الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن أظرف ما وقع في هذا ما حدثني به الطبيب المذكور، وهو الفاضل أبو عبد الله محمد الدراق الفاسي، قال:" كنت " دخلت طنجة بقصد ملاقاة الأطباء ورؤية الشخص الذي صوّروه تعلّم التشريح معاينةً، قال: فكان بعض أطباء الروم هنالك يعجب من أكلنا الكسكسون المذكور ويضحك منا ويقول: إنما تأكلون العجين في بطونكم، قال: فبينما نحن كذلك إذ دخلت عليه يوماً فوجدته عند رأس مريض محموم شديد الحمى وهو يسقيه الخمر، قال: فقلت له: ما هذا الذي تصنع أنت؟ وأي مناسبة بين الخمر والحمى والكل في غاية الحرارة؟ فقال: إنها لن تضره لاعتياده لها، فإنه كان يرضعها من ثدي أمه، وهو طفل صغير، قال فقلت له: سبحان الله! ونحن هكذا كنّا نرضع ما تنكر من الكسكسون من ثدي أمهاتنا ونحن صغار، فأي شيء يضرنا؟ فقال: صدقت، ولم يجد ما يقول.
ومن هذا المعنى اختلفت طباع الناس في الطعام باختلاف الإلف والعادة، فكلّ يستمرئ ما يألفه من الطعام ويشتهيه ويعاف الآخر، قال صلى الله عليه وسلم في الضب: " إنّهُ لَيْسَ بِأرْضِ قَوْمِي فَتَجِدُني أعَافُهُ. فعلل ذلك بكونه ليس في أرضه.
ودخلت في أعوام الستين وألف مدينة مراكش عند رحلتي في طلب العلم وأن إذ ذاك صغير السن، فخرجت يوماً إلى الرحبة أنظر " إلى " المداحين، فوقفت على رجل مسن عليه حلقة عظيمة، وإذا هو مشتغل بحكاية الأمور المضحكة " للناس ". فكان أول ما قرع سمعي منه أن قال: اجتمع الفاسي والمراكشي والعربي والبربري والدراوي فقالوا: تعالوا فليذكر كل منا ما يشتهي من الطعام، ثم ذكر ما تمناه كل واحد بلغة بلده، وما يناسب بلده، ولا أدري أكان ذلك في الوجود أم شيء قدره، وهو كذلك " يكون "، وحاصله أن الفاسي تمنى مرق الحمام، ولا يبغي الزحام، والمراكشي تمنى الخالص واللحم الغنمي، والعربي تمنى البركوكش بالحليب والزبد، والبربري تمنى عصيدة انلي وهو صنف من الذرة بالزيت، والدراوي تمنى تمر الفقوس في تجمدرت وهو موضع بدرعة يكون فيه تمر فاخر، مع حريرة أمه زهراء، وحاصله تمر جيد وحريرة.
ولو عرضت هذه الحريرة على العربي لم يشر بها إلاّ من فاقة، إذ لا يعتادها مع الاختيار، ولو عرضت العصيدة على الفاسي لارتعدت فرائصه من رؤيتها، وهكذا.
وأغرب شيء وقع في أمر الاعتياد ما حكي في جارية الملك الهندي مع الاسكندر " فإن الاسكندر " لما دوَّخ الملوك واستولى على الأقاليم احتال بعض ملوك الهند في هلاكه، وكانت عنده جارية بديعة الحسن كاملة الأوصاف، فجعل يغذيها بالسموم، ويتلطف لها حتى اعتادت ذلك، ثم تناهت إلى أن تطبعت بذلك وصارت مسمومة، فأهداها للإسكندر، وقصد بذلك أن يمسها فيهلك، وهذا غريب.
وقد ذكر الأطباء هذه الحكاية فاستغربوا شأنها، وقد ذكرنا في اختلاف البلدان مع اختلاف طبائع الناس بها فيما مر ما يقرب من هذا المعنى ويرشحه.
لله الأمر من قبل ومن بعد
الدنيا وما فيها عرض زائل
من كلامهم: ما أدري أو ودع، وهو " مذكور " في قِصَرِ الزيارة، ونحوه قولهم: ما سلم حتى ودع، وقال فيه الشاعر:
بابي من زارني مكتتما
…
خائفاً من كلّ حسٍّ جزعا
حَذِراً نَمَّ عليه نُورُه
…
كيف يُخفي الليل بدراً طلعا
رصد الخلوة حتى أمكنت
…
ورعى السامر حتى هجعا
كابد الأهوال في زورته
…
ثم ما سلم حتى ودعا
وقال العباس بن الأحنف:
سألونا عن حالنا كيف أنتم؟
…
فقرنَّا وداعهم بالسؤال
ما أناخوا حتى ارتحلنا فما نفْ
…
رِقُ بين النزول والتّرحال
وقال محمد بن أمية الكاتب:
يا فراقاً أتى بعقب فراق
…
واتفاقاً جرى بغير اتفاق
حين حطت ركابهم لتلاق
…
زفت العيس منهم لانطلاق
إن نفسي بالشام إذ أنت فيها
…
ليس نفسي التي بالعراق
أشتهي أن ترى فؤادي فتدري
…
كيف وجدي بكم وكيف احتراقي
وقال الحسين بن الضحاك:
بأبي زور تلفت له
…
فتنفست عليه الصُّعَدا
بينما أضْحَكُ مسروراً به
…
إذ تقطعت عليه كمدا
وكنت خرجت ذات مرة لزيارة أقاربي فلقيت أختاً لي، فبنفس ما سلمت عليّ جعلت تبكي، فقلت لها: ما يبكيك؟ أليس هذا وقت سرور وفرح؟ فقالت: ذكرت يوم فراقك، فقلت في ذلك:
ومحزونة بالبين طال بها الجوى
…
علينا وشوق بالجوانح لداغ
تبيت وجفناها يباريهما الحيا
…
وما تحت جنبيها من الفرش لداغ
إلى أن تسخى الدهر بالوصل بيننا
…
ولاح ضياء للمسرات بزاغ
فلما انقضى التسليم ما بيننا بكت
…
وفاض لها دمع من العين نشاغ
فقلت: ألم يإنِ السرور ولم يدر
…
شراب للقيان الأحباء سواغ
فقلت: تذكرت الفراق غداً فذا
…
لقلبي عن تلك المسرات صداغ
فيا لك من حزن يباري مسرة
…
بسهمين كل في المناضل بلاغ
ويا لك من نعمى ببؤسي مشوبة
…
كما شاب بالدم المور نساغ
بل الشر في الدنيا على المرء صائل
…
لجوج عليه الدهر والخير رواغ
على أن لطف الله للعسر دامغ
…
كما الحق منه للأباطيل دماغ
واعلم أن أمور الدنيا مشوبة خيرها بشرها، وحلوها بمرها، ثم هي متبدلة " متغيرة " لا تكاد تثبت في حد، ولا تقف على مركز، وحكمة ذلك شيئان: أحدهما أن الدنيا لما جعلت مقدمة للآخرة يقع فيها الاستعداد لدخول الجنة والنجاة من النار جعلت مظهراً لما هنالك من نعيم وعذاب، ودالة عليه، ومذكرة له، وقاضية بالترغيب والتنفيير، فلم تجعل خيراً محضاً، وإلاّ نسي العذاب، ولا شراً محضاً، وإلاّ نسي النعيم، وأيضاً جعلت دالة على أوصاف الرب المنشئ لها، سبحانه، من جمال وجلال لتحصل المعرفة لعباده، وهذا كله كلام واسع الذيل لو بسطناه، والإشارة تكفي.
الثاني أنها حادثة حادث ما فيها، وشأن الحادث أن يتبدل من عدم إلى وجود، ومن وجود إلى عدم، ذاتاً وصفة وحالاً، ومكاناً وزماناً، فلزم من ذلك التحول من عز إلى ذل، ومن غنى إلى فقر، ومن ارتفاع إلى اتضاع ومن سرور إلى حزن، ومن صحة إلى سقم، وبالعكس في الجميع إلى غير ذلك.
وفي الحديث: كانت العضباء، وهي ناقة للنبي صلى الله عليه وسلم، معروفة لا تسبق، فجاء أعرابي على قعودٍ فسبقها، فقالوا، سبقت العضباء، وشق ذلك على المسلمين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" إنّ اللهَ لَنْ يَرْفَعَ شَيْئاً مِنَ الدّنْيَا إلاّ وَضَعَهُ ".
وقد جاء رجل إلى بعض الوزراء فقال له: إني رأيتك فيما يرى النائم طالعاً على رأس نخلة أو شجرة. ورأيت فلاناً يعني وزيراً آخر كان يساميه في المرتبة أنه شرع في الطلوع ولم يصل بعد إلى أعلاها، وأراد بذلك أن يبشر الوزير ليستجديه فقال له الوزير، وكان ذا فطنة: يا أخي أذهب إلى فلان ليعطيك، فإنه في الزيادة، وأما أنا فقد انتهيت، وليس بعده إلاّ الانحطاط.
وقد أذكرتني " هذه الحكاية " حكاية أبي عبد الله وزير المهدي، وكان متمكناً في منزلته عنده، ثم إن الخليفة زاره في داره ذات مرة، وكانت زيارة الخليفة لخواصه في عرفهم ليس فوقها درجة تطلب، فلما همّ بالانصراف أخذ الوزير يدفع له من نفائس الذخائر ما يليق بتجهيزه، ثم جعل يبكي، فقال الخليفة: ما يبكيك؟ لقد علمت أن فيك بخلاً تسميه حزماً، فإن كان لك ما أعطيت أعفيناك منه، فقال أبو عبد الله: والله ما بكيت للمال، وللهدايا كلها أحقر شيء في حقك، ولكن علمت أن زيارتك لي درجة ليس فوقها درجة ترام، فأخاف الآن من السقوط، فلما رأى ذلك أشفق وأعطاه من العهود والمواثيق أن لا يغدر به، ولا يسمع فيه قول قائل ما اطمأن به، فلم يلبث إلاّ أياماً يسيرة حتى سعوا فيه، فنكب، وقصته مأثورة والعامة يقولون:
ثلاثة ليس لها أمان
…
البحر والسلطان والزمان
وفي هذا المعنى الذي نحن فيه قيل:
توقى البدور النقص وهي آهلة
…
ويدركها النقصان وهي كوامل
وإذا كانت الدنيا وما فيها عرضاً زائلاً لا ثبات له فلا ينبغي لعاقل أن يتبجح بخيرها ولا أن يجزع من شرها، بل إذا كان حلوها تتوقع بعد المرارة ومرها ترجى بعده الحلاوة فقد صار حلوها مراً " ومرها حلواً " وإذا كان المفروح به لا يبقى فهو بصدد أن يكون محزوناً عليه قل أو كثر، فكثرة الفرح بها إذن مقدمة كثرة الحزن، فلا ينبغي أن يلتفت إليه. وقال الشاعر:
على قدر ما أولعت بالشيء حزنه
…
ويصعب نزع السهم مهما تمكنا
وقال الآخر:
ومن سره أن لا يرى ما يسوءه
…
فلا يتخذ شيئاً يخاف له فقدا
فإن صلاح المرء يرجع كله
…
فساداً إذ الإنسان جاز به الحدا