يفعل المجنون.
فصل
المخرج الثاني: أن يطلِّق أو يحلف في حال غضب شديد قد حال بينه وبين كمال قصده وتصوره؛ فهذا لا يقع طلاقه ولا عتقُه ولا وقفُه، ولو بَدرتْ منه كلمة الكفر في هذا الحال لم يكفر، وهذا نوع من الغلق والإغلاق الذي منع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوعَ الطلاق والعتاق فيه، نصَّ على ذلك الإمام أحمد وغيره.
قال أبو بكر عبد العزيز في كتاب «زاد المسافر» له: باب في الإغلاق
(1)
انظر: «مجموع الفتاوى» (33/ 106 - 109) و «زاد المعاد» (5/ 190 - 195).
في الطلاق، قال أحمد في رواية حنبل: وحديث عائشة رضي الله عنها سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «لا طلاقَ ولا عتاقَ في إغْلاقٍ»
(1)
يعني الغضب. وبذلك فسَّره أبو داود في «سننه»
(2)
عقيبَ ذكره الحديث، فقال: والغلاق أظنُّه في الغضب.
وقسَّم شيخ الإسلام ابن تيمية الغضب إلى ثلاثة أقسام
(3)
:
قسم يُزيل العقل كالسكر، فهذا لا يقع معه طلاق بلا ريب.
وقسم يكون في مبادئه بحيث لا يمنعه من تصوُّر ما يقول وقصْدِه، فهذا يقع معه الطلاق.
وقسم يشتدُّ بصاحبه، ولا يبلغ به زوال عقله، بل يمنعه من التثبُّت والتروِّي ويُخرِجه عن حال اعتداله، فهذا محلُّ اجتهاد.
والتحقيق أن الغَلَق يتناول كلَّ من انغلق عليه طريقُ قصْدِه وتصوُّره، كالسكران والمجنون والمُبَرْسَم والمُكْرَه والغضبان، فحال هؤلاء كلهم حال إغلاق، والطلاق إنما يكون عن وَطَرٍ؛ فيكون عن قصدٍ من المطلِّق وتصوُّرٍ لما يقصده، فإن تخلَّف أحدهما لم يقع طلاقه. وقد نصَّ مالك والإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه فيمن قال لامرأته:«أنتِ طالق ثلاثًا» ثم قال: أردتُ أن أقول: إن كلَّمتِ فلانًا، أو خرجتِ من بيتي بغير إذني، ثم
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
رقم (2193).
(3)
نحوه في «زاد المعاد» (5/ 196) و «إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان» (ص 20 - 21).
بدا لي فتركتُ اليمين، ولم أُرِد التنجيز في الحال= أنه
(1)
لا تطلَّق عليه. وهذا هو الفقه بعينه؛ لأنه لم يُرِد التنجيز، ولم [151/أ] يُتمَّ اليمين.
وكذلك لو أراد أن يقول: «أنت طاهر» ، فسبق لسانه فقال:«أنتِ طالق» لم يقع طلاقه، لا في الحكم الظاهر، ولا فيما بينه وبين الله عز وجل، نصَّ عليه الإمام أحمد في إحدى الروايتين، والثانية: لا يقع فيما بينه وبين الله، ويقع في الحكم. وهذا إحدى الروايتين عن أبي يوسف.
وقال ابن أبي شيبة
(2)
: حدثنا محمد بن مروان عن عُمارة سئل جابر بن زيد عن رجل غلِطَ بطلاق امرأته، فقال: ليس على المؤمن غلطٌ. حدثنا وكيع عن إسرائيل [عن جابر] عن عامر في رجل أراد أن يتكلم في شيء فغلِطَ، فقال الشعبي: ليس بشيء.
فصل
المخرج الثالث: أن يكون مُكرَهًا على الطلاق أو الحلف به عند جمهور الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وهو قول أحمد ومالك والشافعي وجميع أصحابهم، على اختلاف بينهم في حقيقة الإكراه وشروطه.
قال الإمام أحمد في رواية أبي طالب: يمين المستكْرَه إذا ضُرِب، ابنُ عمر وابنُ الزبير لم يرياه شيئًا
(3)
.
(1)
مفعول «نصَّ» قبل ثلاثة أسطر.
(2)
في «المصنّف» (18541، 18542). والزيادة بين المعكوفتين منه.
(3)
رواه مالك (2/ 587) وعبد الرزاق (11410 - 11413) والبيهقي (7/ 358) من طرق عنهما، والأثر صحيح.
وقال في رواية أبي الحارث: إذا طلَّق المكره لم يلزمه الطلاق، إذا فُعِل به كما فُعِل بثابت بن الأحنف فهو مكره؛ لأن ثابتًا عصروا رجلَه حتى طلَّق، فأتى ابن عمر وابن الزبير فلم يريا ذلك شيئًا
(1)
. وكذا قال الله عز وجل: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106].
وقال الشافعي
(2)
: قال الله عز وجل: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} ، وللكفر أحكام، فلما وضعها الله تعالى عنه سقطتْ أحكام الإكراه عن القول كله؛ لأن الأعظم إذا سقط عن الناس سقط ما هو أصغر منه.
وفي «سنن ابن ماجه» و «سنن البيهقي»
(3)
من حديث بشر بن بكر عن الأوزاعي عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله وَضَع عن أمتي» ــ وقال البيهقي: «تجاوز لي عن أمتي ــ الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» .
وفي «الصحيحين»
(4)
من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1)
هو الأثر المذكور في رواية أبي طالب.
(2)
في كتاب «الأم» (4/ 496).
(3)
رواه ابن ماجه (2045) وابن حبان (7219) والحاكم (2/ 216) والبيهقي (7/ 356)، وصححه ابن حبان والحاكم، وقال البيهقي:«جوَّد إسناده بشر بن بكر وهو من الثقات ، ورواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي فلم يذكر في إسناده عبيد بن عمير» . وانظر: «الصحيحة» (28).
(4)
البخاري (6664) ومسلم (127).
«إن الله تجاوز لأمتي ما تُوسوِس به صدورُها، ما لم تعملْ به أو تتكلَّمْ به» . زاد ابن ماجه
(1)
وقال الشافعي
(2)
: روى حماد بن سلمة عن حُميد عن الحسن أن عليًّا رضي الله عنه قال: لا طلاق لمُكْرَهٍ
(3)
.
وذكر الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير أن
(4)
ابن عباس لم يُجِز طلاق المكره
(5)
.
وذكر أبو عبيد
(6)
عن علي وابن عباس وابن عمر وابن الزبير وعطاء وعبد الله بن عبيد بن عمير أنهم كانوا يرون طلاقه غير جائز.
وقال ابن أبي شيبة
(7)
: حدثنا [هُشَيم عن] عبد الله بن طلحة
(8)
عن أبي يزيد المديني عن ابن عباس قال: ليس لمكْرَهٍ ولا مضطَهَدٍ طلاقٌ.
(1)
رقم (2044).
(2)
في كتاب «الأم» (8/ 433).
(3)
رواه عبد الرزاق (11414) وابن أبي شيبة (18331) والبيهقي (7/ 357) من طريق حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن، وهو ضعيف لعدم سماع الحسن من علي.
(4)
في النسخ: «أو» . والمثبت من المطبوع.
(5)
تقدم تخريجه.
(6)
في «غريب الحديث» (3/ 323). وتقدم تخريج أكثر هذه الآثار.
(7)
في «المصنَّف» (18330) ومنه الزيادة بين معكوفتين.
(8)
في النسخ: «بن أبي طلحة» . والمثبت من «المصنف» ، وهو الصواب.
وحدثنا أبو معاوية عن عبيد الله بن عمر
(1)
عن ثابت مولى أهل المدينة عن ابن عمر وابن الزبير كانا لا يريان طلاقَ المكره شيئًا
(2)
.
حدثنا وكيع عن الأوزاعي عن رجل عن عمر بن الخطاب [151/ب]رضي الله عنه أنه لم يره شيئًا
(3)
.
قلت: قد اختُلِف على عمر، فقال إسماعيل بن أبي أويس: حدثني عبد الملك بن قُدامة بن إبراهيم الجمحي عن أبيه أن رجلًا تدلَّى يَشتارُ عسلًا
(4)
في زمن عمر رضي الله عنه، فجاءته امرأته فوقفت على الحبل، فحلفتْ لتقطعنَّه أو لتطلِّقني ثلاثًا، فذكَّرها الله والإسلامَ، فأبتْ إلا ذلك، فطلَّقها ثلاثًا. فلما ظهر أتى عمر، فذكر له ما كان منها إليه ومنه إليها، فقال: ارجعْ إلى أهلك، فليس هذا بطلاق
(5)
. تابعه عبد الرحمن بن مهدي عن عبد الملك، وهو المشهور عن عمر.
وقال أبو عبيد
(6)
: حدثني يزيد عن عبد الملك بن قدامة عن أبيه عن
(1)
في المطبوع: «عمير» خلاف ما في جميع النسخ و «المصنَّف» .
(2)
«المصنَّف» (18333).
(3)
المصدر السابق (18334).
(4)
أي يجتني عسلًا.
(5)
رواه سعيد بن منصور (1128) والبيهقي (7/ 357) من طريق أبي قدامة بن إبراهيم، عن عمر، وهو منقطع بين قدامة وعمر، قاله الحافظ في «التلخيص» (3/ 216).
(6)
في «غريب الحديث» (3/ 322) وهو منقطع. انظر: «مسند الفاروق» (1/ 416). ورواه ابن حزم في «المحلى» (10/ 203) من طريق سعيد بن منصور (1129): نا فرج بن فضالة حدثني عمرو بن شراحيل المعافري أن امرأة سلَّتْ سيفًا فوضعته على بطن زوجها وقالت: والله لأنفذنك أو لتطلقني، فطلقها ثلاثًا، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب، فشتمها وسألها عما حملها عليه، فقالت: بُغضي إياه، فأمضى طلاقها. وهو منقطع أيضًا. وضعَّف ابن حزم (8/ 332) إمضاء طلاق المكره عن عمر.
عمر بهذا، لكنه قال: فرُفِع إلى عمر فأبانَها منه.
قال أبو عبيد
(1)
: وقد رُوي عن عمر خلافه.
ولم يصحَّ عن أحد من الصحابة تنفيذُ طلاق المكره سوى هذا الأثر عن عمر
(2)
، وقد اختُلِف فيه عنه، والمشهور أنه ردَّها إليه، ولو صحَّ «فأبانَها منه» لم يكن صريحًا في الوقوع، بل لعله رأى من المصلحة التفريقَ بينهما، وأنهما لا يتصافيانِ بعد ذلك، فألزمه بإبانتها.
ولكنْ الشعبي
(3)
وشريح
(4)
وإبراهيم
(5)
يجيزون طلاق المكره، حتى
(1)
في «غريب الحديث» (3/ 323).
(2)
قال ابن حزم في «المحلى» (8/ 332): «وصح إجازة طلاق المكره أيضًا عن ابن عمر. وروي عن عمر وعلي ولم يصح عنهما» .
(3)
رواه ابن أبي شيبة (18343) وسعيد بن منصور (1135) من طريق سيار، عن الشعبي، قال: قيل له: إنهم يزعمون أنك لا ترى طلاق المكره شيئا، فقال: أنتم تكذبون عليّ
…
، وإسناده صحيح. وله طريق آخر عند عبد الرزاق (11419).
(4)
رواه ابن أبي شيبة (18347) من طريق عبد الله بن المبارك، عن رجل قد سماه، عن ابن سيرين، عن شريح، وهو ضعيف لإبهام الرجل. وصحح ابن حزم (8/ 332) عنه عدمَ الاعتداد.
(5)
رواه عبد الرزاق (11419) وابن أبي شيبة (18049) وسعيد بن منصور (1134) من طريق مغيرة والأعمش، عن إبراهيم: طلاق المكره جائز. وإسناده صحيح. وكان إبراهيم يعلّله بقوله كما نقله عنه الأعمش في نفس هذا الأثر: إنما هو شيء افتدى به نفسه. وروى سعيد بن منصور (1147) أنه كان يرى طلاق السلطان واللصوص جائزًا.
قال إبراهيم: لو وُضِع السيف على مَفرِقه ثم طلَّق لأجزتُ طلاقه
(1)
.
وفي المسألة مذهب ثالث: قال ابن أبي شيبة
(2)
: حدثنا ابن إدريس عن حُصين عن الشعبي في الرجل يُكْره على أمر من أمر العتاق أو الطلاق، فقال: إذا أكرهه السلطان جاز، وإذا أكرهه اللصوصُ لم يجز.
ولهذا القول غَورٌ وفقهٌ دقيق لمن تأمَّله.
فصل
واختلفوا في المكره يظنُّ أن الطلاق يقع به فينويه، هل يلزمه؟ على قولين، وهما وجهان للشافعية. فمن ألزمه رأى أن النية قد قارنت
(3)
اللفظ، وهو لم يكره على النية، فقد أتى بالطلاق المنويّ اختيارًا فلزِمه. ومن لم يُلزِمه رأى أن لفظ المكره لغو لا عبرةَ به، فلم يبقَ إلا مجرد النية، وهي لا تستقلُّ بوقوع الطلاق.
فصل
واختُلِف فيما لو أمكنه التورية فلم يُورِّ، والصحيح أنه لا يقع به طلاق
(1)
رواه ابن أبي شيبة (18045) من طريق حفص بن غياث، عن ليث، عن حماد، عن إبراهيم، فيه ليث وهو ابن أبي سليم، وفيه لين.
(2)
في «المصنَّف» (18350). ورواه أيضًا عبد الرزاق (11422) وسعيد بن منصور (1136، 1137) من طرق عن حُصين عنه. وإسناده صحيح.
(3)
ك: «قاربت» ، تصحيف.
وإن تركها؛ فإن الله سبحانه لم يوجب التورية على من أكره على كلمة الكفر وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان، مع أن التورية هناك أولى.
ولأن المكره إنما لم
(1)
يعتبر لفظه لأنه غير قاصدٍ لمعناه، ولا مريد لموجبه، وإنما تكلم به فداءً لنفسه من ضرر الإكراه، فصار تكلُّمه باللفظ لغوًا بمنزلة كلام المجنون والنائم ومن لا قصدَ له، فسواءٌ ورَّى أو لم يُورِّ.
وأيضا فاشتراط التورية إبطال لرخصة التكلُّم مع الإكراه، ورجوع إلى القول بنفوذ طلاق المكره؛ فإنه لو ورَّى بغير إكراه لم يقع طلاقه، فالتأثير إذًا إنما هو للتورية لا للإكراه، وهذا باطل.
وأيضًا فإن المورِّي إنما لم يقع طلاقه مع قصده للتكلُّم باللفظ؛ لأنه لم يقصد مدلوله، وهذا المعنى بعينه [152/أ] ثابت في الإكراه، فالمعنى الذي منع من النفوذ في التورية هو الذي منع من
(2)
النفوذ في الإكراه.
فصل
المخرج الرابع: أن يستثني في يمينه أو طلاقه، وهذا موضع اختلف فيه الفقهاء:
فقال الشافعي وأبو حنيفة: يصح الاستثناء في الإيقاع والحلف، فإذا قال:«أنتِ طالق إن شاء الله» أو «أنتِ حرة إن شاء الله» أو «إن كلَّمتِ فلانًا فأنتِ طالق إن شاء الله»
(3)
كلَّمتُ فلانًا فأنتِ طالقٌ إن شاء الله»
(1)
أو «أنتِ عليَّ حرام أو الحرام يلزمني إن شاء الله» نفعه الاستثناء، ولم يقع به طلاق في ذلك كله.
ثم اختلفا في الموضع الذي يُعتبر فيه الاستثناء، فاشترط أصحاب أبي حنيفة اتصالَه بالكلام فقط، سواء نواه من
(2)
أوله أو قبل الفراغ من كلامه أو بعده.
وقال أصحاب الشافعي: إن عقَدَ اليمين ثم عنَّ له الاستثناء لم يصحّ، وإن عنَّ الاستثناء في أثناء اليمين فوجهان؛ أحدهما: يصح، والثاني لا يصح، وإن نوى الاستثناء مع عقد اليمين صحَّ وجهًا واحدًا.
وقد ثبت بالسنة الصحيحة أن سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام قال: لأطوفنَّ الليلةَ على كذا وكذا امرأة، تحملُ كل امرأة منهن غلامًا يقاتل في سبيل الله، فقال له الملك الموكَّل به: قلْ إن شاء الله، فلم يقل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«والذي نفسي بيده، لو قالها لقاتلوا في سبيل الله فُرسانًا أجمعون»
(3)
. وهذا صريح في نفع الاستثناء المقصود بعد عقد اليمين.
وثبت في «السنن» عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والله لأغزونَّ قريشًا، والله لأغزونَّ قريشًا، والله لأغزونَّ قريشًا» ، ثم سكت قليلًا ثم قال:«إن شاء الله» . ثم لم يغزُهم. رواه أبو داود
(4)
.
(1)
تكررت هذه الجملة في النسخ. ولعل «كلمت» الأولى بصيغة الخطاب والثانية بصيغة التكلم.
(2)
«أصحاب
…
نواه من» ساقطة من ك.
(3)
رواه البخاري (2819، 6639) ومسلم (1654) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
برقم (3285، 3286). وتقدم تخريجه.
وفي «جامع الترمذي»
(1)
من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمينٍ فقال إن شاء الله فلا حِنْثَ عليه» . وقد قال تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 23 - 24].
فهذه النصوص الصحيحة لم يُشترط في شيء منها البتَّةَ
(2)
في صحةِ الاستثناء ونفْعِه أن ينويَه مع الشروع في اليمين ولا قبلها، بل حديث سليمان صريح في خلافه. وكذلك حديث «لأغزونَّ قريشًا» ، وحديث ابن عمر يتناول
(3)
لكل من قال إن شاء الله بعد يمينه، نوى الاستثناء قبل الفراغ أو لم ينوِه. والآية دالة على نفع الاستثناء
(4)
مع النسيان أظهر دلالة. ومَن شَرَط النية قبل الفراغ لم يكن لذكر الاستثناء بعد النسيان عنده تأثير.
وأيضًا فالكلام بآخره، وهو كلام متصل بعضه ببعض، فلا معنى
(1)
رقم (1531). ورواه أيضًا أحمد (4510، 4581، 5093) والدارمي (2388) وأبو داود (3261) والنسائي (3793) وابن ماجه (2106) مرفوعًا، وأخرجه مالك (2/ 477) وعبد الرزاق (16111 - 16114) والبيهقي (10/ 46) موقوفًا. قال الترمذي:«وقد رواه عبيد الله بن عمر وغيره، عن نافع، عن ابن عمر موقوفًا. وهكذا روي عن سالم، عن ابن عمر موقوفًا. ولا نعلم أحدًا رفعه غير أيوب السختياني، وقال إسماعيل بن إبراهيم: وكان أيوب أحيانًا يرفعه، وأحيانًا لا يرفعه» ، ورجح الوقف أحمد كما في «التتبع» للدارقطني (ص 13) والبخاري كما في «العلل الكبير» (ص 272) والبيهقي. وانظر تعليق محققي «المسند» على الحديث (8088).
(2)
ز: «النية» .
(3)
كذا في النسخ، وفي المطبوع:«متناول» .
(4)
«قبل الفراغ
…
الاستثناء» ساقطة من ك.
لاشتراط النية في أجزائه وأبعاضه.
وأيضًا فإن الرجل قد يستحضر بعد فراغه من الجملة ما يرفع بعضها، ولا يذكر ذلك في حال تكلُّمه بها، فيقول: لزيدٍ عندي ألف درهم، ثم في الحال يذكر أنه قضاه منها مائةً فيقول: إلا مائة، فلو اشترط نية
(1)
الاستثناء [152/ب] قبل الفراغ لتعذَّر عليه استدراك ذلك، وأُلجِئ إلى الإقرار بما لا يلزمه والكذب فيه. وإذا كان هذا في الإخبار فمثله في الإنشاء سواء؛ فإن الحالف قد يبدو له فيعلِّق اليمين بمشيئة الله، وقد يَذهَل في أول كلامه عن قصد الاستثناء، أو يَشْغله شاغل عن نيته، فلو لم ينفعه الاستثناء حتى يكون ناويًا له من أول يمينه لفاتَ مقصودُ الاستثناء، وحصل الحرج الذي رفعه الله سبحانه عن الأمة به. ولما قال لرسوله إذا نسيه:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} وهذا متناولٌ لذكره إذا نسي الاستثناء قطعًا، فإنه سبب النزول، ولا يجوز إخراجه وتخصيصه؛ لأنه مراد قطعًا.
وأيضًا فإن صاحب هذا القول إن طردَه لزمه أن لا يصحَّ مخصِّصٌ من صفة أو بدل أو غاية أو استثناء بإلّا ونحوها حتى ينويه المتكلم من أول كلامه؛ فإذا قال: «له عليَّ ألف درهم
(2)
مؤجَّلة إلى سنة» هل يقول عالم: إنه لا يصح وصفها بالتأجيل حتى يكون منويًّا من أول الكلام؟
وكذلك إذا قال: «بعتُك هذا بعشرةٍ» فقال: «اشتريتُه على أن لي الخيار ثلاثة أيام» يصح هذا الشرط وإن لم ينوِه من أول كلامه، بل عنَّ له الاشتراط عقيب القبول.
(1)
ك: «فيه» .
(2)
«درهم» ليست في ز.
ومثله لو قال: «وقفتُ داري على أولادي أو غيرهم بشرط كونهم فقراء أو مسلمين أو متأهلين، وعلى أنه من مات منهم فنصيبه لولده أو للباقين» صح ذلك، وإن عنَّ له ذكرُ هذه الشروط بعد تلفُّظه بالوقف. ولم يقل أحد: لا
(1)
تُقبَل منه هذه الشروط إلا أن يكون قد نواها قبل الوقف أو معه، ولم يقع في زمن من الأزمنة سؤالُ الواقفين عن ذلك.
وكذلك لو قال: «له عليَّ مائة درهم إلا عشرة» فإنه يصح الاستثناء وينفعه، ولا يقول له الحاكم: إن كنتَ نويتَ الاستثناء من أول كلامك لزمك تسعون، وإن كنت إنما نويتَه بعد الفراغ لزمك مائة، ولو اختلف الحال لبيَّن له الحاكم ذلك، ولساغَ له أن يسأله بل يحلِّفه أنه نوى ذلك قبل الفراغ إذا طلب المقرُّ له ذلك.
وكذلك لو ادَّعى عليه أنه باعه أرضًا فقال: نعم بعتُه هذه الأرض إلا هذه البقعة، لم يقل أحد: إنه قد أقرَّ ببيع الأرض جميعها إلا أن يكون قد نوى استثناء البقعة في أول كلامه.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن مكة: «إنه لا يُختلَى خَلاها» ، فقال له
(2)
العباس: إلا الإِذْخِر، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال:«إلا الإذْخِر»
(3)
. وقال في أَسْرى بدر: «لا ينفَلِتْ
(4)
أحدٌ منهم إلا بفداءٍ أو ضربةِ عنقٍ»، فقال له ابن مسعود:
(1)
«لا» ساقطة من ك.
(2)
«له» ليست في ز.
(3)
رواه البخاري (1349، 1833 ومواضع أخرى) ومسلم (1353) من حديث ابن عباس.
(4)
في النسخ: «لا ينقلب» . والتصويب من مصادر التخريج.
إلا سُهيل بن بيضاء، فقال:«إلا سُهيل بن بَيضاء»
(1)
. ومعلوم أنه لم ينوِ واحدًا من هذين الاستثناءين في أول كلامه، بل أنشأه لما ذكِّر به، كما أخبر عن سليمان بن داود صلى الله عليهما وسلَّم أنه لو أنشأ بعد أن ذكَّره به الملك نفعه ذلك.
وشبهة من اشترط ذلك أنه إذا لم ينوِ الاستثناء [153/أ] من أول كلامه فقد لزمه موجبُ كلامه، فلا يُقبل منه
(2)
رفعُه ولا رفعُ بعضِه بعد لزومه. وهذه الشبهة لو صحت لما نفع الاستثناء في طلاق ولا عتاق ولا إقرار البتةَ، نواه أولًا أو لم ينوِه؛ لأنه إذا لزمه موجبُ كلامه لم يُقبل منه رفعُه ولا رفعُ بعضِه بالاستثناء. وقد طرد هذا بعض الفقهاء فقالوا: لا يصح الاستثناء في الطلاق؛ توهُّمًا لصحة هذه الشبهة.
وجوابها: أنه إنما يلزمه موجبُ كلامه إذا اقتصر عليه، فأما إذا وصله بالاستثناء أو الشرط، ولم يقتصر على ما دونه، فإن موجب كلامه ما دلَّ عليه سياقه وتمامه، من تقييدٍ باستثناء أو صفة أو شرطٍ أو بدلٍ أو غايةٍ، فتكليفُه نيةَ
(1)
رواه أحمد (3632) والترمذي (1714، 3084) وابن أبي شيبة (37845) والحاكم (3/ 22) والبيهقي (6/ 321) من طريق أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود، واختلف الأئمة في حديث أبي عبيدة عن عبد الله، فأعلَّه الترمذي بالانقطاع، وحمله على الاتصال ابن المديني ويعقوب بن شيبة. انظر:«شرح العلل» (1/ 544)، وصحح الحديث ابن العربي في «أحكام القرآن» (1/ 390) والحافظ في «الإصابة» (2/ 91). وقال ابن رجب في «الفتح» (7/ 342):«وأبو عبيدة وإن لم يسمع من أبيه إلا أن أحاديثه عنه صحيحة تلقاها عن أهل بيته الثقات العارفين بحديث أبيه قاله ابن المديني وغيره» .
(2)
في المطبوع: «منع» ، تحريف.
ذلك التقييد من أول الكلام
(1)
، وإلغاؤه إن لم ينوِه أولًا تكليفُ ما لا يكلِّفه
(2)
الله به ولا رسوله، ولا يتوقَّف صحة الكلام عليه، وبالله التوفيق.
فصل
وقال مالك: لا يصح الاستثناء في إيقاعهما، ولا الحلفِ بهما
(3)
، ولا الظهار، ولا الحلف به، ولا النذر، ولا في شيء من الأيمان، إلا في اليمين بالله تعالى وحده.
وأما الإمام أحمد فقال أبو القاسم الخرقي
(4)
: وإذا استثنى في الطلاق والعتاق فأكثر الروايات عن أبي عبد الله أنه توقَّف عن الجواب، وقد قطع في مواضعَ أخر
(5)
أنه لا ينفعه الاستثناء:
فقال في رواية ابن منصور
(6)
: من حلف فقال «إن شاء الله» لم يحنث، وليس له استثناء في الطلاق ولا العتاق.
وقال في رواية أبي طالب: إذا قال: «أنت طالق إن شاء الله» لم
(7)
تطلق.
وقال في رواية [أبي] الحارث: إذا قال لامرأته: «أنت طالق إن شاء الله»
(1)
ك: «كلامه» .
(2)
ك، ب:«لم يكلفه» .
(3)
«بهما» ليست في ز.
(4)
في «مختصره» بشرحه «المغني» (13/ 488).
(5)
ك، ب:«في موضع» .
(6)
هو الكوسج، انظر:«مسائله» (1/ 620).
(7)
«لم» ليست في ك، ب.
الاستثناء إنما يكون في الأيمان. قال الحسن وقتادة وسعيد بن المسيب
(1)
: ليس له ثُنيا في الطلاق. وقال قتادة: قوله: «إن شاء الله» قد شاء الله الطلاق حين أذن فيه.
وقال في رواية حنبل
(2)
: من حلف فقال «إن شاء الله» لم يحنث، وليس له استثناء في الطلاق والعتاق. قال حنبل: لأنهما ليسا من الأيمان.
وقال صاحب «المغني»
(3)
وغيره: وعنه ما يدلُّ على أن الطلاق لا يقع، وكذلك العتاق.
فعلى هذا يكون عنه في المسألة ثلاث روايات: الوقوع، وعدمه، والتوقف فيه.
وقد قال في رواية الميموني: إذا قال لامرأة: «أنت طالق يومَ أتزوَّجُ بك إن شاء الله» ثم تزوَّجها لم يلزمه شيء. ولو قال لأمة: «أنتِ حرة يومَ أشتريكِ إن شاء الله» صارت حرة.
(1)
صححه عنهم ابنُ حزم في «المحلى» (10/ 217). ووصله ابن أبي شيبة (18328) عن قتادة عن الحسن بإسناد صحيح، وبنحوه روى عبد الرزاق (11329). وروى ابن أبي شيبة (18327) عن قتادة بنحوه. ولم أجده مسندًا عن سعيد بن المسيب، بل روى ابن أبي شيبة (18320) عن قتادة عن سعيد بن المسيب والحسن أن «له ثنياه قدَّم الطلاق أو أخّره» ، ولكن في إسناده عبّاد بن العوام، حديثه مضطرب. وروى عبد الرزاق (11330) عن معمر عن قتادة الأثر الآتي، بلفظ: لا يقع عليها الطلاق، وقد شاء الله الطلاق حين أحلّه.
(2)
كما في «المغني» (13/ 488).
(3)
(10/ 472).
فلعل أبا حامد الإسفراييني وغيره ممن حكى عن أحمد الفرق بين «أنت طالق إن شاء الله» فلا تطلق، و «أنتِ حرة إن شاء الله» فتعتق، استند إلى
(1)
هذا النص. وهذا من غلطه على أحمد، بل هذا تفريق منه بين صحة تعليق العتق على المِلك وعدم صحة تعليق الطلاق على النكاح، وهذا قاعدة مذهبه. والفرق عنده أن المِلك [153/ب] قد شُرع سببًا لحصول العتق، كملك ذي الرحم المحرم، [وقد يعقد البيع سببًا لحصول العتق اختيارًا، كشراء من يريد عتقه في كفارة أو قُربة أو فداء كشراء قريبه، ولم يشرع الله النكاح سببًا لإزالته البتة؛ فهذا فقهه وفرقه]
(2)
.
فقد أطلق القول بأنه لا ينفع الاستثناء في إيقاع الطلاق والعتاق، وتوقّف في أكثر الروايات عنه، فتخرج المسألة على وجهين صرَّح بهما الأصحاب. وذكروا وجهًا ثالثًا، وهو أنه إن قصد التعليق وجهل استحالة العلم بالمشيئة لم تَطلُق، وإن قصد التبرُّك أو التأدُّب طَلُقَت، وقيل عن أحمد: يقع العتق دون الطلاق، ولا يصح هذا التفريق عنه، بل هو خطأ عليه.
قال شيخنا
(3)
: قد رُوي في الفرق حديث موضوع على معاذ بن جبل يرفعه.
فلو علَّق الطلاق على فعل يقصد به الحضّ أو المنع كقوله «أنتِ طالق إن كلمتِ فلانًا إن شاء الله» فروايتان منصوصتان عن الإمام أحمد:
(1)
«إلى» ليست في ك، ب.
(2)
ما بين المعكوفتين لا يوجد في النسخ. وهو في المطبوعات، والسياق يقتضيه.
(3)
لم أجد الكلام على حديث معاذ هذا في مؤلفاته المطبوعة. وسيأتي ذكره والكلام عليه عند المؤلف.
إحداهما: ينفعه الاستثناء، ولا تطلُق إن كلَّمتْ فلانًا، وهو قول أبي عبيد؛ لأنه بهذا التعليق قد صار حالفًا، وصار تعليقه يمينًا باتفاق الفقهاء، فصحَّ استثناؤه فيها؛ لعموم النصوص المتناولة للاستثناء في الحلف واليمين.
والثانية: لا يصحُّ الاستثناء، وهو قول مالك كما تقدم؛ لأن الاستثناء إنما ينفع في الأيمان المكفَّرة، فالتكفير والاستثناء متلازمان، ويمين الطلاق والعتاق لا يكفَّران، فلا ينفع فيهما الاستثناء.
ومن هنا خرَّج شيخنا على المذهب إجزاء التكفير فيهما؛ لأن أحمد رضي الله عنه نصَّ على أن الاستثناء إنما يكون في اليمين المكفرة، ونصَّ على أن الاستثناء ينفع في اليمين بالطلاق والعتاق، فيُخرّج من نصه إجزاء الكفارة في اليمين بهما. وهذا تخريج في غاية الظهور والصحة، ونصُّ أحمد على الوقوع لا يُبطِل صحة هذا التخريج، كسائر نصوصه ونصوص غيره من الأئمة التي يُخرَّج منها على مذهبه خلافُ ما نصَّ عليه. وهذا أكثر وأشهر من أن يُذكر.
ومن أصحابه من قال: إن أعاد الاستثناء إلى الفعل نفعه قولًا واحدًا، وإن أعاده إلى الطلاق فعلى روايتين. ومنهم من جعل الروايتين على اختلاف حالين، فإن أعاده إلى الفعل نفعه، وإن أعاده إلى قوله «أنتِ طالق» لم ينفعه.
وإيضاح ذلك أنه إذا قال: «إن دخلتِ الدار فأنتِ طالق إن شاء الله» فإنه تارةً يريد «فأنتِ طالق إن شاء الله طلاقَك» ، وتارةً يريد «إن شاء الله» تعليق اليمين بمشيئة الله، أي: إن شاء الله عقْدَ هذه اليمين فهي معقودة. فيصير كقوله: «والله لأقومنَّ إن شاء الله» ، فإذا قام علمنا أن الله قد شاء القيام، وإن لم يقم علمنا أن الله لم يشأ قيامه، فلم يوجد الشرط فلم يحنث. [فيُنقَل هذا
بعينه إلى الحلف بالطلاق]
(1)
؛ فإنه إذا قال: «الطلاق يلزمني لأقومنَّ إن شاء الله لي القيام» فلم يقم لم يشأ الله له القيام، فلم يوجد الشرط فلم يحنث. فهذا الفقهُ بعينه.
فصل
فإن قال: «أنت طالق إلا أن يشاء الله» ، فاختلف الذين يصحِّحون [154/أ] الاستثناء في قوله «أنت طالق إن شاء الله» هاهنا: هل ينفعه الاستثناء ويمنع وقوع الطلاق أو لا ينفعه؟ على قولين، وهما وجهان لأصحاب الشافعي. والصحيح عندهم: أنه لا ينفعه الاستثناء ويقع الطلاق، والثاني: ينفعه الاستثناء ولا تطلَّق. وهو قول أصحاب أبي حنيفة.
والذين لم يصحِّحوا الاستثناء احتجوا بأنه أوقع الطلاق وعلَّق رفعه بمشيئةٍ لم تُعلم؛ إذ المعنى قد وقع عليك الطلاق إلا أن يشاء الله رَفْعه، وهذا يقتضي وقوعًا منجَّزًا ورفعًا معلَّقًا بالشرط.
والذين صحَّحوا
(2)
الاستثناء قولهم أفقه؛ فإنه لم يوقع طلاقًا منجَّزًا، وإنما أوقع طلاقًا معلَّقًا على المشيئة، فإن معنى كلامه: أنت طالق إذا شاء الله طلاقَكِ، فإن شاء عدَمَه لم تطلَّقي، بل لا تطلَّقين إلا بمشيئته، فهو أدخلُ
(3)
في الاستثناء من قوله «إن شاء الله» ، فإنه جعل مشيئة الله بطلاقها
(4)
شرطًا
(1)
ما بين المعكوفتين لا يوجد في النسخ، وهو في المطبوعات.
(2)
ك: «يصححون» .
(3)
في المطبوع: «داخل» خلاف النسخ.
(4)
ك: «لطلاقها» .
فيه، وهاهنا أضافَ إلى ذلك جَعْلَه عدمَ مشيئته مانعًا من طلاقها.
والتحقيق أن كل واحد من الأمرين يستلزم الآخر؛ فقوله: «إن شاء الله» يدل على الوقوع عند وجود المشيئة صريحًا، وعلى انتفاء الوقوع عند انتفائها لزومًا، وقوله:«إلا أن يشاء الله» يدل على عدم الوقوع عند عدم المشيئة صريحًا، وعلى الوقوع عندها لزومًا، فتأمله. فالصورتان سواء، كما سوى بينهما أصحاب أبي حنيفة وغيرهم من الشافعية.
وقولهم: «إنه أوقع الطلاق وعلّق رفعَه بمشيئةٍ لا تُعلم» ، فهذا بعينه يحتجُّ به عليهم من قال: إن الاستثناء لا ينفع في الإيقاع بحال؛ فإن صحَّت هذه الحجة بطل الاستثناء في الإيقاع جملةً، وإن لم تصحَّ لم يصحَّ الفرق، وهو لم يُوقِعه مطلقًا، وإنما علَّقه بالمشيئة نفيًا وإثباتًا كما قررناه؛ فالطلاق مع الاستثناء ليس بإيقاع.
وعلى هذا فإذا قال: «إن شاء الله» ، وهو لا يعلم معناها أصلًا، فهل ينفعه هذا الاستثناء؟ قال أصحاب أبي حنيفة: إذا قال «أنت طالق إن شاء الله» ، ولا يدري أي شيء «إن شاء الله» لا يقع الطلاق. قالوا: لأن الطلاق مع الاستثناء ليس بإيقاع، فعِلمه وجهلُه سواء. قالوا: ولهذا لما كان سكوت البكر رضًى استوى فيه العلم والجهل، حتى لو زوَّجها أبوها فسكتَتْ وهي لا تعلم أن السكوت رضًى صحّ النكاح، ولم يُعتبر جهلها.
ثم قالوا: فلو قال لها «أنت طالق» فجرى على لسانه من غير قصدٍ «إن شاء الله» وكان قصده إيقاع الطلاق لم يقع الطلاق؛ لأن الاستثناء قد وُجِد حقيقةً، والكلام مع الاستثناء لا يكون إيقاعًا.
وهذا القول في طرفٍ، وقول من يشترط نية الاستثناء في أول الكلام أو قبلَ الفراغ منه في طرف آخر، وبينهما أكثر من بُعْدِ المشرقين.
فلو قال: «أنت طالق إن لم يشأ الله، أو ما لم يشأ الله» فهل يقع الطلاق في الحال أو لا يقع؟ على قولين، وهما وجهان في مذهب أحمد:
فمن أوقعه احتجَّ بأن كلامه تضمَّن أمرين: محالًا وممكنًا، فالممكن التطليق
(1)
، والمحال وقوعه على هذه الصفة، وهو إذا لم يشأه الله، فإنه ما شاء الله وجب وقوعه، فيلغو هذا التقييد [154/ب] المستحيل، ويَسلَم أصل الطلاق فينفذ.
والوجه الثاني: لا يقع، ولهذا القول مأخذان:
أحدهما: أن تعليق الطلاق على الشرط المحال يمنع من وقوعه؛ كما لو قال: «أنت طالق إن جمعتِ بين الضدَّين» أو «إن
(2)
شربتِ ماءَ الكُوز» ولا ماء فيه؛ لعدم وقوع شرطه، فهكذا إذا قال:«أنت طالق إن لم يشأ الله» فهو تعليق للطلاق على شرط مستحيل، وهو عدم مشيئة الله، فلو طلِّقت لطلِّقت بمشيئته، وشرطُ وقوعِ الطلاق عدمُ مشيئته.
والمأخذ الثاني ــ وهو أفقه ــ: أنه
(3)
استثناء في المعنى، وتعليق على المشيئة، والمعنى إن لم يشأ الله عدم طلاقك؛ فهو كقوله «إلا أن يشاء الله» سواء كما تقدم بيانه.
(1)
في النسخ: «النطق» . والمثبت من المطبوعات.
(2)
«إن» ليست في ز.
(3)
ز: «من أنه» .
فصل
قال المُوقِعون: قال إبراهيم بن يعقوب الجُوزجاني: حدثنا خالد بن يزيد بن أسد القَسْري حدثنا جُميع بن عبد الحميد الجعفي عن عطية العَوفي عن أبي سعيد الخدري وابن عمر قال: كنّا معاشرَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى الاستثناء جائزًا في كل شيء إلا في الطلاق والعتاق
(1)
.
قالوا: وروى أبو حفص ابن شاهين بإسناده عن ابن عباس قال: إذا قال الرجل لامرأته: «أنت طالق إن شاء الله» فهي طالق
(2)
، وكذلك روي عن أبي بُردة
(3)
.
قالوا: ولأنه استثناء يرفع جملة الطلاق فلم يصح، كقوله «أنت طالق ثلاثًا إلا ثلاثًا» .
قالوا: ولأنه إنشاء حكم في محل، فلم يرتفع بالمشيئة كالبيع والنكاح.
قالوا: ولأنه إزالة ملكٍ فلم يصح تعليقه على مشيئة الله، كما لو قال: أبرأتُك إن شاء الله.
قالوا: ولأنه تعليق على ما لا سبيلَ إلى العلم به، فلم يمنع وقوع
(1)
لم أجد له إسنادًا غير ما ذكر المؤلف، قال الذهبي في «التنقيح» (9/ 167):«قلت: أين إسناده؟» . وهذا إسناد ضعيف من أجل العوفي وخالد وجُميع، وسيأتي الكلام عليه عند المؤلف بعد تسع صفحات.
(2)
لم أجده. وروى محمد بن الحسن في كتاب «الأصل» (9/ 446) من طريق محمد بن عبيد الله العرزمي عن عطاء عن ابن عباس عدم وقوع الطلاق بالاستثناء، وإسناده ضعيف جدًّا من أجل العرزمي.
(3)
لم أجده.
الطلاق، كما لو قال: أنت طالق إن شاءت السموات والأرض.
قالوا: وإن كان لنا سبيل إلى العلم بالشرط صحّ الطلاق لوجود شرطه، ويكون الطلاق حينئذٍ معلَّقًا على شرط تحقَّقَ وجوده بمباشرة الآدمي سببه، قال قتادة: قد شاء الله حينئذٍ أن تطلّق.
قالوا: ولأن الله سبحانه وضع لإيقاع الطلاق هذه اللفظة شرعًا وقدرًا؛ فإذا أتى بها المكلَّف فقد أتى بما شاءه الله؛ فإنه لا يكون شيء قطُّ إلا بمشيئة الله، والله عز وجل يشاء الأمور بأسبابها؛ فإذا شاء تكوينَ شيء وإيجادَه شاء سببه؛ فإذا أتى المكلَّف بسببه فقد أتى بمشيئة الله، ومشيئة السبب مشيئةٌ للمسبب، فإنه لو لم يشأ وقوع الطلاق
(1)
لم يُمكِن المكلَّفَ أن يأتي به؛ فإن ما لم يشأ الله يمتنع وجوده، كما أن ما شاءه وجب وجوده.
قالوا: وهذا في القول نظير المشيئة في الفعل، فلو قال:«أنا أفعل كذا إن شاء الله تعالى» وهو متلبس في الفعل
(2)
صحَّ ذلك، ومعنى كلامه أن فِعلي هذا إنما هو بمشيئة الله، كما لو قال حالَ دخوله الدار:«أنا أدخلها إن شاء الله» أو قال من تخلَّص من شر: «تخلصتُ
(3)
إن شاء الله»، وقد قال يوسف لأبيه وإخوته:{ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99] في حال دخولهم، والمشيئة راجعة إلى الدخول المقيَّد بصيغة الأمر؛ فالمشيئة متناولة لهما جميعًا.
قالوا: ولو أتى بالشهادتين ثم قال عقيبَهما: «إن شاء الله» أو قال: «أنا
(1)
ك، ب:«طلاق» .
(2)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «بالفعل» .
(3)
ك: «تخلص» .
مسلم إن [155/أ] شاء الله» فإن ذلك لا يؤثّر في صحة إسلامه شيئًا، ولا يجعله إسلامًا معلَّقًا على شرط.
قالوا
(1)
: ومن المعلوم قطعًا أن الله قد شاء تكلُّمه بالطلاق، فقوله بعد ذلك:«إن شاء الله» تحقيق لما قد عُلم قطعًا أن الله شاءه، فهو بمنزلة قوله:«إن كان الله أباح الطلاق أوأذِنَ فيه» ، ولا فرقَ بينهما، وهذا بخلاف قوله:«أنت طالق إن كلَّمتِ فلانًا» ، فإنه شرط في طلاقها ما يمكن وجوده وعدمه؛ فإذا وجد الشرط وقع ما علّق به، ووجود الشرط في مسألة المشيئة إنما يعلم بمباشرة العبد سببه؛ فإذا باشره عُلِم أن الله شاءه.
قالوا: وأيضًا فالكفارة أقوى من الاستثناء؛ لأنها ترفع حكم اليمين، والاستثناء يمنع عقدها، والرافع أقوى من المانع. وأيضًا فإنها تؤثِّر متصلة ومنفصلة، والاستثناء لا يؤثِّر مع الانفصال، ثم الكفارة مع قوتها لا تؤثِّر في الطلاق والعتاق؛ فأن لا يؤثِّر فيه الاستثناء أولى وأحرى.
قالوا: وأيضًا فقوله: «إن شاء الله» إن كان استثناءً فهو رافع لجملة المستثنى منه، فلا يرتفع، وإن كان شرطًا فإما أن يكون معناه: إن كان الله قد شاء طلاقك، أو إن شاء الله أن أُوقِع عليك في المستقبل طلاقًا غير هذا؛ فإن كان المراد هو الأول فقد شاء الله طلاقها بمشيئته لسببه، وإن كان المراد هو
(2)
الثاني فلا سبيلَ للمكلَّف إلى العلم بمشيئته سبحانه، فقد علَّق الطلاق بمشيئة مَن لا سبيلَ إلى العلم بمشيئته؛ فيلغو التعليق، ويبقى أصل الطلاق فينفذ.
(1)
«قالوا» ليست في ك.
(2)
«الأول
…
المراد هو» ساقطة من ك.
قالوا: ولأنه علَّق الطلاق بما لا يخرج عنه كائن، فوجب نفوذه، كما لو قال:«أنت طالق إن علِمَ الله» أو «إن قدَّر الله» أو «إن سمع» أو «إن رأى» .
يوضحه: أنه حذف مفعول المشيئة، ولم ينوِ مفعولًا معينًا؛ فحقيقة لفظه: أنت طالق إن كان لله مشيئة، أو إن شاء أي شيء كان، ولو كانت نيته إن شاء الله هذا الحادث المعيّن ــ وهو الطلاق ــ لم يمنع جعلَ المشيئة المطلقة التي هذا الحادثُ فردٌ من أفرادها شرطًا في الوقوع. ولهذا لو سئل المستثني عما أراد لم يُفصِح بالمشيئة الخاصة، بل لعلها لا تخطُر بباله، وإنما تكلم بهذا اللفظ بناء على ما اعتاده الناس من قول هذه الكلمة عند اليمين والنذر والوعد.
قالوا: ولأن الاستثناء إنما بابه الأيمان، كقوله:«من حلفَ فقال: إن شاء الله، فإن شاء فعلَ وإن شاء ترك»
(1)
، وليس له دخول في الأخبار ولا في الإنشاءات، فلا يقال:«قام زيد إن شاء الله» ، ولا «قُمْ إن شاء الله» ، ولا «لا تَقُمْ إن شاء الله» ، ولا «بعتُ وقبلتُ إن شاء الله» . وإيقاع الطلاق والعتاق
(2)
من إنشاء العقود التي لا تُعلَّق على الاستثناء؛ فإن زمن الإنشاء مقارن له؛ فعقود الإنشاءات تُقارنها أزمنتها؛ فلهذا لا تعلَّق بالشروط.
قالوا: والذي يكشف سرَّ المسألة أن هذا الطلاق المعلَّق على المشيئة إما أن يريد به طلاقًا ماضيًا أو مقارنًا للتكلُّم به أو مستقبلًا؛ فإن أراد الماضي أو المقارن [155/ب] وقع؛ لأنه لا يعلَّق على الشرط، وإن أراد المستقبل
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
«والعتاق» ليست في ك.
ــ ومعنى كلامه: إن شاء الله أن تكوني
(1)
في المستقبل طالقًا فأنت طالق ــ وقع أيضًا؛ لأن مشيئة الله طلاقَها الآن يوجب طلاقها في المستقبل؛ فيعود معنى الكلام إلى أني إن طلَّقتك الآن بمشيئة الله فأنت طالق، وقد طلَّقها بمشيئته، فتطلَّق. فهاهنا ثلاث دعاوٍ: إحداها: أنه طلّقها، والثانية: أن الله شاء ذلك، والثالثة: أنها قد طُلِّقت؛ فإن صحّت الدعوى الأولى صحت الأخريانِ، وبيان صحتها أنه تكلم بلفظ صالح للطلاق، فيكون طلاقًا، وبيان الثانية: أنه حادث؛ فيكون بمشيئة الله، فقد شاء الله طلاقَها فتطلَّق. فهذا غاية ما تمسَّك به المُوقِعون.
قال المانعون: أنتم معاشرَ المُوقِعين قد ساعدتمونا على صحة تعليق الطلاق بالشرط، ولستم ممن يُبطله كالظاهرية وغيرهم كأبي عبد الرحمن الشافعي، فقد كفيتمونا نصفَ المؤنة، وحملتم عنا كُلفةَ الاحتجاج لذلك، فبقي الكلام معكم في صحة هذا التعليق المعيّن، هل هو صحيح أم لا؟
فإن ساعدتمونا على صحة التعليق قَرُبَ الأمر وقطعنا نصف المسافة الباقية. ولا ريبَ أن التعليق صحيح؛ إذ لو كان محالًا لما صحَّ تعليق اليمين والوعد والنذر وغيرها بالمشيئة، ولكان ذلك لغوًا لا يفيد، وهذا بيّن البطلان عند جميع الأمة، فصح التعليق حينئذٍ، فبقي بيننا وبينكم منزلة أخرى، وهي أنه هل وجود هذا الشرط ممكن أم لا؟
فإن ساعدتمونا على الإمكان ــ ولا ريبَ في هذه المساعدة ــ قرُبَت المسافة جدًّا، وحصلت المساعدةُ على أنه طلاق معلَّق صح تعليقه على شرط ممكن، فبقيت منزلة أخرى، وهي أن تأثير الشرط وعمله يتوقَّف على
(1)
ك، ب:«يكون» ، خطأ.
الاستقبال أم لا يتوقف عليه بل يجوز تأثيره في الماضي والحال والاستقبال؟
فإن ساعدتمونا على توقُّف تأثيره على الاستقبال، وأنه لا يصح تعلُّقه بماضٍ ولا حال ــ وأنتم بحمد الله على ذلك مساعدون ــ بقي بيننا وبينكم منزلة واحدة، وهي أنه هل لنا سبيلٌ إلى العلم بوقوع هذا الشرط فيترتَّب المشروط عليه عند وقوعه، أم لا سبيلَ لنا إلى ذلك البتةَ فيكون التعليق عليه تعليقًا على ما لم يجعل الله لنا طريقًا إلى العلم به؟ فهاهنا معترك النزال، ودعوة الأبطال، فنَزالِ نَزالِ.
فنقول: من أقبح القبائح وأبينِ الفضائح، التي تشمئزُّ منها قلوب المؤمنين، وتُنكِرها فِطَرُ العالمين، ما تمسَّك به بعضكم، وهذا لفظه بل حروفه، قال
(1)
: لنا أنه علَّق الطلاق بما لا سبيلَ لنا إليه، فوجب أن يقع؛ لأن أصله الصفات المستحيلة، مثل قوله:«أنت طالق إن شاء الحَجر» أو «إن شاء الميّت» أو «إن شاء هذا المجنون المطبق الآن» .
فيا لك من قياسٍ ما أفسدَه! وعن طريقِ الصواب ما أبعدَه! وهل يستوي في عقل أو رأي أو نظر أو قياسٍ مشيئةُ الرب جل جلاله ومشيئةُ الحجر [156/أ] والميّت والمجنون عند أحد من عقلاء الناس؟
وأقبحُ من هذا ــ والله المستعان، وعليه التُّكلان، وعياذًا به من الخذلان، ونَزَغات الشيطان ــ تمسُّكُ بعضهم بقوله: علَّق الطلاق بمشيئة من لا تُعلم مشيئته فلم يصح التعليق، كما لو قال:«أنت طالق إن شاء إبليس» .
(1)
القائل برهان الدين محمود بن أحمد بن عبد العزيز البخاري (ت 616) في كتابه «الذخيرة البرهانية» وهو مخطوط، وأصله «المحيط البرهاني» ، وليس فيه هذا اللفظ.
فسبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدُّك، ولا إله غيرك، وعياذًا بوجهك الكريم، من هذا الخذلان العظيم. ويا سبحانَ الله! لقد كان لكم في نصرة هذا القول غِنًى عن هذه الشبهة الملعونة، وفي ضروب الأقيسة وأنواع المعاني والإلزامات فسحةٌ ومتَّسَع. ولله شرف نفوس الأئمة الذين رفع الله قدرهم، وشادَ في العالمين ذكْرَهم، حيث يأنَفون لنفوسهم ويرغبون بها عن أمثال هذه الهَذَيانات التي تَسْوَدُّ بها الوجوه قبل الأوراق، وتُحِلُّ بقمرِ الإيمان المُحاقَ.
وعند هذا فنقول: علَّق الطلاق بمشيئة مَن جميع الحوادث مستندة إلى مشيئته، وتُعلَم مشيئته عند وجود كل حادث أنه إنما وقع بمشيئته، فهذا التعليق من أصحِّ التعليقات، فإذا أنشأ المعلّق طلاقًا في المستقبل تبينَّا وجودَ الشرط بإنشائه فوقع؛ فهذا أمر معقول شرعًا وفطرةً وقدرًا، وتعليق مقبول.
يبيِّنه أن قوله: «إن شاء الله» لا يريد به إن شاء الله طلاقًا ماضيًا قطعًا، بل إما أن يريد به هذا الطلاق الذي تلفَّظ به أو طلاقًا مستقبلًا غيره، فلا يصح أن يراد به هذا الملفوظ؛ فإنه لا يصح تعليقه بالشرط؛ إذ الشرط إنما يؤثِّر في الاستقبال، فحقيقة هذا التعليق: أنت طالق إن شاء الله طلاقك في المستقبل، ولو صرَّح بهذا لم تَطْلُق حتى يُنشئ لها طلاقًا آخر.
ونقرِّره بلفظ آخر فنقول: علَّقه بمشيئة مَن له مشيئة صحيحة معتبرة، فهو أولى بالصحة من تعليقه بمشيئة آحاد الناس. يبيِّنه أنه لو علَّقه بمشيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته لم يقع في الحال، ومعلوم أن ما شاءه الله فقد شاءه رسوله؛ ولو كان التعليق بمشيئة الله موجبًا للوقوع في الحال لكان التعليق بمشيئة رسوله في حياته كذلك، وبهذا يبطُل ما عوَّلتم عليه.
وأما قولكم: «إن الله سبحانه قد شاء الطلاق حين تكلَّم المكلَّف به» ، فنعم إذًا؛ لكن شاء الطلاق المُطلَق أو المعلَّق؟ ومعلوم أنه لم يقع منه طلاق مطلق، بل الواقع منه طلاق معلَّق على شرط، فمشيئة الله سبحانه له لا تكون مشيئة للطلاق المطلق، فإذا طلَّقها بعد هذا علمنا أن الشرط قد وُجد، وأن الله قد شاء طلاقها فطلُقتْ. وعند هذا فنقول: لو شاء الله أن يطلِّق العبد لأنطقه بالطلاق مطلقًا من غير تعليق ولا استثناء، فلما أنطقه به مقيدًا بالتعليق والاستثناء علمنا أنه لم يشأ له الطلاق المنجَّز، فإن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
ومما يوضِّح هذا الأمر أن مشيئة اللفظ لا تكون مشيئة للحكم حتى يكون اللفظ صالحًا للحكم، ولهذا لو تلفَّظ المُكرَه أو زائل العقل أو الصبي أو المجنون بالطلاق فقد شاء الله منهم وقوع هذا اللفظ، ولم يشأ وقوع الحكم، فإنه لم [156/ب] يرتِّب على ألفاظ هؤلاء أحكامَها؛ لعدم إرادتهم لأحكامها، فهكذا المعلِّق طلاقَه بمشيئة الله مريدًا أن لا يقع طلاقه، وإن كان الله قد شاء له التلفُّظ بالطلاق، وهذا في غاية الظهور لمن أنصف.
ويزيده وضوحًا أن المعنى الذي منع الاستثناء عقْدَ اليمين لأجله هو بعينه في الطلاق والعتاق؛ فإنه إذا قال: «والله لأفعلنَّ اليوم كذا إن شاء الله» فقد التزم فعْلَه في اليوم إن شاء الله له ذلك، فإن فَعَلَه فقد علمنا مشيئة الله له، وإن لم يفعله علمنا أن الله لم يشأه؛ إذ لو شاءه لوقع ولا بدَّ، ولا يكفي في وقوع الفعل مشيئة الله للعبد أن يشاءه
(1)
فقط، فإن العبد قد يشاء الفعل ولا يقع، فإن مشيئته ليست مُوجِبة ولا تلزمه، بل لا بدَّ من مشيئة الله له أن يفعل،
(1)
ك: «ان شاءه» .
وقد قال سبحانه في المشيئة الأولى {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان: 30]، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29]، وقال في المشيئة الثانية:{كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر: 54 - 56].
وإذا كان تعليق الحلف بمشيئته سبحانه يمنع من انعقاد اليمين، وكذلك تعليق الوعد، فإذا قال:«أفعلُ إن شاء الله» ولم يفعل لم يكن مُخلِفًا، كما لا يكون في اليمين حانثًا. وهكذا إذا قال:«أنت طالق إن شاء الله» فإن طلَّقها بعد ذلك علمنا أن الله قد شاء الطلاق فوقع، وإن لم يطلِّقها تبينَّا أن الله لم يشأ الطلاق فلا تطلُق، فلا فرق في هذا بين اليمين والإيقاع، فإن كلًّا منهما
(1)
إنشاءٌ وإلزامٌ معلَّق بالمشيئة.
قالوا: وأما الأثران اللذان ذكرتموهما عن الصحابة فما أحسنَهما لو ثبتا، ولكن كيف بثبوتهما وعطية ضعيف، وجُميع بن عبد الحميد مجهول، وخالد بن يزيد ضعيف؟ قال ابن عدي
(2)
: أحاديثه لا يتابع عليها. وأثر ابن عباس لا يُعلم حال إسناده حتى يُقبل أو يردّ.
على أن هذه الآثار مقابَلةٌ بآثار أخر لا تثبت أيضًا:
فمنها: ما رواه البيهقي في «سننه»
(3)
من حديث إسماعيل بن عياش عن
(1)
ك: «كلاهما» .
(2)
في «الكامل» (3/ 16).
(3)
أي «الكبرى» (7/ 361). ورواه أيضًا عبد الرزاق (11331) والدارقطني (4/ 35). وإسناده ضعيف من أجل حميد، وللانقطاع بين مكحول ومعاذ، ضعفه البيهقي وابن الجوزي في «العلل» (2/ 155) وابن القطان في «بيان الوهم» (3/ 170) وابن عبد الهادي في «التنقيح (3/ 222) وابن حجر في «المطالب العالية» (8/ 401).
حُميد بن مالك عن مكحول عن معاذ بن جبل قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معاذُ، ما خلق الله شيئًا على وجه الأرض أبغضَ إليه من الطلاق، وما خلق الله شيئًا على وجه الأرض أحبَّ إليه من العتاق، فإذا قال الرجل لمملوكه: أنت حرٌّ إن شاء الله، فهو حرٌّ، ولا استثناء له، وإذا قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، فله استثناؤه، ولا طلاقَ عليه» .
ثم ساقه من طريق محمد بن مصفَّى حدثنا معاوية بن حفص عن حميد بن
(1)
مالك اللخمي حدثني مكحول عن معاذ بن جبل رضي الله عنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، فقال:«له استثناؤه» ، فقال رجل: يا رسول الله، وإن قال لغلامه: أنت حرٌّ إن شاء الله؟ قال: «يعتق؛ لأن الله يشاء العتق، ولا يشاء الطلاق» .
ثم ساق من طريق إسحاق بن أبي نَجيح
(2)
عن عبد العزيز بن أبي روّاد عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال لامرأته أنتِ [157/أ] طالقٌ إن شاء الله، أو لغلامه أنت حرٌّ إن شاء الله، أو عليه المشي إلى بيت الله إن شاء الله؛ فلا شيء عليه»
(3)
.
(1)
ز: «عن» ، خطأ.
(2)
كذا في النسخ، والصواب:«إسحاق بن أبي يحيى» وهو الكعبي كما بيَّنه البيهقي. هالِكٌ يأتي بالمناكير عن الأثبات، كما ذكر الذهبي في «الميزان» (1/ 205) وأورد هذا الحديث من مناكيره.
(3)
رواه ابن عدي (2/ 694) والبيهقي (7/ 361) وابن الجوزي في «العلل» (2/ 154) من طريق إسحاق بن أبي يحيى، عن عبد العزيز بن أبي رواد به، وإسناده ضعيف من أجل إسحاق، وضعّف الحديث ابن الجوزي.
ثم ساق من طريق الجارود بن يزيد عن بَهْز بن حكيم عن أبيه عن جده مرفوعًا في الطلاق وحده أنه لا يقع
(1)
.
ولو كنا ممن يفرح بالباطل ــ ككثير من المصنِّفين الذين يفرح أحدهم بما وجده مؤيِّدًا لقوله ــ لفرحنا بهذه الآثار، ولكن ليس فيها غُنية؛ فإنها كلها آثار باطلة موضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما الحديث الأول ففيه عدة بلايا:
إحداها: حُميد بن مالك، ضعفه أبو زرعة
(2)
وغيره.
الثانية: أن مكحولًا لم يلقَ معاذًا. قال أبو زرعة: مكحول عن معاذ منقطع.
الثالثة: أنه قد اضطرب فيه حميد هذا الضعيف؛ فمرة يقول: عن مكحول عن معاذ، ومرة يقول: عن مكحول عن خالد بن معدان عن معاذ، وهو منقطع أيضًا، وقيل: مكحول عن مالك بن يُخامِر عن معاذ. قال البيهقي: ولم يصح.
الرابعة: أن إسماعيل بن عيَّاش ليس ممن يُقبل تفرُّدُه بمثل هذا؛ ولهذا
(1)
رواه ابن عدي (2/ 595) وابن الجوزي في «العلل» (2/ 154). وفيه الجارود متهم، وضعف الحديث ابن عدي وابن الجوزي وابن عبد الهادي في «التنقيح» (3/ 221).
(2)
انظر: «الضعفاء» له (3/ 803)، و «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم (3/ 228).
لم يذهب أحد من الفقهاء إلى هذا الحديث. وما حكاه أبو حامد الإسفراييني عن أحمد من القول به فباطل عنه لا يصح البتةَ، وكل من حكاه عن أحمد فمستنده حكاية أبي حامد الإسفراييني أو من تلقَّاها عنه.
وأما الأثر الثاني، فإسناده ظلمات بعضها فوق بعض، حتى انتهى أمره إلى الكذاب إسحاق بن نَجيح المَلَطي
(1)
.
وأما الأثر الثالث، فالجارود بن يزيد قد ارتقى من حد الضعف إلى حد الترك
(2)
.
والمقصود أن الآثار من الطرفين لا مُستراحَ فيها.
فصل
وأما قولكم: «إنه استثناء يرفع جملة الطلاق فلم يصحّ، كقوله: أنتِ طالق ثلاثًا إلا ثلاثًا» ، فما أبردَها من حجة! فإن الاستثناء لم يرفع حكم الطلاق بعد وقوعه، وإنما منعَ من انعقاده
(3)
منجَّزًا، بل انعقد معلَّقًا، كقوله:«أنت طالق إن شاء فلان» فلم يشأ فلان؛ فإنها لا تطلُق، ولا يقال: إن هذا استثناء رفعَ جملةَ الطلاق.
(1)
هذا من أوهام المؤلف، فالصواب أن المذكور في الإسناد «إسحاق بن أبي يحيى» كما سبق، ولكن المؤلف ذكره هناك باسم «إسحاق بن أبي نجيح» ، وظنّه هنا «إسحاق بن نجيح الملطي» ، وكلاهما خطأ. وترجمة الملطي في «الميزان» (1/ 200).
(2)
ترجمته في «الميزان» (1/ 384).
(3)
ك: «وقع منع انعقاده» .
وأما قولكم: «إنه إنشاء حكم في محلّ، فلم يرتفع بالمشيئة كالبيع والنكاح» فأبردُ من الحجة التي قبلها؛ فإن البيع والنكاح لا يصح تعليقهما بالشرط، بخلاف الطلاق.
وأما قولكم: «إزالة ملكٍ؛ فلا يصح تعليقه على مشيئة الله كالإبراء» فكذلك أيضًا؛ فإن الإبراء لا يصح تعليقه على الشرط مطلقًا عندكم، سواء كان الشرط مشيئة الله أو غيرها، فلو قال:«أبرأتُك إن شاء زيد» لم يصح، ولو قال:«أنت طالق إن شاء زيد» صح.
وأما قولكم: «إنه تعليق على ما لا سبيلَ إلى العلم به» فليس كذلك، بل هو تعليق على
(1)
ما لنا سبيلٌ إلى علمه؛ فإنه إذا أوقعه في المستقبل علمنا وجود الشرط قطعًا، وأن الله قد شاءه.
وأما قولكم: «إن الله قد شاءه بتكلّم المطلّق به» فالذي شاءه الله إنما هو طلاق معلَّق، والطلاق المنجَّز لم يشأه الله؛ إذ لو شاءه لوقع ولا بدَّ، فما شاءه الله لا يوجب وقوع الطلاق في الحال، [157/ب] وما يوجب وقوعه في الحال لم يشأه الله.
وأما قولكم: «إن الله سبحانه وضع لإيقاع الطلاق هذه اللفظة شرعًا وقدرًا» فنعم وضع سبحانه المنجَّز لإيقاع المنجَّز، والمعلَّق لوقوعه عند وقوع ما علّق به.
وقولكم: «لو لم يشأ الطلاق لم يأذن للمكلَّف في التكلُّم به» فنعم، شاء المعلّق وأذِنَ فيه، والكلام في غيره.
(1)
«على» ليست في ك.
وقولكم: «إن هذا نظير قوله وهو متلبسٌ بالفعل: أنا أفعلُ إن شاء الله» فهذا فصل النزاع في المسألة، فإذا أراد بقوله:«أنت طالق إن شاء الله هذا التطليقَ الذي صدَرَ منّي» لزمه الطلاق قطعًا لوجود الشرط، وليس كلامنا فيه، وإنما كلامنا فيما إذا أراد «إن شاء الله طلاقًا مستقبلًا» أو أَطْلَق ولم يكن له نية، فلا ينبغي النزاع في القسم الأول، ولا يُظَنّ أن أحدًا من الأئمة ينازع فيه؛ فإنه تعليق على شرط مستقبل ممكن فلا يجوز إلغاؤه، كما لو صرَّح به فقال:«إن شاء الله أن أطلِّقك غدًا فأنتِ طالق» ، إلا أن يستروحوا إلى ذلك المسلك الوخيم أنه علَّق الطلاق بالمستحيل فلغَا التعليقُ، كمشيئة الحجر والميت. وأما إذا أطلقَ ولم يكن له نية فيُحمل مطلق كلامه على مقتضى الشرط لغةً وشرعًا وعرفًا، وهو اقتضاؤه للوقوع في المستقبل.
وأما استدلالكم بقول يوسف لأبيه وإخوته: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} فلا حجة فيه؛ فإن الاستثناء إن عاد إلى الأمر المطلوب دوامه واستمراره فظاهر، وإن عاد إلى الدخول المقيَّد به فمن أين لكم أنه قال لهم هذه المقالة حال الدخول أو بعده؟ ولعله إنما قالها عند تلقِّيه لهم، ويكون دخولهم عليه في منزل اللقاء، فقال لهم حينئذٍ:{ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} ، فهذا محتمل. وإن كان إنما قال لهم ذلك بعد دخولهم عليه في دار مملكته فالمعنى: ادخلوها دخولَ استيطانٍ واستقرارٍ آمنين إن شاء الله.
وأما قولكم: «إنه لو أتى بالشهادتين ثم قال إن شاء الله أو قال أنا مسلم إن شاء الله صح إسلامه في الحال» فنعم إذًا؛ فإن الإسلام لا يقبل التعليق بالشرط، فإذا علَّقه بالشرط تنجَّز، كما لو علَّق الردة بالشرط فإنها تتنجَّز، وأما الطلاق فإنه يصح تعليقه بالشرط.
وأما قولكم: «إنه من المعلوم قطعًا أن الله قد شاء تكلُّمه بالطلاق، فقوله بعد ذلك إن شاء الله تحقيقٌ لما عُلِم أن الله قد شاءه» قد تقدم جوابه، وهو أن الله إنما شاء الطلاق المعلَّق، فمن أين لكم أنه شاء المنجَّز؟ ولم تذكروا عليه دليلًا.
وقولكم: «إنه بمنزلة قوله أنت طالق إن كان الله أذن في الطلاق أو أباحه، ولا فرقَ بينهما» فما أعظمَ الفرقَ بينهما وأَبْيَنَه
(1)
حقيقةً ولغةً! وذلك ظاهرٌ عن تكلُّف بيانه؛ فإن بيان الواضحات نوع من العِيِّ، بل نظير ذلك أن يقول: أنت طالق إن كان الله قد شاء تلفُّظي بهذا اللفظ؛ فهذا يقع قطعًا.
وأما قولكم: «إن الكفّارة أقوى من الاستثناء؛ لأنها ترفع حكم اليمين، والاستثناء يمنع عَقْدها، وإذا لم تدخل الكفارة في الطلاق والعتاق فالاستثناء أولى» فما أدْهَشَها
(2)
من شبهةٍ! [158/أ] وهي عند التحقيق لا شيء؛ فإن الطلاق والعتاق إذا وقعا لم تؤثِّر فيهما الكفارة شيئًا، ولا يمكن حلُّهما بالكفارة، بخلاف الأيمان فإن حلَّها بالكفارة ممكن، وهذا تشريع شرعه شارع الأحكام هكذا، فلا يمكن تغييره؛ فالطلاق والعتاق لا يقبل الكفارة، كما لم تقبلها سائر العقود كالوقف والبيع والهبة والإجارة والخلع، فالكفارة مختصة بالأيمان، وهي من أحكامها التي لا تكون لغيرها.
وأما الاستثناء فيُشرع في أعمَّ من اليمين، كالوعد والوعيد والخبر عن
(1)
كذا في النسخ، وهو الصواب. و «أبين» معطوف على «أعظم». وفي المطبوع:«وبينه» .
(2)
كذا في النسخ، صيغة التعجب من دَهَشَ بمعنى حيَّر. وفي المطبوع:«أوهنها» .
المستقبل، كقول النبي صلى الله عليه وسلم:«وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون»
(1)
، وقوله عن أمية بن خَلَف:«بل أنا أقتلُه إن شاء الله»
(2)
، وكذا الخبر عن الحال نحو «أنا مؤمن إن شاء الله» ، ولا تدخل الكفارة في شيء من ذلك، فليس بين الاستثناء والتكفير تلازمٌ. بل تكون الكفارة حيث لا استثناء، والاستثناء حيث لا كفارة، والكفارة شُرِعت تحلَّةً لليمين بعد عقدها، والاستثناء شُرِع لمعنى آخر، وهو تأكيد التوحيد، وتعليق الأمور بمشيئة من لا يكون شيء إلا بمشيئته؛ فشُرِع للعبد أن يفوِّض الأمر الذي عزم عليه وحلفَ على فعْلِه أو تركِه إلى مشيئة الله؛ ويَعقِد نطقه بذلك، فهذا شيء، والكفارة شيء آخر.
وأما قولكم: «إن الاستثناء إن كان رافعًا فهو رافعٌ لجملة المستثنى منه فلا يرتفع» فهذا كلام عارٍ عن التحقيق؛ فإن هذا ليس باستثناء بأداة «إلا» وأخواتها التي يخرج بها بعض المذكور ويبقى بعضه حتى يلزم ما ذكرتم، وإنما هو شرط ينتفي المشروط عند انتفائه كسائر الشروط. ثم كيف يقول هذا القائل في قوله:«أنتِ طالق إن شاء زيد اليوم» ولم يشأ؟ فموجب دليله أن هذا لا يصح.
(1)
رواه مسلم (249) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه أيضًا (974) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
رواه عبد الرزاق في «التفسير» (3/ 68) متصلًا من طريق عثمان الجزَري عن مِقسم مولى ابن عباس عن ابن عباس، وعثمان ضعيف. ورواه عبد الرزاق في «المصنف» (9731) مرسلًا دون ذكر ابن عباس، وله شاهد مرسل عند ابن هشام في «السيرة» (3/ 32) عن صالح بن عبد الرحمن، وشاهد آخر عند البيهقي في «الدلائل» (3/ 211) من مرسل الزهري.
فإن قيل: فلو أخرجه بأداة «إلا» فقال: «أنت طالق إلا أن يشاء الله» كان رفعًا لجملة المستثنى منه.
قيل: هذه مَغْلَطَة
(1)
ظاهرة؛ فإن الاستثناء هاهنا ليس إخراج جملة ما تناوله المذكور ليلزم ما ذكرت، وإنما هو تقييد لمطلق الكلام الأول بجملة أخرى مخصِّصة لبعض أحوالها، أي: أنت طالق في كل حالة إلا حالة واحدة، وهي حالة لا يشاء الله فيها الطلاق، فإذا لم يقع منه طلاق بعد هذا عَلِمْنا بعدم وقوعه أن الله سبحانه لم يشأ الطلاق؛ إذ لو شاءه لوقع. ثم ينتقض هذا بقوله «إلا أن يشاء زيد» و «إلا أن تقومي» ونحو ذلك؛ فإن الطلاق لا يقع إذا لم يشأه زيد وإذا لم تَقُم.
وسُمِّي هذا التعليقُ بمشيئة الله استثناءً في لغة الشارع، كقوله تعالى:{إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ} [القلم: 17 - 18]، أي: لم يقولوا إن شاء الله؛ فمن حلف فقال «إن شاء الله» فقد استثنى؛ فإن الاستثناء استفعال من ثَنَيْتُ الشيء، فالمستثني بإلّا قد عاد على كلامه فثَنَى آخرَه على أوله بإخراج ما أدخله أولًا في لفظه. وهكذا التقييد بالشرط سواء؛ فإن المتكلم به قد ثَنَى آخر كلامه على أوله فقيَّد به ما أطلقه أولًا، وأما تخصيص الاستثناء بإلا وأخواتها فعُرفٌ خاص للنحاة.
وقولكم: «إن كان [158/ب] شرطًا ومرادُه به إن كان الله قد شاء طلاقك فينفذ لمشيئة الله بمشيئته لسببه، وهو الطلاق المذكور، وإن أراد به إن شاء الله أن أطلِّقك في المستقبل فقد علَّقه بما لا سبيلَ إلى العلم به، فيلغو التعليق
(1)
كذا في النسخ وهو صواب. وغيَّره في المطبوع إلى «مغالطة» .
ويبقى أصل الطلاق»، فهذا هو أكبر عمدة المُوقِعين، ولا ريبَ أنه إن أراد بقوله أنت طالق إن كان الله قد شاء تكلُّمي بهذا اللفظ أو شاء طلاقك بهذا اللفظ طلُقتْ، ولكن المستثني لم يُرِد هذا، بل ولا خطَرَ على باله، فبقي القسم الآخر، وهو أن يريد إن شاء الله وقوع الطلاق عليك فيما يأتي، فهذا تعليق صحيح معقول يمكن العلم بوجود ما علّق عليه بوجود سببه، كما تقدم بيانه.
وأما قولكم: «إنه علّق الطلاق بما لا يخرج عنه كائن، فوجب نفوذُه، كما لو قال: أنت طالق إن علِمَ الله أو إن قدَّر أو سمِعَ ــ إلى آخره» فما أبطَلَها من حجة! فإنها لو صحَّت لبطلَ حكم الاستثناء في الأيمان لِما ذكرتموه بعينه، ولَما نفع الاستثناء في موضع واحد، ومعلوم أن المستثني لم يخطر هذا على باله، وإنما أراد تفويضَ الأمر إلى مشيئة الله وتعليقه به، وأنه إن شاءه نفذَ، وإن لم يشأه لم يقع، ولذلك كان مستثنيًا، أي: وإن كنت قد التزمتُ اليمين أو الطلاق أو العتاق فإنما ألتزمُه بعد مشيئة الله وتبعًا لها، فإن شاءه فهو سبحانه ينفذه بما يُحدثِه من الأسباب، ولم يُرِد المستثني إن كان لله مشيئة أو علمٌ أو سمعٌ أو بصرٌ فأنت طالق، ولم يخطر ذلك بباله البتةَ.
يوضحه: أن هذا مما لا يقبل التعليق، ولا سيما بأداة «إنْ» التي هي للجائز الوجود والعدم، ولو شكّ في هذا لكان ضالًّا، بخلاف المشيئة الخاصة، فإنها يمكن أن تتعلَّق بالطلاق وأن لا تتعلَّق به، وهو شاكٌّ فيها كما يشكُّ العبد فيما يمكن أن يفعله الله به وأن لا يفعله هل شاءه أم لا؟ فهذا هو المعقول الذي في فِطَرِ الحالفين والمستثنين.
وحذفُ مفعول المشيئة لم يكن لِما ذكرتم، وهو عدم إرادة مفعول
معين، بل للعلم به، ودلالةِ الكلام عليه ومعنَى
(1)
إرادته؛ إذ المعنى: إن شاء الله طلاقك فأنت طالق، كما لو قال:«والله لأسافرنَّ إن شاء الله» أي: إن شاء سفري، وليس مراده إن كان لله صفة هي المشيئة؛ فالذي قدَّرتموه من المشيئة المطلقة هو الذي لم يخطر ببال الحالف والمطلِّق، وإنما الذي لم يخطر بباله سِواه هو المشيئة المعينة الخاصة.
قولكم: «إن المستثني لو سئل عما أراد لم يُفصِح بالمشيئة الخاصة، بل تكلم بلفظ الاستثناء بناء على ما اعتاده الناس من التكلُّم بهذا اللفظ» كلام غير سديد، فإنه لو صحَّ لما نفع الاستثناء في يمين قطُّ، ولهذا نقول: إن قصَدَ التحقيق والتأكيد بذكر المشيئة تنجَّز الطلاق، ولم يكن ذلك استثناء.
قولكم: «إن الاستثناء بابه الأيمان» إن أردتم به اختصاصَ الأيمان به فلم تذكروا على ذلك دليلًا. وقوله صلى الله عليه وسلم: «من حلفَ فقال إن شاء الله فقد استثنى» ، وفي لفظ آخر:«من حلفَ [159/أ] فقال إن شاء الله فهو بالخيار؛ إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل»
(2)
فحديث حسن، ولكن لا يوجب اختصاص الاستثناء بالمشيئة باليمين، وقد قال تعالى:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24]، وهذا ليس بيمين.
ويُشرع الاستثناء في الوعد والوعيد والخبر عن المستقبل، كقوله: غدًا أفعلُ إن شاء الله، وقد عتبَ الله على رسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال لمن سأله من أهل
(1)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «وتعين» .
(2)
اللفظ الأول لأبي داود (3261)، والثاني ملفق من لفظ أحمد والبيهقي (7/ 361). وقد تقدم تخريج الحديث مستوفى (ص 485)، ولفظه هناك:«مَن حلف على يمين فقال: إن شاء الله [فقد استثنى] فلا حنث عليه» ، وهو لفظ الترمذي (1531).
الكتاب عن أشياء: «غدًا أُخبِركم» ، ولم يقل إن شاء الله، فاحتبس الوحيُ عنه شهرًا، ثم نزل عليه:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}
(1)
أي: إذا نسيتَ ذكْرَه بالاستثناء عقيبَ كلامك فاذكُره به إذا ذكرتَ. هذا معنى الآية، وهو الذي أراده ابن عباس بصحة الاستثناء المتراخي، ولم يقل ابن عباس قطُّ ولا مَن هو دونه: إن الرجل إذا قال لامرأته: «أنت طالق» أو لعبده: «أنت حر» ثم قال بعد سنة «إن شاء الله» = إنها لا تطلُق ولا يُعتق العبد. وأخطأَ من نقلَ ذلك عن ابن عباس، أو عن أحد من أهل العلم البتةَ، ولم يفهموا مراد ابن عباس. والمقصود أن الاستثناء لا يختصُّ باليمين، لا شرعًا ولا عرفًا ولا لغةً، وإن أردتم بكونِ بابه الأيمان كثرتَه فيها؛ فهذا لا ينفي دخوله في غيرها.
قولكم: «إنه لا يدخل في الإخبارات ولا في الإنشاءات، فلا يقال: قام زيد إن شاء الله، ولا قُمْ إن شاء الله، ولا بعتُ إن شاء الله، فكذا لا يدخل في قوله: أنت طالق إن شاء الله» فليس هذا بتمثيل صحيح، والفرق بين البابين أن الأمور الماضية قد عُلم أنها وقعت بمشيئة الله، والشرط إنما يؤثّر في الاستقبال، فلا يصح أن يقول: قمت أمسِ إن شاء الله، فلو أراد الإخبار عن وقوعها بمشيئة الله أتى بغير صيغة الشرط، فيقول: فعلتُ كذا بمشيئة الله وعونه وتأييده، ونحو ذلك، بخلاف قوله: غدًا أفعلُ إن شاء الله. وأما قوله: «قُمْ إن شاء الله» و «لا تقُمْ إن شاء الله» فلا فائدة في هذا الكلام؛ إذ قد عُلِم أنه لا يفعل إلا بمشيئة الله، فأيُّ معنى لقوله: إن شاء الله لك القيام فقُمْ، وإن لم
(1)
لم أجده مسندًا، وذكره مقاتل في «التفسير» (2/ 576) وابن أبي حاتم (7/ 2355) وابن جرير (15/ 228).
يشأه فلا تقم؟
نعم لو أرادَ بقوله قُمْ أو لا تقُمْ الخبرَ، وأخرجه مُخرَجَ الطلب تأكيدًا، أي: تقوم إن شاء الله، صحَّ ذلك، كما إذا قال: مُتْ على الإسلام إن شاء الله، ولا تمُتْ إلا على توبة إن شاء الله، ونحو ذلك. وكذا إذا أراد بقوله «قم إن شاء الله» ردَّ المشيئة إلى معنى خبري، أي: ولا تقوم إلا أن يشاء الله؛ فهذا صحيح مستقيم لفظًا ومعنى. وأما «بعتُ إن شاء الله، واشتريتُ إن شاء الله» فإن أراد به التحقيق صح وانعقد العقد، وإن أراد به التعليق لم يكن المذكور إنشاء، وتنافَى الإنشاء والتعليق؛ إذ زمنُ الإنشاء يقارن وجود معناه، وزمنُ وقوع المعلَّق يتأخَّر عن التعليق، فتنافَيَا.
وأما قولكم: «إن هذا الطلاق المعلَّق على المشيئة إما أن يريد طلاقًا ماضيًا أو مقارنًا أو مستقبلًا ــ إلى آخره» فجوابه [159/ب] ما قد تقدَّم مرارًا أنه إن أراد به ردَّ المشيئة إلى هذا اللفظ المذكور، وأن الله إن كان قد شاءه فأنت طالق= طلقتْ، ولا ريبَ أن المستثني لم يُرِد هذا، وإنما أراد أن لا يقع الطلاق، فردّه إلى مشيئة الله، وأن الله إن شاءه بعد هذا وقع، فكأنه قال: لا أريد طلاقك، ولا أرَبَ لي فيه إلا أن يشاء الله ذلك فينفُذُ رضيتُ أم سخطتُ، كما قال نبي الله شعيب:{وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} [الأعراف: 89] أي: نحن لا نعود في ملتكم، ولا نختار ذلك، إلا أن يشاء الله ربنا شيئًا فينفُذ ما شاءه. وكذلك قال إبراهيم:{وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأنعام: 80] أي: لا يقع بي من مَخُوفٍ من جهة آلهتكم أبدًا، إلا أن يشاء ربي شيئا فينفُذ ما شاءه. فردَّ الأنبياء ما أخبروا أنه لا يكون إلى مشيئة الرب تعالى وإلى علمه استدراكًا
واستثناءً، أي: لا يكون ذلك أبدًا، ولكن إن شاءه الله كان، فإنه سبحانه عالم بما لا نعلمه نحن من الأمور التي تقتضيها حكمته وحمده
(1)
.
فصل
فالتحقيق في المسألة أن المستثني إما أن يقصد بقوله: «إن شاء الله» التحقيق أو التعليق؛ فإن قصد به التحقيق والتأكيد وقع الطلاق، وإن قصد به التعليق وعدم الوقوع في الحال لم تطلَّق. هذا هو الصواب في المسألة، وهو اختيار شيخنا
(2)
وغيره من الأصحاب. وقال أبو عبد الله ابن حمدان في «رعايته» : قلت: إن قصد التأكيد والتبرك وقع، وإن قصد التعليق وجهل استحالة العلم بالمشيئة فلا، وهذا قول آخر غير الأقوال الأربعة المحكية في المسألة، وهو أنه إنما ينفعه الاستثناء إذا قصد التعليق وكان جاهلًا باستحالة العلم بمشيئة الله تعالى، فلو علم استحالة العلم بمشيئته سبحانه لم ينعقد الاستثناء. والفرق بين علمه بالاستحالة وجهله بها أنه إذا جهل استحالة العلم بالمشيئة فقد علَّق الطلاق بما هو ممكن في ظنّه فيصح تعليقه، وإذا لم يجهل استحالة العلم بالمشيئة فقد علّقه على محال يعلم استحالته فلا يصح التعليق، وهذا أحد الأقوال في تعليقه بالمحال.
قلت: وقولهم: «إن العلم بمشيئة الربّ محال» خطأ محض، فإن مشيئة الرب تُعلم بوقوع الأسباب التي تقتضي مسبباتها؛ فإن مشيئة المسبّب مشيئة لحكمه، فإذا أوقع عليها بعد ذلك طلاقًا علمنا أن الله قد شاء طلاقها.
(1)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «وحده» .
(2)
في «مجموع الفتاوى» (13/ 44).
فهذا تقرير الاحتجاج من الجانبين، ولا يخفى ما تضمَّنه من رجحان أحد القولين، والله أعلم.
فصل
وقد قدّمنا اختلاف الفقهاء في اشتراط نية الاستثناء وزمنها، وأن أضيقَ الأقوال قول من يشترط النية من أول الكلام، وأوسع منه قول من يشترطها قبل فراغه، وأوسع منه قول من يجوِّز إنشاءها بعد الفراغ من الكلام، كما يقوله أصحاب أحمد وغيرهم.
وأوسعُ منه قول من يجوِّزه بالقرب، ولا يشترط اتصاله بالكلام، كما نص عليه أحمد في رواية المرُّوذي فقال: حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والله لأغزونَّ قريشًا، [160/أ] والله لأغزونَّ قريشًا، والله لأغزونَّ قريشًا» ثم سكت ثم قال: «إن شاء الله»
(1)
، إذا هو استثنى بالقرب، ولم يخلط كلامه بغيره.
وقال إسماعيل بن سعيد الشالنجي: سألتُ أحمد بن حنبل عن الاستثناء في اليمين، فقال: من استثنى بعد اليمين فهو جائز، على مثل فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال «والله لأغزونَّ قريشًا» ثم سكت ثم قال:«إن شاء الله» ولم يطل ذلك. قال: ولا أقول فيه بقول هؤلاء، يعني من لم يرَ ذلك إلا متصلًا. هذا لفظ الشالنجي في «مسائله» .
وأوسعُ من ذلك قول من قال: ينفعه الاستثناء ويصحُّ ما دام في
(1)
تقدم.
المجلس، نصَّ عليه الإمام أحمد في إحدى الروايات عنه، وهو قول الأوزاعي كما سنذكره.
وأوسعُ منه من وجهٍ قولُ من لا يشترط النية بحال، كما صرَّح به أصحاب أبي حنيفة. وقال صاحب «الذخيرة»
(1)
في كتاب الطلاق في الفصل السادس عشر منه: ولو قال لها: «أنتِ طالق إن شاء الله» ولا يدري أي شيء «إن شاء الله» لا يقع الطلاق؛ لأن الطلاق مع الاستثناء ليس بإيقاع، فعلمه وجهلُه يكون سواء، ولو قال لها:«أنتِ طالق» فجرى على لسانه من غير قصد «إن شاء الله» وكان قصدُه إيقاع الطلاق لا يقع الطلاق؛ لأن الاستثناء قد وُجِد حقيقة، والكلام مع الاستثناء لا يكون إيقاعًا.
وقال الجُوزجاني في «مترجمه»
(2)
: حدثني صفوان ثنا عمر قال: سئل الأوزاعي رضي الله عنه عن رجل حلف: والله لأفعلنَّ كذا وكذا، ثم سكت ساعة لا يتكلَّم ولا يحدِّث نفسه بالاستثناء، فيقول له إنسان إلى جنبه: قلْ إن شاء الله، فقال: إن شاء الله، أيكفِّر يمينَه؟ فقال: أراه قد استثنى.
وبهذا الإسناد عن الأوزاعي أنه سئل عن رجل وصلَه قريبُه بدراهم فقال: والله لا آخذُها، فقال قريبه: والله لتأخذنَّها، فلما سمعه قال:«والله لتأخذنَّها» استثنى في نفسه فقال: إن شاء الله، وليس بين قوله «والله لا آخذها» وبين قوله «إن شاء الله» كلام إلا انتظاره ما يقول قريبه، أيكفِّر يمينَه إن هو أخذها؟ فقال: لم يحنث؛ لأنه قد استثنى.
(1)
«الذخيرة البرهانية» مخطوط، وانظر أصله «المحيط البرهاني» (4/ 495).
(2)
سبق التعريف بهذا الكتاب والنقل عنه عند المؤلف.
ولا ريبَ أن هذا أفقهُ وأصحُّ من قول من اشترط نيته مع الشروع في اليمين؛ فإن هذا القول موافق للسنة الصحيحة فعلًا من النبي صلى الله عليه وسلم وحكايةً عن أخيه سليمان أنه لو قال: «إن شاء الله» بعدما حلف وذكَّره الملَك كان نافعًا له، وموافقًا
(1)
للقياس ومصالح العباد ومقتضى الحنيفية السمحة. ولو اعتبر ما ذكر من اشتراط النية في أول الكلام والاتصال الشديد لزالت رخصة الاستثناء، وقلَّ من انتفع بها إلا من قد درسَ على هذا القول وجعله منه على بالٍ.
وقد ضيَّق بعض المالكية
(2)
في ذلك فقال: لا يكون الاستثناء نافعًا إلا وقد أراده صاحبه قبل أن يتمِّم اليمين، كما قال بعض الشافعية. وقال ابن الموَّاز
(3)
: شرط نفعه أن يكون مقارنًا، ولو لآخر حرفٍ من حروف اليمين.
ولم يشترط مالك شيئًا من ذلك، بل قال [160/ب] في «موطئه» ــ وهذا لفظ رواية عبد الله بن يوسف
(4)
ــ: أحسن ما سمعتُ في الثُّنيا في اليمين أنها لصاحبها ما لم يقطَعْ كلامه، وما كان نَسَقًا يتبع بعضه بعضًا قبل أن يسكت، فإذا سكتَ وقطع كلامه فلا ثُنيا له. انتهى.
ولم أرَ عن أحدٍ من الأئمة قطُّ اشتراطَ النية مع الشروع ولا قبل الفراغ، وإنما هذا من تصرُّف الأتباع.
(1)
كذا بالنصب في النسختين ز، ك. والأولى الرفع عطفًا على «موافق للسنة» .
(2)
هو القاضي أبو إسحاق كما في «عقد الجواهر الثمينة» (1/ 519).
(3)
المصدر السابق.
(4)
وكذا في رواية يحيى بن يحيى الليثي (2/ 477).
فصل
وهل من شرط الاستثناء أن يتكلَّم به، أو ينفع إذا كان في قلبه وإن لم يتلفَّظ به؟ فالمشهور من مذاهب الفقهاء أنه لا ينفعه حتى يتلفَّظ به، ونصَّ عليه
(1)
أحمد فقال في رواية ابن منصور
(2)
: لا يجوز له أن يستثني في نفسه حتى يتكلَّم به.
وقد قال أصحاب أحمد
(3)
وغيرهم: لو قال: «نسائي طوالق» واستثنى بقلبه «إلا فلانة» صحَّ استثناؤه، ولم تَطْلُق. ولو قال:«نسائي الأربع طوالق» واستثنى بقلبه «إلا فلانة» لم ينفعه. وفرّقوا بينهما بأن الأول ليس نصًّا في الأربع، فجاز تخصيصه بالنية، بخلاف الثاني.
ويلزمهم على هذا الفرق أن يصحَّ تقييده بالشرط بالنية؛ لأن غايته أنه تقييدُ مطلق؛ فعملُ النية فيه أولى من عملها في تخصيص العام؛ لأن العام متناول للأفراد وضعًا، والمطلق لا يتناول جميع الأحوال بالوضع، فتقييده بالنية أولى من تخصيص العام بالنية. وقد قال صاحب «المغني»
(4)
وغيره: إذا قال: «أنت طالق» ، ونوى بقلبه من غير نطق: إن دخلت الدار أو بعد شهر، أنه يدين فيما بينه وبين الله تعالى. وهل يُقبل في الحكم؟ على روايتين، وقد قال الإمام أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم فيمن حلف لا يدخل الدار وقال:«نويت شهرًا» : قُبِل منه، أو قال:«إذا دخلت دار فلان فأنت طالق»
(1)
«عليه» ليست في ك.
(2)
هو الكوسج، انظر:«مسائله» (1/ 620).
(3)
انظر: «المغني» (10/ 401 - 402).
(4)
(10/ 402).
ونوى تلك الساعة أو ذلك اليوم قُبلت نيته. قال: والرواية الأخرى لا تُقبل؛ فإنه قال: إذا قال لامرأته: [«أنت طالق»]
(1)
، ونوى في نفسه «إلى سنةٍ» تطلَّق، ليس ينظر إلى نيته. وقال: إذا قال: «أنت طالق» وقال: نويت إن دخلت الدار، لا يصدَّق.
قال الشيخ
(2)
: ويمكن أن يُجمع بين هاتين الروايتين بأن يُحمل قوله في القبول على أنه يدين، وقوله في عدم القبول على الحكم؛ فلا يكون بينهما اختلاف.
قال: والفرق بين هذه الصورة والتي قبلها ــ يعني مسألة «نسائي طَوالق» وأراد بعضهن ــ أن إرادة الخاص بالعام شائع كثير، وإرادة الشرط من غير ذكره غير شائع، وهو قريب من الاستثناء، ويمكن أن يقال: هذا كلُّه من جملة التخصيص. انتهى كلامه.
وقد تضمَّن أن الحالف إذا أراد الشرط دُيِّن وقُبِل في الحكم في إحدى الروايتين، ولا يفرِّق فقيه ولا محصِّلٌ بين الشرط بمشيئة الله حيث يصح وينفع وبين غيره من الشروط، وقد قال الإمام أحمد في رواية حرب
(3)
: إن كان مظلومًا فاستثنى في نفسه رجوتُ أنه يجوز إذا خاف على نفسه. ولم ينصَّ على خلاف هذا في المظلوم، وإنما
(4)
أطلق القول، وخاصُّ كلامِه ومقيَّده يقضي على مطلقه وعامّه؛ فهذا مذهبه.
(1)
ما بين المعكوفتين ليس في النسخ، وهو في «المغني» .
(2)
أي ابن قدامة، والكلام متصل.
(3)
انظر: «المغني» (13/ 486).
(4)
«وإنما» ليست في ك.