الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حجابها وسفورها
إن المرأة التي تضرم جمرة الحرب، وتخوض غمرتها، وترسل الكلمة فتعنوا لها الوجوه، وتتخلع من هولها القلوب! لا يضيرها أن تخرج - سافرة - إلى الرجال، تحت ظلال السلم، أو بين لوافح الحرب، وليس بنافعها أن تتوارى عن العيون، وتُسدل من دونها الحجاب.
تلك كلمة نقدمها بين يدي موضوعنا لتعلم أن المرأة العربية إذا أرخت قناعها أو حسرته عن وجهها فليس ذلك قي شيء من خياطة السرف أو ابتذاله.
ونحن إذا تكلمنا عن حجاب المرأة العربية فإن حقَّا علينا قبل ذلك أن نكشف عن معنى ذلك الحجاب حتى يكون حكم التاريخ فيه واضحاً لا عِوجَ فيه.
يطلق الحجاب على واحد من اثنين:
أولهما: قرار المرأة في دارها والاحتجاب دون الرجال فلا تكون بمرأى ولا مسمع منهم.
الثاني: إرخاء القناع على وجهها إذا غادرت دارها لبعض شأنها.
أما الأول فما كان بالمرأة من حَرَج أن تغشي مجالس الرجال، وتطرُق أنديتهم، وتخطب في محافلهم ومشاهدهم، لا في الخطب الملم، والأمر المهم، وكفى؟ بل في القليل التافه من الشئون أيضاً. فقد فصلنا فيما أسلفنا حديث امرأتين قامت كل
واحدة تثني على زوجها في نادي قومه بعد طلاقها منه من غير تحرج ولا استحياء.
وهنالك في سوق عكاظ وهو أحفل مجامع العرب، وأجمع مواسمهم، كان النساء يأتين من كل صوب وحَدَب على اختلاف مقاماتهن، وانشعاب ديارهن، فيزاحمن الرجال بالمناكب في كل ما قصدوا له، واحتفلوا به. فبينما كنت ترى امرأة تناضل الرجل في حومة القول، إذا بأخرى تخطب الناس. وإلى جانب من هؤلاء امرأتان تتناشدان الشعر وقد اجتمع عليهما خلق كثير.
فلقد حدثوا أن هند ابنة عتبة، والخنساء بنت عمرو بن الشريد، تلاقتا هنالك، فتذكرتا مصيبتهما، وكانت الأولى قد قتل عنها أبوها وعمها وأخوها يوم بدر. ومات عن الثانية أبوها وأخوها، وادّعت كل واحدة أنها أوجع مصاباً، وأَحَرُّ كبداً من أختها ولكي تفي كل بدليلها جاءَت بأبرع الشعر وأروعه في وصف مصابها، وجُهد ما فعل بها وبقومها. ثم انصرفتا وقد جاش بالناس الحزن، وتملكهم الإعجاب.
وما كانت الخنساء ولا صاحبتها بالتي ينكرها أحد من العرب، فهما جميعاً في المكان الأرفع من زكاء الحسب، وسناء المنزلة.
تقول العرب في أمثالها: ما يوم حليمةَ بِسّر. فَمْن حليمة وما يومها؟
أما حليمة فهي ابنة الحارث بن أبي شَّمر ملك الشام. وكانت كأجمل أهل دهرها وأكلهم وأما يومها فذلك الذي أقصه عليك: -
استحكمت الجفوة بين المنذر بن ماء السماء ملك الحيرة، والحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشام، وطمع كل منهما في صاحبه، فخرج إليه بما ملك من قوة وبأس شديد. وبينا الحارث في طريقه إلى العراق قدم عليه قادم من الحيرة له نسب في الغساسنة فأخبره أن جيش المنذر لا يناله العد وأن لا طاقة له بقتاله!
فلما تراءى الجيشان على عين أُباغ أختار الحارث مائة من فتيانه كلهم شديد البأس، قوي الشكيمة، وأمرهم أن يأتوا المنذر فيفْضُوا إليه بطاعتهم وطاعة أهل الشام جميعاً، حتى إذا أنسوا منه هدواء وغرّة فنكبوا به. ثم أمر ابنته حليمة فطافت بهم فضّمختهم بالمسك جميعاً، - وكان ذلك مما أفاض عليهم حمّية وعزماً - فذهبوا إلى حيث أمروا، وقتلوا المنذر هو في العدد العديد من قومه حتى إذا سمع الحارث وجنده صيحة الظفر من فتيانهم زحفوا فتلاقوا بأعدائهم وأوقعوا بهم.
فراحوا فريق في الإسار ومثله
…
قتيل ومثل لاذ بالبحر
ذلك يوم حلمة وهو من أروع أيام العرب وأهواها وحسبه على ما نريد دليلا وأما حجاب الانتقاب فلم يكن له بينهن نظام شامل ولا هيئة واحدة، ففي القبيلة الواحدة ترى اْلبَرْزة وهي التي تجلس إلى الرجال وتجاذبهم الحديث سافرة غير محجوبة والمحتشمة وهي التي ترخي قناعها إذا خرجت عن بيتها فلا تطرحه حتى تعود. وهذا وذلك شأن السن منهن.
وشبيه بذلك شأن الفتيات. فمنهن سقوط القناع وهي التي لا تكاد تنتقب ثقة بنفسها وإدلالا بحسنها أو سيراً على سجيتها، وفي مثلها يقول المسيَّب ابن عَلَس:
إذا تستبيك بأصلَتّيٍ ناعم
…
قامت لتفته بغير قناع
ويقول المرقَش الأصغر:
أرتْك بذاتِ الضال منها معاصماً
…
وخداً أسيلا كالوذيلةِ ناعما
وإلى هذه يشير عمر بن أبي ربيعة في قوله:
فلما توافقنا وسَلَّمت أقبلت
…
وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا
ويقول أبو النجم في إحدى أراجيزه:
من كل غراء سقُوط البرقع
…
بَلْهَاء لم تحْفَظ ولم تُضَيّع
ويقول الأصمعي: وقد تُلقى المرأة خمارها لحسنها وهي على عفة. وأنشد في ذلك بيت أبي النجم
ومنهن التي لا تكاد تفارق قناعها إذا انحسرت عن دارها: إما لاحتشامها واستحيائها وفي مثلها يقول الشَّنْفَرَي:
فواكبدي على أمية بعد ما
…
طمعت فَهْبها نعمة العيش زلت
لقد أعجبتني لا سقوطاً قناعها
…
إذا ما مشت ولا بذات تلفُّتِ
وإما لكَلَف أصاب وجهها فهي تجهد أن تستره وفي نحو ذلك ما نقل أبو زيد في نوادره عن أعرابي قيل له: ما تقول في نساء بني فلان؟ فقال: بَرْقعْ وانظر، يريد بذلك أن عيونهن خير ما فيهن.
وشبيه ذلك ما حدث الراغب لأن أسد يا قبيح الوجه خطب امرأة قبيحة فقيل لها: إنه قبيح وقد تعمم لك. فقالت: إن كان قد تعمم لنا فأنا قد تبرقعنا له.
وبين أيدينا أمثال سائرة أرسله العرب تنبئنا أن كشف القناع أغلب حالات فتيات العرب وأمثلها بهن.
فمن ذلك قولهم: تَرَكَ الخِدَاعَ منْ كَشَفَ الْقِنَاعَ، يريدون أن الفتاة لا تستر وجهها إلا لشر تُؤْثر أن تستره.
وقولهم من لا يستر عيبه: كذاتِ الشيبِ ليس لها خَمِارُ فهم لا يرون الخِمارَ لزاما إلا لذات الشيب فإن خليقاً بها أن تواريه.
وقولهم: إن العَوَان لا تَعلَّمُ الْخِمْرَةَ. فأما العوان فالنَّصفُ التي ناهزت الأربعين. وأما الخِمرة فهيئة الالتفاع بالخمار. ومعنى ذلك لان العوان جاوزت السن التي كانت تعاني فيها التقنع فلا تحسنه.
مما جرى مجرى الأمثال ما روى ابن منظور أن امرأة قالت لبعلها: مُر بي على بني نَظَرَي ولا تمر بي على بنات نَقَرى. أي مرَّ بي على الرجال الذين ينظرون
إلىّ ولا تمرّ بي على النساء اللواتي يعبنني ويُنَقّرْن في عرضي.
وشبيه في ذلك ما روى صاحب التهذيب من أمثال العرب أن أعرابية قالت لصاحبة لها: مُرّي بي على النَظَرَى ولا تمري بي على النَّقَرَى.
لكل ذلك لا نتحرج أن نقول إن طرح النقاب كان أغلب حالات نساء العرب. حتى لقد غلا الرازي والطبري فأطلقا الأمر على سنة وجهة فقالا: إن نساء العرب كن يخرجن مكشوفات مُتَبَذَّلات سواءٌ في ذلك حرائرهن أو إماؤهن فأمرن - أي في الإسلام - بلبس الأردية والملاحف وستر الرؤوس.
ذلك قول الإمامين المفسرين أرسلاه على إجماله وطَوَياه على بِلاله ليخبرا به عن حالة شائعة وهيئة غالبة. والقول ما فصلناه فيما أسلفناه.
تلك الحالة الشائعة التي عالجها القرآن الكريم في قوله جلت آيته: (يَا أَيُّهَا النَّبيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وبِنَاتِكَ ونِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدنينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيِبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وكانَ اللهُ غَفُوراً رَحيماً).
على أن هناك حالات شاملة لم تكن المرأة أياًّ كانت لتُعني فيها بأمر نقابها. وأشملها حالة الروع إذا اشتملت عليها الوقائع، أو دارت على فريقها الدوائر، وارتقبت من وراء ذلك ذل السباء وعار الإسار. وذلك إما لشغلها بالجليل المهم من الأمر. وإما لخشيتها السباء، فهي تظهر سافرة حاسرة حتى تلتبس بالإماء. وفي هذا الموطن يقول مُهَلهِلٍ بن ربيعة:
قَرِبا مَرْبَط المشَّهر مني
…
سوف تبدو لنا ذوات الحجال
ويقول عوف بن عطية بن الَخزعِ التَيْمِي:
ولِنعم فتيانُ لقيتهم
…
وإذا النساءُ كالعنقر
من كل واضعة الْخمار وأخْتُها
…
تَسْعَى ومنْطَقُتها مكان الِمئْرِز
وتكر أولاهم على أخراهم
…
كر الُمحَلَّ عن خلاط الَمصْدَرِ
أم مناحاتهن ومواقف أحزانهن فيها سوافر الوجوه، حواسر الرؤوس، وفي مثل ذلك يقول مُهلهل بن ربيعة:
حتى تبيد قبيلة فقبيلة
…
ويَعضَّ كل مثَقّفٍ بالهمام
وتقوم ربات الخدور حواسر
…
يمسحن عُرض ذوائل الأيتام
ويقول:
كنا نغار على العواتق
…
بالأمس خارجة عن الأوطان
فخرجن حين ثوى كليب حُسَّرا
…
مستيقنات بعده بهوان
وترى الكواعب كالظباء عواكلا
…
يبكين مصرغه فقد أبكاني
ويقول الربيع بن زياد:
من كان محزوناً بمقتل مالك
…
فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النساء حواسرا يندبنه
…
يلطمن أوجههن بالأسحار
قد كن الوجوه تستراً
…
فاليوم حين برزن للنّثظار
يضربن حُرَّ وجوههن على فتى
…
عف الشمائل طيب الأخبار
وهنالك في أعياد القوم وأعراسهم وبين مظاهر زهوهم وأفراحهم إذا نبغ شاعر حكيم أو قدم قائد عظيم يخرج فتيات الحي سوافر الوجوه يعزفن على المعازف ويرقصن على المزاهر. وَيَتَغنْين بمآثر قوومهن ومفاخرهم ويتمدحن بعظائمهم ومكارهم ويرسلن القول عذباً ندياً في وصف من اجتمعن له واحتفلن به. ولقد راب عنْترة الفَوارِس ما رآه من انتقاب خدينته عبلة دونه وسكوتها عما شُغل به الناس من الإشادة به والثناء عليه بعد مآبه من حرب داحس والغبراء فقال:
إن تُغْدفي القناع فإنني
…
طبٌ بأخذ الفارس المُسْتلئم
آثنى على بما علمت فإنني
…
سمح مخالفتي إذا لم أُظلم
فإذا ظلِمتُ فإن ظلمي باسل
…
مُر مذاقته كطعم العلقم
وما زال يتمدح بحسن ضريبته، ويمن نقيبته، وجهد عزيمته حتى استوفاهن نيّفاً وأربعين بيتاً:
أفلا تراه كيف عد انتقابها دونه إنكاراً لعظيم شأنه، وسموا مكانه؟ ثم ألا تراه كيف ساق إليها من مأثور مكارمه ما كان خليقاً أن تصوغ له، وتُفرغه عليه؟
ذلك ربما اختمرت المرأة حتى إذا التقت بالجبان في طريقها كشفت عن وجهها إزارء به، وإيماء له بأنه ليس بالذي يحتشم منه. وقد حدثوا عن نساء بني الحارث ابن كعب أنهن لم يكنّ يُقَنَّعْن دون جبنائهن. وذلك الذي عناه الحارث بن حلَّزَةَ الْيَشْكُرِيُ في قوله:
عيشي بجَدٍّ لا يضرْ
…
كِ النَّوكُ ما أوتيت جدَّا
وضعي قناعك إن رأي
…
ت الدهر قد أفنى مَعَدَّا
يقول إذا ذهب بمعد فضعي قناعك فليس هناك عظيم يأخذك الحياء منه كل ذلك شأن الحجاب في أمم العرب الطارئة وهم بنو إسماعيل وحَفَدَةُ قحطان الذين خلفوا على جزيرة العرب بعد أن عصف الدهر بأهلها الأولين.
أما الأمم البائدة - وهن عاد وثمود وطْسم وجَديس والعمالقة وأُخر غيرهن لا يعلمهن إلا الله - فلم يكن الحجاب معروفاً عندهن بل لقد تبرج النساء في تلكم الأيام تبرجاً أخذه الله عليهم فنهى المسلمين عن مثله في قوله تبارك أسمه: (ولا تَبرَّجْنَ تَبُّرجَ الجَاهِليَّةِ الأولى) وفي تفسير هذه الآية الكريمة يقول النيسابوري: كانت المرأة تلبس درعاً من اللؤلؤ فتمشي به وسط الطريق بين
الرجال وفي كل ذلك ما ينبئنا أن طرح النقاب في تلك الحقب المتناكرة لم يكن مرجعه إلى بساطة البداوة وصفاء الملكات بل كان سبيله ما هم فيه من نعومة العيش وصفو الحياة.
على أننا لا زال نثَني القول ونكرره بأن حجاب المرأة العربية وسفورها لم يكونا في شيْ من خُلقها ولا شرفها فقد تسفر الفتاة ترفعاً وكبرياء تحتجب اجتنابا للريب
ودفعاً لسوآت الظنون. ومن ذلك ما كان يفعل الفواجر إذا مررن بديار الحرائر. فقد كن يرخين القناع حتى يسترن عامة وجوههن.
وفي مثل ذلك يقول الحارث بن كعب في وصيته يابَنَّيِ! قد أتت على ستون ومائة سنة ما صافحت يميني يمين غادر ولا قنعت نفسي بخَلَّةِ فاجر ولا صبوت بابنة عم ولا كنة، ولا طرحت عندي مومسة قناعتها.
وكما كان الحجاب في نظامه وسُنته كذلك كان مختلفاً في شكله وهيئته. فهنالك الخمار والقناع والبرقع والنصيف واللثام واللفام وأشباهها.
فأما الخمار والقناع فقريب بعضهما من بعض وكلاهما شُقَّة توضع على الرأس ثم تلاث على جزء من الوجه. ويظهر أن أصل كونهما على الرأس ثم تسدل المرأة شيئاً منها على جزء من الوجه إذا أحوجها ذلك. وشاهد ذلك قول البحتري يصف امرأة اضطرها فأرخت قناعها عَلى فمها.
عَجِلت إلى فضل القناع فآثرت
…
عَذَباته بمواضع التقبيل
وأما البرقع فغطاءُ سائر الوجه أو بعضه وله عينان نجلاوان على عيني المرأة وثقوب أخرى يظهر منها شيء من وجهها. ويسمى ذا الثقوب الضيقة بالوصْواص.