الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصْل الأوّل لمحات من حياته
عصره:
عاش اللواء خطاب عصراً متفجّراً من أعنف العصور عنفاً، وأمرِّها مرارات .. فعلى مستوى العالم، تفجّرت حربان عالميتان فاجرتان أكلتا عشرات الملايين من الأرواح، ودمّرتا ما لم تدمّره الحروب الأخرى منذ أول حرب نشبت بين بني البشر، من بدء الخليقة حتى اليوم .. وتفجّرت ثورات حمراء داميات في كل أرجاء المعمورة.
وعلى مستوى العالم الإسلامي كانت الحرائق في بيوتات ذلك العالم التعيس البائس، قد أتت على أخضره وهشيمه، وتركته مِزَقاً وأنقاضاً بمعاول أعدائه في الداخل والخارج، وكانت معاول الداخل أضرى ضراوة، وأشدّ بأساً، لأن (الخارج) كان قد أعدَّها، وأحدَّها، لتكون فتّاكة تأتي على بنيان العروبة والإسلام من الجذور، وباسم العروبة هنا، وباسم الإسلام هناك وهنالك، والعروبة والإسلام من هؤلاء وأولئك براء.
وكان نصيب العراق كبيراً من تلك الحرائق والمعاول، وكان الأبأسَ والأتعسَ بعد فلسطين الذبيحة، وشعبها المجاهد الذي قدّم وشعبَ العراق ما لم تقدّمه سائر الشعوب العربية والإسلامية الأخرى ..
وكان خطّاب شاهد القرن على تلك الكوارث والمآسي التي اجتاحت عراقه الحبيب الغالي الذي بذل من أجل إنهاضه الكثير، وكان العقوق جزاءه.
فتح عينيه على الكيانات التي خَلَفَتْ دولةَ الخلافة، وشهد الصراعات غير البريئة بينها، وميلاد الكيان الصهيوني من بين براثنها، والاستعمار يحطّ بكلكله الثقيل على أرضها، وشعوبها، وعقيدتها وثقافتها، وفكرها، والثورات التي تريد الإطاحة به، ووقودُها شعوب مؤمنة، والمستفيدون زعامات لا تهمّها إلا مصالحها، وكان هو من بين ذلك الوقود في ثورة رشيد عالي الكيلاني، وحرب فلسطين، ومحارق العملاء والمشبوهين والطواغيت ..
رضي أن يكون عبدَ الله المقتول، كسائر أبناء شعبه، ودافع بدمه ومستقبله وبكل ما يملك للتخفيف عن ذلك الشعب، ولكن حجم التحدّي كان كبيراً، والذين يتربّصون به وبأمثاله من الرجال المؤمنين المخلصين، أكثر عدداً وأقوى عُدّة ..
شاهد مصارع أحرار ومصارع أنذال، وأفول أنظمة وقيام أخرى، وضياع أخلاق ومروءات ومبادئ في متاهات المصالح والأهواء والشهوات، فانكفأ على نفسه، ولزم بيته، واستلّ قلمه، فكان سيفَه في تلك الكتب المقاتلة، وهي الأبقى على الدهر، سيوفاً مشرعة في وجوه الظلم والظلام والظالمين، ومنارات هدى للسائرين في وضح النهار، وتحت شمس الظهيرة، أو في ظلام الأنفاق المعتمة، في قرن كان أشدَّ هولاً من سائر القرون ..
شهد هزيمة الأنظمة العربية في حرب حزيران، بعد أن (طُهِّرت) جيوشها من أعدائها وخصومها الافتراضيين، وهم من أصحاب الخبرات والكفايات، وكتب ونصح، وحذّر وأنذر، ولا سميع ..
وشهد حربين ضاريتين بين عراقه الحبيب، وبين أشقّاء يعزّ عليه أن
يهانوا أو يُقتلوا، وبكى في الحرب الثانية كما لم تبك ثكلى .. بكى على الجيش الذي كان يعدّه للملمّات .. لتحرير فلسطين .. وإذا هو لقمة سائغة تتناهشها أنياب ثلاث وثلاثين دولة، بين شقيقة وعدوّة .. ولقد سمعته يقول، ودموعه السخينة تحرق وجنتيه:
- هل رأيت أشلاء جيشنا يا عبد الله؟ هل سمعت بالانسحاب الكيفي أمام لؤم أمريكة المتوحشة، وطيرانها المتغوّل؟ هل هذا هو المصير الذي كنّا نُعِدُّ جيش العراق له؟ هل خُلق جيش العراق ليكون طعاماً لجنازير الدبابات والصواريخ؟
ثم أنشد باكياً والله بنشيج يقطّع القلوب:
لمْ يبقَ شيءٌ مِنَ الدُّنيا بأيْدينَا
…
إلَاّ بقيّة دَمْعٍ في مَآقينَا
وكان يقابل هذه الظلماتِ المدلهمّة، وعيٌ إسلاميٌّ، وصحوة إسلاميّة، كان لها أعداء من الداخل والخارج بالمرصاد .. وكان يفرح لها، ويحزن لمصائر قادتها .. ولما يُبَيَّتُ لها .. ولضعف قياداتها، وارتجاليتهم، أمام التحدّيات الشرسة التي تواجههم، وتريد استئصالهم .. كان يقول:
- هذا عصر الأئمة: حسن البنا، وأبي الأعلى المودودي، ومصطفى السباعي، وسيد قطب، وعبد القادر عودة، ومحمد فرغلي ..
كان خطّاب يعرف الكثير عنهم، ويعرف المؤامرات التي دُبِّرت لهم، والعجز الذي شلَّ أتباعهم ..
كان عصر خطّاب مزيجاً من نار ونور، ولكن وهج النار وتأثيرها أكبر من النور المحاصَر، وأعظم من ضياء الأيدي المتوضّئة.
عاش خطّاب عصره بكل ما فيه، وناله الكثير مما فيه، وعاه بعقله