الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن هذا ما وقع للحكماء في البرهان وفي الفلسفة وفي الهندسة وفي أنواع الصنائع والحرف وأصناف الحيل وضروب الغرائب في الأفعال والأقوال، ومن رزقه الله تعالى فهماً من لدنه ونوراً كان أقوى وأكثر، حتى لا يكاد يطير طائر إلاّ استفاد من طيرانه، أو يصر باب إلاّ استفاد من صريره، أو يتكلم متكلم إلاّ استفاد من كلامه، ما لم يرده المتكلم ولم يخطر له ببال، وهذا مشهور عند أهل الطريق من العارفين والمحبين والمريدين الصادقين رضي الله عنهم.
لله الأمر من قبل ومن بعد
تذوق الصوفية معاني الأبيات
والإشارات تأويلها حسب المقامات
وقد قال أبو نواس في ممدوحه:
تغطيت عن دهري بظل جناحه
…
فعيني ترى دهري وليس يراني
فلو تسأل الأيام عني ما درت
…
وأين مكاني ما عرفن مكاني
فكان هذا مشرباً عندهم في حق أهل كهف الإيواء من الأصفياء الأخفياء رضي الله عنهم، وهو واضح.
وقال أيضاً في الخمريات:
إذا العشرون من شعبان ولّت
…
فواصل شرب ليلك بالنهار
ولا تشرب بأقداح صغار
…
فقد ضاق الزمان على الصغار
فصار عندهم موعظة في الإكثار من العمل الصالح والتشمير للتزود للمعاد، ولا سيما عند إيناس قرب الأجل، وخشية فوات الأمل. وقال أيضاً:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
…
وداوني بالتي كانت هي الداء
فصارت مشرباً للمحبين أهل الشوق والذوق، رضي الله عنهم.
وفي مناقب الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه، أنه في مسيره إلى المشرق، وكان في محفّته، فكان فتيان ذات يوم يمشيان تحته في ظلها ثم جعلا يتحدثان، فقال أحدهما " للآخر ": يا فلان مالي أرى فلاناً يسيء إليك وأنت تتحمل منه؟ فقال له: والله ما كان ذلك مني إلاّ لأنه من بلدي فكنت كما قال القائل:
رأى المجنون في البيداء كلباً
…
فجلله من الإحسان ذيلا
فلاموه على ما كان منه
…
وقالوا: لِمْ أنلت الكلب نيلا
فقال: دعوا الملام فإن عيني
…
رأته مرة في حي ليلى
فسمعه الشيخ فتواجد وجعل يقول: فقال: دعوا الملام..... البيت.
ويكرره ثم خلع غفارته ورمى بها إلى الفتى المنشد فقال له: أنت أولى بها يا بني.
وفي " لطائف المنن ": أنشد إنسان بحضرة الشيخ مكين الدين الأسمر رضي الله عنه قول القائل:
لو كان لي بالراح يسعدني
…
لما انتظرت لشرب الراح إفطارا
الراح شيء شريف أنت شاربه
…
فاشرب ولو حملتك الراح أوزارا
فأنكر بعض الحاضرين على المنشد وقال له: لا يجوز إنشاد مثل هذا الشعر فقال الشيخ للمنشد: أنشد فإن هذا - " يعني " المنكر - رجل محجوب.
وفي أبيات عبد الصمد بن المعَذَّل المشهورة حيث يقول:
يا بديع الدل والغنج
…
لك سلطان على المهج
إن بيتاً أنت ساكنه
…
غير محتاج إلى السرج
وجهك المأمول حجتنا
…
يوم يأتي الناس بالحجج
مشرب عظيم لهم أيضاً.
وقد سمع صوفي هذا البيت من جارية فتواجد وصاح ولم يزل كذلك حتى مات.
" ومن أجلِّ ما يذكر في هذا الباب وأعذبه ما ذكره الشطيبي في " أذكاره " قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الصفة رضي الله عنهم ومعه ابن عباس فوجدهم يناشدون الشعر فيما بينهم، فلما رأوه أمسكوا إجلالاً له صلى الله عليه وسلم، فلما استقر جالساً قال صلى الله عليه وسلم: هل فيكم من ينشدنا شيئاً من الشعر؟ قالوا: نعم يا رسول الله صلى الله عليك، ثم أنشأ بعضهم:
في كل صبح وكل إشراق
…
تبكي جفوني بدمع مشتاق
قد لسعت حية الهوى كبدي
…
فلا طبيب لها ولا راق
إلاّ الحبيب الذي شغفت به
…
فعنده رؤيتي ودرياقي
فتواجد صلى الله عليه وسلم حتى سقط رداؤه عن جسده فأعطاه أهل الصفة وكانوا أربعين رجلاً فقطعه عليهم أربعين قطعة صلى الله عليه وسلم ".
وهذا النوع لا يحصى، وفيه يطيب لهم السماع، ويقع الوجد عند الاستماع، وإنما أردت أن ننبه فيه حيث انجذب الحديث إليه على معنى إيقاظاً وإمتاعاً.
فاعلم أن فهم المعنى عند سماع لفظ القائل يكون على وجهتين: أحدهما أن يكون لدلالة اللفظ المسموع عليه في الخارج إما حقيقة وإما مجازاً، إما لغة وإما عرفاً.
ثانيهما أن يكون كذلك في وهم السامع ولا حاصل له في الخارج، فتحصل الفائدة بحسب ما طرق وهمه.
أما الوجه الثاني وهو بحسب الخارج في حكم السماع من غير اللفظ كصرير الباب وصوت الطائر، مثاله ما ذكر التاج ابن عطاء الله أن ثلاثة نفر سمعوا " صائحاً " يقول:" يا سعتر بري " فسبق إلى فهم واحد منهم أن الصائح يقول " اسْعَ تر بِرّي "" وفهم الآخر أنه يقول: " السّاعَةَ تَرى بِرّي " وفهم الآخر أنه يقول: " يا سَعَة بِرّي "، وكان سماع الثلاثة جميعاً من الحق تعالى إلاّ أن كل واحد منهم فهم على حسب حاله.
أما الأول فكان سالكاً مبتدئاً، فورد عليه الأمر بالسعي والجد مع ما يفيد تنشيطه من الترجية برؤية البر بكسر الباء، وهو الإحسان والتفضل من الله تعالى.
وأما الثاني فكان سالكاً تطاول به السير، فورد عليه التنفيس والتبشير برؤية البر الساعة.
وأما الثالث فكان واصلاً " قد " شاهد الفضل فورد عليه الخطاب على وفق شهوده بأن بر الله تعالى ما أوسعه! فهذه فهوم اختلفت وفصلت من إلقاء الله تعالى عليها ما فهمت بسبب مجرد مناسبة ما في اللفظ المسموع وأن لم يكن طبقاً لها لا إفراد ولا تركيباً ولا حقيقة ولا مجازاً، فإن القائل إنما أراد السعتر المعروف البري بفتح الباء، أي غير البستاني، فسبحان اللطيف الخبير.
وأما الوجه الأول فهو الكثير المشهور، وذلك أن يسمع لفظ مشترك أريد به معنى فيفهم معنى آخر من معانيه، أو حقيقة أريد به معناه فيفهم مجازه، وقد يتعدد الفهم بحسب الاحتمال الواقع في التركيب وفي الضمائر ونحو ذلك.
ولا بد أن نورد من ذلك أمثلة يتضح بها ما قررنا ليكون مأخذاً في هذا الباب، ومصباحاً يستضيء به ذوو الألباب.
فمن ذلك ما وردت عليه فهوم الناس قبلنا كما مرّ من الأبيات، فنشير إلى مأخذ الفهم منه، ومن ذلك ما يسنح للخاطر الآن، فأما أبيات أبي نواس فهي كلها واضحة في إشاراتها، وكذلك أبيات الفتى، فإن ليلى عبارة عن المحبوب " عند " السامع إما خالقاً وإما مخلوقاً واحداً أو جماعة كأهل الله وطائفة المحبين والمنتسبين، أو المصطفى صلى الله عليه وسلم، أو سنته، أو نحو ذلك مما يخطر في البال، وأما أبيات مكين الدين فالراح فيها عند السامع هنا هي الخمرة الربانية القلبية، وهي لطف من الله تعالى ونور يرد على القلب فاستعاروا له اسم الخمر للشبه الواقع في اللذة والانفعال، وهو الصهباء " أيضاً " وبعد البيتين:
يا من يلوم على صهباء صافية
…
خذ الجنان ودعني أسكن النارا
أي خذ جنان الشهوة وراحة النفس ودعني أسكن نار الشوق، فافهم، والأوزار يفهم منها أعباء المحبة والشوق وما يتحمله أصحاب ذلك.
وقد وقع لي ذكر لهذا المعنى في أبيات من قصيدة طويلة وهي:
فلولا هوى نجد وطيب نسيمها
…
وريح خزاماها إذا ساوق الفجرا
وعذب فرات سلسبيل سخت به
…
أكف العوادي في حدائقها غمْرا
مشمولة صهباء ما قطّ شابَها
…
بِراوُوقه الحاني ولا حلت القِدْرا
بها هامت الأرواح من قبل خلقنا
…
ومن بعد ما كنّا وإذا نبلغ الحشرا
فكم ولهتْ فكر ابن عيسى ومالك
…
وكم أطربت سهلاً وكم شغلت بشرا
إذا ما تحساها الفتى لم يخف بها
…
جُناحاً ولكن يرتجي عندها برا
تحمِّلُه الأوزارَ غيرّ مذمّم
…
بأعبائها العظمى ولم يحمِلِ الوِزْرا
وتبرد غلاّت الحشا وتشبُّها
…
أُواراً وتعطي الرشد والسفه الحجرا
وتورثه قبضاً وبسطاً وفرقة
…
وجمعاً ونسياناً وتورثُه ذكرا
فلولا رجاء الفوز منا بشربة
…
تداوي عقابيل الهوى والجَوى المُغْرى
لكانت أكف البين تصدع بالجوى
…
زجاجة أحشائي فلا أملك الجبرا
فكل ما في هذه الأبيات من ذكر الصهباء وكذا نجد وريح الخزامي والعذب والفرات كل ذلك استعارات، وجرى الشعر على أسلوب العرب في الحنين إلى نجد ومنابته، وهو ما ارتفع من بلادهم، وكل أحد نجده ما توجه إليه، وإن لا يرتفع حساً فهو مرتفع معنى فافهم.
وأما أبيات ابن المعذل فالبيت فيها عند السامع هو القلب، والساكن فيه هو الحق تعالى شهوداً وحضوراً.
وفي الحديث القدسي: " لَمْ يَسَعْني أرْضي وَلا سَمَائي، وَوَسِعَني قَلْبُ عَبْدِي المُؤْمِنِ ". والوجه وجهه، والضمائر تعود اليه، وهاهنا مزلقة تقشعر منها الرؤوس، وتشمئز النفوس.
حكى الإمام الرازي رحمه الله في كتاب " الإشارات في التعبير "، قال: أخبرنا أحمد بن عمرو الصوفي بمكة - حرسها الله - قال: أخبرني أبو بكر الطوسي، قال: قال عثمان الأحول تلميذ الخراز رضي الله عنه: بات عندي أبو سعيد، فلما مضى بعض الليل صاح بي: يا عثمان، قم أسرج، فقمت وأسرجت، فقال لي: ويحك رأيت الساعة كأني في الآخرة والقيامة قد قامت، فنوديت فوقفت بين يدي الله تعالى وأنا أرتعد، لم يبق علي شعرة إلاّ وقد قامت، فقل " جل وعلا ": أنت الذي تشير إليّ في السماع وإلى سلمى وبثينة، لولا أني أعلم أنك صادق في ذلك لعذبتك عذاباً لم أعذب به أحد من العالمين، انتهى. فنعوذ بالله من جسارة، تؤدي إلى خسارة. وقد وقع في هذا الخطر ابن الفارض، وابن سبعين والششتري وأضرابهم، وهو باب ضنْك، وللعبد في مطرح النعال، سعة عن جناب الكبير المتعال.
وقد يكون السامع في فهمه أخف حالاً من المعبر، فإن الفهم أقرب إلى الغلبة، والتعبير أقرب إلى الاختبار، ومثال ما سنح في فكري مما حضر لي الآن قول امرئ القيس:
" الله أنجح ما طلبت به
…
والبِرّ خير حقيبة الرجل
شرحه وقوله ":
أنا موضعين لحتم غيب
…
ونسحر بالطعام والشراب
فإن هذه القطعة موعظة عظيمة في ذكر الآخرة والزهد في الدنيا وإن لم يقصد نفس ذلك المعنى، ويزيد العاقل فيقول: هذا رجل دهري " كان " لا يؤمن بيوم الحساب، قد مقت الدنيا لمجرد ما رأى من الانتقال عنها إلى الفناء، فكيف لا يمقتها من يؤمن بالجنة وأن الدنيا لا تساوي شيئاً إذا قيست إليها ولا تزن عند الله جناح بعوضه، وان الاشتغال بها " يعوق " عن الملك العظيم، والنعيم المقيم، ويعرض للحساب الشديد والعذاب الأليم، وقوله:
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة
…
كفاني ولم أطلب قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل
…
وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
فإن العابد يفهم منه أنه لو كان يسعى لمعيشة الدنيا الحسيسة الفانية لكفاهُ أدنى شيء، ولكنه يسعى للملك العظيم، في دار النعيم، وهو المجد حقاً، فليس إلاّ الجدّ والاجتهاد، ومسامرة النوافل والأوراد، والعارف يفهم منه أنه لو كان يسعى لمجرد التنعم في الجنة لكفاه إقامة الرسم الشرعي، والوقوف عند الحد المرعي، ولكنه يسعى للوصول والنظرة، والحضور والحضرة، فليس إلَاّ زيادة الاعتناء بصفاء الأسرار، والفناء عن الأغيار، وقوله:
تنورتها من أذرِعاتٍ وأهلُها
…
بيثربَ أدنى دارِها نظر عال
فإن المريد قد يفهم منه " أن " الضمير للحقيقة، وأهلها بيثرب وهم محمد وأصحابه صلى الله عليه وسلم وعلى الصحابة أجمعين. وكون نيل ذلك من أذرعات وهو موضع بالشام " مناسب، لأن الشام " مكان مرتفع باعتبار الغور، وليس يبلغ السالك ذلك إلاّ بعد بلوغ المنزلة الرفيعة " من الاستقامة والطهارة ومن الهمة " الرفيعة فإن العبد يفتح له على قدر همته وبنظره العالي يقرب الفتح بإذن الله تعالى، بل النظر العالي وهو ما يكون إلى الحق دون شيء دونه هو كلية الأمر وعماده، رزقنا الله منه قسطاً وافراً بمنه آمين.
وقول عنترة:
وأغضّ طرفي ما بدت لي جارتي
…
حتى يواري جارتي مأواها
إني امرؤ سمح الخليقة ماجد
…
لا أتبع النفس اللّجوج هواها
فإن هذا في باب العفة والتحلي بمكارم الأخلاق في الجملة صريح، وباعتبار الرياضة والمطلوب من التحلية والتخلية عند السالكين إشارة، وهي كافية في المقصود، لأن مخالفة الهوى هو ملاك الأمر كله، ومثل هذا لا ينحصر في شعر العرب " فقلما يخلو بيت أو أبيات من معنى أو معان فإن الحكمة قد أنزلت على ألسنة العرب ".
وقد قال الله تعالى في الشعراء:) أنّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ (ومثل ذلك في كلام المولدين، وقد تقدم من شعر أبي نواس، وفال أبو الطيب:
لك يا منازل في القلوب منازل
…
أقفرت أنت وهنّ منكِ أواهلُ
فإنه يفهم منه سوى مقصود الشاعر أمور: