المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ تعليق الإبراء بالشرط - أعلام الموقعين عن رب العالمين - ط عطاءات العلم - جـ ٤

[ابن القيم]

الفصل: ‌ تعليق الإبراء بالشرط

المثال التاسع والستون: إذا كان له عليه دَين فقال: «إن متَّ قبلي فأنت في حلٍّ، وإن متُّ قبلك [135/ب] فأنت في حلٍّ» صح وبرئ في الصورتين؛ فإن إحداهما وصية، والأخرى إبراء معلَّق بالشرط، ويصح‌

‌ تعليق الإبراء بالشرط

لأنه إسقاط، كما يصح تعليق العتق والطلاق، وقد نصَّ

(1)

الإمام أحمد في الإحلال من العِرض والمال مثله.

وقال أصحابنا وأصحاب الشافعي: إذا قال: «إن متُّ قبلك فأنت في حلٍّ» هو إبراء صحيح؛ لأنه وصية، وإن قال:«إن متَّ قبلي فأنت في حلٍّ» لم يصح؛ لأنه تعليقٌ للإبراء بالشرط. ولم يُقيموا شبهةً فضلًا عن دليل صحيح على امتناع تعليق الإبراء بالشرط، ولا يدفعه نصٌّ ولا قياس ولا قول صاحب؛ فالصواب صحة الإبراء في الموضعين؛ وعلى هذا فلا يحتاج إلى حيلة.

فإن بُلِي بمن يقول: «هكذا في الكتاب، وهكذا قالوا» ، فالحيلة أن يُشهِد عليه أنه لا يستحقُّ عليه شيئًا

(2)

بعد موته من هذا الدين، ولا في تركته، وإن شاء كتب الفصلين في سجلٍّ واحد، وضمنه الوصية له به إن مات ربُّ الدين، وإن مات المدين فلا حقَّ له به قبله، فيصح حينئذٍ مستندًا إلى ظاهر الإقرار، وهو إبراء في المعنى.

المثال السبعون: لو غلِطَ المضارب أو الشريك وقال: «ربحتُ ألفًا» ثم أراد الرجوع لم يُقبل منه؛ لأنه إنكار بعد إقرار. ولو أقام بينةً على الغلط

(1)

ز: «نص عليه» .

(2)

ز: «شيء» .

ص: 415

فالصحيح أنها تُقبل، وقيل: لا تُقبل لأنه مكذِّب لها؛ فالحيلة في استدراكه ما غلِطَ فيه بحيث تُقبل منه أن يقول: خسرتُها بعد أن ربحتُها، فالقول قوله في ذلك، ولا يلزمه الألف. وهكذا الحيلة في استدراك كل أمينٍ لظُلامتِه، كالمودع إذا ردَّ الوديعة التي دُفِعت إليه ببينة، ولم يشهد على ردِّها، فهل يُقبل قوله في الردّ؟ فيه قولان هما روايتان عن الإمام أحمد. فإذا خاف أن لا يُقبل قوله فالحيلة في تخلُّصه أن يدَّعي تلَفَها من غير تفريط، فإن حلَّفه على ذلك فليحلِف مورِّيًا متأوِّلًا أن تلَفَها من عنده خروجها من تحت يده، ونظائر ذلك، والله أعلم.

المثال الحادي والسبعون: إن استغرقت الديون مالَه لم يصحَّ تبرُّعُه بما يُضِرُّ بأرباب الديون، سواء حَجَرَ عليه الحاكم أو لم يحجُرْ عليه. هذا مذهب مالك، واختيار شيخنا

(1)

، وعند الثلاثة يصحُّ تصرفه في ماله قبل الحجر بأنواع التصرف.

والصحيح هو القول الأول، وهو الذي لا يليق بأصول المذهب غيره، بل هو

(2)

مقتضى أصول الشرع وقواعده؛ لأن حق الغرماء قد تعلَّق بماله؛ ولهذا يحجُر عليه الحاكم، ولولا تعلُّق حق الغرماء بماله لم يَسَعِ الحاكمَ الحجرُ عليه، فصار كالمريض مرضَ الموت؛ لما تعلَّق حق الورثة بماله منعه الشارع من التبرُّع بما زاد على الثلث، فإن في تمكينه من التبرُّع بماله إبطال حقّ الورثة منه، وفي تمكين هذا [136/أ] المِدْيان

(3)

من التبرع إبطال حقوق

(1)

انظر: «الاختيارات» للبعلي (ص 202).

(2)

«هو» ليست في ك.

(3)

ك: «الديان» ، تحريف. والمديان: من يُقرِض أو يقترض كثيرًا.

ص: 416

الغرماء، والشريعة لا تأتي بمثل هذا؛ فإنها إنما جاءت بحفظ

(1)

حقوق أرباب الحقوق بكل طريق، وسدِّ الطرق المُفضِية إلى إضاعتها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«مَن أخذَ أموالَ الناس يريد أداءها أدَّاها الله عنه، ومن أخذَها يريدُ إتلافَها أتلَفَه الله»

(2)

.

ولا ريبَ أن هذا التبرع إتلافٌ لها، فكيف ينفُذُ تبرعُ مَن

(3)

دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاعله؟

وسمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية يحكي عن بعض علماء عصره من أصحاب أحمد أنه كان يُنكِر هذا المذهب ويضعِّفه. قال: إلى أن بُلِيَ بغريمٍ تبرَّع قبل

(4)

الحجر عليه، فقال: والله مذهب مالك هو الحق في هذه المسألة. وتبويب البخاري وترجمته واستدلاله يدلُّ على اختياره هذا المذهبَ، فإنه قال في باب من ردَّ أمر السفيه والضعيف وإن لم يكن حجَرَ عليه الإمام

(5)

: ويُذكر عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم ردَّ على المتصدِّق قبل النهي ثم نهاه

(6)

.

(1)

ك: «بحفض» .

(2)

رواه البخاري (2387) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

«من» ليست في ك، ب.

(4)

«قبل» ليست في ك.

(5)

(5/ 71 - مع الفتح).

(6)

رواه الدارمي (1700) وأبو داود (1673) وأبو يعلى (2084، 2220) وابن خزيمة (2441) وابن حبان (3372) عن جابر، وفيه عنعنة ابن إسحاق، ضعفه بها النووي في «المجموع» (6/ 236) وابن الملقن في «البدر المنير» (7/ 415) والألباني في «الإرواء» (898).

ص: 417

فتأمَّلْ هذا الاستدلال، قال عبد الحق

(1)

: أراد به ــ والله أعلم ــ حديث جابر في بيع المدبَّر.

ثم قال البخاري في هذا الباب نفسه: وقال مالك: إذا كان لرجلٍ على رجلٍ مالٌ، وله عبدٌ، لا شيء له غيره، فأعتقه، لم يجز عتقُه. ثم ذكر

(2)

حديث: «من أخذَ أموالَ الناس يريد أداءَها أدَّاها الله عنه، ومن أخذَها يريد إتلافَها أتلَفَه الله» .

وهذا الذي حكاه عن مالك هو في كتب أصحابه، قال ابن الجلّاب

(3)

: ولا يجوز هبة المفلس ولا عتقُه ولا صدقتُه إلا بإذن غُرمائه، وكذلك المِدْيان الذي لم يُفلسه غرماؤه في عتقه وهبته وصدقته.

وهذا القول هو الذي لا نختار غيره، وعلى هذا فالحيلة لمن تبرَّع غريمه بهبةٍ أو صدقة أو وقف أو عتق، وليس في ماله سعة له لدينه: أن يرفعه إلى حاكمٍ يرى بطلان هذا التبرع، ويسأله الحكمَ ببطلانه. فإن لم يكن في بلده حاكمٌ يحكم بذلك، فالحيلة أن يأخذ عليه إذا خاف منه ذلك الضمينَ أو الرهنَ، فإن بادر الغريم وتبرَّع قبل ذلك فقد ضاقت الحيلة على صاحب الحق، ولم يبقَ له غيرُ أمر واحد، وهو التوصُّل إلى إقراره بأن ما في يده أعيان أموال الغرماء، فيمتنع التبرُّع بعد الإقرار، فإن قدّم تاريخ الإقرار بطل التبرع المتقدّم أيضًا. وليست هذه حيلةً على إبطال حق ولا تحقيقِ باطل، بل

(1)

في «الجمع بين الصحيحين» (4/ 426)، ونقله الحافظ في «الفتح» (5/ 72) مع التعقيب عليه، وبسط الكلام عليه في «النكت على ابن الصلاح» (1/ 354 - 361).

(2)

لم يذكر البخاري الحديث في هذا الباب، بل رواه قبله بأبواب برقم (2387).

(3)

في «التفريع» (2/ 254).

ص: 418

على إبطال جورٍ وظلم؛ فلا بأس بها، والله أعلم.

المثال الثاني والسبعون: إذا كان له عليه

(1)

دينٌ، ولا بينةَ له به ويخاف أن يجحده، أو له بينةٌ ويخاف أن يمطُلَه، فالحيلة أن يستدين منه بقدر دَينه إن أمكن، ولا يضرُّه أن يعطيه به رهنًا أو كفيلًا، فإذا ثبت له في ذمته نظيرُ دينه قاصَّه [136/ب] به، وإن لم يرضَ على أصح المذاهب، فإن حَذِر غريمه من ذلك، وأمكنه أن يشتري منه سلعة، ولا يعيّن الثمن، ويُخرِج النقد فيضعه بين يديه، فإذا قبض السلعة وطلب منه الثمن قاصَّه بالدين الذي عليه، وبكل حالٍ فطريق الحيلة أن يجعل له عليه

(2)

من الدين نظيرَ ما له.

المثال الثالث والسبعون: إذا خاف العَنَت، ولم يجد طَوْلَ حُرَّة، وكَرِه رِقَّ أولاده، فالحيلة في عتقهم أن يشترط على السيد أن ما ولدته زوجته منه من الولد فهم أحرار، فكل ولدٍ تلده بعد ذلك منه فهو حرٌّ. ويصح تعليق العتق بالولادة لو قال لأَمته: كل ولدٍ تلدينه فهو حرٌّ. قال ابن المنذر

(3)

: لا أحفظ فيه خلافًا.

فإن قيل: فهل تجوِّزون نكاح الأمة بدون الشرطين إذا أمنَ رِقَّ ولده بهذا التعليق؟

قيل: هذا محلُّ اجتهاد، ولا تأباه أصول الشريعة، وليس فيه إلا أن الولد يثبت عليه الولاء للسيد، وهو شعبة من الرقّ، ومثل هذا هل ينتهض سببًا

(1)

«عليه» ليست في ز.

(2)

«عليه» ليست في ز.

(3)

في كتاب «الإجماع» (ص 176) و «الإقناع» (2/ 599).

ص: 419

لتحريم نكاح الأمة؟ أو يقال ــ وهو أظهر ــ: إن الله سبحانه منعَ من نكاح الإماء لأنهن في الغالب لا يُحجَبن حَجْبَ الحرائر، وهنّ في مهنة ساداتهن وحوائجهم

(1)

، وهن بَرْزَاتٌ

(2)

لا مخدَّرات؟ وهذه كانت عادة العرب في إمائهم

(3)

وإلى اليوم، فصان الله سبحانه للأزواج أن تكون زوجاتهم بهذه المثابة، مع ما يتبع ذلك من رِقِّ الولد، وأباحه لهم عند الضرورة إليه كما أباح الميتة والدم ولحمَ الخنزير عند المخمصة، وكل هذا منعٌ منه سبحانه لنكاح

(4)

غير المُحْصَنة، ولهذا شرطَ سبحانه في نكاحهن أن يكنَّ {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء: 25]، أي: غير زانيةٍ مع من كان، ولا زانية مع خِدْنِها وعشيقها دون غيره، فلم يُبِح لهم نكاحَ الإماء إلا بأربعة شروط: عدم الطَّول، وخوفُ العَنَت، وإذنُ سيدها، وأن تكون عفيفةً غير فاجرة فجورًا عامًّا ولا خاصًّا، والله أعلم.

المثال الرابع والسبعون: إذا لم تُمكِّنه أَمتُه من نفسها حتى يُعتِقها ويتزوَّجها، وهو لا يريد إخراجها عن ملكه، ولا تصبر نفسُه عنها؛ فالحيلة أن يبيعها أو يهبَها لمن يثق به، ويُشهِد عليه من حيث لا تعلم هي، والبيع أجودُ لأنه لا يحتاج إلى قبض، ثم يُعتقها، ثم يتزوجها، فإذا فعل استردَّها من المشتري من حيث لا تعلم الجارية، فانفسخ النكاح، فيطؤها بمِلك اليمين، ولا عدةَ عليها.

(1)

ك: «وحوائجهن» . والمثبت من ز، ب.

(2)

جمع بَرْزة: المرأة التي تجالس الرجال وتبرز لهم.

(3)

في النسخ: «إمائهن» .

(4)

في المطبوع: «كنكاح» ، خطأ.

ص: 420

المثال الخامس والسبعون: إذا أراده من لا يُمكن

(1)

ردُّه على بيع جاريته منه، فالحيلة في خلاصه أن يفعل ما ذكرناه سواء، ويُشهِد على عتقها ونكاحها، ثم يستقيله البيعَ، فيطؤها بملك اليمين في الباطن، وهي زوجته في الظاهر. ويجوز هذا لأنه يدفع به عن نفسه، ولا يسقط به [137/أ] حقُّ ذي حقٍّ. وإن شاء احتال بحيلة أخرى، وهي إقراره بأنها وَضعتْ منه ما يتبينُ به خَلْق الإنسان، فصارت بذلك أمَّ ولد لا يمكن نقلُ الملك فيها، فإن أحبَّ دفعَ التهمة عنه، وأنه قصد بذلك التحيل فليبعْها لمن يثق به، ثم يُواطئ المشتريَ على أن يدَّعي عليه أنها وضعتْ في مِلكه ما فيه صورة إنسان

(2)

، ويقرّ بذلك، فينفسخ البيع، ويكتب بذلك محضرًا، فإنه يمتنع بيعها بعد ذلك.

المثال السادس والسبعون: إذا أراد أن يبيع الجارية من رجلٍ بعينه، ولم تَطِبْ نفسُه أن تكون عند غيره، فله في ذلك أنواع من الحيل:

أحدها: أن يشترط عليه أنه إن باعها فهو أحقُّ بها بالثمن، كما اشترطت ذلك امرأة عبد الله بن مسعود عليه، ونص الإمام أحمد على جواز البيع والشرط في رواية علي بن سعيد، وهو الصحيح.

فإن لم تتمَّ له هذه الحيلة لعدم من ينفِّذها له، فليشترط عليه أنك إن بعتَها لغيري فهي حرَّة، ويصح هذا الشرط، وتعتق عليه إن باعها لغيره، إما بمجرد الإيجاب عند صاحب «المغني»

(3)

وغيره، وإما بالقبول، فيقع العتق

(1)

في المطبوع: «لا يملك» . والمثبت من النسخ.

(2)

ك: «الإنسان» .

(3)

(6/ 27، 324).

ص: 421

عقيبَه وينفسخ البيع عند صاحب «المحرر»

(1)

.

وهذه طريقة القاضي، قال في كتاب «إبطال الحيل»: إذا قال: «إن بعتُك هذا العبد فهو حرٌّ» ، وقال المشتري:«إن اشتريتُه فهو حرٌّ» ، فباعه، عتقَ على البائع؛ لأنه ليس له عند دخوله في ملك الآخر حالُ استقرارٍ حتى يعتق عليه بيمينه

(2)

التابعة؛ لأن خيار المجلس ثابتٌ للبائع، فمِلْك المشتري غير مستقر. وقولُ صاحب «المحرّر»

(3)

: «وانفسخ البيع» تقريرٌ لهذه الطريقة، وأنه إنما يعتق بالقبول، ويعتق في مدة الخيار على أحد الوجوه الثلاثة.

فإن لم تتمَّ له هذه الحيلة عند من لا يصحِّح هذا التعليق، ويقول إذا اشتراها ملكها، ولا تعتق بالشرط في ملك الغير كما يقوله أبو حنيفة، فله حيلة أخرى، وهي أن يقول: إذا بعتُها فهي حرة قبل البيع، فيصحُّ هذا التعليق، فإذا باعها حكمنا بوقوع العتق قبل البيع على أحد الوجهين في مذهب الشافعي وأحمد رضي الله عنهما.

فإن لم تتمَّ له هذه الحيلة عند من لا يصحِّح هذا التعليق فله حيلة أخرى، وهي أن يقول: إذا اشتريتُها فهي مدبَّرة، فيصح هذا التعليق، ويمتنع بيعها عند أبي حنيفة، فإن التدبير عنده جارٍ مجرى العتقِ المعلَّق بصفة، فإذا اشتراها صارت مدبَّرة، ولم يُمكِنْه بيعُها عنده.

فإن لم تتمَّ له هذه الحيلة على قول من لا يجوِّز تعليقَ التدبير بصفة،

(1)

(1/ 277).

(2)

في المطبوع: «بنيته» . والمثبت من النسخ.

(3)

(1/ 277).

ص: 422

فالحيلة أن يأخذ البائع إقرار المشتري بأنه دبَّر هذه الجارية بعد ما اشتراها، وأنه جعلها حرةً بعد موته.

فإن لم تتمَّ له هذه الحيلة على قول من يجوِّز بيع المدبَّر ــ وهو الإمام أحمد، ومن قال بقوله ــ فالحيلة أن [137/ب] يُشهِد عليه قبل أن يبيعها منه أنه كان تزوَّجها من سيدها تزويجًا صحيحًا، وأنها ولدتْ منه ولدًا، ثم اشتراها بعد ذلك فصارتْ أمَّ ولده، فلا يمكنه بيعُها.

فإن لم تتمَّ له هذه الحيلة على قول من يعتبر في كونها أمَّ ولدٍ أن تحمل وتضع في ملكه، ولا يكفي أن تلد منه في غير ملكه ــ كما هو ظاهر مذهب أحمد والشافعي ــ فقد ضاقت عليه وجوهُ الحيل، ولم يبق له إلا حيلةٌ واحدة، وهي أن يتراضى سيدُ الجارية والمشتري برجلٍ ثقةٍ عدلٍ بينهما، فيبيعها هذا العدل بطريق الوكالة عن سيدها بزيادةٍ على ثمنها الذي اتفقا عليه، ويزيد ما شاء، ويقبض منه الثمن الذي اتفقا عليه، فإن أراد المشتري بيعَها طالبه بباقي الثمن الذي أظهره. ولو لم يُدخِلا بينهما ثالثًا بل اتفقا على ذلك فقال:«أبيعكها بمائة دينارٍ، وآخذُ منك أربعين، فإن بعتَها طالبتُك بباقي الثمن، وإن لم تَبِعْها لم أطالبك» جاز، لكن في توسُّطِ العدلِ الذي يثق به المشتري كاتبِه

(1)

وصاحبِه تطييبٌ لقلبه، وأمانٌ له من مطالبة البائع له بالثمن الكثير.

المثال السابع والسبعون: إذا طلب منه ولده أو عبده أن يزوِّجه، وخاف أن يَلحقه ضرر بالزوجة ويأمره بطلاقها فلا يقبل، فالحيلة أن يقول له: لا

(1)

كذا في النسخ. وفي المطبوع: «كأبيه» .

ص: 423

أزوِّجك إلا أن تجعل أمرَ الزوجة بيدي، فإن وثِقَ منه بذلك الوعد قال له بعد التزويج:«أمرها بيدك» . وإن لم يثق منه به، وخاف أنه إذا قبِلَ العقد لا يفي له بما وعده، فالحيلة أن لا يأذن له حتى يعلِّق ذلك بالنكاح، فيقول:«إن تزوَّجتَها فأمرها بيدك» . ويصح هذا التعليق على مذهب أهل المدينة وأهل العراق. فإن أراد أن يكون ذلك مُجمعًا عليه فليكتب في كتاب الصداق: «وأقرَّ الزوجُ المذكور أن أمرَ المرأة المذكورة بيد السيد أو الأب» . فإذا وقع ما يحذَره منها تمكَّن حينئذٍ من التطليق عليه، والله أعلم. لكن قد يُخرجه عن الوكالة بعد ذلك فلا يتمُّ مراده، فالحيلة أن يشترط عليه أنه متى أخرجه عن الوكالة فهي طالق

(1)

.

المثال الثامن والسبعون: إذا دبَّر عبده أو أمته جاز له بيعه، ويبطُل تدبيره، فإن خاف أن يرفعه العبد إلى حاكم لا يرى بيعَ المدبَّر فيحكم عليه بالمنع من بيعه، فالحيلة أن يقول:«إن متُّ وأنت في ملكي فأنتَ حرٌّ بعد موتي» ، فإذا قال ذلك تمَّ له الأمر كما أراد، فإن أراد بيعه ما دام حيًّا فله ذلك، وإن مات وهو في ملكه عتق عليه.

والفرق بين أن يقول: «أنت حرٌّ بعد موتي» وبين أن يقول: «إن متُّ وأنت في ملكي فأنت حرٌّ بعد موتي» أن هذا تعليق للعتق بصفة، وذلك لا يمنع بيع العبد، كما لو قال:«إن دخلتَ الدار فأنت حرٌّ» فله بيعه قبل وجود الصفة، بخلاف [138/أ] قوله:«أنت حرٌّ بعد موتي» فإنه جزم بحريته في ذلك الوقت. ونظيرُ هذا أنه لو قال له

(2)

: «إن متَّ قبلي فأنت في حلٍّ من الدَّين الذي عليك»

(1)

«لكن

طالق» ساقطة من ك.

(2)

«له» ليست في ك.

ص: 424

فهو إبراء معلَّق بصفة، ولو قال له:«أنتَ في حلٍّ بعد موتي»

(1)

صح، ولم يكن تعليقًا للإبراء بالشرط. ونظيره لو قال:«إن متُّ فداري وقفٌ» فإنه تعليق للوقف بالشرط، ولو قال:«هي وقفٌ بعد موتي» صح، والله أعلم.

المثال التاسع والسبعون: لو أن رجلين ضمِنَا رجلًا بنفسه، فدفعه أحدهما إلى الطالب، برئ الذي لم يدفع، وهذا بمنزلة رجلين ضمنا لرجل مالًا فدفعه إليه أحدهما فإنهما يبرآن جميعًا؛ لأن المضمون هو إحضار واحد، فإذا سلَّمه أحدهما فقد وجد الإحضار المضمون فبرِئَا جميعًا.

قال القاضي: وربما ألزمه بعض القضاة الضمانَ بنفس المطلوب، ولا يجعل دفع الآخر براءةً للذي لم يدفع؛ فالحيلة أن يضمنا للطالب هذا الرجل بنفسه، على أنه إذا دفعه أحدهما فهما جميعًا بريئان، فيتخلَّص على قول الكل، أو يشهدا أن كل واحد منهما وكيل صاحبه في دفع هذا الرجل إلى الطالب والتبرُّؤ

(2)

إليه، فإذا دفعه أحدهما برِئَا جميعًا منه؛ لأنه إذا كان كل منهما وكيلَ صاحبه كان تسليمه كتسليم موكِّله.

المثال الثمانون: قال القاضي في كتاب «إبطال الحيل» : إذا كان لرجلين على امرأةٍ مال، وهما شريكان، فتزوَّجها أحدهما على نصيبه من المال الذي عليها، لم يضمن لصاحبه شيئًا من المهر؛ لأنه لم يجعل نصيبه في ضمانه، فصار كما لو أبرأه، وربما ضمَّنه بعض الفقهاء؛ فالحيلة فيه أن يهبَ لها نصيبَه مما عليها، ثم يتزوَّجها بعد ذلك على مقدار ما وهبها، ثم تهب المرأة للزوج المهر الذي تزوَّجها عليه؛ لأن أحد الشريكين إذا وهب نصيبه من

(1)

في جميع النسخ: «موتك» . والمثبت من المطبوع.

(2)

في النسخ: «والتبرى» .

ص: 425

المال المشترك لا يضمن؛ لكونه متبرعًا، فإذا تزوجها بعد ذلك على مهر، ووهبتْه له حصل مقصوده، وتخلَّص من أقاويل المختلفين.

المثال الحادي والثمانون: لو حلف رجل بالطلاق أنه لا يضمن عن أحدٍ شيئًا، فحلف آخر بالطلاق لا بدَّ أن تضمَن عني؛ فالحيلة في أن يضمن عنه ولا يحنث: أنه يشاركه ويشتري متاعًا بينه وبين شريكه.

قال القاضي: فإنه يضمن عن شريكه نصف الثمن، ولا يحنث الحالف في يمينه؛ لأن المحلوف عليه عقد الضمان، وما يلزمه في مسألتنا لا يلزمه بعقد الضمان، وإنما يلزمه بالوكالة؛ لأن كل واحدٍ من الشريكين وكيلُ صاحبه فيما يشتريه، فلهذا لم يحنث في يمينه. فإن كانت بحالها، ولم يكن بينه وبين المحلوف عليه شركة، لكنه وكَّله المحلوف عليه فاشتراها، لم يحنث أيضًا لما بيّنا.

المثال الثاني والثمانون: [138/ب] شريكان شركةَ عنانٍ ضمنَا عن رجل مالًا بأمره على أنه إن أدَّى المالَ أحد الشريكين رجع به على شريكه، وإن أدّاه الآخر فشريكه منه بريء. وللمسألة أربع صور:

أحدها

(1)

: أن يقولا: أيُّنا أدّاه رجع به على شريكه.

الثانية: عكسه.

الثالثة: أن يقول إن أدَّيتُه أنا رجعتُ به عليك، ولا ترجع به عليَّ إن أديتَه.

الرابعة: عكسه.

(1)

كذا في النسخ.

ص: 426

فالصورة الأولى والثانية لا تحتاج إلى حيلة، وأما الثالثة والرابعة فالحيلة في جوازهما أن يضمَنَ أحد الشريكين عن المَدِين ما عليه لصاحبه، ثم يجيء شريكه فيضمن ما لصاحب الحق عليهما، فإذا أدَّى هذا الشريك المالَ رجع به على شريكه والأصيل، وإذا أدّاه شريكه والأصيل لم يرجعا على الشريك بشيء؛ لأن شريكه قد صار صاحب الأصل

(1)

هاهنا، فلو رجع عليه لرجع هو عليه، فمن حيث يثبت يسقط، فلا معنى للرجوع عليه.

المثال الثالث والثمانون: لا بأس للمظلوم أن يتحيَّل على مسبَّة الناس لظالمه

(2)

، والدعاء عليه، والأخذ من عِرضه، وإن لم يفعل ذلك بنفسه؛ إذ لعل ذلك

(3)

يردعه، ويمنعه من الإقامة على ظلمه. وهذا كما لو أخذ ماله فلبس أرَثَّ الثياب بعد أحسنها، وأظهر البكاء والنحيب والتأوُّه، أو آذاه في جواره فخرج من داره، وطرح متاعه على الطريق، أو أخذ دابتَه فطرح حِمْلَه على الطريق وجلس يبكي، ونحو ذلك، فكل هذا مما يدعو الناس إلى لعن الظالم له

(4)

وسبِّه والدعاء عليه. وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم المظلومَ بأذى جارِه له إلى نحو ذلك، ففي «السنن» و «مسند الإمام أحمد» من حديث أبي هريرة: أن رجلًا شكَا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من جاره، فقال:«اذهب فاصبِرْ» ، فأتاه مرتين أو ثلاثًا، فقال:«اذهبْ فاطرحْ متاعَك في الطريق» ، فطرح متاعه في الطريق،

(1)

ك: «الأصيل» .

(2)

ك: «لمظالمه» ، خطأ.

(3)

«ذلك» ساقطة من ز.

(4)

«له» ليست في ك.

ص: 427

فجعل الناس يسألونه فيخبرهم خبره، فجعل

(1)

الناس يلعنونه: فعلَ الله به وفعلَ، فجاء إليه جاره فقال له: ارجعْ لا ترى مني شيئًا تكرهه. هذا لفظ أبي داود

(2)

.

المثال الرابع والثمانون: ما ذُكِر

(3)

في مناقب أبي حنيفة

(4)

رحمه الله أن رجلًا أتاه بالليل فقال: أدرِكْني قبل الفجر، وإلا طلَّقتُ امرأتي، فقال: وما ذاك؟ قال: تركَتِ الليلةَ كلامي، فقلت لها: إن طلع الفجر ولم تكلِّميني فأنتِ طالق ثلاثًا، وقد توسلتُ إليها بكل أمر أن تكلِّمني فلم تفعل. فقال: اذهبْ فمُرْ مؤذن المسجد أن ينزل فيؤذِّن قبل الفجر، فلعلها إذا سمعتْه أن تكلِّمك، واذهبْ إليها وناشِدْها أن تكلِّمك قبل أن يؤذِّن المؤذن، ففعل الرجل، وجلس يناشدها، وأذَّن المؤذن، فقالت: قد طلع الفجر وتخلَّصتُ منك، فقال: قد كلَّمتِني قبل الفجر وتخلَّصت من اليمين. وهذا من أحسن الحيل.

[139/أ] المثال الخامس والثمانون: قال بِشر بن الوليد

(5)

: كان في جوار أبي حنيفة فتى يَغشَى مجلسَه، فقال له يومًا: إني أريد التزوُّج بامرأة، وقد طلبوا مني من المهر فوق طاقتي، وقد تعلَّقتُ بالمرأة، فقال له: أعطِهم

(1)

ك: «فيجعل» .

(2)

رقم (5153). ورواه البخاري في «الأدب المفرد» (124) وأبو يعلى (6630) من حديث أبي هريرة، وإسناده حسن، وصححه ابن حبان (520) والحاكم (4/ 166). وهو في «المسند» من حديث يوسف بن عبد الله بن سلام (16408) ولم يسق لفظه، ورواه أيضًا ابن أبي شيبة (25928)، وهو ضعيف.

(3)

ك: «ذكره» .

(4)

(ص 114 - 115) للموفق.

(5)

كما في المصدر السابق (ص 130 - 131).

ص: 428

ما طلبوا منك، ففعل، فلما عقد العقد جاء إليه فقال: قد طلبوا منّي المهر، فقال: احتلْ واقترِضْ وأعطِهم، ففعل، فلما دخل بأهله قال: إني أخاف المطالبين بالدين، وليس عندي ما أُوفّيهم، فقال: أظهِرْ أنك تريد سفرًا بعيدًا، وأنك تريد الخروج بأهلك، ففعل، واكترى جمالًا، فاشتد ذلك على المرأة وأوليائها، فجاؤوا إلى أبي حنيفة رضي الله عنه، فسألوه، فقال: له أن يذهب بأهله حيث شاء، فقالوا: نحن نُرضِيه ونردُّ إليه ما أخذنا منه، ولا يسافر. فلما سمع الزوج طمِعَ وقال: لا والله حتى يزيدوني، فقال له: إن رضيتَ بهذا، وإلا أقرَّت المرأة أن عليها دينًا لرجل، فلا يمكنك أن تُخرِجها حتى توفِّيه، فقال: بالله؟! لا يسمع أهل

(1)

المرأة ذلك منك

(2)

، أنا أرضى بالذي أعطيتُهم.

المثال السادس والثمانون: قال القاضي أبو يعلى: إذا كان لرجلٍ على رجل ألفُ درهم، فصالحه منها على مائة درهم يؤدِّيها إليه في شهر كذا، فإن لم يفعل وأخَّرها إلى شهر آخر فعليه مائتان، فهو جائز. وقد أبطله قوم آخرون.

قال

(3)

: أما جواز الصلح من ألف على

(4)

مائة فالوجه فيه أن التسعمائة لا يستفيدها بعقد الصلح، وإنما استفادها بعقد المداينة، وهو العقد السابق؛ فعُلِم أنها ليست مأخوذة على وجه المعاوضة، وإنما هي على طريق الإبراء عن بعض حقه.

(1)

«أهل» ليست في ز.

(2)

ك: «منك ذلك» .

(3)

ك، ب:«قالوا» .

(4)

ك، ب:«إلى» .

ص: 429

قال: ويفارق هذا إذا كانت له ألف مؤجَّلة فصالحه على تسعمائة حالّة أنه لا يجوز؛ لأنه استفاد هذه التسعمائة بعقد الصلح؛ لأنه لم يكن مالكًا لها

(1)

حالّة، وإنما كان يملكها مؤجلةً، فلهذا لم يصح.

وأما جوازه على الشرط المذكور ــ وهو أنه إن لم يفعل فعليه مائتان ــ فلأن المُصالِح إنما علَّق فسخ البراءة بالشرط، والفسخ يجوز تعليقه بالشرط؛ وإن لم يجز تعليق البراءة بالشرط، ألا ترى أنه لو قال:«أبيعك هذا الثوب بشرط أن تنقُدني الثمنَ اليوم، فإن لم تَنقُدني الثمنَ اليوم فلا بيعَ بيننا» أنه إذا لم ينقد الثمن في يومه انفسخ العقد بينهما، كذلك هاهنا. ومن لم يجوِّز ذلك يقول: هذا تعليق براءة المال بالشرط، وذلك لا يجوز.

قال: والوجه في جواز هذا الصلح على مذهب الجميع أن يعجِّل ربُّ المال حَطَّ ثمانمائة يحطُّها على كل حال، ثم يصالح المطلوب من المائتين الباقيتين على مائة يؤدّيها إليه في شهر كذا على أنه إن أخَّرها عن هذا الوقت فلا صلح بينهما، فإذا فعل هذا فقد استوثق [139/ب] في قول الجميع؛ لأنه متى صالحه على مائتين وقد حطَّ عنه الباقي، يصير كأنه لم يكن عليه من الدين إلا مائتا درهم، ثم صالحه من المائتين الباقيتين على مائة يؤدِّيها إليه في شهر كذا، فإن أخَّرها فلا صلح بينهما، فيكون على

(2)

قول الجميع فسخُ العقد معلقًا بترك النقد، وذلك جائز على ما بيناه في البيع.

فإن أراد أن يكاتب عبدَه على ألف درهم يؤدِّيها إليه في سنتين فإن لم يفعل فعليه ألفٌ أخرى، فهي كتابة فاسدة؛ لأنه علَّق إيجاب المال بخطرٍ،

(1)

ك: «مالكها» .

(2)

«على» ليست في ك.

ص: 430

وتعليق المال بالأخطار لا يجوز. والحيلة في جوازه أن يكاتبه على ألفي درهم، ويكتب عليه بذلك كتابًا، ثم يصالحه بعد ذلك على ألف درهم يؤدِّيها إليه في سنتين فإن لم يفعل فلا صلح بينهما، فيكون تعليقًا للفسخ بخطر، وذلك جائز على ما قدّمنا من مسألة البيع؛ فإن كان السيد كاتبَ عبده على ألفي درهم إلى سنتين فأراد العبد أن يصالح سيده على النصف يعجِّلها له؛ فإن ذلك جائز عندنا، ويُبطِله غيرنا. انتهى كلامه

(1)

.

المثال السابع والثمانون: قال القاضي: إذا اشترى رجل من رجل دارًا بألف درهم؛ فجاء الشفيع يطلب الشفعة؛ فصالحه المشتري على أن أعطاه نصف الدار بنصف الثمن، جاز؛ لأن الشفيع صالَح على بعض حقِّه، وذلك جائز كما لو صالح من ألفٍ على خمسمائة. فإن صالحه على بيت من الدار بحصَّته من الثمن لم يجُزْ؛ لأنه صالحَ على شيء مجهول؛ لأن ما يأخذه الشفيع يأخذه على وجه المعاوضة، وحصة المبيع من الثمن مجهولة، وجهالة العوض تمنع صحة العقد.

فالحيلة حتى يسلَّم البيت للشفيع والدار للمشتري أن يشتري الشفيع هذا البيت من المشتري بثمن مسمًّى، ثم يسلِّم الشفيع للمشتري ما بقي من الدار، وشراء الشفيع لهذا البيت تسليم للشفعة، ومساومته بالبيت تسليم للشفعة؛ لأنه إذا اشتراه بثمن مسمًّى كان عوض البيت معلومًا، ودخوله في شراء البيت تسليم للشفعة فيما بقي من الدار، وذلك جائز؛ والحيلة أن يأخذ البيت بهذا الثمن المسمى من غير أن يكون مسلِّمًا للشفعة حتى يجب له البيت أن يبدأ المشتري فيقول للشفيع: هذا البيت ابتعتُه لك بكذا وكذا

(1)

أي كلام أبي يعلى.

ص: 431

درهمًا، فيقول الشفيع: قد رضيتُ واستوجبتُ؛ لأن المشتري متى

(1)

ابتدأ بقوله: «هذا البيت لك بكذا» لم يكن الشفيع مسلِّمًا للشفعة.

المثال الثامن والثمانون

(2)

: تجوز المغارسة عندنا على شجر الجوز وغيره، بأن يدفع إليه أرضَه ويقول: اغرِسْها من الأشجار كذا وكذا، والغرس بيننا نصفين

(3)

. وهذا كما يجوز أن يدفع إليه ماله يتجر فيه، والربح بينهما نصفين، وكما يدفع إليه أرضه يزرعها، والزرع بينهما، [140/أ] وكما يدفع إليه شجره يقوم عليه، والثمر بينهما، وكما يدفع إليه بقره أو غنمه أو إبله يقوم عليها، والدَّر والنسل بينهما، وكما يدفع إليه زيتونه يعصره، والزيت بينهما، وكما يدفع إليه دابتَه يعمل عليها، والأجرة بينهما، وكما يدفع إليه فرسه يغزو عليها، وسهمُها بينهما، وكما يدفع إليه قَناةً

(4)

يستنبط ماءها، والماء بينهما، ونظائر ذلك. فكل ذلك شركة صحيحة قد دلَّ على جوازها النص والقياس واتفاق الصحابة ومصالح الناس، وليس فيها ما يوجب تحريمها من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس ولا مصلحة، ولا معنى صحيح يوجب فسادها.

والذين منعوا ذلك عذرهم أنهم ظنُّوا ذلك كله من باب الإجارة، فالعوض مجهول فيفسد. ثم منهم من أجاز المساقاة والمزارعة للنص الوارد فيها، والمضاربةَ للإجماع، دون ما عدا ذلك، ومنهم من خصّ الجواز

(1)

ك، ب:«من» .

(2)

هنا بياض في ز.

(3)

كذا في النسخ منصوبًا، وله وجه. وفي المطبوع:«نصفان» .

(4)

مجرى للماء.

ص: 432

بالمضاربة، ومنهم من جوَّز بعض أنواع المساقاة والمزارعة، ومنهم من منع الجواز فيما إذا كان بعض الأصل يرجع إلى العامل كقفيز الطحّان، وجوّزه فيما إذا رجعت إليه الثمرة مع بقاء الأصل كالدَّر والنَّسل.

والصواب جواز ذلك كله، وهو مقتضى أصول الشريعة وقواعدها؛ فإنه من باب المشاركة التي يكون العامل فيها شريكَ المالك، هذا بماله، وهذا بعمله، وما رزق الله فهو بينهما. وهذا عند طائفة من أصحابنا أولى بالجواز من الإجارة، حتى قال شيخ الإسلام

(1)

: هذه المشاركات أحلُّ

(2)

من الإجارة. قال: لأن المستأجر يدفع ماله، وقد يحصل له مقصوده وقد لا يحصل، فيفوز المُؤجِر بالمال والمستأجر على الخطر، إذ قد يكمل الزرع وقد لا يكمل، بخلاف المشاركة؛ فإن الشريكين في الفوز وعدمه على السواء، إن رزق الله الفائدة كانت بينهما، وإن منعها استويا في الحرمان، وهذا غاية العدل؛ فلا تأتي الشريعة بحلِّ الإجارة وتحريم هذه المشاركات.

وقد أقرّ النبي صلى الله عليه وسلم المضاربة على ما كانت عليه قبل الإسلام، وضاربَ أصحابه في حياته وبعد موته، وأجمعت عليها الأمة، ودفع خيبر إلى اليهود يقومون عليها ويعمرونها من أموالهم بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع، وهذا كأنه رأيُ عينٍ، ثم لم ينسخه، ولم ينْهَ عنه، ولا امتنع منه خلفاؤه الراشدون وأصحابه بعده، بل كانوا يفعلون ذلك بأراضيهم وأموالهم، يدفعونها إلى من يقوم عليها بجزء مما يخرج منها، وهم مشغولون بالجهاد وغيره.

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (20/ 508 وما بعدها، 28/ 84 - 85).

(2)

أي أولى بأن يكون حلالًا.

ص: 433

ولم يُنقل عن رجل واحد منهم المنعُ إلا فيما منع منه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما قال الليث بن سعد

(1)

: إذا نظر ذو البصر بالحلال والحرام علم أنه لا يجوز. ولو لم تأتِ [140/ب] هذه النصوص والآثار؛ فلا حرام إلا ما حرَّمه الله ورسوله، والله ورسوله لم يحرِّم شيئًا من ذلك.

وكثير من الفقهاء يمنعون ذلك

(2)

، فإذا بُلِي الرجل بمن يحتجُّ في التحريم بأنه «هكذا في الكتاب وهكذا قالوا» ، ولا بدَّ له مِن فعل ذلك؛ إذ لا تقوم مصلحة الأمة إلا به؛ فله أن يحتال على ذلك بكل حيلة تؤدِّي به إليه

(3)

، فإنها حيل تؤدِّي إلى فعل ما أباحه الله ورسوله، ولم يحرِّمه على الأمة. وقد تقدم ذكر الحيلة على جواز المساقاة والمزارعة.

ونظيرها في الاحتيال على المغارسة أن يُؤاجِره الأرضَ يَغرِس فيها ما شاء من الأشجار لمدة كذا وكذا سنة بخدمتها، وغرس كذا وكذا من الأشجار فيها؛ فإن اتفقا بعد ذلك أن يجعلا لكل منها غِراسًا معينًا مقررًا جاز، وإن أحبَّا أن يكون الجميع

(4)

شائعًا بينهما؛ فالحيلة أن يقرَّ كل منهما للآخر أن جميع ما في هذه الأرض من الغراس فهو بينهما نصفين، أو غير ذلك.

والحيلة في جواز المشاركة على البقر والغنم بجزء من دَرِّها ونَسْلها: أن يستأجره للقيام عليها كذا وكذا سنة للمدة التي يتفقان عليها بنصف

(1)

كما في «مجموع الفتاوى» (20/ 508، 25/ 62، 30، 104، 117، 228).

(2)

ك: «من ذلك» .

(3)

ك، ب:«تؤديه إليه» .

(4)

«الجميع» ليست في ك، ب.

ص: 434

الماشية أو ثلثها، على حسب ما يجعل له من الدَّر والنسل، ويقرّ له بأن هذه الماشية بينهما نصفين أو أثلاثًا، فيصير دَرُّها ونسلها بينهما على حسب ملكَيْهما. فإن خاف ربّ الماشية أن يدّعي عليه العامل بملك نصفها حيث أقرَّ له به، فالحيلة أن يبيعه ذلك النصف بثمن في ذمته، ثم يسترهنه على ذلك الثمن، فإن ادَّعى الملك بعد هذا طالبه بالثمن، فإن ادَّعى الإعسار اقتضاه من الرهن.

والحيلة في جواز قَفِيز الطحّان أن يملِّكه جزءًا من الحبّ أو الزيتون، إما ربعه أو ثلثه أو نصفه، فيصير شريكه فيه، ثم يطحنه أو يعصره فيكون بينهما على حسب ملكَيْهما فيه، فإن خاف أن يملّكه ذلك فيملِكه عليه ولا يُحدِث فيه عملًا؛ فالحيلة أن يبيعه إياه بثمن في ذمته، فيصير شريكه فيه، فإذا عمل فيه سلَّم إليه حصته وأبرأه من الثمن. فإن خاف الأجير أن يطالبه بالثمن ويتسلَّم الجميع ولا يعطيه أجرته؛ فالحيلة في أمنه من ذلك أن يُشهِد عليه أن الأصل مشترك بينهما قبل العمل، فإذا حدثَ فيه العمل فهو على الشركة.

وهكذا الحيلة في جميع هذا الباب، وهي حيلة جائزة؛ فإنها لا تتضمَّن إسقاطَ حق، ولا تحريمَ حلال، ولا تحليلَ حرام. والله أعلم.

المثال التاسع والثمانون: إذا أخرجَ

(1)

المتسابقان في النضال معًا جاز في أصح القولين، والمشهور من مذهب مالك أنه لا يجوز. وعلى القول بجوازه فأصح القولين أنه لا يحتاج إلى محلِّل، كما هو مقتضى المنقول عن الصديق

(2)

(1)

كذا في النسخ، وهو صواب. وفي المطبوع:«خرج» .

(2)

رواه الترمذي (3191، 3193) وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (5/ 2704) والحاكم (2/ 410) من طرق عن أبي بكر في الرهان في غلبة الروم. وصححه ابن خزيمة في «التوحيد» (166) والحاكم وابن القيم في «الفروسية» (ص 207)، ووثق رجاله الحافظ في «الإصابة» (3/ 579).

ص: 435

وأبي عبيدة بن الجراح

(1)

، واختيار شيخنا

(2)

[141/أ] وغيره. والمشهور من أقوال الأئمة الثلاثة أنه لا يجوز إلا بمحلِّل، على تفاصيلَ لهم في المحلِّل وحكمه، قد ذكرناها في كتابنا الكبير في «الفروسية الشرعية» ، وذكرنا فيه وفي كتاب «بيان الاستدلال على بطلان اشتراط محلِّل السباق والنضال»

(3)

بيان بطلانه من أكثر من خمسين وجهًا، وبيَّنا ضعف الحديث الذي احتج به من اشترطه، وكلام الأئمة في ضعفه، وعدم الدلالة منه على تقدير صحته

(4)

.

والمقصود هنا بيان وجه الحيلة على الاستغناء عنه عند من يَقنع بـ «هكذا قالوا وهكذا في الكتاب» ؛ فالحيلة على تخلُّص المتسابقينِ المخرجينِ منه أن يملِّكا العوضين لثالثٍ يثقان به، ويقول الثالث: أيكما سبق فالعوضانِ له، وإن جئتما معًا فالعوضان بينكما؛ فيجوز هذا العقد. وهذه الحيلة ليست حيلة على جوازِ محرَّم، ولا تتضمن إسقاطَ حق، ولا تدخل

(1)

رواه أحمد (344) وابن أبي شيبة (34233، 34525) وابن حبان (4766) والطبراني (1/ 155) من طريق شعبة، عن سماك بن حرب، عن عياض الأشعري، وإسناده صحيح، وصححه ابن حبان وابن كثير في «مسند الفاروق» (2/ 495 - 496)، وقال الهيثمي (6/ 216): رجاله رجال الصحيح.

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (28/ 22).

(3)

لم يصلنا. انظر: «ابن قيم الجوزية ــ حياته، آثاره، موارده» للشيخ بكر أبو زيد (ص 223 - 225).

(4)

انظر: «الفروسية» (ص 169 وما بعدها).

ص: 436

في مأثم؛ فلا بأس بها، والله أعلم.

المثال التسعون: يجوز اشتراط الخيار في البيع فوق ثلاث على أصح قولَي العلماء، وهو مذهب الإمام أحمد ومالك. وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يجوز، وقد تدعو الحاجة إلى جوازه؛ لكون المبيع لا يمكنه استعلامه

(1)

في ثلاثة أيام؛ أو لِغَيبة من يشاوره ويثق برأيه، أو لغير ذلك. والقياس المحض جوازه كما يجوز تأجيل الثمن فوق ثلاث، والشارع لم يمنع من الزيادة على الثلاثة، ولم يجعلها حدًّا فاصلًا بين ما يجوز من المدة وما

(2)

لا يجوز، وإنما ذكرها في حديث حَبَّان بن مُنقِذ

(3)

وجعلها له بمجرد البيع، وإن لم يشترطها؛ لأنه كان يُغلَب في البيوع، فجعل له ثلاثًا في كل سلعة يشتريها، سواء شرط ذلك أو لم يشرطه، هذا ظاهر الحديث، فلم يتعرض للمنع من الزيادة على الثلاث بوجه من الوجوه.

فإن أراد الجواز على قول الجميع؛ فالمخرج أن يشترط الخيار ثلاثًا، فإذا قارب انقضاءُ الأجل فسخَه ثم اشترط ثلاثًا، وهكذا حتى تنقضي المدة التي اتفقا عليها. وليست هذه الحيلة محرَّمة؛ لأنها لا تدخل في باطل، ولا تخرج من حق، وهذا بخلاف الحيلة على إيجار الوقف مائة سنة، وقد شرط الواقف أن لا يُؤجِر أكثر من سنة واحدة، فتحيَّل على إيجاره أكثر منها بعقودٍ متفرقة في ساعة واحدة كما تقدم.

(1)

ك: «استعماله» ، تحريف.

(2)

ك، ب:«وبين ما» .

(3)

تقدم تخريجه.

ص: 437

المثال الحادي والتسعون: إذا أراد أن يُقرِض رجلًا مالًا ويأخذ

(1)

منه رهنًا، فخاف أن يهلك الرهن فيسقط من دينه بقدره عند حاكم يرى ذلك، فالمَخْرج له أن يشتري العين التي يريد ارتهانها بالمال الذي يُقرِضه، ويُشهِد عليه أنه لم يقبضه، فإن وثِقَ بكونه عند البائع تركه عنده، فإن تلِفَ تلِفَ من ضمانه، وإن بقي تمكَّن مِن أخذه منه متى شاء، وإن ردَّ عليه المال أقاله البائع.

وأحسن من هذه الحيلة أن يستودع العينَ قبل القرض، ثم يُقرِضه وهي عنده؛ [141/ب] فهي في الظاهر وديعة، وفي الباطن رهن، فإن تلِفَت لم يسقط بهلاكها شيء من حقه.

فإن خاف الراهن أنه إذا وفَّاه حقَّه لم يُقِلْه البيع، فالمَخْرج له أن يشترط عليه الخيار إلى المدة التي يعلم أنه يوفِّيه فيها على قول أبي يوسف ومحمد ومالك وأحمد.

فإن خاف المرتهن أن يستحقَّ الرهن أو بعضه، فالمَخْرج له أن يضمِّن دركَ الرهنِ غيرَ الراهن، أو يُشِهد على من يخشى دعواه الاستحقاق بأنه متى ادَّعاه كانت دعواه باطلة، أو يضمِّنه الدركَ نفسه.

المثال الثاني والتسعون: إذا بدا الصلاح في بعض الشجرة جاز بيع جميعها، وكذلك يجوز بيع ذلك النوع كله في البستان. وقال شيخنا

(2)

: يجوز بيع البستان كله تبعًا لما بدا صلاحه، سواء كان من نوعه أو لم يكن،

(1)

ك: «ويأخذه» .

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (29/ 482).

ص: 438

تقارب إدراكُه وتلاحقُه أم تباعد، وهو مذهب الليث بن سعد. وعلى هذا فلا حاجة إلى الاحتيال

(1)

على الجواز.

وقالت الحنفية: إذا خرج بعض الثمرة دون بقيتها، أو خرج الجميع وبعضه قد بدا صلاحه دون بعض، لا يجوز البيع؛ للجمع بين الموجود والمعدوم والمتقوّم وغيره، فتصير حصّة

(2)

الموجود المتقوّم مجهولةً فيفسد البيع. وبعض الشيوخ كان يفتي بجوازه في الثمار والباذنجان ونحوها، جعلًا للمعدوم تبعًا للموجود. وأفتى محمد بن الحسن بجوازه في الورد لسرعة تلاحُقِه. قال شمس الأئمة السرخسي

(3)

: والأصح المنع.

قالوا: فالحيلة في الجواز أن يشتري الأصول، وهذا قد لا يتأتَّى غالبًا. قالوا: فالحيلة أيضًا أن يشتري الموجود الذي بدا صلاحه بجميع الثمن، ويُشهِد عليه أنه قد أباح له ما يحدث من

(4)

بعدُ. وهذه الحيلة أيضًا قد تتعذَّر أو قد ترجع في الإباحة، وإن جُعلت هبةً فهبة المعدوم لا تصح.

وإن ساقاه على الثمرة من كل ألف

(5)

جزء على جزء ــ مثلًا ــ لم تصح المساقاة عندهم، وتصح عند أبي يوسف ومحمد.

وإن آجره الشجرةَ لأخذِ ثمرِها لم تصح عندهم وعند غيرهم؛ فالحيلة إذًا أن يبيعه الثمرة الموجودة ويُشهِد عليه أن ما يحدث بعدها فهو حادث

(1)

ز: «احتيال» .

(2)

ك، ب:«جهة» .

(3)

في «المبسوط» (12/ 197).

(4)

«من» ليست في ز.

(5)

«ألف» ليست في ز.

ص: 439

على مِلك المشتري، لا حقَّ للبائع فيه، ولا يذكر سبب الحدوث. ولهم حيلة أخرى فيما إذا بدت الثمار أن يشتريها بشرط القطع، أو يشتريها ويطلق، ويكون القطع موجبَ العقد، ثم يتفقان على التبقية إلى وقت الكمال.

ولا ريبَ أن المَخْرج ببيعها إذا بدا صلاحُ بعضها أو بإجارة الشجر أو بالمساقاة أقربُ إلى النص والقياس وقواعد الشرع من ذلك، كما تقدم تقريره.

المثال الثالث والتسعون: إذا وكَّله أن يشتري له بضاعة، وتلك البضاعة عند الوكيل، وهي رخيصة تساوي أكثر مما اشتراها به، ولا تسمح نفسه أن يبيعها بما اشتراها به؛ فالحيلة أن يبيعها [142/أ] بما تساويه بيعًا تامًّا صحيحًا لأجنبي، ثم إن شاء اشتراها من الأجنبي لموكِّله. ولكن تدخل هذه الحيلة سدّ الذرائع؛ إذ قد يتخذ ذلك ذريعةً إلى أن يبيعها بأكثر مما تساوي، فيكون قد غشَّ الموكِّل. ويظهر هذا إذا اشتراها بعينها دون غيرها؛ فيكون قد غرَّ

(1)

الموكِّل، فإن كان الموكِّل لو اطلع على الحال لم يكره ذلك ولم يَرَه غرورًا فلا بأس به، وإن كان لو اطلع عليه لم يَرْضَه لم يجز، والله أعلم.

المثال الرابع والتسعون: إذا اشترى منه دارًا، وخاف احتيال البائع عليه بأن يكون قد ملَّكها لبعض ولده، فيتركها في يده مدة ثم يدَّعيها عليه، ويحسب سكناها بثمنها، كما يفعله المخادعون الماكرون؛ فالحيلة أن يحتاط لنفسه بأنواع من الحيل:

منها: أن يضمن من يخاف منه الدرك.

(1)

ك، ب:«غش» .

ص: 440

ومنها: أن يُشهِد عليه أنه إن ادَّعى هو أو وكيله في الدار دعوى كانت باطلة، وكل بينة يقيمها زُور.

ومنها: أن يضمن الدركَ لرجل معروف يتمكَّن من مطالبته.

ومنها: أن يجعل ثمنها أضعافَ ما اشتراها به، فإن استحقّت رجع عليه بالثمن الذي أشهد به. مثاله: أن يتفقا على أن الثمن ألف، فيشتريها بعشرة آلاف، ثم يبيعه بالعشرة آلاف سلعة

(1)

، ثم يشتريها منه بألفٍ، وهي الثمن، فيأخذ الألف ويشهد عليه أن الثمن عشرة آلاف، وأنه قبضه، وبرئ منه المشتري، فإن استحقَّت رجع عليه بالعشرة آلاف. وبالجملة فمقابلة الفاسد بالفاسد والمكر بالمكر والخداع بالخداع قد يكون حسنًا بل مأمورًا به، وأقلُّ درجاته

(2)

أن يكون جائزًا كما تقدم بيانه.

المثال الخامس والتسعون: إذا اشترى العبد نفسَه من سيده بمال يؤدّيه إليه، فأدَّى إليه معظمه، ثم جحد السيد أن يكون باعه نفسه، وللسيد في يد العبد مال أذِنَ له في التجارة؛ فالحيلة أن يشهد العبد في السرّ أن المال الذي في يده لرجل أجنبي، فإن وفَى له سيده بما عاقده عليه وفَى له العبد، وسلَّمه ماله، وإن غدر به تمكَّن العبد من الغدر به، وإخراجِ المال عن يده.

وهذه الحيلة لا تتأتَّى على أصل من يمنع مسألة الظفر، ولا على قول من يجيزها، فإن السيد إذا ظلمه بجحدِه حقَّه لم يكن له أن يظلمه بمنعِه مالَه، وأن يحول بينه وبينه فيقابل الظلم بالظلم، ولا يرجع إليه منه فائدة، ولكن

(1)

ك: «سعلة» .

(2)

ك: «الدرجات» .

ص: 441

فائدة هذه الحيلة أن السيد متى علم بصورة الحال، وأنه متى جحده البيع حالَ بينه وبين ماله بالإقرار الذي يظهره منعَه ذلك من جحود البيع، فيكون بمنزلة رجل أمسك ولد غيره ليقتله، فظفِرَ هو بولده قبل القتل فأمسكه، وأراه أنه إن قتل ولده قتل هو ولده أيضًا، ونظائر ذلك.

وكذلك إن كان السيد هو الذي يخاف من

(1)

العبد أن لا يقرَّ له بالمال ويقرَّ به لغيره يتواطآن عليه؛ فالحيلة أن يبدأ السيد فيبيع العبد لأجنبي في [142/ب] السرّ، ويُشهِد على بيعه، ثم يبيع العبد من نفسه، فإذا قبض المال فأظهر العبد إقرارًا بأن

(2)

ما في يده لأجنبي أظهر السيد أن بيعه لنفسه كان باطلًا، وأن فلانًا الأجنبي قد اشتراه، فإذا علم العبد أن عتقه يبطُل، ولا يحصل مقصوده، امتنع من التحيُّل على إخراج مال السيد عنه إلى أجنبي.

ونظير هذه الحيلة إذا أراد ظالم

(3)

أخذَ دارِه بشراء أو غيره؛ فالحيلة أن يملِّكها لمن يثِقُ به، ثم يُشهِد على ذلك، وأنها خرجت عن ملكه، ثم يُظهِر أنه وقفها على الفقراء والمساكين. ولو كان في بلده حاكم يرى صحة وقف الإنسان على نفسه، وصحةَ استثناء الغلَّة له مدةَ حياته، وصحةَ وقفه لها بعد موته، فحكم له بذلك= استغنى عن هذه الحيلة.

وحيل هذا الباب ثلاثة أنواع: حيلة على دفع الظلم والمكر حتى لا يقع، وحيلة على رفعه

(4)

بعد وقوعه، وحيلة على مقابلته بمثله حيث لا يمكن رفعه.

(1)

«من» ليست في ك.

(2)

ك: «أن» .

(3)

ك: «الحاكم» .

(4)

ك: «دفعه» .

ص: 442

فالنوعان الأولان جائزان، وفي الثالث تفصيل، فلا يمكن القول بجوازه على الإطلاق، ولا بالمنع منه على الإطلاق، بل إن كان المتحيَّلُ به حرامًا لحق

(1)

الله لم يجز مقابلته بمثله، كما لو جرَّعه الخمرَ أو زنى بحرمته. وإن كان حرامًا لكونه ظلمًا له في ماله، وقدَرَ على ظلمه بمثل ذلك فهي مسألة الظفر.

وقد توسَّع فيها قوم حتى أفرطوا، وجوَّزوا قَلْع الباب، ونَقْب الحائط، وخَرْق السقف، ونحو ذلك؛ لمقابلته بأخذ نظير ماله. ومنعها قوم بالكلية، وقالوا: لو كان له عنده وديعة أو له عليه دين لم يجز له أن يستوفي منه قدْرَ حقِّه إلا بإعلامه به. وتوسَّط آخرون وقالوا: إن كان سبب الحق ظاهرًا كالزوجية والأبوة والبنوة وملك اليمين الموجب للإنفاق، فله أن يأخذ قدْرَ حقِّه من غير إعلامه، وإن لم يكن ظاهرًا كالقرض وثمن المبيع ونحو ذلك، لم يكن له الأخذُ إلا بإعلامه. وهذا أعدل الأقوال في المسألة، وعليه تدلُّ السنة دلالة صريحة؛ والقائلون به أسعدُ بها، وبالله التوفيق.

وإن كان بهتًا له وكذبًا عليه أو قذفًا له أو شهادةً عليه بالزور لم يجز له مقابلته بمثله، وإن كان دعاءً عليه أو لعنًا أو مسبةً فله مقابلته بمثله على أصح القولين، وإن منعه كثير من الناس. وإن كان إتلافَ مالٍ له، فإن كان محترمًا كالعبد والحيوان لم يجز له مقابلته بمثله، وإن كان غيرَ محترمٍ فإن خاف تعدِّيه فيه لم يجز له مقابلته بمثله، كما لو حرَّق داره لم يجز له أن يحرِّق داره، وإن لم يتعدَّ فيه ــ بل كان يفعل به نظيرَ ما فعل به سواء، كما لو قطع شجرته أو كسر إناءه أو فتح قفصًا عن طائره أو حلَّ وِكاءَ مائعٍ له أو أرسل

(1)

ز: «بحق» .

ص: 443

الماء على مسطاحِه

(1)

فذهب بما فيه ونحو ذلك، وأمكنه مقابلته بمثل ما فعل سواء ــ فهذا محلُّ اجتهادٍ، لم يدلَّ على المنع منه كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح، بل الأدلة

(2)

المذكورة تقتضي جوازه، كما تقدم بيانه في أول الكتاب.

وكان شيخنا رضي الله عنه[143/أ] يرجِّح هذا ويقول

(3)

: هو أولى بالجواز من إتلاف طرفه بطرفه، والله أعلم.

المثال السادس والتسعون: الضمان والكفالة من العقود اللازمة، ولا يمكن الضامنَ والكفيلَ أن يتخلَّص متى شاء، ولا سيما عند من يقول: إن الكفالة توجب ضمان المال إذا تعذَّر إحضارُ المكفول به مع بقائه، كما هو مذهب الإمام أحمد ومن وافقه.

وطريق التخلص من وجوه:

أحدهما: أن يوقِّتها بمدة، فيقول: ضمنتُه أو تكفَّلتُ به شهرًا أو جمعةً، ونحو ذلك، فيصح.

الثاني: أن يقيِّدها بمكان دون مكان، فيقول: ضمنتُه أو تكفَّلتُ به ما دام في هذا البلد أو في هذا السوق.

الثالث: أن يعلِّقها على شرط، فيقول: ضمنتُ أو كفلتُ إن رضي فلان،

(1)

في «تاج العروس» (سطح) أن المسطاح لغة في المِسْطَح: الموضع الذي يُبسَط فيه التمر ويجفف. وذكر الروياني في «بحر المذهب» (3/ 110) أن أهل بغداد يسمون الجرين: المسطاح.

(2)

ك: «الأدلة الصحيحة» .

(3)

انظر: «مجموع الفتاوى» (30/ 332 - 333).

ص: 444

أو يقول: ضمنتُ ما عليه إن كفلَ فلان بوجهه، ونحو ذلك.

الرابع: أن يشرط

(1)

في الضمان أنه لا يطالبه حتى يتعذَّر مطالبة الأصيل، فيجوز هذا الشرط، بل هو حكم الضمان في أشهر الروايتين عن مالك؛ فلا يطالب الضامن حتى يتعذَّر مطالبة الأصيل وإن لم يشرطه، حتى لو شرطَ أن يأخذ من أيهما شاء كان الشرط باطلًا عند ابن القاسم وأصبغ.

الخامس: أن يقول: كفلتُ بوجهه على أني بريء مما عليه، فلا يلزمه ما عليه إذا لم يحضره، بل يلزم بإحضاره إذا تمكَّن منه.

السادس: أن يطالب المضمون عنه بأداء المال إلى ربه؛ ليبرأ هو من الضمان إذا كان قد ضمن بإذنه، ويكون خصمًا في المطالبة، وهذا مذهب مالك. فإن ضمِنَه بغير إذنه لم يكن له مطالبته بأداء المال إلى ربه، فإن أدَّاه عنه فله مطالبته به حينئذٍ.

المثال السابع والتسعون: إذا كان له داران فاشترى منه إحداهما على أنها

(2)

إن استحقت فالدار الأخرى له بالثمن، فهذا جائز؛ إذ غايته تعليق البيع بالشرط، وليس في شيء من

(3)

الأدلة الشرعية ما يمنع صحته. وقد نصّ الإمام أحمد على جوازه فيمن باع جارية، وشرط على المشتري أنه إن باعها فهو أحقُّ بها بالثمن، وفعله بنفسه لما رهنَ نعله وشرطَ للمرتهن أنه إن جاءه بفِكاكها إلى وقت كذا، وإلا فهي له بما عليها، ونصَّ على جواز تعليق النكاح

(1)

ك: «يشترط» .

(2)

«أنها» ليست في ك.

(3)

«شيء من» ليست في ك، ب.

ص: 445

بالشرط فالبيع أولى، ونص على جواز تعليق التولية بالشرط كما نصَّ عليه صاحب الشرع نصًّا لا يجوز مخالفته، وقد تقدَّم تقرير ذلك.

وكثير من الفقهاء يُبطِل البيع المذكور، فالحيلة في جوازه عند الكل أن يشتري منه المشتري الدار الأخرى التي لا يريد شراءها، ويقبضها منه، ثم يشتري بها الدار التي يريد شراءها ويسلِّمها إليه، ويتسلَّم داره، فإن استحقت هذه الدار عليه رجع في ثمنها، وهو الدار الأخرى. وهذه حيلة لطيفة جائزة لا تتضمن إبطالَ حق، ولا دخولًا في باطل، وهي مثال لما كان من جنسها من هذا النوع مما يخاف استحقاقه، ويشترط على البائع [143/ب] أخذ ما يقابله من حيوان

(1)

أو رقيق أو غير ذلك.

المثال الثامن والتسعون: رجل أراد أن يشتري جارية أو سلعة من رجل غريب، فلم يأمن أن تستحق أو تخرج مَعيبةً فلا يمكنه الرجوع ولا الردّ، فإن قال له البائع: «أنا أوكّل من تعرفه فيما تدَّعي به من

(2)

عيب أو رجوع» لم يأمن أن يحتال عليه ويعزِله فيذهب حقه، فالحيلة في التوثُّق أن يكون الوكيل هو الذي يتولى البيع بنفسه، ويضمن له صاحب السلعة الدركَ، ويكون وكيلًا لهذا الذي تولى البيع، فيمكن المشتريَ حينئذٍ مطالبةُ هذا الذي تولَّى البيع بنفسه ويأمن ما يحذره.

المثال التاسع والتسعون: رجل قال لغيره: «اشترِ هذه الدار أو هذه السلعة من فلان بكذا وكذا، وأنا أربحك فيها كذا وكذا» ، فخاف إن اشتراها أن يبدو للآمر فلا يريدها، ولا يتمكَّن من الرد؛ فالحيلة أن يشتريها على أنه

(1)

ك: «جواز» ، تصحيف.

(2)

«من» ليست في ك.

ص: 446

بالخيار ثلاثة أيام أو أكثر، ثم يقول للآمر: قد اشتريتُها بما ذكرتَ، فإن أخذها منه، وإلا تمكَّن من ردِّها على البائع بالخيار. فإن لم يشترها الآمر إلا بالخيار فالحيلة أن يشترط له خيارًا أنقصَ من مدة الخيار التي اشترطها هو على البائع؛ ليتسع له زمن الردّ إن ردّت عليه.

المثال الموفي مئة: إذا اشترى منه جارية أو سلعة ثم اطلع على عيب بها، فخاف إن ادَّعى أنه اشتراها بكذا وكذا أن ينكر البائعُ قبضَ الثمن، ويسألَ الحاكمَ الحكمَ عليه بإقراره أو ينكر البيع ويسأله تسليمَ الجارية إليه؛ فالحيلة التي تخلِّصه أن يردَّها عليه فيما بينه وبينه، ثم يدَّعي عليه عند الحاكم باستحقاق ثمنها، ولا يعيَّن السبب، فإن أقرَّ فلا إشكال، وإن أنكر لم يَلزم المشتريَ الثمنُ، فإما أن يقيم عليه بينةً أو يحلِّفه.

المثال الحادي بعد المائة: إذا كان له عليه مال حالٌّ فأبى أن يقرَّ له به حتى يصالحه على بعضه أو يؤجّله، ولا بينةَ له، فأراد حيلة يتوصَّل بها إلى أخذ ماله كله حالًا، ويبطل الصلح والتأجيل، فالحيلة له أن يواطئ رجلًا يدَّعي

(1)

عليه بالمال الذي له على فلان عند حاكم، فيقرّ له به، ويصح إقراره بالدين الذي له على الغير، فإنه قد يكون المال مضاربةً فيصير ديونًا على الناس، فلو لم يصح إقراره به له لضاع ماله.

وأما قول أبي عبد الله بن حَمدان في «الرعاية» : «ولو قال: دَيني الذي على زيد لعمرو احتمل الصحة، والبطلانُ أظهر» = فهذا إنما هو فيما إذا أضاف الدين إليه ثم قال: هو لعمرو، فيصير نظير ما لو قال: مِلكي كله

(1)

ز: «غيره» .

ص: 447