الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: وهذا يذهب به العوام ويرتكبون ظاهره، وتأخير الصلاة عن وقتها لا يجوز لشيء من الأشغال أو الفضائل إلاّ العجز، وما لا يجوز لا يفعله الولي اللهم إلاّ مغلوباً بوارد، ولا يقتدي به في تلك الحالة مع أن الموفق محفوظ، أما التأخير عن أول الوقت مثلاً فقد يكون لأمر مهم أو فضيلة تربو، ومحل العذر أو الترخص في السفر أو نحوه معلوم.
وحدثونا عن سيدي عبد الله بن " عمرو " المضغري أنه أرتحل إلى مليانة لقصد ملاقاة الشيخ أبي العباس سيدي أحمد بن يوسف الراشدي والأخذ عنه، فوافى البلد وقت صلاة العصر، وقد كان صلى، فلما انتهى إلى زاوية الشيخ سأل عنه فقيل له: إنه لم يصل العصر " بعد " فأنكر ذلك وقال: إن هذا الرجل لم يحافظ على أول الوقت، وانصرف عنه، وذهب إلى سيدي عبد العزيز القسمطيني فأخذ عنه - نفع الله بالجميع -.
وقد صار ذلك التأخير الذي وقع للشيخ سبباً لانصراف الآخر عنه حيث لم يسبق القدر بأن يكون من أصحابه وإلاّ فللناس أعذار.
ومن الملح في تأخير الصلاة أن الفقيه أبا عبد الله محمد بن سودة قاضي مدينة فاس رحمه الله كان يؤم بجامع القرويين وكان يؤخر صلاة الصبح تأخيراً مفرطاً، فحدثني بعض الأصحاب قال: لقيت صبياً من أهل فاس " إذ ذاك " فسألته عن صلاة الصبح في القرويين هل أدركها؟ فقال لي: والله لا تمشي إليها إلاّ بالمظلة، يعني التي تجعل على الرأس اتقاء الشمس، وهذا إفراط في المبالغة.
ومما اتفق في هذا الإنكار ولكن في العكس، وهو التقديم ومزاحمة الوقت، حدثونا عن الفقيه الصالح أبي عبد الله سيدي محمد بن سعيد الميرغتي أنه ورد على شيخنا وأستاذنا ومفيدنا الإمام أبي عبد الله سيدي محمد بن ناصر الدرعي - رحم الله الجميع ونفعنا بهم - فكان المؤذن إذا أذن " المغرب " ينكر عليه ويقول له استعجلت: فلما أكثر في ذلك وانتهى الأمر إلى الشيخ خرج إليه فسار معه إلى صومعة الجامع الكبير وذلك في عشي النهار، فجلسا بأعلى الصومعة يتحدثان والمؤذن الذي كان ينكر عليه في مسجد الخلوة بعيداً عنهما بنحو مد البصر، وبقيا في حديثهما حتى غربت الشمس وأقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا فقال الشيخ للفقيه المذكور: أقد تبين الوقت؟ قال نعم، وبفور كلامه قال مؤذن الخلوة: الله أكبر، وجعل يؤذن فعجب الفقيه من هذا الاتفاق الغريب، وعلم أن الأذان كل يوم كان على الصحة، فلم يعد إلى الإنكار.
لله الأمر من قبل ومن بعد
أبو بكر الدلائي يكرم العكاكزة مداراة لهم
حدثني الأستاذ المقرئ الفاضل أبو عبد الله الشرقي بن أبي بكر عن والده سيدي أي بكر أنه كان ذات مرة هربت العكاكزة أولاد عبد الحق بن المنزول من بلادهم فنزلوا بساحته وهم جياع، ووجدوا زرع زاويته محصوداً مجموعاً فقال لهم: ادرسوا وكلوا، فقام إليه ولده الكبير أبو عبد الله محمد ابن أبي بكر فأنكر ذلك وقال: إن هؤلاء فساق أو كفار، ثم هم ظلام محاربون فكيف تعينهم وتبيح لهم زرع المساكين؟ فقال أبوه: إني أريد أن أتخذ عندهم يداً فإذا استلبوا مسكيناً يوماً " ما " وجاء إليّ يشتكي كتبت إليهم كتاباً فلا بد أن يراعوا هذا الخبر فيردون عليه متاعَهُ فأنا إنما فعلت هذا لحق المساكين.
قلت ولعل هذا هو نظر ولده المذكور في المسعود بن عبد الحق، فإنه كان يدنيه حتى إنه كثيراً ما يكون أول داخل عليه وآخر خارج حتى إن الفقيه النحوي الحافظ أبا عبد الله محمد بن أبي بكر الإسحاقي الجراني وكان ابن أبي بكر يجفوه كان يقول:
وإنما دنياك بالسعود
…
وإن شككت انظر إلى مسعود
وحدثونا عن مسعود هذا أنه " كان " يحضر مع الناس مجلس البخاري فاحتالوا عليه يوما حتى أوقعوا نقطة مداد على رجله، فلما رجع من الغد لحظوها فإذا هي بحالها فعلموا أنه لم يكن يصلي، أو يصلي بغير طهارة، وهذا الذي فعله المرابط المذكور داخل في باب الرفق والمداراة.
ونحو منه ما حكى المواق في سنن المهتدين عن شيخه ابن سراج عن الشيخ الزيات ببلش وكانت بيد بعض الرؤساء من الملوك النصريين وكان هذا الرئيس يأتي حلقة الشيخ المذكور فيتزحزح له الشيخ ويرحب به فكان بعض الطلبة يجد في نفسه من ذلك فبينا ذلك الطالب يجيء من قريته بشِقصِ حرير في يده أخذه له شرط فجاء إلى الشيخ وشكا له، فأمر الشيخ مؤذناً أتى الرئيس، فما كان أسرع " أن " أتى الرئيس على الرئيس على عادته، وتزحزح له الشيخ وجلس، ثم بعد الفراغ من المجلس وأراد القيام قال الشيخ: أنت أرسلت في هذا؟ وأخرج الحرير فقال: نعم، هو لهذا الطالب " فقال الرئيس للطالب: خذ يا حبيبي متاعك وانصرف فقام الشيخ " وقال لذلك الطالب: يا زبلح لمثل هذا " هو " ذلك التزحزح.
وحدث عن إمامنا مالك رضي الله عنه " أنه " قيل له: تترك الجماعة والجمعة وإذا دعاك السلطان أسرعت إليه فقال: لو لم أفعل هذا لم تر بهذه البلدة سنة قائمة.
ومن هذا القبيل ما كان فعل الإمام العلاّمة القاضي إسماعيل بن حماد، فقد روي أنه دخل عليه عبدون صاعد الوزير، وكان نصرانياً، فقام له ورحب به ورأى ممن حضر من العدول وغيرهم إنكاراً لذلك فلما خرج قال لهم: قد رأيت إنكاركم، وقد قال الله تعالى:) لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ في الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أنْ تَبَرُّوهُم (. وهذا الرجل يقضي حوائج المسلمين، وهو سفير بيننا وبين المعتضد، وهذا من البر، فسكت الجماعة، وهذا كله داخل في أبواب سد الذرائع وفتحها.
واعلم أن الذريعة هي المدخل إلى الشيء، فإن كان الشيء خيراً فحقها أن تفتح، وإن كان شراً فحقها أن تسد، وتقرير هذا المعنى أن المراد السبب المفضي إلى السبب إفضاء عادياً أو إفضاء عادياً كلياً أو أكثرياً أو حالياً بحيث إن من سعى في استحصال الأول هو ساع في استحصال الثاني بالتبع، ثم الإفضاء إما أن يكون ذهنياً فقط، كما في الفرضيات، أو خارجياً فقط، كما في الاتفاقيات، أو ذهنياً خارجياً، وهو الأكثر، ومتى اعتبر مجرد الربط ولو جزئياً فالذهنيّ أعم مطلقاً، ثم الطرفان قد يكونان جائزين نحو: لو جاءني زيد أكرمته، وقد يكونان واجبين نحو: لو كان الله تعالى عالماً كان حياً أي لكنه عالم فهو حي، وقد يكونان مستحيلين عقلاً نحو: لو وجد شريك لله تعالى لمانَعه على الفعل، وهذان المثالان معاً من قسم ما هو ذهني فقط، لأنه لا تصح السببية الخارجية في شيء من الواجب ولا المستحيل، وقد يكونان مستحيلين عادة نحو: لو وجدت في الأرض جبال من ذهب لاستغنى الناس كلهم في الدنيا، ولو طار زيد إلى السماء لرأى معمور الأرض كله في مرة، ثم الجائزان عقلاً قد يكونان مطلوبين معاً شرعاً، إما وجوباً أو ندباً، كفعل الطواف وفعل السعي بعده، وتلاوة القرآن وسجود التلاوة معه، ونحو ذلك، ولا إشكال فيه، وقد يكون الثاني هو المطلوب بالذات، فيستتبع الأول كقتل النفس قصاصاً، فيستتبع ما تزهق به الروح من حز الرقبة ونحوه، وذبح الضحية فيستتبع ما تحصل به الذكاة شرعاً من قطع الحلقوم والأوداج، ويعرف هذا القسم في أصول الفقه بالمقدمة، وعندهم فيه اختلاف مشهور، هنالك، وقد ينعكس " الأمر " فيكون المطلوب شرعاً هو الأول فقط كصلة الرحم المفضية بإذن الله إلى سعة الرزق والبركة في العمر على ما ورد به الوعد الصادق، وكالإسلام المفضي إلى سلامة الدماء والأموال، وكالإخلاص فيه المفضي إلى نور الوجه وانبساط الروح، وهذا القسم داخل فيه العبادات كلها بحسب ما تفضي إليه من الثواب عليها، غير أن ما كان من هذه الثمار دنيوياً كالذي صدرنا به فيجب ألاّ يقصد عند عمل العبادة، وإلاّ فات الإخلاص، وما كان أخروياً فلا بأس أن يقصد في مقام الإسلام، وقد يكونان منهيين معاً كتزوج الخامسة ووطئها وشراء الخمر وشربها، فيتركان معاً، وقد يكون الأولى مباحاً بذاته شرعياً، والثاني حراماً، فيحرم الأول تبعاً إذا اعتبر الإفضاء كبيع السيف من قاطع الطريق مع العلم به وكبناء الدار لتكون ماخوراً أو معصرة خمر، وغير ذلك مما يكثر، وهو داخل في سد الذرائع المتفق عليه، فإن لم يكن الإفضاء معتبراً، وذلك عند كون الأول مهماً في نفسه، والثاني غير مقصود لم يمنع، كغرس الأعناب في الدنيا مع أنه يؤدي إلى عصر الخمر وشربها، وكالخروج في ضروريات العيش ودخول الأسواق مع أنه قد يؤدي إلى رؤية أجنبية أو وقوع في خصام أو قتال أو معاملة ممنوعة، فهذا ونحوه من الذرائع التي لا يراعى سدها عند أحد، وقد يتعين شيء من ذلك جزئياً فيجب أن يعطى حكماً جزئياً، وقد يكون الأول حراماً ويكون الثاني مباحاً في ذاته فيحرم أيضاً إذا اعتبر الإفضاء كما حرم أصله. وذلك كمزاناة الرجل المرأة على أن تسكنه دارها أو تتفق عليه، وكذا العكس إلاّ ما أباحته الضرورة، ويكفي في هذا القسم ترك الأول امتثالاً فيبطل الثاني وقد يكون الأول خلاف الأولى، فإن أفضى فعله إلى مصلحة يضمحل فساده في جنبها أو تركه إلى مفسدة يكون التحرز عنها أهم ارتكب لأجل ذلك لا لذاته، ومن الأول ما صدرنا به هذه الترجمة من فعل القاضي إسماعيل مع النصراني، وكذا فعل المرابط المذكور، وهذا في المعنى " فيه " جلب مصلحة ودرء مفسدة هي الشحناء والبغض وما ينشأ عنه، ففيه فتح الذريعة من وجه، " وسدّها من وجه "، ومن الثاني مسألة الشيخ عز الدين حيث ترخص في القيام لأهل المناصب جبراً لقلوبهم، وتوقياً من الشحناء والتدابر والتقاطع المنهي عنه، وفيه الاعتباران أيضاً، فالباب الواحد، وقد يكون الأول مطلوباً وجوباً أو ندباً في ذاته، ولكنه يفضي إلى مفسدة ينهى عن ارتكابها فيترك، وذلك كالخروج لطلب الماء للطهارة المفضي إلى تلف النفس بالسباع، أو المال بالسرقة ونحو ذلك مما لا يأتي عليه الحصر، وتوجيهه أن درء المفسدة أهم من جلب المصلحة، أو الحكم الأول أعني الوجوب أو الندب مقيد بالشرط في أصله، فإذا انتفى انتفى