المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ بيع المغيبات في الأرض - أعلام الموقعين عن رب العالمين - ط عطاءات العلم - جـ ٤

[ابن القيم]

الفصل: ‌ بيع المغيبات في الأرض

بالمقبوض. وأما إذا استهلك الشريك ما قبضه فإنه لا يضمن لشريكه حصته منه قبل المحاصة؛ لأنه لم يدخل في ملكه، ولم يتعين له بمجرد قبض الشريك له؛ ولهذا لو وفَّى شريكه نظيره لم يقل انتقل إلى القابض الأول ما كان ملكًا للشريك، فدلَّ على أنه إنما يصير ملكًا له بالمحاصَّة لا بمجرد قبض الشريك.

ومن الأصحاب من فرَّق بين كون الدين بعقد، وبين كونه بإتلافٍ أو إرثٍ، ووجهُ الفرق أنه إذا كان بعقد فكأنه عقد مع الشريكين، فلكل منهما أن يطالب بما يخصُّه، بخلاف دين الإرث والإتلاف، والله أعلم.

المثال السادس والستون: اختلف الفقهاء في جواز‌

‌ بيع المغيَّبات في الأرض

من البصل والثوم والجَزَر واللِّفْت والفُجْل والقُلْقاس ونحوها، على قولين:

أحدهما: المنع من بيعه كذلك؛ لأنه مجهول غير مشاهد، والورق لا يدل على باطنه، بخلاف ظاهر الصُّبرة. وعند أصحاب هذا القول لا يُباع حتى يُقلع.

والقول الثاني: يجوز بيعه كذلك على ما جرت به عادة أصحاب الحقول. وهذا قول أهل المدينة، [134/ب] وهو أحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد، اختاره شيخنا

(1)

.

وهو الصواب المقطوع به، فإن في المنع من بيع ذلك حتى يُقلَع أعظمَ الضرر والحرج والمشقة، مع ما فيه من الفساد الذي لا تأتي به شريعة؛ فإنه

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (29/ 36 - 37، 227 - 228، 484 وما بعدها).

ص: 410

إن قَلَعه

(1)

كله في وقت واحد تعرَّض للتلف والفساد. وإن قيل: «كلما أردتَ بيع شيء منه فاقلَعْه» كان فيه من الحرج والعسر ما هو معلوم، وإن قيل: «اتركْه في الأرض حتى

(2)

يفسد، ولا تَبِعْه فيها» فهذا لا

(3)

تأتي به شريعة. وبالجملة فالمُفتون بهذا القول لو بُلُوا بذلك في حقولهم أو ما هو وقفٌ عليهم ونحو ذلك= لم يُمكِنهم إلا بيعُه في الأرض ولا بدَّ، أو إتلافُه وعدم الانتفاع به.

وقول القائل: «إن هذا غَررٌ ومجهول» فهذا ليس حظَّ الفقيه، ولا هو من

(4)

شأنه، وإنما هذا من شأن أهل الخبرة بذلك، فإن عدُّوه قِمارًا أو غررًا فهم أعلم بذلك. وإنما حظ الفقيه: يحلُّ كذا لأن الله أباحه، ويحرُم كذا لأن الله حرَّمه، وقال الله وقال رسوله، وقال الصحابة. وأما أن هذا يرى هذا خطرًا وقمارًا وغررًا

(5)

فليس من شأنه، بل أربابه أخبرُ بهذا منه، والمرجع إليهم فيه، كما يُرجَع إليهم في كون هذا الوصف عيبًا

(6)

أم لا، وكونِ هذا البيع مُربِحًا أم لا، وكونِ هذه السلعة نافقةً في

(7)

وقت كذا وبلد كذا، ونحو ذلك من الأوصاف الحسية والأمور العرفية، فالفقهاء بالنسبة إليهم فيها مثلُهم

(1)

ك: «علقه» ، تحريف.

(2)

«حتى» ليست في ك.

(3)

«لا» ساقطة من ك.

(4)

«من» ليست في ك.

(5)

ك: «غررًا وقمارًا» .

(6)

في النسخ: «عيب» مرفوعًا.

(7)

«في» ليست في ك.

ص: 411

بالنسبة إلى باقي

(1)

الأحكام الشرعية.

فإن بُلِيتَ بمن يقول: «هكذا في الكتاب، وهكذا قالوا» ، فالحيلة في الجواز أن يستأجر منه الأرضَ المشغولة بذلك مدة يعلم فراغه منها، ويقرُّ له إقرارًا مشهودًا به أن ما في باطن الأرض له لا حقَّ للمُؤجِر فيه. ولكن عكس هذه الحيلة لو أصابته آفة لم يتمكَّن من وضع الجائحة عنه، بخلاف ما إذا اشتراه بعد بدوِّ صلاحه، فإنه كالثمرة على رؤوس الشجر، إن أصابته آفة وضعتْ عنه الجائحة. وهذا هو الصواب في المسألتين: جواز بيعه، ووضع الجوائح فيه، والله أعلم.

المثال السابع والستون: اختلفت الفقهاء في جواز البيع بما ينقطع به السعر من غير تقدير الثمن وقتَ العقد

(2)

، وصورتها: البيع ممن يعامله من خبَّاز ولحَّام وسمَّان وغيرهم، يأخذ منه كلَّ يوم شيئًا معلومًا ثم يحاسبه عند رأس الشهر أو السنة على الجميع، ويعطيه ثمنه؛ فمنعه الأكثرون، وجعلوا القبضَ به غيرَ ناقلٍ بذلك

(3)

، وهو قبض فاسد يجري مجرى المقبوض بالغصب؛ لأنه مقبوض بعقد فاسد.

هذا، وكلُّهم ــ إلا من شدَّد على نفسه ــ يفعل ذلك، ولا يجد منه بدًّا، وهو يفتي ببطلانه، وأنه باقٍ على ملكِ الدافع

(4)

، ولا يُمكِنه التخلُّص من ذلك إلا بمساومته له عند كل حاجة يأخذها قلَّ ثمنها أو كثُر، وإن كان ممن

(1)

في المطبوع: «ما في» ، تحريف. ك:«إلى مثلها في» .

(2)

ك: «وقت بيع العقد» .

(3)

في المطبوع: «للملك» خلاف ما في النسخ.

(4)

في المطبوع: «البائع» .

ص: 412

شرطَ الإيجاب [135/أ] والقبول؛ فلا بدَّ مع المساومة أن يقرِن

(1)

بها الإيجاب والقبول لفظًا.

والقول الثاني ــ وهو الصواب المقطوع به، وهو عمل الناس في كل عصرٍ ومصرٍ ــ جواز البيع بما ينقطع به السعر، وهو منصوص الإمام أحمد، واختاره شيخنا

(2)

. وسمعته يقول: هو أطيبُ لقلب المشتري من المساومة، يقول: لي أسوةٌ بالناس آخذُ بما يأخذ به غيري.

قال: والذين يمنعون من ذلك لا يمكنهم تركُه، بل هم واقعون فيه، وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا إجماعِ الأمة ولا قولِ صاحب ولا قياسٍ صحيح ما يحرِّمه، وقد أجمعت الأمة على صحة النكاح بمهر المثل، وأكثرهم يجوِّز عقدَ الإجارة بأجرة المثل، كالطبَّاخ

(3)

والغَسّال والخبّاز والملّاح وقيِّم الحمَّام والمُكارِي، والبيع بثمن المثل كبيع ماء الحمّام؛ فغاية البيع بالسعر أن يكون بيعًا بثمن المثل؛ فيجوز كما تجوز المعاوضة بعوض المثل في هذه الصورة وغيرها؛ فهذا هو القياس الصحيح، ولا تقوم مصالح الناس إلا به.

فإن بُلِيتَ بالقائل: «هكذا في الكتاب، وهكذا قالوا» ، فالحيلة في الجواز

(4)

أن يأخذ ذلك قرضًا في ذمته؛ فيجب للدافع عليه مثله، ثم يعاوضه عليه بثمن معلوم؛ فإنه بيعٌ للدَّين من الغريم وهو جائز.

(1)

ك: «يقرب» ، تحريف.

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (29/ 231 - 233، 34/ 127).

(3)

في النسخ: «كالنكاح» ، تحريف. وانظر:«بدائع الفوائد» (4/ 1365، 1424).

(4)

ك: «في جواز» .

ص: 413

ولكن في هذه الحيلة آفة، وهو أنه قد يرتفع السعر فيطالبه بالمثل فيتضرَّر الآخذ، وقد ينخفض فيعطيه المثلَ فيتضرَّر الأول؛ فالطريق الشرعية التي لم يحرِّمها الله ورسوله أولى بهما، والله أعلم.

المثال الثامن والستون: إذا كان له عليه دَينٌ، وله وقفٌ من غلَّة دار أو بستان، فوكَّل صاحبَ الدين أن يستوفي ذلك من دينه جاز؛ فإن خاف أن يحتال عليه ويعزِله عن الوكالة؛ فليجعلها حوالةً على من في ذمته عوض ذلك المُغَلّ. فإن لم يكن قد آجرَ الدار أو الأرض لأحدٍ؛ فالحيلة أن يستأجرها منه صاحب الدَّين بعوضٍ في ذمته، ثم يقاصّه بدينه من ذلك العوض. فإن أراد أن يكون هو وكيله في استيفاء دينه من تلك المنافع لا بطريق الإجارة، ولا بطريق الحوالة، بل بطريق الوكالة في قبض ما يصير إليه من غلَّة ذلك الوقف، وخاف عزْلَه

(1)

؛ فالحيلة أن يأخذ إقراره أن الواقف شرطَ أن يقضي ما عليه من الدين أولًا، ثم يصرف إليه بعد الدين كذا وكذا، وأنه وجب لفلانٍ ــ وهو الغريم ــ عليه من الدين كذا وكذا، وأنه يستحقُّه من مُغلِّ هذا الوقف مقدمًا به على سائر مصارف الوقف، وأنه لا ينتقل إلى

(2)

الموقوف شيء قبل قضاء الدين، وأن ولاية أمر هذا الوقف إلى فلان حتى يستوفي دينه؛ فإذا استوفاه فلا ولايةَ له عليه، وإن حكم حاكم بذلك كان أوفق

(3)

.

(1)

ز: «عزله له» .

(2)

في المطبوع: «من» .

(3)

ك: «أوثق» .

ص: 414