الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد قيل للإمام الجنيد: إن النوري يسأل الناس فقال: دعوه في حاله، ولكن هاتوا الميزان فوزن قدراً من الدراهم، ثم أخذ قبضة من الدراهم بغير وزن فقذفها على الموزون وقال لصاحبه: اذهب بتلك المجموع " إليه " فلما باغ النوري قال: " النوري ": " هات " الميزان، فوزن القدر الموزون ورده وأخذ الباقي، فقال له الحامل: كنت عجبت من فعل الجنيد وأنه كيف خلط الموزون، فأي فائدة للوزن؟ وفعلك هذا أعجب، فما هذا؟ فقال له النوري: إن الجنيد رجل حكيم، وإنه أحب أن يأخذ الحبل بطرفيه، فوزن قدراً لنفسه وجعل الآخر لله تعالى، ونحن قد أخذنا ما لله تعالى، فلما رجع الرسول إلى الجنيد بكى وقال: أخذ ماله ورد علينا مالنا، فتبين بذلك أنه يأخذ ما لله من الله عن بصيره صادقة فلا بأس " عليه "" بذلك " والله الموفق " و " المعين.
لله الأمر من قبل ومن بعد
ميل القلوب ونفرتها
كان بعض الطلبة من أصحابنا في قرية، وكانت القرية قرية سوء، وأهلها كذلك، ثم إن بعض الأصحاب رام لوم ذلك الطالب على الاستقرار فيها فقال له: كيف تبقى في تلك القرية وهي كيت وكيت يعدد عليه مساويها؟ فقال الطالب: أحمد الله وأشكره، فلما قال ذلك استحمقه اللائم وازداد في الإنكار عليه وأنه كيف يحمد على هذا، فقال له الطالب: قد رأيت كلَّ ما ترون من مساويها، وعلمت منها ما تعلمون أو أكثر، ومع ذلك فأجد قلبي غير نفور عنها " فأحمد الله تعالى إذ قضى عليَّ الاستقرار فيها ولم ينفر قلبي عنها " فلو أنه تعالى قضى عليَّ وَكرهها لي وأنا لا أجد بداً منها بحكم القضاء فما ترون يكون عيشي عند ذلك؟ فلما قرر هذا المعنى وجدوه معنى لطيفاً تنبه إليه وسلموا له.
وشرح ذلك باختصار أن الله تعالى أودع في طبع الآدمي ميلاً إلى شيء ونفوراً عن شيء، ويسمى الأول ملائماً، إما حسياً كالشراب والطعام واللباس والنكاح " في الجملة ونحو ذلك " وإما معنوياً " كالعز " والجاه والراحة والصحة والعافية ونحو ذلك، ويسمى الثاني منافراً إما حسياً أيضاً كالعَذِرة والبول والدم والميتة والشوك والجرح والضرب والسجن والقيد ونحو ذلك، وإما معنوياً كالذل والمهانة والعجز والضيم والغم والحزن ونحو ذلك.
ثم إن الأعيان الموجودة في الدنيا كالأموال المكتسبة وغيرها من الحيوانات العجماوات والجمادات مثل الأمكنة والأزمنة والجهات والقرناء والأصحاب ونحو ذلك منها ما يكون من القسم الأول ملائماً لمقارنته للملائم كالأنعام لما فيها من الأكل والشرب والركوب والحمل والزينة، والرباع لما فيها من الاشتغال بأنواعه، والنساء في الجملة لما فيها من الاستمتاع، وسائر الانتفاع، وعلى الخصوص فيمن وجد ذلك فيه حقيقة أو توهماً، وكذا في سائر ما ينفع له، ولذا قال تعالى:) زُيِّنَ للنّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ (الخ. ومنها ما يكون من القسم الثاني منافراً لمقارنته للمنافر كالسباع والحيات والعقارب والأعداء ونحو ذلك، وكذا الأمكنة والأزمنة والجهات تكون ملائمة إذا كانت ظرفاً للملائم، ومنافرة إذا صارت ظرفاً للمنافر، وهذا هو الأمر المعتاد، وقد تخرق هذه العادة في شخص فيجعل في قلبه ميل إلى غير ملائم أو نفرة عن غير المنافر إما بسبب كالسحر ونحوه، أو بمحض الحكم الأزلي، ولا بد أن يتوهمه في نفسه ملائماً في تلك الحالة أو منافراً، فلا تنتقض العادة الجارية، ثم إن الله تعالى قدر على العبد قبل إيجاده " كل " ما يلقاه من هذه الأشياء، فإن قدر عليه أن يلقى الملائم فعندما يلقاه ينعم من جهتين: إحداهما وجود الانتفاع الذي فيه كما قررنا، والأخرى أنس قلبه به فيكون كما قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: إذا وافق الحق الهوى فهو العسل والزبد، وإن قدر عليه أن يلقى المنافر فهو عندما يلقاه يعذب من جهتين، وهما التضرر الظاهر، والتألم الباطن بالكراهة، وهذان القسمان في الملائم والمنافر الحقيقيين، وهما واضحان جالسان على المعتاد، ووراءهما أربعة أقسام فيما يرجع إلى القلب من الميل والنفرة: الأول أن يقضى عليه بعدم ملاقاة اللائم ولا يخلق في قلبه ميل إليه كحال المجانين أو يخلق له كراهيته.
الثاني أن يقضى عليه بملاقاة المنافر ولا تخلق في قلبه نفرة عنه أو يخلق له الميل إلى الميل إليه، وفي كلا القسمين تقع السلامة من العذاب وإن لم يحصل نعيم أو يحصل نعيم موهوم أو خسيس تابع لخسة عقل صاحبه أو ضعف حسه كالصبي الذي يأكل التراب، ومن القسم الثاني قصة صاحب القرية المذكور.
الثالث أن يبتلى بالميل إلى شيء ومحبته بحكم القضاء ملائماً أو غير ملائم ولا يقضى له بملاقاته.
الرابع: أن يبتلى بالنفرة عن شيء وكراهته بحكم القضاء أو غير منافر ويقضى عليه بملاقاته، وفي كلا القسمين يقع العذاب والمحنة بالنظر إلى الباطن، وإلى الأول يشير المجنون في قوله:
قضى لغيري وابتلاني بحبها
…
فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا
وكأنه يقول: لو قضاها لي أي الرب سبحانه بأن أتزوجها حين ابتلاني بحبها لنعمت ولو لم يبتلني بحبها حين قضاها لغيري أن يتزوجها لاسترحت فلا أنا بحصولها في يدي ولا أنا بخروجها من قلبي فهذا هو العذاب المبين، وإلى القسمين معاً يشير " الآخر في قوله ":
من لم يعش بين أقوام يسر بهم
…
فعيشه أبداً همٌّ وأحزان
وأخبث العيش ما للنفس فيه أذى
…
خُضْرُ الجنان مع الأعداء نيران
وأطيب العيش ما للنفس فيه هوى
…
سَمّ الخياط مع الأحباب ميدان
وحاصله تحكيم القلب وأنه المرجع في النعيم والعذاب، ولا عبرة بالمحسوس إلاّ بما فيه من التأدية إلى ما في القلب، وإلى هذا المعنى يشير الصوفية في النعيم والعذاب الموعود في الدار الآخرة كما قال في الحكم: النعيم وإن تنوعت مظاهره
…
إنما هو لشهوده واقترابه، والعذاب وإن تنوعت مظاهره
…
إنما بوجود حجابه. فسبب العذاب وجود الحجاب. وإتمام النعيم بالنظر إلى وجهه الكريم.
وإلى هذا المعنى يرجع كل ما يذكر من الحنين إلى الأوطان النائية، والبكاء على المراسم الخالية، وذكر الأحباب النازحة، والأيام الصالحة، ومن مرارة الفراق، ولوعة الاشتياق، وما قيل في ذلك يملأ الأرض، ويفوت الطول والعرض، كقول الأول:
وكل مصيبات الزمان رأيتها
…
سوى فرقة الأحباب هينة الخطب
وكتب المهدي وهو بمكة إلى الخيزران:
نحن في أفضل السرور ولكن
…
ليس إلاّ بكم يتم السرور
عيب ما نحن فيه يا أهل ودي
…
أنكم غبتم ونحن حضور
فأجدوا المسير بل إن قدرتم
…
أن تطيروا مع الرياح فطيروا
فأجابته:
قد أتانا الذي وصفت من الشوْ
…
ق فكدنا وما فعلنا نطير
ليت أن الرياح كن يؤدي
…
ن إليكم ما قد يجن الضمير
لم أزل صبة فإن كنت بعدي
…
في سرور فدام ذاك السرور
وقال أبو تمام:
لو حار مرتاد المنية لم يجد
…
إلاّ الفراق على النفوس دليلا
وقال أبو الطيب:
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت
…
لها المنايا إلى أرواحنا سبلا
" وقال أحمد بن رجاء الكاتب: أخذ مني تميم بن المعز جارية كنت أحبها وتحبني فأحضرها ليلة في منادمته فنام فأخذت العود وغنت عليه صوتاً حزيناً من قلب قريح وهو:
لا كان يوم الفراق يوما
…
لم يبق للمقلتين نوما
شتت مني ومنك شملا
…
فساء قوماً وسر قوما
يا قوم من لي بوصل ريم
…
يسومني في الغرام سوما
ما لامني الناس فيه إلاّ
…
بكيت كيما أزاد لوما
فأفاق المعز مع فراغها ورأى دمعها يسيل فقال: ما شأنك؟ فأمسكت هيبة له، فقال لها: إن صدقتني لأبلغنك أملك، فأخبرته بما كنا عليه فأحسن إليها وردها إلي وألحقني بخاصة ندمائه، وقال ابن ميادة:
ألا ليت شعري هل يحلن أهلها
…
وأهلك روضات ببطن اللوى خصرا
وهل تأتينّ الريح تدرج موهناً
…
برياك تعروري بها بلداً قفرا
بريح خزامي الريح بات معانقاً
…
فروع الأقاح تهضب الطل والقطرا
ألا ليتني ألقاك يا أم جحدر
…
قريباً فأما الصبر عنك فلا صبرا
وقال أبو العتاهية:
أمسى ببغداد ظبي لست أذكره
…
إلاّ بكيت إذا ما ذكره خطرا
إن المح إذا شطت منازله
…
عن الحبيب بكى أو حن أو ذكرا
وقال آخر:
أقول لصاحبي والعيس تخدي بنا بين المُنيفة فالضِّمَار
تمتع من شميم عرّار نجد
…
فما بعدَ العشية من عرّار