الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم إن الحاسد إذا أحب زوال الخير فهو لا محالة يسعى في زواله، أو في إلحاق مضرة تذهب " بها " طلاوة ذلك الخير، ما لم يحجزه حاجز، وهذه مضرة تتوقع من الحاسد، فالحاسد خبيث شرير مضر.
إذا علم هذا فمن استحب وجود الحاسد فلم يحبه لذاته، بل أحب ما يقارنه من الخير، لا من حيث إنه محسود عليه به من حيث كونه خيراً، وإلاّ فيود الإنسان أن لو أعطي الخير وأعفي من الحساد، فإن ذلك أهنأ لعيشه، وأروح لقلبه، وأبعد له عن الأذاية والهول، ولم تَجْرِ حكمة الله تعالى غالباً بذلك، إذ نعم الدنيا مشوبة بالنقم، وصفوها مشوب بكدر، فأمام كل عين قذى، وعلى كل خير أذى، فلما لم يكن بد من وجود الحاسد غالبا، كان وجوده مبشراً بالخير معلماً بالنعمة، فيفرح بوجوده لذلك لا لذاته.
ومثاله في ذلك الذباب الواقع على الطعام، والفأر الناقب على المخزن فإنهما دليلان على الخير من حيث ذلك، حتى إنه يكنى عن البيت الخالي عن الخير بأنه لا تطور فيه فارة، فمن أحب وجود الذباب ووجود الفار فلم يحبهما لذاتهما، فإنهما مؤذيان مكروهان، بل لما يقارنهما من الخير، ولو وجد الإنسان الخير مع السلامة عنهما كان هو الغنم البارد البارد، ولم تجر بذلك الحكمة.
وبلغني أن ناساً من الجند قدموا من بلاد السودان أيام السلطان أحمد المنصور، وقاسوا في تلك الفيافي ما هو المعهود فيها من العناء وشظف العيش، فلما لحقوا بقرية من قرى السوس الأقصى خرج منها نفر من اليهود، فحين بصر بهم الجندي قال: مرحباً بوجوه الخير، فاليهود بغضاء عند كل مسلم، ومع ذلك استبشر بهم الجندي التفاتاً منه إلى النعمة التي تقارنهم، إذ لا يزايلون غالباً الحاضرة، ومحل الخصب والرفاهية، وهكذا الحاسد.
وقد يكون في وجود الحاسد نعمة ولذة أخرى للمحسود إذا وقي شره، فإنه ينعم هو والحاسد يحترق على عينيه، وهو يزداد ظهوراً وشفوفاً، فيلتذ باحتراقه وإقصاره عنه وشفوفه عليه، ومن كره الحاسد فإنما كرهه لذاته، إذ هو منغص بما يبدو من أقواله وأفعاله، ولما يتوقع من شره وضرره، ولا شك أنه محذور، ولذا أمر بالتعوذ منه بالله تعالى، ولا دواء له هي مع الصبر أعلى ما يرى ويسمع، وبذلك ينعكس على الحاسد البلاء فيموت غماً، قال تعالى:) قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ (وقال الشاعر:
اصبر على مضض الحسو
…
د فإن صبرك قاتله
فالنار تأكل نفسها
…
إن لم تجد ما تأكله
فائدة: من ابتلي بالحسد لشخص فعلاجه بإذن الله أن يكلف نفسه السعي في زيادة الخير على المحسود ولو بالدعاء له بذلك، فإنه إذ لازم ذلك ولو تكلفا سيثيبه الله تعالى من فضله انسلال السخيمة من قبله وسلامة الصدر، فإن بقي شيء فليغمه في صدره مع كراهته ولا يظهره ولا يسع في مقتضاه بقول ولا فعل فذلك لغاية ما يطلب منه والله الموفق.
لله الأمر من قبل ومن بعد
كلمة الإخلاص
وتغالي فقهاء سجلماسة في فهمها وتفهيمها للعوام
كنت في أعوام السبعين وألف قصدت إلى زيارة شيخنا البركة، وقدوتنا في السكون والحركة، أبي عبد الله محمد بن ناصر - سقى الله ثراه - فمررت ببلد سجلماسة فوجدت فتنة ثارت بين الطلبة فيها في معنى كلمة الإخلاص، فكان بعض الطلبة قرر فيها ما وقع في كلام الشيخ السنوسي من أن المنفي هو المثل المقدر، فأنكر عليه بعض من لهم الرياسة في النوازل الفقهية، وفصل الأحكام الشرعية، وليس لهم نفاذ في العلوم النظرية، وأخذوا بنحو ما أخذوا به الشيخ الهبطي في مشاجرته المشهورة مع أهل عصره، حتى امتحنوه بالسياط، فجعلت أقرر لأولئك المنكرين الكلمة بوجه يقرب بين المأخذين، ويصلح بين الخصمين، فلم يفهموا ذلك، وصمموا على ما طرق أسماعهم من أن الهبطي أخطأ في هذه المسألة وضل ضلالاً مبيناً، ثم وقعت هذه الفتنة " أيضاً " بمدينة مراكش عن قريب " من هذه " بين طلبتها حتى ضلل بعضهم بعضاً، فمن " أجل " ذلك ألفت كتاب " مناهج الخلاص، من كلمة الإخلاص "، كما نبهت على ذلك في خطبته، فجاء بحمد الله كافياً في الغرض، شافياً للمرض.
ثم رجعت في زورة أخرى بعد هذه فمررت أيضاً بسجلماسة فوجدت فتنة أبشع من هذه وأشنع وقعت لهؤلاء مع عوام المسلمين " ثم مع المسلمين " كافة، عامة وخاصة، وذلك أنهم نظروا في كلام من حرض من الأئمة على النظر في علم التوحيد، وحذر من الجهل فيه ومن التقليد، فجعلوا يسألون " الناس " عما يعتقدون، ويكلفونهم الجواب والإبانة عن الصواب، فربما عثروا على قاصر العبارة عما في قلبه، أو متلجلج اللسان لدهش ناله، أو جاهل بشيء مما يقدح في العقيدة أو يظنونه قادحاً وإن لم يقدح، فيشنعون عليه الجهل والكفر، ثم أشاعوا أن الفساد قد ظهر في عقائد الناس، وجعلوا يقررون العقائد للعوام، فشاع عند الناس أن من لم يشتغل بالتوحيد على النمط الذي يقررون فهو كافر، وشاع عندهم أن من لم يعرف معنى لا إله إلاّ الله أي النفي والإثبات على التقرير الذي يقرره العلماء فهو كافر، فدخل من ذلك على عوام المسلمين أمر عظيم، وهول كبير، فلما دخلت البلد جاءني الناس أفواجاً يشتكون من هذا " الأمر " وأن ليس كل أحد يبلغ إلى فهم تقارير العلماء فأقول لهم: إن الله تعالى إنما تعبدكم باعتقاد الحق في أنفسكم، أفلا تشهدون أن الله تعالى حق موجود؟ فيقولون: بلى، أفلا تعلمون أنه واحد في ملكه لا شريك له ولا إله معه وكل معبود سواه باطل فيقولون: بلى، هذا كله يقين عندنا لا نشك فيه ولا نرتاب، فأقول لهم هذا هو معنى كلمة الإخلاص المطلوب منكم اعتقاده، سواء عرفتموه من لفظها أو لا، فإن الكلمة عربية، والأعجمي لا حظ له في دلالتها، وإنما حسبه أن يترجم له مضمونها فيعتقده، وكذا العقائد كلها المطلوب منكم اعتقادها بالمعنى، ولا يشترط فهم ألفاظها التي يعبر " بها " عنها في كتب العلماء، ولا إدراك حدودها ورسومها التي تعرف بها. فإن فهم هذه العبارات والإحاطة بهذه الحقائق والتقريرات علم آخر لم يكلف به العوام، فإذا أجبتهم بذلك انطلقوا مسرورين حامدين شاكرين، ثم جاءني رئيس هذه الفتنة وسألني عن مسائل في هذا المنحى فأجبته، ثم تقدمت إليه بالنصيحة وقلت له: أكثر النحل وجل الطوائف الضالة إنما خرجت في هذا العلم، فإن أردت نفع الناس فقرر لهم العقائد بالقدر الذي يبلغون، وحدث الناس بما يفهمون، كما في الحديث الكريم ودع عنك هذه الامتحانات والتدقيقات والتشنيعات التي لم تجْرِ بها سنة أهل الدين في عصر من الأعصار، فإذا هو قد أشرب ذلك وتمكن فيه التظاهر به، وإذا تمييزه قد نقص عما كنت أعرف منه قبل ذلك، نسأل الله العافية. فتمادى على ذلك وأصفقت عليه العوام حتى سمعوا مقالته فيهم، وجعل يتغالى في تقرير العقائد وبيان وجوه المخالفة ونحوها على التفصيل بما لا حاجة إليه حتى يقع في ذكر ما هو سوء الأدب في حقه تعالى، وما لا يستطيع كل من في قلبه رائحة من عظمة الله تعالى أن يفوه به، ويحضر مجلسه أوباش الأعراب من جراوة ونحوها، فإذا رجعوا إلى قومهم ذهبوا بتلك المقالات وجعلوا يلقون على أمثالهم من الرعاع الأسئلة من هذا المنحى فيقولون لهم: أين بات الله؟ وأين يُصبح؟ وأين يظل؟ وأين هو؟ " وكيف هو "؟ إلى ما هو أبشع من ذلك مما لا أذكره، وقد نبهت على طرف من هذا المعنى في كتابي المذكور، ثم أشاعوا أن عوام المسلمين لا تؤكل ذبائحهم ولا يناكحون مخافة أن يكونوا لم يعرفوا التوحيد، فحدثني الفقيه المشارك الصالح أبو عبد الله مبارك بن محمد العنبري الغرفي رحمه الله أن أعرابياً من هؤلاء الشيعة جاء مع قوم من بلد توات فكانوا إذا طبخوا زادهم وفيه الخليع يمتنع من الأكل معهم ويقول: إن الجزار الذي ذبح هذه البهيمة لا ندري أيعرف التوحيد أم لا؟ ولما دخل البلد جيء بطعام عليه لحم وجماعة من الأشراف حضور فدعوه للأكل فأمتنع وقال: إن العبد الذي ذبح تلك الذبيحة لا ندري أيعرف التوحيد أو لا؟ فقالوا له: ما ذبحها عبد، وإنما ذبحها المولى فلان الشريف منهم فامتنع أيضاً وبات طاوياً، ثم لم يقفوا في هذا بل انتهكوا حرمة عوام المسلمين ابتلاهم الله بانتهاك حرمة خاصتهم أيضاً، فتناولوا فقهاء وقتهم ووقعوا في أهل العلم والدين ومن هم على سنن المهتدين، وضللوهم إذا لم يضللوا العامة، فوقع لهم قريب مما وقع للكميلية من الروافض فإنهم كفروا الصحابة حيث لم يقدموا علياً - كرم الله وجهه - ثم كفروا علياً حيث لم ينازعهم في حقه، وكان أهل البلد اتبعوني وأنا في
الطريق سؤالاً فيما هو من حكم الذبائح ونحوها في بطاقة فأجبتهم بما علم من دين الإسلام أن كل من تشهد شهادة الحق فإنه تؤكل ذبيحته، وتحل مناكحته، ويدفن في مقابر المسلمين ما لم يظهر منه ما يخالف ظاهره ونحو هذا الكلام، فلما بلغ إلى أولئك قالوا: سبحان الله! كنا نعرف فلاناً من العلماء، ثم هو يقتصر على مثل هذا الكلام ويكتفي " به " فلم يقع كلامي منهم موقعاً حيث اقتصرت على الحاجة وما هو الحق ولم أتعد إلى ما يشتغلون به من الفضول والضلال، وكانوا قبل هذه الفتنة تلمذوا لشيخنا الإمام ابن ناصر رضي الله عنه وأخذوا عهده، فلما لم يشتغل بما اشتغلوا به أنكروا عليه حتى وقعوا فيما يؤتى به إليه من الهدايا والصدقات، وفيما يذكره للفقراء من كلام الإمام الثعالبي، فإنه كان يحكي بسنده إلى الثعالبي أنه قال: من رأى من رآني إلى سبعة ضمنت له الجنة بشرط أن يقول كل لمن رأى أشهد أني رأيتك فيشهد له. فكان الشيخ رضي الله عنه يذكر ذلك على طريق الترجية، ولئلاّ يفوت المسلمين ذلك الخير إن حققه الله تعالى، فقالوا: هذا يوقع الناس في الأمن وفي الإعراض عن تعلم التوحيد مع أنه لا وثوق به فإن أمور المنامات لا تنضبط ولا يعول عليها، ثم برئوا من صحبته وكتبوا في ذلك كراسة، فقيض الله لها الشاب اللبيب الفاضل أبا العباس أحمد بن محمد بن السيد الشريف الحسني رحمه الله ورحم سلفه - فتكلم عليها بما نقض أباطيلها عروة عروة، فلما انتهى إلى براءتهم من الشيخ كتب عليها ما معناه: إن هذه السلسلة المباركة الفاضلة يعني سلسلة الشيخ رضي الله عنه هي أمنع جناباً وأطهر ساحة من أن يبقى فيها أمثالكم، فطهرها الله منكم، وقد اشتعلت فتنتهم حتى كادت تخرج إلى الآفاق كلها، ثم أطفأها الله تعالى بفضله فجاء الطاعون عام تسعين وألف فأجتث شجرتهم من فوق الأرض فلم يبقى لها قرار.