الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المناضل المجاهد
كان اللواء خطاب مجاهداً مناضلاً في سائر أطوار حياته المستقيمة، منذ كان تلميذاً صغيراً يشارك في المظاهرات الطلابية ضدّ الاستعمار البريطاني، وبعد أن شبّ وصار طالباً ضابطاً، ثم ضابطاً في سلاح الفرسان، ثم ضابطاً كبيراً يخشاه الطواغيت، فيحاولون إبعاده عن مواطن التأثير والاحتكاك بالشعب حيناً، أو يسجنونه حيناً آخر، ويشتدون في تعذيبه، لعله يرتدع ويسايرهم أو يسكت عن ظلمهم وطغيانهم وخيانتهم لشعبهم وأمّتهم
…
ولكن .. هيهات.
فالذي لا يأتي بالترغيب، ولا يكترث بالذهب والمناصب، يرهبه التعذيب، ويردّ إليه عقله المشغول بمصلحة الوطن أرضاً وشعباً، وقلبه المسكون بدين الله والوطن والقيم العربية والإسلامية، حتى بلغ الأمر بالطاغية عبد الكريم قاسم وزبانيته أن يكسروا له (43) عظماً تحت التعذيب الوحشي، ولا يخرجوه من سجنه إلا بعد أن ظنّ هو وجلاوزته جلادُو الشعب، أن خطاباً قد انتهى، ولا يريدون أن يجعلوا منه شهيداً، فأخرجوه من السجن ليموت في بيته، كما يموت الناس العاديون، لا كما يموت الفرسان المجاهدون، ولكن .. أبى الله ذلك، وعاش خطّاب، واندثروا هم كالجيف، الأحياء منهم والأموات: لا يذكرهم الناس إلا باللعنات، وهم يتوارون خوفاً وخجلاً من الناس.
فاللواء خطاب مناضل، له عينان ذكيتان، رأتا " أن الضباط الذين
لديهم سجيّة عسكرية، يعملون في غير مجالاتهم، واختصاصهم، أو متقاعدون في بيوتهم، أو شهداء برصاص بني قومهم " (1)، كما فعل الشيوعيون الأنذال في مجزرة أم الطبول في بغداد أيام عبد الكريم قاسم، وكما فعل سواهم بأحرار العراق من بعد قاسم العراق. مثل هذه الظروف الشاذة، من حكام شواذ، لا يستطيع اللواء خطاب السكوت عنها .. لابدّ له من فضحها بلسانه وقلمه، يحرّض بهما أحرار الشعب، من عسكريين ومدنيين، ليثوروا بأولئك الشواذ، ولذلك تراه يتساءل مستنكراً:
" فأين من يستقطب الضباط أصحاب السجية العسكرية النادرة، ويعطي لهم الصلاحيات الكاملة، للعمل في مجالهم العسكري، حتى تعرف إسرائيل ومن وراء إسرائيل من دول الاستعمار القديم والحديث، أيّ أمّة عريقة هم العرب، وأيّ رجال أبطال هم بنوها! "(2).
إنه صاحب بصيرة، يفكر بالماضي، ويحلّل الحاضر، لتكون نظرته المستقبلية صائبة .. وهذا ما يأباه الطغاة المسكونون بأنانيّاتهم، ومصالحهم الذاتية، مهما كانت تافهة، وضارّة ومضرّة بالوطن والمواطن.
ونستطيع أن نرصد جهاده على محورين:
الأول: داخلي، ويتمثل في نضاله مع أبناء الشعب العراقي من أجل التحرر من المظالم التي يوقعها الحكام الظلمة بالشعب العراقي، وقد تمثل هذا في المظاهرات التي شارك فيها وهو طالب.
ثم عندما قام القائد المجاهد رشيد عالي الكيلاني بثورته المسلّحة ضد الإنكليز المحتلين عام 1941 م، التحق الضابط خطاب بالثورة،
(1) عقبة بن نافع الفهري: ص 11.
(2)
المرجع السابق: ص 12.
وشارك فيها مشاركة فعّالة، وجُرح في تلك المعارك جروحاً بليغة غائرة، وكان الأمل في بقائه على قيد الحياة ضئيلاً، ولكنّ الله سلمه (1).
ثم وهو ضابط (آمر فوج مشاة بالموصل) سنة 1956 م عندما نشبت المظاهرات العارمة في الموصل، ضدّ العدوان الثلاثي على مصر، فتصدّت الشرطة للمتظاهرين، وأطلقت النار عليهم، وسقط عدد من الشهداء، وجُرح آخرون، فبادر إلى أن يتولى بنفسه مسؤولية الأمن والنظام في الموصل، وحافظ على حياة المتظاهرين والشرطة، وطوّق الفتنة، وتصدّى لبعض عناصر السلطة التي كانت ترغب في التنكيل بالناس دون مسوِّغ، على عادة الطواغيت في بلاد العرب والمسلمين، وأدّى هذا إلى غضب تلك العناصر، فسعت إلى نقله من مدينته إلى الديوانية، وحاولت إبعاده عن الجيش، ولكن الرجال الخيّرين حالوا دون ذلك (2).
وفي أثناء المدّ الشيوعي أيام حكم عبد الكريم قاسم، تصدّى للشيوعيين، وحال بينهم وبين تنكيلهم بأبناء الشعب، قتلاً، وسحلاً، وشنقاً، وعدواناً على الأموال والأعراض، فوشوا به إلى طاغية العراق - وما أكثر الطغاة في العراق المظلوم على الزمان - فأمر باعتقاله وتعذيبه من سنة 1959 م إلى منتصف عام 1961 م ثم أفرج عنه، بعد أن ترك التعذيب الوحشى أثره في جسده، في 43 كسراً في عظامه (3).
الثاني: جهاده في فلسطين، فقد تقدَّم - مختاراً - بطلب إلى المراجع العسكرية عام 1948 م، وكان برتبة نقيب ركن، ليسمحوا له بالالتحاق
(1) المخطوطة عن حياته بخط يده: ص 13.
(2)
المرجع السابق: ص 13.
(3)
المرجع السابق.
بالقطعة التي سوف تتوجه إلى فلسطين لقتال اليهود. وقد شارك في عدة معارك، وضرب أروع الأمثلة بشجاعته، وحنكته، وحسن تصرفه قبل القتال وأثناءه وبعده، وبقي في مدينة (جنين) أكثر من سنة، ثم جاءت الأوامر بعودة الجيش العراقي إلى العراق، فعاد معه. وما يزال أهل جنين يذكرون الضابط العراقي البطل محمود شيت خطاب بالحبّ والإكبار (1).
قال اللواء خطاب عن نفسه:
" إنني أؤمن بأن الحرب الإجماعية تقتضي الجهاد بالمال، والجهاد بالأنفس، والجهاد بالأقلام، لنيل النصر المؤزَّر.
وقد حبستُ قلمي على الجهاد في فترة الأيام العصيبة قبيل اندلاع الحرب يوم 5 حزيران 1967 م فلما وقعت الحرب بين العرب وإسرائيل، حاولت أن أجاهد بروحي، فلم يكتب الله لي الشهادة في ساحات القتال " (2).
وقال عن معركة (جنين) التي أبلى فيها بلاء رائعاً في عدة معارك ضارية:
أجنينُ إنكِ قد شهدتِ جهادنا
…
وعلمتِ كيف تساقطتْ قتلانا
أجنينُ لا أنسى البطولة حيّةً
…
لبنيكِ حتى أرتدي الأكفانا
أجنينُ يا بلد الكرام تجلّدي
…
ما مات ثأرٌ ضرّجتْه دمانا
إنَّ الخلودَ لمن يموتُ مجاهداً
…
ليسَ الخلودُ لمَنْ يموتُ جَبانَا
ولعلّ من المناسب أن نذكر، أن اللواء خطّاباً لم يشاهَد وهو يضحك
(1) من حديث مع الأستاذ المؤرخ للقضية الفلسطينية بوعي وصدق وإخلاص، حسني أدهم جرار في مناسبات وأوقات عدّة.
(2)
الأيام الحاسمة: ص 7.
ولم يبتسم منذ اندحار العرب في حرب حزيران، وكان دائم التقطيب والتجهّم، وإذا ألقيتَ على مسامعه نكتة، أو طرفة، وراقبتَ وجهه، فسوف تراه يتمعّر ويكظم غيظه من إلقاء النكتة والابتسام لها، وقد حاول الأستاذ الشيخ محمد الغزالي أن يضحكه بأكثر من نكتة، فكان اللواء يشيح بوجهه عنّا، ويزداد حزنه وألمه لضحكاتنا .. كان هذا في بيت اللواء خطاب، أثناء زيارة الشيخ الغزالي لبغداد، لحضور المؤتمر الإسلامي الشعبي عام 1990 م.
كان يرى من العار على العربي المسلم أن يفرح أو يبتسم بعد هزيمة حزيران، واحتلال ما بقي من فلسطين، وأسْرِ الأقصى وقبّة الصّخرة، وانتهاك القدس.
***
الفصْل الثّاني تعريف بمؤلفاته