الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
قال أرباب الحيل: قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]، والحيل مخارجُ من المضايق.
والجواب إنما يتبين بذكر
قاعدة في أقسام الحيل ومراتبها
، فنقول: هي أقسام:
القسم الأول: الطرق الخفية التي يتوصل بها إلى ما هو محرم في نفسه، بحيث لا يحلُّ بمثل ذلك السبب بحال، فمتى كان المقصود بها محرمًا في نفسه فهي حرام باتفاق المسلمين، وذلك كالحيل على أخذ أموال الناس وظلمهم في نفوسهم وسَفْك دمائهم وإبطال حقوقهم وإفساد ذات بينهم، وهي من جنس حيل الشياطين على إغواء بني آدم بكل طريق، وهم يتحيلون عليهم ليُوقِعوهم في واحدةٍ من ستة ولا بدَّ:
فيتحيلون عليهم بكل طريق أن يوقعوهم في الكفر والنفاق على اختلاف أنواعه، فإذا عَمِلت حيلهم في ذلك قرَّت عيونهم.
فإن عجزتْ حيلهم عن من صحَّت فطرته وتلاها شاهدُ الإيمان من ربه بالوحي الذي أنزله على رسوله أعملوا الحيلة في إلقائه
(1)
في البدعة على اختلاف أنواعها وقبول القلب [109/أ] لها وتهيُّؤه واستعداده. فإن تمَّت حيلُهم كان ذلك أحبَّ إليهم من المعصية، وإن كانت كبيرة
(2)
. ثم ينظرون
(1)
ك: «إلقائهم» .
(2)
ك: «كثيرة» .
في حال من استجاب
(1)
لهم إلى البدعة؛ فإن كان مُطاعًا متبوعًا في الناس أمروه بالزهد والتعبد ومحاسن الأخلاق والشِّيَم، ثم أطاروا له الثناء بين الناس ليصطادوا عليه الجهال ومن لا علم عنده بالسنة، وإن لم يكن كذلك جعلوا بدعته عونًا له على ظلمه أهلَ السنة وأذاهم والنيل منهم، وزيَّنوا
(2)
له أن هذا انتصارٌ
(3)
لما هم عليه من الحق.
فإن أعجزتْهم هذه الحيلة ومنَّ الله سبحانه على العبد بتحكيم السنة ومعرفتها والتمييز بينها وبين البدعة ألقَوه في الكبائر، وزيَّنوا له فعلَها بكل طريق، وقالوا له: أنت على السنة، وفُسَّاق أهل السنة أولياء الله، وعُبَّاد أهل البدعة أعداء الله، وقبور فسّاق أهل السنة روضة من رياض الجنة، وقبور عبّاد أهل البدع حفرة من حفر النار
(4)
، والتمسك بالسنة يكفِّر الكبائر، كما أن مخالفة السنة تُحبِط الحسنات، وأهل السنة إن قعدتْ بهم أعمالهم قامت بهم عقائدهم، وأهل البدع إذا قامت بهم أعمالهم قعدتْ بهم عقائدهم، وأهل السنة هم الذين أحسنوا الظن بربهم إذ وصفوه بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله ووصفوه بكل كمال وجلال ونزَّهوه عن كل نقص، والله تعالى عند ظنِّ عبده به، وأهل البدع هم الذين يظنون بربهم ظنَّ السَّوء؛ إذ يعطِّلونه عن صفات كماله وينزِّهونه عنها، وإذا عطَّلوه عنها لزم اتصافه بأضدادها ضرورة؛ ولهذا قال الله تعالى في حق من أنكر صفة واحدة من صفاته وهي صفة العلم ببعض
(1)
ز: «المستجاب» . ك: «المستحبات» . والمثبت من المطبوع.
(2)
ز: «ورتبوا» .
(3)
ز: «انتصارًا» .
(4)
ك: «حفر أهل النار» .
الجزئيات: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 23]، وأخبر عن الظانّين بالله ظنَّ السَّوء أن {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}
(1)
[الفتح: 6]، فلم يتواعد بالعقاب أحدًا أعظمَ ممن ظنَّ به ظنَّ السَّوء، وأنت لا تظنّ به ظنّ السّوء، فما لك وللعقاب؟ وأمثال هذا من الحق الذي يجعلونه وُصْلةً لهم، وحيلةً إلى استهانته بالكبائر، وأخْذِه الأمنَ لنفسه.
وهذه حيلة لا ينجو
(2)
منها إلا الراسخ في العلم، العارف بأسماء الله وصفاته، فإنه كلما كان بالله أعرفَ كان له أشدَّ خشيةً، وكلما كان به أجهلَ كان أشدَّ غرورًا به وأقلَّ خشيةً.
فإن أعجزتْهم هذه الحيلة وعظُمَ وقار الله في قلب العبد هوَّنوا عليه الصغائر، وقالوا له: إنها تقع مكفَّرةً باجتناب الكبائر حتى كأنها لم تكن، وربما مَنَّوه أنه إذا تاب منها كُتب له مكانَ كل سيئةٍ حسنةٌ، فيقولون له: كثِّر منها ما استطعتَ، ثم اربَحْ مكان كل سيئة حسنةً بالتوبة، ولو قبلَ الموت بساعة.
فإن أعجزتْهم هذه الحيلة وخلَّص الله عبدَه منها نقلَه
(3)
إلى الفضول من أنواع المباحات والتوسع فيها، وقال له: قد
(4)
كان لداود مائة امرأة إلا
(1)
في النسختين: «وأعد لهم عذابًا عظيمًا» . وصحح في هامش ز.
(2)
ز: «لا ينج» .
(3)
كذا في النسختين: «نقله» وضمير الفاعل للشيطان. وفي المطبوع: «نقلوه» .
(4)
«قد» ليست في ك.
واحدةً ثم أراد تكميلها بالمائة، وكان لسليمان ابنِه مائةُ امرأة، وكان للزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان رضي الله عنهم من الأموال ما هو معروف، وكان لعبد الله بن المبارك والليث بن سعد من الدنيا وسعة المال ما لا يُجهل، [109/ب] ويُنسِيه ما كان لهؤلاء من الفضل، وأنهم لم ينقطعوا عن الله بدنياهم، بل ساروا بها إليه، فكانت طريقًا لهم إلى الله.
فإن أعجزتْهم هذه الحيلةُ ــ بأن تفتح بصيرة العبد حتى كأنه يشاهد بها الآخرة وما أعدَّ الله فيها لأهل طاعته وأهل معصيته، فأخذ حِذره، وتأهَّب للقاء ربه، واستقصرَ مدة هذه الحياة الدنيا في جنب الحياة الباقية الدائمة ــ نقلَه
(1)
إلى الطاعات المفضولة الصغيرة الثواب ليَشْغَلَه
(2)
بها عن الطاعات الفاضلة الكبيرة الثواب، فيعمل حيلتَه في تركه كل طاعة كبيرة إلى ما هو دونها، فيعمل حيلته في تفويت الفضيلة عليه.
فإن أعجزتْهم هذه الحيلة ــ وهيهات ــ لم يَبْقَ لهم إلا حيلة واحدة، وهي تسليط أهل الباطل والبدع والظلمة عليه يؤذونه، وينفِّرون الناس عنه، ويمنعونهم من الاقتداء به؛ ليفوِّتوا عليه مصلحةَ الدعوة إلى الله ومصلحة الإجابة.
فهذه مجامع أنواع حيل الشيطان، ولا يُحصِي أفرادَها إلا الله، ومن له مُسكةٌ من العقل يعرف الحيلة التي تمَّت عليه من هذه الحيل، فإن كانت له همة إلى التخلُّص منها، وإلا فيسأل من تمَّتْ عليه، والله المستعان.
(1)
كذا في النسختين بصيغة الإفراد. وفي المطبوع: «نقلوه» .
(2)
في المطبوع: «ليشغلوه» .
وهذه الحيل من شياطين الجن نظير حيل شياطين الإنس المجادلين بالباطل ليُدْحِضوا به الحق ويتوصَّلوا به
(1)
إلى أغراضهم الفاسدة في الأمور الدينية والدنيوية، وذلك كحيل القرامطة الباطنية على إفساد الشرائع، وحيل الرهبان على أشباه الحمير من عابدي الصليب بما يُموِّهون به عليهم من المخاريق والحيل كالنور المصنوع وغيره مما هو معروف عند الناس، وكحيل أرباب الإشارات من اللاذَن
(2)
والتسيير
(3)
والتغيير
(4)
وإمساك الحيّات ودخول النار في الدنيا قبل الآخرة، وأمثال ذلك من حيل أشباه النصارى التي تَروج على أشباه الأنعام، وكحيل أرباب الدَّكّ
(5)
وخفة اليد التي تخفى على الناظرين
(6)
أسبابها ولا يتفطنون لها، وكحيل السحرة على اختلاف أنواع السحر:
(1)
ك: «بهم» .
(2)
هو شيء من رطوبة يكون على شجرة القيسوس. انظر: «المعتمد» لابن رسول (ص 439).
(3)
ز: «التستير» . وفي ك: الكلمة غير منقوطة. وفي المطبوع: «التيسير» .
(4)
ز: «التعبير» ، تصحيف. انظر:«مجموع الفتاوى» (35/ 113).
(5)
الدكّ: الشعوذة. انظر لتحقيق هذه الكلمة ومعناها تعليق الدكتور إحسان عباس على «الذخيرة» لابن بسّام (1/ 550)، و «تكملة المعاجم العربية» لدوزي (4/ 384)، و «المختار في كشف الأسرار» لعبد الرحمن الجوبري (ص 62، 63، 74). ولابن شهيد الشاعر كتاب بعنوان «كشف الدك وإيضاح الشك» ، ذكره ابن خلكان في «الوفيات» (1/ 116) والفقيه عمر الزجال في قصيدته النونية كما في «نفح الطيب» (5/ 45). وفي «الفهرست» لابن النديم (ص 312):«كتاب الخفة والدك» من كتب الشعبذة والطلسمات.
(6)
ز: «الناظر» .
فإن سحر البيان هو من أنواع التحيُّل: إما لكونه بلغ في اللطف والحسن إلى حدِّ استمالة القلوب فأشبهَ السحر من هذا الوجه، وإما لكون القادر على البيان يكون قادرًا على تحسين القبيح وتقبيح الحسن فهو أيضًا يُشبه السحر من هذا الوجه أيضًا.
وكذلك سحر الوهم أيضًا هو حيلة وهمية، والواقع شاهد بتأثير الوهم والإيهام، ألا ترى أن الخشبة التي يتمكّن الإنسان من المشي عليها إذا كانت قريبة من الأرض لا يتمكّن من المشي عليها إذا كانت على مَهواةٍ
(1)
بعيدة القعر؟ والأطباء تنهى صاحب الرُّعاف عن النظر إلى الشيء الأحمر، وتنهى المصروع عن النظر إلى الأشياء القوية اللمعان أو الدوران، فإن النفوس خلقت مَطِيّة
(2)
الأوهام، والطبيعة نقَّالة، والأحوال الجسمانية تابعة للأحوال النفسانية.
وكذلك السحر بالاستعانة بالأرواح الخبيثة إنما هو بالتحيل على استخدامها بالإشراك بها والاتصاف بهيئاتها الخبيثة؛ ولهذا لا يعمل السحر إلا مع الأنفس الخبيثة المناسبة لتلك الأرواح، [110/أ] وكلما كانت النفس أخبثَ كان سحرها أقوى، وكذلك سحر التمزيجات ــ وهو أقوى ما يكون من السحر ــ أن يمزج بين
(3)
القوى النفسانية الخبيثة الفعالة والقوى الطبيعية المنفعلة.
(1)
ك: «مهراة» ، تحريف.
(2)
في النسختين ز، ك:«بطيه» . ولعل الصواب ما أثبت.
(3)
«بين» ليست في ك.
والمقصود أن السحر من أعظم أنواع الحيل التي ينال بها الساحر غرضه، وحيل الساحر من أضعف
(1)
الحيل وأقواها، ولكن لا تؤثّر تأثيرًا مستقرًّا إلا في الأنفس البطَّالة المنفعلة للشهوات، الضعيفةِ تعلُّقُها بفاطر الأرض والسموات، المنقطعةِ عن التوجه إليه والإقبال عليه؛ فهذه النفوس محلُّ تأثير السحر.
وكحيل أرباب الملاهي والطرب على استمالة النفوس إلى محبة الصور والوصول إلى الالتذاذ بها؛ فحيلة السماع الشيطاني على ذلك من أدنى الحيل عليه، حتى قيل: أول ما وقع الزنا في العالم فإنما كان بحيلة اليَراع والغناء، لما أراد الشيطان ذلك لم يجد عليه حيلة أدنى من الملاهي.
وكحيل اللصوص
(2)
والسُّرَّاق على أخذ أموال الناس، وهم أنواع لا تُحصى: فمنهم السُّراق بأيديهم، ومنهم السُّراق بأقلامهم، ومنهم السُّراق بأماناتهم، ومنهم السُّراق بما يُظهِرونه من الدين والفقر والصلاح والزهد وهم في الباطن بخلافه، ومنهم السُّراق بمكرهم وخداعهم وغِشِّهم. وبالجملة فحيل هذا الضرب من الناس من أكثر الحيل، وتليها حيل عُشّاق الصور على الوصول
(3)
إلى أغراضهم فإنها تقع في الغالب خفيةً، وإنما تتمُّ غالبًا على النفوس القابلة المنفعلة الشهوانية.
وكحيل التتار التي ملكوا بها البلاد وقهروا بها العباد وسفكوا بها الدماء واستباحوا بها الأموال.
(1)
«الحيل التي
…
أضعف» ساقطة من ك.
(2)
ك: «والحيل والنصوص» ، تحريف.
(3)
ك: «الصول» ، خطأ.
وكحيل اليهود وإخوانهم من الرافضة فإنهم بيت المكر والاحتيال، ولهذا ضُرِبت على الطائفتين الذلةُ، وهذه سنة الله في كل مخادعٍ محتال بالباطل.
ثم أرباب هذه الحيل نوعان: نوع يَقصد به حصول مقصوده، ولا يُظهِر أنه حلال، كحيل اللصوص وعُشّاق الصور المحرمة ونحوهما، ونوع يُظهِر صاحبه أن مقصوده خير وصلاح ويُبطِن خلافه.
وأرباب النوع الأول أسلمُ عاقبةً من هؤلاء؛ فإنهم أَتوا البيوتَ من أبوابها والأمرَ من طريقه ووجهه، وأما هؤلاء فقلَبوا موضوع الشرع والدين، ولما كان أرباب هذا النوع إنما يباشرون الأسباب الجائزة ولا يُظهِرون مقاصدهم أَعضلَ
(1)
أمرُهم، وعظُم الخَطْب بهم، وصعُب الاحتراز منهم، وعزَّ على العالم استنقاذُ قتلاهم، فاستُبيحت بحيلهم الفروج، وأُخذت بها الأموال من أربابها فأُعطِيت لغير أهلها، وعُطِّلت بها الواجبات، وضُيِّعت بها الحقوق، وعَجَّت الفروج والأموال والحقوق إلى ربها عجيجًا، وضجَّت مما حلّ بها إليه ضجيجًا.
ولا يختلف المسلمون أن تعليم هذه الحيل حرام، والإفتاء بها حرام، والشهادة على مضمونها حرام، والحكم بها مع العلم بحالها حرام، والذين جوَّزوا منها ما جوَّزوه من الأئمة لا يجوز أن يُظَنّ بهم أنهم جوَّزوه على وجه الحيلة إلى المحرّم، وإنما [110/ب] جوَّزوا صورة ذلك الفعل. ثم إن المتحيل المخادع المكَّار أخذ صورة ما أفتوا به فتوسَّل به إلى ما مَنعوا منه، وركَّب ذلك
(1)
ك: «أعظل» ، تصحيف. وأعضل الأمرُ: اشتدَّ واستغلق.
على أقوالهم وفتاواهم
(1)
، وهذا فيه الكذبُ عليهم وعلى الشارع.
مثاله: أن الشافعي رحمه الله تعالى يجوِّز إقرار المريض لوارثه؛ فيتخذه من يريد أن يُوصي لوارثه وسيلةً إلى الوصية له بصورة الإقرار، ويقول: هذا جائز عند الشافعي. وقد كذبَ على الشافعي؛ فإنه لا يجوِّز الوصية للوارث بالتحيل عليها بالإقرار.
وكذلك الشافعي رضي الله عنه يجوِّز للرجل إذا اشترى من غيره سلعة بثمن أن يبيعه إياها بأقلَّ مما اشتراها منه بناءً على ظاهر السلامة، ولا يجوِّز ذلك حيلةً على بيع مائةٍ بمائة وخمسين إلى سنة؛ فالذي يسدُّ الذرائع يمنع ذلك، ويقول: هو يتخذ حيلة على ما حرمه الله ورسوله، فلا يقبل إقرار المريض لوارثه، ولا يصحح هذا البيع، ولا سيما فإن إقرار المرء شهادةٌ على نفسه، فإذا تطرَّق إليها التهمة بطلتْ كالشهادة على غيره. والشافعي يقول: أقبل إقراره إحسانًا للظنّ بالمُقرّ، وحملًا لإقراره على السلامة، ولا سيما عند الخاتمة.
ومن هذا الباب احتيال المرأة على فسخ نكاح الزوج بما يعلِّمه إياها أربابُ المكر والاحتيال، بأن تُنِكر أن تكون أذِنتْ للولي، أو بأن
(2)
النكاح لم يصح؛ لأن الولي أو الشهود جلسوا وقتَ العقد على فراش حرير، أو استندوا إلى وسادة حرير.
وقد رأيتُ من يستعمل هذه الحيلة إذا طلَّق الزوج امرأته ثلاثًا، وأراد
(1)
ك: «فتاويهم» .
(2)
ك: «وابأن» .
تخليصه من عار التحليل وشَنارِه أرشده إلى القدح في صحة النكاح بفسق الولي أو الشهود، فلا يقع الطلاق في النكاح الفاسد. وقد كان النكاح صحيحًا لما كان مقيمًا معها عدة سنين، فلما أوقع الطلاق الثلاث فسد النكاح!
ومن هذا احتيال البائع على فسخ البيع بدعواه أنه لم يكن بالغًا وقتَ العقد، أو لم يكن رشيدًا، أو كان محجورًا عليه، أو لم يكن المبيع مِلكًا له ولا مأذونًا له في بيعه.
فهذه الحيل وأمثالها لا يستريب مسلم في أنها من كبائر الإثم وأقبح المحرمات، وهي من التلاعب بدين الله، واتخاذ آياته هُزُوًا، وهي حرام من جهتها في نفسها لكونها كذبًا وزورًا، وحرام من جهة المقصود بها، وهو إبطال حق وإثبات باطل؛ فهذه ثلاثة أقسام:
أحدها: أن تكون الحيلة محرمة ويُقصد بها المحرم.
الثاني: أن تكون مباحة في نفسها ويُقصد بها المحرم؛ فتصير حرامًا تحريمَ الوسائل، كالسفر لقطع الطريق وقتل النفس المعصومة.
وهذان القسمان تكون الحيلة
(1)
فيهما موضوعةً للمقصود الباطل المحرم، ومُفضِيةً إليه، كما هي موضوعة للمقصود الصحيح الجائز ومُفضية إليه؛ فإن السفر طريق صالح لهذا وهذا.
الثالث: أن تكون الطريق لم تُوضَع للإفضاء إلى المحرم، وإنما وضعت مفضية إلى المشروع، كالإقرار والبيع والنكاح والهبة ونحو ذلك، فيتخذها
(1)
«الحيلة» ساقطة من ك.
المتحيل سُلَّمًا وطريقًا إلى الحرام، وهذا مُعترك الكلام في هذا الباب، وهو الذي [111/أ] قصدنا الكلام فيه بالقصد الأول.
القسم الثاني
(1)
: أن يُقصد بالحيلة أخذُ حقٍّ أو دفعُ باطلٍ، وهذا القسم ينقسم إلى ثلاثة أقسام أيضًا:
أحدها: أن يكون الطريق محرّمًا في نفسه، وإن كان المقصود به حقًّا:
مثل أن يكون له على رجلٍ حقٌّ فيجحده، ولا بيِّنةَ له، فيقيم صاحبه شاهدَيْ زورٍ يشهدانِ به، ولا يعلمان ثبوت ذلك الحق.
ومثل أن يطلّق الرجل امرأته ثلاثًا، ويجحد الطلاق، ولا بينةَ لها، فتقيم شاهدينِ يشهدان أنه طلَّقها، ولم يسمعا الطلاق منه.
ومثل أن يكون له على رجلٍ دينٌ، وله عنده وديعة، فيجحد الوديعة، فيجحد هو الدين، أو بالعكس، ويحلف ما له عندي حق، أو ما أودعني شيئًا، وإن كان يُجيز هذا من يُجيز مسألة الظفر.
ومثل أن تدَّعي عليه المرأة كسوة
(2)
أو نفقة ماضية كذبًا وباطلًا، فيُنكر أن تكون مكَّنتْه من نفسها أو سلَّمتْ نفسها إليه، أو يقيم شاهدَيْ زورٍ أنها
(1)
في النسخ الخطية والمطبوعة: «القسم الرابع» . والصواب ما أثبت، فقد تحدَّث المؤلف عن القسم الأول من الحيل من بداية الفصل إلى هاهنا، وهو ما يُقصَد به إبطال حق وإثبات باطل، وقد قسمه المؤلف إلى ثلاثة أقسام كما رأينا. ويبدأ من هنا الكلام على القسم الثاني من الحيل، وهو ما يُقصَد به أخذُ حقّ أو دفعُ باطل، كما صرَّح به المؤلف، وقد قسَّمه أيضًا إلى ثلاثة أقسام، وفصَّل الكلام عليها.
(2)
ك: «المرأة عليه كسوتها» .