المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌نبذة من المضحكات والملح - المحاضرات في اللغة والأدب

[الحسن اليوسي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌بسم الله الرحمن الرحيم

- ‌فوائد تسمية المؤلف

- ‌تتمة

- ‌اسم المؤلف ونسبه

- ‌تتمة أخرى في أحكام التسمية

- ‌رؤيا والد المؤلف ودعوة أستاذه

- ‌تقلبات الدهر

- ‌مقام الشكر

- ‌ومقام الصبر عند الصوفية العارفين

- ‌الشجرة الخضراء

- ‌في المدينة الحالية: سجلماسة

- ‌محتالون يظهرون الصلاح ويخدعون الناس

- ‌أشعار في الكرم وخدمة الضيف

- ‌أصناف الناس

- ‌أصناف بقاع الأرض

- ‌الأريحية

- ‌فضل العلم

- ‌الانزعاج عن الوطن

- ‌الحكم التكليفي والحكم التصريفي

- ‌النفس والشيطان

- ‌الخاطر النفساني والخاطر الشيطاني

- ‌الحقيقة والشريعة

- ‌أبيات الحكمة والتمثيل

- ‌روايات المؤلف عن محمد الحاج الدلائي

- ‌منافسة علماء مصر لأحمد المقري

- ‌قضاء الحاجات عند الصلحاء

- ‌الحرة تكفي وتغني

- ‌شيخ الدلاء

- ‌عند عبد الله بن حسون في سلا

- ‌محمد الشرقي شيخ تادلا

- ‌القاف المعقودة

- ‌الكسكسون والتداوي بالشيء المعتاد

- ‌الدنيا وما فيها عرض زائل

- ‌المقامة الحافظة

- ‌الحسَد والحساد

- ‌كلمة الإخلاص

- ‌وتغالي فقهاء سجلماسة في فهمها وتفهيمها للعوام

- ‌العدوى والطيرة

- ‌تأملات المؤلف في النعيم والعذاب

- ‌انهزام الدلائيين في معركة بطن الرمان

- ‌دوام الملك بالعدل واضمحلاله بالجور

- ‌وسواس المهدوية

- ‌مهدوية أحمد بن أبي محلى

- ‌المهدي بن تومرت وأتباعه

- ‌الرياسة والشهرة

- ‌الكشف والمكاشفة عند الصوفية

- ‌إطعام الطعام في الزوايا

- ‌الزاوية والرباط

- ‌ميل القلوب ونفرتها

- ‌حنين المؤلف إلى الزاوية الدلائية

- ‌الاعتزال عن الخلق طلباً للسلامة

- ‌ذم المعاصرين ومدح المتقدمين

- ‌مداراة الناس صدقة

- ‌مناظرة المؤلف لشيخه

- ‌المرابط الدلائي

- ‌تنقل المؤلف في طلب العلم بالجنوب

- ‌تأخير الصلاة

- ‌أبو بكر الدلائي يكرم العكاكزة مداراة لهم

- ‌استحلاء الطاعات سموم قاتلة

- ‌تدبر العقل في أسرار الكون

- ‌تذوق الصوفية معاني الأبيات

- ‌والإشارات تأويلها حسب المقامات

- ‌انتقاد أحد القضاة للمؤلف والرد عليه

- ‌باب في

- ‌ملح من الأدب

- ‌نبذة مختارة من مختار الشعر

- ‌أشعر بيت قالته العرب

- ‌أحسن بيت قالته العرب

- ‌أصدق بيت قالته العرب

- ‌أكذب بيت قالته العرب

- ‌أنصف بيت قالته العرب

- ‌أفخر بيت قالته العرب

- ‌أمدح بيت قالته العرب

- ‌أهجى بيت قالته العرب

- ‌أشجع بيت قالته العرب

- ‌أشعر بيت في وصف الجبان

- ‌أشعر بيت قيل في الاستحقار

- ‌أكرم بيت قالته العرب

- ‌باب في

- ‌نبذة من كلام الأذكياء

- ‌باب

- ‌نبذة في أبيات المعاني والألغاز العربية

- ‌باب في

- ‌نبذة من المضحكات والملح

- ‌طفيل بن دلال الهلالي رأس الطفيليين

- ‌باب في

- ‌ذكر شيء من أخبار الثقلاء

- ‌باب

- ‌نبذة في الأوليات

- ‌باب

- ‌نبذة من المواعظ والوصايا

- ‌طائفة من الحكم

- ‌حرف الألف

- ‌حرف الباء

- ‌حرف التاء

- ‌حرف الثاء

- ‌حرف الجيم

- ‌حرف الحاء

- ‌حرف الخاء

- ‌حرف الدال

- ‌حرف الذال

- ‌حرف الراء

- ‌حرف الزاي

- ‌حرف السين

- ‌حرف الشين

- ‌حرف الصاد

- ‌حرف الضاد

- ‌حرف الطاء

- ‌حرف الظاء

- ‌حرف العين

- ‌حرف الغين

- ‌حرف الفاء

- ‌حرف القاف

- ‌حرف الكاف

- ‌حرف اللام

- ‌حرف الميم

- ‌حرف النون

- ‌حرف الهاء

- ‌حرف الواو

- ‌حرف لام ألف

- ‌حرف الياء

- ‌الرغيف والذهب

- ‌عدي بن زيد والأمير النعمان

- ‌من شعر أبي العتاهية

- ‌في الزهد والمواعظ

- ‌القصيدة الزينبية

- ‌تائية المقرئ في المواعظ

- ‌خاتمة

الفصل: ‌نبذة من المضحكات والملح

تلك الموازين والرحمان أنزلها

رب البرية بين الناس مقياسا

وقال عَبيدٌ:

ما مدلجات على هول ركائبها

يقطعن بعد النوى يسراً وامراسا

فقال امرؤ القيس:

تلك النجوم إذا حانت مطالعها

شبهتها في ظلام الليل أقباسا

وقال عَبيدٌ:

ما قاطعات بلاد الله في طلق

إذا استبقن ولا يرجعن قرطاسا

فقال امرؤ القيس:

تلك الأماني يتركن الفتى ملكاً

دون السماع ولم ترفع له راسا

فعجب عَبيدٌ من بداهة أمرئ القيس وقال له: ما أرى أحداً يخوض تيّارك. قالوا: فكان امرؤ القيس مدلاّ بنفسه لا يرى لشاعر فضلاً حتى لقي التوأم اليشكري، فتنازعا الشعر، فقال له امرؤ القيس: إن كنت شاعراً كما تزعم فملط أنصاف ما أقول، فقال له: قل: فقال امرؤ القيس:

أحارِ ترى بريقاً هبَّ وَهْناً

فقال التوأم:

كنار مجوس تستعر استعارا

فقال امرؤ القيس:

أرِقْتُ ونام أبو شُرَيْحٍ

فقال التوأم:

إذا ما قلت قد هدأ استطارا

فقال امرؤ القيس: كأن هزيزه بوراء غيب فقال التوأم:

عشارٌ وُلَّهٌ لاقت عشارا

فقال امرؤ القيس:

فلما أن دنا لقفا أضاخ

فقال التوأم:

وهت أعجاز ريِّقه فحارا

فقال امرؤ القيس:

فلم يترك بذات السر ظبياً

فقال التوأم:

ولم يترك بجلتها حمارا

فبهت امرؤ القيس مما راى من بداهة اليشكري، وأقسم ألا ينازع الشعر أحداً.

واجتع الطرماح بذي الرمة فقال له: هل نتساجل، فقال: قل، فقال ذو الرمة:

فماذا زينة قد زينوه

لغير زيادة ولغير عيد

فقال الطرماح:

هو الميت المكفن في ثياب

يلف بها إلى القبر الجديد

وقال ذو الرمة:

وبنيان شديد الأيْدِ عالٍ

بلا مدر أقل ولا عمود

فقال الطرماح:

فتلك سماؤنا خلقت ظلالاً

بناها الله ذو العرش المجيد

وقال ذو الرمة:

وحسناء المناظر كل يوم

لها وجه يضرب بالحديد

فقال الطرماح:

هو الوَرِقُ التي في الكير تجلى

تخلص بالمطارق والوقود

وهذا الباب لا ينحصر، وإنما أشرنا إلى شيء مما وقع للعرب ليعلم أنهم يتنبهون لمثل ذلك، وما وقع بعدهم في كل زمان إلى اليوم أكثر وأكثر.

لله الأمر من قبل ومن بعد

‌باب في

‌نبذة من المضحكات والملح

باب - وهذه نبذة في المضحكات وكل ما تنبسط به النفس من الملح، واعلم أن هذا النوع هو للعقل فاكهة، كما أن الحكمة السابقة هي غذاؤه وقوامه، فلا بد من كل منهما في استصلاح العقول وإزالة جساوتها وتنمية ذكائها، غير أن الملح تكون بقدر الحاجة كالملح للطعام، وإلى ذلك أشار القائل:

أفسد طبعك المكدود بالجد راحة

تفره وعلله بشيء من المزح

ولكن إذا أعطيته المزح فليكن

بمقدار ما يعطى الطعام من الملح

وقال ابن عباس رضي الله عنه: إذا مللتم فأحمضوا إي إذا مللتم من الجد فخذوا في شيء من الهزل، وقالوا: الانبساط بين أهل المروءة يسقط الحشمة، ويؤكد الحرمة، ويفتق البديهة، ويشحذ الطبيعة، وقال آخر: من كمال المرء مفاكهة إخوانه، إذ ممازحة الكريم تزيد في وده وتديم إخاءه، وقال الشاعر " في ذلك ":

ممازحة الكريم تزيد وداً

إذا كانت تضاف إلى الملاحة

فمازح من تحب وتصطفيه

فمزحك مع صديقك فيه راحة

ولا بد أن يكون ذلك على قدر، ومع أهله، وإلاّ كان سخفاً ومجلبة لكل سوء، ولذلك قال عمر رضي الله عنه: من كثر ضحكه استخف " به " وذهب بهاؤه، وقال سعيد بن العاصي: لا تمازح الشريف " فيحقد " ولا الدنيء فيجترئ، وقال جعفر بن محمد: إياكم والمزاح فإنه يذهب بنور الوجه، وقال الشاعر:

الكبر ذل والتواضع رفعة

والمزح والضحك الكثير سقوط

والحرص فقر والقناعة عزة

واليأس من صنع الإله قنوط

غيره:

وإياك إياك المزاح فإنه

يجري عليك الطفل والرجل النذلا

ويذهب ماء الوجه بعد بهائه

ويورثه من بعد عزته ذلا

فهذا كله من الإفراط ومع ممازحة الأنذال أو مفاتحة النذل من فوقه من الأشراف بالمزاح، فإنه إنما يحسن بين الأكفاء والله الموفق.

ص: 118

قال عبد الرحمان بن " أبي " الزناد لأشعب الطامع: أنت شيخ مسن، فهل تروي شيئاً من الحديث قال: نعم، حدثني عكرمة عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قال: خصلتان من حافظ عليهما دخل الجنة قال: قلت: فما هما؟ قال: نسي عكرمة إحداهما ونسيت أنا الأخرى.

وكان أشعب هذا يغشى سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم، فخرج سالم يوماً إلى حائط له بأهله ومعهم طعام، فتبعهم أشعب ودق الباب فلم يفتح له فتسور الحائط فأشرف على سالم فقال له سالم: أما تستحيي؟ تطلع على بناتي؟ فقال أشعب:) لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا في بَنَاتِكَ منْ حَقٍّ وَإنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (فقال له: اخرج وبعث إليه بطعام فأكله وانصرف.

وتداعى قوم من بني راسب وقوم من الطفاوة إلى زياد زياد في غلام وأقام كلّ بينةً، فأشكل الأمر على زياد، فقام سعد الرابية اليربوعي فقال: أيها الأمير، قد تبين لي في هذا الكلام وجه الحكم فوَلِّنِيِه، فقال: ما هو؟ فقال: يطرح في النهر، فإن طفا فوق الماء فهو للطفاوة، وإن رسب في الماء فهو لبني راسب، فنهض زيد وذهب وقد علاه الضحك، ثم أرسل إلى سعد فقال: ألم أنهك أن تمازح في مجلسي قال: أصلحك الله حضرني أمر خفت " أن أنساه ".

ودخل رجل على الشعبي وامرأته معه فقال: أيكما الشعبي؟ فقال الشعبي: هذه، وأشار إلى المرأة، فقال: ما تقول في رجل شتمني في أول " يوم من " رمضان أيؤجر على ذلك أم لا؟ فقال الشعبي: أما إن قال لك: يا أحمق فأرجو أن يكون له في ذلك الأجر العظيم.

وأهدى رجل إلى الحجاج تيناً في غير إبانه فجلس على الباب ينتظر الجائزة، فإذا بقوم جلبوا ليقتلوا، فلما بلغوا الباب هرب واحد منهم، فخاف الموكل بهم على نفسه، فأخذ صاحب التين فيهم، فلما قدموا للقتل قال: أيها الأمير، هؤلاء يذنبون وأنا لا ذنب لي، فقال له الحجاج: ألست منهم؟ فقال: لا، أنا " الذي " جئت بالتين، فبحث الحجاج على ذلك فوجده صادقاً فقال له: أخفناك مع إحسانك إلينا، تمن عليّ، فقال له الرجل: تعطيني ربع دينار، فقال: ما تصنع به؟ قال: أشتري به فأساً فأقطع هذه الشجرة التي كانت سبب معرفتي بك، فضحك الحجاج وأمر له بصلة سنية.

ومات للحجاج بعض من يعز عليه فقال لمن بحضرته: ليت إنساناً يعزيني بما يسليني، فقال رجل من أهل الشام كان أرسله عبد الملك إليه: أنا أسليك قال: قل، فقال: كل خليل سوف يفارق خليله بموت أو يقتل أو يصلب أو يقع من أعلى البيت أو يقع في بئر أو يكون شيء آخر لا نعرفه، فقال الحجاج: قد سليتني والله عن مصيبتي بأعظم منها في توجيه أمير المؤمنين رسولاً مثلك.

ودخل إسماعيل بن يسار يوماً على الغمر بن يزيد بن عبد الملك بعد أن حجبه ساعة ثم أذن له، فجعل إسماعيل يبكي، فقال له الغمر: ما يبكيك؟ فقال: وكيف لا أبكي وأنا على مروانيتي ومروانية أبوي أحجب عنك؟ وجعل الغمر يعتذر له وهو يبكي فما سكت حتى وصله بمال، فلما انصرف تبعه رجل فقال له: أي مروانية كانت لك ولأبويك؟ فقال: بغضنا إياهم، امرأته طالق إن لم تكن أمه تلعن مروان وآله كل يوم مكانَ التسبيح، وإن لم يكن أبوه حضره الموت فقيل له: قل: لا إله إلاّ الله فقال: لعن الله مروان تقرباً بذلك إلى الله تعالى وإقامة له مقام التوحيد.

ودخل أبو دلامة على المهدي فقال له:

إني رأيتك في المنا

م وأنت تعطيني خياره

مملوءة بدراهم

وعليك تفسير العبارة

فقال له: هات خيارة تملأ لك، فخرج وأتى بقرعة فقال له: أنت رأيت الخيارة وهذه قرعة فقال: أُم الدلامي طالق إن كنت رأيت إلاّ قرعة، ولكني نسيت فما ذكرتها حتى رأيتها في السوق، فضحك المهدي وأمر له بخمسة آلاف درهم.

وجلس بشار يوماً مع الناس على باب المهدي ينتظرون الإذن، فقال بعض موالي المهدي لمن حضر: ما عندكم في قوله تعالى:) وَأوْحَى رَبُّكَ إلى النَحْلِ (ما المراد بالنحل؟ فقال بشار: النحل التي يعرفها الناس، فقال: هيهات يا أبا معاذ! النحل هنا بنو هاشم، وقوله:) يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ ألْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ للنّاسِ (هي أنواع العلوم. فقال له بشار: جعل الله طعامك وشرابك وشفاءك ما يخرج من بطون بني هاشم، فغضب وشتم بشاراً. وبلغ الخبر المهدي فدعاهما فسألهما عن القصة، فأخبره بشار بها فضحك حتى أمسك على بطنه.

ص: 119

وسأل أبو العيناء بعض الوزراء أن يكتب له كتاباً إلى عامل له في رجل يطلب تسريحه فكتب إليه، فلما خرج قال: أخشى أن يكون كصحيفة المتلمس، ففتحه فإذا فيه: أما بعد فقد سألنا من لا نوجب حقه في رجل لا نعرفه، فإن فعلت خيراً لم نشكرك، وإن فعلت شراً لم نلمك، فرجع به إلى الوزير وقال له: ما هذا الذي كتبت أيها الوزير؟ فقال: تلك علامة بيني وبين العامل إذا أراد قضاء حاجة إنسان، فإن السؤال كثير، فقال أبو العيناء: لعن الله الوزير، وقطع يديه ورجليه، وأعمى عينيه، وأصم أذنيه، فقال الوزير: ما هذا الدعاء؟ فقال: هذه علامة بيني وبين ربّي إذا أردت أن يستجيب لي في قضاء حاجة إنسان.

وأتى رجل إلى النخاس فقال له: اطلب لي حماراً ليس بالصغير المحتقر، ولا الكبير المسرف، إن خلا لَهُ الطريقُ تدفق، وإن كثر الزحام ترفق، وإن قللت علفه صبر، وإن أكثرته شكر، وإن ركبته هام، وإن ركبه غيري نام، لا يصادم السواري، ولا يدخل تحت البواري فقال له النخاس: يا عبد الله، اصبر، فإن مسخ الله القاضي حماراً أصبت لك حاجتك إن شاء الله.

ومثل هذا ما روي أن رجلاً أراد شراء فرس فقال له النخاس: صف لي بغيتك منه، فقال: أريده حسن القميص، جيد الفصوص وثيق القصب نقي العصب، يشير بأذنيه، ويشرف برأسه ويخطر بيديه، ويدحو برجليه، كأنه مرج في لجة، أو سَيْلٌ في حَدُورٍ أو منحط من جبل، فقال له النخاس: نعم كذلك كان صلوات الله عليه وسلامه فقال: إنما وصفت لك فرساً، " فقال ": والله ما كنت أحسب إلاّ أنك تذكر صفة نبي من الأنبياء.

وأُخِذ بعض الشطار فحُمل إلى الكاتب ليسجّل نعته، فأغلق عينه اليمنى فكتب الكاتب: أعور العين اليمنى، فلما علم الشاطر أنه قد كتب ذلك فتح اليمنى وأغلق اليسرى، فلما نظر إليه الكاتب توهم أنه غلط فمحا اليمنى وكتب اليسرى، فأغلق الشاطر اليمنى وفتح اليسرى، فنظر الكاتب إليه " فقال: لعن الله الشيطان، أفسدت ما كان صحيحاً، فكتب اليمنى فأغلق الشاطر اليسرى، فتحير الكاتب " ولم يدر ما يفعل فكتب: أعور من أي عينيه شاء.

وأُخذ قوم محاربون فقدموا لتضرب أعناقهم فقال واحد منهم: والله ما كنت إلاّ أغني لهم، فقيل له: فغَنِّ إذن فلم يجرِ على لسانه غير قول القائل:

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه

فكل قرين بالمقارن مقتد

فقيل له: صدقت وضربت عنقه.

وذكرت الشيعة عند بعض شيوخ الإباضية قالوا: مخالفونا من أهل القبلة كفار، ومرتكب الكبيرة موحد غير مؤمن بناء على أن الأعمال داخلة في الإيمان، وكفروا علياً رضي الله عنه وأكثر الصحابة ".

في ح: " أول كلمة " بالتنكير فأنكرهم وسبهم جداً فقيل له في ذلك فقال: إن الشين أول الكلمة إنما توجد في مسخوط مثل شؤم وشر وشيطان وشح وشغب وشرك وشتم وشَيْن وشوك وشوصة وشكوى وشنآن قلت: وليس كما قال، بل هذا كثير، وضده وهو المحبوب أيضاً كثير، مثل شهد وشبع وشرب وشكر وشرف وشاب وشرع وشكد وشحم وشورى وشفاعة وشفقة وشغفر وشفاء، وفي أسمائه تعالى: الشكور الشهيد.

وخطب عتاب بن ورقاء الرياحي يوماً فقال وهو على المنبر: أقول لكم كما قال الله في كتابه:

ليس شيء على المنون بباق

غير وجه المسبّح الخلاّق

فقيل له: أيها الأمير هذا قول عدي بن زيد فقال: ليقله من شاء فنعم القول هو.

وأتي يوماً بامرأة من الخوارج فقال لها: يا عدوة الله ما حملك على الخروج أما سمعت الله يقول:

كتب القتل والقتال علينا

وعلى الغانيات جر الذيول

فقالت: جهلك بكتاب الله يا عدو الله حملني على الخروج عليك وعلى أئمتك.

ومثل هذا ما خطب علي بن زياد الأيادي فقال: أقول لكم مثل قول الرجل الصالح:) مَا أُرِيكُمْ إلاّ مَا أرَى وَمَا أُهْدِيكُمْ إلاّ سَبيلَ الرَّشَادِ (فقيل له: إنما قاله فرعون، فقال: يقوله من فاله فقد أحسن فيه.

وكان رجل يكثر مجالسة أبي يوسف ويطيل الصمت، فقال له يوماً ألا تسأل؟ قال: بلى، متى يفطر الصائم؟ قال: إذا غربت الشمس، قال فإن لم تغرب إلى نصف الليل؟ فضحك أبو يوسف وتمثل بقول الشاعر:

عجبت إزراء الغبيّ بنفسه

وصمت الذي قد كان بالعلم أعلما

وفي الصمت ستر للغبي وإنما

صحيفة لب المرء أن يتكلما

ص: 120

ومثل هذا ما روي أن شاباً كان يكثر مجالسة الأحنف ولا يتكلم، فأعجب الأحنف ذلك منه، ثم خلت الحلقة يوماً فقال له الأحنف: يا ابن أخي مالك لا تتكلم؟ فقال: يا عم أرأيت لو أن رجلاً سقط من شرفة هذا المسجد أيضره شيء؟ فقال الأحنف: ليتنا تركناك يا ابن أخي مستوراً ثم أنشد متمثلاً:

وكائن ترى من صامت لك معجب

زيادته أو نقصه في التكلم

لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده

ولم يبق إلاّ صورة اللحم والدم

وروي عن الجاحظ قال: عبرت على معلم كتّاب فدخلت إليه فرحب بي وأجلسني معه فذاكرته في القرآن فإذا هو ماهرٌ فيه، وكذا في العربية واللغة والشعر كما هو عارف، فقَوي عزمي على تمزيق " دفتر المعلمين " وجعلت أختلف إليه فأتيت يوماً فوجدت الكتاب مغلقاً، فسألت عنه فقيل: مات له ميت، فذهبه لأعزيه، فدققت الباب وخرجت جارية فقال: ما تريد؟ فقلت: أريد مولاك، فقالت: هو جالس وحده في العزاء ما يأذن لأحد فقلت: قولي له: صديقك فلان فدخلت فقالت: ادخل فدخلت فقلت له: أعظم الله أجرك) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللهِ أسْوَةٌ حَسَنَةٌ (وهذا سبيل لا بد منه، فعليك بالصبر، ثم قلت: هذا الميت ولدك؟ فقال: لا، قلت: والدك؟ قال: لا، قلت أخوك؟ قال: لا، قلت: فمن؟ قال: حبيبتي، فقلت في نفسي: هذا أوان المناحس، ثم قلت: سبحان الله! النساء كثير، وتجد أحسن منها، فقال: وكأني رأيتها فقلت في نفسي: وهذه منحسة ثانية، ثم قلت: وكيف عشقت من لم تره؟ فقال: كنت في الطارمة فسمعت مغنياً يقول:

يا أم عمرو جزاك الله مغفرة

ردي عليّ فؤادي أينما كانا

" لا تأخذين فؤادي تلعبين به

فكيف يلعب بالإنسان إنسانا ".

فقلت في نفسي: أولاً أن أم عمرو ما في الدنيا مثلها ما قيل فيها هذا الشعر، فعلقها قلبي، ثم بعد أيام مرّ بي ذلك الرجل " أو غيره " وهو يقول:

إذا ذهب الحمار بأم عمرو

فلا رجعت ولا رجع الحمار

فعلمت أنها ماتت فحزنت عليها، وجلست للعزاء منذ ثلاثة أيام، قال الجاحظ: فعاد عزمي إلى إبقاء " الدفتر " بأم عمرو.

وعن بعضهم قال: لقيت شيخاً من الأعراب فرجوت أن يكون يقول الشعر أو يرويه فسألته فقال: أما الرواية فلم أسمع من أروي عنه، وأمّا القول فلم أقل قط إلاّ بيتاً واحداً، فقلت: وهذا خير، أروي عنك هذا البيت فتحصل به رواية شعرك فما هو؟ فقال:

سقياً ورعياً وزيتوناً ومغفرة

قتلتم الشيخ عثمان بن عفان

قال الراوي: فجعلت أتأمله، فقال الشيخ: لعلك تتأمل في فهم معناه " قلت: نعم، قال: أنا قلته منذ سبعين سنة وأنا أفكر في معناه " فما فهمته، فكيف تطمع به أنت في ساعة واحدة.

" وقال أحمد بن عمار: عملت شعراً لا معنى له ولا قافية، وقلت لسعيد بن حميد: رَوِّهِ فلاناً صديقاً لنا من الطالبيين، وكان جلداً شهماً، معه تغفيل، وقل له: ينشده شجاع بن القاسم كاتب المستعين كأنه يمدحه به، وضل له على ذلك صلة وهو:

شجاع لجاع كاتب لاتب معاً

كجلمود صخر حطه السيل من عل

خبيص لبيص مستمر مقدم

كثير أثير ذو شمال مهذب

فطين أطين آمر لك زاجراً

حصيف لصيف حين يجبر يعلم

بليغ لبيغ كلما شئت قلته

لديه وإن تسكن من القول يسكن

أديب أبيب فيه عقل وحكمة

عليم بشعري حين أنشد يشهد

كريم أريم قالص متباسل

إذا جئته قدماً إلى البذل يسمح

فحفظه الطالبي ولقي شجاعاً ونحن نسايره فقال: أعزك الله، ليس الشعر من صناعتي، ولكنك أحسنت إليّ وإلى أهلي، فتكلفت أبياتاً مدحتك بها، فإن رأيت أن تسمعها مني، قال: قد أغناك الله من ذلك بشرفك ومودتك، فقال: بلى تتفضل بسماعها، وأنشده الأبيات، فلما فرغ شكره على ذلك، ودخل إلى المستعين فأخرج له عشرة آلاف درهم، وأجرى له ألف درهم في كل شهر، فجائنا الطالبي شاكراً: أنتما أوصلتما هذا.

وتزوج رجل امرأة حمقاء فغاب عنها مدة فلما قدم وضمها الفراش سألها عما حدث في غيبته فأنشأت تقول:

ما مسّني بعدك من إنسِّي

غير غلام واحد قيسيِّ

ورجل آخر من بَلِيّ

وثالث جا من بني عَدِيّ

ورابع أيضاً أتى من طَيّ

وخمسة جاءوا مع العشيّ

وسبعة كانوا على الطويّ

غر كرام من بني عليّ

ص: 121

وآخرين معملي المطيّ

من بين كوفي ومن بصريّ

ومن تهاميّ ومن نجديّ

ما فيهم من ليس بالمرضيّ

فقام بضربها فصاحت فأجتمع الناس فقال لهم: لولا أني قمت أضربها لعدّتْ عليّ أهلَ عرفات ومنى.

وكان بشار إذا أعوزنه القافية أو المعنى يدخل في شعره أشياء لا حقيقة لها تكميلاً لشعره، فمن ذلك أنه أنشد شعراً فقال فيه:

غنّي للغريض يا ابن قنان

فقيل له: من ابن قنان هذا؟ فإنا لا نعرفه في المغنين، فقال: وما عليكم منه؟ ألكم قِبّلهَ دَينٌ تطالبونه به؟ أو ثأر تريدون أن تدركوه منه؟ أو كفلت لكم به فإذا غاب طلبتموني؟ فقالوا: ليس بيننا وبينه شيء من هذا، ولكنا أردنا أن نعرفه، فقال: هذا رجل يغني لي ولا يخرج من بيتي، فقالوا له: إلى متى؟ فقال من يوم ولد إلى يوم يموت، فتفرقوا عنه متضاحكين.

وقال بعضهم: شربنا يوماً عند عبد الصمد بن علي عم المنصور، وكان يغنينا الدارمي المكي، وكان حلو ظريفاً، فنعس عبد الصمد وعطس الدارمي عطسة هائلة فوثب عبد الصمد مرعوباً وغضب غضباً شديداً وقال: يا ابن الفاعلة، إنما أردت أن تفزعني، قال: لا والله ولكن هذا عطاسي، فقال: والله لأقبنك أو تأتيني ببيِّنة على ذلك، ووكل به غلمانه، فخرج ولا يدري أين يذهب، فلقيه رجل يعرفه من أهل مكة، فسأله عن أمره فأخبره فقال له: أنا أشهد لك، ومضى معه حتى دخل على عبد الصمد فقال له: بم تشهد لهذا؟ فقال: رأيته عطس عطسة سقط منها ضرسه، وتطاير نصف لحيته، فضحك عبد الصمد وقال: خلوا سبيله.

وقال الماوردي: كنت بمجلس درسي بالبصرة فدخل عليّ شيخ مسنّ قد ناهز الثمانين أو جاوزها وقال لي: قصدتك بمسألة اخترتك لها فقلت: وما هي؟ وظننت أنه يسأل عن حادثة نزلت به، فقال: أخبرني عن طالع إبليس وطالع آدم من النجوم ما هو، فان هذين لعظيم شأنهما لا يسأل عنها إلا علماء الدين، فعجبت وعجب من في مجلسي من سؤاله وبادر إليه واحد منهم بالإنكار والاستخفاف، فكففتهم، وقلت: هذا لا يقتنع مع ما ظهر من حاله إلا بجواب مثله، فأقبلت عليه وقلت: يا هذا إن النجمين يزعمون أن نجوم الناس لا تعرف إلاّ بمعرفة مواليدهم، فإن ظفرنا بمن يعرف وقت ميلادهما أخبرناك بالطالع، فقال جزاك الله خيراً، وانصرف مسروراً، فلما كان بعد أيام عاد إلي وقال: ما وجدت إلى وقتي هذا من يعرف مولدهما.

وكان المأمون يوماً جالساً مع ندمائه مشرفاً على دجلة يتذاكرون أخبار الناس، فقال المأمون: ما طالت لحية إنسان إلاّ نقص من عقله بقدر ذلك، فلم يسلم له أصحابه ذلك، فبينما هم في ذلك رأوا رجلاً كبير اللحية حسن الهيئة والثياب، فقال المأمون: عليّ به، فلما وقف بين يديه سلم، فأجلسه المأمون، وقال له: ما أسمك؟ قال: أبو حمدونة، فقال: وما كنيتك؟ قال: علوبة، فضحك المأمون وأقبل على جلسائه فغمزهم عليه، ثم قال: ما صنعتك قال: فقيه أجيد الشرح للمسائل، فقال: نسأل عن مسألة، فقال: سل عما بدا لك، قال: فما تقول فيمن أشترى شاة فلما قبضها خرجت من أستها بعرة فقأت عين رجل، على من تجب دية العين؟ على البائع أم على المشتري؟ فنكت بإصبعه الأرض طويلاً ثم قال: دية العين على البائع قال: ولمَ؟ قال: لأنه باع ولم يشترط أن في أستها منجنيقاً، فضحك المأمون ومن معه، ثم أنشأ يقول:

ما أحد طلت له لحية

فزادت اللحية في هيئته

إلاّ وما نقص من عقله

أكثر مما زاد في لحيته

ويؤيد هذا ما روي أن معاوية كان مع أصحابه فمرّ بهم رجل طويل اللحية فقال معاوية: أيكم يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طول اللحية، فقال عمرو بن العاصي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اعتبروا عقل الرجل في ثلاث: طول لحيته، وكنيته، ونقش خاتمه "، فلما جاءهم الرجل قال معاوية: ما نقش خاتمك:) وَتَفَقّدَ الطّيْرَ فَقَالَ مَالي لا أرَى الهُدْهُدَ (. قال: وما كنيتك؟ قال: أبو الكوكب الدري، فقال معاوية: كمل الرجل، ولهذا قال عليه السلام:" من سعادة المرء خفة لحيته ".

وروي أن أعرابيين اختصما إلى شيخ حيهما، فقال أحدهما للآخر: إنك والله ما تحفظ آية من كتاب الله، فقال الآخر: والله إني لقارئ، فقال له الشيخ: اقرأ علي، فقال كأنه يقرأ:

علق القلب ربابا

بعدما شابت وشابا

ص: 122

إن دين الحبّ فرض

لا ترى فيه ارتيابا

فقال الشيخ لخصمه: والله لقد قرأها كما أنزلت، فقال خصمه: والله يا سيدي ما تعلمها إلاّ البارحة.

ويشبه هذا ما ذكر أن رجلاً سمع رجلاً ينشد:

فلا تقبل لغانية يمينا

ولو حلفت برب العالمينا

فقال: أشكل علي موضعها في) إنّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (.

وذكر أن أعرابياً تقدم إلى القاضي سوار في أمر فلم يجد عنده ما يحب، فاجتهد فلم يظفر بحاجته، قال: فقال الأعرابي وفي يده عصا:

رأيت رؤيا ثمَّ عبرتها

وكنت للأحلام عبارا

بأنني أخبط في ليلتي

كلباً فكان الكلب سوارا

ثم انحنى على سوار بالعصا حتى منع منه قال: فما عاقبة سوار.

ويروى أن ضيفاً نزل بالحطيئة وهو يرعى غنماً له وفي يده عصا فقال له الضيف: يا راعي الغنم، فأومأ الحطيئة بعصاه وقال: عجراء من سلم، فقال الرجل: إني ضيف فقال: للضيفان أعددتها.

وروي أن ناسكاً من بني الهجيم بن عمرو بن تميم كان يقول في قصصه: اللهم اغفر للعرب خاصة، وللموالي عامة، فأما العجم فهم عبيدك، والأمر إليك.

ونظر يزيد بن مَزْيد الشيباني إلى رجل ذي لحية عظيمة وقد تلففت على صدره، وإذا هو خاضب فقال: إنك من لحيتك في مئونة فقال: أجل، ولذلك أقول:

لها درهم للدهن في كلّ جمعة

وآخر للحناء يبتدران

ولولا نوال من يريد بن مزيد

لصوَّت في حافاتها الجَلّمان

ونظر أعرابي إلى رجل جيد الكِدْنة أي الشحم يعني سميناً فقال: يا هذا، إني لأرى عليك قطيفة محكمة من نسج أضراسك.

ويروى أن جارية لهمام بن مرة بن ذهل بن شيبان قالت له يوماً:

أهمام بن مرة حنّ قلبي

إلى اللائي يكن مع الرجال

فقال: يا فَساقِ، أردت صفيحة ماضية فقالت:

أهمام بن مرّة حنّ قلبي

إلى صلعاء مشرفة القذال

فقال: يا فَجارِ، أردت بيضة حضينة فقالت:

أهمّام بن مرّة حنّ قلبي

إلى أير أسد به مبالي

وكان بشار يقول: لم تقل امرأة شعر قط إلاّ تبين فيه الضعف، فقيل له: أو كذلك الخنساء؟ قال: تلك كان لها أربع خُصىً.

وقال المبرد: حدّثني شيخ من الأزد عن رجل منهم أنه كان يطوف بالبيت وهو يدعو لأبيه فقيل له: ألا تدعو لأمك فقال: إنها تميمية. وسُمع رجل يطوف بالبيت وهو يدعو لأمه ولا يذكر أباه، فعوتب فقال: هذه ضعيفة وأبي يحتال لنفسه.

وقال بعض المحدثين:

ولا أكتم الأسرار لكن أنمها

ولا أترك الأسرار تغلي على قلبي

وإن أحق الناس بالسخف لامرؤ

تقلبه الأسرار جنباً إلى جنب

وقال الآخر:

وأمنع جارتي من كلّ خير

وأمشي بالنميمة بين صحبي "

ورأى طفيلي رجلاً اشترى سمكاً كثيراً مطبوخاً، وحمله على رأس أمه له إلى داره، فتبعه، فلما رأى الرجل الطفيلي بادر فأدخل الأمة ودخل وأغلق الباب، فتسور الطفيلي فأشرف عليهم، فقال له الرجل: أما تتقي الله تطلع على محارم الناس؟ فقال:) لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا في بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإنّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (فضحك الرجل وقال له: انزل إلى الباب يفتح لك، فنزل، فعمد الرجل إلى كبار السمك فجعلها في زاوية البيت وترك الصغار، فلما دخل الطفيلي ورآها علم القصة، فأجال بصره في البيت فرأى الإناء في زاوية البيت مغطى، فعلم أن حاجته فيه، فجعل يأخذ من تلك الصغار السمكة فيقطع رأسها " بعنف " ويقربه من أذنه ويصغي إليه ثم يطرحه، فقال له الرجل: ما هذا الذي تصنع؟ فقال له: اعلم أن أبي كان يسافر في البحر، فغرق وأكلته الحيتان، فقلت: اليوم أدرك ثأري، فإذا بهذه الحيتان تقول لي: إنا عند غرق أبيك لم نكن خلقنا بعد، وإن التي أكلت لحم أبيك في الإناء الذي في زاوية البيت، فضحك الرجل واستظرفه، وآتاه بالإناء الذي فيه الكبار، فأكل حتى قضى حاجته.

" وأتى طفيلي وليمة فاقتحم وأخذ مجلسه مع الناس، فأنكر عليه صاحب الدار وقال: لو صبرت حتى يؤذن لك لكان أحسن لأدبك فقال: إنما اتخذت البيوت ليدخل فيها، والموائد ليؤكل عليها، والشحنة قطيعة، وإطراحها صلة، وجاء في الآثار: صل من قطعك، وأحسن إلى من أساء إليك، ثم اجمع فيها خلالاً، أحصل مجالساً، وآكل موانساً، وأبسط رب الدار وإن كان عابساً، وأنشد:

ص: 123