الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تنبيه على حكم ما وقع من استنقاص الزمان واستنقاص أهله وسبهما يحسب النظر الشرعي أصلاً وفرعاً: فأما الزمان ويقال أيضاً الدهر فجرت عادة الشعراء وغيرهم قديماً وحديثاً بالتشكي منه والتبرم به ونسبة الإذاية والجور إليه. وقد يكون فيهم من يعتقد ظاهر ذلك " وهو مشرك، وقد يكون من لا يعتقد ذلك لكونه موحداً " بل إما غفلة وَجرياً على أسلوب من قبله من التعبير وإما مجازاً بطريق المقارنة لما يقع فيه من الأحداث والكوائن، والفاعل هو الله تعالى، فلا معنى حينئذ للتشكي منه ولا لسبه ولا استنقاصه فإن ذلك سوء أدب مع الله تعالى من جهتين: إحداهما أنه هو المتصرف في الكل، ولذا ورد في الخبر:" لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر " أي ما ترونه فالله تعالى هو فاعله.
ثانيهما أنه يجب على المؤمن اعتقاد كل ما برز في كل زمان من التصرفات فذلك هو الصالح في ذلك الوقت الجاري على الحكمة سواء لاءم الطباع أو لا، ومن اعتقد خلاف ذلك فهو جاهل بالله تعالى جاهل بحكمته وقدرته، ولو ولي وال بلدة لم يتصرف فيها إلاّ بالحكمة والمصلحة إلاّ ما خرج عن علمه وطوقه، والله تبارك وتعالى حكيم، قاهر فوق عباده، غالب على أمره لا يتعالى عن قدرته مقدور، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة.
ثم الزمان بمعزل عن العيب والنقص، فإنما ذلك في الناس، وما يقع منهم أو يقع لهم فهم أحق بالانتقاص كما قيل:
يقول أناسٌ دهر سوء ليعذروا
…
وهم عيبه عندي ولا عيب للدهر
وأما استنقاص أهل الزمان كما مرّ فلا شك أنه لا يحرم إذ لا يدخل في الغيبة المحرمة حيث لا يكون التعيين.
وقد استشعر محيي الدين ابن العربي في رسالة القدس ذلك حيث وقع في متصوفة زمانه فأجاب بنحو ذلك ونزع بما وقع لعائشة رضي الله عنها من ذم أهل زمانها كما مرّ وغيرها من أهل الدين، ولكن الأولى الإمساك عن ذلك لما قررنا قبلُ، ولأنه لا يكاد يحصل من ذلك طائل غير إتعاب المرء قلبه ولسانه وتعرضه لمثل ذلك.
ومن ظنّ ممن يعاني الحروب
…
بأن لا يصاب فقد ظن عجزا
نعم ذكر ما يقع منهم من المناكر بالتنصيص بقصد الاحتراز مع الإنصاف كما فعل أبو العباس زروق في النصح الأنفع، وفي عمدة المريد نافع مفيد غير أنه صعب مفتقر إلى تحقيق في المدارك وتضلع في العلوم وتجربة تامة، فإن الأمور قليل منها ما يكون أمراً حقيقياً يذم من كل وجه أو يمدح، وأكثرها إضافي اعتباري يختلف باختلاف الأشخاص والمقاصد والأزمنة والأمكنة والأحوال فافهم.
لله الأمر من قبل ومن بعد
مداراة الناس صدقة
مما اتفق لي وينتظم في سلك الملح مع تضمن فائدة أني كنت خرجت من مدينة فاس - حرسها الله تعالى - أيا مالحصار، وأتينا على جبل بني زروال، ومعي جموع من الناس من طلبة وفقراء وتجار، فوافينا به رجلاً من أهل محبتنا، فكان ينصرف لي في أموري وفي أمور من معي من الناس يحسب تفقدهم وإنزالهم منازلهم. وربما نتردد فيريد أن يكشف لي عن رأيه في ذلك فيدنو مني ويناجيني، وكان ساقط الأسنان، لا يكاد يفهم كلامه، وكان مع ذلك كلام أهل تلك البلاد منغلقاً عنا لا نكاد نفهمه، ثم يخفت بصوته لئلاّ يسمعه من حضر، فيتكلم ولا أكاد أسمع من كلامه حرفاً واحداً، حتى إذا فرغ من حديثه رفع رأسه إلي وقال: هكذا يكون الكلام مفصحاً بها، فكنت في هذا أباسط أصحابي فأقول لهم: إن هذه الجملة الأخيرة من كلامه وقع فيها حكم بطريق القصر، وهو موقوف على أشياء قبله لم يحصل واحد منها، الأول سماع اللفظ فإنه مقدمة الفهم، الثاني معرفة الوضع فإنه شرط، الثالث فهم الألفاظ مفردة، الرابع فهم التركيب، الخامس فهم النسبة تصوراً، السادس فهم الحكم مطلقاً " أي من غير قصر " السابع فهمه مقصوراً، ثم إن الأخير أعني الحصر محتاج إلى دليل لأنه بسبيل المنع، ولم يحصل شيء من ذلك كله، وما توقف على ما لم يحصل فهو غير حاصل، ثم إني مع ذلك أستبشر عند حديثه، وربما أحرك رأسي موهماً أني قد حصلته، وأني قد استصوبت رأيه، وذلك أنه لم يمكني في الوقت غير ذلك، فإني إن راجعته ليبين لم يبين إلاّ بخفية كما فعل أولاً، فلا يحصل طائل، وقد علمت أن ليس في عدم تبين مقاصده مهمٌّ يفوت، لأن كل ما ينحو إليه من الرأي ويتشوف إليه من المصلحة فعندي بحمد الله ما يكفي فيه، فكنت أساهله وأتركه بحاله رفقاً به وجبراً لخاطره وتقللاً من الشغب وعندي على هذا النحو مذهب، وأرى كثيراً من الناس يَنْبُون عنه، وللتنبيه عليه مع التلميح السابق سطرت هذه القصة، وذلك أني أتغافل عما لا حاجة إليه، ولا أتتبع ما فيه تكلف ولا تدعو الضرورة إليه وإن ذلك عندي هو أسلم وأبعد عما يخشى من ارتكاب الفضول أحياناً، وتجاوز الحدّ أحياناً، وإحراج الصدر أحياناً واستثارة الشر أحياناً وأقرب إلى مكارم الأخلاق، وأدخل في المداراة المطلوبة، وأبعد عن الملاحاة المذمومة.
وفي الحديث: " مُدَارَاةُ النّاسِ صَدَقَة " وفي حديث آخر: " رَأسُ العَقْلِ بَعْدَ الإيمَانِ بِاللهِ التَوَدُّدُ إلى النّاسِ " وفي خبر آخر: " التَوَدُّدُ إلى النّاسِ نِصْفُ العَقْلِ، وَحُسْنُ التَدْبِيرِ نِصْفُ المَعِيشَةِ، وَمَا عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ " وقال الشاعر:
ومن لا يغمض عينه عن صديقه
…
وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب
ومن يتتبع جاهداً كل عثرة
…
يجدها ولا يسلم له الدَّهر صاحب
وقال الآخر:
أغمض عيني عن صديقي تغافلاً
…
كأني لما يأتي من الأمر جاهل
وما بي جهل غير أن خليقتي
…
تطيق احتمال الكرهِ فيما تحاول
ونحوه قول الآخر:
أغمض للصديق عن المساوي
…
مخافة أن أعيش بلا صديق
وقال غيره:
إذا كنت في كلّ الأمور معاتباً
…
صديقك لا تلقى الذي لا تعاتبه
فعش واحداً أو صل أخاك فإنه
…
مقارف ذنب مرة ومجتنبه
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى
…
ظمِئت وأي الناس تصفو مشاربه؟
ومن ذا الذي تُرضى سجاياه كلها؟
…
كفى المرء نبلاً أن تُعَدَّ معايبه
وقال غيره:
إذا ما الصديق أسا مرة
…
وقد كان فيما مضى مجلا
ذكرت المقدم من فعله
…
فلم ينسني الآخر الأولا
وقال غيره:
وأغفر عوراء الكريمِ ادِّخاره
…
وأعرض عن شتم اللئيمِ تكرّما
وقال غيره:
احرص على حفظ القلوب من الأذى
…
فرجوعها بعد التنافر يعسر
إنَّ القلوب إذا تنافرت وُدّها
…
مثل الزجاجة كسرها لا يجبر "
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها خلال المكارم عشر تكون في الرجل ولا تكون في أبيه، وتكون في العبد ولا تكون في سيده، يقسمها الله لمن أحب: صدق الحديث، ومداراة الناس، وصلة الرحم، وحفظ الأمانة، والتذمم للجار، وإعطاء السائل، والمكافأة بالصنائع، وقرى الضيف، والوفاء بالعهد، ورأسهن كلهن الحياء.
وقال الشاعر: