الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لله الأمر من قبل ومن بعد
الحقيقة والشريعة
خطر لي ذات ليلة بيت للملك الضليل امرئ القيس بن حجر فوجدته قد احتوى على مقتضى الشريعة الظاهرة والباطنة، وتضمن كل ما تحصل عن دواوين أئمة الدين وأقاويل الصوفية، فقضيت العجب من ذلك، وعلمت أن الله تعالى من باهر قدرته وعجيب حكمته يبرز الحكمة على لسان من شاء وإن لم يكن من أهلها، كما قال بعض السلف حين سمع بعض الولاة نطق بحكمة: خذوها من قلب خَرِبٍ، وتبينت إشارة قوله صلى الله عليه وسلم:" الحِكْمَةُ ضَالّةُ المُؤْمِنِ " أي فحقه أن يتلقفها ممن وجدها عنده، وإن لم يكن مرضياً كما يأخذ ضالته من الدنيا كذلك، وتبينت صدق قوله صلى الله عليه وسلم:" إنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً "، وقول الحكماء الأولين: أنزلت الحكمة على ثلاثة أعضاء في الجسد: على قلوب اليونان، وأيدي أهل الصين، وألسنة العرب، والبيت المذكور هو قوله:
الله أنجح ما طلبت به
…
والبر خير حقيبة الرحل
فالشطر الأول قد احتوى على الحقيقة كلها، وهي باطن الشريعة، فإن معناه أن ما طلبته بالله فأنت منجح فيه. وهو كما قال في " الحكم العطائية ":" ما تعسر مطلب أنت طالبه بنفسك " ومعلوم أنك لست تروم ذلك إلاّ وأنت تعرف الله تعالى وأنه حق لا شريك له، وأنه هو الفاعل المدبر النافع الضار، ثم تنفي عن نفسك وعن حولها وقوتها وتدبيرها واختيارها وتبغي بربك. وهذا هو سر العبودية، وهو الكنز الذي يحوم حوله المريدون، ويعنو إليه السالكون، وهو المشار إليه في قوله صلى الله عليه وسلم:" لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلَاّ بِاللهِ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الجَنّةِ "، وهذا هو كلية الأمر، ولا حاجة إلى التطويل. والشطر الثاني قد تضمن الشريعة كلها، وهي ان البر خير ما تحمَّله العبد وادخره، أي والفجور شر ما تحمَّله، ويدخل في البرِّ برُّ العبد مع ربه بطاعته له قولاً وفعلاً واعتقاداً، وكذا مع من أوجب الله تعالى طاعته من نبي وأمير ومالك ووالد ونحوهم، وبره مع الناس بالإحسان فعلاً وقولاً وخلقاً، وهو مجموع ما يطلب شرعاً ولا حاجة إلى التطويل.
لله الأمر من قبل ومن بعد
أبيات الحكمة والتمثيل
واعلم أن البيت قد اشتمل على مثلثين مستقلين كما رأيت، فرأيت أن أستطرد هنا من أبيات الحكمة والتمثيل نبذة صالحة يقع بها الإمتاع، ويحصل الانتفاع، فمن ذلك قول لبيد:
ألا كلُّ شَيءٍ ما خَلا اللهَ بَاطِلُ
…
وكُلُّ نَعِيمٍ لا مَحالَةَ زَائِلُ
واعلم أن هذا البيت مع كونه في غاية الحكمة وكونه قد شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك كما ورد في الحديث: " أصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشّاعِرُ قَوْلَ لَبِيدٍ: ألا كلُّ شَيءٍ ما خَلا.... البيت "، يسأل عنه فيقال مثلاً في المصراع الأول: إن معرفة الله تعالى وشرعه ودينه وأنبياءه ونحو ذلك داخل فيما جعله باطلاً وليس بباطل، وفي الثاني: إن نعيم الآخرة غير زائل فيلزم انتقاض الكليتين.
والجواب عن الأول من وجهين: أحدهما أن المراد ما سوى الله تعالى وما انضاف إليه، كما وقع في الحديث:" الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُون مَا فِيهَا إلَاّ ذِكْرُ اللهِ وَمَا وَالاهُ وَعَالِمٌ أوْ مُتَعَلِّمٌ " وهذا واضح، فإن صفات الله تعالى لا تدخل في الباطل لانضيافها إلى الذات وشمول الاسم لها، فكذلك كل مُنضاف.
الثاني أن هذا كلام في الحقائق، ولا شك أن الله تعالى هو قديم واجب الوجود، فهو حق ثابت، والعالم كله محدث، فهو باطل لا ثبوت له من ذاته لكن بإثبات الله تعالى، وهذا الوجه أيضاً واضح لا شبهة فيه، والموجودات كلها متى اعتبرت إضافتها وتعلقها بالله تعالى كانت حقاً به، وهي باطلة بحسب ذاتها ومنها ما هو حق باعتبارين أعني بهذا التعلق وبإثبات الله له شرعاً كما في الوجه الأول، وهو مع ذلك باعتبار ذاته، ولا تنافي في شيء من ذلك، فافهم.
والجواب عن الثاني ثلاثة أوجه: الأول أن المراد نعيم الدنيا، لأنه هو المعروف الشاهد، لا سيما في حق هذا القائل، فإنه كان حين قوله ذلك جاهلياً، لا ذكر للآخرة عنده، فإن قيل: من لك بأنه إذ ذاك جاهليّ؟ ولعله قال هذا بعد الإسلام، قلت: قد استفاض في شأنه أنه لم يقل بعد الإسلام إلاّ بيتاً واحداً، وهو قوله:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي
…
حتى لبست من الإسلام سربالا
على أنه لو كان بعد الإسلام لكان إرادة الدنيوي في غاية الوضوح، إذ المراد تهوين أمر الدنيا والتنفير عنها والتزهيد فيها كما وقع ذلك في كلام كثير من أهل الإسلام.
الثاني أن يكون أيضاً كلاماً في الحقائق، فإن النعيم كله ممكن حادث، فهو بصدد الزوال والفناء فعلاً أو قوة، وما بقي منه إنما بقي بإبقاء الله تعالى لا بذاته.
الثالث أن يراد أن كل نعيم ناله العبد وتنعم به فهو زائل عنه قطعاً بالشخص، وإنما تتجدد أمثاله، وهذا قدر مشترك بين الدنيوي والأخروي، قال النبي صلى الله عليه وسلم في متاع الدنيا:" وَإنَّمَا لَكَ مِنْ مَالِكَ مَا أكَلْتَ فَأفْنَيْتَ، أوْ لَبِسْتَ فَأبْلَيْتَ، أوْ تَصَدَّقْتَ فَأمْضَيْتَ ".
وقال تعالى في نعيم الآخرة:) كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ (. وقول الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
…
لا يذهب العُرْفُ بين الله والناس
وقول طرفة بن العبد:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً
…
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وكان صلى الله عليه وسلم ينشده أحياناً استحساناً فيقول: ويأتيك من لم تزوده بالأخبار، ويقول:" هُمَا سَوَاءٌ " أي التركيبان، يعني في المعنى، فيقول أبو بكر رضي الله عنه: أشهد أنك رسول الله، قال تعالى:) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ (وقول النابغة:
ولست بمستبقٍ أخاً لا تَلُمُّهُ
…
على شعثٍ، أي الرجالِ المهذب؟
وقول امرئ القيس:
وإنك لم يفخر عليكَ كفاخر
…
ضعيف ولم يغلبْك مثل مغلَّبِ
" وأخذه أبو تمام فقال:
وضعيفة فإذا أصابت قدرة
…
قتلت، كذلك قدرة الضعفاء
البيت من قصيدته التي مطلعها:
قدك اتئب أربيت في الغلواء
…
كم تعذلون وأنتم سجرائي
والبيت شحره التبريزي بقوله: يقول: " الخمر على شدتها ضعيفة ليس لها بطش، فإذا أكثرت منها قتلت ". وقوله: " كذلك قدرة الضعفاء يعني أن الضعيف يعمل الشيء بفرق فهو لا يبقي مخافة أن يعطف عليه فلا يكون له فضل في المقاومة ".
وقول زهير:
ومن يجعل المعروف من دون عرضه
…
يَفِرْهُ ومن لا يتق الشتم يشتم
وأخوات هذا البيت في ميميته مثله، وهي مشهورة لا نطيل بها.
غيره:
لذي الحلم قبْلَ ما تُقرَعُ العصا
…
وما عُلَّمَ الإنْسانُ إلاّ ليعلما
وقوله:
قليلُ المال تصلحهُ فيبقى
…
ولا يبقى الكثير مع الفساد
غيره:
العبد يقرع بالعصا
…
والحرّ تكفيه الملامه
وقول عبد الله بن معاوية:
فعين الرضا عن كل عيب كليلةٌ
…
ولكن عين السخط تبدي المساويا
وقول القُطامي:
قد يدرك المتأني بعض حاجته
…
وقد يكون مع المستعجل الزلل
وقوله:
والناس من يلق خيراً قائلون له
…
ما يشتهي، ولأمِّ المخطئ الهَبَلُ
وسبقه إلى الأول عدي بن زيد في قوله:
قد يدرك المبطئ من حظه
…
والخير قد يسبق جهد الحريص
وقول عمرو بن براقة:
فما هداك إلى أرضٍ كعالمها
…
ولا أعانك في عزم كعزام
وقول عبد الله بن همام:
وساع مع السلطان ليس بحارس
…
ومحترس من مثله وهو حارس
وقول عبيد بن الأبرص:
الخير يبقى وإن طال الزمان به
…
والشر أخبث ما أوعيت في زاد
وقول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
ربّ حلم أضاعه عدم الما
…
ل وجهل غطى عليه النعيم
وزعموا أن حسان بينما هو في أُطُمِه، وذلك في الجاهلية، إذ قام في جوف الليل فصاح: يا للخزرج فجاءوا وقد فزعوا، فقالوا: ما لك يا ابن الفريعة فقال: بيت قلته فخفت أن أموت قبل أن أصبح فيذهب ضيعة، خذوه عني، فقالوا: وما قلت؟ فأنشد البيت المذكور.
وقول أبي ذؤيب:
والنفس راغبة إذا رغبتها
…
وإذا ترد إلى قليل تقنع
وقول زهير:
وهل ينبت الخطِّيُّ إلاّ وشيجه
…
وتغرس إلاّ في منابتها النخل
غيره:
أرى كل عود نابتاً في أرومةٍ
…
أبى منبت العيدان أن يتغيّرا
وقول بشار:
تأتي المقيمَ وما سعى حاجاتُه
…
عددَ الحصا ويخيب سعي الطالب
غيره:
متى ما تقد بالباطل الحقّ يَأبَهُ
…
وإن قدت بالحقِّ الرواسي تنقد
وقول عبيد:
من يسأل الناس يحرموه
…
وسائل اللهِ لا يخيب
غيره:
يفرّ جبان القوم عن أُمِّ نفسهِ
…
ويحمي شجاع القومِ من لا يناسبه
" ويرزق معروف الجواد عدُّوه
…
ويُحرَمُ معروفَ البخيلِ أقاربُه "
فهذا كله ونحوه مشتمل على مثلين كبيت امرئ القيس، وقد يكون مثلاً واحداً لقول طرفة:
رأيت القوافي يتَّلِجْنَ موالجاً
…
تضايق عنها أن توالجها الإبر
" وهو معنى قول الأخطل: والقول ينفذُ ما لا تنفذ الإبر ".
وقول علقمة:
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله
…
فليس له في ودهن نصيب
وهو لامرئ القيس في قوله:
أراهن لا يحببن من قل ماله
…
ولا من رأين الشيب فيه وقوسا
ومنه قول الأعشى:
وأرى الغواني لا يواصلن امرءاً
…
فقد الشباب وقد يصلن الأمردا
وقول أبي تمام:
أشهى الرجال من النّساء مواقعاً
…
من كان أشبههم بهنّ خدودا
وقول علقمة بن عبدة:
وكل قوم وإن عزوا وإن كثروا
…
عديدهم بأثافي الدهر مرجوم
وكل حصن وإن طالت سلامته
…
على دعائمه لا بدّ مهدوم
وقول الآخر:
" وما رزق الإنسان مثل منية
…
أراحت من الدنيا ولم تُخزِ في القبر "
وقول ابن حازم:
لا تكذبن فما الدنيا بأجمعها
…
من الشباب بيوم واحد بدل
ومثله قول منصور النمري:
ما كنت أوفي شبابي حق غرته
…
حتى مضى فإذا الدنيا له تبع
وقول امرئ القيس:
إذا المرء لم يخزن عليه لسانه
…
فليس شيء سواهُ بخزّان ونحوه:
إذا ضاق صدر المرء عن كتم سره
…
فصدر الذي يُستودعُ السر أضيق
وقوله:
إذا جاوز الاثنين سرّ فإنّه
…
يبثُّ وإفشاء الحديث قمين
وقد قيل: الاثنان هنا الشفتان، وقول طرفة:
وإن لسان المرء ما لم يكن له
…
حَصَاةٌ على عوراته لدليل
الحصاة: العقل وهو إشارة إلى قول الحكماء: لسان العاقل من وراء عقله، ولسان الأحمق على العكس، وقول الخنساء رحمها الله:
ولولا كثرة الباكين حولي
…
على إخوانهم لقتلت نفسي
وقول الآخر:
إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد
…
إليه بوجه آخر الدهر تُقْبِل
وغيره:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
…
على المرء من وقع الحسام المهند
غيره:
إذا لم تعرض عن الجهل والحنا
…
أصبت حليماً أو اصابك جاهل
غيره:
كل امرئ راجع يوماً لشيمته
…
وإن تخلق أخلاقاً إلى حين
ونحوه:
ومن يبتدع ما ليس من سُوس نفسه
…
يدعْه ويغلبْه على النفس خِيمُها
السوس والخيم: الطبيعة.
ونحوه:
إنّ التخلّق يأتي دونه الخُلُقُ
وقد يكون المثل جزءاً لبيت كهذا، ونحوه للنابغة:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة
…
وليس وراء الله للمرء مطلب
وقوله:
لمبلغك الواشي أغش وأكذب
وقول دريد:
متبذلاً تبدو محاسنه
…
يضع الهِناءَ مواضع النقبِ
وقول الصَّلَتان العَبْدي:
نروح ونغدو لحاجاتنا
…
وحاجات من عاش لا تنقضي
وقول الآخر:
تدس إلى العطار سلعة بيتها
…
وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر
وقول زهير:
لهم في الذاهبين أروم صدق
…
وكان لكل ذي حسب أروم
وقوله:
كذلك خيمهم ولكل قوم
…
إذا مستهم الضراء خِيم
وقول الآخر:
تسائل عن حصين كلّ ركب
…
وعند جُهَيْنَةَ الخبرَ اليقين
وهذه الأنواع لا يأتي عليها الحصر، وإنما أردنا بعضاً من مختار ذلك ومشهوره، وما تركناه أكثر، وقد يشتمل البيت على ثلاثة أمثال أو أربعة، وهو قليل بالنسبة إلى غيره، فمن غير ذلك قول زهير:
وفي الحلم إذعان وفي العفو دُربة
…
وفي الصدق منجاة من الشر فاصدق
غيره:
العلم يجلو العمى، والجهل مهلكة
…
واللاعب الرفل الأذيال مكذوب
وقول صالح:
كل آت لا بد آت وذو الجه
…
ل معنى والهم والغم فضل
وقولي من قصيدة:
فلا تهتبل للحادثات ولا تثق
…
بما وهبت يوماً فموهوبها معرى